الباحث : ادارة التحرير
اسم المجلة : الاستغراب
العدد : 35
السنة : صيف 2024م / 1446هـ
تاريخ إضافة البحث : October / 21 / 2024
عدد زيارات البحث : 358
معلومات النشر:
- اسم الكتاب: في التربية
- الكاتب: برتراند راسل
- ترجمة: سمير عبده
- عدد الصفحات: 215
- لغة الكتاب الأصلية: الألمانية
- تاريخ نشر الكتاب: غير محدد
- دار النشر: منشورات دار مكتبة الحياة
- مكان النشر: بيروت
مقدمة
قد يسأل شخص عن سبب توجهنا لكتابة مراجعة كتاب لكاتب توفي في أواسط القرن الماضي تقريبًا، وعن الجدوى التي تكمن خلف الرجوع إلى هذا الحد من الزمن في وقت تتسارع وتتكاثر فيه الكتابات التربوية والنظريات التعليمية في هذا المجال، وأنه بالحري بنا اللجوء إلى الجديد مما كُتب، ولكن في الحقيقة إن توجهنا لكتاب برتراند راسل له مبرراته ومسوغاته النظرية، فراسل هو شخص له تاريخ طويل في الفكر الفلسفي القرن الماضي، وليست شخصيته مقتصرة على فكرة هنا أو هناك في مجال محدد من الفكر والفلسفة، بل يمكن القول إن ما قدمه من كتابات في مجالات متعددة تجعله إلى يومنا هذا شخصية تستحق القراءة والنقد، والفكر لا يبلى بطول الزمن، وكم من تجديد لم يكن إلا رجوعًا لماضٍ تراكمت عليه غبار الإهمال، هذا مضافًا إلى أن مراجعتنا في هذه الأوراق هي مراجعة تتألف من قسمين، القأول هو التوصيف والتلخيص لما ذكره والثاني هو النقد ومحاولة وضع مفاتيح لتأصيل في ضوء الأفكار التي ذكرها. وأخيرًا إن لهذا الكتاب خصوصيته حيث انطلق في مقدمته من همّ مازال إلى يومنا هذا يلاحق المربّين على مختلف مستوياتهم، فهو يقول على سبيل المثال « هناك الكثير من الآباء في الدنيا أمثالي، لهم أولاد صغار يجاهدون لتربيتهم التربية الحسنة، لكنهم ينفرون من تعريضهم إلى سيئات معظم المعاهد التربوية القائمة»[1]، فهذا الكلام الذي تصدّر كتاب « في التربية» نسمعه يوميًا في أيامنا هذه من الآباء والأمهات، فالهاجس هو هو، فلا بد من الإطلالة على ما كُتب لملأ هذا الفراغ من فيلسوف له مكانته في الفكر الغربي المعاصر.
النقطة المركزية التي ينطلق منها راسل في مقدمته أن التأسيس التربوي لا يمكن بأي وجه من الوجوه فصله عن الرؤية الفلسفية والوجودية للحياة وقضايا الوجود والحياة والمجتمع، فليست التربية مسألة أداتية أو حيادية، وبتعبيره « التربية التي ننشدها لأطفالنا لا بد أن تتوقف على مثلنا العليا للخلق الإنساني، وعلى الدور الذي نرجو أن يكون لأطفالنا في المجتمع إذا كبروا. فالمؤمن بالسلم لن يبتغي لأولاده نفس التربية التي يستجيدها المؤمن بالحرب، والأفكار التربوية للشيوعي لن تكون نفس نظرة القائل بحقوق الفرد»[2].
ومضافًا إلى هذا الأمر، فنفس العملية التربوية تتجاذب بين رؤيتين: أحدهما نظرة من يرى أنه لا بد من أن تكون العملية التربوية تلقينية يتم من خلالها صقل الشخصية وفق المباني والمبادئ السليمة للشخصية، وثانيهما نظرة من يرى أن التربية لا يجب أن تعطي أي فكر خالص للفرد بل وظيفتها تأمين الاستقلال في الحكم والتفكير له.
هذه الأسباب البنيوية تجعل الدخول في التأسيس النظري لعملية التربية والتعليم من الأمور التي تحتاج إلى عمق في الفكر والرؤى وهو السبب وراء كتابة هذا الكتاب.
ويميّز راسل في هذا الكتاب بين أمرين:
التربية لتهذيب الأخلاق
التربية لتحصيل المعرفة
حيث إنه يجب التعامل مع هذين الميدانين التربويين نظرة تفصيلية وعدم الدمج بين الأساليب والطرق في كل منهما، فمن هنا ينقسم الكتاب إلى ثلاثة فصول:
الفصل الأول: المثل العليا للتربية
الفصل الثاني: تربية الخُلق
الفصل الثالث: التربية الفكرية
الفصل الأول: المثل العليا للتربية
مسلّمات نظرية التربية الحديثة
إذا نظرنا إلى رواد التربية في القرن التاسع عشر وما أُنتج فيه من نظريات تربوية جديدة، وخاصة على يد لوك وروسو نجد فيها عيبًا ظاهرًا وهي أن هذه النظريات لم تبحث إلا في تربية الابن الارستقراطي التي يتفرغ لها مربٍ يخصها بكل وقته، وهذا لا يمكن إلا أن تتبعه طبقة خاصة ويستحيل أن تسود بشكل ميسور للجميع، نعم هذا لا يعني المساواة التامة، فإن الإصرار على المساواة التامة غير صحيح لأن بعض الأولاد والبنات أذكى من بعض وكذلك بعض المدرسين أفضل من بعض من حيث الإعداد الفني أو الاستعداد الفطري، وعليه إن الواجب أن نقترب من الديمقراطية في التربية بحذر قدر الإمكان دون القضاء خلال ذلك على ما يكون قد اقترن بالظلم الاجتماعي من نتائج قيمة.
وبعد ذلك، لا بد من الانتقال إلى سؤال إشكالي: هل يجب أن يكون محور الدراسة بالنسبة للأطفال هو التركيز على العلوم التطبيقية التي تجر معها الصبغة النفعية أم لا بد أن يكون المحور هو الآداب؟ وهل التركيز على الآداب هو من ترسبات الفكر الارستقراطي الذي يولي أهمية شديدة لأمور كالفصاحة والبلاغة والتعبير في المجالس عن مختلف الموضوعات والآراء؟
ويجيب راسل عن هذا السؤال بالقول أن نفس السؤال شكلي وصوري ولا يتضمن إشكالية عميقة، فالأمر يرجع إلى تحديد معنى « النفع والنفعية» فإن المنفعة بالدقة هي تلك التي توصل إلى حياة طيبة وسعيدة، أما نفس النفعية بمعنى صناعة الآلات والأدوات بسبب تراكم العلوم الطبيعية أو الفيزيائية وغير ذلك لا يوصل إلى عمق معنى النفع، بل هذه كلها أدوات للنفع، فإذا كان النفع الذي يراد في عملية التربية هو إيصال الطالب لتحصيل المنفعة الإنسانية والسعادة فلا ريب أنه يجب أن تكون التربية نفعية بهذا المعنى، ولكنه بهذا المعنى للنفع يشمل تعلم الآداب تدخل في إطاره أيضًا ولا ينبغي حصر الآداب بالطبقة الارستقراطية فقط، ولكن في نفس الوقت لا يخفي راسل أنه على المستوى الشخصي قد أضاع وقته في دراسة الأدب مقابل ما استفاده من تعلم الرياضيات، ثم يقول « لا أريد أن ألقي في روع القارئ أن عناصر الفن والأدب في التربية أقل أهمية من العناصر النفعية، إن معرفة شيء من الأدب الراقي وشيء من الموسيقى والتصوير وفن العمارة لا غنى عنها إذا أردنا أن ننمي حياة الخيال إلى أقصى حد، وعن طريق الخيال وحده يستطيع الإنسان أن يتصور ما يمكن أن تكون عليه الدنيا، وبدونه يصبح التقدم آليًا تافهًا. لكن العلم أيضًا يستطيع ان ينبه الخيال»[3].
يتعرض الكاتب بعد ذلك إلى قضية أخرى لها مكانها في هموم التربية الحديثة والقديمة، وهي قضية « التأديب»، حيث يذكر أن التأديب في التربية القديمة كان قائمًا على فكرة العقاب والحرمان لأجل إكراه الطالب على ممارسة التعلّم قهرًا إذا ما حاد عن الطريق، ولكن في التربية الحديثة فلا يتم تجنب التربية وإنما تم اللجوء إلى أساليب أخرى، فالمدارس المنتسورية مثلًا لا تتخلى عن التأديب إلا أنها جعلت الالتزام بالقواعد فيه نوع من المتعة دون شعور بالإكراه.
ثم إن اللافت في كلام راسل إرجاعه التأديب البدني في أساليب التربية القديمة إلى قضية الشر الخلقي أي اعتقاد بعض المربين بأصالة الشر الأخلاقي الأطفال أو في الإنسان عمومًا، ليسجل رأيه فيما بعد « الواقع أن الأطفال ليسوا أخيارًا ولا أشرارًا بالفطرة فهم يولدون وليس فيهم إلا بعض غرائز وانعكاسات، ومن هذه تنتج العادات بتأثير البيئة والوسط»[4].
غاية التربية
لا شك أن كل من نظّر للتربية يريد أن يصل من خلالها إلى الإنسان الصالح صاحب الفضائل، ولا خلاف في ذلك وإنما الخلاف في القيمة العليا الحاكمة في المنطومة الأخلاقية للتربية وهذا ما يختلف فيهر الفلاسفة التربويون، وكل ذلك يرجع إلى أنه « لا غنى لنا عن أن يكون لدينا تصور ما لنوع الشخص الذي نرمي إلى تخريجه قبل أن نستطيع تكوين رأي واضح عن التربية التي نعدها خيرًا من غيرها»[5].
فهناك بعض الأنماط من التربية التي تهتم بتخريج مواطنين مخلصين للدولة وهناك أنماط أخرى تسعى لأن يكون نتاجها البشري هو شخص عامل ومجدّ في العلوم التطبيقية والتكنولوجية وهناك بعض أنماط التربية الدينية التي تهتم ببث تعاليم مرتبطة بالآخرة والخلاص يوم الدين دون الاهتمام بتخريج إنسان يهتم بواقعه.
أما ما هي الأخلاق أو العناصر التي لا بد أن تجتمع في الإنسان المثالي برأي راسل؟ « أربع مميزات يبدو لي إنها تكون مجتمعة أساس الخلق المثالي: الحيوية والشجاعة والحساسية والذكاء. ولست أزعم أن هذه القائمة كاملة، ولكني أراها تحملنا شوطًا حسنًا في الطريق المرجو»[6].
الحيوية صفة جسدية أكثر منها عقلية، فإنها تدور مدار الصحة التامة، وأينما توجد الحيوية يوجد اغتباط الإنسان بأنه حي، بغض النظر عن أي ظروف سارة معينة. إنها تزيد المسرات متعة وتنقص الآلام. والحيوية تنمي الاهتمام بالعالم الخارجي كما تنمي المقدرة على العمل الشاق، وهي فوق هذا أمان من الحسد لأنها تشع البهجة في حياة الإنسان.
الشجاعة وهي عبارة عن التحكم بالخوف لا التجرد عنه، نعم التجرد عن الخوف الموهوم شجاعة وهو صفة مطلوبة ولكن الخوف المعقول يجب ضبطه لا التجرد عنه. ومن أمثلة التجرد عن الخوف الموهوم الخوف من الأصوات العالية أو من الظلام وهذه الأمور.
الحساسية، وهذه الصفة لها دور تصحيحي للشجاعة، فإن السلوك الجريء أسهل على الرجل الذي يعجز عن إدراك الأخطاء، لكن مثل هذه الشجاعة قد تكون حمقاء في الغالب. والحساسية قد تكون للأشياء والأفعال الصالحة كالإحسان الاجتماعي، ومن الاشياء التي تنمي هذا الوصف هي العطف الذي يتجلى بالبكاء مثلًا.
الذكاء، ويقصد منه الاستعداد للمعرفة لا المعرفة نفسها، وهذا ما يحتاج غلى تمرين، وإن كان من غير الممكن تربية الذكاء بغير إعطاء معلومات.
الفصل الثاني: تربية الخُلق
السنة الأولى
في التربية القديمة كان يتم التعامل مع السنة الأولى من التربية للطفل على أنها خارجة عن نطاق التربية، وكأن السنة الأولى التي يغلب فيها العاطفة الأمومية بين الأم وطفلها تجعلها سنة حب وعاطفة وخارجة عن إطار التربية، ولكن هذا الأمر كان إفراطيًا حتى كان يؤدي إلى الكثير من الوفيات لدى الأطفال في السنة الأولى من حياة الطفل، ولا يتعرض الكاتب ههنا للجانب الطبي والصحي للأطفال وإن كان جانبًا مهمًا ولكنه خارج إطار اهتمام الكتاب، وإنما يتعرض للأبعاد النفسية للتربية في السنة الأولى.
والفكرة المركزية التي ينطلق منها هي ملاحظة الدهشة في كيفية وسرعة اكتساب الطفل للعادات في هذا العمر، « وكل عادة يكسبها تكون عادة في سبيل اكتسابه بعد ذلك عادات خير منها. وتلك هي العلة في أن التكوين الأول للعادات في بواكير عهد الرضاعة له أهمية فإذا أحسنت العادات الأولى كفتنا في المستقبل تعبًا لا آخر له»[7].
وعليه، بحسب راسل إن اللحظة الصائبة للبدء بالتربية الخلقية اللازمة هي لحظة الولادة، وأما إذا بدأت بعد ذلك فستضطر إلى مجاهدة ما تكوّن من عادات مضادة، ومن هنا لا يرى راسل كثير إشكال في تعرض الطفل ولو في سنته الأولى لشيء من الآلام في سبيل عدم اكتساب العادات السيئة، و « القاعدة الصحيحة هي: شجع أنواع النشاط الذاتي في الطفل لكن ثبط مطالبه من الغير. وحذار أن يبصر الطفل كم تعمل من أجله وكم من العناء تتحمل»[8] وكل ذلك حتى يتم تقليص الاعتماد على أي فضاء خارجي للتربية.
الخوف
في هذا القسم من الفصل يعالج برتراند راسل التربية الخلقية من عمر السنتين إلى ست سنوات، ويؤسس فكرته المركزية أن العادات الصالحة لا بد أن تكون قد تمت في عمر السادسة.
ينبغي أن تكون السنة الثانية من حياة الطفل سنة سعادة كبرى، فالمشي والتكلم فتحان جديدان يجلبان معهما إحساسًا بالحرية والقوة، وبالتالي القدرة الفائقة على اللعب.
ولكن في الوقت نفسه تنشأ غريزة الخوف عنده تزامنًا مع مخاطر المشي واللعب، ولذا يأتي دور المربين هنا لمعرفة كيفية التعامل مع الخوف الجديد، کما یلفت راسل أن الشجاعة الحقيقية لا بد أن تتجلى في مواجهة الإنسان مع صعوبات الحياة المادية لا مع الأشخاص من بني البشر، ويعتبر أن الخوف الغامض كالخوف من الكسوف والخسوف من الأمور التي لا بد من اقتلاعه من الصبا ومن جذوره، عبر بيان التبريرات العلمية.
اللعب والتخيّل
يرفض راسل ما يذكره بعض العلماء النفسيين من أن اللعب عند الأطفال يحمل رموزًا جنسية، ويعتبر أن هذا التفكير مجرد وهم، وأما الحافز الغريزي الأساسي في الطفولة هي الرغبة في الرشد والقوة.
وفي اللعب شكلان من إرادة الطفل للقوة:
الشكل الذي يتألف من تعلم عمل الأشياء
الشكل الذي يتألف من التخيل النموذجي للقوة بما يتلاءم مع عمره
خاصيّة التنشئة
يرفض راسل القول المسيحي بالخطيئة الأولى كما يرفض قول روسو بالفضيلة الغريزية عند الطفل، وبعتبر أن الطفل يولد من دون أي ترجيح لجانب الشر او الخير، ولذا فالتربية هي التي تساهم في التنشئة إلى الخير أو الشر دون غيرها.
ثم يذكر أن المهذب العظيم للغريزة هو المهارة، فالمهارة هي التي تمد الطفل بالفضائل من خلال الاعتياد على أدائها بسهولة ويسر، نعم إن المهارة في أوائل اكتسابها فيها شيء من الصعوبة ولكن هذه الصعوبة في اكتساب المهارات محبوبة للطفل وللإنسان عمومًا لأنها تشكل أحد تحديات القوة، ولذا فالطفل يحب التحدي لكي يصبح ماهرًا في المشي أو الركض وهكذا.
ومن الأفكار اللافتة التي يشير إليها أن المهارة يمكن أن تنقسم إلى قسمين:
مهارة الهدم التي تتجلى في بعض ألعاب الأطفال
مهارة البناء كذلك
لكن مهارة البناء أصعب من مهارة الهدم لأنها تحتاج إلى عناصر أكثر تعقيدًا من مهارة الهدم، ولذا فإن ألعاب الأطفال تبدأ بمهارات الهدم عادة ولا تنتقل إلى البناء إلا في مرحلة لاحقة، ومن ثم تنشأ البدايات الأولى لكثير من الفضائل من تذوق سرور القدرة على البناء وعندما يرجوك الطفل أن تدع بناياته سليمة تستطيع بسهولة أن تفهمه أن عليه ألا يهدم بنايات غيره، وبهذه الطريقة تستطيع أن تخلق فيه احترامًا للغير، وهكذا يمكن أن تتجلى الكثير من الفضائل عبر القدرة والمهارة البنائية عند الطفل.
وينبّه راسل أنه عندما يتكلم عن ملكة البناء فإنه لا يقصد فقط البناء المادي وحده فإن أعمالًا كالتمثيل والرسم والفنون الأخرى أيضًا هي أنواع من البناءات، وصولًا إلى البناء الاجتماعي وبناء علاقات سليمة على المستوى الاجتماعي، ومن ثم البناء النفساني.
حب النفس والحيازة
يعالج برتراند راسل في هذا القسم من الكتاب قضية حب الطفل لنفسه وآثار هذا الحب حيث يتجلى في أمور منها استحواذه على أغراض غيره وحبه للحيازة، فيعتبر أن هذا الأمر طبيعي في الطفل ولا يمكن مواجهته بالعقاب أو الذم، لأن التضحية المطلقة غير معقولة، فحتى الذين يقدمون الخدمات ويتنازلون عن بعض الأمور هم في الحقيقة يتوقون لتحصيل أمر راجع إلى نفسهم كالثناء والشكر.
وعليه، ففي مقابل حب النفس لا بد من بث مفهوم ومعنى « العدل» تجاه الآخرين لا سلب قضية حب النفس منه، ولا يمكن بيان وتعليم العدل إلا بوضع الطفل في مجال حيوي مع أقرانه، أي بأن يوجد مع أطفال غيره، فاستجابة الطفل للعدل وتوزيع الأدوار بين الأطفال من أقرانه أسرع في تثبيت مفهوم العدل في نفسه من تعليم الكبار له مفهوم العدل.
وأما بالنسبة لحس التملك والحيازة فيذهب راسل إلى أن هذا الحس غريزي ولا ينبغي أن نسعى لنفيه من نفس الطفل لكن لا بد من أن نراعي جانب العطاء أيضًا ويقترح لأجل ذلك تقسيم الألعاب التي يمكنه أن ينالها إلى قسم مشاع يشاركه مع غيره وإلى قسم خاص له.
ويمكن تلخيص المبادئ:
لا تجعل الطفل يشعر أنه محروم لعدم كفاية ما يمتلكه وإلا جعلت منه بخيلًا.
اسمح للطفل بالملكية الخاصة ولكن في نفس الوقت حوّل اهتمامه بتحصيل الترفيه والفرح من أمور لا تتعلق بالملكية الخاصة.
الصدق
يعمم راسل معنى الصدق كهدف من أهداف التربية ليشمل مضافًا إلى الصدق في الكلام الصدق في الفكر، ومن ثم فإن أحد أهم أسباب الكذب هو الخوف، ولذا فالطفل الذي نشأ في ظرف خالٍ من الخوف يكون صادقًا، بل إن الكذب بالنسبة للأطفال هو اكتشاف يراه بعد مشاهدة الكبار وإلا فنفس عملية الكذب ليست من المسائل التي تقتضيها سليقة الطفل في نفسه.
ومن الملاحظات التي يذكرها راسل ولها أهمية في هذا المجال أنه لا بد من حذر في الحكم على الأطفال هل هم صادقون، ذلك أن ذاكرات الأطفال كثيرًا ما تخطئ، وهم في الغالب لا يعرفون جواب سؤال حين يظن الكبار أنهم يعرفونه، وحاسة تقدير الزمن عندهم مضطربة مبهمة فلن يستطيع الطفل الذي دون الرابعة أن يميز بين أمس أو أسبوع مضى، أو بين أمس وست ساعات خلت، وهم يميلون عندما يجهلون جواب سؤال إلى أن يجيبوا بنعم أو لا حسبما توحي به نبرات صوتك، لهذه الأسباب وغيرها يغلب أن تكون أقوال الطفل الصغير غير صحيحة في ذاتها لكن من غير أدنى قصد منه إلى الخداع.
العقاب
في النظرية التربوية القديمة كان العقاب الجسدي من الأمور غير المستهجنة حتى من قبل أولئك الذين ينظّرون للتربية، وراسل في هذا الكتاب يعتقد أن للعقاب مكانًا ثانويًا جدًا في التربية، ولكن يعتقد أن أقسى عقوبة هي التعبير الطبيعي عن السخط.
ويرى أن عزل الطفل عن أقرانه دون توهين أو عقاب بحيث يرى أن خطأه المسلكي أدى إلى حرمانه من أمور تسعده أفضل الطرق لتعليمه السلوك الصحيح، «فالقاعدة فيما يبدو بسيطة، هي أن العقاب ينبغي أن يكون شيئًا تريد أن يكرهه المسيء لا شيئًا تريد أن يحبه، وعلى الرغم من ذلك ترانا نعاقب أحيانًا بتكرار كتابة قطعة أدبية في الوقت الذي ندعي فيه أننا نريد تحبيب الآداب إليه»[9].
أهمية أقران الطفل
هناك الكثير من الأمور التي لا يمكن للطفل تعلمها إلا من خلال أقرانه، فالأطفال يشعرون أن من يقربهم سنًا أشبه بهم من الكبار، ولكن لا بد من الالتفات أن أشد التأثير يحصل بين الأخوة في الأسرة، فالطفل الأكبر بالنسبة للطفل الأصغر يمثل طموحًا ويبقى تأثر الأكبر سنًا بقليل مؤثر في اكتساب الطفل لبعض الأمور والمهارات حتى فترة الشباب.
المحبة والعطف
يعتقد راسل أن الحب الصادق لا معنى لظهوره في السنوات الأولى من حياة الطفل، ولا ينبغي رمي أكوام العاطفة قبل أوانها، بل لابد أن تكون ثمرة يتم تنميتها في أوانها، “ إن الحب لا يمكن أن يوجد كواجب، فمن العبث –إن لم يكن شرًا من العبث- أن نقول لطفل أن ينبغي له أن يحب والديه وأخوته وأخواته، وعلى الوالدين اللذين يودان أن يحبهما أولادهما أن يسلكا معهم مسلكًا يستثير الحب»[10].
ويشدد راسل أن كلامه ينبغي أن لا يُفهم على أنه دعوة لإنقاص أجواء المحبة في الأسرة، بل يريد لفت النظر فقط إلى أن هناك أنواع مختلفة من المحبة لا بد من مراعاة أحوالها ومقتضياتها، ويعتبر أن الخطأ الأكبر الذي ارتكبه الفرويديون أنهم دمجوا كل أنواع الحب تحت عنوان واحد يرجع للغريزة الجنسية.
ومن القضايا المهمة التي يتعرض لها قضية تعرف الطفل على الشر في العالم من الحروب وغيرها، فيناقش كيفية نقل هذه التجارب له وفي أي مرحلة عمرية ثم يقول « في التحدث عن الحروب ينبغي أن يكون العطف في أول الأمر مع المهزوم..وإذا ما وقعت تحت نظر الطفل حادثة من عدم الشفقة أو من القسوة فينبغي مناقشتها مناقشة وافية مع توضيح جميع القيم الخلقية التي يعلقها الرجل الكبير نفسه على الحادثة ومع الإيحاء دائمًا بأن الناس الذين قسوا كانوا حمقى»[11].
التربية الجنسية
يعتبر راسل أن المبادئ التي قدمها فيما سبق لا بد أن تنطبق على التربية الجنسية وبالتالي لا ينبغي الورود في هذا البحث بدواعي الخوف والتحريم وغير ذلك من التقييدات، ويرى أن الأطفال لديهم الغريزة الجنسية وإن اختلف شكلها عما هو موجود عند الكبار، فالاستطلاع الجنسي يبدأ مع الطفل في سن مبكرة وهو جزء من غريزة حب الاستطلاع ولذلك لا ينبغي التعامل معها تعاملًا تحريميًا أو انفعاليًا، بل لا بد أن يتم الجواب عن أسئلته ويتم التعامل مع هذا الموضوع كما يتم التعامل مع أي موضوع معرفي آخر.
ولذا «تشكل الإجابة على الأسئلة الجزء الأكبر من التربية الجنسية، فهنالك قاعدتان: أولا تقصي دائمًا الجواب الصادق للسؤال، ثانيًا اعتبار المعلومات الجنسية بأنها تشبه تمامًا أي معرفة أخرى»[12] خاصة بما يتعلق بالأمراض الجنسية والأمور المتعلقة بالصحة من هذه الجهة قبل غيرها من الموضوعات.
مدرسة الحضانة
يبدأ راسل بالحديث عن الحضانة من باب أن ما يقتضيه الكلام السابق والمبادئ السابقة التي ذكرها قد لا تتوفر لتأمينها مهارات لازمة عند الأهل، وبالتالي لعل الحجج في التربية المدرسية في فترة الحضانة تمتلك الحجج الكافية بالنسبة لهذا النوع من الوالدين لا سيما أيضًا الأهل الذين يعانون هم أنفسهم من النقص على مستوى التنشئة الأخلاقية كانعدام الصبر أو غير ذلك، بل يترقى أكثر من ذلك فيقول « لكن حتى أطفال الوالدين المتعلمين تعليمًا راقيًا الذين لهم ضمائر حية والذين ليسوا أشغل من اللازم، حتى أطفال هؤلاء لا يمكن أن يحصلوا في البيت على ما يحتاجون إليه في سبيل التربية على مثل ما يحصلون عليه في مدرسة الحضانة»[13].
وخلاصة الأمر إن راسل في هذا الكتاب يبدي ميله الشديد إلى الحضانة لأجل أن تعليم الأطفال وفقًا للمبادئ التي طرحها سابقًا تحتاج إلى مهارات عالية قد لا تكون متوفرة في الوالدين غالبًا مع انشغالاتهم في أمور الحياة وغير ذلك.
الفصل الثالث: التربية الفكرية
مبادئ عامة
رأس الفضائل التي تتصدر التربية الفكرية لدى الطفل هي « حب الاطلاع وانفتاح العقل» والاعتقاد بأن المعرفة أمر لا بد من الحصول عليه وإن كان الطريق صعبًا، هذا مضافًا إلى قضية أخرى هي أن المعرفة التي يكتسبها الطفل لا بد أن يشعر بأنها تحولت عنده إلى مهارة على وزان المهارات الرياضية التي يكتسبها أي لا بد أن يشعر بأن المعلومات التي دخلت ذهنه لم تكن فقط معلومات أضيفت إلى عقله بل لا بد أن تتجلى في بعد مهاري، ولذا لا بد من الربط بين المعرفة والحياة وإن أكبر ضربة يوجهها المعلمون والمربونى في هذا المجال هو الفصل بينهما أثناء التنشئة الفكرية.
مضافًا إلى هذا الأمر، لا بد من التركيز على الطرق التي يتم من خلالها تربية الصبر على التعلم والذي يعتبر من أهم الأسس للتنشئة الفكرية.
ويقسم راسل ما ينبغي أن يتعلمه الناس إلى قسمين:
قسم لا بد من أن يعرفه كل الناس
قسم خاص بكل فئة بحسبها
وبالتالي « يمكننا أن نقول بوجه عام أن الأشياء التي تعلم في المدرسة قبل سن الرابعة عشرة ينبغي أن تكون من بين ما يتحتم على كل فرد أن يعرفه»[14]، وبالتالي لا يكون من معنى للتخصص قبل سن الرابعة عشرة، ويظهر أن راسل يقرّ أن التعليم في هذه المرحلة المبكرة هدفها اكتشاف الميول الخاصة وتنميتها قبل الدخول في المسائل العلمية الدقيقة.
ملاحظات نقدية
أول ما يطالعنا في الكتاب الذي بين أيدينا هو تقسيمه للأبواب العامة، حيث جعل الكتاب على ثلاثة أقسام، فبعد المثل العليا للتربية يبدأ بالحديث عن التربية الخلقية ومن ثم التربية الفكرية، وهذا من النقاط الإيجابية في الكتاب، حيث نجد للبعد الأخلاقي حضورًا في عملية التنظير للتربية وهو أمر مهم وقد حرص كذلك كل من نظّر للتربية والتعليم في الفكر الإسلامي عمومًا على تبنّي هذا التقسيم وإبرازه، فمسألة التربية الأخلاقية شغلت بال الذين كتبوا في الحكمة العملية من الفلاسفة والحكماء كما اهتم بها المنظرون المتأخرون أيضًا، ولكن في التفاصيل نجد الاختلافات واضحة بين راسل وغيره من حكماء الإسلام، فإنه يحدد معالم الفضائل في أربعة أمور:
الحيوية التي هي صفة جسدية أكثر منها عقلية
الشجاعة وهي عبارة عن التحكم بالخوف لا التجرد عنه
الحساسية، وهذه الصفة لها دور تصحيحي للشجاعة، كالإحسان الاجتماعي، ومن الاشياء التي تنمي هذا الوصف هي العطف الذي يتجلة بالبكاء مثلًا.
الذكاء، ويقصد منه الاستعداد للمعرفة لا المعرفة نفسها.
والذي يظهر أنه جعل هذه الأمور الأربعة رؤوس الفضائل انطلاقًا من تأملاته الشخصية دون الاستناد إلى مستند برهاني عقلي، وذلك بخلاف ما قام به الحكماء الإسلاميون الذين جعلوا رؤوس الفضائل ثلاثة:
الشجاعة
العفة
الحكمة
وذلك لأن النفس الإنسانية لها ثلاثة قوى عملية أساسية – غير القوة العقلية النظرية- وهي قوة الشهوة وقوة الغضب وقوة العقل العقل العملي، والأخلاق تنبع من استقامة واعتدال هذه القوى الثلاثة، فاعتدال القوة الشهوية يسمى عفة واعتدال القوة الغضبية يسمى شجاعة واعتدال القوة العملية التدبيرية يسمى حكمة، والجامع بين هذه الصفات الثلاثة يسمى عادلًا، وقد صرّح أمثال ابن سينا بهذا الأمر حيث قال:«فالفضائل ثلاثة: هيئة التوسط في الشهوانية مثل لذة المنكوح و المطعوم و الملبوس و الراحة و غير ذلك من اللذات الحسية و الوهمية، و هيئة التوسط في الغضبيات كلها مثل الخوف و الغضب و الغم و الأنفة و الحقد و الحسد و غير ذلك، و هيئة التوسط في التدبيرية. و رؤوس هذه الفضائل عفة و حكمة و شجاعة، و مجموعها العدالة»[15].
وبالتالي يمكن القول بأن الرؤية في تقسيم رؤوس الفضائل عند راسل لا تعتمد بشكل واضح على أساس عقلي أو دليل واضح سوى تأملاته الخاصة.
ومن الأمور التي يركّز عليها راسل في مسألة التربية في السنوات الأولى بالخصوص هي قضية العادة، حيث يعتبر أن العادات هي الأساس لتكوّن الملكات الأخلاقية لدى الطفل، وهذا الكلام صحيح نسبيًا، لأن هناك إشكالًا أساسيًا في مسألة العادة عند التربويين وهي أن العادة تُفقد السلوك روحه، فمن اعتاد على التواضع مثلًا قد يجري على هذا السلوك لا من حيث كونه أخلاقيًا بل من حيث كونه عادة له، فلا يكون فعله أخلاقيًا أصلًا، وقد عالج بعض المفكرين الإسلاميين هذا الأمر من خلال التفريق بين العادة الفعلية والعادة الانفعالية، حيث قال الشهيد مطهري مثلًا: «إن هذه المقولة، وهي أن الإنسان لا ينبغي أن يعتاد على شيء ويأنس به بحيث يقوم بالعمل بدافع العادة لا بحكم العقل والإرادة صحيح بشكل عام، ولكن هذا لا يكون دليلًا على أن العادة أمر سيء مطلقًا، لأن العادات على قسمين: العادات الفعلية والعادات الانفعالية، العادة الفعلية هي أن لا يقع الإنسان تحت تأثير العامل الخارجي بل يقوم بالعمل بصورة أفضل بسبب التكرار والممارسة، فجميع الفنون هي عادة، الكتابة أيضًا عادة، [..] وهكذا أيضًا الكثير من الملكات النفسانية هي علاجات فعلية، مثل الشجاعة.»[16]
أما في خصوص التربية الفكرية فيُغرق راسل في الكلام التنظيمي حول المواد الدرسية وآليات وتقنيات التدريس، ولا نجد عنده تنظيرًا عميقًا حول مسألة العلم والفكر والروح العلمية، حيث إنه لا بد من التفريق بين نفس العلم من جهة والعقل والروح التفكيرية من جهة أخرى، « لدينا هنا مسألتان: إحداهما مسألة تنمية العقل والأخرى مسألة العلم، مسألة العلم هي التعليم لا التربية، فالمتعلم هو الشخص المستلم للعلوم فيكون ذهنه بمثابة مخزن يجمع فيه سلسلة من المعلومات، لكن التربية لا يكفي فيها هذا الهدف فقط، وليس من الصحيح في هذا الزمان أن يكون هدف المعلم حشو ذهن التلميذ بسلسلة من المعلومات والاصطلاحات فقط، فيكون ذهنه كالحوض الذي يجمع مقدارًا من الماء، إذ لا بد أن يكون هدف المعلم أسمى من هذا، وهو أن يربّي فيه القوة الفكرية، ويحيي فيه قوة الابتكار»[17].
------------------------------------
[1]. راسل، في التربية، 13.
[2]. م. ن، 14.
[3]. راسل، في التربية، 26- 27.
[4]. م. ن، 34.
[5]. م. ن، 38.
[6]. م. ن، 47.
[7]. م.ن، 66.
[8]. م. ن، 69.
[9].م. ن، 123.
[10]. م. ن، 134.
[11]. م. ن، 143.
[12]. م. ن، 149.
[13]. م. ن، 157.
[14]. م. ن، 180.
[15]. ابن سينا، إلهيات الشفاء، 455.
[16]. المطهري، التربية والتعليم في الإسلام، 72.
[17]. م. ن، 13.