البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

فتغنشتين وتحقيقاتٌ فلْسفيَّة: دراسة نقدية

الباحث :  مرتضى فرج
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  36
السنة :  خريف 2024م / 1446هـ
تاريخ إضافة البحث :  February / 13 / 2025
عدد زيارات البحث :  110
تحميل  ( 671.604 KB )
الملخص
يتكفَّلُ هذا البحث ببيانِ أهمِّ التحوُّلات التي طرأتْ على فتغنشتين المُتأخِّر، كما بدَتْ في كتابِهِ «تحقيقات فلْسفيَّة»، وذلك بمقارنَتِها - بنحوٍ موجزٍ - مع آرائِهِ الفلْسفيَّةِ المُبكِّرة. ثمَّ يتكفَّل البحثُ ببيانِ أهمِّ الملاحظات التي سُجِّلَتْ عليه، ويُشيرُ إلى دورِهِ - في إطار الفلْسفةِ الغرْبيَّة - في فتْحِ آفاقٍ جديدةٍ في فهْمِ اللُّغة بوصفِها ظاهرة اجتماعيَّة، لها دورٌ عظيمٌ لا في الإخبارِ فحسب، بل في الإنشاءِ وأداءِ الأفعالِ كذلك.
وقد سعينا في القسم الثاني من البحث لتقديم رؤية نقدية لأهم الأفكار المتعلّقة بفلسفة اللغة عند فتغنشتين انطلاقًا من بعض الرؤى الموجودة في علم الأصول والفلسفة الإسلامية.

الكلمات المفتاحية: فلسفة اللغة، التحليلية، فتغنشتين، علم الأصول، الدلالة

نبذة عن فتغنشتين:
الفيلسوفُ النَّمساوي لودفيج فتغنشتين[2](1889-1951) يعتبرُ من أبرزِ الفلاسفة المعاصرين تأثيراً على الفلْسفة الإنجليزيَّة في القرْن العشرين.

وُلِدَ في ڨينَّا، من أُسرةٍ ثريَّة، كانت يهوديَّة الأصل ثمَّ تحوَّلت إلى الكاثوليكيَّة. كان أبوهُ مهندساً كبيراً في صناعةِ الحديد والصُّلْب ثمَّ السِّلاح في النَّمسا. وقد اشتُهِرَ منذُ نعومةِ أظفارهِ بميولِهِ الأدبيَّة والفنيَّة، وكان اهتمامُهُ بالموسيقى والسِّياسة كبيراً. ويبدو أنَّه قد قرأ في شبابِهِ أعمالَ تولستوي الأدبيَّة والرِّوائيَّة، فتأثَّرَ بالكثيرِ من آرائِهِ الأخلاقيَّة والدِّينيَّة.
حين تُوفِّيَ والِدُهُ عام 1912، ورِثَ عن أبيهِ ثرْوةً ضخمة، لكنَّه تنازلَ عنها لإحدى أخواتِهِ، بل إنَّه تعهَّدَ في إقرارِ تنازُلِهِ بأنْ لا يُطالِبُها بشيءٍ في المستقبل، وآثرَ أنْ يعيشَ حياةً بسيطة. وقيل أنَّ موقفَهُ هذا كان نتيجةَ تأثُّرِهِ بتولستوي.
سافَرَ إلى إنجلترا عام 1908، والتحَقَ بجامعةِ مانتشيستر لدراسةِ الميكانيكا، وكان يُعِدُّ نفسَهُ لدراسةِ ميكانيكا الطَّيران (وقيل أنَّه نجح في تصميمِ مُحرِّك طائرة نفَّاثة)، وهو اختصاصٌ تطبيقيٌّ يتطلَّبُ فهماً عميقاً للرِّياضيَّات.
وعندما وجَدَ أنَّ اهتمامَهُ تحوَّلَ من الرِّياضيَّات التَّطبيقيَّة إلى الرِّياضيَّات البحتة ثمَّ إلى فلْسفةِ الرِّياضيَّات، ذهبَ إلى جامعةِ يينا[3] عام 1911 لمُقابلةِ فريجة، وهو الفيلسوفُ الذي تأثَّرَ به فتغنشتين كثيراً.

نصَحَهُ فريجة أنْ يدْرُسَ على يَدِ برْتراند رَسِل، فكانت بدايةُ عهدِهِ بالحياةِ الفلْسفيَّةِ في إنجلترا في عام 1911 حينما التحَقَ بجامعةِ كمبردج، وتتلْمَذَ على يَدِ كلٍّ من مور ورَسِل، وسُرْعانَ ما اضطرَّ مور ورَسِل إلى معاملتِهِ معاملةَ النِّدِّ لهُما، لرجاحةِ عقلِهِ. وقد اعترَفَ مور (في سيرتِهِ الذَّاتيَّة) بأنَّه وَجَدَ لدى تلميذِهِ ذكاءً استثنائيَّاً، لدرجةِ أنَّه اعتبرَهُ «أبرَعَ منه في الفلْسفةِ بدرجةٍ كبيرة». وأمَّا رَسِل فقد صرَّح فيما بعد بأنَّ «تعرُّفَهُ على فتغنشتين كان بمنزلةِ مخاطرة من أكبرِ المخاطراتِ العقليَّة استثارةً في كلِّ حياتِهِ».
عندما اندلعَتْ الحرْبُ العالميَّة الأولى عام 1914، تطوَّعَ ضمْنَ صفوف الجيشِ النَّمْساوي، حيثُ عمَلَ في سِلاحِ المدْفعيَّة. وكان كتابُهُ «رسالة منطقيَّة فلْسفيَّة»[4] أو «مُصنَّفٌ منطقيٌّ فلْسفيّ» (على اختلافِ التَّرْجمات العربيَّة) (تراكتاتوس)[5] عملاً فلْسفيَّاً مهمَّاً، استغرَقَ حوالي الأرْبع سنوات أو يزيد. وقد كتَبَ أغلَبَ رسالتِهِ أثناءَ اشتراكِهِ في الحرْب، وانتهى من كتابَتِها قبْلَ وقوعِهِ أسيراً، وأثناءَ وجودِهِ في الأسْرِ استطاعَ الاتِّصالَ بـ رَسِل وأرْسَلَ إليه المخطوطَ عن طريقِ زميلٍ له في الدِّراسة (كينز).

واستطاعَ أنْ يحصُلَ على الدُّكتوراه في الفلْسفة عام 1929 من جامعةِ كمبردج على يَدِ كلٍّ من مور ورَسِل. قال مور عن كتابِهِ هذا: «لقد قرأتُ هذه الرِّسالةَ مرَّةً بعد أخرى، محاولاً أنْ أتعلَّمَ منها، وقد أُعجِبْتُ بها، وما أزالُ أُعجَبُ بها إعجاباً شديداً. صحيحٌ أنَّني قد لقيتُ فيها الكثيرَ ممَّا لمْ أستطِع فهْمُهُ، ولكنَّني أحسَبُ مع ذلك أنَّني فهِمْتُ منها أموراً كثيرةً أراها تُنيرُ أمامَنا الطَّريقَ بنُورٍ ساطع».
ثمَّ خلَفَ مور بجامعةِ كمبردج عام 1937، ولمْ يمكُث بهذا المنْصِب أكثرَ من عشْرِ سنوات؛ إذْ استقالَ من الجامعة عام 1947، وراحَ يُكرِّسُ كلَّ وقتِهِ لأبحاثِهِ الخاصَّة. وقضى معظمَ فترةِ الحرْب العالميَّة الثَّانية يعملُ في مستشفياتِ لندن، ثمَّ في أحدِ معاملِ الأبحاثِ الطبِّيَّة في نيوكاسل.

ثمَّ سافَرَ إلى الولاياتِ المتَّحدة عام 1949، ولمْ يُمْهِلهُ القَدَرُ طويلاً، فقد اكتشَفَ أنَّه مصابٌ بسرطانِ البروستات، وكان قد أتمَّ الجزْءَ الأوَّل من كتاب «تحقيقات فلْسفيَّة» (الذي بدأ بالعملِ به في عام 1936)، ثمَّ حرَّرَ أغلب فقرات الجزْءِ الثَّاني (في إيرلندا)، وتُوفِّيَ عام 1951، عن اثنين وستِّين عاماً.
لمْ تكن مؤلَّفات فتغنشتين كثيرةً متعدِّدة، حتى إنَّه لمْ ينشُر في حياتِهِ إلَّا كتاباً واحداً هو «رسالة منطقيَّة فلْسفيَّة»، ومقالاً له بعنوان «بعضُ الملاحظات على الصُّورةِ المنطقيَّة»، وبقيَّةُ ما نُشِرَ بعد ذلك كان كلُّهُ بعد وفاتِهِ.
وعلى الرَّغمِ من بساطةِ أُسلوبِهِ وبلاغتِهِ في التَّعبير، فقد كانت أفكارُهُ بالغةَ الصُّعوبة، سواءٌ تلك التي كتَبَها في مؤلَّفاتِهِ، أو التي كان يُناقِشُها في محاضراتِهِ.[6]

كان فتغنشتين يعتقدُ أنَّه قد حلَّ بكتابِهِ «رسالة منطقيَّة فلْسفيَّة» كلَّ مشاكل الفلْسفة الكبرى،[7] وبذلك لمْ يعُد هناك مجالٌ لطرْحِ شيءٍ جديد. لذا ترَكَ العمَلَ الفلْسفي لفترةٍ ليعمَلَ مُدرِّساً في المرْحلةِ الابتدائيَّة، ثمَّ ترَكَ التَّدريس واعتزَلَ النَّاسَ لعدَّةِ شهور في أحَدِ الأديرة بجوارِ ڨينَّا، حيثُ عمَلَ هناك مُزارعاً لحديقةِ الدَّير، ورجَعَ إي العملِ في الهندسةِ المعماريَّة وصمَّمَ منزِلَ أُختِهِ.
ثمَّ بدا له أنَّ النَّظْرةَ التي كان يؤمنُ بها عندما كتَبَ «رسالة منطقيَّة فلْسفيَّة» كانت ضيِّقةً ولا تخلو من سذاجة. حيثُ كتَبَ في مقدِّمةِ كتابِهِ «تحقيقات فلْسفيَّة»: «إنَّ الأفكارَ التي أنشُرُها على الصَّفحاتِ التَّالية هي حصيلةُ بحوثٍ فلْسفيَّةٍ شغلتني على مدى السَّنوات الستَّةَ عشَرَ الأخيرة...وقد دوَّنْتُ جميعَ هذه الأفكار بوصفِها ملاحظات، وفقرات موجزة، تدورُ أحياناً حول موضوعٍ واحدٍ في شكلٍ متسلسلٍ طويل، وقد تقفزُ أحياناً أخرى بطريقةٍ مفاجئة من موضوعٍ إلى آخر...وقد أُتيحَ لي قبلَ أرْبع سنوات أنْ أُعيدَ قراءةَ كتابي الأوَّل (وهو «رسالة منطقيَّة فلْسفيَّة»)...عندئذٍ خطَرَ لي فجأةً أنَّ من الواجبِ عليَّ أنْ أنشُرَ تلك الأفكارِ القديمة مع الأفكارِ الجديدة، بحيث يُلْقى الضَّوءِ الصَّحيح على هذه الأخيرة، ويتيسَّرُ الاطِّلاعُ عليها من خلالِ تعارُضِها مع طريقتي القديمةِ في التَّفكيرِ وعلى أساسِها، لأنَّني اضطرُرْتُ للاعترافِ بوجودِ أخطاءٍ فادحةٍ فيما كتبتُهُ في ذلك الكتابِ الأوَّل».[8]

فتغنشتين المُبكِّر والمُتأخِّر:
جرَتْ العادةُ على تقسيمِ حياةِ فتغنشتين الفلْسفيَّة إلى مرْحلتين:
المرْحلةُ الأولى المُبكِّرة، هي تلك التي تأثَّرَ فيها بـ برْتراند رَسِل وأثَّرَ فيه على السَّواء، وسعى فيها إلى تشييدِ لُغةٍ مثاليَّة، فكتَبَ «رسالة منطقيَّة فلْسفيَّة». وهي المرْحلةُ التي أثَّرَ فيها كذلك على أعلامِ الوضعيَّة المنطقيَّة.

وأمَّا المرْحلةُ الثَّانية المُتأخِّرة، فهي تلك التي تحوَّلَ فيها إلى دراسةِ «فلْسفةِ اللُّغةِ العاديَّة»، وقد اقتصَرَ فيها على الكتابةِ الخاصَّةِ وإلقاءِ المحاضرات، دونَ إصدارِ أيِّ عملٍ فلْسفي. ولكنَّ بعضَ أصدقائِهِ وتلاميذِهِ نشروا له بعد وفاتهِ ِكتاباً مهمّاً بعنوان «تحقيقات فلْسفيَّة» أو «بحوث فلْسفيَّة» أو «فحوص فلْسفيَّة»[9] (على اختلافِ التَّرْجماتِ العربيَّة) عام 1953، ورسالةً أُخرى بعنوان «ملاحظاتٌ حول أُسِس الرِّياضيَّات»[10] عام 1956، كما جمعوا العديدَ من محاضراتهِ ِتحت عنوان «الكتابان: الأزرق والبُنِّي»[11] عام 1958.
ولا خلافَ حول شُهْرةِ كتاب «رسالة منطقيَّة فلْسفيَّة»، ورواجِهِ وتأثيرِهِ في البحثِ العلْمي والفلْسفي في القرْنِ العشرين، وبالتَّحديد في حلقةِ ڨينَّا ونشأةِ المدرسةِ الوضعيَّةِ المنطقيَّة. إلَّا أنَّ هذا الكتابَ قد تجاوزَهُ الزَّمنُ اليوم، وكلُّ النَّظَريَّات التي طرَحَها فيه قد خفَتَ تأثيرُها، بينما استمرَّ النِّقاشُ الحيويُّ بقوَّةٍ حول الأفكار التي طرَحَها في كتابِ «تحقيقات فلْسفيَّة».
وإذا كان لفتغنشتين اليوم الشُّهْرة نفسها التي كانت له في بدايةِ القرْنِ العشرين، فإنَّه لا يدينُ بها لكتابِ «رسالة منطقيَّة فلْسفيَّة»، بل لكتابِ «تحقيقات فلْسفيَّة»؛ لأنَّ تأثيرَهُ متواصلٌ ويفتحُ آفاقاً جديدةً، نراهُ في أعمال رايل وستراوسُنْ وأُوستِن وسيرل (تظهَرُ جليَّاً في نظريَّةِ المنطوقاتِ الأدائيَّة ثمَّ نظريَّة الأفعال الكلاميَّة)، وما عُرِفَ بعدَها بـ «مدرسةِ أكسفورد» لتحليلِ اللُّغةِ العاديَّة.[12] وكذلك يظهَرُ تأثيرُ فتغنشتين في فلْسفةِ الذِّهن، من خلال اهتمامِها اليوم بالخبرةِ والذَّاكرةِ والوعي.

ظهَرَ كتابُ فتغنشتين «تحقيقات فلْسفيَّة» عام 1953 بالنَّصِّ الألماني مع ترْجمةٍ إنجليزيَّةٍ له، من وضْعِ تلميذَتِهِ إليزابيث إنسكومب، صفحةً فطُبعَ باللُّغةِ الألمانيَّة في مقابلِ صفحة باللُّغةِ الإنجليزية، مثلما كان الحالُ في «رسالة منطقيَّة فلْسفيَّة».
وهذا الكتاب («تحقيقات فلْسفيَّة») أخَذَ شكلَ ملاحظاتٍ تمَّ ترقيمُها، ويغلُبُ عليه الإبهام. وهنا يظْهَر لنا الفرْق في الأسلوب بين ما يُسمَّى «المرْحلة الأولى» و«المرْحلة الثَّانية»؛ إذْ تغلُب على هذه المرْحلةِ المتأخِّرة الإسهابَ والتَّكرار والرُّجوع مرَّات إلى الموضوعِ نفسِهِ بالدَّرْسِ والتَّمحيص.
وفتغنشتين بمرحلتَيْهِ المُبكِّرة والمُتأخِّرة صار من أبرزِ أعلام الفلْسفة التَّحليليَّة، التي ترُدّ المنطق إلى اللُّغة، وترى أنَّ الواجبَ الرَّئيسي على الفيلسوف أنْ يُحلِّلَ اللُّغة ويُفلْسِفُها، بدلاً من أنْ يُحلِّلَ الوجود الخارجي ويُفلْسِفَهُ.[13]
فما هي الفلْسفة التَّحليليَّة؟ وما هي اتِّجاهاتُها الرَّئيسيَّة؟

معنى التَّحليل:
يُستخدَمُ «التَّحليل» من حيثُ هو مصْطلحٌ فلْسفيٌّ ليعني المعنى ذاته الذي تُستعمَلُ به كلمةُ «تحليل» في اللُّغةِ العادِيَّة، أي تفتيت أو فكّ المُركَّب إلى أجزائِهِ التي يتكوَّن منها. ويُستعملُ التَّحليل عادةً في مقابلِ التَّرْكيب. والتَّحليلُ يختلفُ تبعاً لطبيعةِ الموضوع أو المُركَّب الذي نُحلِّلُهُ؛ فهو قد يكونُ مادِّيَّاً إذا كان المركَّبُ الذي نُحلِّلُهُ مادِّيَّاً، مثل التَّحليل الكيميائي.

والتَّحليلُ بوصفِهِ منهجاً لا يقتصرُ على الفلْسفةِ وحدَها، فهناك التَّحليلُ الرِّياضي، والتَّحليلُ في ميدانِ التَّرْبية، والتَّحليلُ النَّفْسي، والتَّحليلُ الأدبيُّ للنُّصوص.

أمَّا في الفلْسفة، فقد يأخُذُ التَّحليلُ أكثرَ من اتِّجاه، منها:
تحليلُ المفاهيم والأفكار بُغْيةَ اكتشاف المبدأ الكامن وراءَها، كما هو الحالُ عند سُقْراط وأفلاطون وأرسطو.
تحليلُ الفكرِ والمعرفة إلى عناصِرِها الحِسِّيَّة الأوَّليَّة، مثلما فعَلَ لوك وباركلي وهيوم.
تحليلُ اللُّغة دلالةً وترْكيباً، كما هو الحال عند فلاسفةِ التَّحليل المعاصرين، مثل مور ورَسِل وفتجنشيتن والوضعيَّة المنطقيَّة ومدرسة كمبردج ومدرسة أكسفورد.[14]
والفلاسفةُ يختلفونَ كذلك في النَّتائجِ التي ينْتهونَ إليها من عمليَّةِ التَّحليل، وهي الوحدات الأوَّليَّة أو العناصر التي يتركَّب منها موضوعُ التَّحليل؛ فهي بالنِّسْبةِ للوك وهيوم مثلاً مجموعة من الانطباعات الحسِّيَّة، وهي بالنِّسبةِ لديكارت الطَّبائع البسيطة، وبالنِّسبةِ لليبنتز الذرَّات الرُّوحيَّة أو المونادات، وهي بالنِّسبةِ لفلاسفةِ التَّحليل المُحدَثين القضايا الأوَّليَّة أو الذَّرِّيَّة.[15]

أمَّا بالنِّسبةِ لفتغنشتين، فطريقتُهُ في التَّحليل في كلٍّ من كتابيْهِ مختلفة؛ فاتِّجاهُ التَّحليل المستخدم في «رسالة منطقيَّة فلسفيَّة» كان يعتمدُ على رَدِّ ما هو مُركَّب إلى عناصرِهِ الأوَّليَّة أو وحداتِهِ البسيطة التي لا تنحلُّ إلى ما هو أبسَطَ منها. فالوجودُ الخارجي عندَهُ - بناءً على ذلك - ينحلُّ إلى وقائع، والوقائعُ تنحلُّ إلى أشياء أو بسائط، واللُّغةُ تنحلُّ إلى مجموعةٍ من القضايا الأوَّليَّة أو الذَّرِّيَّة، والقضيَّةُ الأوَّليَّةُ تنحلُّ إلى أسماء، وهكذا.
أمَّا التَّحليلُ في فلسفتِهِ المُتأخِّرة، في «تحقيقات فلْسفيَّة»، فيسلُكُ اتِّجاهاً آخَرَ؛ فهو لا ينصَبُّ على رَدِّ ما هو مُركَّب إلى عناصرِهِ البسيطة أو وحداتِهِ الأوَّليَّة، بل ينصَبُّ على اللُّغةِ لمعرفةِ الطَّريقة التي تُستخدَمُ بها الألفاظُ بالفعل.[16]

اتِّجاهات الفلْسفة التَّحليليَّة:
على هذا الأساس، نشأَتْ فلْسفةُ اللُّغة، التي تتكفَّلُ بتحليلِها، وترى أنَّ الوجودَ الخارجي لا ينكشفُ إلَّا عن طريقِ اللُّغة، وأنَّ مهمَّةَ الفلْسفة تحليلُ العلاقةِ بين اللُّغةِ والواقع.
ويوجدُ في فلْسفةِ اللُّغة ثلاثة اتِّجاهات؛ اتِّجاهٌ يمتدُّ من فريجة ورَسِل وفتغنشتين المُبكِّر عبْرَ الوضعيَّة المنطقيَّة حتى يومَنا الحالي في كتاباتِ كواين وديڨيدسون ودَميت وبُتْنام. هذا الاتِّجاهُ سهتمُّ غالباً بالعلاقةِ بين المعنى والصِّدْق، والسُّؤالُ المهمُّ في هذا الاتِّجاه هو: ما شروطُ صِدْقِ المنطوق؟ ويرْتبطُ هذا الاتِّجاه ارْتباطاً وثيقاً بفلْسفةِ العلْم.
أمَّا الاتِّجاهُ الثَّاني فمثَّلَهُ مور وفتغنشتين المُتأخِّر ومدرسة أكسفورد أو فلاسفة اللُّغة العادِيَّة، وأبرزُهُم: رايل وستراوسون وأوستن وجرايس، ويسيرُ سيرل في هذا الطَّريقِ أيضاً.
وفي حين يهتمُّ الاتِّجاهُ الأوَّل ببحثِ العلاقة بين اللُّغةِ والوجودِ الخارجي، نجدُ أنَّ الاتِّجاهَ الثَّاني يصُبُّ جُلَّ اهتمامِهِ على العلاقةِ بين اللُّغةِ والمُتكلِّم. والسُّؤالُ الأساسي في هذا الاتِّجاه هو: ما العلاقة بين المعنى والاستعمال؟
والاتِّجاهُ الثَّالثُ ظهَرَ في العقودِ الأخيرةِ من القرْن الماضي، وهو تيَّارُ علْمِ اللُّغة كما تُصوِّرُهُ كتاباتُ نعوم تشومسكي، ويُناقِشُ هذا الاتِّجاه موضوعات تدورُ في فلَكِ المعرفة اللُّغويَّة واعتبار النَّظريَّة اللُّغويَّة تفسيريَّة بدلاً من أنْ تكون وصفيَّة. والسُّؤالُ الأساسي في هذا الاتِّجاه هو: كيف نُفسِّرُ الإبداعَ اللُّغوي.[17]

وطالما أنَّ بحثَنا يدور حول فتغنشتين، فسنقْصُرُ الكلام حول الاتِّجاه الأوَّل والثَّاني، دون الثَّالث.

وظيفة الفلْسفة:
يُعَدُّ فتغنشتين من أبرزِ رُوَّاد الفلْسفة التَّحليليَّة، بل إنَّ الفلْسفةَ من حيثُ هي تحليلٌ لتتَّضحُ كأشَدِّ ما يكونُ الوضوح في فلْسفةِ فتغنشتين؛ فهو يستخدمُ التَّحليل بوصفِهِ منهجاً في الفلْسفةِ لا كغايةٍ فلْسفيَّة، فالفلْسفةُ عند فتغنشتين فاعليَّة ونشاط، تنصَبُّ على التَّوضيحِ المنطقيِّ للأفكار، حيثُ يقول: «إنَّ موضوعَ الفلْسفة هو التَّوضيحُ المنطقيُّ للأفكار. فالفلْسفةُ ليست نظريَّة من النَّظريَّات، بل هي فاعليَّةٌ ونشاط. ولذا يتكوَّن العملُ الفلْسفيُّ أساساً من توضيحات. ولا تكونُ نتيجةُ الفلْسفةِ عدداً من القضايا الفلْسفيَّة، إنَّما هي توضيحٌ للقضايا. فالفلْسفةُ يجبُ أنْ تعمَلَ على تحديدِ الأفكار توضيحها بكُلِّ دِقَّة، وإلَّا ظلَّتْ تلك الأفكار مُعْتِمة ومُبْهِمة، إذا جازَ لنا هذا الوصف».[18]

وهكذا تتلخَّصُ وظيفةُ الفلْسفة عند فتغنشتين، في توضيحِ منطقِ اللُّغة والفحْصِ الدَّقيق لكيفيَّةِ عمَلِها، إذْ إنَّ العجْزَ عن فهْمِ طريقة عمل لُغَتنا يُفْضي بنا إلى نوعٍ من «القلَقِ اللُّغوي»[19] الذي يكشِفُ عن ذاتِهِ في محاولةِ الفلاسفة طرْح الأسئلة الميتافيزيقيَّة والإجابة عنها. وإذا وضَعْنا أصابِعَنا على بُؤرةِ الدَّاء ومنْبعِ القلق، فسُرْعانَ ما تتحلَّل المشكلات الفلْسفيَّة وتتوارى، ومن هنا كانت الفلْسفة عند فتغنشتين نشاطاً علاجيَّاً[20]. يقول فتغنشتين إنَّ «مُعظَمَ القضايا والأسئلة التي كُتِبَتْ عن أُمورٍ فلْسفيَّة، ليست كاذبة، بل هي خاليةٌ من المعنى. فلَسْنا نستطيعُ إذن أنْ نُجيبَ عن أسئلةٍ من هذا القبيل، وكلُّ ما يسَعُنا هو أنْ نُقرِّرَ عنها أنَّها خالية من المعنى. فمُعظَمُ الأسئلة والقضايا التي يقولُها الفلاسفة إنَّما تنشأُ عن حقيقةِ كونِنا لا نفهَمُ منطق لُغتنا، (فهي أسئلةٌ من نوعِ السُّؤال نفسه الذي يبحث فيما إذا كان الخيرُ هو نفسه الجميل على نحوِ التَّقريب). إذًا لا عَجَب، إذا عرفنا أنَّ أعمَقَ المشكلات ليست في حقيقتِها مشكلاتٌ على الإطلاق».[21]

ولا تختلفٌ وظيفةُ الفلْسفة عند فتغنشتين كما هي معروضة في «رسالة منطقيَّة فلْسفيَّة» عنها في كتاباتِهِ المتأخرة، فنراهُ يقولُ في «تحقيقات فلْسفيَّة»: «إنَّ المشكلات لا يتُمُّ حلُّها، بذكرِ معلوماتٍ أو تجارِبَ جديدة، بل بترتيبِ وتنظيمِ ما كُنَّا قد عرفناهُ بالفعلِ دائماً. إنَّ الفلْسفةَ معركةٌ ضِدَّ افتتان عقلنا باللُّغة».[22]
وهذا يعني أنَّ الفلْسفةَ - في نظَرِ فتغنشتين - هي معركةٌ ضدَّ البلْبلة التي تحدُثُ في عقولِنا نتيجةً لاستخدامِ اللُّغة. فعقلُ الإنسان قد لا ينتبهُ إلى سُوءِ استخدام اللُّغة نتيجةً لافتتانِهِ بها، الأمر الذي يُؤدِّي إلى قيامِ المشكلات الفلْسفيَّة. وتكونُ مهمَّةُ الفلْسفة هي تخليصُ العقلِ من الأخطاءِ الرَّاجعة إلى سُوءِ استخدامِ اللُّغة بالتَّحليل. ومن ثمَّ تكونُ مهمَّةُ الفلْسفة مهمَّة علاجيَّة. والتَّحليلُ هنا لا يكونُ بذكرِ معلوماتٍ جديدةٍ أو فروضٍ جديدةٍ لحلِّ المشكلات، بقدرِ ما يتمثَّلُ في إعادةِ ترتيبِ وتنظيمِ ما نعرِفُهُ بالفعل. وغالباً ما يكونُ ما نعرِفُهُ بالفعل من قبْل هو الاستخدامُ العادي للُّغة في الحياةِ اليوميَّة.[23]

وإذا كان لا يحِقُّ للفلْسفة، وفقاً لفتغنشتين، أنْ تتدخَّلَ في الاستعمالِ العادي للُّغة، فذلك لأنَّ اللُّغةَ العادِيَّة سليمةٌ تماماً؛ «فمن الخطأِ القول إنَّنا في الفلْسفةِ نبحثُ عن لُغةٍ مثاليَّةٍ، بوصْفِها معارضةً للُغتِنا العادِيَّة؛ لأنَّ هذا يجعل الأمر يبدو كما لو أنَّنا اعتقَدْنا أنَّنا نستطيعُ تحسينَ اللُّغةِ العادِيَّة. ولكنَّ اللُّغةَ العادِيَّةَ سليمةٌ تماماً، ونحنُ عندما نخترعُ لُغات مثاليَّة، فلا نستهدفُ من ذلك أنْ نستبدِلَها بلُغتِنا العادِيَّة، بل فقط لكي نحلُّ مشكلةً ما نشأتْ في ذهنِ شخصٍ ما بواسطةِ الظَّنّ بأنَّه قد أدرَكَ الاستعمالَ الدَّقيق للكلمةِ المشتركة».[24]

فالهدفُ من الفلْسفةِ هو أنْ نُوضِّحَ للآخرين كيفيَّة الخروج من المشكلاتِ الفلْسفيَّةِ التي تستغلقُ على الأفهام، أو على حدِّ تعبير فتغنشتين هو «أنْ تُبيِّنَ للذُّبابة طريقَ الخروج من مصيدةِ (= زجاجة) الذُّباب».[25] (أنظُر الشَّكل أدْناه لمصيدةِ الذُّباب القديمة).

فتغنشتين المُبكِّر:
إذا أردنا أن نتعرَّف على فتغنشتين المُتأخِّر (كما بدا في كتابِهِ «تحقيقات فلْسفيَّة»)، فلا بدَّ أنْ نطُلَّ أوَّلاً على فتغنشتين المُبكِّر، حيثُ لا يمكنُ فهْمَ فتغنشتين المُتأخِّر إلَّا بمقارنتِهِ بالمُبكِّر.
يمكنُ تلخيصُ موقف فتغنشتين المُبكِّر في النِّقاطِ التَّالية:
السَّعيُ نحو لُغة مثاليَّة: لدينا لُغتان، يُمكِنُنا استخدامُ إحداهُما للتَّعبيرِ عمَّا نُريدُ قولَهُ أو كتابتَهُ، هما: اللُّغة العادِيَّة[26]أو اللُّغة الطَّبيعيَّة[27] من ناحية، ولدينا كذلك اللُّغة المثاليَّة[28] أو اللُّغة الاصطناعيَّة[29] أو اللُّغة الكاملة منطقيَّاً[30] من ناحيةٍ أخرى. ومن الفلاسفةِ والمناطقة من دعا إلى الأولى، ومنهم من دعا إلى الثَّانية.

فهل بمقدورِنا تحليلُ اللُّغةِ العادِيَّة؟ في الحقيقةِ لا نكادُ نتناولُ اللُّغةَ العادِيَّةَ بالنَّظَرِ والتَّحليل، حتى نجِدَها عصيَّةً، تنزلقُ من بين أصابعنا كأنَّها الزِّئبق لا يُمكِّنُكَ من الإمساكِ به، إلَّا إذا اصطنعْتَ له وسيلةً تتحكَّمُ بها فيه؛ وذلك لأنَّ اللُّغةَ العادِيَّةَ، فيها من تداخُلِ الخيوط في العبارةِ الواحدة، ومن كثرةِ الرَّوابط، ما يجعلُ حلَّها أقرب شيءٍ إلى حلِّ الكائنِ العضوي الحي إلى أليافٍ مفردة، فيضيعُ الكائنُ وتضيعُ العضويَّةُ وتزولُ الحياة. وإذن فلا منجاةَ لنا من اصطناعِ وسيلةٍ أخرى، لُغةٍ مثاليَّة؛ بأنْ نلْجأَ إلى تركيباتٍ من رُموزٍ بغيْرِ معانٍ قاموسيَّةٍ تُقيِّدُنا، لعلَّنا في هذه المخلوقاتِ الرَّمزيَّةِ المصنوعةِ تستطيع أنْ نتبيَّنَ حقيقةَ العلاقات والرَّوابط في اللُّغةِ الحيَّة، تماماً كما تضَعُ أمامَ التَّلاميذ هيكلاً عظْميَّاً ليكشِفَ لهُم بعظامِهِ العارية حقيقةَ العلاقات والرَّوابط حين يمتلىءُ ذلك الهيكل لَحْماً وشَحْماً.[31]
لكن لا توجدُ لُغةٌ مثاليَّةٌ واحدة، وإنَّما عدَّةُ لُغات. توجدُ لُغةٌ خاصَّةٌ بالعلومِ حين تتطوَّر، بل لكلِّ علْمٍ متطوَّرٍ لُغةٌ خاصَّة، تتمثَّلُ في مصطلحاتِهِ الفنِّيَّة ومفاهيمِهِ الخاصَّة التي لا يفْهَمُها إلَّا أصحابُهُ والدَّارسونَ له. فلدينا لُغةُ ميكانيكا جاليليو، ولُغةُ فيزياء نيوتُن، ولُغةُ الذَّرَّة في نظريَّةِ الكوانتُم، ولُغةُ نظريَّةِ النِّسْبيَّة في الطَّبيعةِ والفلك، ولُغةُ علْمِ أحياءِ الخلِيَّةِ الحيَّة، ولدينا أيضاً لُغةُ الرِّياضيَّات برُموزِها ومعادلاتِها وقوانينِها ونظريَّاتِها.

وثمَة لُغاتٌ مثاليَّةٌ حاولَ الفلاسفةُ والمناطقةُ إقامَتَها، وكان وجهُ الحاجةِ إليها في نظَرِ الدَّاعينَ إليها هو الوعيُ بما في اللُّغةِ العادِيَّةِ - وهي ما نتكلَّمُها جميعاً في حياتِنا اليوميَّةِ - من غُموضٍ وقصورٍ ونقص. فهنالك كلماتٌ ليس لها معنى محدَّد، وكلماتٌ أُخرى معانيها متداخلةٌ أو مشتركة، كما أنَّ اللُّغةَ العاديَّةَ بمُفْرداتِها المألوفة قاصرةٌ عمَّا نُريدُ التَّعبيرَ عنه. أمَّا اللُّغةُ المثاليَّةُ المطلوبةُ فإنَّما هي لُغةٌ رمزيَّةٌ تتجنَّبُ كلَّ عيوب اللُّغةِ العادِيَّة، بحيث يكونُ كلُّ اسمٍ دالَّاً على مسمَّى معيَّن، أو يكونُ لكُلِّ كلمةٍ معنى ومدْلول. ونُعنى في هذه اللُّغةِ أيضاً بدراسةِ التَّركيبِ الصَّحيح لمُفْرداتِ اللُّغة في جُمَلٍ سليمةِ البِناء ووضْعِ قواعد هذا التَّرْكيب، كما نهتمُّ بدراسةِ قواعدِ الاستدلال من صورةٍ من الجُمَلِ إلى ما يلْزمُ عنها من صورٍ أُخرى، أي أنَّ اللُّغةَ يجبُ أنْ تُصبحَ حساباً لها رموزُها ومعادلاتُها ودقَّتَها.

ومن الدَّاعينَ إلى محاولةِ إقامةِ هذه اللُّغة: ليبنتز (1646-1716) في القرْنِ الثَّامن عشَر، وفريجة ورَسِل وفتغنشتين في القرْنِ العشْرين في بعضِ مواقِفِهِم المُبكِّرة.
نُوجِزُ هنا المشروع الذي حاوَلَ رَسِل وفتغنشتين إقامتَهُ في أوائلِ القرْنِ العشْرين في النَّظريَّةِ المُسمَّاة «نظريَّة الذَّرِّيَّة المنطقيَّة»[32]. ونُلاحِظُ أنَّ هذينِ الفيلسوفينِ ظلَّا يُفكِّرانِ في هذه النَّظريَّة ويصوغانِها ويكتُبانِ فيها منذُ عام 1912 ولمدَّةِ عشرينَ عاماً تقريباً. ثمَّ تبيَّنَ لهُما خطأ النَّظريَّة، بل تبيَّنَ لهُما أنَّ مشروعَ إقامة لُغة مثاليَّة عملٌ مستحيل. أعلَنَ رَسِل نظريَّتَهُ في مجموعةِ محاضرات بعنوان «فلْسفة الذَّرِّيَّة المنطقيَّة» عام 1918، ونشَرَ فتغنشتين نظريَّتَهُ في أوَّلِ كُتُبِهِ «رسالة منطقيَّة فلْسفيَّة» عام 1921 .[33]

فلْسفة الذَّرِّيَّة المنطقيَّة: يمكنُ تلخيصُ وجهةِ نظَر رَسِل وفتغنشتين المُبكِّر على النَّحوِ التَّالي: ثمَّةَ تشابُهٍ شديدٍ قائمٌ بين تركيبِ اللُّغة من ناحية وتركيبِ الوجودِ الخارجي من ناحيةٍ أخرى؛ فهذه الفلْسفةُ «ذرِّيَّةٌ»، لأنَّها تذْهَبُ إلى أنَّ الوجودَ الخارجي قَوامُهُ كثرةٌ من أشياء (معارضةً بذلك الفلْسفة المثاليَّة التي تجعلُ من الكونِ كُلَّاً واحداً متَّسقَ الأجزاء). وهذه الفلْسفةُ الذَّرِّيَّةُ «منطقيَّةٌ»، لأنَّ الأجزاءَ التي ينتهي إليها الوجودُ الخارجيُّ بعد التَّحليلِ هي ذرَّاتٌ عقليَّةٌ، لا طبيعيَّة مادِّيَّة بالمعنى السَّائر المفهوم لهاتينِ اللَّفظتين.
حلِّل اللُّغةَ إلى وحداتِها الأوَّليَّة، تجدُ وحدَتَها هي «القضيَّة» أي الجُمْلةُ التي تُخْبِرُنا عن «واقعة» fact من وقائعِ الوجودِ الخارجي. وما «القضيَّةُ» إلَّا مركَّبٌ رمزيٌّ قَوامُهُ رموزٌ هي ألفاظ. والعلامةُ المميِّزُة للقضيَّةِ هي إمكانُ وصْفِها بالصِّدْقِ أو بالكذِب، فالمُركَّبُ الرَّمزيُّ، أي اللَّفظيُّ، لا يكونُ وحدةً لُغويَّةً إذا استحالَ علينا بحُكمِ طبيعتِهِ أنْ نقولَ عنه إنَّه صادقٌ أو كاذب.

فإذا كان لديكَ قضيَّة كهذِهِ: «هذه البقرةُ صفراء»، ثمَّ إذا كان في عالَمِ الأشياء بقرةٌ صفراء هي التي تُشيرُ إليها تلك القضيَّة، كان لديكَ جانبان، لو حلَّلْتَهُما ألْفَيْتَ بينهما شَبَهاً كالَّذي يكونُ بين شيءٍ مُصوَّرٍ وصورتِهِ. وماذا نعني بـ «التَّشابُه»؟ نعني به أنْ يكونَ بين الشَّبيهينِ «علاقةُ واحدٍ بواحدٍ»، أي أنَّ لكُلِّ جزْءٍ من أجزاءِ الشَّبيه جُزْءاً يُقابِلُهُ في شبيهِهِ. فالشَّبَهُ بين الواقعةِ والقضيَّةِ المُخْبرةِ عنها هو شبَهٌ بِنْيَويٌّ؛ بمعنى أنَّ بين بِنْيَةِ[34] الواقعة من ناحية وبِنْيةِ القضيَّة المُخْبرةِ عنها من ناحيةٍ أخرى شبَهٌ شديد.
وإذا كانت اللُّغةُ مركَّبةٌ من أجزاءٍ وليست هي بالكائنِ الواحدِ البسيط، كان الوجودُ الخارجيُّ كذلك مركَّباً من أجزاء وليس هو بالكائنِ الواحدِ البسيط.

ويُسمِّي فتغنشتين (وكذلك رَسِل) القضيَّةَ البسيطةَ التي لا يُمكنُ تحليلُها إلى ما هو أبسَطَ منها بـ «القضيَّةِ الذَّرِّيَّة»؛ مثلُ قولي وأنا أنظُرُ إلى غلافِ الكتاب الذي أمامي الآن: «هذه البُقْعةُ صفراء». فإنْ تركَّبَ من هذه القضايا البسيطة اثنان أو أكثر لتتكوَّنَ منها جُمْلة، كان لنا بذلك قضيَّة مركَّبة، مثلُ قولي وأنا أنظُرُ إلى غلافِ الكتابِ المذكور: «هذه بُقْعةٌ صفراء مستطيلة»؛ لأنَّ هذه الجُمْلةَ تنحلُّ إلى جزْءينِ بسيطينِ هما: «هذه البُقْعةُ صفراء» و«هذه البُقْعةُ مستطيلة».
وينبغي أنْ نُلاحِظَ ها هنا إذا ما ضُمَّتْ قضيَّةٌ ذرِّيَّةٌ إلى غيرِها بأداةٍ، مثل «واو» العطْف أو كلمة «أو» أو كلمة «إذا» إلخ، فإنَّه يتكوَّن لنا بذلك قضيَّة مركَّبة، لا يكونُ لها ما يُقابِلُها بين وقائعِ الوجودِ الخارجي؛ إذْ وقائعُ العالَمِ كلُّها بسيطة، وإنَّما يكونُ ضَمُّ بعضِها إلى بعضٍ في عباراتِ اللُّغةِ وحدَها. ولكي أزيدَ ذلك شرْحاً أقول: إنَّني إذا شاهدْتُ أمامي واقعتينِ مثلُ غيابِ الشَّمْس ونُزُولِ المطر، ثمَّ ربطْتُ بينهما في عبارةٍ واحدةٍ مركَّبةٍ بواسطةِ «واو» العطْف، فقُلْتُ: «غابَتْ الشَّمْسُ ونزَلَ المطر»، فإنَّ ذلك لا يجعلُ من الواقعتينِ واقعةً واحدة، بل سيظلَّانِ في الوجودِ الخارجي واقعتين. وبعبارةٍ أُخرى، ليس هنالك في عالَمِ الأشياء شيءٌ يُقابِلُ «واوَ» العطْفِ، بل هذه الـ «واو» التي تضُمُّ حقيقةً إلى حقيقةٍ أُخرى هي مجرَّدُ أداةٍ منطقيَّة نستخدِمُها نحنُ لربْطِ الحقائقِ البسيطة، دون أنْ تكونَ هي نفسُها دالَّةً على حقيقةٍ قائمةٍ بذاتِها.[35]
وهكذا يُحلِّلُ فتغنشتين الوجودَ الخارجي إلى وقائعَ مركَّبة، تنحلُّ بدورِها إلى وقائعَ أبسَطَ منها، والواقعةُ البسيطةُ التي لا تتكوَّنُ من وقائعَ أخرى، والتي لا تنحلُّ إلى ما هو أبسَطَ منها، يُسمِّيها فتغنشتين «واقعة ذرِّيَّة».
ويمكنُ تلخيصُ أهمُّ ما تتميَّزُ به الواقعةُ الذَّرِّيَّةُ - عند فتغنشتين - من صفاتٍ فيما يلي:
إنَّ الوقائعَ الذَّرِّيَّةَ أبسَطُ ما يمكنُ أنْ ينحلَّ إليه الوجودُ الخارجي.
إنَّ الوقائعَ الذَّرِّيَّةَ - على الرَّغمِ من كونِها أبسَط وحدات ينتهي إليها تحليلُنا للعالَم - هي في حدِّ ذاتِها ممَّا يمكنُ تحليلُهُ. وليس في هذا تناقُض.
الوقائعُ الذَّرِّيَّةُ مستقلٌّ بعضُها عن بعضٍ، بحيث إنَّنا لا نستطيعُ من وجودِ أو عدمِ وجود واقعة ذرِّيَّة ما، أنْ نستنتجَ وجود أو عدم وجود واقعة ذرِّيَّة أخرى.
الواقعةُ تتكوَّنُ بناءً على اتِّصافِ شيءٍ ما بصفةٍ معيَّنةٍ أو ترابُطِ شيئينِ أو أكثر على نحوٍ معيَّن. فتكوينُ الواقعةِ يتحدَّدُ بناءً على العلاقاتِ التي ترْبُطُ بين الأشياء مكوِّنات هذه الواقعة.
الواقعةُ الذَّرِّيَّةُ لها بِنْيةٌ ولها صورة[36]. وبِنْيةُ الواقعة الذَّرِّيَّة هي الطَّريقةُ التي تتشابَكُ بها الأشياءُ في الواقعةِ الذَّرِّيَّة. أمَّا إمكانُ ترابُط الأشياء على نحوٍ معيَّن، أي إمكانُ قيامِ هذه البِنْية، فيُسمِّيه فتغنشتين بـ صورةِ الواقعة.
الوقائعُ الذَّرِّيَّةُ هي ممَّا يُمكنُ ملاحظتُهُ وإدراكُهُ؛ لأنَّها هي التي يتوقَّفُ عليها صِدْقُ أو كذِبُ القضيَّةِ الأوَّليَّة التي تُصوِّرُها، أو التي تجيءُ رَسْماً لها. «فلكي نكشفَ عمَّا إذا كان الرَّسْمُ (أي القضيَّة) صادِقاً أو كاذِباً، يلْزمُ أنْ نُقارِنَهُ بالوجودِ الخارجي»، ولكي تتمُّ المُقارنة لا بدَّ أنْ تكونَ الوقائعُ موجودةٌ بالفعل، بحيث يُمكِنُنا - بناءً على مطابقةِ القضيَّة أو عدم مطابقتها معها - أنْ نحكُمَ بصِدْقِها أو كذِبِها.

ويترتَّبُ على ذلك ضرورةَ وجود الوقائعِ الذَّرِّيَّة حتى يمكنُ أنْ يكونَ للُّغةِ معنى؛ لأنَّ الوقائعَ الذَّرِّيَّةَ هي ما يجعلُ القضايا الذَّرِّيَّةَ صادقة. بمعنى أنَّ الوقائعَ الذَّرِّيَّةَ يجبُ أنْ تكونَ أسْبَقَ في الوجودِ من القضايا التي يكونُ صِدْقُها أو كذِبُها مرْهوناً بوجودِ أو عدمِ وجودِ تلك الوقائع. وهذا ما يُعبَّرُ عنه في الفلْسفةِ المعاصرة بـ مبدأ التَّحقُّق[37] الذي نعتمدُ عليه في معرفةِ صدْقِ أو كذِبِ القضيَّة.

ومن هذه النُّقطةِ بالتَّحديد انطلقَتْ الوضعيَّةُ المنطقيَّة، فأخذَتْ هذا المبدأ كي تُقرِّرَ بأنَّ أيَّ قضيَّةٍ لا يمكنُ التَّحقُّقُ منها، لمعرفةِ صدْقِها أو كذِبِها بالحِسِّ والتَّجرِبة، فهي كلامٌ فارغٌ من المعنى.
على هذا الأساس، يرى فتغنشتين المُبكِّر أنَّ الميتافيزيقا لغوٌ فارغ، ويُنْهي فتغنشتين كتابَهُ «رسالة منطقيَّة فلْسفيَّة» بالعبارةِ الآتية: «إنَّ ما لا يستطيع الإنسانُ أنْ يتحدَّثَ عنه، ينبغي له أنْ يصْمُتَ عنه».[38]
الوقائعُ الذَّرِّيَّةُ ليست ثابتةً بل هي متغيِّرة، أمَّا الثَّابتُ فهو الأشياء التي تتكوَّنُ منها هذه الوقائعُ الذَّرِّيَّة. لكن يبقي هناك سؤالٌ مهم: هل الواقعةُ الذَّرِّيَّةٌ موجودةٌ بالفعلِ أو لا؟

فتغنشتين نفُسُه يوحي في كثيرٍ من عباراتِ «رسالة منطقيَّة فلْسفيَّة» بأنَّ الواقعةَ ليس من الضَّروري أنْ تكونَ موجودةً وجوداً فعليَّاً. فالوقائعُ الذَّرِّيَّةُ عند فتغنشتين نوعين: وقائع سالبة، ووقائع موجبة، والوجودُ الخارجيُّ هو وجودُ وعدم وجود الوقائع الذَّرِّيَّة (وجودُ الوقائعِ الذَّرِّيَّة يُسمَّى بـ «الواقعة الموجبة»، وعدمُ وجودِها يُسمَّى بـ «الواقعة السَّالبة»). فكيف إذن تكونُ الوقائعُ الذَّرِّيَّةُ ذاتَ وجودٍ فعليٍّ إذا كان بعضُها سالباً أو غير موجود بالمعنى الذي ذهَبَ إليه فتغنشتين؟
يرى فتغنشتين أنَّ وجودَ الواقعة الذَّرِّيَّة يثبُتُ بناءً على صدْقِ القضيَّة الأوَّليَّة، ويثبُتُ صدْقُ القضيَّةِ الأوَّليَّة بناءً على تصويرِها للواقعةِ أو كونِها رَسْماً لها.
لكن فتغنشتين يدورُ هنا في حلقةٍ مفرغةٍ لا تنتهي إلَّا إلى مجرَّدِ افتراضٍ ميتافيزيقيٍّ يُبرِّرُ هذا الدَّور. والواقعُ أنَّ فتغنشتين ليس واضحاً في هذه النُّقطة؛ لأنَّه إذا كانت الوقائعُ الذَّرِّيَّةُ موجودةً بالفعل، فكيف يكونُ إثباتُها متوقِّفاً على القضيَّةِ الأوَّليَّةِ التي تُصوِّرُها؟ وإذا لمْ تكن موجودةً بالفعل، فكيف يكونُ صدْقُ أو كذِبُ القضيَّة الأوَّليَّة التي تجيءُ رَسْماً لها، متوقِّفاً على وجودِ الواقعة الذَّرِّيَّة أو عدم وجودها؟

ويُرجِّحُ المرْحوم د. عزمي إسلام أنَّ فتغنشتين حينما كان يتكلَّمُ عن الوقائعِ الذَّرِّيَّة، لمْ يكن يرْمي إلى إثباتِ وجودِها الفعلي، إنَّما كان يرْمي إلى ضرورةِ وجودِها فقط، كي يُبرِّر بناءً عليها صدْق القضايا الأوَّليَّة أو کذبها.[39]
ومع ذلك، يُورِدُ د. عزمي إسلام على فتغنشتين المُبكِّر ما يلي:
أوَّلاً: إنَّ القولَ بالذَّرَّيَّةِ المنطقيَّةِ بصفةٍ عامَّةٍ في فلْسفتِهِ قد أدَّى إلى القولِ بالميتافيزيقا. فالقولُ بالذَّرِّيَّةِ المنطقيَّةِ يقتضي القولَ بوجودِ وحداتٍ نهائيَّة يرْتدُّ إليها تحليلُنا للوجودِ الخارجي، وهذه الوحدات البسيطة النِّهائيَّة على نوعين هما:
الوقائعُ الذَّرِّيَّة، وهي أبسَطُ وقائع يرْتدُّ إليها تحليلُ الوجودِ الخارجي، والتي لا يمكنُ أنْ تنحلَّ إلى وقائعَ أبسَطَ منها.
الأشياء، وهي التي تنحلُّ إليها الوقائعُ البسيطة، ولا تنحلُّ هي إلى ما هو أبسَطَ منها (وقائع أو أشياء).
والميتافيزيقا في فلْسفةِ فتغنشتين واضحةٌ في قولِهِ بالمعنيين معاً.
ثانياً: إنَّ فكرةَ الذَّرِّيَّةَ المنطقيَّةَ التي ذهَبَ إليها فتغنشتين كانت تُمثِّلُ مرْحلةً معيَّنةً من مراحلِ تفكيرِهِ، وهي المرْحلةُ الأولى المُبكِّرة. ولذا نجِدُهُ يميلُ إلى رفضِ هذه الفكرة في فلسفتِهِ المُتأخِّرة التي عبَّرَ عنها في كتاب «تحقيقات فلْسفيَّة»، ويرْفضُ من ثمَّ تحليلَ الوجودِ الخارجي إلى وقائعَ وإلى أشياء، وإنْ لمْ يكن رفضُهُ لها واضحاً قاطعاً شأنُهُ في أغلبِ أفكارهِ الفلْسفيَّة المُتأخِّرة؛ لأنَّه في كتاب «تحقيقات فلْسفيَّة» لمْ يكن مهتمَّاً بتحليلِ الوجودِ الخارجي أو ببحثِ العناصرِ الأولى التي يتكوَّنُ منها، بل كان مهتمَّاً بتحليلِ اللُّغة، من حيثُ دلالتِها، ومن حيث استعمالاتنا المختلفة لها.

لقد تبيَّنَ لفتغنشتين في «تحقيقات فلْسفيَّة» أنَّ الوجودَ الخارجيَّ والخبرة ليسا مُنسَّقَيْن[40]، بحيث نقسِمُهُما قسْمةً ذات حدود فاصلة إلى وقائعَ ذرِّيَّة. كما أنَّه بدأَ ينظُرُ إلى اللُّغةِ - بعد أنْ كفَّ عن اعتبارِها وسيلةً للتَّعبيرِ عن قضايا ذات صورة منطقيَّة ثابتة - على أنَّها وسيلةٌ للاتِّصالِ بين النَّاس الذين طوَّروها بحيث تخدِمُ الأغراضَ المختلفة لأنشطةِ حياتِهِم المختلفة.[41]

فتغنشتين المُتأخِّر:
يمكنُ تلخيصُ موقفِ فتغنشتين المُتأخِّر - كما بدا في كتابِهِ «تحقيقات فلْسفيَّة» - في النِّقاطِ التَّالية:
الوظيفةُ الاجتماعيَّةُ للُّغة: وظيفةُ اللُّغة تختلفُ عند فتغنشتين في فلْسفتِهِ الأولى عنها في فلْسفتِهِ المُتأخِّرة.
وظيفةُ اللُّغة عند فتغنشتين في «رسالة منطقيَّة فلْسفيَّة» ليست إلَّا تصوير الواقع الخارجي. يُوضِّحُ ذلك بقولِهِ: «إنَّ القضيَّةَ رَسْمٌ للوجودِ الخارجي، هي نموذجٌ للوجودِ الخارجي على النَّحوِ الذي نعتقدُ أنَّه عليه». ويقولُ أيضاً: «إنَّ القضيَّةَ لا تثبتُ شيئاً إلَّا بقدرِ ما هي رَسْمٌ له».

وفكرةُ فتغنشتين المُبكِّر عن اللُّغةِ من حيثُ هي رَسْمٌ أو تصويرٌ للوجودِ الخارجي، كانت متَّفقةً مع فكرتِهِ عن التَّوازي الذي يجبُ أنْ يتحقَّقَ بين اللُّغةِ والوجودِ الخارجي. فكما أنَّ اللُّغةَ تنحلُّ إلى قضايا، فكذلك الوجودُ الخارجيُّ ينحلُّ إلى وقائع. وكما أنَّ القضايا تنحلُّ إلى قضايا أوَّليَّة، فكذلك الوقائعُ تنحلُّ إلى وقائعَ ذرِّيَّة. وكما أنَّ القضايا الأوَّليَّةَ مكوَّنةٌ من أسماءٍ بسيطةٍ لا يمكنُ تعريفُها بغيْرِها، بل تُشيرُ مباشرةً إلى أشياء، فكذلك الوقائعُ الذَّرِّيَّةُ تتكوَّنُ من أشياءَ بسيطة لا يُمكنُ تحليلُها بل تسميَتُها فقط.
ويزيد فتغنشتين من نظريَّتِهِ التَّصويريَّةِ للُّغة وضوحاً، فيذهَبُ إلى أنَّ بعضَ القارئین قد لا يكشفُ لأوَّلِ وهلةٍ في القضيَّةِ المكتوبةِ أنَّها رَسْمٌ لواقعةٍ من الوقائع، إلَّا أنَّنا لو أمعنَّا النَّظَرَ فيها لوجدْناها بالفعل كذلك. فلأوَّلِ وهلةٍ قد لا تبدو القضيَّةُ - كما نراها مطبوعةً على الورقِ أو بوصفِها نفخةً في الهواء - رَسْماً للوجودِ الخارجي الذي جاءَتْ لترْسِمَهُ، لكن هذا يصْدُقُ أيضاً على العلامةِ الموسيقيَّةِ التي لا تبدو للوهلةِ الأولى على أنَّها رَسْمٌ لقطعةٍ موسيقيَّة. وخيرُ مثَلٍ لذلك أنَّ قُرْصَ الحاكي (= الأسطوانة الموسيقيَّة) والفكرَ الموسيقي والعلامةَ الموسيقيَّة وموجاتَ الصَّوتِ، كلّها بالنِّسبةِ إلى بعضِها البعضًا، ترْتبطُ برباطٍ تصويريٍّ داخليّ، كالذي يرْبطُ اللُّغةَ بالعالَمِ الخارجي؛ إذْ إنَّ البِنْيةَ المنطقيَّةَ مشتركةٌ بينها جميعاً.[42]

لكنَّ فتغنشتين تخلَّى عن نظريَّتِهِ التَّصويريَّةِ للُّغةِ في فلْسفتِهِ المُتأخِّرة، ومن ثمَّ أغلب ما ترتَّبَ عليها من نتائج، مثل فكرة التَّحقُّق. ويذْهبُ بعضُ إلى أنَّ سبَبَ تخلِّيه عن نظريَّتِهِ التَّصويريَّةِ إنَّما يعودُ إلى النَّقدِ الذي وجَّهَهَ سرافا[43] لهذه الفكرة. يقولُ مالكوم: «كان فتغنشتين وسرافا يتناقشانِ حول الأفكارِ الواردة في «رسالة منطقيَّة فلسفيَّة»، وفي ذاتِ يوم (كانا يرْكبانِ فيما أظنُّ قطاراً)، كان فتغنشتين لا يزالُ مُصِرَّاً على أنَّ القضيَّةَ وما تصفُهُ يجبُ أنْ تكون لها الصُّورة المنطقيَّة نفسها، والكثرة المنطقيَّة نفسها. فأحدَثَ سرافا إشارةً مألوفةً عند أهالي ناپولي، تدُلُّ على الازدراء، وذلك بحكِّ أسفلَ ذقْنِهِ بظهْرِ أطرافِ أصابعِ إحدى يديه، ثمَّ سأل فتغنشتين: ما هي الصُّورةُ المنطقيَّةُ لذلك؟ وكان المثَلُ الذي ذكرَهُ سرافا كافياً لكي يُحدِثَ في فتغنشتين شعوراً بعدَمِ جدوى إصرارِهِ على أنَّ القضيَّةَ يجبُ أنْ تكون لها الصُّورة نفسها التي يوجدُ عليها الشَّيءُ الذي تصِفُهُ هذه القضيَّة، وهذا ما جعلَهُ يتخلَّى فيما بعد عن فكرتِهِ القائلة بأنَّ القضيَّةَ يجبُ أنْ تكونَ رَسْماً للواقعِ الذي تصِفُهُ».[44]

وظيفةُ اللُّغة لم تَعُد في فلْسفةِ فتغنشتين المُتأخِّرة تُصوِّرُ الوجودَ الخارجي على النَّحوِ الذي ذهبَ إليه من قبل، بل أصبحت هي وسيلة التَّفاهُم مع الآخرين والتَّأثير فيهم، وقد عبَّرَ عن ذلك بقولِهِ: «إنَّني لا أقول «دون اللُّغة ما كُنَّا نستطيعُ أنْ نتَّصلَ بعضنا ببعض» فقط، بل أقول أيضاً «دون اللُّغة لا يُمكِنُنا أنْ نُؤثِّرَ في غيرِنا من النَّاس على هذا النَّحو أو ذاك، ولم يكن ليُمْكِنُنا إقامة الطُّرُق وبناء الآلات...إلخ».[45]

ولكن هل هناك تغييرٌ حقَّاً في وظيفةِ اللُّغة عند فتغنشتين؟ أوليست وظيفةُ اللُّغة عند كلِّ النَّاس هي توصيلُ المعاني والأفكار إلى الآخرين والتَّأثير فيهِم أيضاً؟
الواقع أنَّ هناك تغييراً؛ لأنَّ وظيفةَ اللُّغة بالمعنى الذي ذهبَ إليه فتغنشتين في «رسالة منطقيَّة فلْسفيَّة» لم يكن لينتهي إلى هذه النَّتيجة؛ إذْ طالما كانت القضيَّةُ الأوَّليَّةُ أو الذَّرِّيَّةُ رَسْماً لواقعةٍ ذرِّيَّة، فإنَّ ما يقعُ في خبرتي من وقائع، هو ما يُحدِّدُ عدَدَ القضايا الأوَّليَّة الذَّرِّيَّة التي أعرِفُها. ولمَّا كان ما أعرِفُهُ عن العالَمِ هو ما يقعُ في خبرتي عنه، كان ما أعرِفُهُ عن اللُّغةِ محدوداً بنطاقِ ما وقَعَ في خبرتي عن العالَم، الأمر الذي جعلَهُ يقول «أنا هو عالَمي (عالَمي الصَّغير) »، الأمر الذي يجعل التَّفاهُم بيننا مُتعذِّراً. وهذه إحدى نتائج فكرة الأنا وحدیة[46]، التي كان يعتقدُ فتغنشتين بصحَّتِها في «رسالة منطقيَّة فلْسفيَّة».

ولذا نجدُ أنَّ فتغنشتين، حينما تخلَّى في فلْسفتِهِ المُتأخِّرة عن النَّظريَّةِ التَّصويريَّة، وما ترتَّبَ عليها من نتائج مثل فكرة الأنا وحدیة، نجِدُهُ يعودُ إلى المفهومِ العادي لوظيفةِ اللُّغة، وهو المفهوم الاجتماعي.[47]
معنى اللَّفظ ومعنى القضيَّة: فتغنشتين في «رسالة منطقيَّة فلْسفيَّة» كان يرى أنَّ معنى الاسْم هو الشَّيء الذي يُشيرُ إليه، لذا نترقَّب أنْ يكونَ لكلِّ اسْمٍ مسمَّى خارجي نُشيرُ إليه ونقولُ هو هذا.
أمَّا معنى القضيَّة فكان فتغنشتين يستخدِمُها على نحوين في «رسالة منطقيَّة فلْسفيَّة»؛ فهو يستخدمُ معنى القضيَّة على أنَّها رَسْمٌ للوجودِ الخارجي، فالقضيَّةُ لا تُسمِّي شيئاً موجوداً في العالَمِ الخارجي على النَّحو الذي يفعَلُهُ الاسْم، إنَّما تصفُ الوجودَ الخارجي بكونِها رَسْماً له، وهذا ما لا يفعَلُهُ الاسْم، لأنَّه يُشيرُ إلى الشَّيءِ مباشرةً ولا يصِفُهُ.
كما أنَّ فتغنشتين يستخدمُ معنى القضيَّة على أنَّها اتِّجاهٌ، فهو يُشبِّهُ القضيَّةَ بالسَّهْمِ الذي يُشيرُ إلى اتِّجاهٍ معيَّن. فكما أنَّ السَّهْمَ إمَّا أنْ يُشيرَ إلى اتِّجاهِ سهْمٍ آخَرَ أو إلى عكسِ اتِّجاهِهِ، فكذلك تفعلُ الواقعةُ بالنِّسبةِ للقضيَّة.

وسواءٌ أكان معنى القضيَّة هو أنَّها رَسْمٌ للوجودِ الخارجي، أم كان هو الاتِّجاه الذي يُوضِّحُ سيْرَ القضيَّة، فإنَّ معنى القضيَّة مرْتبطٌ بالوجودِ الخارجي الذي يمكنُ أنْ نُقارِنَهُ بها.[48]

على هذا الأساس، يُمكِنُنا أنْ نُقسِّمَ القضايا عند فتغنشتين من حيثُ المعنى إلى نوعين، هما:
قضايا لها معنى: لأنَّها تقولُ شيئاً؛ مثلُ القضايا التَّجريبيَّة أو العلْميَّة التي تتحدَّثُ عن الوجودِ الخارجي، فتجيءُ رَسْماً له، سواءٌ كان أهذا الرَّسْمُ مطابقاً للواقعِ، فتكونُ القضيَّةُ صادقةً، أو غيرُ مطابقٍ فتكونُ كاذبة.
أما القضيَّةُ السَّالبةُ فهي ليست خاليةً من المعنى، وإنَّما معناها يكونُ مضادَّاً لمعنى القضيَّة نفسِها في حالةِ الإيجاب.
والقضيَّةُ الكُلِّيَّةُ هي التي لا تُشيرُ إلى فرْدٍ أو جزئيَّةٍ واحدة، بل تتكلَّمُ عن صفةٍ أو خبرٍ نُخبِرُ بهِ أو نصِفُ بهِ أيَّ فرْدٍ أو جزْئيَّةٍ يمكنُ أنْ تندرجَ تحتَ فئةٍ معيَّنةٍ هي موضوعُ الحديث. وعلى ذلك، فكلمةُ «إنسان» التي ترِدُ في القضيَّةِ «الإنسانُ فانٍ» تُعتبرُ عند فتغنشتين بمنزلةِ متغيَّر[49] ورَدَ في دالَّةِ قضيَّة، مثل «س» الذي يمكنُ أنْ نضَعَ مكانَهُ أيَّ فرْدٍ من الأفراد، فتكونُ القضيَّةُ في هذه الحالةِ إمَّا صادقةً أو كاذبةً بناءً على إمكانِ مقارنَتِها بالواقع.[50]

قضايا خاليةٌ من المعنى: لأنَّها لا تقولُ شيئاً بحُكمِ تركيبِها، مثلُ قضايا الرِّياضيَّات وقضايا المنطق. فقضايا الرِّياضيَّات والمنطق هي تحصيل حاصل؛ فهي لا تقولُ شيئاً لأنَّها قضايا تحليليَّة. والصِّدْقُ والكذِبُ بالنِّسبةِ للقضايا التَّحليليَّةِ لا يتوقَّفُ على مطابقتِها للواقعِ الخارجي لنتحقَّقَ إنْ كانت تُصوِّرُهُ أو لا، بل يتوقَّفُ على مدى تماسُكِ[51] القضيَّة نفسها، بحيث لا تكونُ متناقضةً بذاتِها.[52]

إلَّا أنَّ فتغنشتين بعد أنْ تخلَّى في فلْسفتِهِ المُتأخِّرة عن فكرةِ الذَّرِّيَّةِ المنطقيَّة، تخلَّى من ثمَّ عمَّا كان قد ذهبَ إليه من قبلُ من أنْ يكونَ معنى الاسْم هو الشَّيءُ الذي يُشيرُ إليه. وتتلخَّصُ مناقشاتِهِ الكثيرة التي أورَدَها في كتابِهِ «تحقيقات فلْسفيَّة» على النَّحوِ التَّالي:

ليس من الضَّروري أنْ يكونَ لكُلِّ اسْمٍ مسمَّى خارجي نُشيرُ إليهِ ونقولُ هو هذا، إذْ إنَّنا نستخدمُ الاسْمَ أحياناً بدون وجودِ شيءٍ أو فرْدٍ يحملُ هذا اسْم، ويُمثِّلُ لذلك بكلماتٍ مثل «الرُّوح»[53] أو كلمة «هذا» أو «ذلك»،[54] وغيرِها من الكلمات التي ليس لها ما يُقابِلُها في الوجودِ الخارجي، أو بمعنى آخرَ ليست لها مسمَّيات متحقِّقة تحقُّقاً عينيَّاً، فهل هذا يعني أنَّنا نستخدمُ تلك الألفاظ بلا معنى؟
لا يرى فتغنشتين ذلك، بل يذهبُ إلى أنَّ كلَّ شيءٍ (محسوساً كان أو غيرُ محسوس) يكونُ له اسْم. وعلى ذلك، فليس من الضَّروري أنْ يكونَ لكُلِّ اسْمٍ مسمَّى له وجودٌ متحقِّقٌ بالفعل.

ويشْرَحُ ذلك بالمثالِ الآتي: إذا قُلْنا إنَّ «ن» هو اسْمُ شخصٍ معيَّن؛ فإنَّ معنى ذلك أنَّ هناك فرْداً معيَّناً يصدُقُ عليه هذا الاسْم. لكن لو فرضنا أنَّ هذا الشَّخصَ قد مات، فهل يُصبحُ هذا الاسْم دون معنى بموتِ حاملِهِ؟ يقولُ فتغنشتين: «إنَّ الإنسانَ يقولُ إنَّ حاملَ هذا الاسْمِ قد مات، ولكنَّه لا يقولُ إنَّ المعنى قد مات. فمثلُ هذا القول يكونُ لَغْواً؛ لأنَّه لو زال معنى الاسْم، لما كان هناك أيُّ معنىً لقولِنا إنَّ «ن قد مات».»[55]
معنى الاسْم أو اللَّفظ لا يمكنُ أنْ يكونَ محدَّداً بطريقةٍ قاطعة، وذلك لأنَّ معناهُ لم يعُد مرْتبطاً بمُسمَّاه، بل أصبحَ يتوقَّفُ على السِّياقاتِ المختلفةِ التي نستخدمُ فيها هذا اللَّفظَ بطريقةٍ مفهومةٍ في كلِّ مرَّة. ويذكُرُ لنا فتغنشتين أمثلةً متعدِّدةً على ذلك، منها:

أنَّ اللَّفظَ الواحدَ يُستخدَمُ بمعنيينِ مختلفين أحياناً؛ مثلُ فعلِ الكينونة «يكون» في العبارةِ «هذه الوردةُ تكونُ حمراء» الذي يختلفُ معناهُ عنه في مثلِ «2 + 2 تكونُ أرْبعةً». ويتمثَّلُ هذا الاختلاف في معنى اللَّفظ في طريقةِ استخدامِهِ في السِّياقاتِ المختلفة، أو بمعنى آخر أنَّ طريقةَ استخدامِهِ في السِّياقاتِ المختلفةِ هي التي تُحدِّدُ معناه.

فإذا طبَّقنا ذلك على المثَلِ السَّابق، لوجدْنا أنَّ معنى كلمة «يكون = is» في العبارةِ الأولى هو كونُها رابطة، وفي العبارةِ الثَّاني علامةٌ للتَّساوي. على هذا الأساس، يُعقِّبُ فتغنشتين على ذلك بالتَّساؤلِ التَّالي: «ألَنْ يكونَ شيئاً غريباً إذن أنْ أقولَ إنَّ كلمةَ «يكون» تُستخدمُ بمعنيينِ مختلفينِ (رابطة وعلامة للتَّساوي)، ولا أهتمُّ بأنْ أقولَ إنَّ معناها هو طريقةُ استخدامِها، أعني أنَّها أداةُ ربطٍ وعلامةُ تساوٍ»؟![56]

كما يُمثِّلُ فتغنشتين بأمثلةٍ أخرى لكيفيَّةِ استخدامِ اللَّفظِ الواحد بأكثرِ من معنىً في السِّياقِ الواحد، مثْلُ قولي: «إنَّ مِسْتَر سكوت[57] ليس سكوت»؛ لأنَّ اللَّفظَ في الحالةِ الأولى هو اسْمُ علَمٍ يُشيرُ إلى شخصٍ معيَّنٍ مسمَّىً بهذا الاسْم، وفي الحالةِ الثَّانيةِ هو اسْمٌ كُلِّيٌّ يعني كون الشَّخص اسكتلندياً. «أهناكَ إذًا شيئانِ مختلفانِ يعرِضانِ لذهني أثناء قولي كلمتَي «سكوت» الأولى والثَّانية (على فرْض أنَّني لا أنطقُ بالعبارةِ كالببغاء)؟ ».[58]

ويَوَدُّ فتغنشتين بهذا أنْ يُؤكِّدَ على أنَّ الكلمةَ لو كان معناها مستقلَّاً منفصلاً عن استخدامِها، لكانت ذاتَ معنىً موحَّد دائماً في كلِّ السِّياقاتِ التي ترِدُ فيها، ولكانَ للعبارةِ التي ترِدُ فيها - حتى لو استُخدِمتْ بطريقةٍ خاطئةٍ - معنىً أيضاً.
وقد كرَّر فتغنشتين هذا الأمرَ في مواضِعَ مختلفة من كتابِ «تحقيقات فلْسفيَّة»، فقالَ مثلاً: «إنَّ شرْحَ معنى الكلمة يكونُ بإظهارِ كيفيَّةِ استخدامِها»،[59] و«أنتَ تفهَمُ معنى الكلمة عندما تعرِفُ استخداماتِها».[60]
ويُشبِّهُ فتغنشتين الألفاظَ والأسماءَ حين لا نستخدِمُها بالجُثَثِ الميِّتة، فيقول: «إنَّ كلَّ علامةٍ تبدو في حدِّ ذاتِها كما لو كانت شيئاً ميِّتاً. ما الذي يُعطي لها الحياة؟ إنَّها تكونُ شيئاً حيَّاً أثناءَ استخدامِها، فهل دبَّتْ الحياةُ فيها بهذا الشَّكل؟ أمْ أنَّ استخدامَها نفسَهُ هو حياتُها؟».[61]
وهذه الرُّؤيةُ الجديدةُ لمعنى اللَّفظ، ينعكسُ على معنى القضية. فاللامعنى لم يعُد مرْتبطاً بالشَّكلِ المنطقي للقضيَّة، بل بالحالةِ النَّفْسيَّةِ (معرفتِهِ بمدلولِ الألفاظ) التي يكونُ عليها المُتكلِّم، عندما يُنجِزُ لُعْبةً لُغَويَّة.[62]

معنى الاسْم أو اللَّفظ لا يمكنُ أنْ يكونَ محدَّداً بطريقةٍ قاطعة، وذلك لأنَّ فتغنشتين تخلَّى في فلْسفتِهِ المُتأخِّرة عن ضرورةِ وجودِ البسائط، أو الأشياء البسيطة التي نُشيرُ إليها بهذه الأسماء، أو لأنَّه بمعنىً أصح تخلَّى عن هذا التَّحديدِ القاطع في وصفِهِ للأشياءِ بأنَّها بسيطة؛ إذْ إنَّ الأمثلةَ التي يذْكرُها في كتابِ «تحقيقات فلْسفيَّة» إنَّما تُشيرُ إلى أشياءٍ مادِّيَّةٍ موجودة في الواقع، وعلى ذلك فالأشياءُ بهذا المعنى لا تكونُ بسيطةً، بل هي مركَّبة، إذْ نجِدُهُ يتساءَل عن هذه البسائطِ أو الأشياءِ البسيطة فيقول: ما هي الجزْئيَّات البسيطة التي يتكوَّن منها المقعد؟ هل هي قطعُ الخشَب التي صُنِعَ منها؟ أمْ هي الجزْئيَّات الصَّغيرة؟ أمْ هي الذَّرَّات؟ إنَّ «البسائطَ» تعني ما هو غير مُركَّب. وهنا يظْهرُ السُّؤالُ التَّالي: بأيِّ معنى يكونُ الشَّيءُ مُركَّباً؟ مثلاً هل صورتي البصريَّة لهذه الشَّجرة، ولهذا المقعد، تتكوَّن من أجزاء؟ هل رُقعةُ الشَّطْرنج مركَّبة مثلاً؟ ربَّما نُفكِّر في أنَّها مكوَّنةٌ من اثنين وثلاثين مربَّعاً أبيضَ اللَّون واثنين وثلاثين مربَّعاً أسودَ اللَّون، ولكن ألا نستطيعُ مثلاً أنْ نقول إنَّها مكوَّنةٌ من اللَّونينِ الأسود والأبيض؟ ومن مُخطَّطٍ مكوَّنٍ من مربَّعات؟ فإذا كانت هناك عدَّةُ طُرُق مختلفة للنَّظَرِ إلى رُقعة الشَّطْرنج، فهل ما زِلْتَ تقول إنَّها مركَّبة تركيباً مطلقاً؟

إنَّنا نستخدمُ كلمةَ «مركَّب» (ومن ثمَّ كلمةَ «بسيط») بطُرُقٍ عديدةٍ ومختلفة. وهل اللَّونُ الموجود في أيِّ مربَّعٍ من مربَّعاتِ رُقعةِ الشَّطْرنج بسيط؟ أمْ أنَّه مكوَّنٌ من أبيضٌ خالص وأصفرٌ خالص؟ وهل اللَّونُ الأبيضُ بسيط؟ أمْ أنَّه مكوَّنٌ من ألوانِ قوس قُزَح؟ هل هذا الطَّولُ الذي يُساوي 2 سنتيميتر هو طولٌ بسيط؟ أمْ أنَّه مكوَّنٌ من جزْءينِ طولُ كلٍّ منهما سنتيميراً واحداً؟ أمْ أنَّه مكوَّنٌ من جزْءين طولُ أحدِهِما ثلاثة سنتيمترات والآخرَ سنتيمتر واحد في اتِّجاهينِ متضادَّين؟
وفيما يتعلَّق بالسُّؤالِ الفلْسفي التَّالي: هل الصُّورةُ البصريَّةُ لهذه الشَّجرةِ مركبَّةٌ؟ وما هي الأجزاءُ التي تتكوَّنُ منها؟ تكونُ الإجابةُ الصَّحيحةُ عنه هي: «إنَّ ذلك يتوقَّف على ما نفْهَمُهُ من كلمةِ «مركَّب» (وهذا بالطَّبْع ليس إجابة، بقدر ما هو رفضٌ للسُّؤال)».[63]

اللُّغةُ بوصْفِها لُعْبة[64]:
السُّؤالُ الآن: ما حدودُ استخدامِنا للألفاظِ والأسماء؟ هل يكونُ الإنسانُ حُرَّاً في استخدامِهِ إيَّاها كيفما شاء؟ أمْ يكونُ ذلك الاستخدامُ قائماً على قواعِدَ معيَّنة؟

يرى فتغنشتين ضرورةَ وجود قواعد نلْتزم بها أثناءَ استخدامِنا للألفاظِ والأسماء، وإلَّا اختلَفَ معناها تبعاً لاستعمالاتِها المختلفة بين شخصٍ وآخر. فلا بدَّ من وجودِ قواعدَ تضْبطُ استخدامِنا للَّفظِ بحيث يكونُ له معنى أثناءَ استخدامِهِ، قاعدة تسمحُ لنا بأنْ نضَعَ علامةَ التَّساوي بدلاً من كلمةِ «تكون» في العبارةِ «2 + 2 تكونُ أرْبعة»، وتمنعُنا من أنْ نفعلَ ذلك في العبارةِ «الوردةُ تكونُ حمراء».»[65]

وهذه القواعدُ يتعلَّمُها الإنسانُ أثناءَ تعلُّمِهِ اللُّغةَ نفْسَها.
ويُشبِّهُها فتغنشتين بالقواعدِ المُتَّبعة في إحدى اللُّعْبات، كما أنَّه يُشبِّهُ طُرُق استخدام الألفاظ بالألعابِ المختلفة (أي ألعاب اللُّغة المختلفة). ويُسمِّي كلَّ طريقةٍ من طُرُقِ استخدامِ الألفاظ «لُعْبة من ألعابِ اللُّغة»؛ لأنَّها تشْبَهُ اللُّعْبة التي يلْعَبُها الإنسان.

واللُّعَبُ أنواع؛ مثل لُعْبة الورق وكرة القدم وكرة السلَّة والتِّنِس والمصارعة والشَّطْرنج...إلخ. فإذا بحثنا في هذه الأنواع لنرى صفةً واحدةً مشتركةً بينها جميعاً، ممَّا يجعلُنا نُعطيها جميعاً اسْماً واحداً وهو «لُعْبة»، فلا نجد. وإنَّما نجدُ لوحةً معقَّدةً من التَّشابُهات، يتداخلُ بعضُها في بعضٍ، وتندرجُ بعضُها في بعض، نُسمِّيها «تشابُهات أُسَرِيَّة»[66]. نستعيرُ التَّشابُهات المُتداخلة في مختلفِ أنواعِ اللُّعَب بتشابُهِ أعضاءِ الأُسرة الواحدة.[67]

لا يتشابه كلُّ أعضاءِ الأُسرة الواحدة في صفةٍ واحدةٍ محدَّدة، مثل الشَّعْر الأسود أو الشِّفاه الغليظة أو الأنف الكبير، وإنَّما نجدُ مجموعةً من تشابُهاتٍ متداخلةٍ لا تُؤدِّي إلى الحُكمِ بوجودِ صفاتِ مشتركةٍ محدَّدة. فبعضُ أعضاءِ الأسرة لهُم أُنوفٌ كبيرةٌ وشفاهٌ غليظة، ولبعضِهِم الآخر شفاهٌ غليظةٌ وشَعْرٌ أسود، ولبعضِهِم أنوفٌ كبيرةٌ وشَعْرٌ أسود. إنَّ التَّشابُهَ بين أنواعِ اللُّعَبِ قريبٌ من التَّشابُهِ الذي يقومُ بين أفرادِ الأُسرةِ الواحدة. لا نجدُ لكُلِّ أفرادِ الأُسرةِ الواحدةِ بِنْيةً جسْميَّةً واحدة، أو ملامحَ محدَّدةً شاملة، أو لوناً واحداً للعيْن، أو مزاجاً انفعاليَّاً واحداً محدَّداً..إلخ. تتحقَّقُ بعضُ هذه السِّمات في بعضِهِم، وصفاتٌ أُخرى في بعضِهِم الآخر، في تداخُلٍ واندماج. إنَّ اللُّغةَ ومفرداتِها تُؤلِّفُ لُعْبةً بالمعنى السَّابق، فلا توجدُ وظيفةٌ واحدةٌ محدَّدةٌ تُؤدِّيها كلُّ الجُمَل. ولا يوجد معنى واحد محدَّد لكُلِّ كلمة، لكن لكُلِّ كلمة عدَّةُ معانٍ، وليس بين هذه المعاني عنصرٌ مشتركٌ محدَّد، وإنَّما بين هذه المعاني تشابُه أُسري بالمعنى السَّابق.
ويُورِدُ فتغنشتين هنا تشبيهاً؛ فكلُّ كلمةٍ في اللُّغة تُؤدِّي وظائفَ عدَّة، كما نجدُ في أدواتِ الصُّندوق الذي يحمِلُهُ النجَّار. ففي صندوقِهِ مطرقةٌ ومنشارٌ ومسْطرةٌ وزُجاجةُ غِراءٍ ومسامير ومفكُّ مسامير. ليس لكُلِّ أداةٍ من هذه الأدوات وظيفةٌ واحدةٌ محدَّدةٌ عند النجَّار، وإنَّما يستخدمُ كُلَّاً منها في أكثرِ من وظيفةٍ حسَبَ حاجتِهِ. وكذلك وظائفُ الكلماتِ في اللُّغة؛ فليس للكلمةِ الواحدةِ معنى واحد، ولا استخدامٌ واحد، وإنَّما تقومُ الكلمةُ الواحدةُ باستخداماتٍ لا حصْرَ لها، وكذلك الجُمْلةُ الواحدةُ، ويُسمِّي فتغنشتين هذه الوظائف المُتعدِّدة للكلمةِ الواحدةِ «لُعْبة اللُّغة».[68]

كما يُمثِّلُ فتغنشتين اللُّغةَ بلُعْبةِ الشَّطْرنج؛ فقِطَعُ الشَّطْرنج تشْبَهُ الألفاظَ التي نستخدِمُها في اللُّغة، وكما أنَّ كلَّ قِطَعِ الشَّطْرنج تتحرَّكُ وفقاً لقواعِدَ معيَّنة تفرِضُها قواعِدُ هذه اللُّعْبة، فكذلك يكونُ استخدامُنا للَّفظِ تبعاً لقواعِدَ معيَّنة تحكُمُ استخدامَنا للُّغة.
يقولُ فتغنشتين: «إنَّ السُّؤالَ الذي يسْأَلُ: ما هي حقيقةُ اللَّفْظ؟ مُماثلٌ للسُّؤالِ الذي يسْأَلُ: ما هي قطعةُ الشَّطْرنج؟».[69]

إذن الإنسانُ أثناء لُعْبة الشَّطْرنج لا يكونُ حُرَّاً في تحريكِ البيْدَقِ حسْبما يُريد، بل يُحرِّكُهُ وفقاً لقواعِدِ اللُّعبة التي تسْمحُ بتحريكِهِ على نحوٍ معيَّن، وتسْمحُ بتحريكِ قطْعةٍ أُخرى من قِطَعِ الشَّطْرنج على نحوٍ آخر. وهذا ما ينطبقُ على اللُّغة، فنحنُ نستخدمُ الألفاظَ وفقاً لقواعِدَ معيَّنة.
ولكن ما هي هذه القواعد؟ هي عند فتغنشتين عبارةٌ عن قواعِدَ المنطق؛ والمنطقُ بهذا الشَّكلِ يكونُ بمنزلةِ الحدود التي نتحرَّكُ في داخِلِها أثناءَ قيامِنا بلُعْبةٍ من ألعابِ اللُّغة، أو هو الذي يُعيِّنُ هذه الحدود.
ويمكنُ تفسيرُ ذلك إذا وضَعْنا في اعتبارِنا أحدَ قوانين المنطق، وهو قانون الثَّالث المرْفوع، وجعلناهُ في صيغةِ الأمْرِ التَّالي: «اسْتَدِر ناحيةَ اليمين، ولا تسْتَدِر ناحيةَ اليمين»، في هذه الحالةِ، السَّامعُ لا يستطيعُ أنْ يفعلَ شيئاً، وسيبْقى مدْهوشاً حائراً؛ لأنَّ استخدامَنا للألفاظِ في هذه الحالةِ مخالفٌ للطَّريقةِ التي اعتَدْنا على استخدامِ الألفاظِ بها.[70]

أمثلةٌ على ألعابِ اللُّغة:
المثالُ الأوَّل الذي يذْكرُهُ فتغنشتين لألعابِ اللُّغة ما يلي: «أنا أُرْسِلُ شخصاً ما ليشتري عدَّةَ أشياءٍ من السُّوق، وأُعطيه قُصاصةً من الورقِ مكتوبٌ عليها «خمْسُ تُفَّاحات حمراء اللَّون»، فيأخُذُ هذا الشَّخصُ الورقةَ إلى صاحبِ المتْجَر، الذي يفتحُ دُرْجاً مكتوباً عليه «تُفَّاح»، ويبحثُ عن كلمةِ «أحمر» في قائمةٍ (بها نماذج للألوان وأمام كلّ لون كلمة تُشيرُ إلى اسْمِ اللَّون) أمامَهُ حتى يجِدَ نموذجَ هذا اللَّون الوارد في القائمةِ في مقابلِ هذه الكلمة. ثمَّ يبدأُ بالعَدِّ، وفقاً لسلْسلةِ الأعدادِ الصَّحيحة (وأنا أفترضُ أنَّه يعرِفُها عن ظهْرِ قلْب) حتى يصلَ إلى اللَّفظِ «خمسة»، وهو يأخُذُ مع كلِّ عددٍ ينطقُ به، تُفَّاحةً من الدُّرجِ لها لون النَّموذج المُلوَّن نفسه. وعلى مثلِ هذا النَّحو وبطُرُقٍ مماثلة يستخدمُ الإنسانُ الألفاظ. ولكن كيفَ له أنْ يعرِفَ وكيف يبحثُ عن اللَّفظِ «أحمر» أو ماذا يجبُ عليه أنْ يفعلَ باللَّفظِ «خمسة»؟ ما معنى اللَّفظ «خمسة»؟ إنَّ مثلَ هذا الشَّيء ليس هو موضوعُ السُّؤال، بل فقط كيفيَّة استخدام اللَّفظ «خمسة».»[71]
على هذا الأساس، كلُّ لفظٍ في اللُّغة، لا يُستعمل لكي يُشير إلى شيءٍ معيَّن، بقدرِ ما هو يتطلَّبُ استجابةً معيَّنة، ولذا الاستجابةُ لكلٍّ من هاتينِ الكلمتين «تُفَّاح» و«أحمر» في هذا السِّياق قد تكونُ مختلفةً عن الاستجابةِ لكُلِّ منهما في سياقٍ آخرَ أو لُعْبةٍ لُغويَّةٍ أخرى.

المثالُ الثَّاني الذي يذْكرُهُ فتغنشتين لألعابِ اللُّغة، ويتعلَّقُ باستخدامِ الألفاظ لكي تُشير إلى أشياء، ولكي تدْفع في الوقتِ نفسِهِ إلى سلوكٍ معيَّن، هو الاتِّصالُ بين شخصين A & B. يقول: «A بنَّاءٌ، و B يُساعِدُهُ في البِناء. A يَبْني مستخدِماً أحجاراً مختلفة؛ فهناك قوالب، وقوائم، وبلاطات، ودعامات. بينما B يُناوِلُهُ الأحجارَ التي يحتاجُها. ولذا فهما يستخدمانِ لُغةً تتكوَّنُ من الكلمات «قالب»، «قائمة»، «بلاطة»، «دعامة». A يطلِبُها، و B يُحضِرُ الحجَرَ المناسبَ الذي تعلَّمَ أنْ يُحضِرَهُ عند سماعِ مثل هذا النِّداء».[72]

ويُشبِّهُ فتغنشتين هذه الطَّريقةَ في استخدامِ اللُّغة، أو هذه اللُّعبة اللُّغويَّة بالطَّريقةِ التي كان يصفُ بها القدِّيس أوغسطين تعلُّمَ اللُّغة، بواسطةِ تسميةِ الألفاظ لأشياء معيَّنة، في قولِهِ في كتاب «الاعترافات»: «حينما كان يُسمِّي (من هُم أكبرُ منَّا سنَّاً) موضوعاً ما، ويتحرَّكونَ تبعاً لذلك نحوَ شيءٍ ما، فإنَّني أرى ذلك، وأُدرِكُ أنَّ الشَّيءَ يُسمَّى بذلك الصَّوت الذي يقولونَهُ حينما كانوا يقصدونَ الإشارةَ إليه. وكان غرضُهُم ظاهراً بواسطةِ حركاتِهِم الجسْميَّة، كما لو كانت هذه هي اللُّغةُ الطَّبيعيَّةُ لكُلِّ النَّاس؛ مثل تعبير الوجه، وحركة العينين، وبقيَّة أجزاء الجسْم، ونبرة الصَّوت، التي تُعبِّرُ عن حالتِنا الذِّهنيَّة أثناءَ البحثِ عن شيءٍ أو الحصولِ عليها أو رفضِهِ أو تجنُّبِهِ. وهكذا فإنَّني بسماعي للكلماتِ وهي تُستخدمُ بطريقةٍ متكرِّرة في أماكنِها الصَّحيحةِ في مختلفِ العبارات، تعلَّمْتُ تدريجيَّاً أنْ أفْهَمَ الأشياءَ التي يعنونَها، وبعد أنْ درَّبْتُ فَمِي على تشكيلِ هذه العلامات (الصَّوتيَّة)، استخدمتُها لكي أُعبِّرَ بها عن رغباتي».[73]

ويرْفضُ فتغنشتين أنْ تكونَ وظيفةُ اللُّغةِ على هذا النَّحو الذي ذهَبَ إليه أوغطسين، وهي الوظيفةُ نفْسُها التي كان يعتقدُ من قبْلُ بصحَّتِها في «رسالة منطقيَّة فلْسفيَّة»، ويقول: «يُمكِنُنا أنْ نجِدَ جُذورَ النَّظريَّة التَّالية[74] في ثنايا هذه الصُّورة (أي الصُّورة التي ذكرَها أوغسطين) للُّغة؛ وهي أنَّ كلَّ لفظٍ له معنى، وهذا المعنى مرْتبطٌ باللَّفظ، فهو الشَّيءُ الذي يُمثِّلُهُ اللَّفظ. وأوغسطين لم يتحدَّث عن وجودِ أيِّ فرْقٍ بين أنواعِ الألفاظ؟ فإذا كُنْتَ تصِفُ تعلُّمَ اللُّغةِ على هذا النَّحو، فإنَّك فيما أعتقد تُفكِّرُ أوَّلاً في أسماء مثل «منضدة»، «مقعد»، «خبز»، وفي أسماءِ النَّاس. وثانياً في أسماءِ أفعالٍ معيَّنة وصفاتٍ معيَّنة».[75]

«وفتغنشتين يرى أنَّ هذه الطَّريقة ليست إلَّا إحدى طُرُق استخدامِ اللُّغة (أي لُعْبة من ألعابِ اللُّغة)، ولكنَّها ليست هي كلّ ألعابِ اللُّغة. فنحنُ في اللُّغةِ لا نُسمِّي الأشياءَ فقط، بل إنَّنا نفعلُ أشياءَ متعدِّدة في عباراتِنا، فكِّر مثلاً في صيحاتِ التعجُّب التَّالية: ماء! بعيداً! النَّجدة! لا! هل ما زِلْتَ مُصِرَّاً على أنَّ هذه الألفاظَ أسماءٌ لأشياء؟!».[76]

هل كان فتغنشتين سلوكيَّاً؟
كتَبَ فتغنشتين في «تحقيقات فلْسفيَّة» في الفقرة (246): «بأيِّ معنى تكونُ إحساساتي خاصَّة بي؟ حسَناً؛ بمعنى أنَّني أنا وحدي فقط أستطيعُ أنْ أعرفَ ما إذا كنْتُ أتألَّمُ بالفعلِ أمْ لا، وأنَّ أيَّ شخصٍ آخرَ لا يستطيعُ إلَّا أنْ يظُنَّ ذلك أو يُرجِّحَهُ.

إنَّ هذا القولَ خطأٌ من وجهٍ، ولا معنى له من وجهٍ آخر.
فإذا كُنَّا نستخدمُ كلمةَ «يعرف» استخداماً عاديَّاً (وكيف ينبغي أنْ نستخدمها بخلافِ ذلك؟)، فغالباً ما يعرفُ الآخرون متى أكونُ متألِّماً. أجل، لكن ليس باليقينِ نفْسِهِ الذي أعرفُ بهِ أنا نفسي ذلك! فلا يمكنُ أنْ أقولَ على الإطلاق (إلَّا على سبيلِ الدِّعاية)، أنَّني أعرفُ أنَّني أتألَّم. إذ ما المفروض أنْ يعنيه هذا (القول)، إلَّا أنَّني أتألَّم؟

لا يمكنُ القولُ بأنَّ الآخرينَ لا يعلمون شيئاً عن إحساساتي إلَّا عن طريقِ سُلُوكي فقط؛ لأنَّه لا يمكنُ القول بأنَّني أعلمُ عنها شيئاً. إنَّها (فقط) قائمةٌ لديَّ. والحقُّ هو أنَّه ممَّا يكونُ له معنى أنْ أقولَ عن الآخرين أنَّهُم يشُكُّونَ (= يُخمِّنونَ) فيما إذا كنْتُ أتألَّم، لا أنْ أقولَ ذلك عنِّي أنا نفْسي».[77]
يُعلِّقُ الفيلسوفُ الوضعي ألفريد آير على نصِّ فتغنشتين السَّابق بقولِهِ: «لو كان صحيحاً أنِّي لا أعرفُ شيئاً عن إحساساتي، فلنْ يلْزمَ عن هذا شيءٌ عن الطَّريقةِ التي يعرفُ بها الآخرونَ عن إحساساتي، وهو ما يحدُثُ غالباً من قِبَلِ الآخرين، كما يقولُ فتغنشتين. كما لنْ يلْزم عن هذا أيضاً أنَّ لديهم وسيلة أخرى للحصولِ على هذه المعرفة بخلافِ ملاحظتِهِم لسُلُوكي، لا يعني هذا القول أنَّه ليس لديهم طريقة أخرى. فقد يكونُ لديهم دليلٌ فسيولوجي أو ما يُسمَّى بـ الإحساس بالآخرين أو التَّخاطُر[78] ، ولكنَّه يعني أنَّ حُجَّةَ فتغنشتين تترُكُ المسألةَ على أنَّها لم تُحدَّد بعد».[79]

و​يعتقدُ بعضُ الباحثين أنَّ فتغنشتين كان من أنصارِ المذْهبِ الذي يُعرَفُ بـ «السُّلوكيَّةِ المنطقيَّة»، بل إنَّه كان من مؤسِّسي هذا التوجُّه الفكري، حتى لو صرَّحَ أنَّه ليس كذلك! في حين يعتقدُ آخرونَ خِلافَ ذلك، اعتماداً على نصوصِهِ التي ترْفضُ السُّلوكيَّةَ بوضوح. ومع ذلك، يتَّفقُ الجميعُ على أنَّ أقوالَ فتغنشتين حول السُّلوكيَّة تفسحُ المجالَ أمامَ تفسيراتٍ متباينة.

ومن الصَّعبِ طرحُ رأيٍ جازمٍ في الأمر، لكن الأرجح أنَّ فتغنشتين كان سلوكيَّاً قلِقاً؛ بمعنى أنَّه كان سلوكيَّاً مُدْرِكاً مصاعبَ السُّلوكيَّة.[80]
وبصفةٍ عامة، هنالك نصوصٌ تُفيدُ أنَّ فتغنشتين لا يرى ما تراهُ السُّلوكيَّة من أنَّ الإنسانَ ليس إلَّا جسْماً، ولا بدَّ من تفسيرِ كلّ حالاتِهِ النَّفْسيَّة بلُغةِ علْم وظائف الأعضاء. لكنَّه من ناحيةٍ أخرى يتحدَّثُ بلُغةِ السُّلوك حين يُحلِّلُ حالاتِنا النَّفْسيَّة وعملياتِنا العقليَّة، وأنَّ الأولى معيارٌ لوجودِ الثَّانية، ولذا ذهبَ بعضُ المعاصرين إلى وصْفِ سلوكيَّتِهِ بأنَّها «سلوكيَّة فلْسفيَّة» أو «سلوكيَّة تحليليَّة».

ويمكنُ توضيحُ موقف فتغنشتين في الحدودِ التي اتَّفقَ فيها مع السُّلوكيَّةِ في ثلاثةِ نقاط أساسيَّة: 1) لا معنى لتصوُّرِ النَّفْس على أنَّها جوهرٌ متميِّزٌ من الجسْم؛ لأنَّ تصوُّرَ النَّفْس الجوهريَّة غامضٌ لا يُمكِنُنا أعطاءَهُ خصائصَ واضحة مستقلَّة عن تصوُّرِ حالتِنا الشُّعوريَّة. ب) تصوُّر الجسْم تصوُّرٌ أساسي - وليس تصوُّراً عارضاً حادثاً - للحديثِ عن حالاتِنا الشُّعوريَّة. ج) لا يُمكِنُنا معرفةُ هذه الحالاتِ الباطنيَّة متميِّزة إحداهُما عن الأخرى بالاستبطان، وعلى هذا الأساس ذهَبَ لاستحالةِ اللُّغةِ الخاصَّة.
لكن من ناحيةٍ أخرى، نجدُ أنَّ فتغنشتين يختلفُ مع السُّلوكيَّةِ في أنَّ الإنسانَ ليس مجرَّدَ جسْم؛ لأنَّ به حالات نفْسيَّة وعقليَّة، لا يمكنُ ردُّها إلى مجرَّدِ عمليَّاتٍ فسيولوجيَّة.[81]

وباختصار يرى فتغنشتين أنَّ اللُّغةَ ظاهرةٌ اجتماعيَّة، يجبُ أنْ يفْهَمَها كلُّ النَّاطقينَ بها، وليست ظاهرة فرْديَّة. ولذلك فاللُّغةُ الخاصَّةُ ليست لُغةً على الإطلاق. وتحتوي اللُّغةُ العامَّةُ المقبولةُ على قواعِدَ لتمييزِ الاستخدامِ الصَّحيحِ لمفرداتِها من استخدامِها الفاسد. إنَّ اللُّغةَ العامَّةَ في حياتِنا النَّفْسيَّةِ الشُّعوريَّةِ التي يجبُ أنْ يفهَمَها جميعُ النَّاسِ هي لُغةُ السُّلوك. لكن كيف أتعلَّمُ كيفية التَّعبير عن حالاتي الباطنيَّة؟ أتعلَّمُ ذلك من الآخرين؛ حين أحُسُّ ألَماً مثلاً وأصْرُخُ، أو أقولُ إنِّي متألِّم، فإنِّي أُقلِّدُ الآخرين. أتعلَّمُ كيف ربَطَ النَّاسُ تلك العبارةَ السَّابقةَ بنموذجٍ معيَّنٍ من السُّلوك. فحين أجِدُ تشابُهاً بين حالتي الباطنيَّة، وأقومُ بنموذجٍ مشابهٍ من السُّلوك، أكونُ قد استخدمتُ لُغةً أفهَمُ بها نفْسي والآخرين. ولذلك حين أصرُخُ أو أقولُ إنِّي أتألَّم، فكلاهُما معيارٌ للألَم.[82]

لملمة أطراف البحث:
يمكنُ تلخيصُ أهمِّ الأفكار التي آمَنَ بها فتغنشتين المُبكِّر في «رسالة منطقيَّة فلْسفيَّة»، ثمَّ تخلَّى عنها في مرحلتِهِ المُتأخِّرة (كما بدا في «تحقيقات فلْسفيَّة») بوصْفِها أفكاراً خاطئة، على النَّحو التَّالي:
إنَّ الوجودَ الخارجي ينحلُّ إلى وقائعَ، لا إلى أشياء.
إنَّ الوقائعَ الذَّرِّيَّةَ تتكوَّنُ من أشياءٍ بسيطة بساطةً كاملة.
إنَّ اللُّغةَ تنحلُّ إلى قضايا، والقضايا تنحلُّ إلى قضايا أوَّليَّة تتكوَّنُ من أسماء، كلٌّ منها يُشيرُ إلى شيءٍ من الأشياء، فيكونُ معنى الاسْم هو الشَّيء الذي يُسمِّيه.
إنَّ القضايا ليس لها إلَّا تحليلٌ واحدٌ كامل، وذلك بردِّها إلى القضايا الأوَّليَّة.
النَّظريَّة التَّصويريَّة للُّغة، حيثُ إنَّ القضايا ذات المعنى ترْسُمُ الوقائعَ الموجودة في الواقعِ الخارجي.
فكرة الأنا وحدِيَّة.
فكرتُهُ عن التصوُّف؛ فهو يؤمنُ بالوجودِ الكُلِّي، أو العالَم بمعناهُ الأنطولوجي، إلَّا أنَّه يقول إنَّنا لا نستطيعُ أنْ نتحدَّثَ عنه، وإلَّا تجاوزنا حدودَ اللُّغة، لأنَّ اللُّغةَ تتناولُ الوقائعَ فقط.[83]
في المقابل، انتهى في «تحقيقات فلْسفيَّة» إلى ما يُناظِرُها من منطلقات.
تحليلُ الوجود الخارجي إلى وقائعَ لا أشياء ليس له ما يُبرِّرُهُ، وليس مهمَّاً، وإنَّما المُهمُّ هو تحليلُ اللُّغة من حيثُ دلالتها واستعمالاتنا المختلفة لها.
لا توجدُ وقائع بسيطة بساطةً كاملة، لأنَّ كلمتي «بسيط» و«مركَّب» يتوقَّفُ معناها على طريقةِ استخدامها.
الألفاظُ والأسماءُ لا تُشيرُ إلى أشياءَ تُسمِّيها، لأنَّ معانيها مرْهونةٌ بطريقةِ استخدامِها في ألعابِ اللُّغة.
القضايا يمكنُ تحليلُها بأكثرَ من طريقة.
النَّظريَّة التَّصويريَّة للُّغة تنطلِقُ من رُؤيةٍ ضيِّقةٍ للُّغة، فالقضايا ذات المعنى المعنيَّة برسْمِ وقائعِ الوجودِ الخارجي هي مجرَّدُ نمطٍ واحدٍ من القضايا. واللُّغةُ ليست مقصورةً على تقريرِ وقائع، وإنَّما نستخدِمُها في تقديمِ وعود أيضاً ٍ، أو تحفیز لأفعال، أو التماسِ رجاء، أو قصِّ حكايات، أو قولِ نكت، أو أداءِ قَسَم، أو ممارسةِ ألعاب وأشياء أخرى كثيرة. بعبارة أخرى، وظيفةُ اللُّغة ليس الإخبار والحكاية عن الخارج فقط، بل أيضاً أداءُ وإنشاءُ أفعال.
فكرةُ الأنا وحدِيَّة غيرُ صائبة، لأنَّ اللُّغةَ بطبيعتِها اجتماعيَّة، نتواصلُ من خلالِها مع الآخرين، نُؤثِّر من خلالِها بِهِم، ويُؤثِّرونَ من خلالِها بنا.
طالما أنَّ حدودَ اللُّغة لا تقفُ عند رسْمِ وقائعِ الوجودِ الخارجي، إذن من الممكن من حيثُ المبدأ الكلامُ عن الوجودِ الكُلِّي (وكذلك عن الرُّوح) بحُدودِ ما تسمحُ به ألعابُ اللُّغة.
وممَّا هو جديرٌ بالذِّكر أنَّ كلَّ الأفكارَ التي تخلَّى عنها، كانت نتائجَ طبيعيَّة لفكرتِهِ عن الذَّرِّيَّةِ المنطقيَّة (التي تأثَّرَ فيها بـ رَسِل)، والتي كانت بمنزلةِ الأساس الذي شيَّدَ عليه بناءَهُ الفلْسفي المتمثِّل في «رسالة منطقيَّة فلْسفيَّة»، أو كانت بمنزلةِ المُبرِّر الذي جعلَهُ ينتهي إلى مثل هذه النَّتائج.
والخلاصة أنَّ موقفَ فتغنشتين في فلْسفتِهِ المُبكِّرة يشْبهُ موقفَ المُشرِّع أو المُقنِّن الذي يُرْسي القواعدَ التي يجبُ اتِّباعُها في اللُّغة (أي كان أسيراً لما اعتقدَ أنَّه «يجب أو ينبغي أنْ يكون»)، كما يُمكِنُنا أنْ نُشبِّهَ موقفَهُ في فلْسفتِهِ المُتأخِّرة بموقفِ الوضْعيِّين الذين لا يدْرُسونَ ما ينبغي أنْ يكون، بل يدْرُسُونَ ما هو موجودٌ بالفعل.[84]
لقد كان لفتغنشتين من كلِّ ذلك هدفٌ أساس، وهو إظهارُ الفلاسفة السَّابقينَ عليه (وهو منهم في مرحلتِهِ المُبكِّرة) بأنَّهُم مرْضى؛ مصابون بداءِ القلقِ والوهمِ والاضطراب، بسببِ استخدامِهِم لُغة فنِّية اصطلاحيَّة، ممَّا جعلَهُم يستخدمونَ الألفاظَ بمعانٍ غريبة، من خلْقِ عقولِهِم، ولا أساسَ لها في الاستخدامِ العادي، فوقعوا في مآزقَ فكريَّة. ورأى فتغنشتين أنَّ علاجَ هؤلاءِ المرْضى يكمُنُ في عودَتِهِم إلى اللُّغةِ العادِيَّة، والإحاطة بالاستخداماتِ المألوفة للألفاظ، ثمَّ صياغة المشكلات الفلْسفيَّة في ذلك الإطارِ اللُّغوي العادي، فقد نحُلُّ المشكلات الفلسفية حلَّاً أفضَلَ، أو قد يتبيَّنَ لنا أنَّ هذه المشكلةَ مشكلةٌ وهميَّةٌ، لا وجودَ لها إلَّا في عقولِ الفلاسفة.[85]

نقد فتغنشتين المُتأخِّر:
رغمَ ما حفلت به آراءُ فتغنشتين المتأخرة من قبولٍ عامٍّ عند فلاسفةِ العالَم الأنجلوساكسوني، بحيث عبَّدَتْ الطَّريق لفلاسفةِ أوكسفورد، لينطلقوا في تحليلِ اللُّغةِ العادِيَّة، إلَّا أنَّه وُجِّهَتْ له انتقادات، منها ما يلي:

فتغنشتين المُتأخِّر لم يستطع أنْ يسُدَّ كلَّ الثَّغرات التي نشأَتْ عن إنكارِهِ لبعضِ أفكارِه الأولى؛ لأنَّه لا يتعرَّض في فلْسفتِهِ المُتأخِّرةِ للمشكلاتِ نفْسِها التي بحثَها في فلْسفتِهِ الأولى. فهو لا يبحثُ في «تحقيقات فلْسفيَّة» بشكلٍ صريحٍ في تحليلِ الوجودِ الخارجي، وفيما إذا كان مكوَّناً من وقائعَ أو من أشياء، ولا ما إذا كانت الأشياءُ بسيطةً أمْ مركَّبة. وإنَّما يُحيلُ مناقشتَهُ لمثلِ هذه الأفكار إلى مناقشةٍ لُغويَّةٍ تتناولُ طريقةَ استخدام الألفاظ الدَّالَّة على هذه الأشياء في اللُّغة، مثل استخدامنا لما هو بسيطٌ أو مركَّب. الأمر الذي سمَحَ بتفسيراتٍ مختلفة وتأويلاتٍ متفاوتة لموقفِ فتغنشتين المتأخِّر، ربَّما كانت في أحيانٍ ليست بالقليلةِ متناقضة.
ذهَبَ كورنفورث إلى أنَّ فلْسفةَ فتغنشتين المُتأخِّرة، والمتمثِّلة في «تحقيقات فلْسفيَّة»، لا تنتهي إلى أيَِّ نتيجة! ويقول: «إنَّه يُعتبرُ نموذجاً طيِّباً للتفكُّكِ وعدمِ التَّكامُلِ الفلْسفي؛ ففتغنشتين كان قد تبيَّنَ أنَّ عدداً من أفكارِهِ السَّابقة كان خاطئاً، إلَّا أنَّه لم ينْجح في إيضاحِ سبَبِ خطَئِها...وبينما هو يتخلَّى عن الطَّريقةِ المحدَّدةِ والمنظَّمةِ التي ربَطَ - بناءً عليها - أفكارَهُ السَّابقة في نسَقٍ متماسك، نجد أنَّه لم يستطع العثورَ على شيءٍ محدَّدٍ يحلُّ محلَّها. ولذا جاءت نتيجةُ «تحقيقات فلْسفيَّة» بمنزلةِ انفراط لفلْسفتِهِ القديمة، ولم يجد شيئاً يمكنُهُ أنْ يضَعَهُ مكانَها».[86]

اعترَضَ پيتشر[87] على المطابقةِ بين معنى الكلمةِ واستعمالِها؛ إذْ ذهَبَ إلى أنَّ المرْءَ قد يعرفُ معنى الكلمة ولا يعرفُ طريقةَ استعمالِها، والعكسُ بالعكس. فلا يزالُ من الممكنِ تماماً معرفة معنى الكلمة مع أنَّ استعمالَها لم يُعرَف بعد، ومعرفة الاستعمال دون معرفة المعنى.[88]

يرى ألفريد آير أنَّ فتغنشتين قد ساعَدَ على تحريرِ الفلاسفة من عتْقِ النَّظريَّة القائلة بأنَّ المعاني مُثُل أفلاطونيَّة، لها وجودٌ قبلَ أنْ نجدَ الكلمات التي تدُلُّ عليها. كما أنَّ موقفَ فتغنشتين صحَّحَ الميْلَ الخاطئ نحو تأويلِ كلِّ كلمةٍ كما لو كانت أسماءً. واستبدَلَ بالتَّشبيهِ المُضلِّل للكلماتِ على أنَّها تصويريَّة، تشبيه الكلمات على أنَّها أدوات[89]. وبذلك أثارَ انتباهَنا إلى مختلفِ الاستخدامات التي تقومُ بها اللُّغة. لكن على الرَّغم من ذلك، فإنَّ الوظيفةَ الأولى للُّغة هي تقريرُ ما هو صادقٌ أو كاذب (أي وظيفة إخباريَّة لا إنشائيَّة). وهنا نجدُ القولَ إنَّ المعنى هو الاستخدام أقلُّ دقَّةً من القولِ إنَّ المعنى هو الإتيان بشُرُوطِ الصِّدْق....فمثلاً نتعلَّمُ استخدامَ الفعلِ الماضي حين نسمحُ بتطبيقِهِ على الحوادِثِ التي نتذكَّرُها. بينما حين نتذكَّرُ حادثةً ماضيةً بوضوح، ونتَّخِذُها تبريراً للقولِ إنَّ الحادثةَ حدثَتْ، فإنَّ ذلك لا يجعلُ الاعتقادَ بحُدُوثِ الحادثةِ صادقاً. إنَّ ما يجعل الاعتقاد صادقاً هو حدوثُ الحادثةِ فعلاً.[90]

وليس الاستخدام المألوف لكلمةٍ ما معياراً لمعناها الصَّحيح إذا كُنَّا نبْغي الدِّقَّةَ في استخدامِ الألفاظ، خاصَّةً في العلوم، مثل كلمات «قوَّة» و«طاقة» و«مجال»...إلخ. وبالمِثْل، للفلْسفةِ مصطلحاتُها التي لا تشغَلُ بالَ الرَّجُلَ العادي، مثل يقين واحتمال وكمْ وكيف وعلاقة وعلَّة وغيرها. لا يُوضِّحُها الاستخدامُ العادي، وإنَّما تُوضِّحُها جهودُ الفلاسفة.[91]
ولذا نجدُ أنَّ للعلماءِ في مختلفِ التخصُّصات، دوراً عظيماً في تعميقِ معاني الكلمات التي تدورُ في مجالِ تخصُّصاتِهِم. وهذا المعاني لا يستخدِمُها الرَّجُل الاعتيادي في لُغتِهِ العادِيَّة.
فيما يتعلَّق بفكرةِ «التَّشابُهات الأُسَرِيَّة»، يقولُ آير: «إنَّ هذا تناظرٌ سعيد، إلَّا أنَّه مع هذا من الممكنِ الاعتراض بالقول أنَّه لم يقُل لنا ما الذي يعنيهِ (فتغنشتين) بوجودِ ملْمحٍ مشتركٍ بين سائرِ الألعاب؟ لِمَ لا نقنع بمجرَّدِ القول بأنَّ ما تشترك فيه سائرُ الألعاب هو أنَّها ألعابٌ؟ لنْ يكون هذا خطأً، ولكنَّه لن يكون أيضاً واضحاً. وعلى كلِّ حال، فإنَّ هذا الأمرَ نفْسَهُ ينطبقُ على الأعدادِ التي تُشكِّلُ - وفقاً لفتغنشتين - أُسرةً واحدة».[92]

المدرسةُ اللُّغويَّةُ المعاصرة، التي يقودُها نعوم تشومسكي، عابَتْ على فتغنشتين أنَّه يأخُذُ اللُّغةَ العادِيَّةَ كما هي في استخدامِ رجُلِ الشَّارع، بلا تنظيرٍ أو وضْعِ أُسُسٍ للتَّركيباتِ اللُّغويَّةِ التي ينطِقُها الرَّجُلُ العادي. وبينما حاولَ فتغنشتين تجاهُلَ المشكلات الفلْسفيَّة كما يضَعُها الفلاسفة، أو اعتبارها مشكلات وهميَّة، وذلك بإعادةِ الألفاظ التي يستخدمونَها إلى استخدامِ الرَّجُلِ العادي الذي لا تهُمُّهُ مشكلات الفلاسفة، ومن ثمَّ يرى مشكلات الفلاسفة أوهاماً، تقومُ هذه المدرسةُ اللُّغويَّةُ ببحثِ اللُّغة بحثاً يتضمَّنُ تفسيرَ استخدامِنا للُّغة، بالاستعانةِ بنظريَّاتِ الفلاسفة.[93]
فيما يتعلَّقُ بموقفِ فتغنشتين من القولِ باستحالةِ اللُّغةِ الخاصَّةِ ورفضِ الاستبطان، يرى المرْحوم د. زيدان أنَّه لا إساسَ لإنكارِ فتغنشتين خصوصيَّةَ الحياة العقليَّة لمجرَّدِ أنَّه يكتنِفُها الغموضُ الكثيف؛ لأنَّ هذه الخصوصيَّة ليست غامضةً إلى الحدِّ الذي يجعلُنا نُنكِرُها. لا أحدَ لديه معيارٌ دقيقٌ للحُكمِ بحُمْرةِ التُّفَّاحة أو بياضِ الطَّباشير، وعلى الرَّغمِ من ذلك فالنَّاسُ على اتِّفاقٍ في حُكمِهِم على الألوان. وقُلْ مثل ذلك في أحكامِنا على الرَّوائحِ والطُّعوم، وهي في أساسِها أحكامٌ خاصَّةٌ ذاتيَّة. ولا أساسَ لرفضِهِ للُغةِ الاستبطانِ الخاصَّة؛ فما الضَّيرُ من استخدامِ اللُّغةِ لأغراضٍ خاصَّةٍ كي أستحضرُ أفكاري، مثلما أفعلُ حين أكتُبُ مذكَّراتي الخاصَّة التي أُدوِّنُ فيها انطباعاتي وذكرياتي (لا لغرض النَّشْر).[94]
وفيما يتعلَّق بقولِ فتغنشتين بأنَّ السُّلوكَ هو المعيارُ الوحيدُ الموضوعي للحالاتِ الباطنيَّة والحوادثِ العقليَّة، يقولُ د. زيدان: لكلمةِ «معيار» معنيانِ مختلفان، يبدو أنَّ فتغنشتين خلَطَ بينهما، هما الشُّروط الضَّروريَّة للتَّطبيقِ الصَّحيحِ لكلمةٍ عامَّة، والدَّليلُ الذي نعتمدُ عليه للتأكُّدِ من صحَّةِ استخدامِنا للكلمة. إذا قُلْنا إنَّ معيارَ صحَّة استخدامِنا لكلمةِ «شيخ» (= من بلَغَ مرحلةَ الشَّيخوخة) هو أنَّ شخصاً ما بلَغَ السَّبعين أو الثَّمانين، إنَّما نستخدمُ المعيارَ بالمعنى الأوَّل. وإذا قُلْنا أنَّ معيارَ استخدامِنا للكلمةِ هو أنَّ شخصاً ما مُجعَّدُ الوجه وأبيضُ الشَّعْر وبطيءُ الحركة، إنَّما نستخدمُ المعيارَ بالمعنى الثَّاني، لا بالمعنى الأوَّل. الشُّروطُ الضَّروريَّة لاستخدامِ كلمة «ألَم» مثلاً، إنَّما هي إنِّي أعيهِ ولا يمكنُ لأحدٍ رؤيةَ ألَمي ولا الوعي به، ولا يُشكِّكُني في إحساسي بالألَمِ أيُّ حكمٍ من الآخرين. افرض أنَّه نزَفَ من يدي دمٌ، أو إنِّي أئِنُّ، لكنِّي لا أحُسُّ ألَماً، فإنِّي لا أقولُ إنِّي في حالةِ ألَم. ولذلك فالعلاقةُ بين الحالاتِ النَّفْسيَّةِ والسُّلُوك علاقةٌ حادثةٌ طارئة، وليست ضروريَّة، لذا أخطأَ فتغنشتين حين سوَّى بين الحالةِ النَّفْسيَّةِ والسُّلوكِ بعضِ كتاباتِهِ، رغمَ أنَّه يعترفُ في كتاباتٍ أخرى بأنَّهُما أمرانِ مختلفان.[95]

خاتمة:
تعرَّفنا في هذا البحثِ على أهمِّ التحوُّلات التي طرأَتْ على فكرِ فتغنشتين، وظهرَتْ جلِيَّاً في كتابِ «تحقيقات فلْسفيَّة». فاهتمامُ فتغنشتين لم يعُد مقتصراً على اللُّغةِ بوصْفِها تنطوي على قضايا إخبارية حاكية عن الواقع، وإنَّما التفَتَ كذلك إليها بوصْفِها تنطوي على قضايا إنشائيَّة كثيرة (مثل التَّنبيه والنِّداء، والأمر والنَّهْي، والمدْح والذَّم، والتمنِّي والتعجُّب، والقَسَم والاستفهام)، نُؤثِّرُ من خلالها بالنَّاسِ ونتأثَّرُ بهم. فاللُّغةُ لا يمكنُ النَّظَرُ إليها بطريقةٍ ساذجةٍ وكأنَّ وظيفتَها قاصرةٌ على الحكايةِ عن الوجود الخارجي ورَسْمِ ما هو موجودٌ في الواقع، بل لها وظيفةٌ اجتماعيَّةٌ عظيمة، تتجلَّى بطريقةٍ معقَّدةٍ في لُغةِ حياتِنا اليوميَّة، التي نتفاعلُ من خلالِها مع النَّاس. أقول: وكذلك في لُغةِ النُّخَبِ المُتخصِّصة فيما بينهم.

ويحلو لي هنا، أنْ أختِمَ ببعضِ الملاحظات التي أراها بالغةَ الأهميَّة.
لم أستهدِف في هذا البحثِ الوقوفَ عند فتغنشتين المُبكِّر، والأساسِ الذي شيَّدَهُ وانطلقت منه الوضعيَّةُ المنطقيَّة، والتي تُواجِهُ تناقُضاً، بسبَبِ أنَّ قولَها بأنَّ «كلَّ جُمْلةٍ لا يمكنُ التَّحقَّقُ من صدْقِ مدْلولِها أو كذِبِهِ بالحسِّ والتَّجرِبةِ فهي كلامٌ فارغٌ من المعنى»، وما فيه من تعميمٍ، هو نفُسُه شيءٌ لا يمكنُ التعرُّف عليه بالحسِّ والمباشرة، فهو كلامٌ فارغٌ من المعنى بحُكمِ ما يحملُ من قرار.

لا أريدُ التوقُّف عند هذه الادِّعاءات، لأنَّ فتغنشتين قد تجاوَزَها. فهذا البحثُ يتكفَّلُ بالتوقُّفِ عند فتغنشتين المُتأخِّر لا المُبكِّر، وإلَّا فهناك مجالٌ واسعٌ للنِّقاشِ حول مفهوم الفرْد والكُلِّي والفئة والبسيط والمُركَّب، بل وحتى مفهوم الوجود (الذي تمَّ حصرُهُ في المرْحلةِ المُبكِّرة بالمعنى المادِّي الحسِّي)، وكذلك مفهوم المعنى.

عندما فتغنشتين المُبكِّر ترَكَ الميتافيزيقا خارج إطار اللُّغة - بوصفِها ألفاظ وجُمَل لا معنى لها في لغةٍ مثاليَّة علْميَّة، وطلَبَ منَّا الصَّمْتَ عمَّا لا يمكنُ التَّعبيرُ عنه - لم يكنْ سعيداً بهذه النَّتيجة، كما حفلت الوضعيَّة المنطقيَّة بها، وإنَّما كان يُعبِّر عن قناعتِهِ كما هي دون ابتهاج. أمَّا فتغنشتين المُتأخِّر، فقد فسَحَ المجالَ للميتافيزيقا، وكان لسانُ حالِهِ: دعونا نرى، الألفاظَ الميتافيزيقيَّة، مثل الله والرُّوح والملائكة والجِنّ...إلخ، كيف يُمكِنُ أنْ تُفْهَمَ في سياقِ اللُّغةِ العادِيَّة، بل أيضاً في سياقِ اللُّغةِ الدِّينيَّة، فاللَّفظُ الواحدُ لا بدَّ أنْ يُفهَمَ في سياقِ اللُّغةِ التي يُستخدَمَ فيها في لُعبةِ اللُّغة.

إنْ كان لفتغنشتين المُبكِّر فضلٌ في لفْتِ نظَرِ مور ورَسِل إلى اللُّغةِ لتحليلِها، بوصْفِها حاكية في جُمَلِها الخبريَّةِ عن الواقع، ومن ثمَّ تأسيس حقل فلْسفة اللُّغة بالتَّدريج...فإنَّ لفتغنشتين المُتأخِّر فضلٌ في لفْتِ نظَر رايل وأوستن وسيرل، إلى اللُّغةِ لتحليلِها، بوصْفِها مُؤثِّرة في جُمَلِها الإنشائيَّة في الأداءِ والفعل، ومن ثمَّ تأسيس نظريَّة الأفعال الكلاميَّة، ثمَّ تحويل الاهتمام بالتَّدريج من فلْسفةِ اللُّغة إلى فلْسفةِ الذِّهن. ومن ثمَّ لم يعُد الغرْبُ اليوم مهتمَّاً بفلْسفةِ اللُّغة بقدرِ اهتمامِهِ بفلْسفةِ الذِّهن، وسبَبُ هذا التحوُّل في الاهتمام هو فتغنشتين المُتأخِّر. ففتغنشتين سحَبَ اهتمامَ الفلاسفة من الوجودِ الخارجي إلى اللُّغةِ أوَّلاً، ثمَّ سحَبَ اهتمامَهُم من اللُّغةِ إلى الذِّهنِ ثانياً.

أرى أنَّ ثمَّةَ خلْطًا عند فتغنشتين المُتأخِّر بين معنى الكلمة في مرْحلةِ الوضْع (وتكون الدَّلالة في مرحلتِها التصوُّريَّة)، ومعناها في مرْحلةِ الاستعمال (وتكون الدَّلالة في مرحلتِها التَّصديقيَّة الأولى). والمقصودُ بمرْحلةِ الوضْع تلك المرْحلةُ التي يضَعُ فيها الواضِعُ في اللُّغةِ لفظاً معيَّناً لمعنى محدَّد. فمعنى الكلمة في مرْحلةِ الوضْع يُشيرُ بالفعلِ إلى شيءٍ، وهذا الشَّيءُ هو الصُّورة الذِّهنيَّة (حتى لو أخذنا الصُّورةَ بالمعنى المرِن لا الجامد)، وهذه الصُّورةُ الذِّهنيَّةُ قد تكونُ حاكيةً عن شيءٍ خارجيٍّ، وقد لا تكون. ولا علاقةَ لمعناها في هذه المرْحلةِ بالاستعمال؛ ولذا ينتقلُ الذِّهنُ عند سماعِ اللَّفظ أو الجملة على الفور إلى المعنى بنحوٍ تلْقائي ويتصوَّرُهُ، ولو صدرَ الكلامُ من ببغاء أو من كمبيوتر يتحدَّث بشكلٍ آليّ.
إلَّا أنَّ ظاهرةَ اللُّغة حيَّةٌ متحرِّكة؛ فمعنى اللَّفظ قد يتغيَّرُ بالتَّدريجِ عند الاستعمال، فقد يصبحُ منقولاً في معناهُ، وقد يشتركُ اللَّفظُ الواحدُ بالدلالةِ على أكثرِ من معنى، وقد يُشارُ إلى المعنى الواحد بأكثرِ من لفظ، وقد يُستخدَمُ اللَّفظُ بالمعنى المجازي لا الحقيقي. وهنا ما يُحدِّدُ المعنى المراد هو الاستعمالُ والسِّياق والقرائن، لذا نظريَّةُ ألعابِ اللُّغة، إنْ صحَّت فإنَّما تصُحُّ في مرْحلةِ الاستعمال وقصْدِ التَّفهيم، التي تسبقُها منطقيَّاً (بل وزمانيَّاً) مرْحلةَ الوضْع.
لذا قد يعرِفُ المرْءُ معنى اللَّفظ، في مرْحلةِ الوضْع، دونَ أنْ يعرِفَ كيفيَّة استعمالِهِ (كمن يتعلَّم لُغةً جديدة). وقد يستعمِلُهُ بنحوٍ ببَّغائي أو في حالةِ هذيان، دون أنْ يعرِفَ معناهُ وضْعاً.

المسلَكان الشَّهيران عند علماء أصول الفقه في مسألة الوضع، هما «مسلك الاعتبار»، و«مسلك التعهُّد». مسلكُ الاعتبار يرى أنَّ الواضِعَ يُمارِسُ عمليَّةً اعتباريَّةً إنشائيَّة تتولَّدُ على أساسها العلاقةَ اللُّغويَّةَ بين اللَّفظِ والمعنى (كما تُجْعَل الإشارةُ الحمراء مثلاً على مواقعَ معيَّنة لتكونَ علامةً على الخطر)، وهناك صيغٌ مختلفة في التَّكييفِ الإنشائي لهذا الاعتبار الوضعي. ويمكنُ القول أنَّ فتغنشتين المُبكِّر أقرَبَ إلى هذا المسلك.
أمَّا مسلَكُ التعهُّد، فيرى أنَّ الوضْعَ ليس اعتباراً وإنَّما هو تعهُّدٌ من قِبَلِ الواضع، بأنْ لا يتلفَّظَ بالكلمةِ إلَّا إذا كان يُريدُ إفهامَ المعنى الخاصّ الذي يُحاوِلُ ربْطَهُ بها. وهذا التعهُّد يُؤدِّي إلى أنَّنا متى ما سمِعْنا المُتكلِّم ينطقُ بتلك الكلمة ويستخدمُها، انتقل ذهنُنا إلى تصوُّر ذلك المعنى، وعرفنا أنَّ المُتكلِّمَ أرادَ تفهيمَهُ لنا. وهذا يعني أنَّ الدَّلالةَ النَّاتجةَ عن الوضْعِ على أساسِ مسلَك التعهُّد تكونُ دلالةً تصديقيَّة، لا تصوُّريَّة فقط؛ لأنَّ اللَّفظَ بعد التعهُّدِ المذكور يكشفُ كشفاً تصديقيَّاً عن إرادةِ المتكلِّم لإفهامِ المعنى.

وهذا يعني أنَّ كلَّ مستعملٍ ينقلبُ إلى واضِعٍ حقيقةً في ضوءِ هذه النَّظريَّة؛ لأنَّه متعهِّدٌ ضمْناً بأنْ لا ينطقَ باللَّفظِ إلَّا عند إرادةِ إفهامِ معناهُ الخاصّ، ولا فرْقَ بينه وبين الواضِعِ إلَّا أنَّ الأخيرَ هو المتعهِّد الأوَّل الأسبق زماناً. وإلَّا فكلُّ شخصٍ مسؤولٌ عن تعهُّداتِهِ، ولا يُعقَل أنْ يكونَ تعهُّد الواضع مُحقِّقاً للدَّلالةِ على قصْدِ إفهامِ المعنى من قِبَلِ غيرِهِ، كما هو واضح. ويمكنُ القول إنَّ فتغنشتين المُتأخِّر أقربَ إلى هذا المسلك؛ لأنَّ المُتكلِّمَ يتعهَّدُ بأنْ يلْتزمَ بقواعدِ اللُّعبة، في حواراتِهِ الاجتماعيَّة، فلا يتلفَّظُ بالكلمةِ إلَّا إذا أرادَ إفهامَ المعنى الخاصّ. فهو في الحقيقة يخلُقُ المعنى، ويضَعُهُ، ويرْبطُ اللَّفظَ بذلك المعنى، من خلال استخدامِهِ للكلمةِ في السِّياقِ المناسبِ لها.
ولذا يرِدُ - في تقديري - على فتغنشتين المُتأخِّر، أغلبُ ما يرِدُ على مسلَكِ التعهُّد من اعتراضاتٍ مطروحة في علْمِ أصولِ الفقه.
لم يُشِر فتغنشتين إلى أنَّ المُتكلِّم عندما يستخدم الألفاظ في ألعابِ اللُّغة، فقد يكونُ في مقام الهزْل أو الاستهزاء أو الامتحان، ومن ثمَّ لم يتحدَّث عمَّا أسماهُ علماءُ أصول الفقه بـ «الدَّلالة الجِدِّيَّة» (وتكون الدَّلالة في مرحلتِها التَّصديقيَّة الثَّانية)؛ حيثُ أنَّهُم قسَّموا الدَّلالةَ اللَّفظيَّة إلى ثلاثِ دلالات في امتدادِ بعضها (طوليَّة): أوَّلُها الدَّلالةُ الوضعيَّة، ومدلولُها المعنى ذاته، وثانيها الدَّلالةُ الاستعماليَّة، ومدلولُها المرادُ الاستعمالي أو قصْدُ التَّفهيم، وثالثُها الدَّلالةُ الجِدِّيَّة، ومدلولُها المرادُ الجَدِّي.

ذكَرَ فتغنشتين أنَّ قواعدَ لُعبة اللُّغة عند الاستخدام تتمثَّلُ بالمنطق، لكن بتقديري أنَّ قواعِدَ لُعبةِ اللُّغة في مرْحلةِ الاستخدام لا تقتصرُ على المنطقِ فحسْب، بل محكومةٌ أيضاً بما يُسمِّيه علماءُ البلاغة العرب بـ «مقتضى الحال».
للعلماء في العالَمِ العربي والإسلامي، خاصة عُلماءِ النَّحو والبلاغة من ناحية، وعلماءِ أُصولِ الفقه من ناحيةٍ أخرى، فضلٌ عظيمٌ بالسَّبْقِ في الاهتمامِ بالعباراتِ الإنشائيَّة، فضلاً عن الإخباريَّة (التي اهتمَّ بها المناطقة والفلاسفة المسلمين، حيث حلَّلوها تحليلاً عميقاً، وتحدَّثوا عن مناط الصِّدْقِ فيها). ومن المهمِّ الالتفات إلى الجهودِ الذي بذَلَها بعضُ الباحثين في تنظيمِ جهودِ الماضين من علماءِ النَّحوِ والبلاغة والأصول، في ضوءِ الأبحاث الجديدة، التي طرأتْ بعد فتغنشتين، وكان لأمثالِ أوستن وسيرل دورٌ كبيرٌ في إنضاجها.[96]
من خلالِ أمثالِ هذه الجهود، نستطيعُ الرَّبطَ والمقارنة بين الجهودِ الإنسانيِّة لمفكِّري الشَّرْقِ والغرْب على السَّواء.

المصادر:
آير، المسائل الرئيسية في الفلسفة، ترجمة د. محمود فهمي زيدان، المجلس الأعلى للثقافة، 1988، القاهرة.
آير، الفلسفة في القرن العشرين، ترجمة د. بهاء درويش، مراجعة د. إمام عبد الفتاح إمام، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، ط1، 2006، الاسكندرية.
بهلول، رجا، فتغنشتاين والسُّلوكيَّة المنطقيَّة، مجلة «تبين» للدراسات الفلسفية والنظريات النقدية، العدد 37، أغسطس، 2021.
محمود، زكي نجيب، برتراند رسل، نوابغ الفكر الغربي (2)، دار المعارف، مصر.
جاب الله، السيد عبد الفتاح، فلسفة اللغة والمنطق: دراسة في فلسفة ستراوسن، مؤسسة الوراق للنشر والتوزيع، ط1، 2014، الأردن.
عبد الحق، صلاح إسماعيل، التحليل اللغوي عند مدرسة أكسفورد، دار التنوير للطباعة والنشر، ط1، 1993، بيروت.
عبد الحق، صلاح إسماعيل، فلسفة اللغة، الدَّار المصريَّة اللُّبنانيَّة، ط1، 2017، القاهرة.
إسلام، عزمي، فتغنشتين، نوابغ الفكر الغربي (19)، دار المعارف، القاهرة.
إسلام، عزمي، مفهوم المعنى: دراسة تحليلية، حوليات كلية الآداب، الحولية السادسة، 1985، جامعة الكويت.
فتغنشتين، رسالة منطقية فلسفية، ترجمة د. عزمي إسلام، مراجعة وتقديم د. زكي نجيب محمود، وأعيد طبعها مؤخراً: آفاق للنشر والتوزيع، ط1، 2021، القاهرة.
فتغنشتين، بحوث فلسفية، ترجمة د. عزمي إسلام، مراجعة وتقديم د. عبد الغفار مكاوي، مطبوعات جامعة الكويت، 1990.
فتغنشتين، تحقيقات فلسفية، ترجمه: د. عبد الرزاق بنور، المنظمة العربية للترجمة، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 2007، بيروت.
أوغسطينوس، اعترافات، نقله من اللَّاتينيَّة إبراهيم الغربي، دار التنوير، ط1، 2015، بيروت.
الصَّدْر، محمَّد باقر، المعالم الجديدة للأصول، المطبوع ضمن «دروس في علم الأصول»، دار التعارف للمطبوعات، 1989، بيروت.
فهمي زيدان، محمود، فلسفة اللُّغة، دار النَّهضة العربيَّة، 1985، بيروت.
فهمي زيدان، محمود، في النَّفْس والجسد: بحث في الفلْسفة المعاصرة، دار النَّهضة العربيَّة، 1980، بيروت.
Wittgenstein, Ludwig. The Blue and Brown Books. Oxford: Blackwell, 1958.

--------------------------------------------
[1]* استاذ في الحوزة العلمية.
[2]. Ludwig Wittgenstein
[3]. Jena
[4]. رسالة منطقية فلسفية: Tractatus Logico-Philosophicus: وقد ترجم «رسالة منطقية فلسفية» إلى العربية المرحوم د. عزمي إسلام، مع مراجعة وتقديم د. زكي نجيب محمود، وأعيد طبعها مؤخراً: آفاق للنشر والتوزيع، ط1، 2021، القاهرة.
[5]. نشره أول مرة عام 1921 في نصه الألماني، وكان قد انتهى من كتابة مخطوطته في 1918، وقد أجرى تعديلاً على عنوان الرسالة.
[6]. إسلام، فتغنشتين، 13-23.
[7]. أنظر: م. ن، 75.
[8]. فتغنشتين، بحوث فلسفية، 5-6. أيضاً: فتغنشتين، تحقيقات فلسفية، 113-115.
[9]. Philosophical Investigations
[10]. Remarks on the Foundations of Mathematics
[11]. The Blue & Brown Books
[12]. كأن مدرسة كمبردج صارت في قبال مدرسة أكسفورد؛ الأولى تُناصر اللُّغة المثالية، والثانية تُناصر اللُّغة العادية.
[13]. الصدر، المعالم الجديدة للأصول، 101-102.
[14]. عبد الحق، التحليل اللغوي عند مدرسة أكسفورد، 6.
[15]. الذَّرِّيَّة: atomic : إسلام، فتغنشتين، 61.
[16]. م. ن، 78-79.
[17]. عبد الحق، فلسفة اللغة، 26-27.
[18]. فتغنشتين، رسالة منطقية فلسفية، 112.
[19]. linguistic anxiety
[20]. therapeutic
[21]. م. ن، 103.
[22]. فتغنشتين، بحوث فلسفية، 196.
[23]. م. ن، 106-107.
[24]. Wittgenstein, The Blue and Brown Books, 28.
[25]. فتغنشتين، بحوث فلسفية، 180 أيضاً: فتغنشتين، تحقيقات فلسفية، 281.
[26]. ordinary language
[27]. natural language
[28]. ideal language
[29]. artificial language
[30]. logically perfect language
[31]. فتغنشتين، رسالة منطقية فلسفية ، 7 (المقدمة).
[32]. logical atomism
[33]. فهمی زيدان، فلسفة اللغة، 29-30.
[34]. structure
[35]. محمود، برتراند رسل، 64-66.
[36]. form
[37]. verification
[38]. فتغنشتين، رسالة منطقية فلسفية، 192.
والمقصود هنا: يجب أنْ نسكتَ عمَّا لا نستطيع أن نتحدث عنه بلغة مثالية، بلغة علمية تجريبية صارمة.
[39]. إسلام، فتغنشتين، 99-111.
[40]. tidy
[41]. م. ن، 131-133.
[42]. م. ن، 239-240.
[43]. Sraffa
[44]. م. ن، 245.
[45]. فتغنشتين، بحوث فلسفية، 25. أيضاً: فتغنشتين، تحقيقات فلسفية، 336.
[46]. solipism
[47]. إسلام، فتغنشتين، 156-158..
[48]. م. ن، 160-162.
[49]. variable
[50]. م. ن، 203-214.
[51]. coherence
[52]. م. ن،197-198.
[53]. فتغنشتين، بحوث فلسفية، 68. أيضاً: فتغنشتين، تحقيقات فلسفية، 148.
[54]. فتغنشتين، بحوث فلسفية، 69. أيضاً: فتغنشتين، تحقيقات فلسفية، 148-149.
[55]. إسلام، فتغنشتين، 265-266؛ فتغنشتين، بحوث فلسفية، 71. أيضاً: فتغنشتين، تحقيقات فلسفية، 152.
[56]. فتغنشتين، بحوث فلسفية، 243. أيضاً: فتغنشتين، تحقيقات فلسفية، 357.
[57]. Scott
[58]. فتغنشتين، بحوث فلسفية ، 278. أيضاً: فتغنشتين، تحقيقات فلسفية، 398.
[59]. فتغنشتين، بحوث فلسفية، 163. أيضاً: فتغنشتين، تحقيقات فلسفية، 261.
[60]. فتغنشتين، بحوث فلسفية، 168. أيضاً: فتغنشتين، تحقيقات فلسفية، 266-267.
[61]. فتغنشتين، بحوث فلسفية، 213. أيضاً: فتغنشتين، تحقيقات فلسفية، 322.
[62]. فتغنشتين، تحقيقات فلسفية، 61.
[63]. فتغنشتين، بحوث فلسفية، 74-75. أيضاً: فتغنشتين، تحقيقات فلسفية، 156-157.
[64]. game
[65]. فتغنشتين، بحوث فلسفية، 242. أيضاً: فتغنشتين، تحقيقات فلسفية، 355-356.
[66]. family resemblances
[67]. فتغنشتين، بحوث فلسفية، 86-87. أيضاً: فتغنشتين، تحقيقات فلسفية، 170-171.
[68]. زيدان، فلسفة اللغة، 54-56.
[69]. فتغنشتين، بحوث فلسفية، 106. أيضاً: فتغنشتين، تحقيقات فلسفية، 194.
[70]. إسلام، فتغنشتين، 294-295.
[71]. فتغنشتين، بحوث فلسفية، 48. أيضاً: فتغنشتين، تحقيقات فلسفية، 118-119.
[72]. فتغنشتين، بحوث فلسفية، 48. أيضاً: فتغنشتين، تحقيقات فلسفية، 119.
[73]. أنظر: أوغسطينوس، اعترافات، 22.
وجاءت الترجمة هنا هكذا: «لمَّا كان القوم يُسمُّون شيئاً ما، وكانوا طبقاً لذلك الصَّوت يُحرِّكون الجسْمَ في اتِّجاهِ ذلك الشَّيء، كنتُ أرى وأحفظُ أنَّ ذلك الشَّيء يسمُّونه بذلك الصَّوت الذي يتلفَّظون به عندما يريدونَ الإشارةَ إليه. ومن ناحية أخرى، كنتُ أتبيَّنُ أنَّهم يريدون ذلك بناء على الإشارات بالجسْم، وهي بمنزلةِ الكلماتِ الطَّبيعيَّة لدى جميع الشُّعوب التي تصدُرُ عن الوجه وعن رفَّة الجفون وعن حركةِ بقيَّة الأعضاء وعن دويِّ الصَّوت، وتُظهر انفعالات النَّفْس في طلبِ الأشياء وإرادة امتلاكها أو رفضها والهروب منها. لذا فالكلماتُ الموضوعة في مواردها الخاصَّة في مختلفِ الجُمَل والمسموعة بالتَّكرار، كنتُ أستخلصُ منها تدريجياً الأشياءَ التي كانت تشيرُ إليها، وكنتُ أُعلنُ بها عن إرادتي بفَمٍ أصبح خبيراً بنطُقِ تلك العلامات».
[74]. يعني هنا جذور النظرية التصويرية.
[75]. فتغنشتين، بحوث فلسفية، 47-48. أيضاً: فتغنشتين، تحقيقات فلسفية، 118-120.
[76]. فتغنشتين، بحوث فلسفية، 62. أيضاً: فتغنشتين، تحقيقات فلسفية، 140.
[77]. فتغنشتين، بحوث فلسفية، 162. أيضاً: فتغنشتين، تحقيقات فلسفية، 260-261.
[78]. telepathy
[79]. آير، الفلسفة في القرن العشرين، 268.
[80]. للتفصيل انظر بحث: بهلول، فتغنشتاين والسلوكية المنطقية.
[81]. فهمی زيدان، في النفس والجسد: بحث في الفلسفة المعاصرة، 148-150.
[82]. م. ن، 153.
[83]. إسلام، فتغنشتين، 319-320 و 334-334.
[84]. م. ن، 293.
[85]. فهمی زيدان، في فلسفة اللغة، 61.
[86]. إسلام، فتغنشتين، 33-339.
[87]. Pitcher
[88]. جاب الله، فلسفة اللغة والمنطق: دراسة في فلسفة ستراوسن، 25-26.
[89]. tools
[90]. آير، المسائل الرئيسية في الفلسفة، 47.
[91]. م. ن، 62-68.
[92]. م. ن، 259.
[93]. فهمی زيدان، في فلسفة اللغة، 58.
[94]. فهمی زيدان، في النفس والجسد: بحث في الفلسفة المعاصرة، 156.
[95]. م. ن، 158.
[96]. أنظر على سبيل المثال:
الطباطبائي، نظرية الأفعال الكلامية بين فلاسفة اللغة المعاصرين والبلاغيين العرب.
الطباطبائي، رسائل في الإنشاء والاعتبار: تحقيقات تراثية في فلسفة اللسان والاجتماع.
وكذلك جهود د. عادل فاخوري (باللغة العربية) والشَّيخ د. صادق لاريجاني (باللغة الفارسية).