البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

التحليل السيميوطيقي للخطاب الأخلاقي «دراسة نقدية للأسس والآليات»

الباحث :  أ.د.نوال طه ياسين
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  36
السنة :  خريف 2024م / 1446هـ
تاريخ إضافة البحث :  February / 13 / 2025
عدد زيارات البحث :  197
تحميل  ( 606.458 KB )
الملخّص
يتناول هذا البحث عرضًا تفصيليا للأخلاق وفق المدرسة التحليلية وبالخصوص جانب تحليل الخطاب السيميوطيقي، حيث نستعرض معنى التحليل السيميوطيقي ومستوياته، البنائية والتداولية والتحليلية، ثم ننتقل إلى بيان ما يتوجه من نقد إلى هذا التيار التحليلي عبر بيان أوجه النقص فيه، سواء أكان النقص على المستوى المعرفي أم على المستوى الأخلاقي أو اللغوي، حيث وجدنا أن تناول فلسفة اللغة التحليلية الخطاب الأخلاقي جعل البحث في الاخلاق مختزلًا وفاقدًا للكثير من أبعاده القمية والمعرفية.

الكلمات المفتاحية: سيميوطيقا، الأخلاق، فلسفة اللغة، الفلسفة التحليلية

المقدمة
احتلت فلسفة اللغة مكانة مرموقة في مطلع القرن العشرين، وهو ما جعله قرن «الفلسفة التحليلية»، ولكن هل يُعد الارتهان لهذه المكانة كافياً لضمان استمرارها كفلسفة رئيسة قابلة للتداول؟ اتضح أن ما يحمي ديمومتها –بل ديمومة الفلسفة برمتها- هو مدى مواكبة بعض جوانبها للتقدم العلمي، لذلك بدا من العبث لدى فلاسفة التحليل، أن يفكروا في ظل أفكار فلاسفة عالجوا مشكلات تتعلق بحدود المعرفة في عصرهم، ولم يأخذ ذلك التفكير صيغة واحدة، إنما اتخذ صيغًا لغوية متعددة، من منطلق أن للعلوم الإنسانية والعلمية منهجها ومفاهيمها وقوانينها الخاصة، ومنها الأخلاق .
ومن الجدير بالذكر أن مسألة الأخلاق لديهم نوقشت بصورة قليلة في الكتابات الفلسفية من قبل الباحثين، في محاولة للكشف عن مسار السؤال الفلسفي لديهم، ففي الوقت الذي دأبوا على إثبات ريادتهم في المنعطف اللغوي الذي باتوا يعرفون به، أعرضوا عن العناية بملحقات الفلسفة الأخرى.
لم يُفرد فلاسفة التحليل قسمًا خاصًا لمناقشة قضايا الأخلاق، بل إنهم ناقشوها في ثنايا استبعادهم للميتافيزيقا، وهذا ما سنتعرض له بالنقد لاحقًا. وعلی رغم من أن اللغة وسيلة لتمثيل المعرفة، الا أن لغة الموضوعات الميتافيزيقية ومنها الأخلاق تمثل عقبة بالنسبة لفلاسفة التحليل في طريق اكتساب معرفتها ونقلها، الى الحد الذي يصبح فيه من المستحيل الحديث بوضوح وجلاء عن المعرفة من دون الاهتمام بطبيعة واستعمال ودلالة اللغة .
ومن هنا يبدو ان التحليل السيميوطيقي جزء لا يتجزّأ من فهم الأخلاق، واللغة تعبر عن هذا الجانب وتمثله فكرياً، باعتبار أنه - أي التحليل السيميوطيقي - تحليلٌ للخطاب الأخلاقي بجوانبه الثلاث (التفكير، الكلام، والفعل)، وهناك عدد بالغ الكثرة من الفلاسفة قبلوا بهذا الرأي.
ومن الأهمية بمكان الإشارة الى أن اللغة والأخلاق في هذه الدراسة ثنائيتان يفترض أحدهما الآخر، إذ تمثّل اللغة الأساس النظري، وتساهم في تشكيل وعي الإنسان بذاته أولاً وبالعالم ثانياً، أما الأخلاق، ففي بعديها النظري والعملي، والبعد الأول بالتحديد مثّل إجابات متنوعة قدّمها الفيلسوف عن السؤال الضارب في القدم في الفكر الأخلاقي (ما الخير؟)، وقد انعطف فلاسفة اللغة منذ بداية القرن العشرين ليتأملوا المفاهيم الواردة في النظريات الأخلاقية، ومن هنا تسعى هذه الدراسة للإجابة على أسئلة من قبيل :

كيف فكر فلاسفة التحليل في موضوع الأخلاق؟
كيف تؤثر اللغة على التفكير والقول الأخلاقي؟ وما تداعيات ذلك على السلوك؟
ما تداعيات حضور المنعطف اللغوي التحليلي على الأخلاق؟ وجواب هذا السؤال أدى إلى مفارقة تاريخية مثيرة للقلق، لأن الأخلاق تقع في مأزق عندما يتم تطبيق التحليل اللغوي عليها.
هل جميع المذاهب الأخلاقية ارتكزت على العقل؟ وإذا كان الجواب بالنفي، فما الأساس الآخر الذي ارتكزت عليه؟
وسيتم في هذه الدراسة تناول الأخلاق والخطاب الأخلاق في سياق الفلسفة التحليلية، ووصفه وتشريحه ومن ثم بيان أوجه الضعف والثغرات فيه، معتمدين على إطار نظري للنقد يتمثّل بالعقل الفلسفي الإسلامي والذي استعاد حيوتيه في الآونة الأخيرة عند تناول مثل هذه القضايا كما نجده عند أمثال العلامة محمد حسين الطباطبائي ومرتضى مطهري ومصباح اليزدي وغيرهم.

استهلال
شيّد الفلاسفة وبالخصوص في العالم الغربي الحديث أنساقًا فلسفية خاصة هيمنت على المشهد الفكري، وكانت كل تلك الأنساق بنات لبيئاتها، وبمعنى آخر، إن أغلب الفلسفات انطلقت من مشكلات بيئاتها، ومع سيادة العلم، اتضح أن كل تلك الأنساق بُنيت على شفا جرف هار، لأن أنساق العلم هي التي بدأت تسود، فبعد أن كان الفيلسوف يجلس ليتأمل ويدوّن أفكاره، أصبح يجلس لينتظر نتائج العلم، وهنا توكيد الهيمنة العلمية المعترف بإمكانيتها على وصف الحقائق الواقعية، وفي الوقت نفسه توكيد للقول بأن الفيلسوف فقد القدرة على التفكير الأصيل، وبنزعة كهذه لم يكن بالإمكان المزج بين الوقائع والقيم، إنها اللحظة التي تخلّى بها الفيلسوف عن دوره، وهو الاهتمام بالإنسان كإنسان.
إن كل ما تقدم قد يبرّر اعتقاد بعض الباحثين أن البحث الفلسفي الأخلاقي شهد بعد منتصف الخمسينات من القرن العشرين وقبلها بقليل انحسارًا لعقود عدة[2]، «ولم يكن ذلك الانحسار من فراغ، بل كان نتيجة إدراك فلاسفة اللغة أن الفلاسفة كافحوا طوال القرون الماضية لمعرفة الخير والشر لكنهم لم يحققوا نجاحًا، وهذا ما قاد إلى نشوء نوع جديد من الشك وُصف بـ (الفراغ الأخلاقي)، حين أعلن بعض الفلاسفة أننا لا يمكن أن نتحدث عن معرفة الأحكام المتعلقة بمعرفة الخير والشر، لأنها لا تمنحنا معرفة حينما نمتحنها»[3]، «ويعود سبب وجود الفراغ الأخلاقي، الى أننا نعيش في زمن أنمحت فيه المرجعيات التقليدية والأسس الأنطولوجية والميتافيزيقية والدينية للأخلاق، في الوقت الذي تسفر فيه أعمال الانسان عن کونها مليئة بالمجازفات، إنها العدمية، فكل المرجعيات أو معايير الإلزام تتبدد، بل حتى القيم العليا تخسر قيمتها، فما الذي يتيح لنا القول عن قانون ما، إنه عادل؟»[4].

ومن هنا بدأت الدهشة من المُثل الأخلاقية، لأن فلاسفة اللغة رفضوا شبكة مفاهيم وأفكار فلسفات القرون السابقة، وإذا كانت كل تلك المفاهيم تتبدّد فما البديل عنها؟ لذلك ارتأى بعض الفلاسفة تطبيق المناهج اللغوية على الدراسات الأخلاقية، فكان من بينها منهج التحليل اللغوي، لاعتقادهم أن عدم التزام الأفراد في المبادئ الأخلاقية يعود إلى عدم التفكير الجدي في معناها .

أولاً: الفلسفة واللغة والأخلاق عند التحليليين
حين طرح فلاسفة اللغة سؤال «ما الفلسفة» لتحديد معناها ووظيفتها في القرن العشرين، وقفوا موقفًا واضحًا، فقالوا: «ان الفلسفة ما هي الا معركة ضد بلبلة تفكيرنا بوساطة اللغة»[5]، ومن هذا المنطلق بالإمكان تحديد وظيفة الفلسفة وموضوعها بالقول: «إن وظيفة الفلسفة هي دراسة اللغة، فالمشكلات الفلسفية تنشأ من سوء فهم استعمال الكلمات ضمن السياق الذي تَرِدُ فيه ليس إلا»[6]، لذلك ما زال للفيلسوف وظيفة مفيدة يمكن أن يؤديها في تحليل المفاهيم التي تظهر في الاستعمال اليومي، وفي الاستعمال العلمي للغة، إلا أن الاستعمال الأخير هو الأهم، وهذه العبارات سيتم تنقيتها بوساطة التحليل المنطقي[7]، لكن إذا أصبحت وظيفة الفلسفة هي التحليل اللغوي، وهذا التحليل لا بدّ أن يشتغل على نص ما تجسِّده اللغة، فما اللغة وما وظيفتها؟

بناءً على ما تقدم يتضح أن فلاسفة التحليل وضعوا ثنائيتین، يفترض أحدهما الآخر هما الفلسفة واللغة، وإذ كانت الفلسفة تحليلاً للغة، إذن ينبغي تحديد معنى اللغة ووظيفتها؟ أهي اللغة المثالية؟ أم اللغة العادية؟
في البدء ينبغي الإشارة إلى أن هناك تفاوتًا في دور الفلاسفة لتفعيل التحليل اللغوي، وذلك يعود الى «أن ما يُعد فلسفة تحليلية واسع النطاق، إذ يوجد خلاف خطير بين فلاسفة التحليل، ليس على جماليات فنية، وإنما على طريقة التحليل والغرض منه»[8].
ويبدو أن الاختلاف يقع على نوع اللغة، بمعنى أن هناك من الاتجاهات ما ركز على تحليل اللغة الرمزية (الاصطناعية)، ومنها ما ركّز على تحليل اللغة العادية، ومن هذا المنطلق رفضوا النظرة التأملية للواقع، أو معنى الحياة؛ لأنهم يعتقدون أنه ليس لأحد أن يشرح اللغة التي لا يمكن توضيحها، ولذلك أنزلوا جام غضبهم على الفلسفات التي تخبر الناس كيف ينبغي أن يتصرفوا[9]؛ ولذلك عرّفوا اللغة بأنها نشاطٌ منطقيٌ بحت، وبأنها الوعاء الذي يحوي المعتقدات التي نستعملها للتواصل في الحياة اليومي، وتحليل التواصل اللغوي يعتمد على مبادئ علم النفس[10].

إذًا، هناك تمیيز حاسم بين نوعين للغة، وضعه فلاسفة التحليل وتشبّث به الفلاسفة الوضعيون المنطقيون، هما اللغة المثالية واللغة العادية وعلى أساسه ميّزوا بين وظيفتين رئيستين للغة:
الأولى (الوظيفة المعرفية): تستعمل اللغة فيها كأداة لرسم وقائع وأشياء موجودة وتصویرها في العالم الخارجي، وهو تأكيد على الوظيفة التصويرية للغة، فبُنية اللغة يجب أن تلتقط صورة للعالم، التي قد تكون صحيحة أو غير صحيحة لتمثيل الحقائق، ومن دونها أي- الصورة- لن يكون هناك تمثيلٌ على الإطلاق، مثل العبارات والقضايا العلمية .

الثانية (الوظيفة الانفعالية): في بعض الأحيان يستعمل الإنسان اللغة للتعبير عن الانفعالات التي تجول في نفسه كالشاعر مثلًا، مما يستحيل على غيره أن يتحقق منها، لأنه شعور ذاتي خاص به، كشعوره بالجمال، ويدخل في اطار هذه الوظيفة استعمالات معينة وتتمثل في العبارات التي تعالج مسائل الأخلاق والميتافيزيقا والجمال، وقد حذفوا هذه العبارات بحجة أننا لا نجد لها في العالم الخارجي وقائع في العالم تتطابق معها.
ثم إن مشكلة المعنى تظهر أيضًا في السياق نفسه لتأسيس فلسفة اللغة أو الفلسفة المبنية على التحليل اللغوي، ولعلّ أحد أهم مشكلات الفلسفة التأملية، هي محاولة دمج العالم في بنائها النظري، وجعله مصدراً لرؤيتها للعالم. وفلاسفة اللغة عندما تناولوا موضوع الفلسفة بوصفه موضوعًا لغويً الطابع، عالجوا هذه المشكلة بوساطة المعنى، وبذلك بدت القضية الرئيسية الفلسفية في القرن العشرين هي –الى حد كبير- قضية المعنی.

ولكي يناقش الفلاسفة التحليليون معنى المفاهيم على نحو أدق، ومن أجل وإلقاء الضوء على بعض الأسئلة العويصة المتعلقة باستعمال اللغة، انطلقوا من تقسيمهم للقضايا في فلسفة اللغة إلی تلك التي تنطوي على معنى معرفي والأخرى، التي لا تنطوي على ذلك المعنى، فجعلوا من التمييز بين القضايا التحليلية والقضايا التركيبية مقدمة ضرورية لكل بحث فلسفي.
وهنا يبرز دور المنطق في التحقق فيما إذا كانت قضية ما صادقة أو كاذبة على أساس معاني حدود القضية، وهذا ما أطلق عليه كانط اسم الحكم التحليلي وصحتها صورية بحتة، إذ تعتمد اعتمادًا كليًا على معنى الإشارات التي تتضمنها الجمل، أما القضايا التركيبية فإنها تنطوي على مضمون واقعي لأنها تخبرنا بشيء ما عن طبيعة العالم الواقعي[11]، والقول الذي لا يندرج في ضمن هاتين الفئتين يُعد نداءً انفعاليًا، ولا يحمل أي دلالة معرفية، كالعبارات الميتافيزيقية والعبارات التي لا يرتبط صدقها أو كذبها بالملاحظة التجريبية وتُرفض لأنها تخلو من المعنى الواقعي[12].

وبناءً على تقسيمهم لأنواع اللغة ووظائفها بالإمكان تقسيم أنواع المعنى إلى:
المعنى الوصفي: يُعرف بأنه استعداد المفهوم لتمثيل المعرفة والتأثير في (الإدراك)[13]، ويُعدّ مبدأ التحقق من أهم الوسائل للتعامل مع هذا النوع من المعنى، وقد أوجزه شلك بقوله: «إن معنى القضية هو نهج التحقق منها»، ولهذا المبدأ مترتبتان، مفاد الأولى أن كل ما لا يقبل التحقق بالملاحظة يفتقر إلى المعنى، أما مفاد الثانية هو أن ما تعنيه القضية قابل للوصف عبر تحديد ما يمكن التحقق منها، على هذا النحو يتم رد كل القضايا إلى قضايا الملاحظة المباشرة[14].

المعنى الانفعالي: إن البحث الفلسفي أضحى أكثر انشغالاً بالانفعالات، لأنها تتعلق بوظائف اللغة وتعدد المعنى، على وفق النظرية الانفعالية في اللغة وخاصة فلاسفة اللغة . وهذا النوع من المعنى يميل إلى (التعبير عن انفعال) و(استحضار انفعال)، ويُعرف بأنه: «ميل الكلمة الناشئ من تاريخ استعمالها لإنتاج ردود أفعال مؤثرة لدى الناس، وهو الهالة التي تلازم الشعور وتحوم حول الكلمة. وهذه الميول التي تُنتج ردود أفعال مؤثرة ترتبط بالكلمات بشكل عنيد جدًا»[15]، وهذه القوة تكتسبها الكلمات من تاريخها في حالاتها الانفعالية، وبشكل بسيط هو نوع من التعجب، وبصورة أكثر تعقيدًا يتمظهر في الشعر ويتجلّى في مفاهيم اللغة العادية وهي المفاهيم الأخلاقية[16].
ويتحدد معنى الكلمات من خلال الميل[17] أو الاستعدادات[18]المرتبطة بها. وهذا الميل ينبغي أن يكون موجوداً مع كل من يتكلّم اللغة، وقابلاً للتحقق مع الظروف المصاحبة للكلمات المنطوقة[19]. والمفتاح المُعطى لحل لغز فاعلية المعنى الانفعالي من خلال كلمة القوة[20]، وهذا المصطلح معروف عند لوك، إذ يعطي مساحة لخاصية الاستعدادات، ويقُود إلى فهم أفضل للمعنى بصورة عامة وللمعنى الانفعالي بصورة خاصة[21]، وهذا يعني أن استعمال الكلمات كما لو كانت ثابتة في معناها، يعدّ موقفًا غير مناسب في التعامل مع القضايا .

إلى هنا نكون قد بيّنا الفلسفة وحقيقتها وعلاقتها باللغة، وأما موقف الفلسفة التحليلية اللغوية من الأخلاق، فقد ارتاب بعض الفلاسفة التحليليين من اختبار الخطاب الأخلاقي فيما لو كان يحمل دلالة معرفية، وهذا الموقف دفع العديد من فلاسفة الأخلاق لأن يتخلّوا عن القضايا المعيارية، مما أدى إلى تعطيل إصدار الأحكام الأخلاقية لصالح البحث في مسائل الدلالة اللغوية، والانشغال بالتحليل الأخلاقي، وتوضيح العبارات، بدلاً من وضع المعايير الأخلاقية . وأن تنجح فلسفة اللغة بهذه المهام أصبح هو السؤال المهم
ومن الأهمية بمكان الإشارة الى أن فلاسفة اللغة اختلفوا في إمكان المعرفة الأخلاقية، بل ما هو أبعد من ذلك تساءلوا هل تعدّ موضوعًا قابلًا للمعرفة أم لا؟ وليس هذا وحسب، بل إن أخلاقيات مهنة التفلسف، ومنها «النزاهة» تحتّم على الفيلسوف أن يتحقق من معنى المعايير الأخلاقية كونها صادقة أو كاذبة لتحسين السلوك الانساني، وإن لم يقم بذلك سيكون مذنبًا بنوع من الغش، ويضيق نطاق التأمل الفلسفي تضييقًا يجعل من الفلسفة مجالاً تافهًا[22].
وربما هذا ما جعل فتغنشتين يعتقد أن الفلاسفة الذين حاولوا الكتابة عن الأخلاق ابتعدوا عن حدود اللغة، فالأخلاق بقدر ما تنبع من الرغبة في أن يكون هناك معنى للخير المطلق، إلا أن المطلق لا يمكن أن يقيم، ولا يصلح أن يكون علمًا، وما يقوله لا يضيف شيئًا إلى معرفتنا[23]، وبالإمكان تفسير موقفهم هذا لأنهم يتعاملون مع الانسان وكأنه مادة من المواد التي تؤلف العالم، والمادة اللاواعية لا تحتوي على الحق والباطل، ولا على معتقدات وأحكام، وهذا يعني أن مجال القيم الأخلاقية يمثّل إشكالية كلما تعلق الأمر بطبيعة مواضيعه وطريقة معرفتها، وإشكاليته تبدأ من الغموض الذي يكتنف معنى كلمة (أخلاق)[24]، وعند تتبع المنظومة الأخلاقية في مؤلفات الفلاسفة يتضح أنها ليست من طبيعة واحدة، فكل نظام يرنو الى غاية معينة مثل:

إدراك مستوى أسمى للتقويم الخلقي بالبصيرة الخفية .
الحث على الفضيلة الخلقية والتربية والدعاية -الوعظ- الأخلاقية.
الدراسة التجريبية للتقويمات الأخلاقية الواقعية، سواء أكانت وصفية أم تفسيرية.
هي فرع من العلم التطبيقي يتعلق بتبين وسائل (القيم الوسيلية) فيما يتعلق ببعض الغايات (القيم النهائية) .
إمكانية تعريف المفاهيم، فالفلسفة الأخلاقية التي اقتصرت على نشاط التحليل، ومهمتها إعطاء تحليل للمفاهيم[25]، والتحليل يكون إما بالطريقة السقراطية الجدلية وإما بابتكار نسق استنباطي للمعايير الأخلاقية[26].
وبالتأكيد من وجهة نظرهم ليس من مهام فيلسوف الأخلاق أن يصدر أحكامًا أخلاقية، أو أن يُخبر الناس ما ينبغي عليهم فعله، وعلى الرغم من أنه حُر في إصدار أحكامًا تقويمية كأي شخص آخر، إلا أن مهنته لا تعطيه الحق في أن يفرض معاييره أو أن يستمع إليه الناس استماعًا خاصًا[27]، فمهمته «صياغة المفهوم، وهنا ينبغي الاعتراف بأن الأخلاق هي فرع من (فلسفة اللغة)، ربما يكون الفرع الذي انشقت منه، والتعريف سيكون مقدمة لعلم الأخلاق»[28].

ويعلل براندت السبب في إصرار فلاسفة التحليل على العناية بمعنى المفهوم الأخلاقي، لأنهم يعتقدون أن الفاعل الأخلاقي لا يدرك معنى مفاهيمه الأخلاقية، وآية ذلك عدم قدرته على وصف استعماله الخاص، فهو يعني شيئًا محددًا عن الخير، لكن ما يؤديه من أفعال بوساطة استعماله للمفهوم مغاير، ويمكن العثور على ما يعنيه بمفاهيمه، بعون من ملاحظة طريقة التعبير التي تصاحب كلماته، ويمكن لهذه الملاحظات اختبار ما يعنيه بمفاهيمه الأخلاقية وبالتالي، بالإمكان الحديث عن المعنى الانفعالي ورسم استنتاجات تحليلية حول المبادئ الأخلاقية[29].

ولكن هل من المنطقي أن تستنزف مهمة الفيلسوف في تحديد معنى المفهوم الأخلاقي، وكأن المفهوم لو لم يعرفه الفيلسوف سلفًا، فإن الفاعل لن يستطع أن يعرف معناه؟ وهل من المعقول أن تحدد مهمة علم الأخلاق في صياغة تعاريف للمفاهيم فحسب؟ حتى النبي الذي يُبعث يبشّر بالقيم ويتممها لا ينتج مفهومًا جديدًا للأخلاق، ولكنه يؤكد على أن هناك من الوسائل ما سيؤدي إلى تطبيقه بشكل أفضل .

ثانيًا: التحليل السيميوطيقي للرموز الأخلاقية
صحيح أن التحليليين رفضوا التعامل مع فلسفة الأخلاق المعيارية بوصفها أخلاقًا ميتافيزيقية، إلا أنهم وافقوا الاشتغال في فلسفة الأخلاق بشرط أن تعمل على التحليل المنطقي للعبارات اللغوية، ولما كانت التركيبات اللغوية التي يهتم بها فلاسفة اللغة هي ما يقوله علم الأخلاق عن قضاياه، إذن بالإمكان القول إن الفلسفة منطق للأخلاق، لأن الفلسفة ما هي إلا تحليل منطقي للغة .

ومن الواجب القول إن النظر في الرمز[30] يعدّ من موضوعات علم الاجتماع وفقه اللغة، ولكنه في الوقت نفسه يثير عدداً من المشكلات الفلسفية، نظرًا إلى الاعتماد المتبادل بين العلوم[31]. وعلى الرغم من أن لكل لغة رموزها الخاصة، إلا أنه ينبغي أن تكون هناك إمكانية منطقية لتحليلها؛ لذلك ليس المهم إن كانت البيانات التي يتم التعبير عنها في لغة ما، تُشير إلى الخبرات الخاصة بأصحابها، أو إلى أشياء يمكن ملاحظتها علنًا، فالأهم من ذلك امكانية اختبارها وفهمها[32].
وهنا لا ينبغي التقليل من دور فيلسوف التحليل على ما يقدمه من نفع وهو يقوم بالتحليل المنطقي الذي يقضي على الخلط والتشویش، وهو بكل هذا يحتلّ مكانًا أساسيًا لا غنى عنه بوصفه مرشدًا للبشرية[33]، إذ وجد رسل أننا نستعمل الكلمات استعمالًا لا تحفظ فيه، فلو بحثنا طرائق استعمالها أمكننا أن نصل بالطريقة الاستقرائية إلى ما يطابق استعمالها بشكل أفضل، وهذا يتطلب معرفة كيف يستعمل الناس الكلمات التي نحن بصدد البحث في معانيها، لكننا إذا ما فرغنا من بحثنا ألفينا أنفسنا قد كشفنا عن حقائق لغوية لا عن حقائق أخلاقية[34].

وعدم التمييز بين تلك المعاني قاد الناس إلى «الاعتقاد أنهم حين يستعملون المفاهيم الأخلاقية لديها معنى بالفعل، إلا أنها لا تحمل أية دلالة، فمثلهم كمثل السائح الذي يُقلد العبارات التي يسمعها، الا أنه لا يعرف معناها بدقة»[35]، لذلك من يتخذ خط التحليلية في الأخلاق سيُدقق النظر في المفاهيم الأخلاقية، بوصفها مفاهيمً رئيسة في الأخلاق كمفاهيم اللذة، الخير، ينبغي، ويجب ومن الضروري الاشارة إلى الاختلافات بين استعمالها المفترض واستعمالها الفعلي[36]، وهو ما يهدف اليه التحليل السيميوطيقي؛ إذ سيكشف عن تلك الاختلافات بناءً على مستويات التحليل الثلاث:

أ-المستوى الأول التحليل البنائي
«يُعنى هذا المستوى[37] من التحليل بصورة اللغة (الكلمة والعبارة)، فمن خلال المفاهيم بوصفها رموزًا يتم بناء العبارة، أي أنه يهتم بتحديد العلاقات التي تقوم بين الكلمات التي تشترك في بناء الجملة الواحدة، فضلاً عن وضع التعاريف أو مرادفة تعريف بآخر، فالبحث البنائي ينصرف الى البناء اللفظي للغة»[38].
وبناء على ما تقدم «تهتم فلسفة الأخلاق بالطريقة التي تُبنى بها جمل تقويم الأفعال؛ إذ تخضع المعايير الأخلاقية للتحليل، ذلك أن الفلاسفة يضعونها، ولا يتوانون في الوقت نفسه عن التشكيك بها؟ ولذلك تكمن أهميتها الفلسفية في تحليلها»[39]. وعلى وفق ذلك فإن علم الأخلاق إن كان معنيًا بشيء، فهو معني بصياغة نسق صحيح للأخلاق، فلا معنى لسؤال: أي نظام أخلاقي يعدّ صحيحًا؟ لأن ما يمكن السؤال عنه هل هذا النظام متناسق أم لا؟[40]، وبما أن مجال الفلسفة الأخلاقية هو تقديم التعاريف وذلك بإعطاء تحليل مفاهيمي، نجد أن الفلاسفة اهتموا منذ زمن طويل بمفهوم الخير[41]، باعتبار أنه المفهوم الرئيس في فلسفة الأخلاق، إلا أن مفهوم الخير غير قابل للتحليل[42]، فعندما يقول الإنسان «هذا خير» في الظاهر يبدو أنه يستعمل أسلوبًا تقريريًا، كقوله (هذا مربع)[43]، لكن لفظ خير لا يصف، ولا يخبر بشيء، ومن ثم فهو لا يدل على تصديق أو تكذيب[44]، وذلك يعود لأسباب عدة بالنسبة إلى فلاسفة اللغة التحليليين:

إما لأنه مفهوم لا يناظره شيء في العالم الخارجي. أو لأنه مفهوم زائف.
وما ينطبق على مفهوم الخير ينطبق على المفاهيم الأخلاقية الأخرى، ولكن إذا لم يكن بالإمكان تعريف المفاهيم تعريفًا لفظيًا للأسباب الواردة أعلاه، فبالإمكان اعتماد نمط آخر من التعريف، وهو ما سعى إليه بعض الفلاسفة، وذلك بمرادفتها بعبارة أخرى، فعبارة (هذا خير) مرادفة لعبارة (أنا أوافق على هذا)، وبالمقابل تمثل حث المتحدث للمستمع (افعل هذا بالمثل)[45]، وهو تفريق بين صياغة اقرار المعيار واقرار الحكم القيمي، فالمعيار يعبر عنه بصيغة الأمر(لا تقتل) والحكم المرادف للأمر السابق سيكون حكم قيمة (القتل شر)، إلا أن هناك فرقًا بين الصياغتين، فالمعيار له من وجهة النحو صيغة الأمر، فهو جملة انشائية، أما جملة القيمة فتعبّر عن رغبة ولها من الناحية النحوية شكل الجملة الخبرية[46]، والمقارنة هنا معنية بالبحث الصوري للجملة فيما إذا كانت إنشائية أم خبرية .
وما قيل عن تلك المفاهيم ينطبق على مفهوم الواجب، «فالعديد من الكتاب الأخلاقيين يعتقدون أن مفاهيم مثل يجب[47]، واجب[48]، إلزام[49] غير قابلة للتحليل، بمعنى أنه لا يمكن تعريفها تعريفاً لفظياً»[50]، لأن مرونة اللغة الأخلاقية، تجعل منها ذات طابع انفعالي متميز، إلا أن هناك بعض الفروق، مفهوم (يجب) العديد من الاستعمالات غير الأخلاقية، في حين أن مفاهيم الإلزام والواجب عادة ما تقتصر على مجال الأخلاق[51]، فعبارة (يجب أن تفعل ذلك) تفسر (أني أحبذ أن تفعل ذلك)، والتظاهر بالموضوعية في العبارة الأولى الهدف منها إضفاء السلطة على الرغبات[52]، وهذا التحليل يدل على أن التفكير هو الذي يشرع ما ينبغي على الناس أن يفعلوه، ولكنهم في الواقع لا يرغبون لإدائها[53]، وهكذا ننظر إلى الفعل الإرادي على إنه فعل ثانوي، أي استجابة لأمر تصدره سلطة عليا، أما ماهية هذه السلطة فهذا ما لا نعرفه[54].

وهذا يعني أن الأخلاق عند التحليليين لا تقوم على السلطة، سواء أكانت بشرية (علمانية) أو إلهية (دينية)، وهو ما يؤدي إلى انعدام الأسس المطلقة للأخلاق، إلا أنهم وضعوا سلطة أخرى تقوم عليها، إنها (سلطة اللغة)، فاللغة مهما كان نوعها –حتى المعرفية-، فإنها تخفي وراءها لغة صامته تتمتع بإمكانية النفوذ في الآخرين والتأثير فيهم.
على الرغم من أهمية دراسة صورة الحكم الأخلاقي إلا أنه لا يخلو من مثالب، فدراستهم لصورة العبارة الأخلاقية بهذا التجريد جعلتهم يعتقدون أن الحكم الاخلاقي يحمل صيغة إنشائية وحسب، هذه الدعوة الأخيرة يترتّب عليها أن القيمة الخلقية متوقفة على الأمر، ولذلك لا معنى لها، وبناءً على ذلك لا يبقى مبررًا للبحث في المسائل الأخلاقية[55]، فضلًا عن أن الاختلاف في صيغة التعبير الأخلاقي بين إنشائية وإخبارية، واعتبار الصيغة الإنشائية غير مقومة للحكم الخلقي، بل يكون صحيحًا في حال التعبير عنه بصيغة اخبارية، بيد أن هذا الاختلاف في الصيغ يرجع إلى تفنن الذهن في أساليبه[56]، ولا يعدُ سببًا لخروج القضايا الإنشائية من قائمة الأحكام الأخلاقية، وإذا كان الهدف من البحث في الطريقة التي تُبنى بها الجملة الأخلاقية، هو دراسة صورتها من دون مدلولاتها، فان هذا لا يضمن موضوعية البحث ودقّته فضلًا عن أنه يجعل من استعمال مفاهيم الصواب والخطأ غير ضروري، بل حتى مشكلة معنى المفهوم تتلاشى، لذلك البحث اللغوي للأخلاق ليس بالإمكان أن يكتمل إلا إذا تحوّل البحث من عالم التصورات إلى عالم الأشياء، وهنا تظهر مشكلة أخرى العلاقة بين عالم التصورات (الفكر والمعنى) وبين عالم الواقع.

ب-المستوى الثاني التحليل الدلالي
إن السيمانطيقا[57] من حيث هو بحث في دلالات الألفاظ على معانيها الدراسات التي تترجم لغة الأشياء إلى لغة شارحة، وبعبارة أبسط إنه دراسة العلاقات بين الرمز والشيء الذي يرمز اليه صراحة أو ضمنا خارج حدود اللغة، فإن وصفت الجملة الواقع، كانت العلاقة بين الجملة ومدلولها الخارجي علاقة سيمانطيقية، ويتناول هذا التحليل كيفية الدلالة التي تكون الألفاظ، والبحث في الاستنباط المنطقي، أي كيف نستنبط قضية صادقة من أخرى صادقة، فضلًا عن البحث في معنى الصدق[58] .

إن ضرورة وجود هذا المستوى من التحليل ليس من أجل تطوير دراسة اللغة لذاتها فحسب، بل من أجل تجاوز اللغة إلى الواقع، سواءً أكان ذلك في مجال العلم أم في مجال الحياة اليومية، فالتمييز الذي أقامه كارناب بين الطريقة الصورية والمادية أثار الانتباه إلى أن العديد من القضايا التي تتحدث عن اللغة[59]؛ لأن اختزال المفاهيم في شكل تعاريف واضحة لا يمكن أن يتحقق، وكذلك الحال بالنسبة للجمل التي ليس بالإمكان ترجمتها إلى جمل الخواص الفيزيائية الملحوظة للأشياء، لا تعتبر صحيحة و خاطئة على أساس ملاحظات معينة، وهكذا أصبح بالإمكان تحليل الأخلاق دلالياً من حيث إنها بحث بما تدل عليه الألفاظ والعبارات على معانيها. وهنا يبرز دور الانفعال في تحديد معنى المفهوم، فوجدت الانفعالية أن الأفراد يسقطون على العالم صفات ليست موجودة فيه، بل توجد في تعبيراتهم الأخلاقية، وإذا تم تحليلها دلاليًا سيكون هناك فهم أفضل للغة الأخلاق، فرأت «أن وجود رمز أخلاقي في الجملة لا يضيف شيئاً إلى محتواها الواقعي، فإذا قلت لشخص (أنت تصرّفت خطأً في سرقة هذه الأموال)، فالمتكلم لا يُفيد أي شيء أكثر مما لو كان يقول (لقد سرقت تلك الأموال) وفي إضافة المتكلم (خطأ)، ولم يفعل شيئًا سوى أنه قال (لقد سرقت هذه الأموال)، في لغة انفعالية (نبرة من الرعب)، أو من خلال الكتابة مع إضافة بعض علامات التعجب»[60]، وهكذا يظهر التحليل المنطقي للأحكام الأخلاقية أنها تتعلق بحالات للتعبير عنها بالاستثارة الانفعالية. وفي استعمال بعض المفاهيم مثل ينبغي، واجب، يكمن عنصر التوجيه، فتحليل القاعدة الذهبية (عامل الناس بما تحب أن يعاملوك) تكمن قوّتها في دعوتها الانفعالية، وليس بالإمكان استنباط معرفتها من الوقائع، وبالتالي لا تخضع هذه القاعدة للصدق ولا للكذب، لأنها دعوة، إيحاء، اقتراح، تحريض، أو أمر[61]، أما مفهوم (حق) كما عرفهُ بنثام «كل شيء يفضي إلى أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس»، فهذا التعريف لا يقدّم معنى وصفيًا؛ ولذلك يعدّ سبباً يؤخذ عليه للخروج من قائمة المفاهيم الأخلاقية، إذا بقي مفهوم(حق) يحتفظ بالقوة الانفعالية، لأنها تبقی توحي بأن ما هو حق هو ما ينبغي فعله، والتعريف يهدف إلى هذا بوضوح، والدليل على ذلك أن الأعمال التي ستُقيم، بالإشادة أو اللوم بمقدار اقترابها أو ابتعادها عن هذه الغاية، وهذا البيان ليس بياناً واقعياً، لكنه توجيه، يساوي بين كلمة خطأ مع (ما لا يؤدي إلى السعادة البشرية ولذلك ينبغي تجنّبه)[62].

وكذلك الحال بالنسبة للجمل التي يرد بها مفهوم الواجب مثل (من الواجب عليك قول الحقيقة) تُعبّر عن الشعور الأخلاقي نحو الصدق وكتعبير عن الأمر (قُل الحقيقة)، والجملة: (يجب عليك أن تقول الحقيقة) تنطوي أيضاً على الأمر: (قُل الحقيقة)، وتبدو لهجة الأمر هنا أقل تأكيدًا، فيما أصبح الأمر في الجملة (إنه لأمر جيد أن تقول الحقيقة) مجرد اقتراح[63].

ويتّضح الفارق بين الجمل المعرفية وبين الجمل الانفعالية في كيفية الإجابة عنها، فاذا قيل جملة معرفية وتمّت الموافقة عليها فالإجابة تكون بنعم، أما إذا قيل (إن البخل رذيلة) فإنه يعبر عن موقف انفعالي من خلال القول فهذا صحيح، والقصد هو التوجيه والتعبير عن الإرادة وترادف عبارة (وددت لو لم يكن هناك بخل)، فالرد الإيجابي على التوجيه ليس تأكيداً من النوع المعرفي، وإنما هو يتألف من فعل إرادي ثانٍ يعبّر عن تصريح يوضح أن المستمع يشارك المتحدث رغبته، والتوجيه الأخلاقي هو أمر، وقوته هي القوة الدافعة لكل تطور أخلاقي، من خلال الاحتكاك بين الإرادات والرغبات، وهذه القوة تقوم بدور رئيس في تغيير التقويمات الأخلاقية في تأكيد رغبات المرء أمام رغبات الآخرين، ذلک من خلال صور القوة، ومنها صورة قوة الكلمة المنطوقة والمكتوبة[64].

ج-المستوى الثالث التحليل التداولي
يمثّل التحليل التداولي[65] المستوى الأخير من مستويات التحليل، ومعه أصبح من المشروع البحث في المفهوم والعبارة الأخلاقية من حيث علاقتهما بالمتكلم واختبارها تجريبيًا . والبحث في الرموز اللغوية، هو بحث في صورة من صور السلوك البشري، وفي العلاقة بين الجملة ومدلولها الخارجي، وتأخذ بنظر الاعتبار (فعل المتكلم، سلوكه، بيئته)[66].

والسؤال الذي يُطرح الآن ما الذي يجعل العبارة عبارة تجريبية؟ هل لأنها تستعمل للإشارة لتجربة ما[67]، يوظّف فيلسوف اللغة هذا التحليل ليثبت أن البيانات الأخلاقية، وإن كانت صحيحة اجتماعيًا، إلا أن طريقة استعمالها غير صحيحة منطقيًا، فعندما ينظر الفرد إلى كيفية استعمال البيانات الأخلاقية في الواقع التجريبي، يكتشف بأنها تطبّق بشكل مختلف جدًا[68]، وهذا يعني أن الغرض من التحليل هنا هو تزويدنا بوصفة تُمكّننا من ترجمة الجمل إلى واقع تجريبي[69]، والقضايا التجريبية تضم مفاهيمَ تركيبية، والقضايا التركيبية هي قضايا القيمة المشروطة أو هي القضايا التي أطلق عليها فايجل اسم القضايا الوسيلية، التي ينتج عنها نفع، إذ قال «ان القيم الوسيلية لها معنى واقعي، وبالإمكان إثباتها بالتجربة، وهنا يكون لمسائل الصدق والكذب معنى محدد»[70].

وفي هذا النوع من التحليل يطرح السؤال التالي: هل يعدّ وجود الانفعالات شرطًا كافيًا لصواب الحكم الأخلاقي؟ وجواب ذلك (كلا) لأن صلاحيتها ينبغي أن تكون محسوبة تجريبياً[71]. وبناء فالأحكام الأخلاقية ليست صحيحة أو خاطئة، لأنها ذات صلة بانفعالات المتكلم وحسب، بل تكون كذلك إن كانت ذات صلة بانفعالات المجتمع، وهو أمر بالإمكان التحقق منه تجريبياً[72]، فعلى سبيل المثال مفهوم (ينبغي) الزامي الطابع وبالتالي إنه انعكاسي الإشارة، وهذا المعنى للمفهوم ينتقل من المقدمات إلى النتائج، وكلمة ينبغي بمعناها اللزومي تصبح في هذه الحالة مفهومًا أخلاقيًا، ومثال ذلك أننا نقول (ينبغي على الدولة أن تفتح الباب للمهاجرين)، ومعنى ذلك إن فتح الدولة باب الهجرة هو الوسيلة التي تضمن مساعدتهم، وهذا يوضح أن مفهوم (ينبغي) بالمعنى اللزومي يمكن إرجاعه إلى استعمال المفهوم بالمعنى الإرادي، الذي يتضمن مشاركة الاعتقاد بين الطرفين، وإذا لم تتحقق هذه المشاركة فقدت الكلمة طابعها الأخلاقي، وهذا المعنى الانعكاسي يمثل أساسًا لا غنى عنه في التحليل اللغوي للأخلاق[73] .
وعند تعقّب النظريات الفلسفية كنظرية الواجب لكانط والنظريات الأخلاقية الأخرى بمنهج التحقيق المتّبع في العلوم الاجتماعية، يظهر أن من الأسباب الرئيسة للسلوك الأخلاقي هو الخوف الواعي أو اللاواعي من عداء المجتمع، ولهذا تطرح المبادئ الأخلاقية نفسها كأوامر قاطعة، بل يتحدد الرمز الأخلاقي للمجتمع جزئياً من معتقداته، فالمجتمع يميل إلى تشجيع أو تثبيط السلوك باستخدام العقوبات الأخلاقية، لذلك ينظر إلى المبادئ الأخلاقية ولا سيما نظرية كانط، لها قوة أمرية لا ترحم[74]، وقد عرف الفلاسفة الأخلاقيون الذاتيون خيرية صواب الأفعال بمفهوم اللذة الفردية، أما النفعيون عرّفوها بمفهوم المنفعة العامة، من حيث اللذة، السعادة، والرضی، الناتج عنها[75]. وهذا يعني ان الأشياء ذات قيمة إن كانت تزيد من السعادة البشرية مثلاً.

وبناءً على ما تقدم يمكن القول أن الأحكام الأخلاقية (خاطئة)[76] بدلاً من (كاذب[77] (، لكي لا تصبح كل الأحكام مقبولة أو مرفوضة على حد سواء[78]؛ لأن ما يعطي الحكم الأخلاقي تصنيفًا واقعيًا للأفعال إن تكون صلاحية بيانه مسألة تجريبية للواقع، كالفرد الذي هو على قناعة أن العمل الصواب هو العمل الذي يميل إلى تعزيز السعادة العامة، لأنه ينتمي إلى الأفعال التي تسعى لأثارة موقفًا أخلاقيًا معينًا، وان كانت هناك إشارة إلى وظيفة ما، فهي إشارة إلى الوظيفة الاجتماعية للغة والمعنى، «فالإقناع يمثّل ظاهرة اجتماعية، والتأثير الأكثر نفوذاً يأتي من نفوذ المفاهيم لا من خلال المكافأة المادية والجزاء البدني»[79].

وهذا النمط من التحليل بالإمكان تطبيقه على المفاهيم الأخلاقية الأخرى- وأخرى غير أخلاقية- مع اختلافات طفيفة مثل «السرقة خطأ = السرقة تساهم في التنافر الاجتماعي»[80] .
وفي هذه الحالات تعبر المفاهيم عن البيان الوصفي وفي الوقت نفسه تستعمل للتعبير عن البيان المعياري، وهذا يفسر سبب وجود عددٍ كبيرٍ من البيانات التي يتم إصدارها تكون معيارية وواقعية في آن واحد، ذلك ان المفهوم الأخلاقي يكون محكومًا بتطبيقه، وهذا يعني وجود العديد من التصريحات التي تستعمل المفهوم الأخلاقي بطريقة معيارية من النوع الذي تقصده النظرية الانفعالية في الأخلاق من أجل التطبيق[81].

يتضح مما تقدم إن هذه «النظرية تُعنى بالظروف التي يتم بها استعمال المفاهيم الأخلاقية في الواقع، وبهذه الصورة تعدّ المفاهيم الأخلاقية أدوات تستعمل في تبادل التفاعل، وإعادة تعديل المنافع البشرية، فالناس في المجتمعات المتعددة لهم مواقف أخلاقية مختلفة لإنهم يخضعون لتأثيرات اجتماعية مختلفة، أما المجتمع الواحد، فهناك تشابه أكبر في المواقف الأخلاقية أكثر مما هو عليه في المجتمعات المختلفة، فتتوالد الأحكام الأخلاقية من ذاتها، وهذا التأثير لا يمارس دوره من خلال الأحجار والأعواد، بل بوساطة المفاهيم، إذ تؤدي دورًا في ذلك، فالناس يمدحون بعضهم بعضًا للتشجيع على الميول الإيجابية، ويلقون اللوم على بعضهم لثنيهم عن الميول السلبية»[82] .
يتضح مما تقدم أن الهدف من النظرية الانفعالية لدى مختلف فلاسفة اللغة على اختلاف توجهاتهم استعادة موقع العنصر النفسِ حضًا في الدراسة الفلسفية؛ ولذلك جعلوا من الانفعال فعلًا ولو كان بإيماءة أو كلمة، فالمفاهيم الانفعالية لغة متعدية لا تكتفي بذاتها، بل في تضاعيفها، فهي لغة مولدة لأفعال لا تعد ولا تحصى، قد تبدأ بفرد، لكنها تؤثر بصورة لا متناهية في الآخرين، وبهذه الطريقة تصبح المفاهيم الانفعالية قادرة على احتواء ونقله المعنى، وفي الوقت نفسه لا يبدو الانفعال اضطرابًا في مجرى تيار الوعي، بل هو الوعي ذاته لأنه ذو دلالة، ولكي يكون التحليل الأخلاقي مكتملاً تم عرض المستويات الثلاث، بل إن هناك تداخلاً بين المستويين الثاني والثالث، فالاعتماد على نوع واحد من التحليل حتى وإن كان صحيحًا، إلا أنه غير مكتمل، إذ يقدّم صورة مبتورة عن لغة الأخلاق .

ومن الجدير بالذكر أن التحليل اللغوي والمنطقي للأخلاق لم يستبعد كل الأنظمة الأخلاقية، إنما اقتصر على استبعاد الأخلاق المعيارية، وحتى هذا القسم كان له ما يبرّره فيما لو اشتمل البيان المعياري على المعنى المركب الذي يمزج بين المعنى المعرفي والمعنى الانفعالي، فهذا النوع من البيانات بالإمكان مقارنته بالواقع الخارجي، ومن ثم بالإمكان الحكم عليها بالصواب أو الخطأ. وعلى الرغم من أن التحليل السميوطيقي لا يمكن تطبيقه عُنوة على أي دراسة، لكن وجدت تطبيقاته الواسعة على موقف الفلاسفة من الأخلاق، وان كان هناك تفاوت بين تطبيقات المستويات الثلاث، فذلك يعود الى أنهم وجّهوا عنايتهم إلى النوع الأخير من التحليل، وان لم يكن تحت عنوان التداولية، وسبب ذلك أن صدق وكذب العبارة الأخلاقية لا يقف عند حدود الصورة المنطقية للعبارة وإنما يتمظهر في مجال الواقع التجريبي .
ويمكن تقويم تحليلهم للأحكام الأخلاقية بأنه قد عرض بشكل دوغمائي، إذ بيّنوا إلى أي مدى يختلف عن الفلسفة التقليدية، ولكن هذا لا يعني أن المفاهيم توضح في مفاهيم العوالم الافتراضية كعالم المثل الأفلاطونية، أو مملكة الغايات الكانطية، أو في خصائص فريدة من نوعها غير قابلة للتحليل لمور، بل على العكس من ذلك أن المفاهيم الأخلاقية موجودة وبالإمكان التحقق منها، تصف المنفعة التي كانت أو التي ستكون تحت ظروف معينة..، ولا شك في أن هناك بعض العناصر الوصفية في الأحكام الأخلاقية ولكنها ليست كلية .

التحليل المفاهيم الأخلاقية يكشف أن هذه المفاهيم حاكية للواقع، وأنها تستخدم لبيان القيم الواقعية الأخلاقية. فالجملة الخبرية إذا كان محمولها يصوّر للواقع، فتكون الجمل الخبرية الأخلاقية مصورة للواقع أيضًا، لذا يمكن استنتاج أن الجمل الأخلاقية مصورة للواقع أيضًا .

رابعًا: نقد التحليل السيميوطيقي للرموز الأخلاقية
في الواقع ليس بالإمكان تقديم نقد لفلسفة ما، إلا من خلال الكشف عن أخطائها المنهجية وتحديد مفاهيمها بوصفها وسائل لتبليغ آرائها، وفي هذا التحليل ثمة مواطن ضعف كانت بدورها دعوة لفتح الباب على مصراعيه لإنتقادات شتّى، من النظريات المعيارية التي لم تتورّع عن القيام بذلك، إذ لم يرق لها أسس هذا المشروع، بوصفه نقداً للأخلاق المعيارية وازاحته جانبًا وتعطيل إصدار الأحكام الأخلاقية .
فمعظم الاعتراضات على التحليل السيميوطيقي كانت بسبب تركيزه على لغة الأخلاق من جهة وعلى الخطاب الأخلاقي الواقعي من جهة أخرى، فالفلاسفة التحليليون بكل تمثيلاتهم تقاسموا الميل إلى مناقشة افتراض هل بالإمكان الوصول إلى توصيف معنى للخطاب الأخلاقي؟ حينما اعتقدوا أن أفضل وسيلة لتحليل الممارسة الأخلاقية يجب أن تبدأ من الكيفية التي يتكلم بها الناس، ومن ثم يتم استنتاج طريقة تفكيرهم، بيد أن طريقة الناس بالكلام ليست مرشدًا يعول عليه للوصول إلى الحقيقة، فأبقت الأسئلة الأخلاقية مفتوحة من دون إجابة. ولا يبدو أن هذا التحليل قدم تفسيرًا مقنعًا للأخلاق، لرفضه المعرفة الأخلاقية، وهذا ما حوّل الأحكام الأخلاقية، إلى انفعالية لا تعبّر عن أي شيء على الإطلاق .
وعلى النقيض من هذا الموقف نجد أن الرؤية الفلسفية الإسلامية عالجت موضوع لغة الأخلاق، إلا أنها توصّلت إلى نتيجة أخرى، « فحقيقة الأحكام والجمل الأخلاقية، من حيث حكايتها وكشفها للواقع، لا تختلف قيد أنملة عن الأحكام والجمل التجريبية والرياضية، فكما أننا نرى قضايا العلوم التجريبية كاشفة عن الحقائق الخارجية، فإن القضايا الأخلاقية أيضًا تفصح عن حقيقة أيضًا»[83].
بُنيَ هذا الرأي على أساس أن المفاهيم المستعملة في بناء القضية الأخلاقية اما أن تكون مفاهيم مشيرة الى الصفات العينية للأشياء كالقضايا التجريبية، أو محمولات تشير إلى القضايا اللزومية، وكلاهما لا يتوقّفان على الانفعال الشخصي أو التوافق الاجتماعي وحسب، وسيتنتبع ذلك أن تكون قضايا الأخلاق بصورها كافة الإنشائية والخبرية مشيرة الى وقائع؛ لذلك بالإمكان وصفها بالصدق والكذب . ولكي تكون صورة النقد أكثر وضوحًا واكتمالًا بالإمكان تحديدها بأنموذجين:

أ –أنموذج النقد التحليلي
عندما وجد فيلسوف اللغة أن النظرية الأخلاقية تفتقر إلى أساس لغوي متين سعى إلى تأسيس نظرية للغة الأخلاق، وأسفر ذلك عن ارتباط العقل العملي بتحليل اللغة تحليلاً فلسفيًا مرتبطًا بالبحث اللساني، إلا أنه أدى إلى طعن جِدّي في الأخلاق، وإلى عدم إمكانية النهوض ببحث فلسفي أخلاقي إلا بعد توضيح مضمون لغة الأخلاق (الانفعالية) من خلال اتخاذ العلامات اللسانية أساسًا للعمل، فعلى الرغم من أن الانفعال قادر على التقاط الطبيعة الديناميكية للأخلاق من خلال الانفعالات، الا انه ليس بالإمكان الحكم بصوابها أو خطئها لأنها تتجاوز التقويم العقلاني، فهي ليست موضوعية ولا يمكن أن نعتمد عليها للتمييز بين الحق والباطل، الخير والشر، ليس هذا وحسب، بل يترتّب على ذلك أن تصبح الأخلاق لا معرفية، ويجعل منها مدعاة للشك في أن يكون لديها سلطة على الفرد الذي يعتقد أن هناك أحكامًا أخلاقية يعتمدها في تقويمه الأخلاقي، وفي هذه الحالة تبدو عملية ربط المعتقدات بالمواقف محاولة غير مجدية، لأن حرية الفرد في تبنّي معتقد ما، لا تجبره على أداء الفعل المرتبط بذلك المعتقد .
وهكذا نبقى أمام انفعالات مختلفة، تروق لشخص ولا تروق لآخر، وهو ما يدفعنا الی منح الأحكام الأخلاقية سلطة ما، فأن يكون الهدف من الاستعمال المفاهيمي الانفعالي للتعبير عن الأحكام والتأثير على الآخرين، فإنه يؤدي إلى انتفاء الأسس العقلانية للخطاب الأخلاقي، ولن يكون الهدف منه الاقناع ولكن لممارسة الضغط النفسي بالتلاعب العاطفي، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن هناك تفاوتًا في القوة الانفعالية للمفاهيم، فالانفعالات تستثار في مفهوم الشجاعة بوصفها فضيلة إيجابية، ولإثارة المعنى المعاكس في مفهوم الجبن بوصفه معنى ازدرائيًا، ولكن هذه الاثارة لا تتحقق في كلمات مثل حق، وواجب، وربما يعود سبب ذلك إلی أن الحق والواجب غالبًا ما يتناقضان مع مصالح الأفراد .

وبمعنى آخر لكي يكون التقويم الأخلاقي صائبًا، فينبغي أن يقدم في مفاهيم مناسبة للوقائع، فان كان هناك تصوّرً واضح ودقيقًا لمفهوم ما، فذلك التصور لن يكون مستقلاً عن كيفية تقويمه .

ب- أنموذج النقد العملي
أن يكون الهدف من الخطاب الأخلاقي هو خلق التأثير وأن تكون هذه الوظيفة ميزته، جعل الأخلاق في الثقافة الغربية غارقة بشكل يائس في صور مختلفة من الانفعالية أو المنفعة (الخاصة والعامة)، كالليبرالية والماركسية المعاصرتان، اذ تعدّان من الأمراض التي أصبحت لا تحتمل، ويجب تشخيصهما بشكل صحيح على أمل الحصول على علاج ناجع منهما، ومن الجدير بالذكر أن التشخيص أسفر عن أنه يجب التخلّي عن الآراء التي تهيمن عليها الأخلاق التحليلية، فلا بد من العودة إلى الأخلاق التي تركز على الفضائل، ذلك أن من نتائج هيمنة الانفعالية وتجسيدها للثقافة الغربية هو تفشّي الانحلال الأخلاقي، وكان ذلك بدعم فلسفي من الفردية الليبرالية التي عملت على الطعن بالمعيارية الأخلاقية، فأنموذج اللغة والأخلاق، هو المسؤول جزئيًا عن تقويض القيم الأخلاقية التقليدية في المجتمع، إذ أدى دورًا مركزيًا في ذلك التدهور، ولم يعترف دعاته بأن ذلك مثل أزمة، وتمثّلت بعدم إمكانية اللجوء إلى العقل في حل الخلافات الأخلاقية، بل من خلال التلاعب بمشاعر الآخر، وهو ما أدى إلى فوضى اجتماعية، وبممارستها هذه ابتعدت عن حاجة المؤسسات، في التعلم للعيش بشكل تعاوني في عالم لا يمكن أن يكون فيه يقين كما في الثقافات السابقة.

كل ذلك كان من نتاج تعليق اصدار الأحكام، فما النفع الذي يعم على المجتمع من القول إنه لا يوجد شيء جيد أو شيء، صحيح أو خاطئ؛ لأن مثل هذا التصريح يعدّ تعبيرًا عن اتخاذ موقفٍ أخلاقيٍ، بل إن ما نتج عنه هو أن عاش الناس من دون أي نهج أخلاقي، وهي نتيجة منطقية لفلسفة كهذه، فتحليل الأحكام الأخلاقية لا يمثّل حكمًا أخلاقيًا، وحتى من يمارسون هذا التحليل لا يتصرّفون بشكل مختلف عمن لا يمارسونه، ولم يؤد ذلك إلى الشك بالمبادئ الأخلاقية وحسب، بل أدى أيضًا إلى الشك في أن يكون لدراسة فلسفة الأخلاق تأثير ملحوظٍ على سلوك الناس، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن قبول هذا النوع من التحليل له عواقب اجتماعية غير مرضية فيما لو مورس من قبل أشخاص لا يتمتّعون بالخبرة الكافية؛ لأن الآثار المترتبة على إقصاء الأخلاق هي العدمية الأخلاقية والترويج لها .

خامسًا: نقد للتحليل السيميوطيقي للرموز الأخلاقية (من منظور علم الكلام والفلسفة الإسلامية)
تنظر الفلسفة الإسلامية للأخلاق ولغتها، علی أنها مفاهيم مستمدة من العقل والوحي الإلهي، وليست قضايا لغوية نسبية قابلة للتأويل والتحليل الفلسفي المجرد. وفي هذا السياق، بالإمكان وضع المنظور اللغوي للأخلاق تحت مطول النقد الفلسفي الإسلامي كما يلي:

استبعاد البُعد المعرفي
انفردت الفلسفة التحليلية اللغوية من موضوع الأخلاق، حينما اعتبرت أن الأخلاق والخطاب الأخلاقي تبعًا لسائر البحوث الفلسفية لا يمكن بحثها بشكل معرفي يراد به معرفة الصواب من الخطأ، بل لا بد من الاقتصار على البحث الدلالي حول لغة الأخلاق وخطابها، وهذه القضية هي أحد الاعتراضات التي تسجّلها الفلسفة الإسلامية والفكر الإسلامي عمومًا.
وذلك لأن اللغة إنما فُرضت في الفلسفة التحليلية أمرًا سائلًا خارجًا عن أي ثبات تابعً للتطورات الثقافية والزمانية والمكانية، بل هي بذاتها مشتملة على بنية داخلية خاصة، أشبه ما تكون بلعبةٍ لها قوانينها كما يشير إليه فتغنشتين، ولكن في الحقيقة إن البنى اللغوية إن كانت تابعة لبنى ثقافية واجتماعية فقط، فهذا يمنع أي تواصل بين ثقافتين، ويؤدي إلى انسداد معرفي مطبق، وفي المقابل نجد أن الفلاسفة في العالم الإسلامي عالجوا المسألة بالتمييز بين المشتركات والاختلافات بين البنى العقلية للبشر.

صحيح أن لكل جماعة بشرية خصائصها الخاصة بها، ولكن لا يمكن أن نحيد عن فكرة الوحدة الإنسانية الجامعة بينهم، بما تشتمل عليه هذه الوحدة من أفكار ورؤى وبنى فطرية عميقة، وإلا لو أردنا التسليم لفكرة الاختلاف القاطع بين الناس، فما الفرق عندئذ بين هذا القول والقول بانتفاء الوحدة النوعية لشيء اسمه « إنسان».
بعبارة أخرى، إن الإنسان بما هو إنسان يتميز بخصائص متعالية على التشكّلات الاجتماعية المختلفة، والتي يمكن أن نعبّر عنها بالفطرة، والتي تشتمل على جملة من المعارف والتي منها المعارف الأخلاقية، وهنا بالإمكان أن نسجّل موقفًا سبق تاريخ نظرية الواجب الكانطية في الفلسفة الحديثة بقرون عدة، وهو موقف المعتزلة من مسألة المعرفة الأخلاقية؛ اذ وضعوا قاعدتهم الشهيرة أن العقل هو الذي يضفي الصفة على الأفعال؛ ذلك أن «الحسن والقبح ضرورتان عقليتان»[84]. فقال العلّاف «من يعلم حسن الحسن، وقُبْح القبيح، فيجب عليه الإقدام على الحَسَن كالصدق، والعدل، والأعراض عن القبيح كالكذب والجور»[85]. الدليل على أن القبح والحسن يدركان عقلاً «أن منكري الشرائع، وجاحدي النبوّات يعلمون قبح الظلم والكفران وحسن الشكر، ولو كان الأمر يتوقف في ذلك على السمع لما أحاط من أنكره بالحسن والقبح»[86] .
أما العلامة الطباطبائي فيشير الى أن المعرفة الراسخة الثابتة هي أحد اقتضاءات الإنسانية، لأنه من دون المعرفة يبقى الإنسان حيران السير والغاية، قال «إن النوع الإنساني بما أنه إنسان إنما يسير إلى كماله‏ الحيوي بأفعاله الإرادية المتوقّفة على الفكر والإرادة منه مستحيلة التحقق إلا عن فكر، فالفكر هو الأساس الوحيد الذي يبتني عليه الكمال الوجودي الضروري، فلا بد للإنسان من تصديقات عملية أو نظرية يرتبط بها كماله الوجودي ارتباطًا بلا واسطة أو بواسطة، و هي القضايا التي نعلّل بها أفعالنا الفردية أو الاجتماعية أو نحضرها في أذهاننا، ثم نحصّلها في الخارج بأفعالنا»[87].

وأما اللغة فهي فعل حاجة إنساني، بمعنى أن اللغة متأخّرة عن الوجود الإنساني وليست إلا وليدة الحاجة الاجتماعية، وإلا فما الدليل على وجود اللغة لو كان الإنسان يعيش وحده دون اجتماع؟!
وعليه فاللغة تسير وفق اقتضاءات الحاجة، ومنها الحاجات التعبيرية عن القضايا المعرفية، ومنها القضايا الأخلاقية، ولذا لا يمكن أن يتم التعامل مع التحليل اللغوي علی أنه الواقع على سطح التحليل الدلالي دون المعرفة الجوهرية للمسائل الفكرية والمعنوية.

استبعاد الأخلاق في سياق استبعاد الميتافيزيقيا
من الانبعاثات التي تولّدت منها فلسفة اللغة هي استبعاد القضايا الميتافيزيقية وجعلها خالية من المعنى إذ إنهم بعد أن حصروا الصدق والكذب بالقضايا القابلة للتحقق التجريبي، أخرجوا ما سوى هذه الأمور عن الحقيقة القضوية القابلة للفهم، مثل القضايا الميتافيزيقية وبتبعها القضايا الأخلاقية. فشكّلت قضية الحسن والقبح الأخلاقي عندهم قضايا خالية من المعنى.
في المقابل نجد أن علماء الكلام في العالم الإسلامي لم يربطوا بين الأمرين، ففي سياق تقسيمهم للمعارف حدوا المعرفة الضرورية بأنها «العلوم الواقعة عن الحواس وهي علوم اختيارية واكتسابية»[88]، أي أن الناس يمكنهم أن لا يتّفقوا عليها، وعدم الاتفاق لا يضر في جوهرة الحياة العقلية والأخلاقية للإنسان. فيما أرجع فلاسفة الاسلام الصدق والكذب أولًا إلى التحقيق البرهاني، فحتى التجربة تعتمد على التحقيق العقلي الميتافيزيقي البرهاني، ولولاه لما كان للتجربة أي حجية، قال العلامة الحلّي فی بعض مصنفاته المنطقية «المجربات هي قضايا تتبع مشاهدات منا تحصل بتكرر، فيحصل بالتكرار التذكار إلى أن يرسخ عقد نفساني لا شك فيه بالحكم [...] لا بد في هذا الحكم من قياس خفي هو أنه لو كان اتفاقيًا لم يكن دائميًا ولا أكثريًا، فيحصل الجزم بتكرر المشاهدة وحصول القياس المذكور»[89].
والأمر عينه بالنسبة للقضايا الأخلاقية، إذ ترجع إلى قضايا ذات بعد معرفي يمكن للإنسان أن يعرف صادقها من كاذبها، وصحيحها من سقيمها، وذلك من خلال الحكمة العملية، وقد خصصوا في كتبهم استدلالات وبيانات حول هذا الأمر، قال الفارابي: «إنّ [القوة] العملية هي التي يعرف بها ما شأنه أن يعمله الإنسان بإرادته»[90].

الاعتراض على النسبية الأخلاقية:
الفلسفة التحليلية، لا سيما في إطار التحليل اللغوي، تميل أحيانًا إلى النسبية الأخلاقية، بحيث تنفي أن يكون هناك تقويم أخلاقي واحد صحيح لقضية معينة، فالتقويمات الأخلاقية ترتهن بشكل أساس بالمعايير التي تحدد قوانين أخلاقية معينة وتقبلها جماعة اجتماعية في زمان ومكان محددين؛ ويجادل أنصار النسبية الأخلاقية بأنه ليس هناك متصوّر يمكن على وفقه تقويم القوانين؛ لعدم وجود معايير مطلقة يمكن نقدها على وفقها، ولدعم موقفهم يشيرون إلى التنوع الثقافي والتاريخي والجغرافي ويركنون الى المفاهيم التي تستعمل في اللغة كألعاب .

لكن من منظور فلسفي إسلامي، الأخلاق ليست نسبية؛ فهي تستند إلى العقل والوحي الإلهي الذي يحدد القيم الأخلاقية المطلقة مثل العدل، الرحمة، والصدق، وهي مبادئ صالحة لكل زمان ومكان.

دور الوحي كمصدر رئيسي للأخلاق:
هنا تأتي مهمة الوحي في المعرفة الأخلاقية، إذ يقول العلّاف «إن المعرفة فيض من الله، بعضها بالوحي، وبعضها عن طريق الفطرة»[91] ، فالعقل يدرك وجوب ثواب المطيع وعقاب العاصي، لكنه يلجأ إلى الوحي لتحديد مدة الثواب والعقاب[92] .
أما فلسفة اللغة التحليلية حينما انشغلت بتحليل اللغة الطبيعية لفهم الأخلاق، أهملت الفكر الإسلامي، الذي يعتقد ان الوحي الإلهي (القرآن والسنة) هو المصدر الرئيسي للأخلاق. وبالتالي، فإن أي تحليل أخلاقي يجب أن يستند إلى النصوص المقدسة، وليس إلى اللغة البشرية والتفسيرات الفلسفية فقط.

التركيز المفرط على المعاني اللغوية:
تركز فلسفة اللغة التحليلية على تحليل المصطلحات الأخلاقية مثل «الخير» و«الشر» من زاوية لغوية ومنطقية. من منظور إسلامي، قد يُهمل هذا التحليل الجوهر العملي للأخلاق، حيث يُفترض أن تكون الأخلاق سلوكيات تُمارس وتُجسد في حياة الإنسان، وليست مجرد مفاهيم يُجادل حولها نظريًا. «فلو جعل الله الجبّلة البشرية مقصورة على تحصيل العلم دون تقويم العمل، لكانت القوة العملية إمّا فضلاً وإمّا تبعًا عارضًا، ولو كانت كذلك لما كان عدمها يخل في عمارة البلاد وسياسة العباد»[93] .

الإشكالية في تقليص الأحكام الأخلاقية إلى عواطف أو أوامر:
ترى بعض التيارات في فلسفة اللغة (مثل التعبيرية والنظرية الإمبريقية) أن الأحكام الأخلاقية ليست سوى تعبيرات عن مشاعر أو أوامر شخصية.
أما في الإسلام، فالأحكام الأخلاقية لها أساس موضوعي، وهي تعبر عن أوامر فطرية وإلهية تهدف إلى تحقيق الخير العام والارتقاء بالإنسان؛ لذا، فإن اختزال الأحكام الأخلاقية إلى مجرد تعبيرات ذاتية ليس بالإمكان تقويمها يُعتبر تقليلًا من قيمتها.

محدودية التحليل اللغوي في معالجة القضايا الأخلاقية المعقدة:
يُنظر إلى فلسفة اللغة على أنها تركز بشكل ضيق على تحليل اللغة، مما يجعلها غير قادرة على معالجة القضايا الأخلاقية العميقة مثل معرفة الله؛ العدالة الإلهية، الغاية من الوجود .
فالحياة العقلية والأخلاقية متوقّفة على معرفة الله ولذلك ينبغي الإتفاق عليها[94]، بل إن «لا قيام لفلسفة الأخلاق دون معرفة الله، ومن ثم يتعذر كل فصل بين الأخلاق وبين اساسها الميتافيزيقي»[95]، فالعدل الإلهي على سبيل المثال أسمى صفة من صفات الفعل الإلهي، والفعل لا بد أن يتضمن جانبًا أخلاقيًا.

الخاتمة
في البدء، وقبل كل شيء، لا شك إن الفلسفة تمثّل خطابًا كونيًا، والفلسفة الأخلاقية المعيارية جزء لا يتجزّأ من ذلك الخطاب، وقد عبّرت عن نفسها تعبيراً موحَّداً رغم تعدد أنماطها، وسَعَت إلى رفع مستوى وعي الإنسان لما أهّله لإدراك مثله العليا، وهو ما يتمظهر بجهد الفيلسوف بوصفه إنساناً للرقي بنوعه، ونظرة الآخر الإنسان العادي إليه، فالخطاب الأخلاقي المعياري موجه إلى سرية واسعة من البشرية، بل إنه خطاب الإنسانية .

إلا أن رؤى الفلاسفة حول ما ينبغي أن يكون بدت للكثيرين أنها تقع خارج دائرة المنطق؛ ولذلك فإنها بحاجة إلى منطق جديد يوجّهها، ويبدو أيضاً أن ذلك ما دفع فلاسفة اللغة إلى التشكيك بالقيم المطلقة هي إدانتهم لأهوال الحرب العالمية الثانية، ومن هنا سجّل المنعطف اللغوي حضوراً بالغ الأهمية .
لذلك استعان الفيلسوف التحليلي باللغة والمنطق، وسعى إلى تحليل التجربة الأخلاقية بوصفها تجربة خاصة ومستقلّة بأنماطٍ فريدة من نوعها، وأدواته في ذلك تحليل لغة التجربة في ضمن ممارستها اليومية، وإن لم يستغن عن تحليل الجملة الأخلاقية تركيبيًا، وتحليل النصوص الفلسفية تداوليًا بمقاربتها إلى الواقع التجريبي، لينسج بثبات لغة الحكم الأخلاقي بعد تحليلها؛ إذ إن اللغة والوعي بالتجربة الأخلاقية لا ينفكان عن بعضهما، وأعلن فيه عن تهافت البناء الفلسفي الأخلاقي الكلاسيكي انطلاقاً من تحليل صارم للغة، وليؤكد على تغيير المعنى من خلال لعبتها، بدلاً من ثبات المعنى، ذلك أن اللغة هي مجموعة اختلافات .

إلا أن حضور اللغة في الأخلاق مثّل مغامرةً بوجود الأخلاق نفسها، ومغامرة بحضورها الخاص الذي تأخذ به مكانها في الوجود ومكانتها من بين مباحث الفلسفة، فغيب دور التقويم للممارسة الأخلاقية لبرهة من الوقت.
ومن الواجب القول إن تأسيس فلاسفة اللغة للأخلاق على أساس انفعالي كان من نتائج تقسيمهم للغة ومعناها الى انفعالية ووصفية، ويبدو أنهم لجأوا إلى اللغة الانفعالية، لأن من الأفكار الملحة ليس هناك من لغة أخرى تناسبها. فهناك بون شاسع بين السمات المنطقية للغة وطاقاتها الانفعالية ومخزونها التعبيري.
ومن هنا يسعى التحليل السيميوطيقي منذ البداية بالقول إن الانفعالات هي مصدر الأفعال، ولا تكمن عملية التحليل بمعرفة العناصر التي يتألف منها السلوك الإنساني، بل من طريقة التآلف بين العناصر أي بين العقل والانفعال. ففي بعض الأحيان يطفو التحليل الانفعالي للسلوك على مجرى الحدث اليومي، وهذا ما ينأى بالفلسفة بعيداً عن غاياتها، ويلحق الموقف الفلسفي بالموقف النفسي والاجتماعي، لأن مجال الانفعالية هو الإقناع الظرفي، لا الاقناع القائم على الأسباب العقلية، فلم تعد تنظر إلى التجربة الأخلاقية بوصفها تمثل كلًّا واحداً متكاملاً يعكس تجربة إنسانية متكاملة، لأن المعيارية ليس بوسعها أن تتتبّع معنى الوقائع، وإن كان بوسعها وصفه، فإنها تومئ إلى المعنى من دون النفوذ إليه.
ومما تجدر الإشارة إليه أن هذا التحليل جعلهم -أي التحليلين- يقوعون في شراك الميتافيزيقا التي كانت دومًا مرمى لنقدهم؛ إذ بدت المغالطة اللاواقعية لديهم واضحة في تحليلهم الأخلاقي المتعالي على الواقع، الذي اختزل الفلسفة الأخلاقية بمجموعة من المفاهيم المجردة، حتى أفرغها من معناها. فلم تعُد للقيم مرجعية مطلقة، إنما مرجعيتها أفراد يفكرون بقيم تهدف إلى تقدم الجماعة أو الفرد وليس المجتمع، وكان ذلك نتيجة عدم التفكير بالإنسان بوصفه روحًا، بل بوصفها شكلاً من أشكال المادة اللاواعية، وهو ما أسفر عن إساءة توجيه العقل لإنتاج قيم تناسب الواقع، وتم تعطيل إصدار الأحكام الأخلاقية، فترك الواقع بلا قيم توجهه.
وخلاصة ما تقدم سعى التحليليون إلى أن تخضع الأخلاق للعلم، وعلى الرغم من أن التفكير الأخلاقي بإمكانه أن يعبّد الطريق أمام العلم، إلّا أن مثل هذه الرؤية غير متحقّقة، فالأخلاق لا تلقى عوناً من العلم، لأن العلم أصبح يعلن عن استقلاله عن أية مرجعية، ويواجه أية قوانين لا يحفل بها، وكان نتيجة ذلك تبلوره علمًا حرًا، إلا أنه خال من أي نظرة تأملية.

ولأن عصرنا يعجّ بالمشكلات الأخلاقية، فإنه يحتم على الأخلاقيين من فلاسفة وغيرهم من صياغة المعايير الأخلاقية وتقديم التوجيه الأخلاقي، بل واختبارها من خلال التجربة، بوساطة العلوم الاجتماعية، وهذه العلوم لا تقلّ أهمية عن العلوم الطبيعية.
وهذا يعني أن بداية الحكمة الأخلاقية تكون من الصياغة المعيارية ومن ثم الدراسة اللغوية، أما نهايتها فتكون بدراسة الخلفيات الاجتماعية والنفسية. فلا يتم الاكتفاء بما ينبغي كما قال المعياريون، ولا على ما هو كائن كما قال التحليليون، بل يضيف إليه ما هو ممكن، وبذلك يضم الجانبين النظري والعملي معاً، ويدمج القيم بالوقائع، ويتعدى الآفاق المعرفية، فلا يمكن الدعوة إلى أي نظام أخلاقي وتسويغه، ما لم يستند إلى بناء نظري وفكري يبرره معرفيًا وعمليًا، ويتقوم بحجة تعتمد البينة والاتساق المنطقي.

قائمة المصادر
أوستن، (كيف ننجز الأشياء بالكلام)، ترجمة عبد القادر قينيني، أفريقيا الشرق، 1991.
الأيجي، عضد الدين، شرح المواقف، تعليق محمد بيصار، ط2، القاهرة، دار إحياء الكتب العربية، 1948.
آير، الفريد، الوضعية المنطقية وتركتها، حوار منشور ضمن كتاب رجال الفكر «مقدمة للفلسفة الغربية المعاصرة»، تحرير براين ماجي، ترجمة وتقديم نجيب حصادي، منشورات جامعة قاز يونس، بنغازي، الطبعة الأولى، 1998 .
آير، الفريد، حلقة فينا ضمن كتاب ثورة البحث عن المعنى «مقالات في فلسفة القرن العشرين»، تحرير الفريد جولز آير، ترجمة فاتنه حمدي، دار الحكمة، لندن، الطبعة الأولى، 2008 .
البغدادي، عبد القاهر، الفرق بين الفرق، تحقيق لجنة إحياء التراث العربي، بيروت، دار الجبل، 1987.
الجويني، إمام الحرمين، كتاب الإرشاد الى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد، تحقيق د. محمد يوسف موسى، علي عبد المنعم عبد الحميد، مصر، مطبعة السعادة، 1950.
دي بور، تاريخ الفلسفة في الإسلام، ترجمة محمد عبد الهادي أبو ريده، الجزائر، الدار التونسية.
راسل، المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة، ترجمة أحمد عبد الكريم، مراجعة حسن حمود، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، ص 63 .
راسل، برتراند، الدين والعلم، ترجمة رمسيس عوض، دار الهلال .
راسل، برتراند، تاريخ الفلسفة الغربية، الجزء الأول، الجزء الثالث، ترجمة محمد فتحي الشنيطي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1977 .
رايس، فليب بلير، في معرفة الخير والشر، ترجمة عثمان عيسى شاهين، مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر، القاهرة-نيويورك .
روس، جاكلين، الفكر الأخلاقي المعاصر، ترجمة عادل العوا، عويدات، بيروت، الطبعة الأولى، 2001 .
ريشنباخ، هانز، نشأة الفلسفة العلمية، ترجمة: فؤاد زكريا، مؤسسة هنداوي للنشر، المملكة المتحدة، 2020.
سبزواري، هادي بن مهدي، شرح المنظومة (تعلیقات حسن زاده)، نشر ناب، تهران - ایران، 1369 ه.ش.
الشهرستاني، عبد الكريم، الملل والنحل، تحقيق عبد العزيز محمد الوكيل، جـ1، دار الاتحاد العربي للطباعة، 1968.
صبحي، أحمد محمود، الفلسفة الأخلاقية في الفكر الإسلامي (العقليون والذوقيون)، مصر، دار المعارف.
الطباطبائي، محمدحسين، الميزان في تفسير القرآن، 20جلد، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - لبنان - بيروت، چاپ: 2، 1390 ه.ق.
العامري، أبي الحسن محمد بن يوسف، كتاب الإعلام بمناقب الإسلام، تحقيق أحمد عبد الحميد غراب، دار الكتاب العربي للطباعة، 1967،
العلامه الحلي، حسن بن يوسف‌، الجوهر النضيد، نشر بيدار، قم المشرفة، الطبعة الخامسة، 1371 هجري شمسي.
فايجل، هربرت، التجريبية المنطقية، ضمن كتاب فلسفة القرن العشرين «مجموعة مقالات في المذاهب الفلسفية المعاصرة»، ترجمة عثمان أمين وزكي نجيب محمود، مؤسسة سجل العرب، 1963 .
كارناب، رودلف، الأسس الفلسفية للفيزياء، ترجمة السيد نفادي، دار الثقافة الجديدة، القاهرة
كانتو، مونيك، العودة إلى فلسفة الأخلاق، بحث منشور في ضمن كتاب فلسفات عصرنا (تحرير: جان فرانسوا دورتي)، ترجمة إبراهيم صحراوي، الطبعة الأولى، منشورات الاختلاف، الدار العربية للعلوم، بيروت، 2009.
محمود، زكي نجيب، الموقف من الميتافيزيقا، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الرابعة، 1993.
اليزدي، محمد تقي مصباح، المذاهب الأخلاقية، دراسة ونقد، تعريب حيدر الحيدري، العتبة الحسينية المقدسة، الطبعة الأولى، 2021 .
اليزدي، محمد تقي مصباح، كلمة حول فلسفة الأخلاق، قم، انتشارات در راه حق.

المصادر الأجنبية
26. Ayer, A. J. Philosophical Essays. London: Macmillan Publishers, 1954.
27. Ayer, A. J. The Problem of Knowledge. London: Macmillan, 1956.
28. Ayer, A. J., ed. Logical Positivism. 2nd printing. Glencoe, IL: The Free Press, 1966.
29. Ayer, A. J. Language, Truth, and Logic. Harmondsworth, UK: Penguin Books, 1971.
30. Ayer, A. J. Freedom and Morality and Other Essays. Oxford: Clarendon Press, 1984.
31. Ayer, A. J. "What is Communication?" In Studies in Communication, edited by A. J. Ayer and others, 123–140. London: Warburg Institute, 1995.
32. Ayer, A. J. Hume: A Very Short Introduction. Oxford: Oxford University Press, 2000.
33. Ayer, A. J. "Ethical Terms as Emotive Expressions." In The Moral Judgment: Readings in Contemporary Meta-Ethics, edited by Paul W. Taylor, 45–58. London: Prentice-Hall International, 2011.
34. Brandt, Richard B. Morality, Utilitarianism, and Rights. Cambridge: Cambridge University Press, 1992.
35. Carnap, Rudolf. "The Elimination of Metaphysics Through Logical Analysis of Language." In Logical Positivism, edited by A. J. Ayer, 60–81. Glencoe, IL: The Free Press, 1966.
36. Feigl, Herbert. Minnesota Studies in the Philosophy of Science. Volume II: Concepts, Theories, and the Mind-Body Problem. Edited by Michael Scriven and Grover Maxwell. Minneapolis: University of Minnesota Press, 1958.
37. Miller, Alexander. An Introduction to Contemporary Metaethics. Cambridge: Polity Press, 2003.
38. Potter, Michael M. Bertrand Russell's Ethics. London: Continuum, 2006.
39. Price, Joan A. Philosophy: Understanding Contemporary Thought. New York: Chelsea House, 2008.
40. Ryle, Gilbert. The Concept of Mind. London: Hutchinson University Library, 1949. Reprinted 1951.
41. Schlick, Moritz. Problems of Ethics. Translated by David Rynin. Englewood Cliffs, NJ: Prentice Hall, 1939.
42. Stevenson, Charles L. "The Emotive Meaning of Ethical Terms." Mind, New Series, 46, no. 181 (January 1937): 14–31.
43. Stevenson, Charles L. Ethics and Language. 7th printing. Oxford: Oxford University Press, 1953.
44. Stevenson, Charles L. Facts and Values: Studies in Ethical Analysis. New Haven: Yale University Press, 1963.
45. Strawson, P. F. "Ethical Intuitionism: Pro and Con." In The Moral Judgment: Readings in Contemporary Meta-Ethics, edited by Paul W. Taylor, 23–39. London: Prentice-Hall International, 2011.
46. Wittgenstein, Ludwig. "Lecture on Ethics." In Moral Discourse and Practice: Some Philosophical Approaches, edited by Stephen Darwall, Allan Gibbard, and Peter Railton, 3–12. Oxford: Oxford University Press, 1997.

----------------------------------------
[1]* العراق-جامعة البصرة-كلية الآداب-قسم الفلسفة nawaltaha.yaseen@gmail.com .
[2]. كانتو، العودة الى فلسفة الأخلاق، 288 .
[3]. رايس، في معرفة الخير والشر، 2.
[4]. روس، الفكر الأخلاقي المعاصر، 13 .
[5]. Ayer, Logical Positivism, 23 .
[6]. Miller, An Introduction to Contemporary Metaethics, 3.
[7]. ينظر: آير، حلقة فينا ضمن كتاب ثورة البحث عن المعنى «مقالات في فلسفة القرن العشرين»، 89 .
[8]. Ayer, Logical Positivism, 3.
[9]. Price, Philosophy Understanding Contemporary Thought, 81.
[10]. Stevenson, Facts and Values, 181 .
[11]. ينظر: كارناب، رودلف، الأسس الفلسفية للفيزياء، ترجمة السيد نفادي، دار الثقافة الجديدة، القاهرة، ص 207 .
[12]. آير، حلقة فينا ضمن كتاب ثورة البحث عن المعنى «مقالات في فلسفة القرن العشرين»، 84 .
[13]. Stevenson, Ethics and Language, 67
[14]. آير، الوضعية المنطقية وتركتها، 250.
[15]. Stevenson, The Emotive Meaning of Ethical Terms, 23
[16]. Stevenson, Ethics and Language, 33
[17]. tendency
[18]. disposition
[19]. Stevenson, The Emotive Meaning of Ethical Terms, 22
[20]. power
[21]. Stevenson, Ethics and Language, 46.
[22]. راسل، تاريخ الفلسفة الغربية، 497-498
[23]. Wittgenstein, Lecture on Ethics, 70 .
[24]. ينظر: فايجل، التجريبية المنطقية، 180.
[25]. Ayer, Freedom and Morality and Other Essays, 17.
[26]. ينظر: فايجل، التجريبية المنطقية، 180.
[27]. ينظر: آير، حلقة فينا ضمن كتاب ثورة البحث عن المعنى «مقالات في فلسفة القرن العشرين»، 88.
[28]. Schlick, Problems of Ethics, 5- 6.
[29]. Brandt, Morality Utilitarianism, and Rights, 30 -31.
[30]. symbol
[31]. Ayer, "What is Communication."
[32]. Ibid., 20.
[33]. ينظر: فايجل، هربرت، التجريبية المنطقية، ص183 .
[34]. ينظر: راسل، تاريخ الفلسفة الغربية، ج1، ص166 .
[35]. Potter, Bertrand Russell’s Ethics, 27- 28.
[36]. Ryle, The Concept of Mind, 107.
[37]. syntax
[38]. محمود، الموقف من الميتافيزيقا، 205 -206 .
[39]. Ayer, The Problem of Knowledge, 28.
[40]. Ayer, Language, Truth, and Logic, 116.
[41]. ينظر: أوستن، (كيف ننجز الأشياء بالكلام)، 184 .
[42]. Strawson, Ethical Intuitionism, 51.
[43]. ينظر: راسل، الدين والعلم، 236 .
[44]. أوستن، أوستن، (كيف ننجز الأشياء بالكلام)، 16
[45]. Stevenson, Ethics and Language, 81.
[46]. Carnap, "The Elimination of Metaphysics Through Logical Analysis of Language," 79.
[47]. ought
[48]. duty
[49]. obligation
[50]. ينظر: راسل، المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة، 63 .
[51]. Stevenson, Ethics and Language, 101.
[52]. ينظر: راسل، المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة، 63 .
[53]. Feigl, Minnesota Studies in the Philosophy of Science, 282.
[54]. ريشنباخ، نشأة الفلسفة العلمية، 248 .
[55]. اليزدي، كلمة حول فلسفة الأخلاق، قم، انتشارات، 3 .
[56]. م. ن، 18 .
[57]. semantics
[58]. ينظر: محمود، الموقف من الميتافيزيقا، 209 - 210.
[59]. Ayer, Logical Positivism, 26.
[60]. Ayer, Ethical Terms as Emotive Expressions, 120.
[61]. ينظر: فايجل، التجريبية المنطقية، 180 .
[62]. Ayer, Philosophcal Essays, 245
[63]. Ayer, Language, Truth, and Logic, 111.
[64]. ينظر: ريشنباخ، نشأة الفلسفة العلمية، 262 .
[65]. pragmatics
[66]. ينظر: محمود، الموقف من الميتافيزيقا، 205-206 .
[67]. Ayer, Logical Positivism, 26 .
[68]. Ayer, Philosophcal Essays, 232 .
[69]. Ayer, Hume A Very Short Introduction, 104.
[70]. فايجل، التجريبية المنطقية، 180 .
[71]. Ayer, Language, Truth, and Logic, 107.
[72]. Ibid., 112.
[73]. ريشنباخ، نشأة الفلسفة العلمية، 253 .
[74]. Ayer, Language, Truth, and Logic, 117.
[75]. Ibid., 106.
[76]. mistaken
[77]. false
[78]. Ayer, Hume A Very Short Introduction, 105 -106.
[79]. Stevenson, The Emotive Meaning of Ethical Terms, 20.
[80]. Stevenson, Ethics and Language, 141 .
[81]. Ayer, Language, Truth, and Logic,192.
[82]. Stevenson, The Emotive Meaning of Ethical Terms, 20.
[83]. مصباح اليزدي، محمد تقي ، المذاهب الأخلاقية، دراسة ونقد، 369.
[84]. الأيجي، شرح المواقف، 199.
[85]. الشهرستاني، الملل والنحل، 52.
[86]. الجويني، كتاب الإرشاد الى قواطع الأدلة في اصول الأعتقاد، 262.
[87]. الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، 1: 211.
[88]. البغدادي، الفرق بين الفرق، 111.
[89]. الحلي، الجوهر النضيد في شرح التجريد، 201.
[90]. سبزواری، شرح المنظومة (تعلیقات حسن زاده)، ج5، 167.
[91]. دي بور، تأريخ الفلسفة في الإسلام، 118.
[92]. نادر، فلسفة المعتزلة، 2: 103.
[93]. العامري، كتاب الإعلام بمناقب الإسلام، 78.
[94]. نادر، فلسفة المعتزلة، 2: 38.
[95] .صبحي، الفلسفة الأخلاقية في الفكر الإسلامي (العقليون والذوقيون)، 123.