البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

فلسفة اللغة التحليلية والفكر الإسلامي: بين النقد والبناء

الباحث :  حوار مع الدكتور مجتبى رستمي كيا
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  36
السنة :  خريف 2024م / 1446هـ
تاريخ إضافة البحث :  February / 13 / 2025
عدد زيارات البحث :  108
تحميل  ( 353.354 KB )
المقدمة
في هذا الحوار المميز، يفتح الدكتور مجتبى رستمي كيا، الباحث البارز في الفلسفة الإسلامية وفلسفة اللغة، أبواب النقاش حول موضوع فلسفة اللغة التحليلية وتأثيرها على الفكر الإنساني المعاصر. تركز المقابلة على استعراض شامل للاتجاهات الفلسفية في الغرب وتحليل علاقتها بالإرث الفلسفي الإسلامي، مع تقديم رؤى نقدية وإبداعية تستند إلى عمق معرفي وتجربة أكاديمية واسعة.
تنطلق المقابلة من مناقشة الأسس التي دفعت الفلسفة الغربية إلى الانتقال من البحث في الأنطولوجيا إلى الإبستمولوجيا ثم إلى فلسفة اللغة، مع إبراز دور شخصيات محورية مثل كانط وفتغنشتاين في تشكيل هذا التحول. يوضح الدكتور رستمي كيا كيف أن فلسفة اللغة التحليلية، رغم إنجازاتها، تواجه تحديات كبيرة في مواكبة التغيرات السريعة التي يشهدها العالم اليوم، خاصة في ظل الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي. في الجزء الثاني، يسلط الحوار الضوء على إمكانية الاستفادة من فلسفة اللغة في إعادة صياغة الفلسفة الإسلامية. يُبرز الدكتور رستمي كيا كيف يمكن للفلاسفة الإسلاميين من خلال الاهتمام بفلسفة اللغة تقريب الفلسفة الإسلامية من حياة المسلمين اليومية، مما يجعلها أكثر ارتباطًا بالواقع العملي والاجتماعي. من خلال أمثلة بارزة، يقدم رؤية متكاملة لإمكانات التفاعل المثمر بين هذين التقليدين الفلسفيين. تختتم المقابلة بنقاش معمق حول نقد فلسفة اللغة التحليلية والانتقادات التي تُوجّه إليها، مثل عدم قدرتها على التنبؤ بالتغيرات الكبرى وعدم مرونتها في مواجهة الديناميكيات الاجتماعية. يدعو الدكتور رستمي كيا إلى ضرورة إعادة بناء فلسفة اللغة التحليلية بشكل يواكب التحولات المعاصرة، مع التركيز على تطوير أدوات أكثر فاعلية لفهم حياة الإنسان والمجتمع.

المحور الأول: إرهاصات الاهتمام بفلسفة اللغة في الواقع الفلسفي الغربي
السؤال الأول: ما هي الأسباب التي دفعت البحث الفلسفي في الغرب إلى الانتقال إلى الاهتمام باللغة وفلسفتها؟ بمعنى أن الفكر الغربي، مثلاً منذ قرنين أو عقود من الزمن، قد انتقل إلى الاهتمام باللغة. فما هي الأسباب التي دفعت هذا الاهتمام باللغة في الفكر الغربي؟

إجابة الدكتور رستمي كيا:
بسم الله الرحمن الرحيم. للإجابة على السؤال الأول، أحتاج إلى تقديم مقدمة. هذه المقدمة تتطلب الغوص في تاريخ الفكر الفلسفي الغربي حتى نتمكن من فهم خصائص فلسفة اللغة التحليلية، أو بشكل أعم فلسفة اللغة، بشكل أفضل.
كما تعلمون، فلسفة اللغة في العصر المعاصر لها فرعان رئيسيان. الأول هو الفرع الذي نشأ في المجتمعات الأنجلوساكسونية، خاصة في إنجلترا، بما يسمى فلسفة اللغة التحليلية. الفرع الثاني هو الذي برز في الدول الناطقة بالألمانية، مثل ألمانيا والنمسا والدول المماثلة، تحت اسم فلسفة اللغة القارية.
تركيزنا في هذا النقاش سيكون على فلسفة اللغة التحليلية، لكن المقدمة التي سأقدمها تشمل كلا الفرعين. هذه المقدمة تساعدنا في معرفة السبب وراء الانتقال من دراسة الأنطولوجيا إلى نظرية المعرفة، ومن ثم إلى دراسة اللغة.
ذروة النقاشات الفلسفية في الغرب الحديث، إذا أردنا التعبير عنها بشكل عام، تكمن في مجال الأنطولوجيا، ويمكن اعتبار ديكارت ممثلاً بارزًا لها. طرح ديكارت مفهوم الأنطولوجيا الرياضية؛ بمعنى أنه كان يعتقد أن الوجود يمكن أن يُفهم ويُعبّر عنه إلى حد كبير من خلال ترجمته إلى لغة الرياضيات، المنطق، والاستدلال.
هذا الرأي يُعدّ أحد الأسس الرئيسية للفلسفة الغربية، وقد أُعير اهتمامًا بالغًا لهT من هذا المنظور يمكن إجراء مقارنة مع الفلسفة التقليدية لدينا، أي الفلسفة الإسلامية. في الفلسفة الإسلامية أيضًا تم التركيز بشكل كبير على الأنطولوجيا، ومع ذلك يجب دراسة ما إذا كانت هذه الأنطولوجيا ذات طابع استدلالي وأنها هل قُدّمت بلغة منطقية فعلًا. هذا الموضوع يشكل محل خلافات جدية بين المذاهب المختلفة للفلسفة الإسلامية، ويحتاج إلى نقاش منفصل.
بعد الأحداث المهمة في الفلسفة الغربية، بدأت موجة الإبستمولوجيا مع كانط وأتباع المدرسة الكانطية الجديدة. هذا التيار الفلسفي كان مبنيًا على فكرة أن الوصول المباشر إلى الوجود غير ممكن أساسًا، بل يجب دراسة العقل، المعرفة، والإدراك.
ركز كانط، على وجه الخصوص، على هذا الاعتقاد، وأكّد أننا نصل إلى الظواهر (الفينومين) فقط، وليس إلى ذات الأشياء أو النومن. هذا الاعتقاد بأن إدراك الإنسان يقتصر على التمثيل الذهني يُعدّ الفكرة المركزية لدى كانط، ولا يزال حاضرًا في فلسفات اللغة التحليلية واللغة القارية.
كان كانط يعتقد أن عقل الإنسان، بناءً على مقولات خاصة، سواء في مجال التصور أو التصديق، يمتلك القدرة على إيجاد تمثيل للواقع. وعلى هذا الأساس، حاول أن يؤسس إطارًا فكريًا قائمًا على الذهن البشري. وقد ساعدته أدوات مثل المنطق والرياضيات في إنشاء نظام فكري متكامل للإجابة عن الأسئلة الأساسية، خصوصًا في مجال القضايا التحليلية والتركيبية.
بعد كانط، انقسمت الفلسفة إلى فرعين رئيسيين، وتوصّل الفلاسفة إلى أن المشكلة الرئيسية لم تكن في الأنطولوجيا ولا في الإبستمولوجيا، بل كانت كامنة في اللغة. لماذا توصلوا إلى هذا الاستنتاج؟ لأن تيار الحياة المتدفّق ودقائقه لم يكن من الممكن تقليصه إلى مفاهيم ذهنية أو أنطولوجية. فإذا أراد الفلاسفة السابقون فعل ذلك، لفقدوا العديد من التفاصيل المهمة والدقيقة للحياة البشرية.

وفي هذا السياق، وُجّهت انتقادات جادة إلى العقلانية المفرطة والمبالغة في الاعتماد على الاستدلال في الغرب. وقد جاءت هذه الانتقادات حتى من الفلاسفة الغربيين أنفسهم. أحد الشعراء الفلاسفة الغربيين قال: «للزهرة رقة لا يستطيع الفيلسوف فهمها». هذه العبارة تشير إلى أن العديد من القضايا المتعلقة بالقضايا الإنشائية والقضايا المعبرة عن إرادة الإنسان الذاتية كانت تُعتبر من وجهة نظر فلسفية قضايا غير مفهومة أو غير معبرة عن الواقع.
تدريجيًا، ظهرت في داخل الفلسفة التحليلية نفسها حركة تشكيكية. وكان الهدف الأساسي منها أن تكون الفلسفة قادرة على وصف الحياة. فطالما أن الفلسفة لم تستطع تفسير الإنسان وأسلوب حياته بشكل حقيقي، فإن الانشغال بالاستدلالات والحدود النظرية سيكون مضللاً. هذه النظرة دفعت الفلاسفة إلى الابتعاد عن العقل النظري وحتى عن البحث النظري ، والتركيز بدلاً من ذلك على مفاهيم مثل فلسفة الفعل.
فلسفة اللغة التحليلية اقتربت في هذا السياق أيضًا إلى نوع من «فهم الفعل»، فاللغة باعتبارها أكبر علامة على فعل الإنسان، وبوصفها واحدة من أفعال الإنسان نفسها، يمكنها أن تمثل الحياة. هذا الاهتمام الفلسفي باللغة يدل على قصور الفلسفات السابقة في تعريف الإنسان ونمط حياته بشكل كامل.

هذا الاهتمام باللغة له أهمية خاصة سواء في فلسفة اللغة التحليلية التي نشأت في البلدان الأنجلوساكسونية، أو في الفلسفة القارية. ففي الفلسفة القارية، تُعتبر مسألة الحياة ومعناها قضية محورية. وقد تناول هذا الموضوع مفكرون مثل هايدغر، وغادامير، وبعض أعمال هوسرل، وحتى هيغل. وما زال الفلاسفة القاريون الجدد يناقشون هذه القضية حتى اليوم.
السؤال الثاني: نمط الحياة كان له الأثر كما ذكرتم، ولكن إذا أردنا أن نخصص الكلام أيضًا حول سير البحث الميتافيزيقي في الغرب ودوره في بحث فلسفة اللغة. يعني، كما نقرأ في بعض الكتب، أنهم قالوا إن موقف الغرب تجاه الميتافيزيقيا أيضًا انعكس في فلسفة اللغة. فهل يمكن أن يكون البحث الميتافيزيقي له الأثر أيضًا في فلسفة اللغة في الغرب؟

إجابة الدكتور رستمي كيا:
بالتأكيد، يبدو أن نوعًا من الابتعاد عن الميتافيزيقيا أدى إلى دفع الفلسفة إلى التقدم من خلال التركيز على اللغة. وكما ذكرت في إجابتي على السؤال الأول، كان أحد الأسباب الرئيسية لتشكّل الفلسفة الحديثة هو الهروب من فلسفة كانط وتفكيك البُنى والأساليب التي أسسها. هذا التحول يعكس خروج الفلسفة الحديثة من الميتافيزيقيا بمعناها التقليدي.

الميتافيزيقا نفسها مفهوم يحتاج إلى التأمل. عندما نتحدث عن الميتافيزيقا، يجب أن نحدد أي جانب منها نعني. إذا قسمنا الفلسفة التي سبقت ظهور فلسفة اللغة التحليلية إلى قسمين رئيسيين: الفلسفة المتعلقة بالعقل النظري (الحكمة النظرية) والفلسفة المتعلقة بالعقل العملي (الحكمة العملية)، يمكن القول إن فلسفة اللغة تمثل نوعًا من الخروج عن الميتافيزيقا بمعناها العام. ومع ذلك، فإن بعض فروع فلسفة اللغة، سواء في التقليد التحليلي أو القاري، يمكن تصنيفها تحت الميتافيزيقا.
مع ذلك، في رأيي، فإن الفارق بين الميتافيزيقا التقليدية وفلسفة اللغة الحديثة فارق ذو دلالة كبيرة، وأهم فرق بينهما هو اهتمام الفلسفة الحديثة بالفعل الإنساني، ونمط الحياة، والمخرجات التي تتجلى في اللغة. هذه القضايا تشكل المحور الرئيسي للنقاش في فلسفة اللغة.
الانتقادات الجادة التي وُجهت إلى الميتافيزيقا – سواء الميتافيزيقا في تقاليد الفلسفة لدينا أو في تقاليد الفلسفة الغربية – أدت إلى نشوء تيار يمكن تسميته بـ«التيار المناهض للميتافيزيقا». هذا التيار يبتعد تدريجيًا عن الأساليب الميتافيزيقية أو التجريدية البحتة ويتجه نحو الحياة والواقعيات الملموسة.

في رأيي، لا يمكن لأحد أن يصل إلى فهم عميق لفلسفة اللغة إلا إذا أوجد مسافة فاصلة عن الميتافيزيقا. كما يقول فيتغنشتاين: «قبل أن تفكر، انظر»، وهو يقول أيضًا في تعريفه للفلسفة: «الفلسفة هي المكان الذي ينتهي فيه الاستدلال ويبدأ فيه الوصف، حيث تبدأ الملاحظة والرؤية». وقد شبه فيتغنشتاين الفلسفة بأنها التي تعمل على التوجيه الإرشاد قائلاً: «الفيلسوف هو الشخص الذي يستطيع أن يري الذبابة طريق الخروج من القنينة»، ببساطة وفعالية بهذا القدر.
فهم نمط الحياة نفسه هو موضوع يمكن تقديم نقاشات مفصّلة حوله. في كتاب «بحوث فلسفية» لفيتغنشتاين، تناول هذا الموضوع بشكل واسع. وقد صرّح بوضوح بأنه لا يقبل الاستدلال، الاكتشاف، والإنتاج كوظائف للنظام الفلسفي. هذا المنظور يظهر بشكل أكثر وضوحًا في فيتغنشتاين الثاني.

أما بالنسبة لفيتغنشتاين الأول، فعلى الرغم من أنه يُصنف أيضًا تحت فلسفة اللغة، وهذا لا شك فيه، إلا أن المفاهيم الميتافيزيقية كانت لا تزال موجودة في أعماله. أكبر مفهوم ميتافيزيقي لديه هو مبدأ التحقيق. هذا المبدأ يُعتبر نوعًا من توحيد معايير اللغة، والذي لا يزال مستمدًا من الأنطولوجيا. في هذا المنظور، يتم تعريف المعيار خارج الذهن، على الرغم من أن هذا التعريف قد يكون ذريًا أو جزيئيًا.
في نظرية فيتغنشتاين الأول، يُطرح مفهوم التطابق وفقًا لنظرية الصدق، وتُعرف المعرفة على أنها الاعتقاد الصادق المبرر. بالطبع، يمكن التحدث بشكل أكثر تفصيلًا عن ابتكارات فيتغنشتاين الأول، أو ما يُعرف بفيتغنشتاين المبكر، ولكن ما يبدو واضحًا هو أن التيار الرئيسي لفلسفة اللغة التحليلية يبدأ من فيتغنشتاين الثاني، ومن المناسب أن نركز أكثر على هذه المرحلة.

المحور الثاني: بذور فلسفة اللغة في الفلسفات السابقة
السؤال الثالث: إذا رجعنا إلى ما قبل الفلسفة التحليلية، هل نجد بُذورًا ومناشئ للكلام حول فلسفة اللغة عند اليونان والفكر الإسلامي؟ حتى عندما كان البحث يدور مدار الوجود ومعرفة الوجود، فهل كان هناك أيضًا أبحاث مرتبطة بفلسفة اللغة؟

إجابة الدكتور رستمي كيا:
هذه نقطة مهمة للغاية ويجب أخذها بعين الاعتبار. لدينا طريقتان رئيسيتان لدراسة تاريخ الفلسفة: الطريقة التزامنية والطريقة التعاقبية. هذان المصطلحان مستمدان من مفاهيم فرديناند دي سوسير ، اللساني الشهير.
في الطريقة التعاقبية، يتم دراسة مفهوم فلسفة اللغة التحليلية بشكل تاريخي، والرجوع إلى الوراء للبحث عن جذورها في اليونان، الفلسفة الإسلامية، أو مصادر رئيسية أخرى. بهذه الطريقة، كلما اقتربت من المصادر الأولى، ستجد فوارق ملحوظة مع فلسفة اللغة التحليلية الحديثة.
أما في الطريقة التزامنية، فيتم التعامل مع فترة تاريخية محددة بغض النظر عن مناشئها التاريخية ومقاربة المفاهيم الموجودة فيها مع حقبة أخرى مثلًا ورصد ما فيهما من تقارب. إذا أردنا تطبيق هذه الطريقة لدراسة اليونان، روما، أو الفلسفة الإسلامية المبكرة، نجد أن هناك علومًا تحتوي على جذور قوية من مباحث لغوية أو فلسفية تتعلق باللغة، وهي واضحة للعيان.
على سبيل المثال، في التراث الإسلامي، تظهر هذه الجذور في علوم مثل المعاني، البيان، والبديع. هذه العلوم تُعدّ نوعًا من فلسفة اللغة، ولكنها دُرّست في إطار الأدب العربي أو اللسانيات العربية.
كذلك، بعض فروع فلسفة اللغة التحليلية التي تقترب من اللغة المعيارية يمكن تتبعها في علم المنطق الإسلامي أو حتى منطق أرسطو. القضايا المتعلقة بالألفاظ، الدلالات، والمفاهيم كانت تُطرح بشكل واسع في هذه العلوم، ويمكن اعتبارها مقدمات لفلسفة اللغة الحديثة.

السؤال الرابع: أين يقع علم الأصول وما هي تطبيقاته في هذا المجال من المقاربة؟
إجابة الدكتور رستمي كيا:
يبدو أن علم الأصول هو نوع من النظرة من الدرجة الثانية المتعلقة بمباحث علم اللغة، ولكن مع خصائصه الخاصة. هذا العلم يقع بشكل عام عند تقاطع مجالين: لغة المنطق ولغة المعاني والبيان والبديع. الاختلاف الحاصل حول أن: أي جزء من علم الأصول يستمد من لغة المنطق؟ وأي جزء منه يستمد من لغة المعاني والبيان؟ هذا الاختلاف أدى إلى ظهور مدارس أصولية مختلفة.

يمكن اعتبار علم أصول الفقه كمصدر جاد لدراسة مباحث علم اللغة الإسلامي. في هذا المجال، هناك أعمال بارزة. على سبيل المثال، أحد الباحثين البارزين، كيس فرستيغ Versteegh Kees المتخصص في علم اللغة العربي، كتب مجموعة مكونة من 51 مجلدًا في هذا المجال. أحد أعماله القيّمة هو كتاب بعنوان Landmark in Arabic Linguistics (معالم بارزة في علم اللغة العربي)، الذي نشرته مؤسسة أكسفورد. الجزء الثالث من هذا الكتاب مخصص لعلم اللغة العربي أو الإسلامي، ويُذكر فيه عشرة شخصيات بارزة في تاريخ علم اللغة الإسلامي.
في التراث الإسلامي، هناك العديد من الأعمال التي تركز أكثر على علم اللغة مقارنة بفلسفة اللغة. على سبيل المثال، في القرنين السابع والثامن الهجريين، كان هناك اهتمام خاص بأعمال ابن هشام، ومنها كتاب مغني اللبيب، الذي يُعتبر من النصوص الدراسية في الحوزات العلمية. هذه الأعمال تتعلق أكثر بعلم اللغة، ولكن يمكن العثور فيها على ملامح من فلسفة اللغة، خاصة الفلسفة التحليلية للغة، مما يجعلها جديرة بالتركيز عليها.
العلوم مثل المنطق وأصول الفقه، التي تسعى إلى التنظيم والاتساق المتربط بالحُجّية ، يمكن أن تقترب من فلسفة اللغة التحليلية المعيارية. ولهذا السبب، يمكن العثور على ملامح جادة لفلسفة اللغة في هذه العلوم.
على سبيل المثال، من بين المفكرين المعاصرين، يُعتبر المرحوم الشهيد الصدر شخصية بارزة في هذا السياق. رسالتي للدكتوراه كانت أيضًا حول المرحوم الشهيد الصدر وجون سيرل. يبدو أن الشهيد الصدر قد نجح في دمج فلسفة اللغة التحليلية المعيارية، مع الأسس المنطقية للاستقراء في علم الأصول. لقد استخدم 26 مبدأً من مبادئ فلسفة اللغة وطبقها في علم الأصول. إذا لزم الأمر، يمكن تحليل هذه المبادئ ومناقشتها بشكل مفصل.

ولكن النقطة المهمة هي أن مثل هذا الفهم يتحقق فقط عندما نتعامل مع الموضوع بطريقة تزامنية. مصطلحات مثل فلسفة اللغة التحليلية، سواء في شكلها المعياري أو العادي، هي مصطلحات حديثة. وبالتالي، لا يمكن اعتبارها معادلة تمامًا للمفاهيم التي طرحها أرسطو أو ابن سينا. ومع ذلك، يمكن العثور على ملامح التشابه في أعمالهم.
من جهة أخرى، لدينا في مجالات مثل المعاني، البيان، البديع، وعلم الأصول ذخائر غنية جدًا يمكننا من خلال إبرازها أن نساهم في إثراء فلسفة اللغة التحليلية.
السؤال الخامس: ألا يمكننا القول إن هناك اهتمامًا مستقلًا باللغة بين الفلاسفة القدماء لا علماء الأصول أو اللغة فقط؟
إجابة الدكتور رستمي كيا:
هذا الأمر يتجاوز مجرد الاهتمام، بعض المبادئ والقواعد اللغوية وحتى بعض الأسس الفلسفية المتعلقة باللغة واضحة تمامًا في أعمال الفلاسفة القدماء، لكن فكرة تحويل هذه القضايا إلى تخصص علمي مستقل كانت نادرة جدًا.
على سبيل المثال، تُعتبر علوم مثل الصرف، النحو، اللغة، أو فقه اللغة التي كانت شائعة في البلدان ذات الأغلبية الإسلامية مواضيع جديرة بالاهتمام. هذه العلوم، كانت تُدرّس في المدارس الكلاسيكية أو الحوزات كجزء من المناهج الدراسية، ولم تُعرف كتخصص علمي مستقل.
عندما نتحدث عن «التخصص" (discipline)، فإننا نعني مجالًا مستقلًا تمامًا ومستقرًا. في الماضي، لم أجد في فلسفة اللغة، سواء في تراثنا الخاص أو في فلسفة اللغة الأرسطية أو السقراطية، تخصصًا بمعناه الحديث. ومع ذلك، يمكن العثور على ملامح جادة لمبادئ، قواعد، أحكام، وحتى مسائل جزئية في أعمالهم. لكن هذه الملامح وحدها ليست كافية لتشكيل تخصص علمي.

المحور الثالث: جولة مع فلاسفة اللغة التحليليين
السؤال السادس: العلاقة بين الفكر واللغة عند الفلاسفة التحليليين. ذكرتم في مسار الفكر الغربي أنه كان يهتم أولًا بمعرفة الوجود، ثم نظرية المعرفة، ثم فلسفة اللغة. هل يمكن القول إن فلاسفة اللغة التحليلية، مثل كانط، أيضًا يرون وجود انقطاع أو انسداد بين الفكر والواقع، وبين اللغة والواقع؟

إجابة الدكتور رستمي كيا:
الإجابة عن سؤالكم معقدة إلى حد ما؛ لأن مفهوم التفكير قد أُعيد تعريفه في وجهة نظر فلاسفة اللغة الحديثين. لدى اللغويين تقنية قد تساعد في توضيح الإجابة. هناك ثلاثة مصطلحات رئيسية هنا:
البناء (construct): اللغة لديها القدرة على البناء، بمعنى أنها تستطيع إنشاء هياكل. الفلسفات البنيوية في اللغة تندرج ضمن هذه الفئة.
التفكيك (deconstruct): أي التفكيك أو الهدم. هذا التيار أيضًا يمكن أن نرصده في مدارس فلسفة اللغة.
إعادة البناء (reconstruct): أي إعادة البناء أو استعادة الهيكل السابق.
هذه المصطلحات الثلاثة تشير إلى أن العلاقة بين التفكير واللغة في فلسفة اللغة التحليلية ديناميكية وقابلة للتغيير، لذلك لا يمكن القول بشكل قاطع بوجود انقطاع كامل أو انسداد بين الفكر واللغة أو بين اللغة والواقع. التفكير في هذا المنظور يُفهم ضمن إطار اللغة، واللغة ليست وسيلة لنقل الفكر فقط، بل هي أيضًا مُشكّلة له.
إذا اعتبرنا التفكير أحد هذه الأقسام الثلاثة، فإن علاقة ذات معنى ستنشأ بين اللغة والتفكير. فاللغة يمكنها أن تكون ممثلة للبناءات، التفكيكات، وإعادة البناءات التي تحدث في حياة الأفراد.
ولكن إذا أخذنا التفكير بمعناه التقليدي – كما ورد في الأعمال الفلسفية، وخاصةً من الفلسفة اليونانية التي دخلت الفلسفة الإسلامية – فإن هذا التعريف يحمل طابعًا آليًا وأنطولوجيًا بالكامل. في هذا المنظور، يُعرَّف التفكير بانه عملية انتقال من المعلوم لتحصيل المجهول. هذا النوع من التفكير له جذور أنطولوجية، ويركز في نقاشات علم النفس الفلسفي على الوجود الذهني أو الذهن.
في هذا التعريف، التفكير الميتافيزيقي لا يقيم علاقة ذات معنى مع مجال اللغة أو علم اللغة. وحتى إذا وُجدت علاقة بينهما، فهي علاقة تبعية. على سبيل المثال، الدكتور غلام‌حسين الديناني في كتابه الفلسفة وساحة الخطاب[1] تناول القضايا المتعلقة باللغة وفلسفة اللغة ضمن إطار فلسفة ملا صدرا والفلسفة الإسلامية التقليدية. وقد خلص إلى أن الفلسفة التقليدية تعتبر أن اللغة لها دور تبعي وثانوي. هذا المنظور يرى اللغة كـ«ظل لذي الظل» ولا يمنحها استقلالية.
في رسالتي للدكتوراه أيضًا، خصصت فصلًا لهذا الموضوع. وجهات النظر في فلسفتنا تعطي غالبًا دورًا تبعيًا وثانويًا للغة، بل وحتى للتفكير. ولكن إذا اعتبرنا التفكير بمعنى تلك المفاهيم الثلاثة المذكورة (البناء، التفكيك، وإعادة البناء)، فإن العلاقة بين التفكير واللغة تصبح ذات معنى أشمل. في هذه الحالة، يكون التفكير واللغة وجهين لعملة واحدة. بمعنى أنه إذا نظرنا من زاوية واحدة، يكون التفكير؛ ومن زاوية أخرى، تكون اللغة.
ولكن في الفلسفة الإسلامية والمنطق الأرسطي فإنه يجب اجتياز ثلاث أو أربع خطوات على الأقل للوصول إلى اللغة. هذا المسار يبدأ من الأنطولوجيا، ثم يصل إلى الإبستمولوجيا وعلم النفس الفلسفي، وأخيرًا ينتهي باللغة. في هذا المنظور، تُعتبر اللغة مجرد علامة؛ وليس بمعنى العلامة الحديثة في علم اللغة، بل بمعنى الدال الذي يدل على مدلول أو يحكي عن شيء ما.

أهم اختلاف بين فلسفة اللغة التحليلية والفلسفة التقليدية يكمن في أن فلسفة اللغة التحليلية تؤمن باستقلال نظام اللغة. من وجهة نظر هذه الفلسفة، اللغة تحمل معناها بذاتها، ولا تحتاج إلى تبرير أو ارتباط بمفاهيم خارجية.
إذا قبلنا بهذه المفاهيم، فإن التفكير الميتافيزيقي – سواء في مجال الإبستمولوجيا أو الأنطولوجيا – يخرج فعليًا من هذا الإطار.
السؤال السابع: النقاش بين فلسفة اللغة المثالية والعادية من النقاشات المهمة في فلسفة اللغة. ما هي الأسباب التي جعلت هذا البحث يظهر؟ ولماذا فتح النقاش حول الفلسفة العادية والفلسفة المثالية؟
إجابة الدكتور رستمي كيا:
في فلسفة اللغة التحليلية، هناك على الأقل فرعان رئيسيان: فلسفة اللغة المعيارية أو المثالية، وفلسفة اللغة العادية أو العرفية.
ربما يمكن القول إن أهم سبب للفصل بين هذين الفرعين هو شخص فيتغنشتاين نفسه. والمثير للاهتمام أن هذا التحول وتغيير النهج حدث في الشخص نفسه، مما يجعل تحليل أسباب هذا التحول ممكنًا بسهولة.
أحد الفروق الأساسية بين فيتغنشتاين الأول والثاني هو تغيّر نظرته إلى اللغة. كان فيتغنشتاين الأول يعتقد أن اللغة يمكن أن تتحول إلى نظام معياري ومثالي. في المقابل، كان فيتغنشتاين الثاني يرى أن اللغة تجد معناها بشكل ديناميكي وفي الحياة اليومية للإنسان.
كانت فلسفة اللغة المعيارية أو المثالية تعتقد أن الفلسفة، يمكن أن تتحول إلى نظام معياري. هذا النظام المعياري كما نجح العلم بمعناه الحديث science في التأثير على حياة البشر باستخدام أدوات قياس معيارية وقابلة للتحقق، يمكن أن يجعل لغة البشر قابلة للقياس، ويحدد أين تكون اللغة صحيحة، وأين تكون خاطئة، وأين تكون مبررة وأين لا تكون كذلك.
كان فلاسفة اللغة المعيارية يرون أنه إذا وُجدت لغة مثالية يتحدث بها الجميع، فإن العديد من سوء الفهم والخلافات ستختفي، كانوا يعتقدون أنهم قادرون على اكتشاف وتصميم وتقديم هذه اللغة المثالية للآخرين، بحيث تعمل كأداة لتحسين حياة البشر.
من هذا المنظور، كانت فلسفة اللغة المعيارية تؤمن بأن العديد من سوء الفهم والمشكلات اللغوية تنبع من غياب لغة معيارية. وإذا تم جعل اللغة معيارية، يمكن الحصول على فهم متسق وموحد للعالم وللمفاهيم.

هذا الرأي كان أساسًا للعديد من الفلسفات الوضعية والمقاربات اللغوية اللاحقة، بما في ذلك فلسفات الحوسبة ونظريات علم اللغة الحديثة، مثل نظريات تشومسكي. هذه الفلسفات تحاول جعل اللغة مهيكلة تمامًا وقابلة للصياغة.
إحدى المبادئ الأساسية في فلسفة اللغة المعيارية كان مبدأ القابلية للتحقق (Verification Principle) وفقًا لهذا المبدأ، فإن الجمل التي يمكن اختبارها والتحقق منها هي التي تُعتبر ذات معنى فقط. أما أي شيء لا يمكن قياسه أو اختباره باستخدام الأدوات العلمية مثل المختبرات أو أساليب البحث، فيُعتبر بلا معنى وفقًا لهذه الفلسفة.
هذا النهج في فلسفة اللغة المعيارية كانت له عواقب واسعة النطاق. بمجرد طرح مبدأ القابلية للتحقق، تم استبعاد العديد من العبارات الإنشائية، الأخلاقية، والإرادية من دائرة اللغة والفلسفة. هذه العبارات؛ تم اعتبارها بلا معنى لأنها لم تكن قابلة للقياس أو التحقيق باستخدام الأدوات العلمية، .
على سبيل المثال، العبارات الإنشائية والإرادية، التي تُعتبر محورًا للعديد من النقاشات الأخلاقية والدينية، لم تعد، وفقًا لفلسفة اللغة المعيارية، جزءًا من دائرة الفلسفة. أدى هذا الاستبعاد للمفاهيم الأخلاقية والدينية إلى تجاهل جزء كبير من حياة الإنسان.
انتقد فيتغنشتاين المتأخر بشدة هذا الأمر في فلسفة اللغة العادية التي طرحها. كان يعتقد أن استبعاد هذه البنى اللغوية يعني تجاهل العديد من البنى الإنسانية. فعندما يتم استبعاد الأخلاق، الدين، والعبارات الإنشائية، فإن جزءًا كبيرًا من حياة البشر يتم استبعاده من الفلسفة. ومن وجهة نظره، فإن هذا النهج الفلسفي ليس مفيدًا ، بل هو محدود وغير كامل أيضًا.
كان فيتغنشتاين المتأخر يرى أن اللغة هي ما نعيش به، وليست مجرد أداة لاختبار أو وضع حدود للمفاهيم. في المقابل، كان فيتغنشتاين الأول ينظر إلى اللغة كأداة يمكن أن تحدد معايير الصحة والخطأ وتقيس المفاهيم.
مع مرور الوقت، توصل فيتغنشتاين المتأخر إلى أن هذه المعايير والحدود التي وضعتها فلسفة اللغة المعيارية أدت إلى تجاهل العديد من البنى الإنسانية، الأخلاقية والدينية. هذا التحول في رؤيته شكّل نقدًا جذريًا في فلسفة اللغة العادية التي قدمها.
إحدى الأسئلة المهمة التي تُطرح بين فيتغنشتاين الأول وفيتغنشتاين الثاني هي: هل يجب أن تُعتبر اللغة أداة للحياة أم أداة للتحليل العلمي؟ كان فيتغنشتاين المتأخر يرى أن اللغة هي وسيلة للعيش، ويعتقد أن اللغة تجد معناها في سياق الحياة اليومية. أما فيتغنشتاين الأول، فقد كان ينظر إلى اللغة كأداة قياس يمكن أن تقدم معايير للصواب والخطأ.
هذا التغيير في الرؤية يعكس تحولًا جذريًا في فلسفة اللغة من الفترة المعيارية إلى الفترة العادية. كان فيتغنشتاين المتأخر يعتقد أن معايير فلسفة اللغة المعيارية، من خلال تجاهل البنى الإنسانية ، تُعطّل الفهم العميق لحياة الإنسان.
السؤال الثامن: ننتقل إلى جورج مور. إن فيتغنشتاين في كتاب في اليقين تعرض لجورج مور في مسألة الحس المشترك ومسألة البديهيات. حاول جورج مور تقديم رؤية حول البديهيات من خلال نظرية الحس المشترك. هل يمكن القول إن هناك نوعًا من التقارب بين رؤية جورج مور في الحس المشترك ورؤية المناطقة مثل ابن سينا وغيره في مسألة البديهيات الستة، مثل المحسوسات والمشاهدات والأوليات التي هي مبادئ البرهان؟

إجابة الدكتور رستمي كيا:
ربما يمكن في النظرة الأولى العثور على بعض التشابهات بين نظرية الحس المشترك لجورج مور وبعض مبادئ اليقينيات في منطقنا، مثل المشاهدات، التجريبيات، والوجدانيات. ولكن نظام صياغة هذه المفاهيم في هاتين الفلسفتين مختلف تمامًا.
في فلسفتنا ومنطقنا في العالم الإسلامي، صياغة مبادئ اليقينيات – مثل الوجدانيات، المشاهدات، والتجريبيات – تعتمد على نوع من الأنطولوجيا الخاصة بنفس الإنسان. هذه المبادئ مبنية على تعريف لعملية التفكير، ينظر إلى عقل الإنسان كأداة للانتقال من المجهولات إلى المعلومات. هذا التعريف يتضمن مراحل تبدأ من عالم المادة، تمر عبر عالم المثال، وتنتهي في عالم العقل. وبالتالي، فإن هذه الصياغات ذات طابع أنطولوجي وميتافيزيقي.
في المقابل، جورج مور، كفيلسوف لغة وأخلاق، قدم صياغة مختلفة تمامًا. باعتباره صاحب كرسي الأخلاق في أكسفورد، ركز بشكل أكبر على العلاقة بين نظام الاعتقاد ونظام السلوك. فلسفته تتمحور حول نظرية الفعل (theory of act) والعلاقة بين المعتقدات البديهية والسلوك البشري.
إذا أردنا النظر إلى الفلسفة الإسلامية من منظور إعادة البناء (reconstruction)، فقد نجد بعض التشابهات بين الارتكازات اللغوية في علم الأصول ونظرية الحس المشترك لجورج مور. في رأيي، الارتكازات اللغوية في علم الأصول أقرب إلى نظرية الحس المشترك لجورج مور من مبادئ اليقينيات والبديهيات في علم المنطق عند المناطقة المسلمين.
البديهيات والنظريات في المنطق الأرسطي وفي العالم الإسلامي تستند إلى نوع من علم النفس الفلسفي والأنطولوجيا، وهي مصاغة بشكل ميتافيزيقي تمامًا، بينما يرى جورج مور في فلسفة اللغة التحليلية أن المعتقدات البديهية تشكل خلفية للفعل الإنساني، ويستخدمها كأرضية للسلوك البشري.
من جهة أخرى، أشار جورج مور نفسه في أعماله المختلفة إلى الفروقات بين فلسفته والفضاء السقراطي والأرسطي. في رأيي، إذا قمنا بدراسة نقده وملاحظاته بدقة، يمكننا أن نصل إلى الفروقات الأساسية بين هذين النوعين من الصياغة الفلسفية.
ولكن النقطة الأساسية هنا هي أن جورج مور دفع فلسفة اللغة التحليلية خطوة إلى الأمام. لقد تجاوز فلسفة اللغة التحليلية المعيارية – التي كانت تميل إلى نوع من الواقعية الخام – ودخل في فضاء يمكن أن نسميه الواقعية التمثيلية (representational realism). هذا النهج يُعتبر حلقة وسيطة بين اللغة المعيارية ولغة فيتغنشتاين الثاني العرفية.
في الواقع، إذا أخذنا بعين الاعتبار ثلاثة أنواع من الواقعية في الفلسفة التحليلية – الواقعية الخام، الواقعية الظاهراتية (مثل فيتغنشتاين الثاني)، والواقعية التمثيلية – فإن مكانة جورج مور تقع ضمن الواقعية التمثيلية. ومع ذلك، فإن هذا النوع من التمثيل لا وجود له في مبادئ اليقينيات والبديهيات في الفلسفة والمنطق في العالم الإسلامي.
إذا أردنا إجراء إعادة بناء (reconstruction)، فقد نتمكن من إيجاد نقاط اشتراك. ولكن هذه الإعادة ستكون عبارة عن فلسفة جديدة، ولا يمكن نسبتها مباشرةً إلى ابن سينا، الفارابي، أو غيرهم من الفلاسفة. بمعنى آخر، هذه الإعادة لا تعني التوافق المباشر مع الفلسفة التقليدية، بل هي خلق فلسفة جديدة مستلهمة من كلا التيارين الفلسفيين.
السؤال التاسع: فيتغنشتاين الثاني في كتاب التحقيقات الفلسفية طرح مسألة الألعاب اللغوية، حيث اعتبر أنه لا معنى للكلام دون الاستعمال. إلى أي مدى يمكن أن تكون هذه النظرية مقبولة؟ وكيف يمكن أن تؤثر على فهم نصوص مثل النصوص الدينية وغيرها؟

إجابة الدكتور رستمي كيا:
للإجابة على هذا السؤال، يجب أن نأخذ بعين الاعتبار نقطة عامة: ما كان فيتغنشتاين الثاني يسعى إليه ظهر في فترة كانت فيها العلوم التجريبية (science) والوضعية المنطقية أو اللغة المعيارية شائعة للغاية. في مثل هذا السياق، كان فيتغنشتاين يطرح نوعًا من التوجه الديني الجديد، فلنضع هذه النقطة العامة في الحسبان لفهم نظرية الألعاب اللغوية لديه بشكل صحيح.

لفهم الألعاب اللغوية بشكل دقيق، يجب مراعاة نقطتين:
صياغة الألعاب اللغوية وتفصيلها: قدّم فيتغنشتاين مفهوم الألعاب اللغوية في سياق لم تكن فيه النسبية اللغوية بمعنى نفي المعاني الثابتة مطروحة. إذا كان السؤال هو: هل قبول الألعاب اللغوية يعني نفي المعنى الثابت؟ الإجابة هي أن مستوى النقاش الفلسفي لدى فيتغنشتاين يتجاوز هذه المسألة.
منظور فلسفة الفعل في الألعاب اللغوية: فيتغنشتاين الثاني هو فيلسوف عملي أو براغماتي. كان يرى العالم من منظور الأفعال الإنسانية: المؤسسات الاجتماعية، السياسية، الاقتصادية، والعلاقات البشرية. ضمن هذا الإطار، كان يرى أفعالًا مثل التدين (الصلاة، الصيام) كجزء من الحياة البشرية، ويدرجها ضمن إطار الألعاب اللغوية.
الألعاب اللغوية تُفهم من منظور فلسفة الفعل. هذه النظرية تقوم على أن اللغة، مثل اللعبة، تعمل وفق قواعد معينة، ولكنها لا تمتلك حقيقة تتجاوز هذه القواعد. وكما تشغل الألعاب الترفيهية الإنسان لساعات طويلة، فإن الألعاب اللغوية تُعد جزءًا من الحياة البشرية، وتستمدّ معناها من هذا الاستخدام.
أما بالنسبة للنسبية والمعنى الثابت في الألعاب اللغوية، فإن نظرية الألعاب اللغوية لا تعني نفي المعاني الثابتة. في كل لعبة لغوية، قد تكون هناك قواعد ومعانٍ ثابتة. ولكن السؤال حول أي لعبة أو نمط حياة هو الأكثر صحة ليس مسألة يسعى الفيلسوف الثاني للغة (فيتغنشتاين الثاني) للإجابة عنها. بدلاً من الحكم، يكتفي فيتغنشتاين بملاحظة الحياة وتقديم وصف لها.
كان فيتغنشتاين الثاني يعتقد أن توحيد المعايير والحكم على الأنماط المختلفة للحياة يؤدي إلى عدم رؤية المؤسسات الاجتماعية والإنسانية بشكل صحيح؛ لذلك كان دوره هو وصف هذه الحقائق، وليس إصدار أحكام حول صحتها أو خطئها.
وأخيرًا بالنسبة لتأثير النظرية على فهم النصوص الدينية، من هذا المنظور، يمكن أن تساعد الألعاب اللغوية في فهم النصوص الدينية. يرى فيتغنشتاين أن التدين أيضًا لعبة لغوية لها قواعدها، أفعالها، ومعانيها الخاصة. وبدلاً من نقد الدين أو تأييده، كان يراه كجزء من الحياة الإنسانية، يلاحظه ويصفه.
ولكن إذا أردنا مقارنة هذه النظرية بالفلسفات التقليدية مثل الفلسفة الأرسطية، السينوية، أو الصدرائية، فقد تواجه هذه المقارنة انتقادات جادة.هذه الفلسفات تنظر عادةً إلى الأفعال الإنسانية من منظور العقل النظري وتسعى إلى الحكم على صحتها أو خطئها. بينما يكتفي فيتغنشتاين الثاني بالملاحظة والوصف.

المحور الرابع: نقد فلسفة اللغة التحليلية
السؤال العاشر: ما هي، برأيكم، الانتقادات أو الآفات التي يمكن أن تُوجَّه إلى فلسفة اللغة التحليلية؟ ما هي النقاط التي يمكن أن نعتبرها نقصًا في فكرهم؟
إجابة الدكتور رستمي كيا:
إذا أردت الإجابة من خلال لغة فلاسفة اللغة التحليلية أنفسهم، يمكن الإشارة إلى الفجوات والنقاط الضعيفة في فلسفة اللغة التحليلية التي تبدو واضحة للعيان.
أحد أهم الانتقادات التي يمكن توجيهها إلى فلسفة اللغة التحليلية هو عدم كفاءتها في فهم سرعة التغيرات في حياة البشر. هذا القصور لا يعني أنها لا تستطيع فهم التغيرات، ولكن المشكلة تكمن في القواعد التي تُعرّف لفهم بنى أو لغة البشر. هذه القواعد تكون ثابتة وغير مرنة بما يكفي لفهم ديناميكية التغيرات السريعة.
المشكلة الرئيسية في فلسفة اللغة التحليلية: تركز فلسفة اللغة التحليلية بشكل أكبر على الوضع القائم والتاريخ الماضي. فهي تحلل العديد من الظواهر بعد وقوعها، ولا تمتلك القدرة على التنبؤ بالبنى أو التغيرات الجديدة. هذه المشكلة تُعدّ نقصًا كبيرًا، خاصة في عالم اليوم حيث تتسارع التغيرات والنقاط المحورية في حياة الإنسان بشكل استثنائي.
في سياق تتوالى فيه التغيرات بسرعة فائقة، تعجز فلسفة اللغة التحليلية عن وصف هذه التحولات الضخمة. في رأيي، هذا الضعف يمثل أحد التحديات الأساسية لفلسفة اللغة التحليلية.
العلاقة بين فلسفة اللغة وعلم اللغة: يبدو أنه في الفترة الأخيرة، يتحول الاهتمام من فلسفة اللغة إلى علم اللغة. السبب وراء هذا التحول هو قدرة علم اللغة على فهم وتحليل التغيرات اللغوية بسرعة أكبر. أشار جون سيرل، في كتابه intentionality، إلى هذه القضية، حيث ذكر أنه في الماضي كان هناك حد واضح بين فلسفة اللغة وعلم اللغة، ولكن اليوم يجب على فلاسفة اللغة أن يرحبوا بعلماء اللغة.
الحاجة إلى إعادة بناء فلسفة اللغة التحليلية: فلسفة اللغة التحليلية في شكلها الحالي تفتقر إلى الأدوات والتقنيات اللازمة لفهم وصياغة التغيرات الكبرى التي تحدث في مجال اللغة وعلم اللغة البشري. لذلك، هناك حاجة ملحة لإعادة بناء هذا المجال بشكل جذري.
مع ظهور الذكاء الاصطناعي والتغيرات الاجتماعية السريعة، يبدو أن فلسفة اللغة التحليلية تحتاج إلى التكيف مع هذا الواقع المتغير. على سبيل المثال، تُعد أعمال تشومسكي في هذا المجال جديرة بالاهتمام، لكن بشكل عام، فإن القوى الدافعة للمستقبل تكمن في مجال الذكاء الاصطناعي والتغيرات الاجتماعية.
الحياة البشرية، مرة أخرى، قد سبقت هذه الفلسفة. يجب على هذه الفلسفة أن تسعى للحاق بهذه الحياة. إذا تحركت فلسفة اللغة التحليلية نحو علم اللغة الحاسوبي أو المحسوب بالكامل، فقد تتمكن من الاستجابة لهذه التحديات. ولكن في الوقت الحالي، تظل فلسفة اللغة وحتى الفلسفة القارية في موقف نقدي أو تنظيمي، وتفتقر إلى القدرة على فهم التغيرات السريعة بشكل كامل.
السؤال الحادي عشر: إذا أردنا أن نسأل الفلسفة الإسلامية: كيف يمكن أن تستفيد من فلسفة اللغة؟ وما هي التغييرات التي قد تطرأ إذا توجّه الفلاسفة الإسلاميون نحو فلسفة اللغة برأيكم؟
إجابة الدكتور رستمي كيا:
هذا السؤال بسيط من جهة، ومعقّد جدًا من جهة أخرى. سأحاول تلخيص النقاط الرئيسية:
تغيير في تصنيف الفلسفة الإسلامية: إحدى التغييرات الأساسية التي يمكن أن تجلبها فلسفة اللغة التحليلية إلى الفلسفة الإسلامية هي إعادة تصميم تصنيف الفلسفة الإسلامية. على سبيل المثال، إذا قرأت كتاب الأسفار لملا صدرا بدءًا من الجزء التاسع ثم عدت إلى الجزء الأول، ستتغير رؤيتك للفلسفة وترتيب موضوعاتها.
فلسفة اللغة التحليلية، من خلال تركيزها على الأفعال الإنسانية والمؤسسات الاجتماعية، يمكن أن تغيّر نهجنا تجاه الفلسفة الإسلامية. بدلاً من البدء من أصالة الوجود، يمكننا أن نبدأ من أصالة الإرادة أو النفس الإنسانية. على الرغم من أن هذه المفاهيم ترتبط في النهاية ببعضها، فإن المسار المختلف الذي نختاره يمكن أن يغير فهمنا للفلسفة.
هذه الإعادة للتصميم يمكن أن تغير التسلسل الهرمي التقليدي للفلسفة الإسلامية وتتيح لنا قراءة الفلسفة وفهمها من منظور جديد.
التركيز على المؤسسات والمخرجات الفلسفية: إحدى النقاط في الفلسفة الإسلامية التقليدية هي أنها تركز بشكل أكبر على الأسس النظرية، مع القليل من الاهتمام بالمؤسسات أو المخرجات العملية للفلاسفة. بينما فلسفة اللغة التحليلية، وخاصة بعد فيتغنشتاين، تعطي أهمية كبيرة للواقع الاجتماعي. من هذا المنظور، تصبح المخرجات العملية للفلاسفة الإسلاميين مثل عمارة الشيخ البهائي أو فلسفة الأخوة لآية الله شاه‌آبادي ذات معنى كبير.
على سبيل المثال، فلسفة الأخوة لآية الله شاه‌آبادي يمكن أن تُعتبر نموذجًا للمؤسسات المالية الإسلامية مثل البنوك أو التأمين التكافلي. هذه الفلسفة أثبتت قدرتها على التأثير في تغيير أنظمة الأفعال الإنسانية.
إعادة تعريف الفلسفة الإسلامية من منظور فلسفة اللغة: يمكن لفلسفة اللغة التحليلية أن تساعد في إعادة تعريف الفلسفة الإسلامية، يمكن للفلسفة الإسلامية أن تقترب من القضايا الإنسانية والاجتماعية. وفي المقابل، يمكن لفلسفة اللغة أن تستفيد من غنى الفلسفة الإسلامية.
على سبيل المثال، أظهر الشهيد الصدر في كتابه الأسس المنطقية للاستقراء كيف يمكن تجاوز أسس الفلسفة الغربية. كان يعتقد أنه بعد نشر هذا الكتاب، ينبغي لفلاسفة الغرب أن يتعلموا من الفلسفة الإسلامية.
حل المشكلات الحالية في الفلسفة الإسلامية: إحدى التحديات في الفلسفة الإسلامية المعاصرة هي التركيز المفرط على العقل النظري. هذا التركيز جعل العديد من الثنائيات الفلسفية، مثل أصالة الوجود وأصالة الماهية، تبقى في إطار التجريد. يمكن للاهتمام بالبعد الفلسفي اللغوي أن يقلل هذه الثنائيات إلى قضايا عملية، إرادية، وإنسانية، مما يساهم في حل المشكلات الحالية للفلسفة الإسلامية.
إخراج الفلسفة الإسلامية من الإطار التجريدي: إحدى أهم المساهمات التي يمكن أن تقدمها فلسفة اللغة للفلسفة الإسلامية هي إخراجها من الإطار التجريدي وإدخالها إلى الحياة اليومية للمسلمين. يمكن لهذا النهج أن يساعد الفلسفة الإسلامية على فهم المؤسسات الاجتماعية، الاقتصادية، والثقافية بشكل أفضل، وأن يُحدث تغييرات ذات معنى في حياة المسلمين. هذا التفاعل العلمي لا يساهم في إثراء الفلسفة الإسلامية فقط، بل يُغني فلسفة اللغة أيضًا من خلال إدخال وجهات نظر جديدة.

-----------------------------------
[1] بالفارسية: فلسفه و ساحت سخن