البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

مراجعة كتاب: الفلسفة واللغة، نقد المنعطف اللغوي في الفلسفة المعاصرة

الباحث :  إدارة التحرير
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  36
السنة :  خريف 2024م / 1446هـ
تاريخ إضافة البحث :  February / 13 / 2025
عدد زيارات البحث :  133
تحميل  ( 393.161 KB )
معلومات النشر:
اسم الكتاب: الفلسفة واللغة: نقد المنعطف اللغوي في الفلسفة المعاصرة
المؤلف: الزواوي بغوره
الناشر: دار الطليعة
مكان النشر: بيروت
سنة النشر: 2005
عدد الصفحات: 240

مقدمة
توجّهت الفلسفة في القرن العشرين نحو اللغة، وهذا ما تدل عليه كلمة «المنعطف اللغوي»، ولم يكن الأمر مقتصرًا على الفلسفة التحليلية بل شمل تيار الفلسفة القارية في أوروبا أيضًا، بتياراتها المختلفة وخاصة التيار التأويلي والبنيوي.

ومن الناحية التاريخية، فإن المنعطف اللغوي بدأ مع فريدريك نيتشه وتدعّم بالنظريات المنطقية في الفلسفة التحليلية، وتقوّى بالتيار الظاهراتي والفلسفة التأويلية، وتعمّق باللسانيات، وخصوصًا باللسانيات البنيوية.

سعى الكاتب في هذا الكتاب إلى المرور على كافة التيارات التي تناولت قضية اللغة، سواء من جهة فلسفية بحتة أو من جهة تطبيقية وسوسيولوجية.

الفصل الأول: منزلة اللغة في الفلسفة الأرسطية

في الحقيقة إن جذور البحث الفلسفي اللغوي ليست وليدة الفلسفة الحديثة، بل إن لها أساسات ترجع إلى الفلاسفة القدماء، وخاصة أرسطو في كتب النفس والعبارة والخطابة والسياسة والأخلاق، ومن ثم عند الفارابي وابن رشد في الفلسفة الإسلامية.

وهذه الأفكار عند الفلاسفة القدماء وإن لم تكن مبيّنة تحت فرع معرفي مستقل بعنوان فلسفة اللغة كما نجده عند الفلاسفة في العصر الحديث، إلا أنهم بحثوا عن قضايا اللغة والفكر في أبواب وكتب مختلفة، حتى عند أرسطو الذي مازال بُعد اللغة في فلسفته غير مستخرج، مع أن كتبه مليئة به.

ثم إننا إذا أردنا أن ندرس الآراء التفصيلية لأرسطو والفلاسفة اليونانيين بشكل عام، فلا بد أن نرصد الحركة السفسطائية المعاصرة لهم، حيث كان النقاش محتدمًا معهم حول قضيتين أساسيتين:

القضية الأولى متعلقة بعلاقة اللغة بالطبيعة والعرف

القضية الثانية متعلقة بالعلاقة بين القياس والاعتباط

ومن خلال التتبع في منشأ وانطلاقة الحركة السفسطائية يمكن القول إن السفسطائيين هم أول من حول موضوع الفكر اليوناني إلى موضوع اللغة والكلام، بسبب تشديدهم على مسائل الخطابة والبلاغة، إذ ما ميّز السفسطة عن غيرها هي قولها بسلطة الكلمة والخطاب، ولكن الحركة السفسطائية لم تتعرض لمسائل اللغة إلا من باب الإقناع وشحذ الجمهور، ولذلك تعرض الفلاسفة لها بالنقد؛ لأنها لم تهتم بملاحظة المسائل الوجودية والمعرفية والأخلاقية.

ومن هنا بدأت مساعي الفلاسفة وأولهم سقراط الذي أكد على ضرورة التعريف الماهوي والطرح الدقيق للألفاظ والمفاهيم، ولعل أول ما ذكر في هذا المجال كانت محاورة كراتيل من محاورات أفلاطون، التي تم التأسيس فيها لقواعد اللغة، والتفريق بين اللغة والواقع، بين الاسم والشيء، وأن الأسماء هل يمكن أن تعبر عن حقيقة الأشياء؟

أفلاطون رفض أن تكون الألفاظ وليدة الاتفاق الاعتباطي العابث، وفي المقابل يرى أن الخطأ ينشأ من الكلمات والاستعمال أيضًا؛ لذا يمكن أن نفسر موقفه أنه وسطي، يقبل بالحكاية بالكلمات عن الخارج دون أن يعني ذلك الصدق المطلق.

هذا بالنسبة لأفلاطون، وأما أرسطو فقد دخل إلى مبحث اللغة من باب الاجتماع، فالإنسان اجتماعي ومدني بطبعه ولا يحصل الاجتماع إلا بأن يكون ناطقًا وصاحب لغة وتواصل كلامي، وباعتقاد الكاتب فإن ما توصّل إليه أرسطو هو تطوير متميز للافتراضات التي توصل إليها أفلاطون، وخاصة في المنطق وقسم التصورات منه، وترافق هذا الاهتمام باللغة مع تطور الفتوحات التي قام بها الاسكندر المقدوني وانتقال اللغة اليونانية لأن تصبح لغة حضارية ومنتشرة.

يشتمل الأورغانون على كتاب العبارة والمقولات والتي نجد فيها أرسطو قد وضع نظريته حول اللغة والمنطق، فحيث كان الهدف من الكتاب هو تعليم الفكر وكيفيته، اضطر لأجل ذلك إلى بيان القضايا التي يتشكّل منها الفكر، ولمّا كانت القضايا أقوالًا، وكانت الأقوال مركبة من ألفاظ، وجب على أرسطو أن يتكلم أولًا في الألفاظ.

ويرى أرسطو أن المعاني من اللغات واحدة وإن كانت اللغات نفسها تختلف بين المجتمعات، وأن اللغة من الأمور التي يتفق البشر عليها وليس لها صبغة إلهية أو طبيعية.

وأما بالنسبة للخطابة والجدل اللذين هما من أقسام الأورغانون الذي كتبه أرسطو، فقد رأى أن الخطابة تشبه الجدل، لأنها موجهة للغير ولها غايتان أساسيتان، الأولى هي الحث على الفضيلة والثانية ملاءمتها لغير أهل البرهان.

أما الشعر عند أرسطو فيعتمد بشكل أساسي على المجاز اللغوي لا على إصابة الحقيقة كما يسعى إليها البرهان، ولا الإقناع كما تسعى إليها الخطابة او الجدل.

ثم إن هناك مباحث أخرى امتدت إليها قضايا اللغة الأرسطية مثل المباحث السياسية والهوية والمجتمع والدولة، وهذا الربط بين اللغوي والسياسي نجده بشكل متطور أكثر مع الفارابي وابن حزم وابن خلدون، وكذلك في الحضارة الغربية المعاصرة عند فوكو وبورديو، والذي تمثّل في مباحث من قبيل اللغة والسلطة، الخطاب والدولة.

الفصل الثاني: المشكلة الفلسفية في الفلسفة الرشدية

يحاول الكاتب في هذا الفصل الإجابة عن الأسئلة التالية:

ما هو موقف الفلاسفة والعلماء من اللغة قبل ابن رشد؟

ما هي مساهمة ابن رشد في تذليل العقبة اللسانية لعبارة أرسطو الغامضة؟

هل استطاع ابن رشد تجاوز الإشكالية اللغوية كما طرحها أرسطو وفلاسفة إلاسلام، وذلك عندما طرح الخطوط العامة لمنهج التأويل؟

أما بالنسبة للموقف من اللغة في التراث العربي الإسلامي قبل ابن رشد، فيشير بعض الباحثين إلى أن ابن رشد استفاد في مشروعه من شروحات الفارابي بشكل خاص لكتب أرسطو وسائر كتبه ككتاب الحروف، والذي ذكر فيها الفارابي العلاقة بين اللغة والفكر، واختلاف اللغات بين الأمم، هذا والحال أن المسائل اللغوية وإن كانت مطروحة من قبل الفلاسفة في العالم الإسلامي إلا أننا نجد فقهاء اللغة العربية قد قدموا الكثير من الأبحاث في هذا المجال مقارنة بما قدمه الفلاسفة.

ولعل من أوائل الأبحاث قضية نشأة اللغة والتي تبنى فيها غالب فقهاء اللغة نظرية المواضعة، بمعنى أن اللغة نشأت نتيجة اتفاق بين العقلاء للتفاهم والإشارة إلى الأشياء الخارجية، ومن القضايا التي أخذت مدى في البحث أيضًا العلاقة بين اللغة والمنطق التي ظهرت في مناظرة دونها التوحيدي في كتاب المقابسات، حيث يظهر أن هناك فئة من المفكرين كانوا يرون المشابهة بين اللغة والمنطق بخلاف آخرين الذين أصروا على التفريق بينهما، وأن النحو منطق عربي والمنطق نحو عقلي، وقد نظر بعض الفلاسفة والمفكرين الاجتماعيين لقضية اللغة وعلاقتها بسقوط وصعود الأمم مثل الفارابي وابن حزم الأندلسي، كما ربط ابن خلدون بين غلبة اللغة وغلبة السياسة.

وفي الخلاصة إن مقارنة سريعة بين ما طرحه اليونان حول اللغة وما طرحه المسلمون تبيّن أن هناك بعض المشتركات، ولكن أيضًا هناك أمور اختص المسلمون بالبحث عنها لم تكن موجودة قبلهم عند اليونان.

إذا وصلنا إلى ابن رشد نجد أن جهده تمثل في تلخيص وشرح كتب أرسطو، حيث واجه مشكلة الترجمة القلقة لنصوص أرسطو، مما دفعه إلى إعادة تشكيل الفهم الفلسفي للنص الأرسطي، وبالتالي تقديم نص جديد للأفكار الفلسفية الأرسطية، وظهرت بالتالي مشكلة اختلاط الفلسفي باللغوي، حيث يظهر من النص الارسطي آثار اللغة اليونانية، وعجزت اللغة العربية العادية في بعض الأحيان عن تقديم بدائل مناسبة من حيث الترجمة، ولذا لجؤوا أحيانًا إلى شرح الألفاظ والمعاني عوضًا عن ترجمتها، وبعبارة أخرى ميز ابن رشد بين معطيات كل من اللسانين اليوناني والعربي، وقدم كذلك ابن رشد رؤاه الخاصة في اللغة مخلوطة برؤى أرسطو في تلخيصه لكتاب الخطابة والشعر عند أرسطو.

الفصل الثالث: اللغة في تاريخ الفلسفة، إرنست كاسيرر

يذكر الكاتب أن الإشكالية اللغوية في الفكر الغربي بدأت مع نيتشه ولاحقًا مع هايدغر، فنيتشه هو أول من قرّب المهمة الفلسفية من حدود التفكير الجذري في اللغة، أما هايدغر فقد أعطى اللغة طابعًا أنطولوجيًا، وقال إن ماهية اللغة هي لغة الماهية، فإن التفكير في الوجود معناه الانشغال بماهية اللغة.

وقد واجه هايدغر في بعض محاضراته حول اللغة أحد ممثلي الكانطية الجديدة الفيلسوف إرنست كاسيرر، حيث أكّد هايدغر على ضرورة هدم أسس الميتافيزيقيا الغربية الممثلة بالعقل والفكر والمنطق، في حين حاول كسيرر نقد العقل الكانطي في إطار كانطية جديدة.

من هنا نشأت مباحثات وأفكار دارت حول السؤال التالي: هل يجب اعتماد الطرح الأنطولوجي أو الوجودي الذي تزعّمه هايدغر وما زال يمثله تيار الفلسفة اللغوية، أم يجب الأخذ بالجانب الرمزي والوظيفي للغة كما طرحه كاسيرر، وما زالت تدافع عنه نظريات مختلفة في فلسفة اللغة؟

أما بالنسبة للكانطية الجديدة التي تعتبر من أهم تيارات الفلسفة المعاصرة، فقد بيّنها ارنست كاسيرر بطريقة واضحة، حيث تتميز هذه الكانطية الجديدة بتطبيق المنهج الكانطي على قضايا المعرفة والقيم، حتى سُمّي ما قدمه في هذا المجال باسم فلسفة الأشكال الرمزية.

والفكرة الإجمالية لفلسفته هذه أن البرادايم لا يكفي للتعبير عن كل متغيرات الواقع، وخاصة فيما يتعلق بالأشكال الرمزية التي تكشف عنها الثقافة، ومنها على وجه التحديد اللغة والدين والأسطورة والفن، لأن هذه الأشكال تمثّل فهمًا مختلفًا ومغايرًا للواقع، فإن كاسيرر يوافق كانط في أن العالم الخارجي يتم التعرف عليه من خلال المقولات العقلية، لكنه يختلف معه في أنه يرى المقولات متغيّرة وليست ثابتة، وأنه يمكن تطبيقها على مواضيع مختلفة.

والسبب في هذا الانبعاث والتطوير للكانطية هو ما جرى من اكتشاف للنظرية النسبية في الفيزياء، مضافًا إلى أن الثقافة واللغة والفن لم تأخذ مجالها من الدراسة في زمن كانط؛ ولذا كان السؤال الجديد: ما هي الأسس التي تقوم عليها العلوم الإنسانية؟

يجيب كاسيرر أن الثقافة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالتحكم باللغة، وأن اللغة وظيفة وليست أثرًا، وبالتالي فإن إدراك العالم الخارجي إنما يتم بواسطتها وعبرها، وأن العلم ليس إلا تنظيمًا للعالم في رموز ولغة وعلامات.

فمعرفة العالم تاريخيًا بدأت بلغة سحرية أسطورية، ثم انتقلت لتكون لغة منطقية وفيزيائية، ولكن بقي كل هذا في إطار التدليل على الواقع من خلال المقولات والكلمات والدلالة، ثم انتقل الأمر إلى اللغة الكامنة في الإبستمولوجيا التجريبية واللغة في إطارها الرومانسي العاطفي، وهكذا تعدد النظر إلى اللغة بتعدد الإبستميات المختلفة.

وفي هذا السياق يطرح كاسيرر رؤيته حول اللغة تبعًا للكانطية التي تقول إن اللغة شكل من أشكال التعبير، والشكل لا يمكن دراسته إلا وفق علاقاته التي يقيمها، فوحدة الظاهرة تكمن في وحدة الشكل، وبالتالي اللغة تدرس ضمن منهج علائقي لا ذري أو تفريدي، وعليه فالفرق بين لغة وأخرى يكمن في رؤية العالم التي تعبر عنها اللغة بكليتها، لذا لا ينبغي لنظر إلى الوحدات اللغوية على أنها وحدات مفصولة لا تربطها رابطة.

إن الحضارة هي نوع من الانتزاع أو الانتقال من الطبيعة إلى الثقافة، والحضارة هي ما يتجاوز ثقافة معينة وخاصة ليرتبط وينتقل إلى ثقافات أخرى، فاللغة عنصر أساسي في كل الثقافات. وفي هذا السياق عرفت الفلسفة المعاصرة إحدى المحاولات الجادة لتأصيل فلسفة الثقافة من خلال منطق الثقافة أو بعبارة أدق «نحو لغوي للأشكال الثقافية الأساسية»، وذلك على يد عدة أشخاص أهمهم إرنست كاسيرر، وأهم الأفكار التي طرحها في هذا المجال:

الشكل الرمزي هو الذي ينتج الواقع وليس انعكاسًا له.

لا نستطيع فهم الممارسات المختلفة للإنسان في أي ثقافة معيّنة من دون دور التوسط الذي تقوم به الأشكال الرمزية.

تكوّن الأشكال الرمزية مجموع الثقافة بوصفها مؤسسة إنسانية خاصة، وهذه الأشكال هي اللغة والدين والأسطورة.

الفصل الرابع: نقد المنعطف التحليلي: كارل بوبر

بدأ المنعطف اللغوي مع غوتلوب فريجه مؤسس المنطق الرمزي، وتبعه في ذلك برتراند راسل في التحليل والتمييز بين البنية النحوية والبنية المنطقية للعبارة، وعمّق هذا التحوّل فتغنشتين في كتابه الرسالة المنطقية الفلسفية، الذي عرض فيه نظرية الصورة أو الرسم.

وتعتبر الوضعية المنطقية ومعها تيار اللغة العادية بمثابة خلاصة لهذا التحول الذي أصاب الفلسفة نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وتعود جذور الوضعية المنطقية إلى المذهب الوضعي عند أوغست كونت الذي نظر إلى اللغة على أنها ترتبط بالشعور، وأن الإنسان يعبر عمّا يشعر، وبالتالي فإن أصل العلامة واللغة هو الإحساس، وبالتالي يظهر في الفن، وشكّلت اللغة عنده أداة التواصل الاجتماعي أيضًا؛ ولذا فهي خاضعة لسنن التطور حالها كحال المجتمعات.

وأخذت الوضعية المنطقية من أوغست كونت استبعاده للبعد الميتافيزيقي في نشأة اللغة، وهذا الاستبعاد جعلها ظاهرة اجتماعية كغيرها من الظواهر، وبالتالي فهي ظاهرة تتطور وتتأثر بظواهر المجتمع.

مع فتغنشتين جُعلت اللغة أداة التحليل الفلسفي بعد أن كتب في الرسالة المنطقية أن حقيقة ووظيفة الفلسفة تكمن في توضيح الأفكار لا إنتاجها، وهنا تأخذ اللغة وظيفة فلسفية جديدة، باعتبارها أداة التحقيق والتحليل الفلسفي.

ومن هنا كانت الوضعية الجديدة معتمدة على أمرين أساسيين:

التحليل المنطقي اللغوي

التحقيق التجريبي

ودمج هذين البعدين يعني أن كل عبارة لغوية في صيغة ملفوظة لن يكون لها معنى إلا في إطار التجربة وقابلية التحقيق العلمي.

فتغنشتين الأول الذي ظهرت شخصيته التحليلية في كتاب الرسالة المنطقية الفلسفية، ذكر أن مهمة الفلسفة هي التوضيح المنطقي للأفكار، وليس إنتاج النظريات، بل هي فاعلية من الفاعليات الإنسانية التي تتوجه نحو التوضيح والتبيين، وعليه تأتي وظيفة اللغة وهي رسم الوجود، أي إعطاء صورة عن العالم الخارجي بحيث لا تقدّم القضية الملفوظة شيئًا عن الواقع إلا بمقدار ما أتاحت لها اللغة.

في مقابل هذا التيار، انتقد بول ريكور المقاربة الوضعية للغة، وتساءل منتقدًا عن المبرر للفصل بين القضايا العلمية والقضايا الميتافيزيقية، هذا التساؤل هو الذي دفع فلاسفة العلم من قبيل كارل بوبر ولكاتوس وفيرابند بالقيام بنقد شامل للأسس العلمية والفلسفية واللغوية التي قامت عليها الوضعية الجديدة.

ثم إن كارل بوبر وإن كان يصنفه البعض على أنه وضعي، ولكنه في الحقيقة ناقد لها، ويرى بوبر أن المعرفة متطورة في جوهرها؛ ولذلك لا بد أن تتجلى المعرفة في كل زمان من خلال الفرضيات والتوقّعات أو الحلول الاجتهادية، بمنهج أقرب ما يكون بطريقة المحاولة والخطأ، ويتم استبعاد الخطأ بطريقتين إما باستبعاد الفرض أو بتعديله، وهذا ما يعبر عنه بالقابلية للتكذيب.

ويمكن القول إن نظرية وظائف اللغة عند بوبر اشتملت على بعد نقدي للفلسفة التحليلية وبعد بنائي، فأما البعد النقدي فقد أطلق على الفلسفات المهتمة باللغة والتعريف والتدقيق مصطلح الجوهرانية، وشكك في جدوى وجدارة هذا التوجه، وانتهى إلى القول بضرورة عدم مناقشة الكلمات والألفاظ، ولكن في المقابل لم يوافق فلاسفة التحليل القائلين بأن الفلسفة مهمتها التحليل اللغوي للقضايا، بل اعتبر أن إقامة مفاهيم غير غامضة ووضع حدودًا بيّنة للمفاهيم لا ينبغي أن يكون غاية في ذاته، وأن مبدأ البساطة والوضوح الذي ينادي به الفيلسوف والمثقف على وجه العموم لا يعتبر مهمة علمية، وإنما يجب تناوله كمبدأ أخلاقي، ويكون بذلك مخالفًا صريحا لفلسفة اللغة العادية عند التحليليين.

مقابل هذا النقد للمنعطف اللغوي والفلسفة التحليلية، قدّم بوبر رؤيته اللغوية وهي نظرية الوظائف اللغوية، حيث يميز بين عالم الواقع وعالم الذهن وعالم الكلمات واللغة، وعليه فالمفاهيم والتصورات واللغة ما هي إلا أدوات ولها دور تقني وتداولي، وليست هدفًا علميًا في حد ذاتها، وهذا يشبه إلى حد ما تحول فتغنشتين من الاهتمام باللغة المثالية التصويرية إلى اللغة العادية والاهتمام بوظائف اللغة واستعمالها.

وفي طول هذا التحول، جاءت نظرية أفعال الكلام لتثبّت بشكل نهائي قضية وظائفية اللغة، ولتعتبر أن تقسيم اللغة إلى إخبار وإنشاء، ليس في محله، فالأقوال في جوهرها أفعال، فإنها تعمل وتسعى إلى أن تحقق شيئًا ما أو غرضًا ما، وبالتالي فإن المسألة لا تتعلق بالصدق والكذب فقط وإنما بالسياق والمناسبة أيضًا.

الفصل الخامس: نقد المنعطف التأويلي: بول ريكور
شكّلت التأويلية منعطفًا لغويًا ثانيًا في الفلسفة المعاصرة، مقارنة بالفلسفة التحليلية، ومؤسسها غادامر الذي رفعها إلى مستوى الفلسفة الأولى، وهي عند هايدغر بمنزلة بيت الإنسان.
يمكن تقسيم التأويلية من الناحية التاريخية إلى قسمين:
المرحلة القديمة والوسيطية، حيث تم التركيز على تأويل الأساطير والكتب المقدسة والقانون وعرفت بالتفسير.
المرحلة الحديثة، وهي التي لم تهتم بنصوص خاصة، بل قالت إن كل نص مهما كان مستواه يجب أن يخضع للتأويل.
وهكذا أصبحت التأويلية الحديثة تشمل جميع ميادين العلم والمعرفة، وتم اعتماد فكرة أن كل ما هناك في العالم هو تأويل.

ومن هنا بدأ النقد يوجّه للتأويلية بأنها لا تستند إلى الوقائع الخارجية، وأنها تؤدي إلى موقف عدمي مؤدّاه أن كل شيء ممكن ومسموح به.
ومن أهم أعلام التأويلية فريديريك شلايرماخر الذي يعد الأب الحقيقي للتأويلية الحديثة، حيث اعتقد أن التأويل لا بد أن يقوم على قواعد أساسية، حيث يقوم التأويل على مستويين: المستوى اللغوي للنص، ومستوى الفكر المشكّل للنص أو فكر المؤلف والكاتب.
والشخص الثاني الذي يعد من أعلام التأويلية جورج ديلتاي، ويرى أنه لا بد من فهم الطبيعة الإنسانية من خلال ما تظهره التجربة وما تبيّنه اللغة والتاريخ، والتجربة عنده متعلقة بالشعور والوعي، ففي الحقيقة قام ديلتاي بنقل التأويل إلى الجانب السيكولوجي، كما نقله هايدغر إلى الجانب الوجودي وهو ما يسمى الفينومينولوجيا التأويلية.
أما غادامر الذي يعتبر من فلاسفة التأويلية، ويرى أن الفلسفة التأويلية ليست فلسفة نظرية فقط بل فلسفة عملية أيضًا، حيث تهدف إلى تأويل النصوص بحيث تقربها إلى قرائها.
أما بول ريكور والذي هو من أعلام التأويلية أيضًا، فيذكر أن تحصيل المعنى عبر القراءة يساوي فعل الكتابة، وأن النص ينفلت من المؤلِّف ليشكل منطقه الخاص، وللقارئ ذاته ثقافته وما ينتظره من النص، ولا يخفي ريكور علاقة اللغة بالواقع أيضًا، حيث يدافع عن فكرة أن فلسفة اللغة تحلل العلاقة بين اللغة والواقع، على عكس الاتجاه التأويلي والبنيوي والوضعي، وأما التأويل عنده فينشأ كحاجة أمام القراءات المتعددة والفهم المتعدد.

الفصل السادس: نقد المنعطف البنيوي (1): نعوم تشومسكي
يمكن القول إن فلسفة اللغة بالصيغة التي تقدّم شرحها شهدت منعطفًا جديدًا باسم اللسانيات، وتميز هذا المنعطف بالاهتمام بالبعد الميداني والتطبيقي للبحث اللغوي والابتعاد عن التحليل المنطقي والتأويلي.
ولا بد من التفريق بين فقه اللغة واللسانيات، فالأول يبحث عن فروع اللغة من قبيل النحو والصرف وتحقيق النصوص والمقارنة بين اللغات، أما اللسانيات فتوجهت للبحث بشكل أكبر نحو بنية اللغة ووصفها، حيث يقوم لأجل تحقيق هذا الهدف بملاحظة الأحداث والمعطيات اللغوية ورصد تشابهاتها الجزئية، ومن ثم تقديم الفرضيات لتفسير الوقائع التي تمت ملاحظتها، وعلى أساسها يتم التقدم ببعض الفرضيات لتفسير هذه الأحداث، ثم محاولة التأكد من ملاءمة الافتراضات للواقع اللغوي، ومن ثم تليها مرحلة بناء النظرية القائمة على هذه الافتراضات التي تفسر عمل اللغة بصورة عامة، ويظهر من مجمل هذه الخطوات العلاقة الواضحة بين المنهج التجريبي في العلوم الطبيعية والمنهج الألسني.

يعتبر فرديناند دي سوسير أول من برع في البحث اللساني واعتبر أن اللغة واقع قائم بذاته، وأن اللغة لا تحتاج إلى عنصر خارجي لتحديدها، ومن هنا انطلقت البنيوية الألسنية بعد جعل النسق والنظام الركيزة الأساسية للبحث، ثم تطورت اللسانيات بشكل كبير مرورًا بحلقة براغ اللسانية وصولًا باللسانيين المعاصرين والذين يعتبر تشومسكي أحد أعلامهم.

يعتبر نعوم تشومسكي مؤسس النظرية التوليدية التحويلية في اللغة، والتي تحتوي على مبادئ أهمها:
الكفاية اللغوية والأداء الكلامي: أي لا بد من التفريق بين المعرفة الضمنية لمتكلم اللغة وبين الأداء اللغوي
البنية السطحية والبنية العميقة: أي البنية الباطنية لتشكل الكلام وهو المنطق الداخلي له والبنية السطحية الظاهرية للكلام.
وظيفة اللغة: وهي الوظيفة الإبداعية التي ترتبط بذات المتكلّم، خلافًا للبنيوية التي تهتم باللغة بعيدًا عن ذات المتكلم.

الفصل السابع: نقد المنعطف البنيوي (2): ميشيل فوكو
إن الاضطراب الذي تحظى به بعض كتابات ميشال فوكو تجعلنا أمام معضلة في تصنيفه بأنه بنيوي أم ما بعد بنيوي، فالبنيوية اللسانية تعني وجود بنية لغوية في كل كلام تنظّمه تنظيمًا منطقيًا باطنيًا وأساسًا موضوعيًا، وهي ذات طبيعة لاشعورية، أما ما بعد البنيوية أو البنيوية الجديدة التي يعتبر ميشال فوكو في بعض كتاباته ممثلًا لها، فهي حيث أخرجت البنية عن كونها نسقًا مغلقًا.
وتتجلّى ما بعد البنيوية عند فوكو في نظرية الخطاب واللغة، حيث اعتبر أن اللغة تتميز بخاصية الاختراق والتجاوز، ولهذا فهي صالحة لأن تكون أداة للمقاومة، بمعنى أن فوكو أعطى للغة بعدًا وجوديًا سابقًا على الإنسان وأنها المكان الذي يفكر فيه الإنسان.

لاحظ فوكو أن اللغة لا يمكن تحليلها من حيث مكوناتها الصورية الرمزية فقط، وإنما يجب الأخذ بعين الاعتبار وظائفها الملموسة أو الواقعية، فيكون المجال البحثي اللغوي هو ملاحظة الخطاب في التاريخ.
الخطاب بحسب فوكو هو ممارسة منظمة تتكون من عدد من المنطوقات، التي تتشكل من المكان والشرط وحقل الانبثاق وحالات أو إمكانيات الظهور والاختفاء، فتحليل الخطاب يتم من خلال تحليل العلاقة بين المنطوق وفضاءات الاختلاف حيث يظهر المنطوق ذاته الاختلافات. وتبعًا لذلك اهتم فوكو بالجانب المرئي للخطاب.
وفي إطار البحث عن تحليل الخطاب، يذكر فوكو أن المنطوقات تنتظم داخل تشكيلة خطابية في مرحلة تاريخية معيّنة، وعليه فهناك تلازم بين الخطاب والمنطوق والتشكيلة الخطابية بحيث ينتمي المنطوق إلى التشكيلة الخطابية مثلما تنتمي الجملة إلى النص، والتصور إلى العبارة والقضية إلى النسق البرهاني.

وفي نظريته حول تحليل الخطاب يذكر فوكو أن خطوات التحليل تتمثل بخطوتين: الوصف والتأويل التاريخي، والمقصود من الوصف هو ملاحظة الأرشيف بمعنى الوجود المتراكم للخطابات، ولا يهتم بالتنقيب وكشف الأسرار، إنما بالعلاقات التي تظهر في سطح الخطاب، وكذا لا يهتم بالتأويل، بل بالوجود المتمظهر للمنطوقات بوصفها ممارسة تخضع لقواعد التحول والوجود والتعايش، وفي النهاية الهدف من تحليل الخطاب هو إيجاد قواعد التشكّل أو التكوّن.

الفصل الثامن: نقد المنعطف البنيوي(3): بيير بورديو
يميّز الدارسون في البنيوية بين تيارين أساسيين: تيار البنيوية الشكلية الذي نقرأ أرضيته العلمية في لسانيات دي سوسير وتيار البنيوية التكوينية الذي قام على جهود تشومسكي وبيير بورديو وبياجيه.
إن أهمية بورديو في مجال علم الاجتماع تكمن في الكيفية الجديدة لرؤية الأشياء، وذلك من خلال اهتمامه الكبير بالبنى الرمزية كالتربية والثقافة والفن والأدب والدين، وكذلك السياسة والإعلام، وشكّل العنف الرمزي واحدًا من الموضوعات المهمة والمركزية في تفكيره. كما أن محاولته تجاوز التقابلات التي طبعت العمل السوسيولوجي، كالتقابل بين الشرح والتأويل، والبنية والتاريخ، والحرية والحتمية، والذاتية والموضوعية، دليل على أصالة تفكيره.
وبالتالي يمكن القول إن بورديو انتقل إلى الاهتمام بالمفهوم الإبستمولوجي والمشكلات المعرفية والإبستمية لعلوم الإنسان على غرار باشلار وفوكو، فقد كان يقاسم جيل ما بعد الوجودية فكرته الداعية إلى التخلي عن الفلسفة الذاتية والانخراط في البحث الإبستمولوجي للعلوم الإنسانية؛ لأن عيب العلوم الانسانية في نظره يكمن في الابتعاد عن الحياة العملية. ولذا أعلن بورديو انتماءه إلى المنهجية المادية الناشطة من خلال نظريته مادية الأشكال الرمزية، بحثًا عن أسباب الظواهر وعللها وضرورتها الموضوعية والذاتية.

حاول بورديو تأسيس بنيوية تكوينية تقوم على تحليل البيانات الموضوعية من دون فصلها عن تكوّنها من خلال دراسة الأفراد والبنيات الذهنية، كما ركّز على دور البنيات الرمزية التي لها سلطة خاصة في التكوين، ولقد حصل تقارب بين بورديو وفوكو في مسألتين أساسيتين: تحليل المعرفة والسلطة، وتحليل اللغة أو الخطاب، فأما موقفه من اللغة فقد نقد الاتجاهات اللغوية الكبرى، وقدّم منظورًا اجتماعيًا للغة من خلال تقديم مفاهيم خاصة كالسوق اللغوية والرأسمال اللغوي، وأخيرًا تشابك هذا المنظور مع نظريته العامة في المجتمع المعروفة باسم نظرية الممارسة.
ناقش بورديو مختلف أشكال السيطرة التي يمارسها النموذج اللساني كما صاغه دي سوسير وتشومسكي على العلوم الاجتماعية، وكان قريبًا في ذلك من فوكو، وأصرّ على أن الحل الوحيد يتمثل في إظهار أن العمليات اللغوية ذات أساس اجتماعي.

الفصل التاسع: تحول المنعطف اللغوي: من الفلسفة اللغوية إلى فلسفة اللغة
أول فيلسوف أطلق مصطلح فلسفة اللغة اقترح أن اللغة لا ينبغي دراستها في إطار العلاقة بالفكر فقط، بل لا بد من إدخالها للدراسة في حقل علم الجمال، خاصة أن حقيقة اللغة تظهر في الشعر، وهذا الفيلسوف هو الإيطالي بندتو كروتشه وفي المقابل قام انطونيو غرامشي بنقد هذا الفهم والقول بوجوب التركيز على الجوانب الاجتماعية والسياسية للغة.

وفي الخلاصة إن فلسفة اللغة مبحث فلسفي حديث، ظهر بداية القرن العشرين، إلا أن هناك من يعتقد أن فلسفة اللغة قديمة قدم الفلسفة، وترجع إلى مختلف الآراء الفلسفية التي قيلت حول طبيعة اللغة وعلاقتها بالفكر والواقع والتي نقرؤها في نصوص أفلاطون وأرسطو والفارابي وديكارت ولوك ونيتشه وفتغنشتين وغدامر ودريدا وفوكو وأوستين وكواين، وغيرهم.

ورغم الاختلاف حول ميدان فلسفة اللغة بحسب التيارات، إلا أن الكاتب يعتقد أن الموضوعية تفرض النظر إلى فلسفة اللغة انطلاقًا من النقلة النوعية التي عرفتها مسائل اللغة نتيجة للتطورات الحاصلة في ميدان المنطق الرياضي والألسنية والتأويل أو فلسفة التأويل، وهو الذي أدى إلى بروز رأي يدافع عن فكرة أن فلسفة اللغة فرع فلسفي مثله مثل الفروع الفلسفية الأخرى كفلسفة التاريخ وفلسفة العلوم، أي إن فلسفة اللغة مبحث مستقل له موضوع خاص هو اللغة، منظورًا إليه من زاوية فلسفية.
وهناك توجهات أخرى غير هذا منها ذلك التوجه الذي يحصر فلسفة اللغة في عمليات الفهم والشرح والتأويل والمعنى، وهو الاتجاه الظواهري وتمظهراته في فلسفة التأويل، حيث يرى هذا الاتجاه أن الفهم والتأويل والترجمة والتوضيح تشكل شروطًا أساسية لكل ممارسة لغوية.

أما بالنسبة لاتجاهات فلسفة اللغة فيمكن أن نذكر:
الاتجاه التحليلي: وهو التيار الغالب في فلسفة اللغة الذي أسس ما يسمى البحث عن اللغة المثالية ومن ثم البحث في تحليل اللغة العادية.

الاتجاه التأويلي: وهو الاتجاه المعتمد على الفلسفة الظواهرية وتدرس اللغة من حيث الوعي بها وتأويلها.
الاتجاه التفكيكي: يعتبر دريدا رائد هذا الاتجاه أن كل تعريف وتحديد يحتاج إلى تفكيك ويتطلب على الأقل الشك والظن في الكلمات والمفاهيم التي صيغت بها، تلك الكلمات التي ألفناها والتي تسكن أي لغة كانت.
الاتجاه التواصلي: رائده هابرماس، وهذا الاتجاه يعتبر امتدادًا لنظرية أفعال الكلام ويهتم بالتفسير الاجتماعي السياسي القانوني.
الاتجاه اللساني: اللسانيات تعتبر تحوّلًا في فهم الظاهرة اللغوية، سواء كان من حيث بنيتها أم من حيث وظيفتها أو طرق دراستها أو المجالات التي تكونها، كالتركيب والدلالة والتداول والسيمياء وتحليل الخطاب.

ملاحظات نقدية
في الحقيقة إن هذا الكتاب يتميّز بنقطة إيجابية وهي عرضه السلس والمتسلسل لقضية اللغة وعلاقتها بالفكر الفلسفي على مر الانعطافات والعصور، وكانت أهم قضايا فلسفة اللغة التي تدرسها كافة الاتجاهات الفلسفية هي:

طبيعة وبنية اللغة
اللغة والفكر
اللغة والواقع
اللغة والسلطة
ولكن يشتمل الكتاب على نقص أساسي وهو إهمال الحقبة الذهبية للفلسفة الإسلامية، حيث اقتصر ببيان الأبعاد التي تكلّم حولها ابن رشد فقط، ولكن لم يتم التعرض لأبعاد أخرى في فكر الفارابي وابن سينا وصدر‌المتألهين الشيرازي وغيرهم، ونحن سنحاول في هذه الفقرة تتميم عمل الكاتب من خلال الإضاءة على بعض الجوانب في هذه الحقبة وعند هؤلاء الفلاسفة.
لا يمكن إغفال المساهمة الكبرى التي قدمها ابو نصر الفارابي في كتاب الحروف، والذي «كتبه إمام المنطقيّين في عصر بلغ فيه الفكر العربيّ‌ أوجه في تفهّم أمور العلم واللغة، وضرورة التعبير الصحيح عن ما ينظر الإنسان فيه ويعقله. فلا يستغني عن قراءته من يشتغل في تأريخ الفلسفة واللغة، ويجب أن يمعن النظر فيه من يقصد فهم الصلة بين نموّ العلوم واللغة التي بها يعبّر عن العلوم والمجتمع الذي تنمو فيه».[1]
كما إن مساهمته في كتاب الألفاظ المستعملة في المنطق رائدة من حيث تنظيمها للغة المثالية المنطقية في الحقل التداولي العربي ومقايستها باللغة اليونانية، فكانت تجربة رائدة في نقل المعاني والفكر من لغة إلى لغة، وتعبر عن اهتمام في صناعة اللغة المثالية، حيث يقول في هذا الكتاب على نحو المثال: ومن الألفاظ‍‌ الدالّة الألفاظ‍‌ [التي] يسمّيها النحويّون [الحروف التي] وضعت دالّة على معان. وهذه الحروف هي أيضا أصناف كثيرة، غير أنّ‌ العادة لم تجر من/أصحاب علم النحو العربيّ إلى زماننا هذا بأن يفرد لكلّ صنف منها اسم يخصّه، فينبغي أن نستعمل في تعديد أصنافها الأسامي التي تأدّت إلينا عن أهل العلم بالنحو من أهل اللسان اليونانيّ‌ فإنّهم أفردوا كلّ صنف منها [باسم خاصّ‌]."[2]
وهكذا نجد أن الاهتمام باللغة في الفضاء الفلسفي في العصور الإسلامية كان تابعًا للانشغال بالفلسفة الأرسطية واليونانية بوجه عام، مما استدعى تأسيس لغة مثالية تناسب المطالب العلمية الفلسفية التي لا تلبي حاجاتها اللغة العربية.

وأما الاهتمام باللغة العادية عند العرب والمسلمين، فقد كان في الفقه وأصول الفقه بالخصوص، وذلك لأن فهم النص الديني كان يتأسس على الفهم العرفي والعادي للغة في أفق الفقه والقانون.
أما بالنسبة للسير الغربي في البحث اللغوي المرتبط بالفلسفة، فإننا نجد أن هذا الكتاب أوصل البحث اللغوي من فلسفة اللغة إلى البحث اللساني، واعتبر أن البحث اللساني امتداد أو طفرة وانعطاف جديد من انعطافات فلسفة اللغة، ولكن في هذا الأمر نظر وتأمل؛ لأن البحث في فلسفة اللغة رسم مسارًا مازال مستمرًا، وأما البحث اللساني فله مساراته الأخرى الممتدة في سياق موازٍ للبحث في فلسفة اللغة.
كما أن جعله البحث في الخطاب واللغة في بعدها الاجتماعي لا يتناسب مع عنوان الكتاب الباحث عن العلاقة بين الفلسفة واللغة، فنحن وإن سلّمنا بأن للبحوث الاجتماعية والانتروبولوجية التي تدرس قضايا الخطاب وعلاقته بالبنى جذورًا في فلسفة اللغة أو الفلسفة عمومًا، ولكن هذا لا يعني إدراجها ضمن بحث العلاقة بين الفلسفة واللغة، فالبحث حول الخطاب واللغة عند بيير بورديو مثلًا هو بحث اجتماعي صرف.
وأخيرًا، نجد أن هذا الكتاب لا يشتمل على بُعد نقدي، وهذه سمة تكاد تكون سمة ظاهرة في أغلب الكتب التي تتناول الفكر الغربي ورصده تاريخيًا، فنجد أن أغلب المطالب عبارة عن تقريرات لما أفاده المفكرون والفلاسفة دون نظر ونقد يُبرز شخصية الكاتب فيها. ولذا يشعر القارئ أنه أمام سرد فقط لما جال في كتب الفلاسفة دون أن يفيده تأملًا نقديًا ويحفّز فكره على التجوال بين الأفكار.

----------------------------------------
[1]. فارابي، محمد بن محمد، الحروف، صفحه: 27، دار المشرق، بيروت - لبنان، 1970 م.
[2]. فارابي، محمد بن محمد، الألفاظ المستعملة في المنطق، صفحه: 42، مکتبة الزهراء، تهران - ايران، 1404 ه.ق.