الباحث : د. نذير بوصبع
اسم المجلة : الاستغراب
العدد : 37
السنة : شتاء 2025م / 1446هـ
تاريخ إضافة البحث : April / 19 / 2025
عدد زيارات البحث : 236
الملخّص
مع بداية القرن العشرين اندفع العقل نحو نهايات أشبه بالغايات المحددة سلفًا، مذعِنًا «لسلطان العلم»، باحثًا عن التغيير في كل الجهات. ولم يتعرّض مجال للتغيير كما تعرضت اللغة، بعد أن استحكمت الآصرة بين الفلسفة والخطاب، وصارت كل فلسفة خارج اللغة لغوًا. ولئن أُرِّخ لهذا التحوّل بالمنعطف اللغوي[2] فإن أسسه الأولى تعود إلى واضعها دي سوسير، الذي رسمت محاضراته نهاية القوانين اللغوية والإحالة على القوانين الكلامية الخاضعة للتبدّل المستمرّ، عبر سلسلة من المفاهيم، كالعلامة والنظام والصورة الصوتية والتزامنية-السانكرونية-، وهي مفاهيم نقلت اللغة من المكتوب إلى المنطوق والمسموع-الكلام-. وبرزت إلى التداول التزامنية-السانکرونیة-، بدل التتابعية -الداياكرونية- التي ارتبطت باللغة المكتوبة؛ وترتب على ذلك تحوّلٌ من الكلمة إلى العلامة والإشارة ثم الرمز، الذي استحدثه دي سوسير سدًّا للقصور الذي تواجهه العلامَة عند التواصل. لقد تضافرت الأعمال الفلسفية الخاصة باللغة على إقصاء القبليات عبر سلسلة من الاجتهادات كمناهضة الفكرة الرامية إلى اعتبار اللغة انعكاسًا مباشرًا للواقع والأشياء، وبناء على ذلك رفض أن يكون للذهن دور في المعرفة، تلافيًا للوقوع في المثالية، وردم عالم القبليات الذي ناهضته التجريبية والحسية التي نهضت عليها اللسانيات البنيوية وسائر التيارات التي تأثّرت به في بحر القرن العشرين. وفي هذا المقال رصد للأسس التي قدّمتها اللسانيات وفلسفتها لتبرير فرضياتها الجديدة وخلق واقع عقليٍّ جديد تجاوز حدود اللغة ليغطّي كل النشاطات العقلية في القرن العشرين.
الكلمات المفتاحية: اللسانيات البنيوية، فلسفة اللغة، العلامة، النظام، المعنى.
تمهيد
دخل العقل في مرحلة جديدة استقلّت بعنوانها، ومادّة اشتغالها، واتخذت من اللغة منطلقًا لبحثها، متّبعةً مناهج معقّدة ومواربة، مستعينة بمصادرات ومقدّمات لم يحسمها التمحيص، لينتهي الأمر بخلق أوضاع معرفية جديدة أدخلت القرن العشرين فيما يُسمّى بعصر البنيوية.
ابتدعت اللسانيات البنيوية مبادئ ومصطلحات ذات مفاهيم مستحدثة، تلافيًا للمرتكزات اللغوية الكلاسيكية التي شكّلت النظام العقلي للغة. وأفضت التأمّلات البحثية عن البدائل إلى بناء قيم معرفية جديدة استعيرت من خارج اللغة، لتقيم أصولًا جديدة للسان، قوامها العلامة بدل الكلمة، والبنية بدل الجملة، والترابط[3] بدل الإسناد.
وفي البنيويّة اللسانية يلتقي أكثرُ من علم، وتَتقاطعُ انشغالاتٌ نفسيّةٌ واجتماعيّة وتاريخيّة ومنطقيّة؛ هذه الزخم والتشابك يجمعه جَدلٌ (خاصّ) غايته القُصوى التّحقّق من صحّة النّظام[4] الذي تعوم فوقه البنية[5]. والنّظام هو «اللّوح المحفوظ» للسانية البنيويّة، وهو سِجلُّ حقائقها. أمّا الكيف، فلا يُسأل عنه، لأنَّ النّظام الآليّ والضّبط ّالذاتيّ، إضافةً إلى التّجميع والشُّموليّة، خصائصُ افتراضيّة، ورِثتها البنيوية من الماديّة والنزعة المعروفة في المذهب الميكانيكيّ والمذهب الحسّيّ.
نقلت البنيوية اللسانية فلسفة اللغة من نطاق الميتافيزيقيا إلى البحث الكلي، متجنّبة بكثير من الجهد الوقوع في الاسمية، وراحت تبحث عن منطق داخلي يبرّر اختياراتها، ويكون بمنزلة إعلان القطيعة عن مرحلة، والدخول في مرحلة جديدة، اصطلح على تسميتها مع فيتجنشتين فيما بعد بالمنعطف اللغوي.
لكن البنيوية -وهذا ما أتت به- جاست خلال النظام أو النّسق وأَعادت ترتيبَه وفاقًا لآمالها وإسقاطاتِها الأيديولوجيّة القَلِقَة.
اللغة عند دي سوسير بين الشكل والجوهر
كان الجوهر – الذي يعني الثابت- محلًّا للبحث عند دي سوسير الذي أدخل المعنى في الشكل وأخرجه من الجوهر، تماشيًا مع فكره البنيوي. فالذي يميّز لغة عن لغة هو الشكل لا مدلول الكلمات، بحكم أننا نستطيع أن نترجم الكلمات ونقف على مدلولاتها. إن الذي يصنع الفرق بين اللغات في المعاني هو الشكل أي العلامة كما يسميها دي سوسير.[6]
وقد أقام دي سوسير التعارض بين الجوهر والشكل في مقولته الشهيرة: اللغة شكل وليس جوهرًا[7]. أصبح التعارض أساسيًا وعرف الجوهر بالسلب، فهو كل ما ليس شكلًا، أي ما لا يدخل في المتعلِّقات المكوِّنة لأيّ شيء. واللغة في شكلها الخارجي(الكلام) تتغذّى من مكونات اجتماعية وثقافية ونفسية...، وهي جملة السياقات التي لا غنى عنها لتغذية التواصل. لكن بعض اللغويين مثل هيلمسليف يدعون إلى التّعامل مع اللغة -من أجل تأسيس لسانيات حقة- لا على أنها مجرّدُ علمٍ مساعد أو ثانوي، بل ينبغي القيام بأمر آخر؛ إذ على اللسانيات أن تحاول إدراك اللغة، لا من حيث هي خليط من الظواهر غير اللغوية (أي المادية والفسيولوجية والنفسانيّة والمنطقيّة والاجتماعية)، وإنّما من حيث هي شموليّةٌ مكتفيةٌ بذاتها، بنية نسيج وحدها[8].
إن انحياز دي سوسير إلى الأساس الماهوي والحسّي طبع موقفه المبدئيّ من الظاهرة اللغوية، وحمله على البحث عن العناصر المتوائمة مع هذا الموقف، وهو موقف مرتبط بالمادية، فحركة الفكر انعكَست، وصارت متّجهةً من الخارج إلى الدّاخل، إلى العقل الذي يتلقّى الصّور من الخارج، لِيبنيَ مفاهيم، (مَفْهَمة العالم). ثم تتلوها البيانات وتكثيف العباراتِ لترسيخِ مقاصدِها.
وتلك هي الحالة الغالبة على التفكير في القرن العشرين، وانعكس سَيرُ الفكر والنّظر ليصبح من الخارج إلى الداخل، أي أنّ العقل يصوغ التّصوّرات انطلاقًا ممّا تتلقّاه الحواسّ وتلتقطه من الخارج. إنّ فلسفة القرن العشرين تمخّضت عن نتائج العلم. فلم يَعُد العقل واضعًا للتصوّرات ومُطوِّعًا لها، بل صار خاضعًا وتابعًا. وهذه المنهجُ الغالب جاء إثر هَيمنة الفلسفة التجريبيّة واتّجاهاتها، من جهة، وتصدُّر الماهية وتراجع الوجود.
ولم تتجاوز البنيويّة ظاهر الصّورة وانعكاساتها حين رأت في الاهتداء إلى النّظام الداخليّ للعناصر الطاقةَ التي تحرّك الكائنات؛ وهي بهذا ظلّت تتحرّك على سطح المادةّ، أسيرةً للقوانين المادية. كما أنّها لم تأت بما يجعل صنيعها اختراقًا أو اختراعًا، فهي مندرجة في الإطار الواسع للمذهب الحسّيّ لـكوندياك[9] الذي لا يخرج عن المادّية البريطانية لـ لوكLock، أما إطارها الضيّق أو الخاصّ، فهو الفلسفة الوضعية لأوغست كونت[10] التي أخذت منها فكرة النظام مقطوعًا عن الميتافيزيقيا.
العالم بنية افتراضية!
تقوم اللسانيات السوسيرية على فكرة البنية والنّظام الذي تتحرّك الظّواهر وفق قوانينه وإرادته، وسواء أعَرف العقلُ مصدرَ هذا النظام أم لم يعرف، فقد ترسّخ. ولئن تعدّدت المدارسُ والتيّارات الفلسفيّة، فقد ظلّت مؤمنةً به، وكلٌّ بَحَثَ عن حجج هذا التصوّر وبراهينه، في بادئ الأمر، ثمّ بَحَث عن ترجمته إلى قوانينَ وقواعدَ علمية للاستفادة منه والتّحكّم فيه لاحقًا. هذا التّصوّر للبنية يعني الإيمان بفكرة النّظام وإدراك هذا النّظام أو تعقّله؛ فحين صار للعقل دخلٌ في فهم «السلوك» الداخلي للعالم، صار ممكنًا وضعُ القوانين أوّلًا، ثمّ صياغة القواعد. فالعقل لا يَتصوّر العالم جزرًا مفكّكةً. إنّ سمة الثّبات والاستمرار والاطّراد في الكون هي التي أسعفت العقل على الفهم، حين دخل في حوار داخليّ وتساؤلات سَبَقها القلق والحيرة التي يُسبّبها غموضُ الأشياء والجهلُ بها، فكانت منطلقًا لفهم الظواهربعد إدراكها. ولولا الاطّراد واللّاتبدّل لما استطاع العقل إثباتَ شيء، حتّى نفسَه، لأنّ العقل يُعرف بالقوانين والقواعد، وهي لا تُفحص إلا بالإدراك الخارجيّ. وفكرة النّظام إذا أُخرجت من السّياقات الاستفزازيّة لا تتعارض مع مقتضى العقول، فالخَلْق نظامٌ مُحكم، من الذَّرّة إلى ما فوقها، يتعاضد العقل والإيمان في تأكيده، لكنّ الاستبداد والسيطرة على الحقائق قصْدَ تبديلها وصبغها بصبغة خاصّة، وتقديمها على أنّها منطقٌ أصيلٌ في الأشياء، هذا هو موضع التوجّس والاستنكار، وظهور البنية على ساحة البحث الفكريّ مع جون لوك كانت غايته مناهضةَ الأفكار الفطريّة وإقامة التفكير على أسس تجريبيّة.
وإذا كانت البنيوية تيّارًا نظريًّا معاصرًا، فإنّ معنى البنية أقدمُ من ذلك، بل هو أسبق في الظهور من العلوم الاجتماعيّة، إذ وجد مجالَه المفضّل في التّاريخ الطبيعيّ، خلال القرن السابع عشر، وكان يعني حينذاك التّنظيم وترتيب الأجزاء.
وأُقحم مفهوم البنية، في القرن التاسع عشر، في العلوم الاجتماعيّة على يد مفكّرين مثل أوغست كونت وهربرت سبنسر وكارل ماركس. وفي بداية القرن العشرين قدّمت الجشطلت[11] إضافة جديدة، عمّقت امتداداتها داخل المجال النفسيّ الاجتماعيّ[12]: مع نظريّة الحقول النفسية لـكرت لوين[13].
فقد طرحت هذه النظريّة المبدأ القائل: إن الجشطلت -الشكل- هو دوما وبطبيعته، شيء مغاير، وأكثر من أن يكون مجموع الأجزاء، لأنه يعني العلاقات القائمة بين الأجزاء، وهذه الشبكة من التقاطعات تضيف عنصرًا ذا دلالة.
لكن من التعسّف تشبيه فكرة الجشطلت تشبيها كاملًا وبسيطًا بفكرة البنية، التي لها معنى عامّ آخر وطبيعة أخرى، وتعمل في تخصّص مختلف: هو لسانيات دي سوسير، خاصة فينولوجيا نيكولاس تروبتكسوي[14] التي لخّص ليفي ستروس مبادئها المنهجية بقوله: «الفونولوجيا في المقام الأول، تنتقل من دراسة الظواهر اللسانيّة الواعية إلى دراسة بنياتها التحتيّة غير الواعية؛ وتعرف معالجة المفردات على أنّها كياناتٌ مستقلّةٌ -قائمة بذاتها- وتتّخذ العلاقات بين المفردات أساسًا لتحليلها؛ فهي أدخلت معنى النظام، ...، وتتّجه أخيرًا إلى اكتشاف قوانين عامّة، سواء عن طريق الاستقراء[15] أو مستنبطة منطقيًّا، وهذا ما يعطيها طابعًا مطلقًا»[16].
فكلمة البنية قديمة ومعروفة، ذات معانٍ متقاربة ومتوارَثة، ففي معجم Littré هي الهيئة التي تقام بها الأشياء، أو البناية[17]. وأصلها من اللاتينية: structura structuere يبني: والبناء هو الهيئة أو الكيفية التي تُرتَّب بها أجزاء المجموع فيما بينها، أو ترتيب أجزاء خاصة بنظام على وجه يمنحه انسجامه وطبيعته الثابتة، وكذلك هي نظامٌ مركّبٌ منظورًا إليه من خلال عناصره الأساسية[18].
والبنية في معناها مادّيّة تُدرك بالحسّ، وليست مجرّدة، وهذه نقطة ارتكاز لها قيمتها في التّعامل مع البنيويّة. «إنّها مجموعٌ حسّي منظورًا إليه من خلال انتظام أجزائه»[19].
وهي نظامٌ من العلاقات أكثرُ من كونه مجموعة عناصر، حيث إنّ العناصر نفسَها أقَلُّ ظُهورًا وتمايزًا في ذاتها من المجموع المنظَّم، ولا تُعرف إلّا من خلال مكانها في المجموع، ومن خلال الوظيفة التي يحدّدها المكان الذي وُضعت فيه، فلا يوجد في شيء مبنيٍّ ما هو أكثر من مجموع مكوّناته، وليكن المنزل على سبيل المثال، وقد يُنظر إليه على أنّه مجموعٌ مجرَّد، منظَّمٌ ومستقلٌّ لعناصرَ مترابطةٍ يتوقّف بعضُها على بعضٍ بعلاقاتٍ تحكُمها قوانين، تعطي معقولية للموضوعات المدروسة في مختلف العلوم[20].
لهذا كان مفهوم البنية ذا أهمّيةٍ خاصّة في اللسانيّات؛ لأنّ الوحدات الصّوتيّة التي تعرفها اعتباطية، ولن يكون لها معنى إلا من خلال علاقاتها وترابطها مع غيرها؛ وبعبارة أخرى، عبر موضعها ووظيفتها في مجموع مبنيّ بإحكام (اللغة). ودورها كبيرٌ أيضًا في أغلبِ العُلوم الإنسانيّة، لأنْ لا شيءَ ممّا هو إنسانيٌّ خالصٌ (اللغة، الثقافة، الفن، الدين...) يمكن فهمُه مستقلًّا عن أنظِمة العلاقات التي تجعلُه ممكنًا وتشكّله[21].
أما مقاربة البنيوية في جانبها المنهجيّ والفكريّ، فلا تختلف إلا في الشكل والعبارة. والاتجاه العام لدى أرباب الفكر الفرنسيين يلتقي عند اعتبار البنيوية خطًّا أو تيّارًا فكريًّا، أو منهجًا.
فهي تيّارٌ فكريّ، جُلب من اللسانيّات والعلوم الإنسانيّة؛ وأراد بعضهم أن يجعل منه فلسفة. وتعني إيلاء الأهمية للبنية بدل العناصر أو مجموع العناصر، والنّظر للظواهر الإنسانية، خاصّة، وللإنسان نفسه، على أنها أثرٌ للبنيات وليست كائناتٍ مخلوقة أو ذوات[22].
وهي منهجٌ في التحليل قائمٌ على النّظر في الموضوع لا على أنّه مجموعةٌ من العناصر المتشابهة، بل نظامٌ من العناصر المترابطة.
وأساس البنيويّة وشعارها وأبعادها هو العبارة التي صاغها ستروس[23] «إن الهدف الأخير للعلوم الإنسانيّة ليس بناءَ الإنسان، ولكن تفسيخه وحلُّه»، وفي هذا الموقف تخلٍّ عن الإنسانية، وإن غطّوه بادعاء أن الإنسانية تبقى متاحة في جانبها العملي -الإنسانية العملية- التي هي في حقيقتها تشتيت للمفهوم النظري للإنسانية، وهي مقوّم الممارسة العملية. وهذا ما يترجمه سعْيُ أقطاب البنيويّة في فرنسا سنة 1960 (ليفي ستروس، فوكو، لاكان، وألتوسير)، وطموحهم المحمول على راديكالية مضادّة للإنسانية، كما يقول سبونت فيل[24].
وقد تبدو البنيوية لأوّل وهلة بعيدةً عن المادية: فوضعيّة العنصر داخل بنية معيّنة، أهمّ من المادّة التي تكوّنه، لكنها أدخلت نفسها في مادّيّة جديدة، حين أذابت الإنسانية بمعناها الخاصّ في الإنسانية بمعناها الشامل، كما يرى جيل دولوز[25]، وإذا «كان المعنى دومًا نتاجًا لتأليف العناصر أو تركيبها، والتي ليس لها معنى في ذاتها، فلا وجود إطلاقًا لذات المعنى، ولا للإله، ولا للإنسان، ولا لمعنى المعنى: فكلّ معنى يُختزل في النهاية إلى شيء آخر هو غيره». (في حوار مع ريكور سنة 1963)[26].
لم تَبْنِ اللسانيات مفهوم البنية باعتباره مرادفًا للتّنظيم أو المنظومة. والفكرة التي يتقرّر تبعًا لها أن كلّ لغة تملك تنظيمًا خاصًّا بها، بحكم الانضباط الذي يلاحظ فيها، وبناء عليه يجب أن يؤخذ على أنه قانون، هذه الفكرة لم تكن غائبة عن علم اللغة التقليدي. لكنّ اللسانيّات البنيويّة أَدخلَت، وخاصّة علم الصوتيّات، في دراسة اللغة جملةً من الأفكار الأساسية، من تلك المقترحات الاستراتيجية (المقدَّمة من قبل ن. تروبتزكوي[27] والموسَّعة من قِبل جاكوبسون ومارتيني) دراسة البنيات التحتيّة اللاواعية بدل الظواهر اللسانية الواعية؛ وأن العناصر اللسانية ليست معطياتٍ يكتفى بجمعها وإحصائها، وليس نظامها تنسيقًا جاهزًا يُقدّم سلفًا للملاحظة، كما أنّ طبيعة هذه العناصر علائقيّة وليست ذاتيّةً أو كنهية (اللّغة شكلٌ لا جوهر، كما يرى دي سوسير)، فقيمتها هي في الوضع الذي تكون عليه أو التّرتيب، لذا لا يهتمُّ عالم الصوتيات[28] بالوحدات الصوتية المنعزلة، ولكن يهتمّ فقط بالفروق القائمة بين الوحدات ذات القيمة الإخبارية الإعلامية والتي تظهر في صورة تضادٍّ دائمٍ يضمَنُ التمايز الدلاليّ. وقد كان لهذه الأفكار تأثيرٌ خارج مجال اللسانيات[29].
والمقولة الأساسية للبنية -كما يقول روجي غارودي[30] «في المنظور البنيوي ليست هي مقولة الكينونة، بل مقولة العلاقة، والأطروحة المركزية للبنيوية هي توكيد أسبقية العلاقة على الكينونة، وأولوية الكل على الأجزاء. فالعنصر لا معنى له ولا قوام إلا بعقد العلاقات المكونة له. ولا سبيل إلى تعريف الوحدات إلا بعلاقاتها. فهي أشكالٌ لا جواهر. ولقد طرح ماركس مبدأ هذه البنيويّة المطبَّقة على العلوم الإنسانية حين كتب في أطروحته السّادسة عن فيورباخ: إن الفرد هو جملة علاقاته الاجتماعيّة»[31].
والنظام البنيويّ المنتج للمعنى غير واع، هذا اللّاوعْي أو اللّاشعور لا علاقة له بالمخيّلة الفرديّة أو الجماعية، والذي نستطيع أن نفهمه بتركيب الكلام، ومثاله ذلك اللّاشعور الخاصّ بيونغ، المأهول بالنماذج المثالية. واللاشعور كما يقول لاكان، «يتركب مثل اللغة، مما يسمح باستعمال اللسانيات من أجل تحليل اللاشعور»[32].
واللّاوعي الذي تقصِدُه البنيويّة في نظامها لاوَعيٌ فارغٌ دائمًا، كما يقول ليفي ستراوس، ويقتصر عمله على فرض القوانين البنائية؛ وهذه البنية التي لا ندركها إلا عبر ما تنتجه، ولا نعرفها إلا من خلال آثارها، ليست شكلًا (جشطلت) ولا كُنهًا متعاليًا على العناصر التي تؤلّفها[33]. وهنا يجب إبداء ملاحظتين:
-الملاحظة الأولى أن البنية نظامٌ من التحوّلات، له قوانين، يحتفظ ببقائه ويغتني من خلال حريّة التغيّرات نفسها، دون أن تنتهي هذه التغيّرات خارج حدودها، أو تستدعي عناصرَ من خارج حدودها. وللبنية خصائصُ افتراضيّة ثلاث: التحولية، الشمولية والضبط الذاتي.
-الملاحظة الثانية، أن عملية التقعيد أو وضع القواعد[34]، عملُ المنظّر، أما البنية فمستقلّة عنه، هذا التقعيد يمكن أن يُترجم مباشرةً في معادلات منطقيّة رياضية تتمّ عبْر المرور بعلاقات سيبرنيتيكية[35] .
أما عن خصائصها الافتراضية الآنفة، فالبنية نظامٌ من التحوّلات التي تستبطن قوانين تجسد النظام نفسه، في مقابل العناصر وخصائصها، وتحافظ على بقائها أو تثري نفسها من خلال لعبة التحولات[36].
وتفترض اللسانيات البنيوية أن خاصّية الشمولية أو التراكمية تتحدّد من تلقاء نفسها، وتتعلّق بالبنيات وبالتركيم، أو بالمكونات انطلاقًا من العناصر المستقلّة عن الكل. ولا ريب في أن البنية مؤلَّفة من عناصر، لكن هذه العناصر تابعة لقوانين تطبع النظام، وتمنحه هيئته المعروفة؛ هذه القوانين التي تُعرف بأنها توليفية، لا تؤول إلى تجميع تراكميّ، ولكن تتواصل مع الكلّ (كلّ العناصر) باعتباره خصائصَ لمجموع متمايزٍ عن خصائص العناصر.
ويوجد وراء هذا المخطّط الذي يحقّق الترابط الذَّرّيّ، وضْعٌ ثالث، يفترضه البنيويّون، يتعلّق بالبنيويّة العمليّة، التي لها وظيفةُ خَلْق العلاقة؛ وهذا الوضْع لا يخلقُه عنصرٌ أو مجموعةٌ من العناصر، ولكن العلاقاتُ بين العناصر.
وتُواجه فكرة الشمولية أو المجموعية بأسئلة عن طبيعتها ومصدرها، وعن وقتها، وكيفية وقوعها، بعوامل حدوثها، وهل هي حادثةٌ مسبقا وخالدة أم لا؟ إنّ أسئلةً من هذا النوع تورّط البنيوية اللسانية وسائر البنيويات في ربطها بالأرضية المتعالية للجواهر، وبالأفكار الأفلاطونية والأشكال القبلية[37].
أما خاصّية الضّبط التلقائيّ، فهي جوهريّة في البنيات، إذ تضبط نفسها بنفسها، ضبطًا يؤدّي إلى تماسكها وانغلاقها[38].
هذه فرضياتٌ يعدّ تجريبها هو المحكّ للتحقّق من صدقها، ولكنه متعذّرٌ في البنيوية ذات الموضوعات الإنسانية، فلم يبقَ سوى اللجوء إلى الملاحظة الاستقرائية والاستنباطية، وتطبيقها على عيّنات يغلب عليها الاختلاف والتباين، ولم يبقَ إلا استعمال الفنّ العقليّ والعلم في العصر الحالي قد اقتحم كلّ الميادين، وادّعى صياغة الأفكار، بل المعتقدات، وخلْقَها، كلُّ ذلك في رغبةٍ جامحةٍ نحو إحلال الإنسان كرسيّ الريادة، و«نقل المقعد من الله إلى الإنسان»، كما قال بعضهم[39].
و«يحدّد ليفي ستروس الثورة اللسانية لدي سوسير وتروبتسكوي خاصّة أصلًا ومنطلقًا للتحليل البنيوي. ويبرّر موقفه بأن الأمر لا يتعلّق بأهمية المناهج المثمرة والناجعة للبحث في اللسانيات فقط، وتعدّيها إلى مجالات أخرى -اجتماعية-، ولكن أكثر من ذلك: الإقرار بأن الظواهر المدروسة من قبِل علماء الاجتماع، وعلماء الأعراق، وعلماء التحليل النفسي، هي نفسها ظواهر لغوية»[40].
قد يكون لعراقة اللغة وطبيعتها دخلٌ في تقدير الأفكار؛ ذلك أن بنية اللغة وعلاقاتها الداخلية المتعقَّلة والمنسجمة مع المنطق العام رتبةٌ من مراتب (الفلسفة) العامة، فالنظام الداخلي الذي تحتفي به البنيوية تختزنه لغات كاللغة العربية، ويتعامل معه البلاغيون والنحاة على أنه ألف باء الصناعة، فضلًا عن المناطقة، وقد يكون لتصارع اللغات التاريخية المكونة للفرنسية (لغة دي سوسير) دخلٌ؛ إذ بطّأت الأرومات المتداخلة والمتخالفة في طبيعتها بلوغ اللغة الفرنسية مرتبة التعقّلية (العقلانية)الكاملة، وتحقيق النظام الداخلي الشامل؛ ذلك أن البحث البنيوي للغة في أوروبا حديثُ العهد، إذا قدَّرنا بدايته بميلاد البنيوية مع دي سوسير؛ فاللغة منظورًا إليها بنيةً داخلية، وبمنظار فقه اللغة، وذاتَ نظامٍ، مرتبطةٌ بالحدث المذكور: ميلاد اللسانيات البنيوية.
فاللغة الفرنسية من أرومة اللغات الهندية الأوروبية، التي تضم عددًا كبيرًا من اللغات الآسيوية والأوروبية، وتدخل فيها المجموعة الإغريقية والجرمانية، وغيرهما، مثل المجموعة الإيطالية السلتية، التي تتكون من فرعين، تنتمي اللاتينية إلى الفرع الإيطالي، الذي تنحدر منه اللغات الرومانية وخاصة الفرنسية.
وكلّ مجموعة يقع داخلها عدد من اللغات، والانقسام الحاصل في اللغات ذات الأصل اللاتيني جاء بسبب العلاقات التجارية والعسكرية، والاحتكاك بين الناس، عن طريق المعاملات، فانتشرت تبعًا لنوع العلاقة لغة لاتينية دارجة أنتجها الاستعمال. كما كان للغزو الجرماني أثرٌ على اللغة اللاتينية في بعض المناطق من أوروبا، وقطعت اللغة الفرنسية أطوارًا متعدّدة في تاريخها، إذ عرفت ثلاث مراحل، قديمة ووسطى وحديثة[41]، ولم تتخلّص إلى الآن من تبعيتها للاتينية واليونانية. فما زالت المعاجم الفرنسية مقيّدة بالآثار التاريخية التي ورثتها حين تحيل على الجذر القديم، مخاطبة قارئًا منقطعًا عن تلك المناطق القَصِيّة من التاريخ، وهذا ما دفع صُنّاع المعاجم الموثوقة مثل معجم روبير[42] إلى الامتعاض من المنهج الإيتيمولوجي المتّبَع لعقمه المعرفي، والاعتماد على التوزيعية.
النظام ركن اللسانيات البنيوية
ما يحدّد البنية ويعطيها بعض جاذبيتها هو فكرة النظام التي تقوم على تصوّر لمبدأ الترابط بين العناصر والتشارك في والتآزر الذي يعطي في النهاية معقولية لحركة الأشياء وتطوّرها. هذه الفكرة شغلت العقول وافترضتها، وراحت تتحقّق من صحّتها، وأخذت مكانتها بين كبريات الاهتمامات العلمية، سواء عند الفلاسفة أو التجريبيين وعلماء الفلك أو غيرهم.
ويُعدّ النظامُ المفهومَ المركزيَّ للبنيوية اللسانية، ووفقه لا يأخذ العنصر اللساني قيمته الأساسية إلا ضمن شبكة من العلاقات التآزرية والترابط الصوري الذي يحدث بين عناصر النظام اللساني[43].
وتنطلق البنيوية بفروعها المتعددة من مقدمة مشتركة، هي تصوّرها لفكرة النظام المتعقَّل الذي يسري كالروح داخل البنيات، ويتحكم في سيرها وخطاها. والمنطلق في إقامة هذه المسلمة هو معنى البنية ذات الأصل اللاتيني structura، وهو الترتيب المحكم أو النظام الذي يسري بين عناصر الأشياء وبنياتها[44].
إن هذا النظام هو الركن في تعقّل البنيوية، حتى إن دي سوسير لم يكن يتحدّث في مشروعه عن البنية، بل عن النظام، كما يقول بياجي[45]؛ والنظام يكمن في القوانين التي تنعكس على العناصر التي تقوم في كل لحظة من التاريخ على التزامنية[46]. [47]
هذا النظام القائم على حركة البنى الخارجية محيّر في طبيعته ومصدره، إذ يحيل للوهلة الأولى على الجدل الهيجلي الذي يفسِّر فلسفة التاريخ والحضارة. فليفي ستروس لم يجد مناصًا من إقحام الجدلية واعتبارها مكوّنا في تفسير هذا النظام[48].
وأصل الكلمة من اليونانية sustèma ومعناها الجمع والتأليف؛ وكان هذا المعنى نادرًا قبل النّصف الثاني من القرن السابع عشر، ثم انتشر في القرن التّاسع عشر. وكانت الكلمة مستعملةً على لسان الفلاسفة والرياضيين ثم انتقلت إلى التّداول بين الناس.
أما معناها، وإن تعدّدت الاستعمالات بحسب العلوم الجزئية، فيكاد يتطابق: إنّه المجموع المنظَّم للعناصر الفكرية، ففي علم التاريخ، هي المجموع الذي يدركه العقل (على سبيل الفرضية أو الاعتقاد) لموضوعات الفكر التي يوحّدها قانون، أو هو مجموعة من الأفكار المتساندة منطقيًّا، منظورًا إليها في إطار علاقاتها؛ أو هي بناء نظريّ يشكّله العقل في موضوع واسع (فلسفي، علمي)[49].
وسواء أكانت هذه الأفكار علميّة أم فلسفيّة، فإن عمادها هو الترابط المنطقي، وليس النظر إلى حقيقتها. يقول الفيلسوف الحسي الفرنسي كوندياك[50]: «ليس النظام سوى ترتيب الأجزاء المختلفة في فنٍّ أو علمٍ وفق نظام حيث تتساند، وحيث تُفسَّر الأخيرةُ بالأولى».[51]
والحقّ أن جهد البنيوية اقتصر في معظمه على إقامة (البرهان) وإثبات معنى النظام، لا إقامة الحجة وبناء البراهين على فلسفة كلية وشاملة، ومن هنا لم تغادر البنيوية منطقة النظر الجزئي المرتبط بمحمول الموضوع = البنية = النظام. والنتيجة أنها ظلّت حبيسةً في زوايا الفلسفة المادّيّة مجازًا، وفي ثوب التفكير المادي حقيقة؛ «لهذا احتملت البنيوية التّشكيك في تماسكها الفكريّ نفسه، وكانت عرضةً لنقد جدارتها بأن تكون حركة فكريّة متماسكة ومنسجمة، لمَا لُوحظ من اصطناع لوحدتها الظاهريّة»[52].
واتّساق النظام نتج عن خضوع الأجزاء معًا لقانون واحد، والأجزاء قد تكون أفكارًا مؤلَّفة، أو عمليّات منظّمة تؤولُ إلى عدد صغير من المبادئ[53]، وقد تكون تصوّراتٍ صادرةً عن مبادئ منتهية بنتائج. والنظام عند كانط[54] (1724-1804) وحدة من المعارف الواقعة تحت فكرة، وكذلك الفلسفة، هي منظومة من المعارف العقلية القائمة على مفاهيم[55].
ولئن كان للنظام بالمعنى المذكور قيمة في البحث عن المبادئ والقوانين التي تحكم العلاقات في القضايا الفكرية والعلمية، فإنه بدأ مع جون لوك[56] الذي انتقد الأفكار الفطريّة[57] والنّظام الديكارتي، ثم بحث عن أساس لفهم الفكر البشري، فوجده في النظام.
ومع عصر التنوير، تطوّر نقد الأنظمة وعقْلُ الأنساق تطوّرًا جذريًّا وبلغ ذروته مع (دراسة الأنظمة الذي ظهر سنة 1749) لـكوندياك (المتأثر بجون لوك)، حيث ميّز فيه بين ثلاثة أنواع من الأنظمة:
-الأنظمة التي تقوم على مبدأ القوانين العامة والمجرّدة مثل: الكلّ أكبر من الجزء، أو: القضية ونقيضها لا يصحّان في الوقت نفسه.
-والأنظمة التي تتّخذ مبادئها من الفرضيات.
-وأخيرًا، الأنظمة التي تأخذ مبادئها من وقائع مشاهدة. والأنظمة التي تنتمي إلى الفئة الثالثة هي وحدها التي لها شرعيّة ومقبوليّة، وفاقًا لمذهبه الحسّي.
أما الأنساق المجرّدة، فإن عيبها هو أنها تستند إلى مبادئ بديهية، وهي مبادئ فيها من العموم ما يجعلها صالحة لتأسيس أي استدلال[58].
وهذا النظام صنيعة العقل المفكر، وفق سلسلة من العمليات المتتالية: فالفهم يشمل الانتباه الذي يعطي الحقائق، والمقارنة تنشئ العلاقات، والنظر المنطقي يصنع النظام[59].
وقد كان بإمكان النفس، كما يقول كوندياك، مبرِّرًا مذهبه الحسّي، أن تكتسب المعرفة، لكن الخطيئة أو المعصية الأولى جعلت النفس خاضعة للشهوة والشبق[60].
والبحث فيما وراء النظام، يُوقع العقل في دائرة الميتافيزيقا -هذه اللعنة التي ظلّت تؤلم العقل الغربي منذ بداية التمرّد على الكاثوليكية- ومنذ القرار بالاستقلال عن المسيحيّة وقطْعِ المساعدة عنها بإسناد معتقداتها بالعقل[61]. لقد وقعت البنيويّة وهي تسعى إلى إثبات النّسق فيما يشبه الكليّة وقادها سعيها إلى «ميتافيزيقا واقع البنى المتعالي، أو ما أطلق عليه ريكور[62] «كانطية دون ذات متعالية»[63].
ولكنها سعت مرّةً أخرى، من أجل الخروج من ذلك، إلى تحويل النّسق إلى شيء، إلى جوهر، وفصله عن الممارسة الإنسانية، هذا المسعى ظهر لدى ليفي ستراوس، قبل أن يتضخّم إلى حدّ مَرَضيٍّ لدى ألتوسر[64] وفوكو[65]، لتقطع العلاقة بينها وبين كل متعال أو لا متناه؛ واعتبرت الإنسان كائنًا متناهيًا، «...لأن فلسفة الحياة تندد بالميتافيزيقا كقناع للوهم، وفلسفة العمل تندد بها كفكر مستلَب وأيديولوجيا، في حين أن فلسفة اللغة تندد بها كطور ثقافي»[66]
وجَرَّدت الذّات الفاعلة[67] من كل دور، وأعطت الدور الفاعل للإيبستيمة[68]، لهذه القبلية التي نكتشفها في حفرياتنا للمعرفة لبلوغها السطح أولًا والعمق ثانيًا[69].
ويجعل ليفي ستروس الخطاب -الآني- مع الثقافة بمعناها الواسع، قاعدة يؤسَّس عليها البحث في الأنثروبولوجيا اللسانية، ويُبعد اللغة والثقافة الخاصّة المرتبطة بها[70].
لئن أذابت الماركسية الإنسان في المجتمع، فقد أجهزت البنيوية على الإنسان والمجتمع معًا، واختزلتهما في شبكة من العلاقات الصمّاء، السيبرنيتيكة التي تتحقّق في كلّ منظومة، سواء أكانت اجتماعية أمْ آلية، فالقوانين التي تحكُم الجميع لا تتغيّر، وهي قوانينُ لا واعية. «هكذا تُقصَى في العلوم الإنسانية كلّ ذات، وكأنّ الذّات -أي الإنسان- ينبغي أن تعتبر فقط كعقدة علاقات، كنقطة تقاطع خطوط القوّة، وليس كعقدة علاقاتٍ ومركز تقرير وخلق في آن معًا»[71].
إن تصوّر العلاقات وتشييء الكائنات، بما فيها الكائن البشري، ليس له هدف معرفي فحسب، وإن كانت العناوين تغري بذلك قصدًا، لكن له أهداف وظيفية، وذلك بنقل العقل من مرحلة الاتساق مع نفسه والسير وفق منطقه الداخلي، إلى مرحلة الانسجام مع العالم الخارجي وبنيته المفترضة، وتجريده من القوى الفطرية التي تمكّنه من أخذ «قراره» في مجالات الحياة والمعتقدات، والأخلاق، وتوجيه العلاقات على أساسها، سواء بالوصل أو بالقطع، في السياسة والاجتماع وسائر الأنساق المعرفية والثقافية، وامتدّ هذا التوجّه الجامح إلى الجوانب البيولوجية، عبر ما يعرف بالهندسة الوراثية[72] التي كانت «تسمّى أوّلًا التلاعب الجيني[73]، وهذه التسمية أقرب إلى الحقيقة»[74].
إن إرادة الله الخالق منبثّةٌ في الموجودات، وفي النظام، ولا يمكن للعقل بعد الوقوف عند العتبة اليقينيّة أن يرتاب في حضورها، ذلك الحضور هو الذي يسمّيه القرآن قدرًا وتقديرًا وقضاء، (مع ما لحق هذه المفردات من تشويه عبر التاريخ بفعل الأهواء السياسية....): «...ما من شيء في العالم إلّا وأصله من حقيقةٍ إلهيّة، وفيه سرٌّ ربّانيّ. وكثيرًا ما وَصفَ الحقُّ نفسَه بما يقوم الدليل العقليّ على نزاهته عن ذلك. فما تقبّله إلّا أصحاب القوّة الإلهية التي وراء طور العقل وتعرفُ ذلك كما تفهمه العامّة، وتعلم ما سبب قوله لهذا الوصف مع نزاهته. وهذا خارج عن مدارك العقول بأفكارها، ومشاعر النفوس بأنظارها، فالعامّة في مقام التشبيه أبدًا، والعقلاء في مقام التنزيه خاصّة»[75].
من المعنى إلى العلامة
ربما يكون التطوّر الذي لحق الفكر اللساني في بداية القرن العشرين أهم انعطافة، تتجاوز التطوّر الفكريّ، أو حركة التفكير إلى التغيير في بنية العقل ذاته. ذلك أنّ اللّغة ارتبطتْ منذ الخليقة بالعقل ارتباطًا بنيويًّا، ليس من حيث أدائها التعبيريّ عن مرادات الإنسان، بل لأنّها مظهرُ العقل ونطاقُ تجريبه واختباره. ولم تزد القرون التي قطعها اللّسان سوى تأكيد هذه العلاقة، وبيانِها بيانًا يقبله المنطق. ومع التحوّل الذي طرأ بإضفاء الصفة العلمية على التفكير في كل نشاطه بما في ذلك الفلسفة واللغة، كان همُّ الفلاسفة في القرن العشرين إبعاد التأمّلات والتوجّه إلى تحليل اللغة واستعمالها استعمالًا صارمًا كالرياضيات، مادّيًّا وحسيًّا[76]. [77]
فعناصر اللغة تفترض نظامًا أو نسقًا يجعل منها «صورة لا جوهرًا، ومن ثمّ فإن التعريف الصحيح للغة أن يقال إنها نسق عضوي منظّم من العلامات»[78].
وأوّلُ ما شَغل العقل هو الصّلة القائمة بين التّصوّرات والكلمات، وطبيعتها ووجْه الارتباط النّوعي. وهذه القضية الميتافيزيقية أقلقت العقلَ وأتعبته، وأبانت عن عجز الإنسان عن فهم «نفسه» التي بين جنبيه، فكان القول بالاعتباطية[79]. [80]
هو المَخرجَ من هذا المأزق. وفكرة العلامة عند دي سويسر تأخذ وجودها من ثلاثة مبرّرات، أكثرها أهمّية هو اعتباطيّة العلامة، واعتباطية العلامة الصّوتية لكونها اتفاقية، لا تتضمّن علاقات داخلية، وبالتالي ليست ثابتةً مع مدلولاتها؛ وهو المبدأ الذي من أجله لم يكن للخصائص الصّوتية للدال ما يذكّر بقيمة، أو بمحتوى مدلوله[81].
والعلامة[82]-الارتباط الأقنومي بين الدّالّ والمدلول والدّلالة- هي البوّابة التي عَبَرتْ منها البنيويّة إلى عالم التحقّق حين افترضَت نظامًا مُحكَمًا عمادُه العلامات المترابطة ضمن شبكةٍ من العلاقات الافتراضيّة. وهي نقطة تحوّل وفصلٌ كبيرٌ في تاريخ التفكير، وفي بناء العقل المعاصر؛ لأنّها كانت المقدّمة التي أقام عليها البنيويّون سائر الفرضيّات.
ولقد أرّخت العلامة اللّسانيّة، لمرحلةٍ مختلفة للّغة والفكر اللغويّ، بل للعقل، وصرّحت، بناءً على التصوّرات اللسانيّة، أن ّالكلمات في دالّها ومدلولها ليست سوى علاماتٍ ميتة، وهياكلَ بلا روح، وأنّ العلاقاتِ القائمةَ بينها هي مَن ينفُخ فيها الحياة ويبعَث فيها الحركة، وراحتْ تَبعًا لهذا الفرض أو الاعتقاد، تحشُد أدلّتها لتأكيد فكرة النظام، وتسعى إلى تعميمه وصَبغه بالصبغة الكلّيّة التي تمنحُه من القوّة ما يجعله فلسفةً تبسُط سلطانها على المناهجَ والمبادئَ التي تحكُم العلوم وتتخلّلها. إن اعتقاد دي سوسير باعتباطية العلامة دفعه إلى البحث عن حلّ يخرجه من هذه المعضلة، ففكر في علاقة تبادلية بين الدال والمدلول: فالدّالّ وهو الصورة الصوتية التي يحدثها اجتماع الأصوات، أي أصوات الحروف، يثير في الذهن مفهوم الشيء، والمفهوم يبعث ضرورة الصورة السمعية. فيصير الدال هو الترجمة الصوتية الحسية للمفهوم، والمدلول هو المقابل الذهني للدال، كما يقول بينيفيست[83]. [84]
فكان افتراض النظام هو الحلّ لمشكلة الاعتباطية. إنّ قطع الصلة الطبيعية بين الدال والمدلول لم يلق الترحاب من الجميع، فقد اعترض عليه اللغوي بنفينيست الذي يرى أن بينهما -الدال والمدلول- رابطة ضرورية.
يرى مناطقة بور رويال[85] أن هناك بنية ضروريّةٌ للفكرة، مصدر لتنظيم المنطوق به، بخلاف دي سوسير الذي يرى أن الفكرة في حدّ ذاتها سديمية، وأنّها على قدر ما تتشكّل على قدر ما تتمفصل صوتيًّا فحسب[86].
وهكذا تراجع المعنى في الفكر اللغوي الكلاسيكي لتحلّ العلامة محلّه.
إن انتقال التّفكير اللسانيّ من المعنى إلى العلامة، أربكَ منطقَ اللغة، فاعتبار اللغة رموزًا أو علامات مرتبطةً بمدلولاتها الخارجية، ثمّ نظامًا يتحقّقُ ضمن التّرابط الدّاخلي، قضى على فكرة المعنى، وسلَبَ العقلَ حضورَه الأوّلي في الكلمة. فلم تَعُد الكلمة حاملةً للمعنى، وهو العلاقة بين التصوّر واللّفظ، بل تحوّلت إلى رمز ميت لا تدبّ فيه الحياة إلا إذا اتّصل بمدلوله(الخارجي) عن طريق الحزم الصوتية. فاللغة بهذا المعنى قد فُصلت عن العقل، و(تحرّرت) من منطقه، ونُقلت إلى عالم الأشياء المادية إلى الخارج. هذه (الثورة) استوجبت استحداث منطق جديد، عملت على تثبيت أسسه لسانياتُ دوسوسير التي اتّخذتها البنيويات اللاحقة أساسًا فكريًّا، وأصبح الإنسان -المتكلم والمستعمل للخطاب- مجرّد حامل علامات[87].
إن الحقل التجريبيّ للسانيّات البنيوية هو الأشياء المادّية التي تقع تحت السمع، وترتبط دلاليًّا بالعلامات، وهي حقيقة يعلنها دي سوسير: العلامات التي تتألّف منها اللغة ليست تجريدات، ولكنّها أشياء واقعية حسية[88].
أما التصوّرات التي ليس لها تشخّص خارجي فلم تُجرٍ عليها اللسانيات التجريب اللّازم للكشف عن طبيعتها وكيفية تَواصُل الأفراد بشأنها؛ فالرّوابط المنطقيّة والأسماء الاعتبارية، ليس من الأشياء المادية التي تدرك بالحس. وهذا التوجّه نَقلَ اللّغة من عالم التصوّرات إلى عالم الدّلالات، والدلالات تركيبٌ من عناصر خارجية يتلقّاها العقل، وليست ذات منشأ ذهني، وما تعبّرُ عنه الكلمات، كما قال دو سوسير وهو يوضّح لطلابه اعتباطية العلامة -ارتباط الدال والمدلول بكيفية إفادة كلمة (أخت) لمدلولها-[89].
وللدالّ في العلامة صفةٌ أخرى ثابتة، هي الصّفة الخطّية، ويعني بها تسلسل الدوالّ وتلاحقها عبر خطّ زمني، بحكم كونها صوتية، مؤلّفة سلسلة منطوقة. ويظهر في هذه الفكرة الأثر التعليمي التبسيطي، لأنه يقرّر أمرًا بديهيًّا. وهذا الأسلوب يكتنف كثيرًا أقوال دي سوسير.
لقد ألغى نظامُ العلامة عند دي سوسير المنطقَ الذي كان سائدًا قبله في أوروبا، مع أتباع مدرسة بورت رويال، التي تصنّف العلامات تصنيفًا تصوّريًّا.
إن التّخاطب يقوم على اللغة -اللسان- وما تنقله اللغة ليس مدلولاتٍ لأشياءٍ حسّيّة تُطبَّق عليها المناهج التجريبية، ولكنها أوسعُ من ذلك وأبعد، وأَكثر تركيبًا وأشدّ تعقيدًا: إن اللغة، حتّى في جانبها الكلامي باصطلاح دي سوير، أكبر من أن تُحصر في العناصر الثلاثة التي بُني عليها التحليل اللساني، وهي الدالّ والمدلول والدّلالة. فالكلمة قد تكون ناقلةً لذاتٍ مدلولٍ عليها بالحسّ، يصلُح أن يشار إليها، وقد تكون ماهية بسيطة أو مركبة. والماهية تستعمل في الموجودات والمعدومات، فهي أعمّ من الحقيقة، كما أنّ الماهية ليست من حيث هي إلّا هي، إذ يُسْلَب عنها كلّ شيءٍ ما عداها، كما يُعبِّر المناطقة، فالذات قد يصدق عليها آلاف الأحكام، مثل الإنسان، فهناك ما يُقَوِّم ذاته من الفصول والأجناس، وهناك ما هو من لوازم ذاته مثل الإمكان وهناك الوجود الذي يعرض عليه، والوحدة أو الكثرة والعدم وأحكام الوجود، فهذه كلها أحكام متعلقة بالماهية، لكنها ليست الماهية من حيث هي، فهي من حيث هي لا يحمل عليها شيء غيرها، وهنا يطرح المناطقة والأصوليون مسألة الحيثية، أو الاعتبار أو جهة النظر إلى الشيء، وهذا أمرٌ خارج عن حقيقة الماهية[90]، وخارجٌ عن أن يكون ذا دلالةٍ خارجيّةً حسيّةً يرتبط بها.
والعلامة في البنيوية اللسانية هي المفهوم الأساسي، وصعوبة تحديدها أتت من جهة اعتباريتها: فهي لا تحمل معنى في ذاتها، بل بما تحقّقه من علاقات آنيّة داخل شبكة الترابطات. لهذا اعترف اللسانيون بصعوبة تعريفها[91]؛ وقلةِّ الحسم في إجاباتها عن الأسئلة التي تحيط بها من كل جانب.
إنّ تخريب المعنى حصل بطرق شتّى:
1-حين استبدلت العلامة بالمعنى، لم يبق إذن للكلمات في ذاتها ما تحمله، والأخطر أن أُقصي العقل عندما حيل بينه وبين اللّفظ، لأنّ صلة العقل بالكلمة تتمّ من خلال ربط التصوّر أو المفهوم بما يناسبه من مفردات وجمل، وهنا يتجلّى العقل في الخارج، ويتحقّق المعنى باعتباره العلاقةَ بين المفهوم والكلمة.
2-أما الإجراء الثاني فحينما أجهزت على ما بقي من ظلال للإنسان حين ادّعت أن الحقيقة إنما تلتمس من البنية التحتية اللاواعية، ومن التناقض تظهر الحقائق، باعتبار أنّ كلّ العلامات تُحيل على علاقة بين شيئين، وهذا المفهوم يُوقع في التقابل بالتناقض: فعلامة (أمّ) مرتبطة ضرورة بعلامة (ابن)، مع أنّ ما تشير إليه أم في ذاتها هو (أم) لا (ابن).
يظهر هذا النّزوع الجامح مع البنيويين، فجاك لاكان اتّجه إلى الاهتمام باللّاوعي وجعله موضوعًا لرسالته (وراء مبدأ الواقع) عام 1936، متبعًا منهج فرويد، ومردّدًا عنوان رسالته (وراء مبدأ اللذة)، مركّزًا على اللاشعور في بناء الشعر، ولغة البارانويا، ليكشف عن الكيفية التي تتحوّل بها الأفكار العدوانية إلى فعل[92].
كما أن ليفي ستروس أعاد إلى الأذهان الخطوات التي أنجزها علم اللسان (الألسنية[93]) وعلى الأخصّ علم الأصوات الكلامية (الصّواتية[94]) كما وضعه تروبتزكوي، على اعتبار أنّ هذه المنجزات كانت هي الملهمَ لأبحاثه الخاصة:
فعلم الأصوات الكلامية ينتقل من دراسة الظاهرات اللغوية الواعية إلى دراسة بنيتها التحتيّة اللّاواعية.
يرفض أن يعامل الألفاظ على أنها كيانات مستقلّة، ويتّخذ أساسًا لتحليله العلاقات بين الألفاظ.
يأخذ بمفهوم النسق[95].
يرمي إلى اكتشاف قوانين عامة[96].
واللاوعي في البنيوية اللسانية محرّكٌ للنّظام أو النسق بِرمَّته، أَسعفَتْ في الإغراء به والانسياق وراء التّصديق به أحجيات كثيرة، كالكمون تحت التّجربة، واللاشعور المستَكِن تحت اللغة «إن الألسنية ببحثها عن النسق الكامن تحت التجربة، تدرس هذا النّوع من اللاشعور المتموضع في اللغة. وعندئذ تبني بالدقة الواجبة، نموذج بنية مستترة وتتوصّل إلى تَبْدِيه كامل لموضوعها: فهي تصوغ بعض المبادئ الأساسية، المتلاحمة والكافية في آن معًا لتفسح المجال أمام استنباط أو بناء، بحسب قواعد صريحة، لجميع فروض النظريّة»[97]، فقد نُظر إلى الكلام، تحت تأثير علم البيولوجيا، على أنه عضو حيٌّ وإلى اللسانيات على أنها علم طبيعي[98].
«إن تطوّر الفكر اللساني تبع تطوّر الفيزياء وعلم النفس، اللّذيْن ناديا بمفهوم (البنية). فقد منحت سيكولوجيا الشكل الظواهرَ النفسيّة بنيةً جَعَلت من النّشاط الفكريّ شيئًا مغايرًا لكونه تجميعًا للتصوّرات. وهذا المعنى نفسُه للبنية كان له الدّورُ الأساسيّ في اللسانيات الحديثة.»[99]
لقد استبطنت البنيويّة اللسانية كلّ المحاولات الفكريّة التي أَرجعت الظواهر الفكريّة إلى المادّية التي كانت سائدة، ومترجمة في تيّارات عدّة، واستندت إلى المذهب الحسي لكوندياك، واستعانت بالنظريات الرياضية القائمة على فكرة (نظام من العلاقات). حتى وإن حاول بعض اللسانيّين الفلاسفة حلّ مشكلة العلاقة بين اللغة والفكر، لكن دون جدوى[100].
ويظهر أثر المذهب الحسي لكوندياك على لسانيات دي سويسير في فكرة الدال والمدلول: فالعلامة اللغوية هي الحصيلة الناجمة من التعاون والائتلاف بين الدالّ والمدلول، فالدّالّ يطابق في المجمل الصورة السمعية، والمدلول يقابل المفهوم. لكن الصّورة السمعية والمفهوم من طبيعة فيزيائية، مادّية،[101] وهذه المسألة عالجها كوندياك في مقالته عن الحسّ[102].
أما الصّلة بين الدالّ والمدلول، فهي في نظر اللسانيات البنيوية ضروريّة لا نظريّة، فحين ينطق الشخص قائلًا: ثور، فإن الدال، وهو كلمة ثور، ونعني أن الصورة الصوتية لمجموعة الحروف المكونة للكلمة: ث ور، تثير ضرورة مفهوم الثور، والمفهوم يطلق ضرورة الصورة السمعية ث ور[103].
ويُحيل دي سوسير العلامة على الجانب النفسيّ، وهي ليست تجريدات، فالعلامة أو الوحدة اللسانية هي كيان مزدوج، مكوّن من تقارب كلمتين، كلتاهما نفسي، ومتّحد برباط التآلف. فالعلامة لا تُوَحّد في الحقيقة بين الشيء والاسم، بل بين التصوّر والصورة السمعية. ويحدّد دي سوسير الصورة السمعية بأنها البصمة النفسية لهذا الصوت[104]. وهذه العلامة اعتباطية، فالصّوت الصادر من الإنسان لشيءٍ ما، لا يحمل في ذاته أيّ فكرةٍ عن هذا الشيء.
إن العلامة حين قضت على الكلمة قد خرجت من البعد المفهومي العقلي إلى الخارج الحسّيّ، المحكوم بالأصوات (الصورة الصوتية). والذي يجدر أن يقع في الحسبان هو أنّ اللغة محلّ التجريب هي اللغات الأوروبية المنحدرة من اللاتينية والسنسكريتية، وهي لغات ذات طبيعة انصهارية، تشكّلت عبر التاريخ الاستعمالي ولا تزال تبحث عن شخصيتها المستقلّة، في حين تروم اللسانيات وضع قوانين كونية تشمل جل الألسن، فدي سوسير يقرّر في صدر محاضراته أن مادّة اللسانيات هي أساسًا جميع الخطاب البشري وتجلّياته، سواء أتعلق الأمر بالشعوب المتوحّشة، أم بالأمم المتحضّرة، وسواء أتعلّق الأمر بالحقب الغابرة، أو الكلاسيكية أو عصور الانحطاط، يدخل في مادّة الدراسة اللغة العامية والفصيحة على حدّ سواء[105].
ترى الباحثة جين إتشسون أن بلومفيلد استقى التّعريف من الكلام المنطوق، وربما كان منطبقًا على الإنكليزيّة المكتوبة، حيثُ تترك مسافةً على كلٍّ من جانبي الكلمة المكتوبة كما هو مُقَرَّر. [106]
والصّورة السّمعية في البنيوية قد حلّت محلَّ الكلمات الأفعالَ والأسماءَ، وصارت هي المنبّهَ والمثيرَ للصّور المحفورة أو المرتسمة في النفس ارتسام البصمة في البَنَان؛ وهذه البصمة ترسّمت بشهادة الحواس[107].
والمشكلة التي وقعت فيها نظريّة العلامة، أنها تجاهلت الوجود الذهني، حين اشتغلت على الموجود الخارجيّ، والماصدقات. فإنَّا نتصوّر ما لا وجود له في الخارج أصلًا، كالممتنع مطلقًا، واجتماع النقيضين والضدّين والعدم المقابل للوجود الخارجي المطلق، والجوهر الفرد[108]. ونحكم على المعدومات بأحكام إيجابية، كقولنا اجتماع النقيضين غير اجتماع الضدين، والإيجاب إثبات، وإثبات شيء لشيء فرعُ ثبوت المثبت له؛ فلهذه الموضوعات المعدومة وجود، وإذْ ليس في الخارج ففي موطنٍ آخر، هو الذّهن[109].
وللصُّوَر حُصولٌ في الذّهن عن طريق الظّهور الظّلّي، كما يقول صدر الدين الشيرازي، دون أن يترتّب أثر، أو يُشترَطَ أن يكون ثابتًا في الخارج، كما في مثال العلم بالمعدوم[110]. وتَصَوُّر المعدوم له أساسُه المعرفيّ، وهو المنطق، فحين نقول إن الممتنع معدوم في الخارج، فهذه قضيّة صادقة، وإن لم تكن خارجية، وحقيقية، بالمعنى الأعمّ، ولولا أنّ للمعدوم أفرادًا موجودة في الذهن، لم يكن الحكم الإيجابيّ في هذه القضيّة صادقًا.
ونحن نعقل أمورًا لا وجود لها في الخارج، وما ذلك إلا لتعلّقٍ بين العاقل والمعقول، سواء أكان العلم عبارةً عن حصول صورة الشيء في العقل، أو عن إضافة مخصوصةً بين العاقل والمعقول، أو عن صفة ذات إضافة، والتعلّق بين العاقل والعدم الصِّرف محالٌ بالضّرورة، فلا بدّ للمعقول من ثبوت في الجملة، وإذ ليس بالخارج ففي الذهن[111].
إن هذه المساحة الفسيحة من النشاط العقليّ قد قضت عليها العلامة، حين حوّلت العقل إلى ما يشبه الجهاز الذي يتعامل مع اللغة كما لو أنّها أشياءٌ حسّيّةٌ ووسائل، لا أدوات تحتاج إلى ذكاء بشريّ.
كما أنّ وجود المدلول لا يكون إلّا في عالم الحسّ، أي أنّ العلامة تحيل على الماهية بلوازمها، أما الماهية بمعناها الواحد المشترك، فهي خارج منطق العلامة، والعقل يلاحظ «معنًى وحدانيًّا محتملًا لأن يكون مع وحدته شاملًا للكثرة مَقُولًا عليها متَّحدًا بها، بحيث يسع وجوده العقلي وُجُوداتِها الحسّية الجزئية؛ فوجوده من هذه الجهة ليس في عالم الحسّ، وإلا اختصّ بمكان أو مكاني ويخلو عنه»[112]. ولا ترى اللسانيات في العلامة معنًى ذاتيًّا، وليس لها امتدادات قبلية، بحكم تزامنيّتها.
وقد يُقال هنا على سبيل الدّفع، إن اللسانية تقصر حديثها على الكلام لا اللغة؛ لأن الكلام مظهرٌ اجتماعي كاشف عن آنية إنسانية ووجوديّة، ومن هنا لا دخْلَ للغة باعتبارها نظامًا اجتماعيًّا ثابتًا، فيقال إنّ الفصل بينهما يشبه الفصل بين وجهي العملة، كما مثَّل دي سوسير لترابط الدالّ والمدلول، كذلك اللغة والكلام، لا يقبل الفصل بينهما عقلًا وواقعًا، ومن التعسّف تبرير هذه الافتراضات التي يغلُب أن تكون صدًى للطريقة التعليمية التبسيطيّة التي اتّبعها دي سوسير في محاضراته؛ ثم إن دي سوسير يقر بالنظام الداخلي للغة، وهو قواعد وقوانين اللغة، أما اللغة الخارجية، فهي محكومة عند الاستعمال بالسياقات العامة التي تحيط بمستعملي اللغة في جميع أحوالهم.
ومبدأ الاعتباطية الذي تحمّس له دي سوسير، ورأى أنّه فوق الجدال، وأنه يهيمن على ألسنية اللغات جميعها[113]، يستند إلى قَصْر البحث اللساني على المبدأ السينكروني أو التّزامني، وإيلائه الصّدارة، على حساب الدياكروني التطوّريّ أو التاريخيّ. ذلك أن دي سوسير قد اشتطّ في استخلاص الأحكام اللسانية حين تجاهل أن للّسان تاريخًا يعود إلى ملايين السنين، لم يكن فيه متعدّدًا، بل كان لسانًا واحدًا، هو المادّة الطبيعية للدراسة، واللغة العربية شاهدٌ على هذا: فإلى ما بعد الإسلام بعقود لم تكن ثنائية اللغة والكلام قائمة، وكان الكلام هو المغذّيَ للّغة، وهي النظام الاجتماعي المحكوم بقوانينه وقواعده، حسب دي سوسير؛ أما جانب الكلام فموقعه هامشيّ، حرّره العلماء ووظّفوه في القضايا ذات الطابع التعاملي والقانوني الفقهي، والتي تخضع للتّداول والاستعمال العرفيّ، ولا تمثّل في الواقع إلا مساحةً ضيّقة، يُدخِلونها في باب الاستثناء، وخلاف الظاهر.
لكن الواقع اللاحق قد شهد تشعّب الألسنة وإصابتها بالآفات والأمراض اللغوية التي يتحدّث عنها علماء اللغة. فاختيار المنطقة المصابة أو المؤوفة (المصابة بآفة) ميدانًا للنّظر الاستقرائيّ والاستنباطيّ، يزعزع الثقة بأي نتيجة يتوصّل إليها الباحث، مهما كان وزنه. إن اتّخاذ اللغة المحكية أو ما أطلق عليه دو سوسير بـ الكلام[114]، يصلح أن يكون موضوعًا للدّراسات الاجتماعية والنفسية، وليس اللسانية.
وأخذت العلامة مع نظريّة التّواصل بُعدًا جديدًا، فأصبحت مجرّد إشارة[115]، ضمن الرموز الإشاريّة التي أصبح يُنظَر إلى اللغة الاتصاليّة على أساسها. وعلامات الرّمز اللساني هي المؤلّفة للمجموعات الصوتية (الفونيم[116])، وهي إشارات محدودة العدد، ذات طبيعة صوتية، يؤدّي تشكيلها وفق قواعد خاصّة إلى تحقيق التواصل[117]. وهو ما مهّد لميلاد اللسانيات السيميائية، ونزع من اللغة صفتها المفهومية.
إن واقع اللسانيات قد فتح آفاقًا واسعة أمام الدّلالة على حساب المعنى، كلُّ ذلك بفعل التأثير الذي أحدثته اللسانيات البنيوية والمدرسة السلوكية والبراغماتية في الولايات المتحدة الأمريكية التي تعطي الصدارة للماصدق وما يحقّقه السلوك في الخارج، ولا تلتفت إلى المفهوم والمعنى.
والدياكرونية والسينكرونية، أو التعاقبية والتزامنية، من الألفاظ التي استخدمها فرديناند دي سوسير؛ حيث تقوم المقاربة الدياكرونية للّغة على فحص أصولها، أو جذورها، وتتبّع تطوّرها، وتاريخها وما يطرأ عليها من تغيّرات. وفي المقابل، تتوقّف الدّراسة السينكرونية على النظام اللسانيّ في حالة محدّدة (بمعزل عما سواها). دون الرجوع إلى الزمن.
وقد كانت اللغويات الدياكرونية هي المتَّبَعة في بحوث علم اللّغة المقارن خلال القرن التاسع عشر، وحتى في المنهج التحويليّ المعاصر عند تشومسكي؛ فأسّس دي سوسير علم اللغة الحديث مقاطعًا التقليد اللغوي السائد، ولفت الانتباه إلى أهميّة الدّراسة الوصفية التي تقتصر على النظر إلى حالات اللغة وضرورة استبعاد العامل التاريخيّ عند دراسة حالة من حالات اللغة. فاللغة عنده مجرّد نسق أو نظام، وتؤدّي وظيفتها باعتبارها بنية لا تنطوي في ذاتها على أيّ بعدٍ تاريخيّ. وقد اضطلع جيل دولوز بإبراز الجانب المحايث، الكامن[118] للبنية، وقال إن كلّ ما يطرأ على البنية من عوارض وتغيّرات إنما ينبع مما تنطوي عليه البنية ذاتها من ميولٍ كامنة فيها واتّجاهات باطنةٍ تكون هي المسئولة عمّا يعتورها من تغيّرات. وسرعان ما انتقل مفهوم البنية من علم اللغة إلى بنية العلوم الإنسانية كالأنثروبولوجيا (ليفي ستراوس)، والتحليل النفسي (جاك لاكان) والثقافة (ميشيل فوكو)، والماركسية (لويس ألتوسير)[119].
وتظهر أهمّية المقاربة السينكرونية في فهم لغة ما في أنّ كلّ علامة بالنسبة إلى دي سوسير ليس لها أي خصائص عدا ما تنتجُه العلاقة المباشرة بينها وبين سائر العلامات التي تحدّد معناها داخل نظامها التزامني الخاصّ[120]، فالكلمة تأخذ قيمتها ليس من التّاريخ، بل من التغيّرات التي تجري عليها بحسب الاستجابة للحاجات التعبيرية التي يمليها النظام، أو النظم التزامنية، التي تُعَدُّ الكلمة جزءًا منها[121].
يقول دي سوسير «...فاللسانيات التزامنية(السينكرونية) ترى الكلام كما لو أنه كلٌّ حيٌّ، موجود كما لو أنه حالة، في نقطة محدّدة في الزمن»[122].
ولقد كان دي سوسير يتطلّع إلى تعميم هذا المبدأ وجعله أساسًا لبحث كل الأنظمة وعوامل تكوينها؛ ناهيك عن اعتبار الخصائص العامة للعلامة مستخرجة من فكرة التزامن[123].
ومؤدَّى هذا التصوّر الذي تأسَّسَت عليه الألسنية عند دي سوسير أنّ الفكر منتظمٌ في المادة الصوتية أي البنية المادية، بحجّة أنه في جانبه النفسي ليس سوى كتلة مائعة بلا شكل وغير واضحة، ولولا العلاقات -وهي علاقات تزامنية أو سينكرونية- لما كنّا قادرين على التمييز بين فكرتين بوضوح[124].
كذلك لم يُعدْ للأسس العقلية والمبادئ والاستعدادات الفطرية للمعرفة شأن في النظام العام للفهم، سواء في التفاهم باللغة أو في تفسير الظواهر، وفي هذا ترديد لأصداء الصيرورة، وتقديم للفساد على الكون، وإبعاد للذات من الحضور في الإنجاز الثقافي والحضاري، فميشيل فوكو يعتمد فكرة الخطاب[125] في فهم الحياة الثقافية والاجتماعية، والكلمة يونانية، ذات مقطعين دالّين، معناهما مجتمعين الجري في اتجاهات مختلفة، تشتيتًا للمركزية التي تردُّ المنجزات إلى الإنسان، وتحقيقًا لما سمّاه الثقافة العامّة. «ولم يكن الإنسان قبل نهاية القرن الثامن عشر موجودًا، كما يرى فوكو، ولا شيء سوى قوّة الحياة وإثمار العمل، أو الكثافة التاريخيّة للّغة، فهو مخلوقٌ حديثٌ ابتدعه صانع المعرفة بيده قبل أقلَّ من مئتي سنة»[126].
إنّ المبدأ الذي تتّخذه البنيويّة منطلقًا لا يرى في الفكر الإنسانيّ سوى إفراز لـ «صيغ حياة ثقافية لغوية خاصّة وضبطها. فالمعرفة الإنسانيّة هي النّتاج الطّارئ تاريخيًّا لسلسلة ممارسات لغويّة واجتماعيّة لدى جماعات تفسير محلّيّة خاصّة... أضف إلى ذلك أنّه من الممكن إثبات أنّ المعنى اللغويّ نفسه شديد الاضطراب والتقلّب، لأنّ السياقات التي تحدّد المعاني ليست ثابتةً على الإطلاق؛ ولأنّه تحت سطح كلّ نصٍّ متماسكٍ ظاهريًّا يمكن تحرّي سلسلةٍ من المعاني المتنافرة التي يتعذّر التّوفيق بينها».[127]
هذا وتعدّدت النظريات التي تؤسّس للمعنى، وفق الخط الذي رسمته اللسانيات البنيوية، منها النظريّة التي تقوم على التردّد: هل المعنى تصوّرٌ أم ترادف (مور-كواين)، ومنها التي ترى أن معنى الكلمة هو استخدامها في اللغة (فتجنشتين)، ومنها التي تذهب إلى أن معنى الكلمة أو العبارة إشارتها (فريجه)، والتي تقول إن معنى القضية هو منهج تحقيقها (الوضعية المنطقية)[128].
وصارت الفلسفة المعاصرة بحثًا في اللغة يعتمد على أقصى ما وصلت إليه كل العلوم بما فيها العلوم التجريبية، وأصبح موضوع اللغة هو الذي يوحّد المدارس المختلفة، فالفينومينولوجيا والتأويل إلى الفلسفة التحليلية ونظريّة العلم، تجتمع على اللغة في الأساس، ومن ثَمّ فإن فلسفة القرن العشرين وإلى هذا القرن تقوم على اللغة، وجميع مسائلها تجري مناقشتها بمصطلحات لغوية[129].
والمشكلات الفلسفية -كما يقول راسل[130] - هي في الواقع مشكلاتٌ في التراكيب اللغوية، وحين نتفادى أغلاط التركيب اللغوي ُتحلّ المشكلة الفلسفية أو يتبين استعصاء حلّها، وهذا حكم مُغالًى فيه -كما يرى-، بيد أنه لا يمكن أن يكون ثمة شك في أن نفع التركيب اللغوي الفلسفي من حيث علاقته بالمشكلات الفلسفية التقليدية نفع كبير للغاية[131].
فموضوع الفلسفة هو توضيح الأفكار توضيحًا منطقيًا كما قال فتجنشتين، وتقول معه الكثرة الغالبة من فلاسفة اليوم، فأوّل ما ينبغي إزالته من الأذهان الاعتقاد بأن للفلسفة موضوعها الخاص الذي تبحث فيه، شأنها في ذلك شأن سائر العلوم، لا بل الفلسفة تحليل للعبارات مهما يكن مصدرها[132].
ولقد بسط هذا الاتجاه سلطانه على الكتابات المعاصر، سواء على مستوى التفكير أو على مستوى اللغة التي ارتمت في حضن التداعي الاشتقاقي، والإسنادات المترنّحة التي ترفض المساءلة المنطقية والمحاججة وفق القوانين اللغوية والبلاغية الراسخة. وهذ الاتجاه الغالب على الفلسفات التحليلية هو في الواقع أثرٌ مباشر للسانيات البنيوية التي تفرّدت بالنشاط العقلي والفلسفي في القرن العشرين، ووسّعت دائرة نشاطها ليشمل مظاهر الحياة والعلاقات الاجتماعية، مؤكّدة مدى استحكام النزعة المادية في عالم اليوم.
خاتمة
تخلّت الفلسفة في القرن العشرين عن شعارها القديم «الفلسفة أمُّ العلوم»، ليحلّ محلّه شعار جديد عنوانه «اللسانيات الحديثة أمّ الفلسفة»، مسنودًا بالظّهير المادّي الذي حَظِيَت بهذه هذه (الخِطّة) الفكريّة. كما أنّ اللسانيات البنيوية ليست تيّارًا فكريًا منعزلًا عن الحركة العامّة للعقل الغربي -وكثيرًا ما يُسكت عن الجوانب التراكمية في بنيته- بل هي انعكاسٌ للجهد المبذول من أجل إقصاء الميتافيزيقا (الكاثوليكية تحديدًا) التي تدرّجت من مرحلة التأييد العقلي لها إلى مرحلة الاستقلال التامّ للعقل مع المذهب الوضعي لأوغيست كونت وباقي الفلسفات التي ارتبطت بها في القرن العشرين. وجاءت اللسانيات البنيويّة ماضيةً في هذا الخطّ، لتجفّف آخر ينابيع البعد الإنسانيّ للمعرفة، وتُعلن موتَ الإنسان وتَحَلَّله، بعد إعلان نيتشه موتَ الإله. ولم تنتهِ البنيويّة إلى هذه النتيجة، بل جعلتها هدفًا، وعملت على تحقيقه باتّباع مناهج العلوم التي قامت على المنهج البنيويّ.
ويُؤخَذُ أيضًا على اللسانيات البنيوية تأكيدها على أنّ للعقل العمليّ نظامًا واحدًا يحكُم اللغات، وراحُوا يُنَظّرون في كتاباتهم ومحاضراتهم لإثبات هذه الفرضيّة، التي يُراد لها أن تسُودَ العالم بوسائلَ شتّى، مُتجاوزةً الحقائقَ الواقعيّة التّي تُثبِت خلافَ ذلك؛ كذلك قلْبها شكل النظام البحثي حين انتقلت في دراسة اللغة انطلاقًا من العقل إلى جعل الوقائع منطلقًا، لتقضي على أصول اللغة وأسسها الثابتة التي تُبنى عليها قوانينها وقواعدها. على الرغم من إقرار دي وسوسير بنظامين متوازيين للغة: النظام الداخلي المحايث، وهي قوانين راسخة للغة، والنظام الخارجي المتغيّر الخاضع للسياقات الاجتماعية والثقافية والحضارية للمتخاطبين، وهو ما يعطي القيم المتعالية للّغة خلودها واستعصاءها عن الوقوع تحت التجربة التي تريد الزّجّ بها داخل سياقات غير علمية، إيديولوجية ودوغماتية. إن محاولات البنيوية تجديد نفسها كان في واقع الأمر ظاهريًّا فحسب، وإلا فالأرومة ظلّت هيَ هي َبلا تغيير: العالم عرَضٌ واللغة كذلك، والإنسان في الحالتين، حالة التلقّي وحالة الإنشاء، رهنٌ بالقوانين المادية التي لا تخرج عنها البنيوية، قاطعة الصلة بين الاختيار الذي تقتضيه طبيعة اللغة وبين الإنسان الفاعل، ضمن سلسلة من الإكراهات والجبر باسم النظام البنيوي ومقتضياته.
المصادر
إبراهيم، كريا، مشكلة البنية أو أضواء على البنيوية، القاهرة، مكتبة مصر (د.ت.).
إتشسن، جين، اللسانيات، ترجمة وتعليق عبد الكريم محمد جبل، القاهرة، المعهد القومي للترجمة، ط1، 2006.
الإيجي، عضد الدين، كتاب المواقف وشرحه للشريف الجرجاني، تحقيق عبد الرحمان عميرة، بيروت، دار الجيل، ط1، 1417هـ-1997م.
إيرل، وليم جيمس، مدخل إلى الفلسفة، ترجمة عادل عوض، مراجعة يمنى ظريف الخولي، القاهرة، رؤية، ط 1، 2011.
بدوي، عبد الرحمن، الموسوعة الفلسفية، بيروت ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، 1984.
تارناس، ريتشارد، آلام العقل الغربي، ترجمة فاضل جنكر، المملكة العربية السعودية، العبيكان، والإمارات العربية المتحدة، كلمة، ط1، 2010.
خان، وحيد الدين، الدين في مواجهة العلم، ترجمة ظفر الإسلام خان، مراجعة عبد الحليم عويس، بيروت، دار النفائس، 1401هــ-1981.
زيناتي، جورج، الفلسفة في مسارها، بيروت، دار الكتاب الجديد المتحدة، ط2، 2013.
الشيرازي، صدر الدين، الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، بيروت، دار إحياء التراث العربي، ط1، (د.ت.).
الشيرازي، صدر الدين، الشواهد الربوبية، تصحيح وتحقيق وتقديم مصطفى محقق داماد، إشراف الأستاذ سيد محمد خامنئه، طهران، إيران، بنیاد حکمت اسلامی صدرا، 1382هـ.ش.
ــــــــــــــــ، إيقاظ النائمين، تصحيح وتحقيق وتعليق محمد خوانساري، بإشراف آية الله محمد خامنه أي، طهران، إيران، بنیاد حکمت اسلامی صدرا، 1383هـ.ش.
الطباطبائي،محمد حسين، بداية الحكمة، مع شرح وتحقيق محمد مهدي المؤمن، ط1، 1436هـ-2005.
غارودي، روجي، البنيوية، فلسفة موت الإنسان، ترجمة جورج طرابيشي، بيروت، دار الطليعة، ط3، 1985م.
كبريزاده، طاش، الشهود العيني في مباحث الوجود الذهني، اعتنى به محمد زاهد جول، بغداد، منشورات الجمل، ط1، 2009م.
كريزويل، إيديت، عصر البنيوية، ترجمة جابر عصفور، الكويت، دار سعاد الصباح، ط1، 1993م.
كويزينيه، جاك، «البنيوية»، ضمن: مداخل الفلسفة المعاصرة، ترجمة خليل أحمد خليل، بيروت، دار الطليعة، ط1، 1988.
المطهري، مرتضى، دروس فلسفية في شرح المنظومة، ترجمة وهبي العاملي، بيروت، دار الهادي، ط 1، 1422هـ-2002م.
Akoun, André, ed. La philosophie. Paris: C.E.P.L., 1977.
Baraquin, Noëlla, et al. Dictionnaire de philosophie. 3rd ed. Paris: Armand Colin, 1995.
Comte-Sponville, André. Dictionnaire philosophique. 4th ed. Paris: Presses Universitaires de France, 2013.
Condillac, ةtienne Bonnot de. Traité des systèmes. Paris: Ch. Houel, 1798.
Crystal, David. Linguistics. London: Penguin Books, 1971.
Cuddon, J. A. The Penguin Dictionary of Literary Terms and Literary Theory. 4th ed. London: Penguin Books, 1999.
Cuvillier, Armand. Nouveau dictionnaire philosophique. Paris: Librairie Armand Colin, 1956.
De Saussure, Ferdinand. Cours de linguistique générale. Edited by Charles Bally and Albert Sechehaye. Paris: Payot, 1916.
Didier, Jean. Condillac. Paris: Librairie Bloud et Cie, n.d.
Dubois, Jean, et al. Le dictionnaire de la linguistique et des sciences du langage. Paris: Larousse, 2012.
Ducrot, Oswald, and Tzvetan Todorov. Dictionnaire encyclopédique des sciences du langage. Paris: ةditions du Seuil, 1972.
Foucault, Michel. Les mots et les choses. Paris: Gallimard, 1966.
Grand Larousse de la philosophie. Paris: Larousse/CNRS ةditions, 2003.
Lalande, André. Vocabulaire technique et critique de la philosophie. 3rd ed. Paris: Presses Universitaires de France, 2016.
Le Petit Larousse illustré. Paris: Larousse, 2012.
Lévi-Strauss, Claude. Anthropologie structurale. Paris: Plon, 1958.
Littré, ةmile. Dictionnaire de la langue française. Chicago: Encyclopوdia Britannica, 1991.
Perrot, Jean. La linguistique. 4th ed. Paris: Presses Universitaires de France, 1961.
Piaget, Jean. Le structuralisme. 5th ed. Paris: Presses Universitaires de France, 1968.
Quillet, Aristide. Dictionnaire Quillet de la langue française. Paris: Librairie Aristide Quillet, 1975.
Société du Nouveau Littré. Le Nouveau Littré: Dictionnaire de la langue française. Paris: Le Robert, 1983.
Littré, dictionnaire de la langue française, édité par Enciclopaedia Britannica, Chicago, 1991.
Cuvillier, Armand, Nouveau dictionnaire philosophique, Librairie Armand Colin, Paris, 1956.
Oswald Ducrot & Tzvetan Todorov, Dictionnaire encyclopédique des sciences du langage, éditions du Seuil, Paris, 1972.
Condillac, ةtienne Bonnot de, Traité des systèmes, Ch. Houel, imprimeur, Paris, 1798.
Lalande, André, Vocabulaires techniques et critique de la philosophie, 3e édition, Presse Universitaire de France, 2016, Paris.
------------------------------------
[1]. دكتوراه في الترجمة، أستاذ في جامعة الجزائر.
[2]. linguistic turn
[3]. corrélation
[4]. système/ system
[5]. structure
[6]. Ducrot, Dictionnaire encyclopédique des sciences du langage, 36.
[7]. Dictionnaire de linguistique et des sciences du langage, 453.
[8]. هيلمسليف، مداخل لنظريّة اللغة، 22.
[9]. Condillac
[10]. August Comte
[11]. Gestalt-théorie
[12]. psychosociologique
[13]. Kurt Lewin
[14]. Troubetzkoy
[15]. induction
[16]. Akoun, La philosophie , 47.
[17]. Littré, dictionnaire de la langue française, édité par Enciclopaedia Britannica, 60- 61.
[18]. Le Petit Larousse illustré , 10- 40.
[19]. Le Robert, Société du nouveau Littré, 366.
[20]. Le Petit Larousse illustré ,10- 40.
[21]. Comte-Sponville, Dictionnaire philosophique, 961.
[22]. Ibid., 958.
[23]. Strauss
[24]. André Comte-Sponvil
[25]. G. Deleuze
[26]. Ibid., 959.
[27]. Troubtzkoy
[28]. phonologue
[29]. Larousse, Grand Larousse de la philosophie, 987.
[30]. R. Garaudy
[31]. غارودي، البنيوية، فلسفة موت الإنسان، 13-14
[32]. بدوي، الموسوعة الفلسفية، 2: 361
[33]. Akoun, La philosophie , 470.
[34]. formalisation
[35]. السيبرنيتيكية (cybernétique) أو علم التوجيه والتحكم الأوتوماتيكي، علم يوجُد حقل نشاطه في عمليات التحكم والاتصال في الكائنات الحية والآلات على حدّ سواء.
[36]. Piaget, le Structuralisme, 7.
[37]. Ibid., 6.
[38]. Ibid., 13.
[39]. خان، الدين في مواجهة العلم، 95.
[40]. Akoun, La philosophie , 469.
[41]. Grevisse & Gosse, Le bon usage, grammaire française,19.
[42]. Le Petit Robert Micro Dictionary
[43]. Dictionnaire Quiellet de la langue française, 325.
[44]. Baraquin, Dictionnaire de philosophie, 1995.
[45]. Piaget
[46]. synchronie
[47]. Piaget, le Structuralisme, 105.
[48]. Ibid., 103.
[49]. Le Robert, Société du nouveau Littré, 444.
[50]. Condillac
[51]. Lalande, Vocabulaires techniques et critique de la philosophie, 1097.
[52]. Akoun, La philosophie , 469.
[53]. Cuvillier, Nouveau dictionnaire philosophique, 183
[54]. Kant
[55]. Baraquin, Dictionnaire de philosophie, 335.
[56]. John Locke
[57]. inné
[58]. Condillac, Traité des systèmes, 14.
[59]. Didier, Condillac, 62.
[60]. Ibid., 62.
[61]. Cresson, La philosophie française, 124.
[62]. Ricoeur
[63]. غارودي، البنيوية، فلسفة موت الإنسان، 28
[64]. Althusser
[65]. م. ن، 28.
[66]. زيناتي، الفلسفة في مسارها، 321
[67]. sujet
[68]. épistème
[69]. م. ن، 321.
[70]. Lévi-Strauss, Anthropologie structurale, 77.
[71]. غارودي، البنيوية، فلسفة موت الإنسان، 30.
[72]. La génie génétique
[73]. manipulation génétique
[74]. زيناتي، الفلسفة في مسارها، 358.
[75]. الشيرازي، إيقاظ النائمين، 35.
[76]. terre-à-terre
[77]. Grynpas, Lap philosophie, 267
[78]. إبراهيم، مشكلة البنية أو أضواء على البنيوية، 44.
[79]. arbitralité
[80]. بحث مناطقة الإسلام وعلماء الأصول هذه المشكلة وقدموا عدة نظريات، بسطوها في كتبهم، منها نظريّة القرن الأكيد التي تبناها العلامة محمد باقر الصدر، الصدر: دروس في علم الأصول، الحلقة الأولى والثانية، 1: 124.
[81]. Piaget, le Structuralisme, 66.
[82]. المشهور في ترجمتها هو العلامة (signe/sign)، غير أن المعجم الموحّد لمصطلحات اللسانية ترجمها بـ(الدليل)، مع أنه في التعريف سماها علامة...=المعجم الموحد لمصطلحات اللسانيات(إنكليزي-فرنسي-عربي)، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم-مكتب تنسيق التعريب، المملكة المغربية، طبعة 2002.
[83]. Benveniste
[84]. Perrot, La linguistique,112.
[85]. Port-Royal
[86]. كويزينيه، «البنيوية»، 164.
[87]. porte-signes
[88]. De Saussure, Cours de linguistiques générales, 144.
[89]. Ibid., 100.
[90]. المطهري، دروس فلسفية في شرح المنظومة، 4: 168
[91]. Ducrot& Todorov, Dictionnaire encyclopédique des sciences du language, 131.
[92]. كريزويل، عصر البنيوية، 206
[93]. linguistique/ linguistics
[94]. phonologie
[95]. système
[96]. غارودي، البنيوية، فلسفة موت الإنسان، 30.
[97]. م. ن، 13-14.
[98]. Perrot, La linguistique, 103.
[99]. Ibid.,105.
[100]. Ibid.
[101]. Ibid., 103.
[102]. essai de sensation.
[103]. Ibid., 112.
[104]. Dubois, Le dictionnaire de la linguistique et des sciences du langage, 430.
[105]. De Saussure, Cours de linguistiques générales, 20.
[106]. إتشسن، اللسانيات، 183.
[107]. De Saussure, Cours de linguistiques générales, 98.
[108]. الإيجي والجرجاني، المواقف، 1: 258.
[109]. الطباطبائي، بداية الحكمة، 1: 102.
[110]. الشيرازي، الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، 1: 266.
[111]. كبريزاده، الشهود العيني في مباحث الوجود الذهني، 86.
[112]. الشيرازي، الشواهد الربوبية، 36-37.
[113]. De Saussure, Cours de linguistiques générales, 100.
[114]. parole
[115]. signal
[116]. phonème
[117]. Dubois, Le dictionnaire de la linguistique et des sciences du langage, 432.
[118]. immanent
[119]. إيرل، مدخل إلى الفلسفة، 208.
[120]. Dictionary of literary terms & literary theory, 217.
[121]. Piaget, le Structuralisme,110.
[122]. De Saussure, Cours de linguistiques générales, 141.
[123]. Crystal, Linguistic, 189.
[124]. De Saussure, Cours de linguistiques générales, 156.
[125]. discours/discourse
[126]. Foucault, Les mots et les choses, 319.
[127]. تارناس، آلام العقل الغربي، 476
[128]. زيدان، في فلسفة اللغة، 9.
[129]. بوبنر، الفلسفة الألمانية الحديثة، 99.
[130]. Russel
[131]. رسل، تاريخ الفلسفة الغربية، 425
[132]. محمود، موقف من الميتافيزيقيا، 17.