البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الفلسفة التأويليّة عند هانس جورج غادامر

الباحث :  الشیخ غسان الأسعد
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  37
السنة :  شتاء 2025م / 1446هـ
تاريخ إضافة البحث :  April / 19 / 2025
عدد زيارات البحث :  231
تحميل  ( 473.085 KB )
الملخّص:
تركّز هذه المقالة على تقديم صورة واضحة عن نظريّة غادامر في فهم النص، والتي تعدّ من أهم النظريات المعاصرة في هذا الإطار، وذلك تمهيدًا لتقديم تحليل نقدي للنظريّة. ولا بدّ من التنبيه على أن المقالة تهدف إلى بيان فلسفته التأويلية لا من جهة كلّيانيّتها على الرغم من مركزيّتها في فلسفته، بل من جهة ارتباطها بفهم النصّ وتأويله، فهذه هي الجهة التي هي محطّ اهتمامنا في هذه المقالة، حيث قدّم غادامر عناصر خاصة ومهمة في هذا الإطار كان لها تأثيرها على كثير من المفكّرين المعاصرين، وخاصة على المهتمّين بالدراسات الهرمنوطيقية المعاصرة.
وترتكز هذه نظريّة غادامر في فهم النص على ما يسميه بالدائرة التأويلية، والتي ترتكز بدورها على جملة من العناصر التي تشكّل محور نظريّة غادامر في هذا السياق، ومن هذه العناصر الأحكام المسبقة، وصهر الآفاق، وأسبقية السؤال التأويلية، وغيرها من العناصر التي جرى توضيحها وبيانها في هذا المجال.
وقد جرى في خاتمة المقالة تقويم النظريّة المطروحة، كما عملت على إجراء مقارنة سريعة بين هذه النظريّة وبين النتائج المعمّقة المطروحة في علم أصول الفقه حول فهم النص وتفسيره، وأشرنا إلى ضرورة التفريق بين غاية علم الأصول في ما يرتبط بفهم النص وبين ما يهدف إليه غادامر في نظريته.

الكلمات المفتاحية: غادامر- فهم النص – التأويل - الموضوعية الدائرة التأويلية -الأحكام المسبقة المعنى.

مقدمة
يعتبر هانس جورج غادامر أحد أهمّ أقطاب الفلسفة الغربيّة المعاصرة، وله مؤلَّفات عدّة تركّزت في مجملها على الهرمنوطيقا والتأويل ونظريات فلسفة الجمال.
درس غادامر على أيدي فلاسفة مشهورين عدة أهمهم إدموند هسرل، ومارتن هيدغر، وقد كان لهما تأثير كبير جدًا على فلسفته التأويلية بشكل خاصّ، ويظهر ذلك بوضوح في كتابه «الحقيقة والمنهج».

ويمكن القول إنّ غادامر قدم في فلسفته التأويلية واحدة من أهم النظريات الفلسفية الغربيّة المرتبطة بالفهم باعتباره فنًا وفلسفة قائمة بذاتها، ولعلّ من أهم ما يميز غادامر هو أنه يحمل في طيات فلسفته تأثّرًا واضحًا بأهم الفلسفات الغربية المعاصرة، وذلك من جهة تأثره الواضح بكانط وهيدغر وهوسرل وشلايرماخر، وغيرهم من الفلاسفة، حيث يجد القارئ أنه ينطلق في رسمه لمعالم فلسفته من مختلف الرؤى والنظريات التي وردت على ألسنة عمالقة الفلسفة الغربية ممن تأثّر بهم غادامر، ولكن هذا لا يعني في الوقت نفسه أنه مجرد ناقل لآرائهم؛ لأن غادامر تجاوز هذه الرؤى ليقدم مدى أوسع وأوضح وأبعد عن الإشكال وفق ما يراه.
ونريد في المقام أن نبيّن أهم العناصر في فلسفة غادامر التأويلية، ويهمنا في هذا المجال التركيز على فلسفته التأويلية لا من جهة كلّيانيّتها على الرغم من مركزيّتها في فلسفته، بل من جهة ارتباطها بفهم النصّ وتأويله، فهذه هي الجهة التي هي محطّ اهتمامنا في هذه المقالة، حيث قدم غادامر عناصر خاصة ومهمة في هذا الإطار كان لها تأثيرها على كثير من المفكرين المعاصرين، وخاصة على المهتمين بالدراسات الهرمنوطيقية المعاصرة.

إذن سنحاول في هذه المقالة المختصرة بيان أهم العناصر التي تحدث عنها غادامر، في محاولة لتقديم رؤية واضحة عن فلسفته التأويلية فيما يرتبط بالنص وفهمه، يحدونا إلى ذلك محاولة تقديم وجوه التقارب أو التمايز بين رؤية غادامر في فهم النص وبين الرؤية التي يقدمها علماء أصول الفقه. خاصة أننا نستشعر أن فهم بعض المفكّرين لفلسفة غادامر التأويلية يختلجه نوع من سوء الفهم أحيانًا.

اللغة والكتابة في تأويلية غادامر
لقد حاول غادامر في كتابه الضخم «الحقيقة والمنهج» أن يؤسس لفلسفة تأويلية كلية وعامة، تتجاوز إطار التأويل الذي ينحصر نشاطه في إطار تأويل النص وتفسيره، إلا أنه وعلى الرغم من ذلك بقي للغة أهمية خاصة في فكر غادامر وفلسفته، بل إنه يصرّح بأن التأويل كله لغة، وقد تأثر غادامر كثيرًا بنظرة أستاذه مارتن هيدغر إلى اللغة، ونحن نجد أنه يكرر أحيانًا مقولات أستاذه في هذا الإطار، حيث يقول «العالم نفسه يقدّم نفسه في اللغة»[2]. ويعتبر غادامر أن اللغة هي الوسيط الذي يمكننا من خلاله أن نفهم الآخر، وهي الوسيلة الوحيدة التي يمكننا من خلالها أن ننقل أنفسنا إلى أفق المؤلف ونضع أنفسنا مكانه، ولولا اللغة لما أمكننا أن نصل إلى نقطة الاتفاق أو الفهم، فـ «اللغة هي الوسط الذي يحدث فيه الفهم والاتفاق الجوهريان بين طرفين»[3]، بل إن اللغة هي التي يمكنها أن تحمل في طياتها العمق التاريخي للنص، بحيث يمكننا أن نفهم تاريخ النص أكثر مما يستطيع المؤلف نفسه أن ينقله إلينا، فاللغة تعبر عنّا وتظهر وجودنا مع ما يحمله وجودنا من تأثيرات تاريخية وثقافية، يقول غادامر: «من الأصح القول إن اللغة تتكلّمُنا بدلًا من أن نتكلَّمها؛ ولذلك فإن الزمن، مثلًا، الذي كُتب فيه نص ما يمكن أن يتحدّد من استعماله اللغوي بدقة أكبر من تحديده من مؤلفه»[4].
ويشدد غادامر على أهمية الكتابة بشكل كبير، فهو يفضل اللغة المكتوبة على اللغة المسموعة، معتبرًا أن اللغة إنما تنال وتحقق «مثاليتها الحقيقية في الكتابة، ذلك لأن وعي الفهم ينال سيادته الكاملة في مواجهة لغة مكتوبة»[5]، وعلة هذه السيادة هو أن النص المكتوب يتصف بالثبات وبكونه وثيقة، يمكن الاعتماد عليها والتأمل فيها أكثر من اللغة غير المكتوبة، كما أن اللغة المسموعة تبقى مرتبطة بالمؤلف، بحيث يضفي عليها أحاسيسه وتبقى أسيرة تأثيرات صوتية وغير صوتية قد يكون لها مدخلية في فهم النص، ويعتقد غادامر أن انفصال اللغة عن المؤلف من خلال الكتابة يمنحها نوعًا من الاستقلالية تساعد القارئ على فهم النص بما هو نص حي يعبر عن معنى ما ويظهره[6].

محور المشكلة الهرمنوطيقية عند غادامر
لم تكن اللغة أو النص هي محور المشكلة التأويلية أو الهرمنوطيقية الوحيدة عند غادامر، فهو يصرّح بأن مشروعه يتجاوز تأويل النص، في محاولة منه لاستكمال محاولات شلايرماخر وهيدغر لتأسيس تأويلية كلية، فالعالم كله والوجود كله خاضع للتأويل، ويحاول غادامر في كتابه “الحقيقة والمنهج” أن يطبق هذه التأويلية الفلسفية الكلية على عناصر ثلاثة هي: العلوم الإنسانية، الفن، واللغة أو النص والتراث.

الملامح الأساسية لتأويلية غادامر
ـ الدور الهرمنوطيقي أو الحلقة التأويلية
تعتبر مسألة الدائرة الهرمنوطيقية أو الحلقة التأويلية والنقدية من أهم المسائل التي تطرح في إطار النظريات الهرمنوطيقية المعاصرة، وقد أولاها غادامر أهمّية خاصة، إلا أنه ليس أول من تحدث عن الدائرة الهرمنوطيقية، فقد كان هذا المصطلح مستخدمًا في الدراسات الهرمنوطيقية، ونحن نجد أن شلايرماخر وهيدغر قد تحدثا عنها بالتفصيل، وقد تبعهما غادامر في ذلك، وسنعمل على بيان المراد من الدائرة الهرمنوطيقية في هذا المبحث لما لها من أهمية خاصة في هذا المجال، يقول غادامر مختصرًا هذه القاعدة والركيزة الهرمنوطيقية: «إننا يجب أن نفهم الكل بمقتضى الجزء ونفهم الجزء بمقتضى الكل».[7]

ويعتمد فهم الدور التأويلي عند غادامر على استيعاب آلية الفهم التأويلي، فالخطوة الأولى في مشروع الفهم تبدأ من حكم مسبق أو كما يسميه غادامر توقّع مسبق، والتوقّع المسبق ناشئ من أحكام مسبقة وقبلية، وهذا التوقع المسبق هو الكل، وإثبات الكل أي المعنى الإجمالي الكلي والعام لا يحصل إلا من خلال تطابق هذا المعنى مع المعنى التفصيلي الذي يحصل بعد عملية القراءة التفصيلية، وبعد القراءة التفصيلية للأجزاء يعود الكل ليتشكل من جديد على ضوء المعرفة بالأجزاء، ثم إذا عاد القارئ ليقرأ من جديد، فإن توقّعه المتبدل سوف يؤثّر على فهمه للأجزاء بشكل إيجابي، وهكذا يحصل الدور، «فتوقّع المعنى الذي يتصور فيه الكل يصبح فهمًا فعليًا عندما تعمل الأجزاء التي يحددها على تحديد هذا الكل أيضًا».[8] ومن هنا تبرز أهمية غربلة أحكامنا المسبقة التي تحدث عنها غادامر.
وبناءً عليه، فإن عدم حصول التطابق التام بين المعنى الكلي المتوقع وبين معنى الأجزاء يفرض على المؤول العودة إلى نفسه وغربلة أحكامه المسبقة التي أدت إلى هذا التوقّع الخاطئ، وبعد عملية الغربلة يأتي بتوقع كلي جديد ليواجه به النص، «وهكذا يتحرك الفهم بثبات من الكل إلى الجزء ليعود من الجزء إلى الكل(...) ومعيار الفهم الصحيح هو تناغم جميع هذه الأجزاء مع الكل، فإذا ما أخفق القارئ في هذا التناغم فهذا يعني أن الفهم قد أخفق».[9]

فالتوقع المسبق عبارة عن تحديد مسبق لسياق النص، فالكل في كلمات غادامر هو السياق، وهو يساعدنا على فهم الجمل التفصيلية (الأجزاء) وهذه الأجزاء لا يمكن معرفة المراد منها إلا من خلال تحديد السياق الذي كُتبت فيه، وهي بدورها تعود لتحدّد لنا السياق وتعمّق معرفتنا بالنص، وهكذا فإن هذه الحركة الدائرية في عملية الفهم تؤدي إلى تطوير الفهم ليشكل نتاجًا طبيعيًا لعملية الغربلة.
ويعتبر غادامر أن رؤيته للدائرة الهرمنوطيقية تمثل نقطة تحوّل حاسمة، حيث إنه قبل هيدغر، وخاصة مع شلايرماخر، كانت الدائرة الهرمنوطيقية عبارة عن إطار لشرح العلاقة الشكلية بين الجزء والكل، وهي علاقة تنتهي أو تتوقّف عند حصول الفعل الإلهامي الذي يضع فيه القارئ نفسه في عقل المؤلّف، وهنا تنتهي هذه الدائرة التأويلية[10]، ويؤكد “ج.هيو سلفرمان” على أن الدائرة التأويلية ليست دائرة مفرَغة، حيث إن الدائرة الهرمنوطيقية تكشف عن حقيقة العمل الفنّي[11].

أما مع هيدغر فإن هذه الحركة الدائرية لم تعد حركة شكلية، حيث إن فهم النص وفق دائرية هيدغر تظل تتحدد بشكل دائم “بحركة توقّعية للفهم المسبق”، وهذا الفهم المسبق كما هو واضح ناشئ من التراث، والأحكام المسبقة، وهكذا فإن الدائرة التأويلية عند هيدغر “تصف تفاعل حركة التراث وحركة المؤول”[12]، وبعبارة أخرى، فإنّ الخبرة التأويليلة بمقتضى اللغة والدائرة الهرمنوطيقية لدى كل من هيدغر وغادامر تقتضي بأن يشغل المؤول والقارئ موقع المؤلف، أو الكاتب، أو الفنان[13].

أ. الأحكام المسبقة وموقعها في فلسفة غادامر التأويلية
لم يكن غادامر أول من أشار والتفت إلى تأثير الأحكام المسبقة التي يحملها القارئ على تفسير النص، فقد كان المهتمّون بمناهج التفسير وعلومه ملتفتين إلى تأثيرها ومدخليتها في فهم النص، لكنهم كانوا ينظرون إليها كعامل سلبي يعيق عملية الفهم وتفسيره، فالأحكام المسبقة كانت تشكّل عنصرًا من عناصر سوء الفهم، والفهم الناتج عن مثل هذه الأحكام إنما هو فهم غير مشروع وبعيد عن الموضوعية، ولا يخضع للمعايير العلمية المطلوبة في فهم النص وتفسيره، ومردّ هذه النظرة هو أن علماء التفسير في عصر النهضة اعتبروا أن الأحكام المسبقة كانت السبب في تفسير الإنجيل بطريقة محدودة تتناسب مع التعاليم التي ينشرها آباء الكنيسة، وهو فهم لا يسمح بأي نوع من التطوير أو محاولة فهم النص الديني بطريقة تختلف عن الطريقة التقليدية؛ لذا كان الهمّ الأساس لدى هؤلاء المفكّرين هو الابتعاد قدر الإمكان عن مثل هذه الأحكام المسبقة، فكان المطلوب من المفسّر أن يضع ميوله ورغباته ومعلوماته السابقة جانبًا، ثم يُقْبِل على النص لتفسيره وفهمه خاليَ الذهن لينفتح على النص، محاولًا الكشف عن مراد المؤلّف دون أيّ تدخّل من قِبَله.

ولا بدّ من الإشارة إلى أن استخدام غادامر لمصطلح الأحكام المسبقة ينبغي أن لا يوهِم القارئ بأن غادامر يعتبر أن فهم النص إنّما ينطلق من نوع من المصادرة على المطلوب، حيث إن هذا ما قد يوحيه استعمال كلمة الحكم المسبق في المقام، وهو ما سيؤدي إلى سوء فهم للنص أو إلى تحميل النص ما لا يحتمله من المعاني، ولكن غادامر يرى أن الأحكام المسبقة شرط أساس بل جزء لا يتجزّأ من أي عملية تأويلية، وعنصر لا يمكن الاستغناء عنه في أيّ محاولة للفهم؛ ولذلك يحلو لغادامر أن يعبّر عن الأحكام المسبقة بـ»الشروع المسبق»، فلا يمكن الإقبال على النص بذهن خالٍ من أي حكم، فهذا محال، وكما يقول غادامر نفسه، فإن «الشخص الذي يحاول فهم نص ما هو دائمًا شخص في شروع، فهو يشرع في معنى للنص ككل حالما ينبثق معنى أولي في النص. وهذا المعنى ينبثق فقط لأن هذا الشخص يقرأ النص وهو محمَّل بتوقّعات معيّنة بخصوص معنى ما»[14]، فالحكم المسبق كما يؤكّد غادامر ليس حكمًا مبرمًا، بل هو توقّع، وهذا التوقّع قابل للتعديل أثناء عملية الفهم.

لقد وقف غادامر موقف المدافع الشرس عن الأحكام المسبقة، حيث حاول إعادة الاعتبار للأحكام المسبقة، معتبرًا أننا «لو أردنا أن نفي تناهي الوجود الإنساني وتاريخيته حقهما، فمن الضروري إعادة الاعتبار الأساسي لمفهوم الحكم المسبق والإقرار بحقيقة وجود أحكام مسبقة مشروعة»[15]، فبما أن الإنسان موجود متناهٍ يعيش في إطار زمني وبيئة تاريخية خاصة، فلا بدّ أن تكون لديه أحكام مسبقة، ولهذه الأحكام المسبقة تأثيرها دون شك على فهم المفسر والقارئ للنص، ونظرًا إلى هذا الموقع الخطير الذي تتموضع فيه الأحكام المسبقة، فإن غادامر يجعل المهمة الأساس للنشاط النقدي والتأويلي هي «التمييز بين الأحكام المضلِّلة والأخرى الموضحة»[16].
وهكذا نجد أن غادامر يفرّق بين نوعين من الأحكام المسبقة، فتوجد أحكام مسبقة صحيحة ومشروعة وهي تساعدنا في فهم النص، وتوجد أحكام مسبقة باطلة ومضلِّلة، وهي تجعل القارئ يقع في سوء الفهم، فتحجب عنه فهم النص وحقيقته؛ لذا على المفسر أن يضع نصب عينيه أن مهمته الأساسية هي أن يتنبه دائمًا إلى طبيعة أحكامه المسبقة، يقول غادامر: «كل تأويل صحيح يجب أن يحترس من الأوهام الاعتباطية والتحديدات التي يفرضها الفكر بما درج عليه من عادات غير محسوسة، ويجب أن يتفرّس في الأشياء في ذاتها»[17].

ولا بدّ من التأكيد هنا على أنه في الوقت الذي يؤكد فيه غادامر على أهمية ومحورية الأحكام المسبقة ودورها في تحقيق الفهم، فإنه يؤكد كذلك على أهمية الالتفات والوعي إلى خطورة هذه الأحكام وضرورة التأكّد من صحتها، وعدم السماح للميول والأهواء من التأثير على فهمنا للنص، وقد شدّد غادامر في أكثر من موضع في كتابه «الحقيقة والمنهج» على ضرورة أن يقوم المؤوِّل بتنقيح أحكامه المسبقة وغربلتها،، وبناء عليه فإن كل فهم إنما يتحقّق من خلال حكم مسبق وتوقّع أوليّ لمعنى ما في النص، وإن شئت فقل إن كل تفسير أو فهم إنما ينطلق من فهم كلي وعام ناشئ من توقّعات المفسر أو القارئ ومدركاته ومعارفه القبلية وتوقعه لما يحمله أو يمكن أن يحمله النص من معانٍ؛ لذا فإن أي خطأ أو خلل يحصل في هذه الأحكام والمقدمات سوف يؤدي بلا شك إلى سوء فهم للنص، ومن هنا يكون القارئ «دائمًا في شروع» على حد تعبير غادامر.

ومن هنا يدعو غادامر كل قارئ ومؤوِّل إلى عدم التسرّع في تكوين توقّعه لمعنى النص، أو في إسقاط أحكامه المسبقة على معناه، وأن لا يتسرّع في الجزم بصحّة ما فهمه منه، بل عليه أن يتأمل أحكامه وتوقعاته ليعرف الصحيح منها ويستبعد الفاسد «من المناسب ألا يقارب النص مباشرة معولًا فقط على المعاني السابقة المتاحة له، بل حري به أن يفحص بوضوح عن شرعية المعاني المسبقة الكامنة فيه أي أصلها وصحتها»[18].
وتعتبر هذه القاعدة التأويلية من أهم الأسس التي يعتمد عليها غادامر في رفضه للنسبية المطلقة في تفسير النصوص، فمن المؤكَّد عند غادامر أنه ليس كل فهم صحيحًا، بل كثيرًا ما يقع القارئ في سوء الفهم بسبب عدم فحصه وتنقيحه الدائم لأحكامه المسبقة، ومن هنا يمكن أن نسأل أنه كيف يمكننا أن نحمي النص من سوء الفهم، ويجيب غادامر عن هذا السؤال قائلًا إننا «لا نستطيع أن نتشبث بشكل أعمى بمعنانا المسبق حول شيء ما إذا أردنا أن نفهم معنى شيء آخر، وهذا بطبيعة الحال لا يعني أننا عندما نستمع لشخص ما أو نقرأ نصًا أو كتابًا ما يجب أن ننسى جميع معانينا المسبقة المتعلقة بالمضمون وجميع أفكارنا الخاصّة، فكل المطلوب منّا هو أن نظل منفتحين على المعنى الذي ينقله الشخص الآخر أو معنى الكتاب»[19].

ولا بدّ من الإشارة إلى نقطة مهمة جدًا وردت في ذيل كلام غادامر المقتبس أعلاه، فهو يشدّد على ضرورة الانفتاح على المعنى الذي ينقله إلينا النص، وهذا تأكيد منه على أن النص يحمل معنى معينًا، وعلينا أن نحاول الكشف عنه، ولا يحصل ذلك إلا بالانفتاح الدائم على النص، مرة أخرى نتلمس محاولة غادامر الدائمة والدؤوبة إلى الابتعاد عن النسبية المطلقة، والابتعاد في الآن نفسه عن الموضوعية المطلقة. وهو يخالف بذلك النزعات المتطرفة في الفكر الغربي التي دعت إلى التحرر من كل القيود وجعلت من الفهم أمرًا نسبيًا يحدده القارئ نفسه دون غيره.

ومن هنا فقد أكّد غادامر على أنه لا يصح للمؤوّل الذي يُقْبِل على النص أن يكون معاندًا بحيث يجعل حكمه المسبق وتوقّعه هو المعيار في الفهم؛ مما قد يشكّل حاجزًا ومانعًا من فهم النص بصورة صحيحة، وبحيث يكون فهمه للنص أسيرًا لهواه وتوقعاته من النص، لذا فإن غادامر يشدد على ضرورة أن يواجه المؤوِّل النص بوصفه «آخر»، فوعي المؤول بآخرية النص يجعله يُقْبِل عليه ليستكشف ما يريد النص أن يقوله، لا أنه يجعل النص يقول ما لا يريد قوله، حيث يقول: «إن الشخص الذي يحاول أن يفهم نصًا ما هو شخص يهيئ نفسه للنص كي يخبره شيئًا ما؛ وهذا هو السبب في وجوب أن يكون الوعي الموجه تأويليًا وعيًا حساسًا منذ البداية لآخرية النص»[20]، وهذا يعني أن المؤول يجب أن يتوقع أن يفهم من النص ما لا يوافق عليه، لأن النص في النهاية هو آخر يكشف لقارئه عن نفسه.

ومن هنا فإنه يمكن توجيه سؤال لغادامر مفاده أنه هل على القارئ للنص أن يكون حياديًا تجاه النص ومضمونه، بحيث يقبل على النص نفسه في نكران تام لذاته، والحال أن هذا يعني نكران الأحكام المسبقة وتوقعات القارئ التي جعلها في ما سبق بيانه محورًا في عملية الفهم؟ وبالتالي يكون كلام غادامر متهافتًا، لكن غادامر ملتفت إلى هذا الإشكال؛ ولذلك يقول دفعًا لمثل هذا التوهم في فهم كلامه بأنه لا بدّ أن يكون «الوعي الموجّه تأويليًا وعيًا حساسًا، منذ البداية، لآخرية النص، بيد أن هذا النوع من الحساسية لا يتضمن الحيادية(...) بل يتضمن منح المرء الصدارة لمعانيه المسبقة وأحكامه المسبقة وتكييفها. والشيء المهم هو أن يعي المرء انحيازه الخاص، وبذلك يستطيع النص أن يقدم نفسه من حيث آخريته وهكذا يؤكّد حقيقته الخاصة بمقابل معاني المرء المسبقة»[21]. وهذا الكلام يمثّل محاولة جادة من غادامر للتوفيق بين استناد القارئ والمؤول إلى أحكامه المسبقة في فهم النص ومنعها في الوقت نفسه من حجب المعنى؛ وذلك بأن يتنبه المؤول دائمًا إلى أن النص ذاتٌ مستقلة، وبالتالي النص يمثل بالنسبة إليه الآخر الذي يكشف عن نفسه.

أساس شرعية الأحكام المسبقة:
على الرغم من الأهمية التي أولاها غادامر للأحكام المسبقة، إلا أنه يؤكّد على ضرورة أن يقوم المؤول بعملية تقويم لأحكامه المسبقة بشكل مستمر، فالعلاقة بين فهم النص وبين الأحكام المسبقة هي أشبه ما تكون بالعلاقة الجدلية المستمرة، فكل منهما يرفد الآخر ويعين على تحقيق الهدف، فالأحكام المسبقة شرط وعنصر أساس في فهم النص، وفهم النص من جهة أخرى يفرض على المؤول تعديل أحكامه المسبقة أو تأكيدها أو الإعراض عنها.

ب. صهر الآفاق
يؤكد غادامر على أن لكل شخص أفقه الخاص به، وذلك لأنه يعيش في بيئة تاريخية وثقافية وعلمية خاصة، وكلّما كان أفق القارئ أوسع كان فهمه للنص أعمق وأفضل، ويعرّف غادامر الأفق بأنه: «مدى الرؤية الذي يشتمل على كل شيء يمكن رؤيته من نقطة معينة»[22].

وإذا طبّقنا هذا التعريف على الإنسان بما هو ذات مفكّرة، فسوف نستطيع أن نتحدث عن إنسان ذي أفق ضيّق وآخر ذي أفق واسع، وعلى المؤوِّل أو القارئ أن يتمتع بأفق واسع جدًا حتى يستطيع تقدير الأمور وإعطاءها حقها من الأهمية، ولا يستطيع ذو الأفق الضيق أن يكون مؤوِّلًا ناجحًا؛ ذلك أن الإنسان الذي يفتقر إلى الأفق حسب قول غادامر «لن يرى أبعد من أرنبة أنفه، ومن ثم فهو يضخّم قيمة الأشياء القريبة منه. ومن الجهة الأخرى إن المرء الذي ينطوي على أفق يعني أنه لن يتحدد بما هو قريب منه إنما يكون قادرًا على ما يتجاوزه، فهو يعرف الأهمية النسبية لكل شيء يقع ضمن أفقه، أبعيدًا كان أم قريبًا، كبيرًا كان أم صغيرًا، وعلى المنوال ذاته يعني تحقيق الموقف التأويلي اكتساب الأفق المناسب للبحث في التساؤلات التي تثيرها مواجهة التراث»[23]. وبناءً عليه، فإن من لا يمتلك الأفق المناسب، فإنه لن يكون بمقدوره أن يقدّر التراث الذي يواجهه بالطريقة المناسبة، وبالتالي فإن قراءته لهذا التراث ستكون قاصرة، ولا تعبّر عن حقيقة الشي وأهميته الواقعية؛ ذلك أنه يضخم قيمة الأشياء التي يعرفها أو التي يراها صحيحة، بينما يقلّل من قيمة الأشياء البعيدة عنه، أو التي لا يعرف عنها إلا القليل، أما من يمتلك أفقًا مناسبًا، فإنه سيكون قادرًا على تحديد القيمة أو الأهمية الحقيقية للأشياء.

وهكذا فإن غادامر يتحدّث مرة أخرى عن الخبرات التي ينبغي على المؤوِّل أن يكتسبها، فكما ذكرنا في النقطة السابقة حول الأحكام المسبقة وضرورة تنقيحها باستمرار، كذلك الأمر بالنسبة إلى أفق القارئ، فإن على القارئ والمفسّر أو المؤوِّل حسب تعريف غادامر أن يعمل على إعادة تشكيل أفقه من خلال اختبار الأحكام المسبقة، وهنا ينبغي توضيح كيفية تحقق الفهم من خلال ما يعبر عنه غادامر بـ «انصهار الآفاق»، حيث يعتبر غادامر أن المؤلف له أفق خاص، وكذلك القارئ، وأفق القارئ أفق متحرّك، بمعنى أنه يتم تشكيله باستمرار؛ لأنه خاضع لخبراته التاريخية والعلمية السابقة، فكلما تواجه القارئ مع أفق تاريخي ما أو تراث ما من الماضي، فإن هذا يعني إعادة تعديل وتشكيل للأفق الخاص بالقارئ، وبالتالي هناك «آفاق تاريخية يجب اكتسابها، والفهم هو دائمًا انصهار تلك الآفاق التي يفترض أنها موجودة بذاتها»[24]. ولا يحصل الفهم إلا من خلال هذا الانصهار بين أفق القارئ وأفق النص.

ولكن السؤال المهم في هذا المجال هو أنه كيف يتحقق صهر الآفاق؟ ومتى يكون القارئ قادرًا على تحقيق ذلك، يقول غادامر إن انصهار الآفاق لا يتم إلا من خلال توصّل القارئ إلى القدرة على نقل نفسه من أفق الحاضر إلى أفق الكاتب، وينبغي أن نؤكد أنه ليس مراد غادامر هو أن يتخلى القارئ والمفسّر عن أفقه التاريخي والعلمي، بل المراد هو أن يكون القارئ قادرًا على أن ينقل نفسه من أفق الحاضر إلى أفق الكاتب، وأن يضع نفسه مكانه، ولا يحصل ذلك إلا إذا كان لدينا نحن أنفسنا ذلك الأفق الذي يمنحنا القدرة على فعل ذلك، يقول غادامر: «يتوجّب أن يكون لدينا دائمًا أفق كيما نستطيع أن ننقل أنفسنا إلى حالة ما. ولكن ماذا نعني بنقل أنفسنا؟ لا يعني بالتأكيد تجاهل أنفسنا، وهذا ضروري، بالطبع، بقدر ما يتعين علينا تخيل الحالة الأخرى، ولكن يتعيّن علينا بالضبط أن نحمل أنفسنا إلى داخل هذه الحالة الأخرى، وهذا هو فقط المعنى التام لنقل أنفسنا، فإذا وضعنا أنفسنا في محل شخص آخر حينذاك نستطيع فهمه(...) من خلال وضع أنفسنا في موضعه. ونقل أنفسنا لا يتمثل في تقمّص فرد شخصًا آخر عاطفيًا، ولا في إخضاع شخص آخر لمعاييري، إنما هو يتضمن الارتقاء إلى شمولية أعلى لا تتجاوز طبيعتنا الجزئية فقط، بل طبيعة الآخر الجزئية أيضًا، إذ ينمّ مفهوم الأفق نفسه لأنه يعبر عن سعة الرؤية العظمى التي ينبغي على الفرد الذي يريد أن يفهم أن يتمتع بها»[25].

ومن هنا يتّضح أن شخصية المؤول إنما هي شخصية غير عادية؛ حيث إنه ينبغي أن يتمتع بمواهب خاصّة يستطيع من خلالها أن يفهم الآخر، وليست عملية نقل أنفسنا إلى موضع الكاتب أمرًا سهلًا، بل هي أمر حساس للغاية؛ حيث إنه في كثير من الأحيان تكون هذه العملية واقعة تحت تأثير القارئ وقبلياته التي تشكّل توقّعه للمعنى المراد، وهذا ما يؤدي إلى سوء الفهم، خاصة أنه كثيرًا ما يكون تأثير هذه القبليات خارج سلطة الوعي، لذلك نجد أن غادامر يدعو إلى ضرورة الاحتراس والانتباه من «تهّور مساءلة الماضي بتوقّعاتنا للمعنى»[26]، ذلك أن توقّعاتنا للمعنى تفرض نفسها على طبيعة الأسئلة التي نسائل فيها التراث، ولهذا تأثير كبير على فهم النص، لذلك دعا غادامر إلى الاحتراس والانتباه من هذا الجانب.

ويبدو غادامر حاسمًا من هذه الجهة، حيث يؤكد أن الفهم لا يمكن أن يحصل إلا من خلال نقل أنفسنا إلى داخل الأفق التاريخي للنص، فإذا فشلنا في تحقيق ذلك، وأخفقنا في نقل أنفسنا إلى أفق أوسع من أفقنا ومن أفق النص بحيث نصل إلى مرحلة تنصهر فيها هذه الآفاق المتنوعة، فإننا سوف نسيء فهم دلالة ما يريده النص، يقول غادامر: «وإلى هذا الحد يبدو هذا المطلب مطلبًا تأويليًا مشروعًا، أي أننا يجب أن نضع أنفسنا في الموقف الآخر كيما نفهم»[27]. ولكن لا بدّ من التأكيد على أن أفق القارئ لا يكون أفقًا ثابتًا أو جامدًا، بل إن هذا الأفق في حالة تغير وتبدل وتعديل دائمة، بل إنه كما يقول غادامر في حالة «تشكّل مستمر»[28]، حيث إن فهم النص يعني تشكّل أفق جديد، وتشكل هذا الأفق الجديد ينصهر مع الأفق التاريخي للنص أيضًا، وهكذا تكون العلاقة الجدلية بين الفهم وتشكُّل الآفاق وانصهارها قائمة بشكل واضح وجلي.

وهنا لا بدّ من التأكيد على ضرورة فهم نظريّة غادامر بوضوح هنا، فليس مراده أننا إذا أردنا أن نحاول فهم نص من النصوص فلا بدّ أن ننقله إلى عالمنا وظروفنا الراهنة، فهذا يخالف ما نقلناه عن غادامر أعلاه، فما يقوله غادامر هو على العكس تمامًا وهذا يعبّر عن سوء فهم لما يريده غادامر من انصهار الآفاق، فغادامر يصرّح بضرورة أن ننقل أنفسنا نحن إلى الأفق التاريخي للنص وأن نضع أنفسنا موضعه في حالة تفاعلية.
ويؤكّد غادامر على أن المهمّة الأساسية للمؤول هي مهمّة إيقاظ معنى النص، لكن لا بمعنى إعادة بنائه بالطريقة التي خرج فيها إلى حيز الوجود، بل محاولة فهم النص نفسه بغض النظر عن كيفية وجوده التاريخي، وبذلك يكون غادامر قد أكسب المؤول دورًا مهمًا في إيقاظ المعنى، حيث يقول إن هذا يعني أن الأفق الخاص بالمؤوِّل سيكون له دور حاسم ومهم؛ لأن هذا الأفق هو «رأي وإمكانية يكسبها المرء حيوية ويضعها موضع الاختبار؛ وذلك يعينه حقيقة على تكوين رأيه الخاص فيما يقوله النص، وقد وصفت هذا الأمر في أعلاه بأنه صهر الآفاق».[29]

ج. الحوار وفهم النص في تأويلية غادامر
يشبّه غادامر عملية فهم النص بالحوار أو المحادثة، فإن القارئ عندما يضع نفسه إزاء النص محاولًا فهمه، فإنه يقيم نوعًا من الحوار المتبادل مع النص، فالقارئ يطرح أسئلة والنص يجيب، وهذا الحوار وحده الذي يحقق الفهم، وينبغي لهذا الحوار أن يصل إلى مرحلة يبلغ القارئ من خلاله هدفه المنشود، وهو فهم حقيقة النص، أي حقيقة الطرف الآخر، والحوار الفعّال يؤدي إلى الكشف عن الكثير من الأسرار والمعاني التي قد يحملها النص، ومن الصعب أن يكشف عنها إلا من خلال هذا الحوار التبادلي الفعّال. وقد يعبّر غادامر في كثير من الأحيان عن الحوار بالمحادثة، حيث يقول في إطار تعريف المحادثة وبيان دورها: «إن المحادثة هي عملية لبلوغ فهم ما، وبهذه الطريقة هي تنتمي لكل محادثة حقيقية ينفتح فيها كل طرف على الآخر ويقبل حقًا بوجهة نظره كوجهة نظر صحيحة ويحوّل نفسه إلى الآخر إلى المدى الذي لا يفهم فيه فردية هذا الآخر الخاصّة بل ما يقوله، وما يجب أن يدرك هو جوهر صحة رأيه»[30]. وبطبيعة الحال، فإننا إذا كنّا نريد أن نفهم الآخرين بطريقة صحيحة، فإن علينا أن ننفتح على ما يقولونه؛ وترقّى غادامر في هذا الانفتاح إلى حدوده القصوى، بحيث يضع القارئ نفسه موضع الكاتب ويحوّل نفسه إليه، على أن يفهم الآخر على آخريته، وهكذا فقط نصل إلى مرحلة يتحقق فيها الانصهار الحقيقي للآفاق، ويحاول غادامر أن يثبت ذلك من خلال تجربة الترجمة، حيث إنّ المترجم يقوم وفق رأي غادامر بعمل تأويلي وليس بإعادة إنتاج المعنى الأصلي[31].

ولا بدّ من الإشارة إلى أن بنية الحوار عند غادامر قائمة على أساس السؤال، وكل نص أو خطاب يحمل معنى ما، فإنه لا بدّ أن يكون منطلقًا من سؤال ما «فالخطاب الذي يُقصد منه كشف شيء يتطلّب أن يكون ذلك الشيء قد فتحه السؤال»[32]، فطبيعة الحوار إنما تقوم على مبدأ السؤال والجواب، وتكمن أهمية السؤال في أنه يحدد إطار الجواب. كما أن طرح السؤال ليس أمرًا بسيطًا متيسرًا لكل أحد، فإن طرح السؤال الحقيقي العميق هو أصعب من إعطاء الجواب، ولا يقبل غادامر من المؤوِّل أن يكون سؤاله عائمًا، وهذا طبيعي، فإن السؤال يحدد إطار الجواب، فلا بدّ أن يكون السؤال عميقًا ليكون الجواب عميقًا مثله.

ويعتبر غادامر أن كل سؤال خاطئ ناتج عن أحكام مسبقة زائفة، وهنا مرة أخرى يعود غادامر إلى الحديث عن ضرورة أن يتمتع المؤول بقدرات خاصّة تتيح له أن يعمل بشكل دائم على غربلة أحكامه المسبقة وتنقيحها وفحصها، وذلك ليكون السؤال الذي نواجه به النص صحيحًا، يفسح المجال أمام النص ليظهر ذاته ودلالاته. وعندما يسأل أحدنا سؤالًا للنص، فإن السؤال يحمل في طياته نوعًا من التوقع للمعنى، وهذا التوقع ناتج عن تلك الأحكام التي نحملها، فإن كانت صحيحة كانت وسيلة مساعدة على فهم النص من خلال الانفتاح على النص عبر السؤال. يقول غادامر: «إن السؤال يتضمن تأسيسًا صريحًا للافتراضات المسبقة التي بمقتضاها يمكن أن نرى ما يظل مفتوحًا. لهذا يسأل السؤال بشكل صحيح أو بشكل خاطئ طبقًا لبلوغه الانفتاح الحقيقي، أو فشله في بلوغه، فنحن نقول إن سؤالًا سئل بنحو خاطئ عندما لا يبلغ حالة الانفتاح، إنما يحول دون ذلك بسبب احتفاظه بافتراضات مسبقة زائفة، فهو يتظاهر بالانفتاح، ويدّعي قدرة على اتخاذ قرارات لا يمتلكها في الحقيقة»[33].

ولا بدّ من التأكيد على أن المحادثة والحوار هو العنصر الأهم الذي يوصلنا إلى الهدف المنشود الذي يريده غادامر ألا وهو (صهر الآفاق)، وهي النقطة التي يحصل فيها الفهم، فالفهم لا يحصل من خلال إعادة بناء المعنى أو الأسلوب الذي خرج فيه النص المراد تأويله أو فهمه إلى الوجود، وهو ما يعبّر عنه غادامر بإعادة إنتاج المعنى الأصلي، فالفهم ليس هو «المطابقة»، بل إن الفهم لا ينفك عن تأثير المؤول، فليس الهدف من الفهم القائم على الحوار هو الوصول إلى أفق المؤلف أو النص، بل الفهم هو عبارة عن التقاء الآفاق المختلفة وانصهارها، بحيث تكون واحدة لا يمكن تفكيكها. وهذا يعني بالتأكيد أن «أفكار المؤوِّل الخاصّة تشترك أيضًا في إعادة إيقاظ معنى النص، وبذا يكون أفق المؤوِّل حاسمًا، مع أنه ليس كوجهة النظر الشخصية(...)، بل هو أكثر من ذلك، إنه رأي وإمكانية يُكسِبها المرء حيوية ويضعها موضع الاختبار، وذلك ما يعينه حقيقة على تكوين رأيه الخاص فيما يقوله النص، وقد وصفت هذا الأمر بأنه صهر الآفاق»[34].

وبكلمة أخرى، فإن أفق المؤول ليس عبارة عن رأي شخصي يسقطه المؤول والقارئ على النص، بحيث يكون أسيرًا له في فهم النص، بل هو فرصة واستعداد للوصول إلى المعنى من خلال عملية الاختبار المستمرة التي يمارسها المؤول على أحكامه المسبقة التي تشكّل بدورها أفق القارئ أو المؤول الذي يلعب الدور الأساس في فهم النص.

د. عنصر المسافة الزمنية ودلالات الفهم
يقول غادامر إن نظريات الفهم الكلاسيكية كانت تعتبر المسافة الزمانية عنصرًا هامشيًا في عملية التفسير وفهم النص، بل كان الزمان عبارة عن هوّة تفصل بين القارئ وبين المؤلف، وبالتالي بينه وبين النص، ما يشكّل عائقًا يمنعه من الوصول إلى فهم عميق للنص، وقد كانت التأويلية الكلاسيكية تعتبر أنه لكي يحصل الفهم لا بدّ من العمل على ردم هذه الهوّة[35].
وقد تحول عنصر الزمن في فلسفة غادامر إلى شرط أساس من شروط تحقق الفهم، ويعزو غادامر إعادة الاعتبار إلى عنصر المسافة الزمانية ودوره في عملية التأويل إلى أستاذه هيدغر، حيث «لم يعد الزمان فجوة فاصلة يجب جسْرُها»، إنما هو في الواقع الأساس الذي يدعم مجرى الأحداث التي يمدّ فيها الحاضر جذوره، لهذا فالمسافة الزمنية ليست شيئًا يجب التغلّب عليه».[36] ويعتبر غادامر أن هذا النمط من التفكير ناشئ من الاعتقاد الخاطئ بضرورة أن ننتقل إلى روح العصر ونفكر حسب أفكاره لا بحسب أفكارنا، فهذا الأسلوب في فهم النص التاريخي يستبطن الاعتقاد بأن المسافة الزمنية التي تفصل القارئ عن النص تمثل عقبة كأداء تمنعه من فهم النص، وتمثل تحديًا أمام إعادة فهمه بشكل موضوعي، إلا أن غادامر يرى أن المسافة الزمنية ليست مجرد هوة فاصلة، بل إن المسافة الزمنية تحمل في طيّاتها اتّصالًا وثيقًا بين القارئ وبين النص، حيث تحمل في ثناياه ما يسمّيه غادامر باستمرارية العادة والتقاليد، وبالتالي فإننا نستعين بهذه الأمور في فهم التراث الذي يُقدِّم نفسه إلينا، فبعد أن كان همّ التأويلية الكلاسيكية التغلّب أو التخلّص قدر الإمكان من تأثير المدّة الزمنية على فهم النص، أصبح همُّ التأويليّة الفلسفية مع غادامر هو كيفية الاستفادة من هذه المسافة الزمنية في التوصل إلى معرفة أفق النص وأفق الكاتب، وهما عنصران محوريان من عناصر الفهم والتفسير.

لقد كان الاعتقاد السائد في التأويلية الكلاسيكية هو أن علينا أن ننقل أنفسنا إلى عصر النص كي نستطيع أن نفكر كما يفكّر المؤلف لا كما نفكر نحن في عصرنا، وهذا باعتقادهم كان السبيل الوحيد إلى الموضوعية في الفهم، لكن غادامر يعتقد في المقابل أن المسافة الزمنية شرط في عملية التفسير؛ لأنها تعبر عن «الاستمرارية» ومن خلالها فقط نستطيع أن نتعرف على أفق الكاتب والظروف التاريخية والعلمية التي كتب فيها النص، فهي العنصر الذي نستطيع من خلاله أن نتوصّل إلى حقيقة مراد الكاتب، ولولاها لوقعنا ضحية الانقطاع والانفصال الكامل بين القارئ وبين المؤلف، وبالتالي فإن «المعرفة الموضوعية يمكن تحقيقها فقط إذا كانت هناك مسافة تاريخية معينة»[37].
ولبيان دور المسافة الزمانية في تأويلية غادامر يمكننا أن نشرح ذلك بعبارة أخرى، فإن مهمة كل قارئ أو مفسّر أو مؤول هو الوصول إلى فهم النص، وهذا الفهم - كما هو واضح – يحتاج إلى وسيط لغوي، فإننا نستمدّ فهمنا للنص من خلال اللغة المستخدَمة في النص، لكن السؤال المطروح هنا هو أنه هل المراد من اللغة المستخدمة هو نفسه ما نفهمه نحن، أم أن لهذه الكلمات معناها الخاص بزمان المؤلِّف وظروفه التاريخية؟! يقول غادامر إننا لا شك ينبغي أن نستمدّ فهمنا للنص من «الاستخدام اللغوي السائد في زمان النص أو من زمان اللغة التي يستخدمها المؤلِّف»[38]، لكن كيف يمكن أن نعرف تلك اللغة وندرك دلالاتها، أو نتيقّن أن دلالة اللّفظ هي نفسها؟ يعتبر غادامر إن ذلك غير ممكن إلا من خلال المسافة الزمنية التي تسمح للقارئ بالانتقال من عصره الخاص إلى عصر المؤلِّف، لكن قد يقال إن الخطأ وارد هنا بسبب إمكانية وقوع القارئ تحت تأثير فرضيّاته المسبقة، وبالتالي فإننا بدل أن نصل إلى الفهم نصل إلى سوء الفهم!!.

يكمن حل هذه المشكلة في رأي غادامر في التأكيد الدائم على غربلة أحكامنا المسبقة، واستبعاد مصادر الخطأ، حيث إن «جميع الأشياء التي تحجب المعنى الحقيقي تتم غربلتها، وبالمقابل تنبثق على الدوام مصادر جديدة للفهم تكشف عن عناصر المعنى التي لا يطولها الشك، إن المسافة الزمانية التي تقوم بعملية الغربلة ليست ساكنة، إنما هي نفسها تخضع للحركة والتوسع الدائمين»[39]، وهذا ما يجعل فهمنا قابلًا للتطور بشكل دائم، لذلك كان «اكتشاف المعنى الحقيقي لنص ما أو لعمل فني ما لا ينتهي مطلقًا فهو في الواقع عملية لا متناهية»[40]. ويمكن القول إن هذا الكلام يفتح الباب أمام نوع من النسبية المعتدلة في فهم النص، وسنرجع إلى هذه النقطة لاحقًا.

هـ . أهمية السؤال في فهم النص:
ذكرنا في ما سبق تأكيد غادامر على ضرورة الحفاظ على آخرية النص، أي النظر إليه على أنه آخر، وهذا يعني ضرورة الانفتاح عليه لفهمه والسماح له بأنه يبرِز لنا ذاته، ولكن هذا الانفتاح لا يتم من تلقاء النص نفسه، بل إن المؤوِّل نفسه هو الذي يملك مفاتيح هذا الانفتاح، وهذا المفتاح إن صح التعبير هو السؤال، أو ما يسميه غادامر أسبقية السؤال التأويلية، حيث إنّ «طرح سؤال يعني استدراج شيء ما إلى الانفتاح»[41]، ويقول في موضع آخر إن «النص التاريخي الذي يصير موضوعًا للتأويل يعني أنه يطرح على المؤوِّل سؤالًا؛ لهذا يتضمّن التأويل دائمًا علاقة بالسؤال الذي طرح على المؤول. ويعمّي فهمُ النص فهمَ هذا السؤال»[42]، وفي مورد ثالث يقول: «إن العلاقة الوثيقة بين المساءلة والفهم هي التي تمنح التجربة التأويلية بعدها الحقيقي»[43].

ومن هنا فإن غادامر يستفيد من هذا التأسيس الذي يربط عملية الفهم بالسؤال ليؤكّد على تحرّر النص أو فهم النص من الجمود؛ لأن الاختلاف في نوع الأسئلة المطروحة على النص يبعث على إنتاج النص لإجابات مختلفة، وهذا يعني فتح آفاق النص، حيث إن «الأسئلة تظهر دائمًا الإمكانيات المحددة التي ينطوي عليها شيء ما... وهذا هو السبب من وراء كون الفهم هو دائمًا شيء أكثر من مجرد إعادة خلق معنى شخص آخر»[44]. فالأسئلة التي يطرحها المؤول على النص تفتح المجال أمام فهم ممكنات المعنى، ومن الواضح أن السؤال يرتبط في الواقع بالخلفيات المسبقة أو بالتوقعات التي يحملها السائل والمؤول، فهو لا يأتي إلى النص فارغ اليدين من أي توقع، بل يواجه النص دائمًا محملًا بتوقّعات وأسئلة يطرحها على النص؛ وبذلك يستدرجه لكي يكشف عن ذاته، وهذا يرتبط ارتباطًا وثيقًا بما تحدثنا عنه في بداية هذا البحث فيما يرتبط بمكانة الأحكام المسبقة في الفهم، كما يرتبط ارتباطًا وثيقًا بما ذكرناه تحت عنوان انصهار الآفاق.
ومن الواضح أن ما ذكره غادامر في ما يرتبط بالعلاقة المستمرة بين السؤال والفهم يعني الالتزام بأن الفهم سيكون مختلفًا باختلاف السؤال الذي يعبّر عن أفق المؤول الذي يتجدد باستمرار في تقابله مع النص.

التطبيق:
المقصود من التطبيق في المقام هو أن القارئ عندما يفهم النص فإنه إنما يفسره بحيث يكون هو جزءًا من هذا النص، وبالتالي لا يمكن القول إن النص يكون منفصلًا عن المؤول، ويقودنا هذا النمط من الفهم إلى اعتبار النص حيًا دائمًا؛ ولذلك يقول غادامر: «كل قراءة تتضمن تطبيقًا؛ لذلك فإن الشخص الذي يقرأ نصًا ما هو نفسه جزء من المعنى الذي يفهمه، فهو ينتمي إلى النص الذي يقرأه.... بل يتعين عليه أن يقبل حقيقة أن الأجيال القادمة سوف تفهم النص بخلاف ما قرأه هو فيه»[45].
ويوضح غادامر أن التطبيق لا يعني أن نفهم شيئًا بوصفًا عامًا وكليًا ونطبّقه على مصاديق معاصرة، بحيث يكون التطبيق مجرد إجراء للكلي على أفراده الجزئية، فهذا الفهم للتطبيق مخالف لما يريده غادامر، باعتبار أنه يرى أن التطبيق عبارة عن فهم النص بذاته الذي يكون فيه القارئ جزءًا من المعنى، وليس التطبيق فهم معنى كلي مغاير للنص. وبعبارة أخرى نستفيدها من نص غادامر الذي يقول: «إن فهم النص يعني دائمًا أن نطبقه على أنفسنا وأن نعرف أنه ما زال – حتى لو توجب أن يفهم دائمًا بطريقة مختلفة- هو النص نفسه يقدم نفسه لنا بهذه الطرق المختلفة»[46]. وينبغي في المقام أن ندفع ما قد يتوهّمه القارئ هنا من أن هذا يؤدي إلى النسبية المطلقة، إذا ينكر غادامر النسبية المطلقة، ويعتبر أن الذي يدفع هذه النسبية هو تقييده للفهم بكونه فهمًا لغويًا قبل كل شيء، وبالتالي يبقى محددًا ضمن إطار لغوي لا يمكن الخروج منه، فالاختلاف يكون اختلافًا محدودًا في الفهم ولا يكون انفتاحًا مطلقًا بلا حدّ ولا قيد[47].

قصد المؤلف:
إن المتأمل في آراء غادامر المختلفة في ما يرتبط بالتأويل والفهم يدرك بنحو من الوضوح أن غادامر يركّز انتباهه على النص وعلى دور المؤول في فهمه، وقد أشرنا غير مرّة إلى هذا الجانب في العناصر التأويلية عند غادامر في مواضع مختلفة من هذه المقالة. ومن هنا فإننا نودّ أن نشير إلى أمر في غاية الأهمية، وهو أن غادامر لا يعير هذا القدر من الأهمية لقصد المؤلف، وخاصة في ما يرتبط بالنص المكتوب، باعتبار أن النص المكتوب يعيش بحسب تعبير غادامر حالة من الاغتراب عن مؤلفه؛ لأنه يفتقد الكثير من التعابير والقرائن التي تعين القارئ عن فهم مراده؛ ولذلك يعتبر غادامر أن جعل قصد المؤلف هو الهدف من عملية الفهم مجردًا عن أي شيء آخر في نحو من المثالية غير المبرَّرة، حيث يقول: «النصوص لا تتوسل فهمها كتعبير حيّ عن ذاتية كتّابها؛ وعندئذٍ لا يمكن لهذا أن يضع حدودًا لمعنى نص ما، وعلى أي حال فإنه ليس قصر معنى نص ما على أفكار المؤلّف الفعلية هو وحده ما يكون موضع مساءلة، فحتى لو يحاول المرء تحديد معنى نص ما موضوعيًا(...) فلا يعدو أن يقوم بتحديد عرضي»[48]. وهذا يعني أنه لا يمكن تحديد أفق فهم النص بالمعنى الذي قصده المؤلف، لأن غادامر يرى أن «ما يثبَّت كتابةً يفصل نفسه عن عرضية أصله وعن مؤلفه ويجعل نفسه منفتحًا على علاقات جديدة، وتمثّل المفاهيم المعيارية من مثل معنى المؤلف أو فهم القارئ الأصلي في الواقع مجرد مكان فارغ يُملأ بالفهم بين الفينة والفينة»[49].

لكن الجدير بالذكر أنه لا ينبغي أن يفهم أن غادامر يعتقد أن النص يتحرّر من سلطة مؤلِّفه تحررًا كاملًا، وهو ما يشار إليه بمقولة موت المؤلف، بل إن جلّ ما ينكره غادامر هو أن النص لا يتحدّد أفقه بالمعنى الذي يقصده المؤلف، باعتبار أن المؤوِّل عندما يفهم النص إنما يعيد إيقاظ المعنى في النص الذي يتحدث عن نفسه ويتشارك في هذه العملية التأويلية كل من المؤول المحمّل بجملة من الأحكام المسبقة والتساؤلات والتوقعات، مضافًا إلى النص وما يبرزه، ولا ينكر دور المؤلف في هذا المجال باعتبار أن المؤول عليه كما صرّح غادامر أن ينظر إلى النص من منظار المؤلف وبلُغته ويعيش ظروفه التي كتب فيها النص، وهذه العملية المتعددة العناصر هي ما أسماه بانصهار الآفاق، لذلك فإن تحديد النص بمقصود المؤلف غير ممكن بحسب غادامر.

الهرمنوطيقا الغادامرية بين الموضوعية والنسبية
إن أهم ما يميز تأويلية غادامر موقفه المتميز من النزعة الموضوعية والنزعة النسبية في فهم النص وتفسيره، ففي الوقت الذي يرفض فيه النسبية المطلقة التي تطلق العنان لفوضى التفسيرات المتعددة والمختلفة، فإنه يرفض كذلك نزعة الموضوعية المطلقة، ويؤكد على أننا ينبغي أن لا ندّعي أن فهمنا للنص هو الفهم الصحيح دون غيره، ما يجعل عملية الفهم مقيدة ولا يسمح بالتطوير ويوقعنا في التحجر، وعندها يبقى الإنسان يراوح مكانه في إطار فهمه للتراث. ويشير الدكتور سعيد توفيق إلى أن الهرمنوطيقا الغادامرية ترفض «النسبية المطلقة بمعنى تساوي الآراء من حيث القيمة، وكذلك ترفض الموضوعية المطلقة»[50]، لكن رفض غادامر للموضوعية المطلقة لا يعني أنه يلغي أي إمكانية للوصول إلى فهم النص وفهم مراد المؤلف.

إن منشأ رفض غادامر للموضوعية المطلقة يكمن في الدور المحوري للأحكام المسبقة في فلسفته التأويلية، ومن ناحية أخرى فإن رفض غادامر للنسبية المطلقة منشؤه نظرة غادامر إلى عملية فهم النص بشكل عام، باعتبارها نظرًا نحو الشيء نفسه، متأثرًا في ذلك بنظريّة هوسرل الذي حاول في فلسفته الظاهراتية أن يؤسس الموضوعية على قاعدة أن الشيء يظهر لنا نفسه. كما كان لهيدغر التأثير الكبير على غادامر في هذه النقطة بالذات، حيث يؤكد غادامر – متأثرًا بهيدغر – على أهمية النظر إلى الأشياء نفسها في عملية الفهم، فممارسة عملية الفهم تحتاج إلى معيار ثابت نوعًا ما يحدد مسارها ووجهتها خوفًا من وقوع القارئ في فوضى التفسيرات المتناقضة التي لا يكون لها معيار يوقفها عند حدّها، فكان المعيار هو النظر إلى الشيء نفسه، يقول غادامر «ينبغي لكل تأويل حقيقي أن يحترز اعتباطية الأفكار التوهيمية التي تلوح في الخاطر ابتداءً من الحدود المنحدرة من بعض العادات اللاواعية للتفكير، فبات من الواضح أنه لكي نكون صادقين ينبغي أن تكون رؤية الاستقصاء موجهة نحو الشيء نفسه»[51]. ويؤكّد غادامر على أن الفهم ليس عملية بلا ضوابط، حيث يحكم عملية الفهم والتأويل معيار أساس، وهو أن المؤول على كل حال يحاول «فهم ما يقوله النص»[52]، وبالتالي هذا المعيار يمنع من التفاسير الاعتباطية التي تكون بعيدة عن ما يقوله النص ويظهره لنا، فالمهمة الحقيقية لعملية التأويل «هي أن نستمدّ فهمنا للنص من الاستخدام اللغوي السائد في زمن النص أو من اللغة التي يستخدمها المؤلّف»[53]، وبالتالي يمكن الجزم بأن غادامر لا يناصر ما يعرف بموت المؤلِّف، ولا يرى أن النص بعد كتابته يصبح حرًا طليقًا ويمكن للقارئ أن يفهمه بعيدًا عن ما أراد المؤلّف إظهاره وإبرازه لنا من خلال النص، وإن كانت الكتابة تجعل النص المكتوب يعيش حالة اغتراب عن كاتبه، بخلاف الحال في النص الشفوي، وهذا ما نلحظه بوضوح لما يحمله النص الشفوي من قرائن حالية وظرفيه تعين على الفهم بشكل أكبر.
ويستطيع القارئ والمؤوِّل أن يعرف أنه قد وقع في خطأ في فهم النص، وأن ما فهمه ليس مجرد فهم مختلف، بل فهم خاطئ، وذلك عندما يجد أن النص «يكبح جماحنا فجأة، فالنص إما أن لا يقدّم معنى على الإطلاق، أو أن معناه لا ينسجم مع ما توقّعناه، وهذا هو ما يوقفنا فجأة وينبّهنا إلى اختلاف ممكن في الاستخدام»[54].

في المقابل نجد أنه في الوقت الذي يؤكد فيه غادامر على أهمية النظر إلى الشيء نفسه تراه يركّز على الدور المحوري والأساس للأحكام المسبقة في عملية التفسير، وتأثير هذه الأحكام يفتح الباب واسعًا أمام نوع من النسبية في فهم النص، وبالتالي فإن عملية فهم النص وتفسيره إنما تقوم على دعامتين أساسيتين هما النص بما هو هو، والمفسر بما يحمله من أحكام وتصورات وتوقّعات مسبقة على قراءته للنص، ومن هنا نستطيع أن نفهم العلاقة الجدلية القائمة بين النص والقارئ أو المفسر، ما يؤدي إلى فهم موضوعي مشوب بنوع من النسبية، وهذا ما يؤكده الدكتور سعيد توفيق حيث يقول: «التفسير الحواري كما فهمه غادامر يتميز بالإنتاجية المخلصة للنص الأصلي المراد تفسيره، فالانصياع للنص والثقة فيه هما المفهومان الموجهان لما يمكن تسميته بأخلاق الهرمنوطيقا الجادامرية»[55]. فهذا تأكيد على الجانب الموضوعي في تفسير النص الذي حرص غادامر على الحفاظ عليه خوفًا من الوقوع في الفوضى المطلقة والنسبية التي لا حدود لها، وهي نسبية هدّامة وتدميرية لا تطاق.

ومن جهة أخرى، فإننا نجد أن غادامر يؤكد على الدور الذي يلعبه المفسر في عملية الفهم، ذلك أن دور المفسر ليس دورًا سلبيًا بحيث يكون مجرد مرآة تعكس المعنى الذي يحمله النص، وبالتالي فإن دور المفسر ليس إعادة إنتاج للنص، لكنه «لا يوصف في الوقت نفسه بأنه إبداعي، فغادامر يتحاشى استخدام كلمة إبداعي وإبداعية؛ لأنهما تغاليان في إضفاء سلطة المفسر أو نص التفسير على النص الأصلي»[56]، وهذا كلام دقيق باعتبار أنّ غادامر يصر على استخدام مصطلح إيقاظ المعنى وليس إعادة إنتاجه وخلقه من جديد.

ويمكن أن نتلمس هذه المحاولات لاختيار موقف وسطي بين الموضوعية والنسبية المطلقتين من خلال كتابه “فلسفة التأويل” حيث يشير إلى أن الموقف التأويلي غالبًا ما يكون متأثرًا بالتراث، وبالأحكام المسبقة التي تأتي من خارج النص، إلا أن هذا ينبغي مواجهته بدقة عالية وبمنتهى الحذر، فتأويلية غادامر لا تسمح للقارئ بالانجرار وراء جميع أحكامنا المسبقة، وينبغي أن لا نتركها تتحكم بفهمنا للنص، وفي الوقت نفسه ليس المطلوب مواجهة هذه الأحكام وقمعها «فليس من الضروري ولا المبتغى أن نضع أنفسنا بين قوسين، فالموقف التأويلي لا يفترض سوى الوعي الذي بتمييزه لاعتقاداتنا وأحكامنا المسبقة، فإنه يصفها كما هي وينزع عنها طابعها المتطرف وبتحقيق هذا الموقف نمنح النص إمكانية ظهوره مختلفًا والكشف عن حقيقته الخالصة ضد الأفكار التي نتصورها مسبقًا ونواجهه بها».[57]
وهكذا فإن الاختلاف في تفسير نص قد يرجع في كثير من الأحيان إلى تنوع أحكامنا المسبقة واختلافها؛ لذا فإنه يمكن «للقراءات أن تتصارع؛ لأن المؤوِّلين الذين يحملون افتراضات متضادة عن اللغة والأدب والحياة تصدر عنهم فرضيات لا سبيل إلى التوفيق بينها عن معنى نصٍّ ما، ومكانة الاعتقاد في تشكيل الفهم تجعل من عدم الاتفاق أمرًا لا مناص منه في التأويل، لكن جودة هذه الاعتقادات في التطبيق لا تتساوى»[58]، حيث إنه لا لبس أن بعض التأويلات تكون خاطئة.

دراسة نقدية تحليلية
إن من أهم الأمور التي ينبغي الالتفات إليها في تأويلية غادامر هي أن محورها ليس النص الأدبي فقط، بل إن النص بشكل عام هو جزء من المشروع التأويلي العام الذي يشمل الوجود بأكمله. ولعلّ هذا كان المحور الأساس لللنقد الذي وجهه الشيخ أحمد واعظي في كتابه نظريّة تفسير النص، باعتبار أن غادامر ينظر إلى فهم النص تمامًا كما نفهم أي شيء حولنا، فكما أننا نفهم الجدار كذلك فإننا نفهم النص، فالفهم في رؤية غادامر لا يرتبط باللغة فقط، وبعبارة أخرى الفهم مقولة ومفهوم واحد يسري على النص وعلى غيره من الأشياء التي نفهمها من حولنا، فكما أننا نرتبط بالأشياء من حلونا انطلاقًا من احتياجاتنا كذلك الأمر في اللغة، ولكن الحال أننا في اللغة تتمايز عن باقي الأشياء، ويبرر الشيخ واعظي فردانية اللغة وتميزها بقوله: «معاني الألفاظ في اللغة الطبيعية موجودة ومتاحة لكل أبناء تلك اللغة والعارفين بها بنحو عام مشترك، بغض النظر عن الفوارق بين الأشخاص من حيث سماتهم ومميزاتهم الفردية، ومن حيث عوالمهم الذهنية».[59]

يؤكد غادامر - خلافًا لما هو سائد في المناهج التفسيرية التقليدية - على أهمية الأحكام المسبقة في فهم النص، داعيًا إلى ضرورة غربلة الأحكام المسبقة كي لا نقع في سوء الفهم. من جهة أخرى يدعو غادامر إلى أن ينقل القارئ والمفسر نفسه إلى أفق النص بحيث يجتمع أفق النص مع أفق القارئ وهكذا تتحقق عملية صهر الآفاق وهي الطريق الوحيد لحصول الفهم.

وقد أثارت تأويلية غادامر مجموعة من الإشكالات منها ما ذكره الدكتور علي قائمي نيا حيث يقول: «في الهرمنوطيقا الفلسفية عناصر تتمخض عن نتائج متناقضة، فهو من جهة يعتبر الفهم متأثرًا بالتراث، ويرى الفهم الفارغ من قبليات التراث متعذرًا، ومن جهة أخرى يؤس العلاقة بين النص والمتلقّي على أنموذج الحوار (...) ألا يفضي هذا الحوار إلى التحرر من قبليات التراث»[60].
ويمكن القول إنه لا تناقض بين عنصر الحوار في فهم النص وبين تأثر الفهم بالتراث، فصحيح أن غادامر يعتبر أن فهم النص يبدأ من خلال السؤال إلا أن هذا السؤال أو المحادثة والحوار مع النص إنما ينطلق من التراث حسب رأي غادامر، فليس السؤال ناشئًا من إبداعات القارئ منفصلًا عن التراث والأحكام المسبقة، بل إنما ينشأ السؤال وينمو في بيئة التراث وفي ظل الأحكام المسبقة، بل إن غادامر نفسه يؤكد سلطة التراث باعتبارها ناشئة من سلطة المعرفة[61].
ولا بدّ من التركيز على مسألة في غاية الأهمية، وهي أن غادامر لا ينظر إلى التراث على أنه أمر قاصر لا يمكن التخلص منه، بل يعتبر أنه شرط أساس من شروط الفهم.

ومن الإشكالات التي يوجهها الدكتور علي قائمي نيا إلى تأويلية غادامر الفلسفية عدم قدرة غادامر على فرز الفهم الصحيح عن الفهم غير الصحيح، فليس ثمّة معيار واضح يمكن من خلاله تحديد الفهم الصحيح في تأويلية غادامر، ويشير الدكتور قائمي نيا في هذا المجال إلى المعيار الذي يضعه غادامر للوصول إلى الفهم السليم، وهو أن القارئ يعيش نوعًا من الانسجام الداخلي يتوكّأ عليه القارئ حتى يصل إلى حقيقة النص، وهذا المعيار كما يقول قائمي نيا لا يستطيع أن يحمي القارئ من القبليات والأحكام غير القويمة[62].
ويمكن تقسيم هذا الإشكال إلى قسمين؛ القسم الأول يتعلق بعدم القدرة على حماية القارئ من الأحكام غير السليمة، وهذا الإشكال يجيب عليه غادامر بأن القارئ مدعو دائمًا إلى تنقيح أحكامه المسبقة وفرز الصحيح منها من الفاسد، أي على القارئ أن يراجع أجكامه المسبقة دائمًا كي لا يقع في سوء الفهم، ولكن مع ذلك يمكن القول إن الإشكال الذي ذكره الدكتور قائمي يبقى صامدًا في المقام، باعتبار أن غادامر وإن كان يدعو إلى التفحص الدائم للقبليات وفرز الصحيح والقيم منها، ولكنه لا يضع لذلك معايير واضحة، وبعبارة أخرى يبقى المعيار الذي ذكره غادامر نظريًا من جهة وغير محكم من جهة وضع الضوابط والمحددات من جهة أخرى.

أما بالنسبة إلى الشق الثاني من الإشكال المتعلق بالضابطة الحدسية أو التكهنية في الوصول إلى حقيقة مراد المتكلم، فإن إشكال الدكتور قائمي نيا في محله، فلا يمكن جعل الحدس والتكهّن ضابطة واضحة للفهم، وقد عبّر عنها غادامر بأننا نعرف أننا قد أخطأنا فهم النص عندما يكبح جماحنا فجأة[63]، ومن الواضح أن هذا المعيار ليس معيارًا يمكن الركون إليه بوضوح.

وينبغي أن نؤكد على أن تأويلية غادامر لا تبرر الاختلاف الكلي بين القراءات، وجلّ ما تتوصّل إليه هو أن الفهم قابل دائمًا للتعديل وللكشف عن المزيد من أعماق النص ومعانيه، وذلك بسبب التعديل في الأحكام المسبقة التي يمتلكها القارئ، كما تتعلق بقدرة القارئ على فهم بيئة الكاتب أو بقدرته على وضع نفسه مكان الكاتب على حدّ تعبير غادامر.
ولكننا نرى في المقام أن غادامر قد بالغ في إعطاء دور للقارئ في فهم النص، وأهمل قصد المؤلف تقريبًا، حيث إنه على الرغم من عدم تحريره للنص من قصدية المؤلف بشكل مطلق، إلا أنه جعل دور المؤلف دورًا هامشيًا نوعًا ما في عملية فهم النص، وهذا ما نراه عيبًا في نظريته في فهم النص، فقد كان حريًا بغادامر أن يجعل الغرض من فهم النص هو فهم مقصود كاتبه، وإلا فإنّ هذا يعد خيانة لجهد المؤلف وغرضه من إبراز أفكاره عن طريق الكتابة، فغرض المؤلف وهدفه من كتابة هذا النص هو إبراز مقاصده، فلا يحق للقارئ أيًّا كان أن يحرف النص إلى مقاصد أخرى، ونعتبر هذا بديهيًا في المقام. نعم، لا شكّ في أن هذه المهمة يصعب تحقيقها بشكل كامل متطابق مع قصد المؤلف تمامًا في كثير من النصوص بسبب ما ذكره غادامر من صعوبات أو من عناصر تتداخل مع النص في عملية الفهم. ولكن على كل حال كان يجدر بغادامر أن يكون أكثر وفاءً لصاحب النص.

ومن هنا فإننا نرى أن الخطأ الذي وقع فيه غادامر هو تعميمه لنظريته في تجدد الفهم وعدم إمكان تحديده بكل النصوص إلا تلك النصوص المغلقة التي اعتبرها نادرة في المقام، والحال أنه كان يجدر به عدم تعميم هذه النظريّة إلى هذا المدى في مجمل النصوص، فكثير من النصوص لا تسمح بسبب وضوحها بهذا التجدد الذي أشار إليها غادامر.

الفهم بين علم أصول الفقه وتأويلية غادامر
لا شكّ أن علم أصول الفقه من العلم التي تهتم بوضع الضوابط والمحددات المنهجية لتحقيق فهم النص الشرعي، وبالتال فإننا نرى أن ثمّة مساحة مشتركة ينبغي أن نتوقف عندها لدراسة ما انتهى إليه غادامر من نظريات في فهم النص انطلاقًا من رؤية أصولية، حيث إننا نرى أن المقاربة الأصولية للنتائج التي توصل إليها غادامر تحتاج إلى نوع من التأمل في المنطلقات العلمية التي يستند إليها علم الأصول في دراسته للضوابط والمعايير في حصول الفهم، وبالنظرة الأولية قد يقال إنه من الناحية الأصولية لا يمكن قبول النتائج التي توصل إليها غادامر، وخاصة في ما يرتبط بفتح آفاق النص أمام معان مختلفة؛ لأن هذا يعني انهيار منظومة الفهم التي يرتكز إليها الفقيه في عملية الاستنباط، وإلا ينفتح الباب أمام استنباطات متعددة لا ترتكز إلى أمر ثابت.

ولكننا نقول في المقام إن هذا المقاربة ستكون مجحفة أو غير متكافئة إن صح التعبير، باعتبار أن الأصولي إنما يسعى إلى إثبات ما يسمّى بالحجية، أي التعذير والتنجيز، بينما يبتغي غادامر البحث حول فهم النص بغض النظر عن الحجية، ومن الطبيعي بنحو الإجمال أن يكون الفهم نسبيًا أو مختلفًا، وخاصة أن غادامر يعترض على اعتبار أن ثمة فهمًا أفضل من فهم آخر.
وما ذكرناه يحتاج إلى بعض الشرح والبيان، ومن هنا نقول إنّ الدراسات الأصولية في ما يرتبط بفهم النص أو الدليل الشرعي تقسمُ الدّلالة في الدليل الشرعي إلى ثلاثة أنواع: النص والظاهر والمجمل؛ أمّا النص فلا شك في لزوم العمل به، ولا نحتاج إلى التعبد بحجيته كما يقول الشّهيد الصدر[64]، وأما المجمل فهو الذي يكون معناه مرددًا بين أمرين أو أكثر بنحو متكافئ، ولا يكون المجمل حجة إلا في الجامع بين محتملاته[65]، وبالتالي فهذان القسمان خارجان عن محل البحث عمومًا. وقد استخدم غادامر مصطلح النص المغلق في إشارته إلى ما سماه الأصوليون بالنص، وذكر أنه نادر الحدوث.
فلا يبقى أمامنا إلا ما سماه الأصوليون بالظهور، وهو الغالب في النصوص والمحاورات سواء أكانت شرعية أم عرفية، والظاهر في كلمات الأصوليين هو ما يكون قابلًا لأحد مدلولين، ولكن واحدًا منهما هو الظاهر عرفًا، ويذهب الأصوليون إلى أن الاستناد إلى المعنى الظاهر حجة، ولكن هذا لا يعني الإقرار والجزم بكون هذا المعنى مطابقًا للواقع المقصود، لكن الفقيه في عملية الاستنباط يهمل المعنى الثاني المحتمل ويتكئ على المعنى المظنون في فهمه للدليل استنادًا إلى ما ثبت في علم الأصول من أن المعنى الظاهر حجة، وإن كان ذلك لا ينفي بنحو جازم مطابقة هذا الفهم الظاهر للواقع.

ولكن ما ورد في الدراسات الأصولية لا يلتقي مع الدراسات التي أجراها غادامر في فلسفته التأويلية للنص، باعتبار أن غادامر لا يسعى إلى الحجية، بل يسعى إلى فهم النص بذاته، وبغض النظر عن صحة ما توصل إليه غادامر في رؤيته للفهم، ولكن ينبغي التأكيد على أنه لا يصح محاكمة غادامر انطلاقًا من النتائج التي وصل إليها الأصوليون؛ لأن الغاية مختلفة تمامًا. وبعبارة أخرى إن محل النزاع ليس شيئًا واحدًا.

الضوابط الأصولية في عملية الفهم
على الرغم من ما ذكرناه من الاختلاف في محل النزاع بين الجهد الأصولي المبذول والذي يرمي إلى تحصيل الحجية وبين جهود غادامر الرامية إلى فهم الواقع، إلّا أن هذا لا يعني أننا ننفي وجود مساحة مشتركة في المقام، فعلم أصول الفقه شيّد مجموعة من الأسس اللغوية الضرورية في عملية الفهم، ويمكن لهذه القواعد أن تشكّل معطيات ضرورية لتحقيق الفهم، ونحن نرى أنها يمكن أن توصلنا إلى نتيجة أفضل مما توصّل إليه غادامر، وخاصة لجهة أن علم أصول الفقه يوفر معايير وضوابط واضحة لفهم النص، ومن هنا فإن ما طُرح في علم الأصول يمثّل بديلًا أكثر ضبطًا وتحديدًا لجهة وضع الضوابط الأساسية التي تمنع من سوء الفهم وتحدّ من غلواء النسبية والتيه أمام النص وتفسيره، وبحيث لا يكون القارئ مطلق العنان في فرض رؤيته وأحكامه المسبقة على النص. ويمكن اختصار هذه الضوابط العامة في النقاط الأساسية الآتية:

الظهور اللغوي العرفي: يعتقد أن الأصوليون أن الظهور العرفي اللغوي البعيد عن التكلف في فهم النص يمثل المعيار الأساس في تحقيق فهم مراد المتكلّم، ويقول الشّهيد الصدر في هذا المجال: «دلالة اللّفظ على المعنى الحقيقي يقصد بها الدّلالة القائمة على أساس الوضع والعلاقة اللغوية التي هي الأساس في فهم المعاني من الألفاظ بشكل عام»[66]، وعلى الرغم من أن الأصوليين يعتبرون أن الظهور حجة بمعنى كونه معذّرًا ومنجّزًا على المستوى الشرعي، ولكن يمكن مع ذلك التمسك بهذه الضابطة اللغوية بعيدًا عن الجانب الشرعي، وذلك بالنظر إلى أن الدليل الأساس الذي يعتمد عليه الأصوليون في إثبات الحجية أن العمل بالظهور اللغوي هو سلوك عقلائي يتجاوز حدود الزمان والمكان، كما يتجاوز حدود الدين ويغلق الباب أمام ظاهرة التفلّت من قيود النص في تحقيق عملية الفهم، ولا يمكن لأي نظريّة ترمي إلى دراسة الفهم أن تتجاوز الظهور العرفي اللغوي، لأنه تجاوزه يعني مواجهة السير العقلائي العام، ونتيجة هذه المواجهة لا تخلو من احتمالين لا ثالث لهما، الأول إثبات قاعدة الظهور العرفي في مقام المحاورة وهذا يعني التسليم بهذه القاعدة الأصولية التي تقوّض من غلواء نسبية الفهم وضياع المعنى؛ والاحتمال الثاني هو إنكار الظهور بوصفة ضابطة في عملية الفهم، وهذا يعني الوقوع في وحول التيه وضياع المعنى، وبالتالي تكون جميع محاوراتنا العرفية التي تمثّل أساس التعامل في ما بين العقلاء بلا ضابطة في الفهم، وهذا ما يمكن اللجوء إليه. ويشير الشّهيد الصدر إلى هذا الجانب بقوله: «لا ينبغي الإشكال أيضًا في أن قضية العمل بالظهور على وفق الطبع العقلائي، بل هذا أوضح طباعهم وجوانب سلوكهم العام»[67].

ومن هنا فقد تعرّض الأصوليون لمطلب مهم جدًا، وهو موضوع أصالة الظهور، ويُجمع الأصوليون على أن موضوع أصالة الظهور هو : «التوصّل إلى إثبات المراد الجدي للمتكلّم»[68]، وأما كيف يتم التوصّل إلى إثبات مراد المتكلم، فهذا درسه الأصوليون في بيانهم لأنواع الدلالات والظهورات اللّفظية، حيث يشير الأصوليون إلى ثلاثة دلالات، وهي الدّلالة التصورية، والدّلالة التصديقية الاستعمالية، والدّلالة التصديقية الجدية، والدّلالة التصورية؛ يقول الشّهيد الصدر في بيانه لهذه الدلالات ومعانيها: «الدّلالة التصورية: وهي الصورة التي تنتقش من سماع اللّفظ في الذهن[...]، الدّلالة التصديقية الاستعمالية وهي الدّلالة على إرادة المتكلم وقصده لإخطار المعنى في الذهن[...]، الدّلالة التصديقية الجدية، وهي الدّلالة على أن المتكلم ليس هازلًا، بل مريد جدًا للمعنى حكاية وإنشاء»[69].

وتجدر الإشارة إلى أن التوصل إلى إثبات مراد المتكلم إنما يعتمد على الدّلالة التصورية، أي من معرفتنا بدلالات الألفاظ من حيث وضعها اللغوي، ومن خلالها يمكن أن نتوصل إلى فهم مراد المتكلم، فالأصل قائم على أن الدّلالة التصديقية الجدية الكاشفة عن مراد المتكلم متطابقة تمامًا مع المدلول التصوري، إلا إذا نصب المتكلم قرينة على إرادة خلاف ذلك، وهذا يضع ضابطة ومعيارًا واضحًا في تحقيق عملية الفهم.
ولا بدّ من التأكيد على أن كون الدّلالة التصورية هي المدخل إلى معرفة مراد المتكلم لا يعني أن المعيار هو حمل اللّفظ على المعنى الموضوع له في اللغة، بل موضوع الظهور هو مجموع الكلام الصادر من المتكلّم مع الأخذ بعين الاعتبار كل ما له دخل في تحديد المراد من قرائن لفظية أو غير لفظية في المقام. وبالتالي يكون الوضع اللغوي عنصرًا من العناصر الأساسية في تحقيق ما هو المراد، ولكنه ليس العنصر الوحيد.

الظهور الذاتي والظهور الموضوعي: ذكر الشّهيد محمد باقر الصدر أن الأصوليين أغفلوا البحث في هذه النقطة، ولكنها جديرة بالبحث والتحقيق، ونجد في المقام أنها توفر ضابطة مهمة في تحقيق فهم النص والمعنى، وهو معيار يمنع من النسبية المطلقة التي وقع فيها غادامر ولم يتمكّن من الخروج من بوطقتها على الرغم من تصريحه بأنه لا يوافق على النسبية المطلقة في الفهم، كما سبق أن أشرنا، لكنه في الواقع لم يستطع تقديم عنصر يمنع من الوقوع في النسبية، ولم يضع معيارًا واضحًا لمنع ذلك، ولكن الشّهيد الصدر تقدّم خطوة مهمة في هذا الجانب من خلال التأكيد على أن المعيار والموضوع في أصالة الظهور هو الظهور الموضوعي وليس الظهور الذاتي، ويقول: «والمراد بالظهور الذاتي الظهور الشخصي الذي ينسبق إلى ذهن كلّ شخص شخص، وبالظهور الموضوعي الظهور النوعيّ الذي يشترك في فهمه أبناء العرف والمحاورة الذين تمّت عرفيتهم، وهما قد يختلفان لأنَّ الشخص قد يتأثر بظروفه وملابساته وسنخ ثقافته أو مهنته أو غير ذلك، فيحصل في ذهنه أنس مخصوص بمعنى مخصوص لا يفهمه العرف العام عن اللّفظ»[70].
ومن هنا يعلم أنَّ «الظهور الذاتي الشخصي نسبي مقام ثبوته عين مقام إثباته؛ ولهذا قد يختلف من شخص إلى آخر، وأمَّا الظهور الموضوعي فهو حقيقة مطلقة ثابتة مقام ثبوته غير مقام إثباته لأنَّه عبارة عن ظهور اللّفظ المشترك عند أهل العرف وأبناء اللغة بموجب القوانين الثابتة عندهم للمحاورة وهي قوانين ثابتة متعيّنة»[71]. وكلام الشّهيد الصدر في هذه النقطة مهم جدًا، فهو يبين أن الظهور الذي يكون عرضة للتبدّل والتأثّر بالأحكام الشخصية المسبقة أو الأحكام الذاتية يكون نسبيًا، ولكنه لا يعتدّ به في مقام الفهم والمحاورة، بل الذي يعتدّ به هو الظهور الموضوعي الذي يمثّل الأساس المتين في تحقق الفهم، ويمنع بدوره التدخل الشخصي في بيان مراد المتكلم، ويكتسب قوته من كونه موضوعيًا لا يحتكم للآراء الشخصية.

ويرى الشّهيد الصدر أن الذي يؤدي إلى مثل هذا الفهم النسبي والذاتي إنما يرجع إلى أحد أمرين؛ الأول: عدم استيعاب السامع لقوانين اللغة وعدم إدراكه للوضع اللغوي وقوانينه، والثاني: تأثره بآراء شخصية لا علاقة للمتكلم بها، والحال أن المتكلّم إنما ينطلق في بيان مراده من متابعة العرف اللغوي العام.

وهذا البحث جدير بالتأمل والاهتمام، باعتبار أنه يمثّل النقطة المحورية في نظريّة الفهم، والتي تمنع التداخل بين الفهم الذاتي النسبي والفهم الموضوعي الذي يكشف عن مراد المتكلم، ومن هنا فإنه لا بدّ من بيان كيفية تحقيق هذا الفهم الموضوعي بعيدًا عن التداخلات التي قد تحصل للسامع بين الظهور الموضوعي والظهور الذاتي الذي قد يؤدي في بعض حالات عدم التطابق بين الظهور الذاتي والظهور الموضوعي إلى حالة من سوء الفهم؛ ولم يكتف الشّهيد الصدر في هذا المقام ببيان موضوع أصالة الظهور، بل تجاوز ذلك إلى مدًى أرحب وأهم، وهو بيان كيفية تحصيل الفهم الموضوعي، وبعبارة أخرى كيف يمكن للسامع أن يحرز أن ما فهمه من المتكلم هو الظهور الموضوعي دون الذاتي، يقول الشّهيد الصدر إنه يمكن إحراز ذلك «وجدانًا وبالتحليل، وذلك بملاحظة ما ينسبق من اللّفظ إلى الذهن من قِبَل أشخاص متعددين مختلفين في ظروفهم الشخصية بنحو يطمئن بحساب الاحتمالات أنَّ انسباق ذلك المعنى الواحد من اللّفظ عند جميعهم إنَّما كان بنكتة مشتركة هي قوانين المحاورة العامة لا لقرائن شخصية؛ لأنَّ هذا خلف اختلافهم في الملابسات الشخصية»[72].
وبالتالي فإن هذا يفتح الباب أمام البحث في مسألة دراسة النصوص القديمة وكيفية تحديد الظهور فيها، وخاصة أن ثمة مسافة زمنية تفصلنا عن تلك النصوص، وقد أشرنا إلى معالجة غادامر لمسألة المسافة الزمنية، ولكنه لم يضع معيارًا واضحًا لضبط الفهم فيها، ولكن الشّهيد الصدر يؤكّد على أن الظهور الموضوعي الحجة هو : «المعاصر لزمن صدور الكلام أو لزمان وصوله إِلينا فيما إذا فرض اختلاف الزمانين؟ كما في النصوص الشرعية بالنسبة إِلينا، فإنَّ الأوضاع اللغوية، بل وحتى الظهورات السياقية التركيبية قد تتغير وتتطوّر بمرور الزمان وإِنْ كان ذلك بطيئًا جدًّا؛ لأنَّ اللغة وما يرتبط بها ظاهرة اجتماعية، فتكون متأثّرة بطرائق الحياة الاجتماعية المتغيّرة لا محالة»[73] ويشير الشّهيد الصدر إلى الدليل على ذلك، فيقول إن ذلك إنّما يرجع إلى أصل الدليل على أصالة الظهور، باعتبار استنادها إلى النكتة العقلائية، ومفادها في المقام أن المتكلم هو الذي يتحكّم في المراد، في إشارة واضحة إلى مركزية المتكلّم أو المؤلِّف في الفهم وإيصال المعنى، وأن مهمة القارئ هي محاولة الكشف عن مراده بالأدوات الموضوعية دون غيرها.

والجدير بالذكر أن الشّهيد الصدر يلفت النظر إلى نكتة عقلائية مهمة في المقام، وهي نكتة تكشف عن عمق المباحث الأصولية ودقّتها في هذا المجال، حيث يرى الشّهيد الصدر أننا يمكن أن نفهم النصوص القديمة وأن المسافة الزمنية لا تقف عائقًا أمام فهمنا، باعتبار أن عمر اللغة ليس كعمر الإنسان، ونموها بطيء بحيث يمكن لنا أن نستفيد من الأدوات اللغوية اليوم في فهم النصوص القديمة والتاريخية والتراثية، يقول الشّهيد الصدر في بيان ذلك: «ونكتة هذه السيرة وملاكها بحسب الحقيقة ندرة وقوع النقل والتغيير وبطئه، بحيث إنَّ كلّ إنسان عرفي بحسب خبرته غالبًا لا يرى تغييرًا محسوسًا في اللغة ، لأنَّ عمر اللغة أطول من عمر كلّ فرد ، فأدّى ذلك إلى أنَّ كلّ فرد يرى أنَّ التغير حادثة على خلاف الطبع والعادة»[74].

مناسبات الحكم والموضوع: من جهة أخرى فإننا قد نجد توافقًا أو تشابهًا في بعض ما عرضه غادامر من عناصر في فلسفته التأويلية مع ما ورد في الدراسات الأصولية، ومنها ما ذكره غادامر حول عامل التوقع، ونعتقد أن هذا الأمر صحيح في الجملة، فالقارئ يحمل توقّعًا ما من النص، وهذا يؤثر على طريقة فهمه، وقد أشار الأصوليون إلى هذا الجانب في فهم الدليل الشرعي تحت عنوان مناسبات الحكم والموضوع، فقد يعمم الفقيه الحكم أو يخصصه انطلاقًا من فهمه للنص استنادًا إلى «مناسبات ومناطات مرتكزة في الذهن العرفي، بسببها ينسبق إلى ذهن الإنسان عند سماع الدليل التخصيصُ تارة والتعميم أخرى، وهذه الانسباقات حجة؛ لأنها تشكل ظهورًا للدليل، وكل ظهور حجة وفقًا لقاعدة حجية الظهور»[75]. وهذا قريب جدًا من ما ذكره غادامر في ما يرتبط بعامل التوقّع، ولكن الفارق الأساس أن الأصوليين يضعون ضابطة لهذا التوقع، فليست هذه الانسباقات متاحة بالشكل الذي يطرحه غادامر، بل إنما يمكن العمل بهذه الانسباقات عندما يكون له مدخلية في تشكّل الظهور اللغوي واللّفظي للكلمة، وبالتالي لا يكون كل انسباق من هذا القبيل متاحًا في فهم النص.

ومضافًا إلى ما ذكرناه قدّم الأصوليون مجموعة من التطبيقات التي حاولوا من خلالها استكشاف مدلول جملة من الدلالات اللّفظية، وهي مباحث معمّقة وتتضمّن مجموعة من التفاصيل الدقيقة، ومنها دلالة الأمر، والنهي، ومباحث العموم والإطلاق، والمباحث المرتبطة بالمفاهيم، مثل مفهوم الجملة الشرطية أو الوصفية وغيرها، وهي تطبيقات تقدّم للفقيه الأساس الذي يمكّنه من فهم النص المتضمّن لدلالات من هذا القبيل.
ومضافًا إلى ما ذكرناه يبرز نوع من التوافق والانسجام بين بعض ما طرحه غادامر وبين ما عرضه الشّهيد الصدر من منهج في تفسير القرآن الكريم، حيث صرّح أن تفسير القرآن ليس مجرد تفسير لغوي، باعتبار أن المنهج الصحيح في تفسير القرآن إنما يعتمد على الحوار وطرح الأسئلة المشبعة بخلفيات السائل وعلومه؛ ولذلك فإن معاني القرآن لا تنفد، ويقول إن منهج التفسير الموضوعي للقرآن الكريم: «يبدأ بالواقع الخارجي بحصيلة التجربة البشرية يتزود بكل ما وصلت إلى يده من حصيلة هذه التجربة ومن أفكارها ومن مضامينها، ثم يعود إلى القرآن ليحكم القرآن الكريم ويستنطق القرآن الكريم»[76]. ومن الواضح أن هذا قريب مما ذكره غادامر في أن القارئ ليس قارئًا سلبيًا، بل هو يحمل معه خلفيات وأحكامًا مسبقة تؤثر على فهمه للنص، الذي يبرز ذاته من خلال الحوار مع النص كما سبق بيانه.

ولكن يجدر بنا التأكيد هنا على أن القارئ وإن كان يمكنه الاستفادة من طرح الأسئلة لاستنطاق القرآن أو النص الشرعي بشكل عام، ولكن لا يصح أن يخرج ذلك عن حدود الظهور العرفي، ومن هنا ينكشف لنا أن الظهور العرفي يمثّل ضابطة أساسية في فهم النص تمنع من التيه والضياع في متاهات النسبية وسوء الفهم.

وأخيرًا فإننا نرى أنه كان على غادامر أن يميز بين النصوص الشرعية وبين النصوص الأخرى باعتبار أن النصوص الدينية تحكمها ضوابط مختلفة مرتبطة بطبيعة المتكلم، وهو الشارع الأقدس، وهذا يقيد فهمنا بجملة من القيود العقلية والشرعية في الفهم، ولكن غادامر لم يلفت النظر إلى هذا الجانب بالشكل المطلوب، ولعل ذلك بسبب طبيعة الوحي المختلفة المرتكزة في الذهنية المسيحية.

الخاتمة
لا شكّ في أن غادامر قد بذل جهدًا كبيرًا في سبيل تشييد أسس مشروعه الكبير المتمثّل ببناء فلسفة تأويلية عامة، ومن الواضح أن ما تم التركيز عليه في مقالتنا هذه هو الجوانب المرتبطة بالفلسفة التأويلية للنص واللغة، ويمكن أن نختصر في المقام الملامح الأساسية للتأويلية عند غادامر في النقاط الآتية:
ركّز غادامر على دور الأحكام المسبقة في تشكّل الفهم، مع التأكيد على أن هذه الأحكام تتبدل وتتغير تبعًا للفهم نفسه، وبالتالي تصبح العلاقة تفاعلية وتبادلية، وهو ما سماه غادامر بالحركة الدائرية، أو بالدائرة الهرمنيوطيقية.
التركيز على مشروعية الأحكام المسبقة وصحّتها والدعوة إلى تصحيحها باستمرار؛ لأنها تشكّل الأساس في صحة الفهم، ومن هنا فإن على القارئ أن يتمتع بأفق واسع يمنحه القدرة على فهم النص بشكل أعمق.
يمثّل فهم النص عند غادامر حالة من الحوار المتبادل بين القارئ وبين النص؛ لذا فإن النص يمنح القارئ مستوى من الفهم بالمقدار الذي يطرح فيه القارئ أسئلته على النص، وكلّما كان القارئ أكثر دقة، وكلّما كان أُفُقُه واسعًا تمكّن من فهم النص بشكل أفضل وأعمق.

يتم النظر إلى المسافة الزمنية الفاصلة بين القارئ وبين النص بوصفه عنصرًا من العناصر السلبية التي تعيق توصّل القارئ إلى فهم النص بشكل واضح، إلا أن غادامر يعتبر أن الزمن لا يمثّل فجوة كما هو الشائع، بل إنما يمثّل جسرًا يتيح للقارئ أن يصل إلى فهم النص، فلولا الزمن لما تمكّن المؤلِّف من فهم النص؛ لأنهّ يمدّ الحاضرَ بجذور تمكّنه من استكشاف الماضي عبر النص.
دعا غادامر القارئ إلى بذل كل جهد ممكن من أجل أن يعيش القارئ أفق الكاتب وثقافته ليتمكّن من الوصول إلى فهم أدقّ.
لا يمكن بحسب رؤية غادامر حصر فهم النص بقصد المؤلِّف، لا بمعنى أن النص يتحرّر كلّيًا من مؤلِّفه، بل إنّ ما ينكره غادامر هو تحديد أفق النص بأفق الكاتب، وبالتالي لا ينبغي غض النظر عن أفق القارئ أو تهميشه، لأن القارئ عنصر أساس في عملية الفهم.

لا شكّ في أن رؤى غادامر التأويلية لا تخلو من إشكالات، وقد خصّصنا جزءًا من مقالتنا لعرض هذه الإشكالات، والتي يمكن تلخيصها بالآتي:
تمخّضت الفلسفة الهرمنيوطيقة الغادامرية عن نتائج متناقضة، وخاصة في بيان العلاقة بين التراث وبين الأحكام المسبقة، فدور الأحكام المسبقة مهم للغاية ولكن منطق الحوار الذي طرحه غادامر يؤدي إلى تحرّر القارئ من قبليات التراث.
تحوّل دور المؤلف إلى دور هامشي في فهم النص، وبات الدور المحوري في تشكّل الفهم مرتبطًا بالقارئ، وكان حريًا بغادامر أن يؤكد على دور المؤلف وقصديته في تشكّل الفهم.
لم يضع غادامر معايير واضحة للتخلّص من الأحكام المسبقة الباطلة، وتحوّلت دعوته إلى دور هامشي في فهم النص.
لم يميز غادامر بين النصوص التي تحتمل التجدد في الفهم وبين النصوص التي لا تحتمل مثل هذا التجدّد أو التغير.

أخيرًا، أشرنا في هذه المقالة في هذه المقالة إلى أهمية الآليات والضوابط التي وضعها الأصوليون في تحقيق الفهم الموضوعي للنص بعيدًا عن الذاتية والنسبية في الفهم، مؤكّدين على أهمية الاعتماد على الآليات والضوابط التي وضعها الأصوليون في تحقيق الفهم الموضوعي للنص بعيدًا عن الذاتية والنسبية، مؤكّدين على أهمية التفريق بين الهدف الأصولي الذي يتمثّل بالحجية، وبين الهدف التأويلي المتمثّل في الوصول إلى الحقيقة والواقع بغض النظر عن الحجية، وهذا مهم جدًا في قراءتنا لأي نظرية تأويلية، حيث يشكل الظهور اللغوي المستند إلى الأدوات اللغوية المعتمدة والفهم العرفي للنص مدخلًا أساسيًا لتشكّل الفهم، ورادعًا من جهة أخرى عن الوقوع في فخ النسبية المطلقة في الفهم، بحيث لا يكون كل فهم متاحًا أمام القارئ.

المصادر
آرمسترونغ، بول، القراءات المتصارعة، ترجمة فلاح رحيم، ليبيا، ‏دار الكتاب الجديد، ط1، 2009م.
توفيق، سعيد، في ماهية الفلسفة وفلسفة التأويل، بيروت، ‏المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط1، 1423هـ/ 2002م.
سلفرمان، ج.هيو، نصيات بين الهرمنوطيقا والتفكيكية، ترجمة: حسن ناظم، وعلي حاكم صالح، بيروت، ‏المركز الثقافي العربي، ط1، 2002م.
الصدر، محمد باقر، دروس في علم الأصول، بيروت، دار التعارف، ط3، ‏2014م/1435هـ.
ـــــــــــــــــــ، المدرسة القرآنية، قم، دار الكتاب الإسلامي، ط2، ‏2013م.
غادامر، هانس جورج، الحقيقة والمنهج، ترجمة محمد شوقي الزين، الدار العربية للعلوم، منشورات الاختلاف، المركز الثقافي العربي، ط2، 1427هـ/ 2006م.
ــــــــــــــ، فلسفة التأويل، ترجمة وتقديم محمد شوقي الزين، بيروت، ‏المركز الثقافي العربي والدار العربية للعلوم ومنشورات الاختلاف، ط1، 2006م.
واعظي، أحمد، نظريّة تفسير النص، ترجمة: حيدر نجف، بيروت، ‏مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، ط1، 2021.
الهاشمي، محمود، بحوث في علم الأصول، تقريرات دروس البحث الخارج الشّهيد السّيّد محمد باقر الصدر، قم، مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي، ط3، ‏1417هـ/1997.

---------------------------------------------------
[1]. أستاذ في الحوزة العلمية، بيروت-لبنان.
[2]. غادامر، الحقيقة والمنهج، 570.
[3]. م. ن، 506.
[4]. م. ن، 600.
[5]. م. ن، 515.
[6]. راجع، غادامر، الحقيقة والمنهج، 516.
[7]. م. ن، 399.
[8]. م. ن.
[9] . غادامر، الحقيقة والمنهج، 402.
[10]. راجع، م. ن.، 402.
[11]. راجع: سلفرمان، نصيات بين الهرمنوطيقا والتفكيكية، 50.
[12]. غادامر، الحقيقة والمنهج، 402.
[13]. راجع، سلفرمان، نصيات، 51
[14]. غادامر، الحقيقة والمنهج، 370.
[15]. م. ن، 383.
[16]. غادامر، فلسفة التأويل، 54.
[17]. غادامر، الحقيقة والمنهج، 370.
[18]. م. ن، 370.
[19]. م. ن، 372.
[20]. م. ن.
[21]. م. ن.
[22]. م. ن، 412.
[23]. م. ن، 412 413.
[24]. م. ن، 416 417.
[25]. م. ن، 415.
[26]. م. ن، 416.
[27]. م. ن، 413
[28]. م. ن، 416.
[29]. م. ن، 511.
[30]. م. ن، 507.
[31]. م. ن، 508.
[32]. م. ن، 484.
[33]. م. ن، 485.
[34]. م. ن، 511.
[35]. لمزيد من التفصيل في هذا المجال، راجع، م. ن، 406.
[36]. م. ن، 407.
[37]. م. ن.
[38]. م. ن، 371.
[39]. م. ن، 408.
[40]. م. ن.
[41]. م. ن، 484
[42]. م. ن، 491.
[43]. م. ن، 497.
[44]. م. ن، 498.
[45]. م. ن، 457.
[46]. م. ن، 521.
[47]. راجع، م. ن، 522.
[48]. م. ن، 518.
[49]. م. ن، 519.
[50]. توفيق، في ماهية الفلسفة وفلسفة التأويل، 98- 99.
[51].غادامر، فلسفة التأويل، 44.
[52]. غادامر، الحقيقة والمنهج، 501.
[53]. م. ن، 71.
[54]. م. ن، 371.
[55]. توفيق، ماهية اللغة والتأويل، 153.
[56]. م. ن، 153.
[57]. غادامر، فلسفة التأويل، 48.
[58]. آرمسترونغ، القراءات المتصارعة، 19.
[59]. واعظي، نظريّة تفسير النص، 126.
[60]. قائمي، المجة، 79.
[61]. غادامر، ‏الحقيقة والمنهج، 382.
[62]. راجع، قائمي، المجة، ‏80.
[63]. م. ن، 371.
[64]. الصدر، دروس في علم الأصول، 2: 171.
[65]. م. ن، 170.
[66]. الهاشمي، بحوث في علم الأصول، تقريرات دروس البحث الخارج الشّهيد السّيّد محمد باقر الصدر، 1: 71.
[67]. م. ن، 3: 250.
[68]. م. ن، 267.
[69]. م. ن، 266.
[70]. م. ن، 4: 291.
[71]. م. ن.
[72]. م. ن، 292.
[73]. م. ن، 293.
[74]. م. ن، 294.
[75]. م. ن، 1: 473.
[76]. الصدر، المدرسة القرآنية، 18.