الباحث : حوار مع الأستاذ الدكتور أحمد ماجد
اسم المجلة : الاستغراب
العدد : 37
السنة : شتاء 2025م / 1446هـ
تاريخ إضافة البحث : April / 19 / 2025
عدد زيارات البحث : 246
المقدمة
أقامت مجلة الاستغراب حوارًا مع الأستاذ الدكتور أحمد ماجد الأستاذ الجامعي والباحث في تاريخ الفكر ومسؤول قسم الدراسات في معهد المعارف الحكمية، حيث تم التعرض فيه إلى القضايا المتعلقة بالفكر اللساني الغربي والإرهاصات التي بدأت وأدت إلى نشوء الاهتمام باللغة وصولًا إلى المدارس والتيارات الحديثة في البحث اللساني وختامًا بالتبادل الممكن بين اللسانيات والبحث اللغوي في العالم الإسلامي.
المقابلة تنقسم إلى ثلاثة محاور:
المحور الأول: الخلفيات التاريخية للبحث اللساني في الغرب
المحور الثاني: عناصر البحث اللساني في الفكر الغربي
المحور الثالث: نقد الفكر اللساني في الغرب
المحور الأول: الخلفيات التاريخية للبحث اللساني في الغرب
السؤال الأول: برأيكم ما هي الإرهاصات السوسيولوجية والفلسفية التي سبقت الانعطاف نحو اللغة في الفكر الغربي؟ وهل كان لتبدل الرؤى كونية وميتافيزيقية سبب في الاهتمام من قبل المفكرين بالبحث اللساني؟
نبدأ من نقطة محورية، تتمثل في أهمية اللغة في حياة الإنسان، فهذا الأمر لا يمكن تجاهله، ولا بد من التنبه له، والعمل على إظهاره، فالفلسفة والعلوم نمت من خلالها، وبمعزل عنها بشقيها الكتابي والشفاهي، لا يمكن الحديث أصلا عن أيّ موضوع من الموضوعات، وإن كنا نتجه نحو الانعطافة اللغوية الحديثة، فهذا لا يعفينا من التأكيد على أنّ جزءًا كبيرًا من التراث الإنسانيّ، نشأ عن نظرة الإنسان إلى اللغة وماهيتها وكيفية تولد المعنى فيها، ولكن لن نتوغل في الحديث عن هذا الموضوع الآن، بل سنتوجه إلى المقصد واللصيق بالموضوع، حيث نلاحظ أنّ بذور هذا التوجه، بدأت بالظهور مع بدأ الحداثة الغربية، وإن أخذت شكلًا له علاقة بالبحث عن علاقتها بالعقل، وهذا الأمر جاء لأسباب دينية في إطار علاقة الإنسان بالدين حين احتج مارتن لوثر على الكنيسة الكاثوليكية لاستخدامها اللاتينية في تعاليمها، ودعا إلى ضرورة ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغات الشعبية، حتى يستطيع أن يكون الإنسان على علاقة مباشرة به، ثم توسع هذا الأمر مع مرحلة التحول الذي شهدته المجتمعات الغربية، حين أخذت تظهر الكتابات باللغات الأوروبية المحلية كالإيطالية – كجحيم دانتي – بالإضافة إلى الألمانية – أسطورة رولان - وأضيف إليها في وقت لاحق ظهور الدراسات الفيلولوجية التي لم تكتف بمجرد البحث في قواعد الصرف والنحو والنقد النصوصي الديني واللغوي، إنّما تعدته إلى مجمل الحياة العقلية، وهذا ما وسع من مبحثها باتجاه تاريخ اللغة واللغة المقارنة، وتاريخ العلوم والأديان الفلسفة واللاهوت، وهذا يعكس توجهين في المعالجة: أحدهما باتجاه اللغة بذاتها وكلّ ما يتعلق بها، والثاني يذهب إلى دراسة الحياة العقلية للأمم والشعوب وآدابها وفنونها وفلسفتها وأديانها، وهذا الأمر يظهر بشكل واضح في رحاب الفلاسفة الألمان «إيمانويل كانط» و»همبوليت» و»هيردر»، الّذين أخذوا يبحثون عن العناصر التي تكون العقل الألماني وتفرده وتميّزه عن غيره. وفي سياق عملهم لم يكتفوا بجعل اللغة مجرد أداة لفهم العالم، إنّما رأوا فيها وسيلة لصنعه، فاللغة بالنسبة لهم – خاصة همبوليت - ليس مجرد ناقل للألفاظ والتعابير، إنّما هي نظام تنطوي على تجارب الأجيال، بالتالي هي رؤية بانية للعالم، لذلك تختلف تمامًا بين أمة وأخرى، فكل لغة تنظم العالم بطريقتها الخاصة.
وهذا التطور لرؤية اللغة ترافقت مع نمو النزعة التفسيرية والتأويلية في الفلسفة الألمانية والتي وصلت إلى ذروتها مع الفيلسوف واللاهوتي الألماني فردريك شلايرماخر، الذي نقل اللغة من أصلها الإلهي والمشاعري، وقام بربطها بالطبيعة البشرية والتواصل الإجتماعي مع ربطه بالنسق الكانطي، وهو في ذلك استمرار لهردير وتوسيع لفلسفته - وهنا يمكن التوسع بشكل كبير، ولكن سياق الحوار لا يسمح بذلك، وكي لا ندخل في توسعة تخصصية لا يمكن ضبطها – كما أنّ هذه المرحلة ترافقت مع الفيلسوف الألماني فردريك نيتشة، الذي قام بعملية هدم كاملة للفلسفة منطلقًا من اعتبارات لغوية، وذلك لأنّه يرى أنّ الأنساق الفلسفية استسلمت لإغراء اللغة وافتتنت باستقرار النحو ومثاليته، والحلّ في استخدام استعارات حية تعكس الحياة وإرادة القوة.
يمكن أن نعتبر أنّ ما أثير في الفلسفة الألمانية، حمل في طياته بذور تحولٍ في عميق، حيث أصبحت اللغة تتعدى كونها تصويتات، إنّما ترتبط بالإنسان، وكلّ عملية تحليلٍ لها، تقتضي البحث عن طبيعة الإنسان من منظور إناسيّ، بالتالي، تعكس رهانات العقل الغربيّ منذ القرن الثامن عشر بضرورة إعادة نظم العالم بطريقة جديدة، هذا الرهان الذي وصل إلى ذروته في بداية القرن التاسع عشر، حيث أصبح مفهوم الإنسان هو الأصل، بعدما كان حتى ذلك التاريخ خطابًا فلسفيًا مجردًا، وهو ما أفسح المجال لتجديد الرؤية، ليس فقط على مستوى اللغة، إنّما لبناء موضوع جديد هو علم الإناسة.
يضعنا الكلام السابق أنّ تطور فلسفة اللغة وصولا للألسنية، لا يمكن فصله عن ما حدث من تغيرات في البنية الفكرية الأوروبية، والانتقال نحو العقلنة بكلّ مظاهرها، لذلك لا يمكن عزل هذا التطور عن مجمل ما شهدته هذه القارة، بالتالي هناك سياق حكم العلاقات بين العلوم، فاللغة أصبحت شأنًا اجتماعيًا، وهذا الأمر يظهر بشكل واضح، إذا نظرنا إلى دي سوسير الذي نراه، يعتبر المنهج الألسني، يقوم على سلسلة من العمليات والخطوات الأساسية لدراسة موضوعه منها: ملاحظة الأحداث والمعطيات اللغوية ورصد تشابهاتها الجزئية وصياغة بعض التعليمات بهذه الأحداث المتماثلة والمتشابهة قصد إحدث بعض التعديلات في الوقائع التي تمّ ملاحظتها. وعلى أساسها يتمّ التقدم ببعض الفرضيات لتفسير هذا الأحداث وهي مرحلة الفرضة. ثم محاولة التأكد من ملائمة هذا الافتراضات للواقع اللغوي وذلك من خلال القيام بملاحظات جديدة وهذه هي مرحلة التجربة. ثم تليها مرحلة بناء النظرية القائمة على هذه الافتراضات التي تفسر عمل اللغة بصور عامة، وهذه الخطوات نفسها التي نجدها في العلوم الطبيعية وهي تستخدم في العلوم الاجتماعية، مما يعني أنّنا أمام نسق الأفكار يقود العلوم جميعًا.
ما نريد أن نعبر عنه، أنّ تحوّلات التي حصلت في العقل الغربيّ، أدت إلى بروز علوم جديدة، وإن ما بدت متشققة، ولكنّها مترابطة تحمل في طياتها نظرة جديدة إلى العالم، انتقلت من الفكر المجرد والنظري إلى العملي والمعاين، الذي يجعل الإنسان موضوعه الأساسيّ، وهذا يعني أنّ التحوّلات التي حصلت على مستوى الرؤية الكونية في الغرب انعكس على العلوم، ولما كان حديثنا هنا على اللغة، يمكن القول إنّه كان السبب الاهتمام من قبل المفكرين بالبحث اللساني. فالحداثة التي جعلت الإنسان مادة لبحثها، وجعلت الإجتماع أصلا لم تستطع إلا أن تعترف بدور اللغة، كما أنّها عند وصولها إلى بحثها هذا، لم تراها ظاهرة ناتجة عن الإجتماع، بل اعتبرتها المبدأ الذي بمقتضاه يتأسس الإجتماع، واعتبرت أنّ بين هذين الطرفين علاقة تبادلية ناتجة عن التواصل، لذلك لا يمكن رؤية أحدهما بعيدًا عن الآخر أو منفصلا عنه، وهذا ما يظهر في عمل ليفي شتراوس الذي درس المجتمعات انطلاقا من اللغة.
السؤال الثاني: هل أثر البحث اللساني في الغرب على تعاملهم مع النص الديني؟
دون شك، لا يمكن انكار أهمية البحث اللساني في دراسة النص الديني في الغرب، فهذا الفكر الذي بدأ بدراسة العلاقة بين اللغة والفكر، عمل على دراسة اللغة وما تعبر عنه من أفكار ومعاني عند الإنسان، هذه الأفكار والمعاني ليست جواهر مستقلة بذاتها، إنّما تتحدد من خلال العلاقات التي تربط عناصر اللغة ببعضها فلا أسبقية للفكرة على البنية ولا أسبقية للمعنى، فاللساني يتعامل مع كلّ نص باعتباره موضوعًا قابلا للدراسة بمعزل عن النظرة إلى النصّ والمسبقات المتعلقة به، وهذا ما يجعل النصوص مادة يمكن العمل علیها ودراستها بشكل موضوعيّ، وعلى هذا الأساس عمل اللساني على جمع وتأريخ مظاهر الكلام، ثم يعمل على القوى العاملة فيه واستخلاص القواعد العامة التي تحكمه وتحديد موضوعها، فهو في السياق الغربي، أسقط قدسية النص، وبدأ بالتعامل معه باعتباره منجزًا كتابيًا، يمكن العمل عليه لمعرفة ما يحتويه وكيفية تشكله.
ما يهم اللساني ليس البعد الإعتقادي الذي سيطر على عقل الإنسان المؤمن في القرون السابقة، فهو يسعى إلى دراسة النصوص عمومًا ومنها النص الديني، وهو عندما يقوم بهذا العمل يهتم بالقضايا الإنسانية كقضية أصل اللغة وعلاقتها بالفكر والكلام والثقافة وكيفية تفاعلها مع الحضارات الإنسانية، وهي الموضوعات التي كان يدرسها الفلاسفة.
السؤال الثالث: تعتبر قضية التأويل وتعدد القراءات وفهم النص من الأمور المحورية التي يمكن اعتبارها من أساسيات البحث اللساني، كيف يمكن ربط هذه المسألة من جهة فلسفة العلم وكون العلوم جميعًا تسير في برادايم واحد، فهل لقضية التأويل في البحث اللساني مثلًا تأثرًا بقضية العلوم التجريبية والوضعية؟
لا نستطيع أن نجيب عن هذا السؤال دون الدخول إلى بعض التفصيلات المتعلقة بتاريخ نشأة العلوم ولاسيما الإنسانية منها، هذه العلوم التي ظهرت في بداية القرن التاسع عشر، وهي منذ انطلاقتها واجهت إشكالية، تتعلق بآلية التعامل معها والمنهج العامل فيها، حيث نجد تيارًا رأى أنّ عليها تبنى على منهج التفسير على غرار غيرها من العلوم الطبيعية، وهذا ما سعى إليه أنصار النزعة الوضعية، الذين دعوا إلى وحدة العلوم، بينما مال فريق آخر إلى رفض هذا التوجه، واعتبره مجحفًا بحق العلوم الإنسانية، فهي تتمايز عن تلك العلوم بخصوصية موضوعها الذي يدرس الإنسان بطبيعته المتميّزة التي لا يمكن حصرها في إطار تجريبي محضّ بسبب اختلاف الإنفعالات الشخصية والبيئات الاجتماعية والقيم الحاكمة فيه، وهذا ما يفرض عليه منهجًا مختلفًا يتناسب معه وهو الفهم.
هذا الصراع بين الطرفين، ولّد معه إشكالية كبيرة، فكيف يمكن أن تُلحق العلوم الإنسانية بالعلوم الطبيعية؟ وهل بالإمكان فصل النشاطات الإنسانية عن كلّ المعايير والقيم الأخلاقية؟ وهل من الجائز الحاق الإنسان بالظواهر المادية، حيث تغيب الفوارق بين الطبيعة الإنسان والمادة؟ سماتها المتمثلة بالقياس الكمي الدقيق الخاضع للقوانين؟ هذه الأسئلة وغيرها، أخذت تحفز عقول المفكرين للردّ على هذا التيار الوضعي، المتمثل بعدد من الشخصيات الوضعية من أمثال أوغست كونت، وإميل دوركيم وجون ستيوارت، ومن أبرز من سعى إلى هذه الغاية فلهلم دلتاي، الذي عمل على إيجاد فاصل بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية، وذهب باتجاه إنشاء منهجًا سماه الفهم مقابل التفسير. وقصد بالفهم تجاوز حدود الواحدية المادية، ورفض المساواة بين الظاهرة الإنسانية والطبيعة الـمادية، منطلقًا من فردية وفرادة الطبيعة الإنسانية، التي توجب دراستها بذاتها عبر النفاذ إلى أعماقها قصد تأويلها وفهمها.
ما تحدث عنه «دلتاي» جعل التأويل بديلا عن التفسير، انطلاقًا من كون المبادئ المعرفية التي يتأسس عليها، بحيث أصبحت العلوم الإنسانية تخدم بنفس الطريقة التي خدمت بها مبادئ كانط فيزياء نيوتن، لذلك يقال دائما :» أنه إذا كان - كانط - قد طور نقدًا للعقل النظري، فهو طور نقدًا للعقل التاريخي، وهو في ذلك فتح الباب واسعًا لإعادة فهم التأويل، وهذا ما نجد اصداءه إلى هوسرل، الذي ركز على خبرة الوجود في عالم الحياة، التي بواسطتها نستطيع تحديد مستوى الفهم. ولم يعد التأويل هنا هدفه اكتساب معرفة موضوعية، بل هي معرفة تتماشى مع فهم الوجود، لان ذواتنا مرتبطة به، وتتضح هذه الرؤية الجديدة في استخدام التأويل وعلاقته بالوجود مع مارتن هيدجر الذي دعا فيه ضرورة توجه التأويل نحو فهم وجودنا.
والكلام الذي سقناه، لا يعني القطع مع الحداثة، والخروج عن البرادايم الغربيّ، في الواقع نحن أمام حديث عن خصوصية ناشئة من طبيعة العلوم الإنسانية، التي تفترض مقاربة منهجية مختلفة عن مقاربة العلوم الطبيعية، وهذا ما عبر عنه جادامر، الذي اعتبر أنّه لا يسعى إلى رفض العلم والموضوعية العلمية، ولكن الطريق الذي ولده المنهج العلمي الصارم في موضوعيته ليس هو الطريق الوحيد لكشف الحقيقة.
بمعنى آخر، لم يخرج التأويل عن الرؤية الكونية للحضارة الغربية، وهنا لا بد من توضيح معنى هذا المصطلح، الذي حضر بقوة في كتابات المفكريين الغربيين، وحسب ما تشير اغلب المعطيات ان أوّل مٍن استخدمه هو إمانويل كانط في كتابه (نقد ملكة الحكم)، باسم بديهيّات العالم[1] بمعنى تأمّل العالم الراجع إلى الإحساسات. لٰكنّ هٰذا الاستعمال سرعان ما انتهى تحت نفوذ معنًى جديدٍ أعطي لتعبير[2] بواسطة الرومانسيّين، وتحديدًا بواسطة شيلنغ الّذي ذهب إلى أن هٰذا الاصطلاح لا يرجع مباشرةً إلى الملاحظة الحسّيّة، بل إلى الوعي والمعرفة غير الحسّيّة. ونتيجة لهذا كثرة الاستخدام وبفعل الخبرة صار المصطلح قريب من المعنى المستخدم في الدراسات بشكل واسع، ليتحول مع فليلهام دلتاي إلى معنى واضح، يعني ذلك المفهوم الذي يقدم نظرة إلى العالم. فيها جذور كل الأفكار والمعتقدات وألوان النشاط المتصلة بالعصر، ولا نستطيع الوصول إلى الأفكار والمعتقدات التي هي أسس الحضارة عامة، إلا بالحصول على نظرة للعالم تتفق مع الحضارة... حيث إنّها مضمون أفكار المجتمع والأفراد الذين يؤلفونه، أفكارهم عن الطبيعة وعن موضوع العالم الذي يعيشون فيه، وعن مكانة الإنسانية والأفراد ومصيرها.
المحور الثاني: عناصر البحث اللساني في الفكر الغربي
السؤال الرابع : كثيرًا ما يتم الخلط في بعض الكتب بين البحث اللساني وفلسفة اللغة، وأحيانًا أخرى يتم التفريق بينهما فيقال مثلًا إن راسل وفتجشنتين وجورج مور من فلاسفة اللغة واما بول غرايس وتشومسكي مثلًا من اللسانيين، فما الفرق بين توجه فلسفة اللغة وتوجه البحث اللساني؟
هذا الأمر طبيعي، ناتجة عن الحاضنة التي نشأ فيها هذين العلمين وهو اللغة، كما أنّ العلاقات بين العلوم وانفتاحها على بعضها، توحي بهذا الأمر، ولكن إذا أردنا أن ندقق في الموضوع سنلاحظ فروقات بينهما، إذ ينظر بعض الباحثين أن فلسفة اللغة جزءٌ من الفلسفة العامة، في حين يذهب آخرون إلى أنّ فلسفة اللغة علمًأ حديثًا، ظهر مع الفلسفة التحليلة، وفي هذا المجال يرى دياغو ماركوني أنذ بداياته تعود إلى الفيلسوف فرجه ثم راسل وصولا إلى فجنشتين وكارناب، حيث سعى هؤلاء إلى استعمال المنطق الرياضي واتخاذ موقف تجريبي لإنشاء لغة عالمية صورية واصطناعية، وهم في ذلك حولوا الفلسفة إلى فلسفة للغة. هذه الفلسفة التي تنقسم إلى فرعين التحليلي الصوري الذي يستلهم أدواته الإجرائية من التحليل المنطقي عند كلّ من فريجة وراسل وفجنشتين الأول الذي كان قريبًا من الوضعية. أما الفرع الثاني فيتمثل في فجنشتين الثاني ومرحلة ألعاب اللغة وأوستين وجورج مور.
وهذه الفلسفة التي نشأت في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، عملت على جعل المنطق لغة قادرة على إدراك الكون، وهذه اللغة قادرة على تخصيص بعض عبارات الحياة اليومية، وتجعلها تتفادى الأخطاء التي توقعنا بها اللغة العادية، التي تحمل في طياتها عناصر سوء الفهم، وهي تقسم إلى ثلاث مقاربات: الذرية والجزئية والكلية، ولن ندخل في تفصيلاتها، التي تحتاج إلى شرح لا يمكن أن يتحمله هذا الحوار. فما نريد قوله إن فلسفة اللغة، حصلت نتيجة التطور الحاصل في المنطق الرياضي، والعمل من أجل تفادي أخطاء اللغة.
وإذا انتقلنا إلى اللسانيات سنلاحظ أنّها العلم الذي يدرس اللغة دراسة علمية تقوم على الوصف ومعاينة الوقائع بعيدًا عن النزعة التعليمية والأحكام المعيارية، وقد وضع دي سوسور في كتابه المعالم الأولى له في كتاب محاضرات في الألسنية العامة هذا العلم على المنهجين الوصفي والتاريخي، الأول يخالف المقاربات اللغوية التقليدية، ويعالج اللغة بذاتها معزولة عن كل العناصر الخارجة عنها، فالألسني يصف اللغة بوجودها العام ضمن فترة زمنية محددة، ليصل من خلال ذلك إلى القواعد والقوانين العامة التي تحكمها ومعرفة البنية أو التركيب الهيكلي لها، وذلك من خلال الإستقراء عبر المشافهة ، والنقل، ثم يقوم بتقسيم هذه المادة وتصنيفها وتسمية كل قسم منها، وصولا إلى وضع المصطلحات الدالة على هذه الأقسام ليستقر في النهاية على وضع القواعد الكلية والجزئية التي نتجت عن هذا الإستقراء، ويتمّ هذا الأمر من خلال قواعد، تعتمد على التصويتات والصيغ النحوية للغة المنطوقة ومعرفة الأسس الفونيمية والورفيمية التي تقدم وصفًا تفصيليًا دقيقًا، وهذا الوصف حتى يتحقق لا بد من حرفية القائم به وحضور الراوي الذي توجه إليه الأسئلة. أما الثاني وهو التاريخي القائم على مفهوم الحركة أو الفاعلية المستمرة، وهو يهدف إلى الكشف عن الإتجاهات المختلفة في التغير اللغوي.
وهذه التحديدات التي تكلمنا عنها لا تعني القطيعة بين فلسفة اللغة واللسانيات، فهما بقيا مرتبطين مع بعضهما البعض، وذهب جوزف سمف إلى اعتبار أنّ فلسفة اللغة تكمن في تحليل التصورات والمناهج اللسانية، كما أنّها تستعين باللسانيات لحل المشاكل الفلسفية، فموضوع التحقق لا يمكن الحديث عنه بمعزل عن بحث التركيب النحوي للجمل. كما أنّ نعوم تشومسكي في نظريته في النحو التوليدي، لم يقتصر قي أبحاثه على المجال النحوي بل طرح قضايا متنوعة منها محاولة إثبات وجود قدرة فطرية لتعلم اللغة ومشروع النحو العالمي وإبداعية اللغة، جامعًا في ذلك بين البحث العلمي والفلسفي.
السؤال الخامس: ما هي أهداف البحث اللساني بشكل أساسي؟ وهل يمكن القول بوجود منهج جامع بين كافة المدارس والتيارات اللسانية بحيث يقال إن اللسانيات بشتى تياراتها تتبع منهجًا واحدًا؟
الحديث عن علم ما، يستوجب دائمًا، توفر عناصر محددة، تتعلق بالموضوع والهدفية واللغة والمنهج، وإذا نظرنا إلى الألسنية أو اللسانية أو فقه اللغة، نلاحظ وضوح الهدف فيها، حيث نقف على مسلمة أساسية، تعتبر اللغة نظامًا أي بنيات مؤلفة من مجموعة من العناصر، تعمل طبقًا لقوانين مضبوطة، تقوم بالمحافظ على انسجام وتماسك هذه العناصر، وتحقق التكامل والاستقلال الداخلي للنظام ككل، وتؤمن له الكفاية الذاتية، وهذا ما يحمل بحدّ ذاته فرادة بالهدفية عن الفونولوجيا والإناسة، وعلم الاجتماع، على الرغم من اهتمام هذه العلوم باللغة، إلا أنّ علم اللسانيات يدرسها في ذاتها ولذاتها وعبر أدوات ومناهج تختلف أيضًا عن ما هو سائد في اللغة كالصرف والنحو...
وعلى مستوى الموضوع، نلاحظ أنّ هذا العلم، يشمل اللغة في جميع مظاهر الكلام البشري، سواء أكانت تعيش في الإدغال ومتمدنة، ومن دون الأخذ بعين الإعتبار المرحلة الزمنية التي نتكلم عنها كلاسيكية أو عصر النهضة... فموضوع هذا العلم هو أشكال التعبير الإنساني من خلال الإهتمام باللغة البشرية اليومية، واللهجات، وهذا ما نجده عند اللسانيين المحدثين الذين اهتموا بدراسة اللهجات والتنوعات اللغوية. وهذا ما يدفع إلى القول أنّ هذا العلم هو دراسة علمية للغة بذاتها ولذاتها، وليس بمعناها الحسي والواقعي لها، أي اللغة كأصوات نسمعها وتتعرف عليها.
حتى لا نطيل الكلام، يمكننا القول أن الألسنية علم ظهر من خلال أعمال ونظريات دي سوسور في النصف الأول من القرن العشرين، وقد لاقت قسطًا كبيرًا من النجاح، ما جعلها محل اهتمام عدد كبير من الدارسين ،فظهرت إلى الوجود مجموعة من المدارس اللسانية، تحمل في طياتها بذور التطوّر والتحوّل، وإن كانت تتشابه في كثير من الملامح، وتختلف حول العديد من القضايا، كما يستكمل بعضها البعض انطلاقا من النقائص التي تمّ التوصل إلى ملاحظة وتسجيل بعضها، والتي سعى البعض الآخر إلى استدراكها ومعالجتها، وهكذا كانت هذه الطروحات معينا لعدد من المدارس التي قامت في أغلبها على المبادئ النظرية التي أرساها دي سوسير.
السؤال السادس: تعتبر البنيوية اللسانية أول انبعاثات البحث اللساني على يد فرديناند دي سوسير، الذي أدخل مفهوم النسق والبنية لفهم اللغة والكلام، ويمكن تلخص في نظرته إلى اللغة بوصفها نظامًا أو هيكلًا مستقلًا عن صانعه، أو الظروف الخارجية التي تحيط به، وينظر إلى هذا الهيكل من داخله من خلال مجموعة وحداته المكونة له بوصفها تُمَثّل كلًّا قائمًا بذاته، برأيكم ما هي أهم الثغرات التي واجهت البنيوية اللسانية عند دي سوسير؟
لقد نشأ البحث اللساني من خلال دي سوسير ودروسه في اللسانيات العامة، ثم ساهمت مجموعة من الأعمال في انبثاق المنهج البنيوي وازدهاره، خاصة أعمال تروبتسكي وجاكبسون وكلود ليفي ستراوس وغيرهم، حيث اهتمت هذه المدرسة بدراسة بنية اللغة بمعزل عن العوامل خارج أوفوق لسانية، بمعنى آخر درستها عبر مكوناتها التي تشكل بنائها الخاصة، فبالنسبة لهم الظواهر اللغوية في مستوياتها المختلفة بنية تتألف من عناصر داخلية تربطها علاقات تضبط موقعها وآليات اشتغالها، وإذا نظرنا في النتائج العامة، سنلاحظ بعض الانتقادات التي وُجهت لها، وسنذكر بعضها على سبيل المثال دون الدخول بالتفاصيل:
- ترى البنيوية أن هناك أسبقية الكل على الأجزاء، وعلى الناقد أن يعزل النص عن الأحداث التاريخية والإجتماعية فيدرسه باعتباره الوجود، فيقوم بدراسته بذاته ولذاته، وهذا يعني أنّ على المشتغل على النص أن يهتم بداخليته، ولا يقبل أيّ أمرٍ خارج عنه، كعلائقه الاجتماعية، وارتباطاته بالواقع، وأحوال المتكلم النفسية، ويعود سبب ذلك إلى إيمانها بالنص كبنية مغلقة ولا شيء خارجه، ومن خلال هذا الأمر، تكون نظرت إلى المكونات المباشرة للغة وتغافلت عن البنية العميقة لها، التي لا يمكن إغفالها.
- أقصت البنيوية المؤلف، ووصلت إلى الحدِّ القول بموته، وأفسحت المجال فقط للغة، وجعلتها الوحيدة القادرة على الكلام، ولذلك اعتبرت منهجًا نصانوي، وهي من خلال هذا الأمر، أهدرت خصوصية النص، وذاتية المؤلف، وتاريخية النص التكوينية. فالبنيوية تتجاهل كل المؤثرات المترتبطة بالنص أي يقوم ببتره عن محيطه و كافة المؤثرات المرتبطة به كعقيدة الكاتب، و فكره، بل ووجدانه.
- اكتفت بوصف المكونات المباشرة، وهذا لا يمكنه من أن يقعـد للغة أو حتى عينة الدراسة.
- تعاملت بكثير من التبسيط الذي يصل إلى حدّ السذاجة مع النصوص، حيث عملت على هدم دلالات النصوص وثراء اللغة، كما ألغت مقاصد الكاتب ومراده.
- يعرفون الأدب بأنّه كيان لغوي مستقل لا صلة له بأيّ سياق خارجي، فدراستهم للعمل الأدبي هي دراسة آنية، فالنص يسير وفق نظام واحد هو زمن نظامه.
- البنيوية لا تهتم بالمعنى في النص بقدر اهتمامهم بآليات إنتاجه وخلقه، فالبنيوية تنطلق من نقطة وجود المعنى كأمر مسلم به مفروغ منه، ومن ثم تحول عن دراسة المعنى إلى آليات خلق المعنى حسب قواعد علمية، وهذا ما أشرنا إليه بإعتباره تجاهلا تامًا للمعنى.
- عدم استطاعتها تحليل كل أنواع الجمل، فالجمل قد تطول وتتعقد العلاقات بين مكوناتها.
- غالى دي سوسير في دور الجماعة واعتبارها هي التي تقوم بفعل التغيير والتبديل، وهو في هذا الموقف ألغى دور الفرد الإبداعي القادر على انتاج وتأويل كافة جمل اللسان، ولا شيء غير هذه الجمل التي لا حدود لها، وذلك انطلاقًا من عدد محدود من المقولات والقواعد التي تشكل كفاءة ذلك المتحدث.
- تمييزه بين الكلام واللسان بشكل مبالغ فيهـ وهذا ما دعا أوتو يسبرسن إلى نقد هذه النظرة لأن الكلام واللسان عبارة عن وجهين لعملة واحدة، واقترح بديلا ثلاثية (الكلام، اللغة، اللسان) بديلا عن ثنائيته.
- وقام تشومسكي بانتقاد النموذج البنيوي فـي مقوماته الوضعية المباشرة على اعتبار أن هذا التصور لا يصف إلا الجمل المنجزة بالفعل ولا يمكنه أن يفسر عددًا كبيرًا من المعطيات اللسانية؛ مثل الالتباس والأجزاء غير المتصلة ببعضها بعضًا.
السؤال السابع: اللسانيات التوليدية التحويلية لتشومسكي، والتي تعتبر من آخر ما توصل إليه البحث اللساني وإن تعرض أيضًا لنقود عديدة، هذه التوليدية التحويلية تعمقت في المنطلقات النفسية للمتكلم، وكشف النقاب عن القدرة العقلية وراء الفعل اللساني، وسعى إلى تعليله بدلًا من مجرد وصفه كما كان الأمر في البنيوية. هل يمكن اعتبار أن تشومسكي أعاد للبحث الفكري والواقعي مكانته في اللسانيات، أي يمكن اعتباره اقترب أكثر إلى الرؤية الأرسطية التي تعتبر أن اللغة هي أداة فقط للتعبير عن الفكر وأن الفكر له استقلالية مقابل اللغة؟
إنّ تشومسكي هو ما يدعوه الفلاسفة بالفيلسوف الداخلي أي أنّه فيما يتعلق بعلم اللغة فإنّه يعكس وجهة النظر القائلة بأنّ علم اللغة هو علم الملكة العقلية المحججة التي تعمل داخل الرأس، ولا توجد أي ظواهر لغوية خارج الرأس مثل السلوك اللغويّ. حقًا تلعب الظواهر الخارجية للغة القابلة للملاحظة في السلوك اللغوي دورًا في بناء نظرية عن ما يحدث داخل الرأس وتقدم مصدرًا واحدًا من المعلومات والأدلة، ولكنّها ليست هي موضوع النظرية اللغوية، وتحدث عن جملة من الأمور المرتبط باللغة، منها:
الحسابية: سعى تشومسكي لبناء نظرية حسابية عن اللغة فإنّه يهتم بالحسابات(العمليات العقلية/ العصبية اللغوية) التي تربط أحد سلاسل الأحداث العقلية اللغوية بالسلاسل الأخرى، ليس مع ما هو خارج الرأس أو مع أيّ علاقات بين هذه الأحداث العقلية والأشياء أو المواقف خارج الرأس. طالما أنّ النظرية تتعامل مع الأحداث العقلية الأخرى، فأنّ النظرية اللغوية هي أيضًا قالبية: أي أنّها تفترض أن ملكة اللغة التي تحدث فيها هذه الأحداث منفصلة نسبيًا عن الملكات العقلية الأخرى.
الفطرية: تولد الكائنات الحية مزودة باللغة، فهي ليست متعلمة ولم تطبع في العقل من خلال الثقافة، أي أنّ اللغة فطرية ذات أساس بيولوجي، وهي تنتقل عبر جيناتنا الوراثية، تولد مع الإنسان ولكن تحتاج وقت للنمو، وهذا الأمر يحدث بشكل آلي: «يرى تشومسكي أنّ الاختلاف بين الحسّ المشترك والفهم العلميّ يكمن في حقيقة أنّ الحسّ المشترك نفسه فطريّ: أنّه مشترك عبر البشر. يعتمد فهم الحسّ المشترك على المعرفة المحددة فطريًا في اللغة، على النقيض من ذلك، يدين العلم بالقليل للغة الطبيعية الفطرية. أنّ درجات اختلاف الاعتماد على المفاهيم الفطرية لهاتان الصورتان للفهم تساعج في تفسير لماذا يكون الحسّ المشترك متاح بدون أيّ صعوبة لأيّ فرد على حين أنّ العلم يتطلب تعليم وعمل خاص».
المذهب الكليّ: تظهر هذه السمة في علم اللغة عند تشومسكي فيما يدعوه النحو الكليّ: لو أنّ اللغة إلى حدّ كبير فطرية ومن ثمّ يجب أن تبدو النفس الشيء عبر البشر.
المذهب الفردي: يتضح في فكرة أنّ كلّ فرد لديه لغة أو لغات فردية (تقنيًا اللغة الداخلية، لغة فردية، داخلية، قصدية، أنّ كلّ اللغات الداخلية هي حالات النجو الكليّ).
البنائية: وهذا ناتج عن نظرته الكليّة، تظهر من خلال قوله: «يمكن أن تقول أنّ بُنية خبرتنا وفهمنا للخبرة هو انعكاس لطبيعة عقولنا ولا يمكن أن نحصل على ما هو العالم الحقيقيّ. كل ما يمكننا فعله هو تطويرات بناءات تزوردنا بتبصر وفهم ومن ثم نكون على رضى بذلك التبصر والفهم».
التفت تشومسكي إلى وجود بنية فطرية عميقة عامة بين العقول البشرية، وتعدّ مصدرًا جوهريًا يبني عليه الإنسان لغته الخاصة (العربية، الانجليزية...) وأشار إليها بالنحو الكليّ، أما اللغة الخاصة تمثل النحو التوليدي، من هنا أوجد صلات وثيقة بين العقل/ المخ الإنساني واللغة الإنسانية. تعدّ دراسته للغة ذات قيمة كبيرة، لأنّها تساعد على إدراك طبيعة العقل الإنسانيّ وتزودنا بفهم أعمق للطبيعة الإنسانية، ويمكننا القول إذا استطعنا فكّ شيفرة اللغة، يمكننا فعل الأمر نفسه مع العقل.
بنى تشومسكي عقلانية جديدة، تنطلق من ثنائية العقل/ المخ. حيث يمكن أن نبدأ في دراسة العقل الإنسانيّ تمامًا كما ندرس الهيكل الفيزيائي للجسم البشري فنحن ندرس القدرات العقلية كجزء من الجسم ودراسته خاصة المخ، ولكن هذه الدراسة تمتزج بمستوى من التجريد. وفي ذلك الصدد يقول: «عندما نتحول «إلى العقل ومنتجاته نجد أنّ الموقف لا يختلف نوعيًا عن حالة الجسد، وهنا أيضًا نجد أنّ البنى في منتهى التعقيد تتطور بشكل منظم وموحد متخطية بذلك تاعوامل البيئية التي تعطي شرارة البدؤ (تثير) وتشكل النمو».
على أيّ حال، قدم تشومسكي مقاربة عقلانية فلسفية، حيث يتحرك من جهة الجانب النشيط للوعي ولفهم إبداعية اللغة، غير أنه يرجع من جهة أخرى إلى الأفكار الغريزية لديكارت، التي لم تعد بالنسبة إليه ذات أصل إلهي، بل هي تعود لفطرة بيولوجية محضة، ويعزو للطفل «نظرية فطرية « لـكي يصف بذلك « الاستعداد الفطري» للطفل لتعلم لغة ما. هذا الفهم المتعلق بالقدرة الإبداعية للغة، هي ما تميّزه عن الحيوانات، وتجعل ابناء اللغة الواحدة قادرين على انتاج وفهم عدد كبير غير محدود من الجمل التي لم يسمعوها قط، ولم ينطق بها احد من قبل، وهذا ما يجعل كل متكلم قادر على الإنتاج في لغته، صياغات لم يسبق له سماعها. وهكذا نقول عنه إن لديه كفاية، أي لديه معرفة إجرائية (عملية) بالبنى اللغوية. إن هذه الكفاية هي التي تمكن المستمع من القدرة على القول بشكل فوري، ما إذا كانت هذه الجملة التي يسمعها لأول مرة صحيحة لغوياً أم لا، حتى وإن لم يكن بمقدوره ذكر السبب. وما يقوله تخفف من حضور اللغة بوصفها نزعة صورية (شكلية) تهتم بتحليل نسق اللغة المكتوبة أو المنطوقة، ويجعل المهم من اللغة دائمًا هو الإنسان المتكلم، الذي يأخذنا إلى المفكر.
المحور الثالث: نقد الفكر اللساني في الغرب
السؤال الثامن: هل يمكن القول إن البحث في اللسانيات في الوقت الحاضر يعتبر انقلابًا على البحث الفلسفي الميتافيزيقي؟ واختزال التفكير في اللغة بعناصرها الكلامية دون الخوض في تحقيق البعد التجريدي للفكر؟
في السياق العام يمكن النظر إلى هذا الموضوع من هذه الزاوية خاصة في البدايات الأولى، ولكن هذه الحدة ما لبثت أن تراجعت مع التطور الذي طرأ على فلسفة اللغة واللسانيات، نرى بوادرها مع فيتجنشتاين الذي كان يرى أنّ الفلسفة لا تستطيع أن تنقد الدين نقدًا ذا صلة بالموضوع، بل يمكنها فقط أن تعرض لنا طريقة عمل الخطاب الديني وأسلوب اشتغاله، أي أنّها تدرس الخصائص المنطقية للأنظمة الشكلية بمعزل عن أي دراسة محتوى قد يُعطى لتلك الأنظمة، حيث يقوم الفيلسوف بدراسة منطق اللغة الدينية بمعزل عن أي استخدام قد يُعطى لتلك اللغة كالمسيحية على سبيل المثال. وبالتالي، تتعامل الفلسفة مع الدين كما تتعامل مع الأخلاق، أو كما تتعامل فلسفة العلم مع العلم، أو كما هو الحال بالنسبة للغة الفوقية لنظام رسمي بالنسبة للغة المستخدمة داخل النظام نفسه، أو كما هو الحديث عن استخدام تعبير ما بالنسبة للاستخدام الفعلي لذلك التعبير، أو كما هي دراسة قواعد اللغة بالنسبة للغة نفسها، فالفلسفة لا تدخل في أصل الإعتقاد الدينيّ، ولكنّها تتعامل مع اللغة التي تستخدم فيه، وهي لا شك لها معناها الخاص في البيئة التي يتواجد فيها مُخاطِب ومُخاطَب يتكلمون اللغة نفسها. هذا، ويعتبر برايثوايت إن الأقوال الدينية ليست أقوالاً عن حقائق تجريبية، ولا فرضيات علمية، ولا افتراضات ضرورية. ومع ذلك، فإن هذا لا يعني أنها بالتالي لا معنى لها، كما أن كون الأقوال الأخلاقية لا تتعلق بحقائق تجريبية لا يعني أنها لا معنى لها. والواقع أن الأقوال الدينية تشبه الأقوال الأخلاقية من حيث أنها تعلن عن نية التصرف بطريقة معينة، فهي كما يقول برايثوايت «إعلانات في المقام الأول عن الالتزام بسياسة عمل، إعلانات عن الالتزام بأسلوب حياة»، أسلوب حياة «محبة الله» كما يسميه.
دون شك أنّ اللسانيات تعتبر انقلابًا على البحث الميتافيزيقي الفلسفي، ولكن هذا لا يعني بالضرورة الذهاب باتجاه رفض الألوهة، إنّما نقطة الانطلاق لديهم تتعلق في شكل اللغة التي تستخدم، والتي لا بد من أن تصف أمرًا محدودًا، وهذا من الأمور المحالة بسبب محدودية العقل، التي تقتضي حضور الشيء أمام الحواس لمعرفتها ووصفها. ولكن مع ذلك لا يمكن الحديث عن رفض الميتافيزيقا بذاتها، فهم في هذه النقطة يشبهون المتصوفة الّذين أنكروا معرفة الله بذاته، وقالوا بإمكانية ذلك عبر تجليات الأسماء والصفات. هذا ويعترف الفيلسوف هير بأن الاعتقاد الديني ينطوي على «الإيمان بحقيقة بعض المقولات الواقعية»، لكنّه يقول إنّ هذه الحقائق التي يتعامل معها الخطاب الديني هي «حقائق تجريبية عادية تمامًا». ما يجعلها «ديني» هو حقيقة أن: «طريقة عيشنا كلها منظمة حولها؛ لها بالنسبة لنا قيمة، ملاءمة، وأهمية، والتي لن تكون لها أهمية إذا كنا ملحدين». ومن ثم فإن موقفنا من الحقائق التجريبية هو الذي يتم التعبير عنه في الأقوال الدينية. ومع ذلك، يذهب هير إلى القول بأن التمييز بين الحقائق والمواقف ليس بالتأكيد تمييزًا واضحًا، لأنه حتى اعتقادنا بوجود حقائق موضوعية مستقلة عن تصرفاتنا هو في حد ذاته نتيجة موقف. وكما يقول هير «لا يوجد تمييز بين الحقيقة والوهم بالنسبة لشخص لا يتخذ موقفًا معينًا من العالم». ثم، من الغريب أن هير يقترح، جزئياً على الأقل، أنّ الإيمان المسيحي هو طريقة للتعبير عن تلك المواقف «الميتافيزيقية» التي على أساسها وحدها تكون تجارتنا المعرفية مع العالم ممكنة.
السؤال التاسع: هل يمكن القول بأن المسلمين والعرب في عصورهم الذهبية كانوا يمارسون بحثًا لسانيًا في النحو والصرف وعلم الاصول والفقه؟ وما هي برأيكم أهم الدواعي والعناصر للبحث الإسلامي اللساني؟
عرف التراث العربي قدرًا هائلاً من الدراسات والأبحاث التي تلتقي في بعض ما ذهبت إليه مع ما انتهت إليه الألسنية الحديثة. ومن أهمّ هذه الدراسات نذكر أصوات اللغة العربية من الناحية الفيزيولوجية التي عالجها كل من الخليل بن أحمد الفراهيدي، وسيبويه. أما تراكيب اللغة فقد اهتم بها النحاة اهتماماً فائقاً وعلى رأسهم الخليل بن أحمد وسيبويه والكسائي، والفراء وابن يعيش وغيرهم. وفي علم الدلالة والمعاني نجد البلاغيين قد درسوا اللغة في إطار البلاغة، واشتهر من بين البلاغيين الجرجاني والسكاكي، والخطيب القزويني وأبو هلال العسكري، وغيرهم.
فالتراث العربي الإسلاميّ لم يهمل الجانب اللساني، لذلك سنرى بدأت المساهمات العملية به في فترة مبكرة ولأسباب تتعلق بالنص الديني وتفسيره، فالإسلام الذي يمتاز بطبيعته النصية، دفعت المسلمين للاهتمام باللغة باعتبارها لغة التنزيل، ولذلك انصبت جهودهم في كشف أسرارها ودراسة خصائصها، وجرتهم هذه الدراسات إلى بروز عديد من القضايا ذات الصلة بفقه اللغة لعلّ أهمها على الإطلاق قضية أصل اللغة بين القول بالتوقيف والقول بالاصطلاح والتواضع، الذي انطلق الكلام فيه من خلال كتاب «الخصائص» لابن جني الذي تناول هذه القضية في «باب القول على أصل اللغة أإلهام هي أم اصطلاح»، وقد مال ابن جني إلى القول بوحيانيتها، وفي الكتاب نفسه، عالج ابن جني جملة من القضايا المتعلقة بمعاني الألفاظ وتعليل الظواهر اللغوية واختلاف اللغات وغيرها. ونجد الجرجاني يطرح العديد من القضايا اللغوية الدقيقة يستند إلى آي القرآن الكريم، وفي خضم كلّ ذلك يعرض لها بالتفسير والبيان، وفي ثنايا ذلك يطرح العديد من القضايا التي اشتغل عليها الفكر اللساني المعاصر، ففي معرض حديثه عن الخبر بين الفعلية والاسمية نجده يولي عناية خاصة بقضية أثر المعنى في التحليل اللغوي، وهذا ما يتوافق مع نظريات اللغوية المعاصرة التي تضع المعاني في الدرجة الأولى أثناء التحليل.
هذا، وعمل الجاحظ على اظهار أنّ كلام الإنسان لا يمكن اختزاله في كونه مجرد القدرة على استعمال الصوت الطبيعي في الصياح لأن حيوانات كثيرة تتمتع بأصوات تشبه صوت الإنسان بمقادير متفاوتة، ولِيّصيرَ هذا الصّوتُ لغةً لابد أن تكتمل فيه شروط أسماها الحاجات والعقول والاستطاعات. فالجاحظ يريد أن يؤكد في هذا المضمار أن اللغة لا تتمظهر في مخارج حروفها بل تمثلها قدرة إنسانية مفكرة عاقلة ومبينة عن الحاجات البشرية في مجتمع إنساني.
-------------------------------------
[1]. world intuition
[2]. weltanschauung