البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

مراجعة كتاب: اللغة ومشكلات المعرفة

الباحث :  ادارة التحرير
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  37
السنة :  شتاء 2025م / 1446هـ
تاريخ إضافة البحث :  April / 19 / 2025
عدد زيارات البحث :  228
تحميل  ( 656.388 KB )
معلومات النشر:
اسم الكتاب: اللغة ومشكلات المعرفة
المؤلف: نعوم تشومسكي
الناشر: دار توبقال
مكان النشر: الدار البيضاء
سنة النشر: 1990
عدد الصفحات: 294

الفصل الأول: إطار للمناقشة
يذكر تشومسكي في هذا الفصل من الكتاب أن مساعيه تصب على محاولة تبيين نوع المشكلات التي تهتم بها دراسة اللغة أو ما يهتم به أحد الاتجاهات الكبيرة في داخلها. ويتميّز هذا السياق بمظهرين؛ أوّلهما: تقاليد الفلسفة الغربية والدراسة النفسية اللتان تهتمان بفهم طبيعة الإنسان الأساسية، وثانيهما المحاولة التي تبذل في إطار العلم المعاصر لتناول المسائل التقليدية في ضوء ما نعرفه الآن أو ما نأمل أن نعرفه عن الكائنات الحية والدماغ.
ثم إن هناك أسبابًا عديدة كانت اللغة من أجلها وستظلّ ذات أهمية خاصة لدراسة الطبيعة البشرية. ومن تلك الأسباب أنه يبدو أن اللغة واحدة من الخصائص المقصورة على النوع الإنساني في مكوِّناتها الأساسية، وهي جزء من إعدادنا الأحيائي البيولوجي المشترك فيه أعضاء النوع الإنساني إلا قليلًا، يضاف إلى ذلك أن اللغة تدخل بطريقة جوهرية في الفكر والفعل والعلاقات الاجتماعية.
وقد فهم علماء اللغة والفكر البارزين النحو الفلسفي أو النحو العام أو النحو الكلي أنه العلم الاستنباطي المهتم بالمبادئ العامة غير المتغيرة للغة المحكية أو المكتوبة، أي المبادئ التي تكوِّن جزءًا من الطبيعة البشرية الواحدة، وهي التي تمثل المبادئ التي توجِّه العقلَ الإنساني في أثناء عملياته الفكرية.

وأما الأسئلة المحورية التي تدور حولها الأبحاث اللسانية بحسب تشومسكي فيه:
ما نظام المعرفة اللغوي هذا؟ أيْ: ما الذي يوجد في عقل / دماغ الذي يتكلم الإنجليزية أو الأسبانية أو اليابانية؟
كيف نشأ نظام المعرفة هذا في العقل / الدماغ؟
كيف تستعمل هذه المعرفة في الكلام أو في الأنظمة الثانوية مثل الكتابة؟
ما العمليات العضوية التي تكوِّن الأساسَ المادي لنظام المعرفة هذا، ولاستعمال هذه المعرفة؟
وهذه الأسئلة قديمة، وإن لم تكن تصاغ بالصورة التي أوردت، فقد كان السؤال الأول الموضوعَ الرئيس للبحث في النحو الفلسفي خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر.

أما السؤال الثاني، فهو حالة خاصة ومهمّة مما يمكن أن نسميه بمشكلة أفلاطون، وهذه المشكلة كما صاغها الفيلسوف البريطاني برتراند راسل في أعماله الأخيرة: كيف يمكن لأفراد النوع البشري أن يَعرفوا ما يَعرفونه على الرغم من قِصَر تجربتهم مع الكون ومحدوديتها؟ فمن الصور الحديثة التي يمكن أن يصاغ بها هذا الاقتراح أن يقال إن بعض مظاهر معرفتنا وفهمنا خصائصُ فطرية من إعدادنا الأحيائي المحدَّد بالوراثة، وأن هذه الخصائصُ جزء من طبيعتنا المشتركة التي تجعل من اللازم أن تنمو لنا أرجل وأذرع بدلًا من أجنحة.

ويمكن أن يجزّأ السؤال الثالث إلى مظهرين، هما: مشكلة الإدراك ومشكلة الإنتاج، فتتعلّق مشكلة الإدراك بالكيفية التي نفسِّر بها ما نسمعه أو ما نقرأه، وهو أمر ثانوي سوف أتجاهله هنا، وتتعلق مشكلة الإنتاج التي هي أكثر غموضًا بالسبب الذي يجعلنا نقول ما نقول. ومن الممكن أن نسمّي المشكلة الأخيرة «المظهر الإبداعي لاستعمال اللغة»؛ ولذلك فإن المتحدّث في الحالات السوية لا يقوم بتكرار ما سمعه، بل ينتج أشكالًا لغوية جديدة.

أما السؤال الرابع فجديد نوعًا ما؛ بل هو ما يزال يلوح في الأفق. وتقع الأسئلة الثلاثة الأولى في حدود مجال اللسانيات وعلم النفس؛ وهما موضوعان لا أُميِّز بينهما، أي أنني أنظر إلى اللسانيات أو على وجه الدقّة تلك الجوانب من اللسانيات التي أهتمّ بها هنا على أنها ذلك الجانب من علم النفس الذي يهتم بالمظاهر الخاصة لهذا الموضوع، وهي التي تبيَّنت في الأسئلة الثلاثة الأولى.
وإذا ما استطاع اللساني أن يقدم إجابات عن الأسئلة الثلاثة الأوَل، فإن العالم المختصّ في دراسة الدماغ يستطيع حينئذ البدء في دراسة العمليات المادية التي تشي بالخصائص التي أظهرتْها نظريّة اللساني المجرَّدة، أما في غياب هذه الإجابات عن تلك الأسئلة، فإن المهتمين بدراسة الدماغ لن يعرفوا ما الذي يجب عليهم البحث عنه؛ فبحثهم في هذا الوجه أعمى.

ثم ينتقل بعد ذلك لإثبات أن لدينا بعض المبادئ العامة، كمبدأ تكوين الجملة السببية، وغيرها من التراكيب المدمجة، والمبدأ الذي يمنع توالي عبارات الجر، وبعض المبادئ التي تسمح ببعض الاختلاف في التأويل، كخصيصة الجملة المدمجة. وإلى جانب ذلك هناك بعض القواعد التي تنطبق في المستوى السفلي في النحو التي تميِّز اللغات المتشابهة جدًّا، فنقول إن متكلّمي هذه اللهجات الأسبانية، وهي لغات مختلفة، لكنها قريبة الشبه بعضها ببعض يعرفون هذه الحقائق من غير أي تدريب أو تجربة. وبما أن اللهجات تختلف في ما بينها، فلا بد أن يكون هناك احتمالات للاختلاف يَسمح بها الإعداد الفطري الثابت، حيث تحلُّ هذه الاحتمالات عن طريق التجربة؛ ويَصدق الشيء نفسه بصورة عامة على اللغات.

غير أن جوانب كثيرة من اللغة تظل مطّردة، وهي محدّدة باستقلال تام عن التجربة، فليست الحقائق اللغوية العامة إلا جزءًا من المعرفة التي تنمو في عقل/ دماغ الطفل الذي يَنشأ في محيط يَستعمل لغة معينة، وهي حقائق يعرفها لأن العقل الإنساني يَعمل بهذه الطريقة. فُتبين خصائص هذه التعبيرات عن مبادئ العمل العقلي التي تكوِّن جزءًا من الملكة اللغوية البشرية. أما ما عدا ذلك، فلا يوجد أي سبب لأن تكون الحقائق على الصورة التي هي عليها. ومن أهم الحقائق التي تلفت النظر في اكتساب اللغة عند الطفل الدقة الفائقةُ التي يقلِّد بها كلامَ من حوله، فمن الواضح أن الطفل يسمع، من غير وعي بالطبع، التفاصيلَ الصوتية الدقيقة التي ستصبح جزءًا من معرفته اللغوية، وهي التفاصيل التي لن يكون باستطاعته الإحساس بها عندما يكبر.

الفصل الثاني: منهج البحث في اللسانيات الحديثة
يذكر تشومسكي في هذا الفصل أن العقل/ الدماغ الإنساني نظام معقَّد يدخل في تركيبه أجزاء متفاعلة متعددة، أحدها الجزء الذي يمكن أن نسميه بالمَلَكة اللغوية، ويبدو أن هذا النظام الفريد في خصائصه الأساسية مقصور على النوع الإنساني وعامٌّ في أعضائه.
فإذا افترضنا أننا وضعنا طفلًا يَمتلك الملكةَ اللغوية الإنسانية، بحيث تكون جزءًا من إعداده الفطري، في بيئة يتكلم أعضاؤها الأسبانية، فسوف تنتقي الملكة اللغوية لديه المادَة اللغوية ذات الصلة من بين الوقائع التي تحدث في هذه البيئة، ويقوم الطفل مستعيًنا بهذه المادة الأولية، بصورة تحدِّدها البنية الداخلية لها، بصياغة لغة بعينها، أي الأسبانية.

وُتكوِّن اللغةُ عند هذا الحد واحدًا من الأنظمة المتعددة للمعرفة التي استطاع الطفل اكتسابها، أي أنها أصبحت واحدًا من الأنظمة المعرفية لديه.
هكذا ينظر تشومسكي إلى اللغة والملكة اللغوية، وعكس ذلك ما نجده في الاستعمال العادي حين نتكلم عن اللغة لا يكون في أذهاننا إلّا أنّها نوع من الظاهرة «الاجتماعية»، أيْ أنها خصيصة يشترك فيها أعضاء جماعة ما، لكن السؤال هو: ما الجماعة اللغوية هذه؟ وليس هناك إجابة واضحة عن هذا السؤال.

فالمصطلح «لغة» كما يُستعمل في الاستخدام اليومي يتضمن عوامل سياسية اجتماعية ومعيارية غامضة.
ومن الممكن أن نقوم بدراسة اللغة في أبعادها السياسية الاجتماعية لكنَّه لا يمكن أن يقام بهذه الدراسة إلا بعد أن نفهم فهمًا وافيًا خصائصَ اللغة ومبادئها بالمعنى الضيق، أي بالمعنى النفسي الفردي. فالأطفال لا يخطئون في مثل هذه الأشياء، وهم لا يتلقون أي تصحيح أو تدريب بشأنها. وبالطريقة نفسها، لا يوجد هناك نَصٌّ مكتوب موجَّه لتعليم اللغة الأسبانية مثلًا؛ لهذا كلِّه فإنّ النتيجة الممكنة الوحيدة التي سيلجأ إلى استنتاجها هي أنَّ هناك مبدأ فطريًّا من مبادئ العقل/ الدماغ لهذه الملكة اللغوية.

لكن السؤال هنا هو: لماذا يختار الطفل من غير أن يخطئ القواعد المعتمدة على البنية، وهي الأكثر تعقيدًا من الناحية الحوسبية في اكتسابه للغة واستعمالها، ولا يختار القواعد الخطية الظاهرة الأكثر سهولة؟ فهذه إذن خصيصة من خصائص الملكة اللغوية الإنسانية وليست خصيصة عامة للأجهزة العضوية أو العمليات العقلية.

فالملكة اللغوية مُكوِّن من مكونات العقل / الدماغ، أي أنها جزء من الإعداد الأحيائي للإنسان، فإذا قُدِّم للطفل، أو على الأدق، قدِّم لملكته اللغوية، المادَة الأولية فسيكوِّن لغة ما، أي أنه سيكوِّن نظامًا حوسبيًّا من نوع معين يعطي تمثيلات بنيوية للتعبيرات اللغوية تحدِّد أشكالَ هذه التعبيرات ومعانيها. ومهمة اللساني هي أن يَكتشف طبيعة العناصر الموجودة في المادة الأولية والملكة اللغوية واللغة، إضافة إلى التعبيرات المركبة التي تحدّدها اللغة.
وُتسمى النظريّة التي تعالِج الملكةَ اللغوية، أحيانًا، ب«النحو الكلِّي»، وهو استعمالٌ لمصطلح تقليديٍّ في برنامج بحثٍ تختلف أهدافه نوعًا ما. فيحاول النحوُ الكلي صياغة المبادئ التي تدخل في عمل الملكة اللغوية. ونَحوُ اللغة المعينة تفسيرٌ لحالةِ الملكةِ اللغوية بعد أن قدِّمت لها مادُة التجربة الأولية، أما النحو الكلي فتفسيرٌ لحالة الملكة اللغوية قبْل أن تقدَّم لها أي مادة.

الفصل الثالث: مبادئ بنية اللغة 1
في هذا الفصل يحاول تشومسكي على مستوى التفسير أن يبيِّن النظامَ الثابت غير المتنوع الذي نستطيع حرفيًّا أن نشتقَّ منه اللغاتِ الإنسانية المختلفة الممكنة، ويَشمل ذلك اللغات الموجودة فعلًا وكثيرًا غيرها. وذلك حين نضع المتغيرات في أوضاع مسموح بها ونبين خصائص التغييرات اللغوية التي تتْبع من وضْع هذه المتغيرات. فبوضعنا لهذه المتغيرات بطريقة مّا نشتقّ خصائصَ اللغة الهنغارية، وبوضعنا لها بطريقة أخرى نشتق خصائصَ لغة الأسكيمو وهكذا.
فيسمح النحو الكلِّي بعدد من المقولات التي تدخل تحتها الألفاظ المعجمية، وهي أساسًا أربعة: الأفعال (ف)، والأسماء(س)، والصفات(ص)، وحروف المعاني(ح)، سواء أكانت سابقة أم لاحقة لعباراتِ فضلتِها، وقد يكون لهذه المقولات تركيب داخلي، وهو أمر سنتجاهله هنا، وَتدخل عناصرُ المعجم الأساسية في إطار هذه المقولات الأربع، وإن كان هناك مقولات أخرى إلى جانبها.
ومبادئ النحو الكلي جزءٌ من البنية الثابتة في العقل/ الدماغ، ويمكِن أن يُفترض أنَّ مثل هذه المبادئ تعمل بشكل فوْريٍّ خالص.

وهناك مبدأ عامٌّ قويٌّ في النحو الكلي يسمى «مبدأ الإسقاط»، وهو المبدأ الذي يوجب المحافظة على خصائص كلِّ وحدةٍ معجمية في مستويات التمثيل كلها. فيَقضي هذا المبدأُ، وهو مبدأ يَشهد لوجوده عدد كبير من الأدلة المتنوعة، أن خصائص الفعل لا بدّ أن تمثَّل في المستويات كلها.
كما أن من الحقائق اللافتة للنظر أنَّ البنية المنطقية الطبيعية تمثَّل بشكل مباشر في التمثيل العقلي الذي يكوِّن الأساسَ للتعبيرات الحقيقية للغة. ويَجدُر التذكيرُ بأن هذا ليس أمرًا لازمًا من وجهة النظر المنطقية، فمن الممكن أن نكوِّن لغات تعمل بصورة مختلفة جدًا، لكنها تفي بالوظائف التي تقوم بها اللغةُ الإنسانية تمامًا، ومع ذلك لن تكون هذه اللغات لغاتٍ إنسانية. فيَعمل العقلُ الإنساني بطريقته المحدَّدة، حيث يَصوغ تمثيلاتٍ عقلية تعكس بصورة مباشرة بنى بعضِ الأنظمة المنطقية المحدَّدة.

الفصل الرابع: مبادئ بنية اللغة ٢
العقل يَستعمل مبادئَ النحو الكلي العامة وبعضَ القيم المحدَّدة للمتغيرات بالإضافة إلى معاني الكلمات المعينة، وهذه المصادر كافية لضبط شكل كل جملة ومعناها. وتتم الحوسبة بصورة فورية وهي غير شعورية ولا يمكن سَبْرها بطريقة واعية أو بالتأمل الاستبطاني.

فإذا كانت اللغاتُ جميعُها متشابهة أساسًا في طبيعتها الأساسية العميقة نتوقَّع أن يَكون في الأسبانية والإنجليزية نظامٌ للحالات الإعرابية من هذا النوع العام، ولمّا كانت النهايات الإعرابية لا تظهر عَلًنا فلا بدّ أن َتكون حاضرًة في العقل، لكنَّها لا تنتج بالصوت أو تسمع بالأذن. وهناك دليل على أن هذا الاقتراح صحيح.
ويبدو أن العقل يَقوم بعمليات حوسبية دقيقة، مُسَتعملًا تمثيلاتٍ عقلية دقيقةً محدَّدة لكي يصل إلى نتائج محدَّدة عن أمور حقيقيةٍ لا تقلُّ تعقيدًا، وذلك من غير إعمال فكر أو تأمّل. وُتكوِّن المبادئ التي تحدِّد طبيعة التمثيلات العقلية والعمليات التي تطبَّق عليها جزءًا رئيسًا من طبيعتنا المحددة أحيائيًّا. كما تكوِّن هذه المبادئ الملكة اللغوية الإنسانية التي يُمكِن أن يُنظر إليها على أنها عضو من أعضاء «العقل/ الدماغ». وحين تبيِّن الدارسة خصائصَها المدهشة، سنكون أكثرَ قدرة على حلَّها وأن نفهَم أيضًا، ولو جزئيًا على الأقل، كيف أننا نستطيع أن نستعمل اللغة في حياتنا اليومية بالطريقة التي نستعملها بها، ذلك على الرغم من أن المشكلة التي يَخلُقها الطابعُ الإبداعي لاستعمال اللغة ما تزال تنتظر البحث فيها.

الفصل الخامس: النظرة البعيدة: الآفاق الجديدة لدراسة العقل
تعلُّم اللغة هو تلك العملية التي تُعَيَّن بها قيَمُ المتغيرات التي لم يَحسمْها النحوُ الكلي، أي أنها العمليةُ التي توضع بها المفاتيحُ في وضع يَجعل الشبكة تبدأ عملَها.
فلا بد لمتعلِّم اللغة أن يَكتشف الوحدات المعجمية للغة وخصائصَها، ولا تزيد هذه المهمة فيما يبدو عن كونها محاولة لتعيين الأسماء التي تستعمَل للمفاهيم الموجودة لديه من قبْل. وتبدو هذه كأنها نتيجة غير واقعية، لكنْ الواضح أنها صحيحةٌ أساسًا على الرغم من ذلك. فليس اكتساب اللغة شيئًا يَعمَله الطفلُ في واقع الأمر؛ بل هو شيء يَحدُث له إذا ما وُضِع في بيئة ملائمة.

وهو أمر يُشِبه نموَّ جسِم الطفل وُنضْجه بطريقة محدَّدة مُسبًقا حين يقدَّم له غذاءٌ ملائم وبيئة حافزة. ولا يعني هذا أن البيئة لا تسهم بشيء فيه، فهي التي تحدِّد الطريقة التي تثبَّت بها متغيرات النحو الكلي، وذلك ما ينتج عنه لغات مختلفة.
تقدم فيما سبق الكلامُ عن جانب الإدراك، وبقي جانب الإنتاج، وهو ما يسمى بمشكلة ديكارت، أي المشكلة التي تنشأ عن المَظهر الإبداعي لاستعمال اللغة، وهو مظهر عادي ومعروف، لكنه ظاهرة فريدة، فيوجِبُ أنْ يَفهَم إنسانٌ ما تعبيرًا لغويًا معيَّنًا أنْ يَتعرَّف عقُله / دماغه الشكلَ الصوتي لهذا التعبير، والكلمات التي يتكوَّن منها، وأنْ يَستعمِل مِنْ ثمَّ مبادئَ النحو الكلي وقيِمَ المتغيرات له تمثيلًا بنيويًّا ويحدِّد الكيفيةَ التي تربَط بها أجزاؤه لكي يُسْقِط.

وأَحدُ جوانب المشكلة في بحث هذا الموضوع أنَّ التجريب على بنى الإنسان مُستَبعدٌ لأسباب خُلقية، فنحن لا نرضى أن يَكون الناس موضوعًا للتجريب، وهو ما نرضاه للحيوان، سواء أكان ذلك بحق أم بغير حق؛ لذلك لا يُنشَّأ الأطفالُ في بيئة متحكَّم فيها من أجل أن نرى ما اللغة التي سيَكتسبونها تحت ظروف متعددة مصوغةٍ تجريبيّا. كما أننا لا نسمح للباحثين أن يَغرسوا أقطابًا كهربائية في الدماغ الإنساني من أجل أن نَدرس عملياتِه الداخلية أو أن نفصِل أجزاءً منه جراحيًا لكي نعرف الأثرَ الذي سيَنتج، وهو ما يُفعَل كلَّ يوم في غير الإنسان.
لِنعد الآن إلى مشكلة ديكارت، أي مشكلة الكيفية التي تستعمَل بها اللغةُ على الصورة الإبداعية الطبيعية التي وصفتها سابقًا. وينبغي أن نلاحظ أنني لست مهتمًا هنا باستعمال اللغة التي لها قيمة جمالية حقيقية، أي ذلك الذي نسمِّيه إبداعًا حقيقيًّا، أمّا الذي اهتم به هنا فشيء عادي جدًّا: أي الاستعمال العادي اليومي لِلغة بما يُصاحبه من خصائصها المميَّزة كالجِدَة والتحرّر من تحكُّم المثيرات الخارجية أو الحالات الداخلية، والانسجام، وملاءمة المقامات، وقدرتِها على إثارة الأفكار الملائمة لدى السامع.

فمما يَتَّصف به الإنسان أنه يمكِن أنْ يُدرك بوساطة التأمُّل أنَّ له عقلًا يَختلف بقدر كبير في خصائصه عن الأجساد التي يتكوَّن منها العالَم المادي.
فإذا أَقنَعتْنا هذه التجارب بأن كائًنا معينًا يتَّصف بالمظهر الإبداعي لاستعمال اللغة، فسيكون من غير المنطقي أن نَشكَّ في أن لهذا الكائن عقلًا مثل عقولنا.
ويتوجّب علينا إنْ أَردنا تفسيرَ حقائق الكون التي لا تَخضع لاحتمالات التفسير الآلي أنْ نبحث عن مبدأ آخر غير آليّ، وذلك المبدأ هو ما يمكن أن نسميه بمبدأ الإبداع.
فإذا كان صحيحًا أن المبادئ الآلية ليست كافية لتفسير بعض الظواهر، فإنّنا مُلزَمون بأن نبحث عن مبادئ أخرى لكي نفسِّرها.

ونحن لسنا ملزَمين بأن نقبل بالميتافيزيقيا الديكارتية التي توجب افتراض «جوهر ثان»، أي «جوهرٌ عاقل» يَتميز بأنه غير مختلف، وليس له مكوِّنات أو أجزاء متفاعِلة، وأنه مَقرُّ الوعي وهو ما يفسِّر «وحدة الشعور» وعدم فناء الروح. فهذا كلُّه ليس مقنِعًا ولا يقدِّم إجابة حقيقية عن أيّ واحدة من المشكلات التي طرحناها.
وَتتعدَّد الأدلة التي تبيِّن وجاهة الافتراض بأن ما يَحدث في النمو العقلي يُشبه ما يَحدُث في النمو العضوي، بل يَجب أن يَكون الأمر كذلك إن كنّا جزءًا من العالَم الطبيعي حقًّا. وإذا كنا كذلك، فإنه يَلزَم عنْه أننا نستطيع معالجة بعض المشكلات بيسر، كتعلُّم اللغة الإنسانية مثلًا. أما بعضُ المشكلات الأخرى التي ليست «أصعب» ولا «أسهل» منها بأيِّ معنىً مطلق مفيدٍ، فسَتكون بعيدًة عن متناولنا، وسيَكون بعضُها الآخر كذلك إلى الأبد.

ملاحظات نقدية
يعتمد تشومسكي في مقاربته لموضوعه الأساسي، وهو فطرية الملكة اللغوية، على قضية استبعاد التفسير الميتافيزيقي للعقل، ونقصد بالتفسير الميتافيزيقي التفسير التجريدي المرتكز على البعد المتجاوز لعالم المادة، فعندما يصل على سبيل المثال إلى البحث عن الإبداع اللغوي يقول: «إذا كان صحيحًا أن المبادئ الآلية ليست كافية لتفسير بعض الظواهر، فإننا مُلزَمون بأن نبحث عن مبادئ أخرى لكي نفسِّرها.

ونحن لسنا ملزَمين بأن نقبل بالميتافيزيقيا الديكارتية التي توجب افتراض «جوهر ثان»، أي «جوهرٌ عاقل» يَتميّز بأنه غير مختلف، وليس له مكوِّنات أو أجزاء متفاعِلة، وأنه مَقرُّ الوعي، وهو ما يفسِّر «وحدة الشعور» وعدم فناء الروح. فهذا كلُّه ليس مقنِعًا ولا يقدِّم إجابة حقيقية عن أيّ واحدة من المشكلات التي طرحناها.
وبغض النظر عن خصوصية الميتافيزيقيا الديكارتية، فأصل استبعاده لاحتمال كون العقل جوهرًا مفارقًا للمادة لمجرّد أنه أمر غير مقنع دون الإتيان بدليل يعتبر من الملاحظات النقدية التي لا بدّ أن توجّه لهذا الكتاب التأسيسي لمسائل اللسانيات الحديثة.

من الواضح أن نقطة الانطلاق التي ينطلق منها تشومسكي في بحثه هي الاستبعاد غير المبرر للبحث الفلسفي التجريدي، فهو يصرّ على القول بأن المبدأ الفطري للغة يرجع إلى البعد البيولوجي الأحيائي، وهذا عمق النظريّة التي يحاول طرحها، وفي الوقت نفسه يذكر أن الاختبارات الإمبريقية الأحيائية لهذا الأمر الغريزي المادي لم يتم القيام به، حيث يقول: «أَحدُ جوانب المشكلة في بحث هذا الموضوع أنَّ التجريب على بنى الإنسان مُستَبعدٌ لأسباب خُلقية. فنحن لا نرضى أن يَكون الناس موضوعًا للتجريب وهو ما نرضاه للحيوان سواء أكان ذلك بحق أم بغير حق. لذلك لا يُنشَّأ الأطفالُ في بيئة متحكَّم فيها من أجل أن نرى ما اللغة التي سيَكتسبونها تحت ظروف متعددة مصوغةٍ تجريبيًّا. كما أننا لا نسمح للباحثين أن يَغرسوا أقطابًا كهربائية في الدماغ الإنساني من أجل أن نَدرس عملياتِه الداخلية أو أن نفصِل أجزاءً منه جراحيًا لكي نعرف الأثرَ الذي سيَنتج، وهو ما يُفعَل كلَّ يوم في غير الإنسان. وبالتالي هو يذهب إلى التفسير المادي لقضية الابداع اللغوي لأجل قرائن يجمعها في عين استبعاده للبعد التجريدي.

في المقابل، نجد أن التفسير المادي للملكة اللغوية يواجه الكثير من الإشكالات، منها أن نفس عملية الفهم ونفس عملية انطلاق اللغة والكلام من خلفية فاهمة ومدركة للكليات والأمور التجريدية لا يمكن أن يكون أمرًا ماديًا، وبعبارة أخرى، لا شك بأن الدماغ المادي يشتمل على أثار لكل عملية فكرية ولغوية، ولكن وجود الآثار الدماغية لا يساوي أن نفس العملية الفكرية أو اللغوية هي مسألة مادية، بل إن النفس الإنسانية مجردة عن المادة ولها تأثير في عالم المادة بدءًا من الدماغ.
أما قضية الحيرة التي يطرحها تشومسكي أمام مشهد الطفل الذي يبتكر التراكيب اللغوية الجديدة دون أن يكون قد تعلّمها مما يشير – بحسبه- إلى أن هناك أمرًا غريزيًا هو هذه الملكة اللغوية، فليس صحيحًا، إذ اللغة تشتمل على أمرين:

مادة التراكيب، كالفعل والاسم والحروف
هيئة التراكيب
وإبداع الطفل ليس ابتكارًا لأمر لم يتعلّمه، بل وضع المواد في هيئات بشكل فاعلي قد تعلّمه، فإن كان قد تعلّم قضية (الفأر في البيت) وتعلم (الطفل على الطاولة)، فيمكنه أن يبدل المواد بالتراكيب المتعددة فيقول (الطفل في البيت) و(الفأر على الطاولة) فهذا ليس إبداعًا لأمر لم يتعلّمه، بل كل ذلك قد تعلّمه، والملاحظة تفيد هذا الأمر.