البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الاستغراب السلبي كتمثل للاستشراق، في اختلاف الرؤية بين الغالب والمغلوب على أمره

الباحث :  وليد نويهض
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  1
السنة :  السنة الاولى - خريف 2015 م / 1436 هـ
تاريخ إضافة البحث :  September / 20 / 2015
عدد زيارات البحث :  1706
تحميل  ( 161.784 KB )
الاستغراب السلبي كتمثّلٍ للاستشراق
في اختلاف الرؤية بين الغالب والمغلوب على أمره

وليد نويهض [1]

يقارب الباحث والمؤرخ وليد نويهض حالة الاستغراب بما هي نظير سلبي للاستشراق الغربي، وينطلق في مقاربته هذه من سؤال مركب صاغه على النحو التالي:
من أين نبدأ بقراءة الإشكالية التي ينطوي فيها عنوان هذا البحث؟ من التاريخ والاحتكاك مع الآخر أم من الوظيفة والحاجة إلى معرفة المختلف.. من المنهج والتصورات التي يتداخل فيها الخيال مع الواقع أم من المعرفة المجردة أو حقل المعرفة الاستشراقية ذاته؟ وبالتالي هل نقرأه من جهة الوافد (الغالب) من الغرب إلى الشرق أم من جهة المتلقي وهو (المغلوب على أمره)؟
هذه المقالة تقارب الإشكالية من زاوية التناظر بين ثقافة النخب العربية الإسلامية والثقافة التاريخية للاستشراق الغربي؛ الأمر الذي ولد ما يمكن تسميته بـ «الاستغراب السلبي».
«المحرر»

في مقام التعريف، وَجَبَ ان نلحظ واقعة منهجية مؤداها أن حقول الاستشراق واسعة، ومدارسه متعددة، وانماطه مختلفة، ومحطاته التاريخية متدرجة. ولأن الاستشراق الوافد من الغرب والمتلقى من الشرق هو حركة تاريخية مرتبطة بالتطورات الزمنية واختلافها، فقد اختلف في فهمه وتناقضت نصوصه. فهناك حركات استشراقية وليس حركة واحدة، وهناك «استشراقات» متعددة وليس واحداً. بدأ الاستشراق بالاحتكاك، وتطور إلى حاجة، وانتهى إلى وظيفة، ودخل الآن مرحلة الفوات الزمني في عصر لم يعد بحاجة إلى مغامر ليقرأ، ومصور ليرسم، ومرشد ليدل. فالاختراق حصل، وموضوع الهيمنة حسم لمصلحة عالم افتراضي. ودراسة الأشياء وتفاصيلها تطورت وتجاوزت العموميات السابقة وأسلوب تنميط شخصية الآخر من خلال توهمات تتخيل صورة هذا الآخر.
من الصعب إذاً، أن نلخص هذه الظاهرة التاريخية بفقرات نظرية قصيرة. فهي حقول معرفة، وتاريخها يعكس علاقة الوافد ووعيه للآخر، وفي الآن عينه يعكس علاقة المتلقي واكتشافه للقادم. لذلك لا يمكن حصر الاستشراق في نصوص مدرسية، لأنه تأسس تاريخيًّا في سياقات معرفية متضادة في أصولها وروافدها.
نختار هنا ثلاثة نماذج كتبت في فترات زمنية مختلفة، لكنها تعطي فكرة عن عصر كاتبها ونظرته إلى الأمور ومراقبته للحوادث واندهاشه باختلاف الآخر [2].

الجبرتي، داوتي ولورنس
ثلاثة نصوص كتبت في مراحل ثلاث: ­ الأول استغرابي تسيطر عليه لحظات الدهشة، كتبه الشيخ عبد الرحمن الجبرتي في «عجائب الآثار» عن حملة نابليون بونابرت الفرنسية على مصر في نهاية القرن الثامن عشر. يصف الجبرتي الحملة بانبهار ويراقبها، باستغراب، يوميًّا، ويسجل انطباعاته المباشرة عنها ويقرأ انعكاساتها ونتائجها وما جلبته من عجائب تدهش وويلات تدمر [3]. نص الجبرتي يعكس رؤية المثقف المهزوم والمغلوب على أمره ولا يستطيع أن يفعل شيئاً سوى الملاحظة والمراقبة ومحاولة تفهم الآخر والتفاهم معه لتقليل الأخطار والمضار. ويعكس نص الجبرتي أيضاً حوادث عصره ومستوى تطور مجتمعه والتدهور المخيف والمريع الذي أصاب الأمة في مرحلة كانت أوروبا تعيش لحظة صعودها التاريخي وسيطرتها العالمية.
­الثاني كتبه الشاعر والرحالة الانجليزي تشارلز داوتي يصف فيه رحلته إلى الجزيرة العربية وبلاد الشام برفقة قافلة الحجاج إلى ميدان (أو مدائن) صالح. كتب داوتي نصه بعد حصول الاختراق الأوروبي ومحاولة السيطرة على مصر وبدء التغلغل إلى المشرق العربي ومحاولة زعزعة دعائم السلطنة العثمانية في بلاد الشام. راقب داوتي الشاردة والواردة وسجل انطباعاته ويومياته في رحلته التي ابتدأت في العام 1875 وامتدت على أكثر من سنتين. وعندما انتهى منها في 1877 عاد إلى بلاده وأصدر عمله في العام 1888 في مجلدين، أحدث آنذاك ضجة كبيرة في عالم الصحافة والفكر واعتبر لتاريخه أحد أهم الأعمال باللغة الانجليزية. وأقدم المفكر أرنست رينان على ترجمته إلى الفرنسية واستقى معظم أفكاره عن عادات العرب وتقاليدهم وحياة البدو وطبيعة البداوة من نصوصه. لم يقتصر عمل داوتي على الوصف كما هو شأن الجبرتي بل لجأ في أحيان كثيرة إلى التوصيف، وتنميط شخصية العربي والاعرابي وظروف الصحراء وحياة البداوة.
­النص الثالث كتبه المستشرق والمستعرب والقائد العسكري ت. اي. لورنس المعروف بـ «لورنس العرب» وهو مقدمة الطبعة الثانية لكتاب داوتي. صدرت الطبعة الثانية في العام 1291 بإشراف لورنس بعد مرور أربعة عقود على الأولى. وأهمية الطبعة أن داوتي كان لايزال على قيد الحياة وشاهد ولاحظ ما استجد من تطورات وحوادث. تلخص مقدمة لورنس كل ما تريده عن أهمية الرحالة ودور كتاباتهم في ارشاد الدول الغازية آنذاك وتقديم معرفة ميدانية لعالم مجهول ومجبول بالأسرار والألغاز. آنذاك، في عشرينات القرن الماضي، كانت المهمة الاستكشافية قد انتهت. فالسلطنة سقطت عمليّاً ورسميّاً، وفرضت أوروبا بشقيها البريطاني ­ والفرنسي سيطرتها على بلاد الشام والمشرق العربي ودخلت المنطقة بكاملها في فترة الانتداب. فلغة لورنس لغة المنتصر الذي نجح في مهمته. لم يتردد لورنس في تبجيل كتاب داوتي وفي تقديمه بأبهى صورة. ولم يتردد في اعادة التأكيد على أهميته المعلوماتية كمرشد سياسي وأهمية رسومه وخرائطه كمرشد عسكري من حيث لا يدري داوتي أو لم يرد ذلك.
إذاً نحن أمام ثلاثة نصوص: الأول استغرابي مندهش، كتبه المغلوب على أمره الجبرتي في لحظة انتقالية فاصلة حسمت الخلل في توازن القوى وسجل مذكراته وملاحظاته عن بداية مرحلة الاختراق العسكري الأوروبي لمصر ومنطقة المشرق العربي. الثاني كتبه الغالب داوتي في لحظة بداية اختلال موازين القوى في المشرق العربي وبلاد الشام بعد السيطرة على مصر وهي المرحلة التي مهدت للهزيمة النهائية وفيها سجل داوتي ملاحظاته عن الآخر واختلافه. الثالث كتبه المنتصر والعائد إلى بلده لورنس بعد أن حسم الصراع الدولي وتم اقتسام المشرق العربي ومصر بين منطقة للنفوذ الفرنسي ومنطقة للنفوذ البريطاني.
النصوص المذكورة تضع الاستشراق كحقل معرفة ومنهج تحليل في مرتبة مجردة لا عقلانية وكحركة لا تاريخية أو فوق التاريخ. لكن الواقع يؤشر بالاتجاه المعاكس. فالنصوص هي نتاج لحظات ساهمت في ترسيم صورة الآخر في سياق رؤية ثقافية مركبة من معطيات متخالفة. لذلك لا بد من إعادة الاستشراق إلى الأرض وإخضاعه للنقد كجزء من حركة المعرفة وكنتاج لحركة التاريخ. فالاستشراق في النهاية حركة تاريخية/معرفية له خصوصيته وفي الآن له دوره ووظيفته وحاجته. وعندما نضع الاستشراق في إطار الحاجة والوظيفة والدور نستطيع آنذاك تفكيكه تاريخيّاً وتجاوزه إلى مرحلة أعلى ولا نبقى أسرى الانقسام الشكلي بين حزب مؤيد للاستشراق وحزب معارض له.

سعيد ورودنسون
عندما صدر كتاب إدوارد سعيد عن «الاستشراق» في نيويورك العام 7891 ثارت ضجة في وسط معظم المستشرقين ونعتوه بشتى التهم ردّاً على مناقشاته التي كشفت الجوانب الاستعلائية في الحقل المعرفي ـ الثقافي للاستشراق.
لم يكن كتاب إدوارد سعيد المحاولة الأولى في نقاش أفكار الحركة الاستشراقية ودحض منظومتها المعرفية. فقد سبقته الكثير من المحاولات في الهند وباكستان وتركيا والدول العربية وخصوصاً في مصر. إدوارد سعيد نجح في تفكيك آلياتها المعرفية وربطها منهجيّاً بالسياسات الكبرى ومنظوماتها الايديولوجية العامة. وكانت محاولته سابقة في قراءة الاستشراق كحركة قامت على وعي مسبق عن الآخر، الأمر الذي جعله يخوض معركته في الحقول النظرية والأدبية التي انطلقت منها.
ماذا قال سعيد في كتابه؟ يرى أن الاستشراق شكل من أشكال الاتصال بالشرق ومكانة الأخير في رؤية أوروبا. فالشرق يعني مستعمرات وثروات وممرات ومنافساً حضاريّاً ويعني أيضاً لغات وثقافات وأدياناً. فالاستشراق له وجهان: من جهة مؤسسة أكاديمية تقوم على أسلوب في التفكير أساسه التمييز الانطولوجي والابستيمولوجي بين الشرق والغرب، ومن جهة أخرى هو ساحة للتنافس الدولي ومصدر ثروة ومواقع استراتيجية [4].
قسّم سعيد حقول الاستشراق. فهناك مجالات الاستشراق وتجاربه الزمنية وموضوعاته الفلسفية والسياسية. وهناك الاستشراق الحديث الذي بدأ في القرن الثامن عشر ونشأت خلاله تصورات مشتركة بين الشعراء والفنانين والعلماء والبحاثة. وهناك الاستشراق المعاصر الذي بدأ في نهاية القرن التاسع عشر (سنة 0781 وصاعداً) وهي حقبة التوسع الاستعماري في الشرق وتنافس القوى الكبرى للسيطرة عليه، وامتدت إلى نهاية الحرب العالمية الثانية حين انتقلت الهيمنة من أوروبا إلى الولايات المتحدة.
ويرى سعيد في تلك المراحل أن الاستشراق كان حدثاً ثقافيّاً وسياسيّاً في آن، إذ كان المستشرق ينظر من الخارج، وعن بعد، إلى الآخر فتأتي كتاباته مجرد تصورات ذهنية وليس صورة طبيعية وصادقة عن الشرق. فتعدد الشرق وفق تلك المدارس والأيديولوجيات (الألسنية، الفرويدية، الداروينية، الماركسية... إلخ)، وتحوَّل الاستشراق إلى أسلوب غربي (معرفي) في السيطرة على الشرق وفي تنظيم السلطة عليه وممارستها. وأدى ارتباط المعرفة بالسلطة إلى تكوين تصور عن الشرقي في ذهن الغربي من الصعب كسره إلا بإزالة التناقض بين الشرق والغرب وإلغاء خضوع الأول للثاني.
أدى عمل سعيد إلى انقسام في صفوف المدارس الاستشراقية، فهناك من رفضه كليّاً وهناك من أيّده، وظهر فريق ثالث وافق سعيد على بعض مقدماته التاريخية واستنتاجاته السياسية لكنه تمسك بالاستشراق كمنهج معرفي مستقل وطالب بتجديده وتنقيته وتحديثه لينسجم مع الواقع المركب لعوالم الشرق.
يعتبر مكسيم رودنسون (المستشرق الفرنسي الماركسي) من الفريق الثالث الذي يرى في الاستشراق إيجابيات وسلبيات ويعتقد أن مكانة الاستشراق لم تتراجع، وهناك الكثير من المعلومات والمواد القيّمة التي يجب الاستفادة منها وخصوصاً المدارس الكلاسيكية التي وفرت جهودها الكثير من المراجع وتعتبر مصادر موثوقة للبحث والمتابعة في تطوير الاستشراق وتحديثه [5].
يرى رودنسون أن الأبحاث الاستشراقية «لها قاعدة تاريخية مشتركة» و«تطرح مشكلات مشتركة».
ويوافق على مقولة أنّ الاستشراق التقليدي اتصف بـ«التواضع المنهجي» إذ «لجأ معظمهم إلى الأفكار العامة المستلهمة من فلسفة تلك الفترة ومن وعيها الاجتماعي». ونتيجة «ظاهرة الانتقائية» سادت أنواع من التفسيرات «الرائجة في لحظة ما». فهناك مثلاً نظرة «اقتصادوية اختزالية» تقرأ ظهور الإسلام عن طريق الاقتصاد وحده كعامل حاسم لحركة التاريخ.
أدى هذا النوع من التفكير الاستشراقي، كما يقول رودنسون، إلى تكوين «معرفي محدود جدّاً» بسبب تلهف المستشرق إلى التوصل إلى «نتائج عامة». كانوا غير حذرين «في تطبيق النتائج المحدودة لهذه العلوم على مجالات معرفية واسعة» وكانت الاستنتاجات «كارثية في معظم الأحيان». كانوا يسقطون في «المثالية التاريخية» ويستخلصون بالطريقة نفسها تخيلات عنصرية في الأشياء (أشكال الجماجم، الصفات الثابتة للشعوب).
ولا يستبعد رودنسون أن تكون مثل تلك الأبحاث قد انطلقت من تصورات مسبقة، إذ «النزعة المركزية الأوروبية واضحة» في تلك الدراسات من حيث «تنصيب المجتمع الأوروبي والحضارة الأوروبية كنموذج كونيٍّ أعلَى صالحٍ للجميع». لقد احتفظ المستشرقون من القرن الثامن عشر بمفهوم الحضارات الكلاسيكية المتفوقة على الحضارات الأخرى وقام «تصور جوهراني عن الحضارات نفسها» وأيضاً «تخيلات لاهوتية مركزية».
ويعدد رودنسون نواقص تلك الفترة، منها «ارتباطها بالأفكار العامة الشائعة في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين» وأبرزها: أولوية النموذج الأوروبي وتفوقه، وجود نوع من الجوهرانية العنصرية غالباً، ونوع من المثالية الدينية غالباً. وهي أحكام مسبقة هيمنت على الأوروبيين في تلك الفترة. ويرى «أن الكثير من الأعمال الاستشراقية لتلك الفترة أُفسدت بسبب عدم تأطيرها بواسطة إشكالات علمية صحيحة أو صالحة». وهذا «لا ينفي أهمية الكمية الضخمة من المعلومات التي حصلوا عليها (...) ويمكننا استغلالها ضمن منظور جديد بعد تخليصها من الأحكام العنصرية المسبقة» [6].
ويحاول رودنسون تسويق الاستشراق الحديث بتأكيد فكرة «أن الغرب الحديث خرج كليّاً من الدوغمائية الدينية للمرة الأولى»، ويحاول أيضاً أن يفصل بين الاستشراق القديم (التقليدي) الذي انتقده بشدة، وبين الاستشراق الحديث (الجديد) بذريعة أن الغرب تغيّر. ثم يعمد إلى الدفاع عن الاستشراق الجديد اعتماداً على جهود المستشرقين السابقين «الذين هم في الغالب من الاتجاه المحافظ، لا يملكون إلا أن يشعروا بالصدمة بسبب مثل هذه التدخلات الخارجية المتطفلة على مجالاتهم المعرفية» ويبدون الاحتقار «للمجالات المعرفية الجديدة التي ظهرت حديثاً».
تعتبر محاولة رودنسون لبعث الروح في الاستشراق وإعادة إحياء منظوماته المعرفية السابقة وتراكمات جهود المستشرقين السابقين في أسلوب حديث ومناهج علمية جديدة من آخر المحاولات التي نهضت لمواجهة التحدي الذي طرحه كتاب إدوارد سعيد عن الاستشراق.
يحاول رودنسون أن يضع تفسيره الخاص لفكرة الاستشراق فهو يرى أنها بدأت انطلاقاً من الرغبة في توسيع النزعة الإنسانية التي كانت تقتصر على دراسة الحضارات الإغريقية ـ الرومانية لتشمل حضارات كلاسيكية أخرى، وهي نزعة ظهرت في القرن التاسع عشر وتشكل ردة فعل «ضد كونية القرن الثامن عشر التي كانت تركز على القيمة الكونية للنموذج الإغريقي ـ الروماني». أي أن رودنسون يرى في مسألة التوسيع مجرد نزعة معرفية مخلصة ولا يرى فيها عناصر أخرى تقوم أصلاً على الحاجة قبل حب المعرفة، والوظيفة قبل روح المغامرة. ويلاحظ أيضاً «تأثير العلاقات العملية المحسوسة التي أُنشئت مع الشرق الإسلامي» لكنه لا يقرأ مضمون تلك العلاقات المحسوسة التي وصفها الجبرتي في تاريخه لتعكس «روح» سادت فيها نزعة الخوف من الغلبة العسكرية ـ الاقتصادية وما رافقها من نظرة التفوق على الآخر الأقل تطوراً [7].

ثقافة المكان
لعب تعريف الشرق وتوصيفه الجغرافي ـ المكاني دوره المميز في رسم الصورة الذهنية عن عالم الإسلام وحدد إلى حد كبير دائرة التخيل واطرها الفكرية والثقافية خصوصاً عندما كانت العلاقة تضطرب وتنتقل من التبادل (التعارف) إلى الاصطدام والتنافس (التدافع). وضمن اطار الاصطراع المصلحي تم صوغ صورة الآخر. فالتصور بدءاً لم ينشأ من حب المعرفة وروح المغامرة فقط بل نُسج في دائرة الصراع (الصدام والتنافس) أيضاً، الأمر الذي انتج معرفة «ناقصة» و«مشوشة» و«مشوهة».
لذلك يمكن تقسيم مصادر الفكر الاستشراقي تاريخيّاً إلى أربعة تدرجت في أربع محطات معرفية:
الأولى: بعثات الحُجَّاج المسيحية إلى الأراضي المقدسة في فلسطين وكان طريقها البحري البندقية ـ يافا ـ القدس وبيت لحم ثم العودة إلى ديارها. وشكلت روايات العائدين من الحج المصادر الأولى لتركيب الصورة الذهنية عن المسلم فاختلط فيها الاسطوري بالواقعي والكذب بالحقيقة والخيال بالمشاهدات. فهي روايات منقولة ومنحولة تم تجميعها وتوارثها لتعزيز الرؤية العامة عن الآخر. واستمر خط سير بعثات الحج في السياق نفسه إلى القرن السادس عشر، بعدها تطورت رحلات الحج فأخذت تتسع لتشمل زيارات إلى مدن الشرق (مصر، سورية، سيناء، اسطنبول واليونان) في القرن السابع عشر.
الثانية: الرحالة (بعثات علمية ورسمية وشخصية) وتشمل تقارير الرحالة عن إسلام الشرق إضافة إلى بداية الاهتمام بالكنائس الشرقية واختلافها عن الغربية، وحاولت التقارير اكتشاف المناطق المجهولة وتقديم تصور للأوروبي عن العالم الآخر. وكان معظم الرحالة الأوائل من النبلاء ورجال الدين (القيادات الروحية اللاهوتية). وتركز اهتمامهم بداية على اكتشاف الأماكن المقدسة وطرق الوصول إليها ووصف عادات وتقاليد شعوب المنطقة.
في هذه الفترة شهدت أوروبا تقدمها على العالم الإسلامي وأدى التقدم الذي أحرزته القارة إلى تشجيع محاولة فك عزلتها عن الآخر المختلف والخروج من محيطها القاري إلى المناطق الجغرافية التي بدأ اكتشافها وراء البحر وفي الشرق البعيد. ولعب الرحالة دور الإثارة ودغدغة الخيال ونسج الكلام الاسطوري عن مغامراتهم. وشكلت تقاريرهم ورواياتهم (أدب الرحلات) خطوة متقدمة عن الفترة الأولى إذ تم الاحتكاك المباشر عن طريق المعايشة لا عن طريق تسقط الأخبار والتقاطها من العائدين من بعثات الحج كما كان يحصل في السابق.
الثالثة: تراجع دور النبلاء ورجال الدين المسيحيين لحساب التجار والحرفيين والأطباء والعلماء والرسامين في القرن الثامن عشر. وبرز إلى جانب هذه الفئات دور قادة الجيوش في الشرق فنشأت ظاهرة الضابط ـ الباحث حين كان يرسل تقاريره إلى وزارة دولته (الخارجية والمستعمرات) ويزودها بالمعلومات عن احوال واوضاع الشعوب الأخرى الخاضعة أو التي في طريقها إلى الخضوع (الأراضي الواقعة وراء البحار وفي الشرق). ومنذ القرن الثامن عشر بدأت تنتظم المعلومات عن أحوال ممالك المسلمين وأوضاع الجيش ونظامه وتنظيمه.
الرابعة: الوكلاء والقناصل والبعثات الدبلوماسية، وهي مرحلة تحولت لاحقاً الى سلطات انتداب (المندوبون الساميون) حين بدأت تتسع المهمات لتصل الى مراقبة الباب العالي في اسطنبول. وبات الدبلوماسي يرافقه العالم الجغرافي والرسام وعالم اللغة والفقيه (اللاهوتي) لتسجيل الملاحظات والانطباعات وارسالها الى العواصم الأوروبية. وكان القناصل، أو قادة الجيوش لاحقاً، عادة هم خبراء وعلماء ومبشرون في الآن، تم اختيارهم وتحميلهم مسؤولية إدارية للتعرف على الشعوب الأخرى الواقعة في نطاق مسؤولياتهم.
من نهاية القرن التاسع عشر إلى نهاية الحرب العالمية الثانية (نحو 08 ـ 09 سنة) برزت أسماء كبيرة في مدارس الاستشراق في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وتفرعت سلسلة اختصاصات في الدين الإسلامي والتاريخ والفقه والحديث وآداب الشعوب الإسلامية. وبدأ الاستشراق يتحول إلى نوع من الدراسات الإسلامية التي تبحث في اللغة والعمران والفنون والكتابة والرسوم والمنمنمات.
ونشأت على ضفاف جهود المستشرقين هيئات أخذت بتشكيل الجمعيات الاستشراقية والآسيوية والإفريقية والإسلامية، وبدأت بتنظيم المؤتمرات العالمية للمستشرقين (3781). وازداد الاهتمام بالدراسات الإسلامية بعد الحرب العالمية الثانية فتحوَّل إلى حقل أكاديمي لا يقتصر على المعاهد والجامعات الأوروبية بل امتد إلى المعاهد السوفياتية والأميركية والكندية وأخيراً اليابانية وصولاً إلى تأسيس «اتحاد المستعربين ودارسي الإسلاميات» في أوروبا في العام 2691.
إلى جانب هذه الجهود الخاصة والعامة كانت قد برزت «دائرة المعارف الإسلامية» بين 3191 و6391 وظهرت القواميس الإسلامية بين 5881 و2791 معطوفة على عشرات المجلات والدوريات المختصة التي صدرت في الفترة الواقعة بين 9081 و0791. وحالياً تصدر الجامعات والمجاميع العلمية المهتمة بآسيا وإفريقيا عدداً من المجلات المتخصصة بالدراسات الإسلامية. وبدأت جامعة كامبريدج بإصدار «الفهرس السنوي» في العام 8591 وغطى المجلد الأول كل المقالات الصادرة في المجلات المتفرقة في الحقبة الممتدة بين 6091 و5591 ولايزال الفهرس [8].
إذاً لم يتشكل الجانب المعرفي ويتطور في مدارس الاستشراق ومناهجه بمعزل عن السياسة والصراعات الدولية والتنافس مع المسلمين للسيطرة على الممرات البحرية وطرق المواصلات والاتصالات البرية والبحرية. ولم يكن في محطاته الزمنية الأربع بعيداً عن مناخ الاصطدام الحضاري ـ الديني ومحاولات ترتيب صورة ذهنية سلبية عن المسلم المختلف التي ساهمت المخيلة في اشباعها بالكراهية والعداء.

الوظيفة المعرفية
 أين الاستشراق الآن وهل انتهت وظيفته المعرفية وتقلص دوره التاريخي والحاجة إليه مع تطور وسائط المعرفة ووسائل المعلومات والاتصالات؟ وهل سيصبح الاستشراق مجرّد فترة من التاريخ الماضي أم سيعود إلى الظهور بحلة جديدة كما يطالب مكسيم رودنسون بذريعة أن الغرب تغير وتخلص من عقده السابقة؟
من ناحية النشأة التاريخية ليست حركة الاستشراق حركة استعمارية إلا أن أوروبا في مرحلة التوسع الجغرافي احتاجتها لمعرفة الآخر. ففكر الاستشراق هو أصلاً حركة نمت في الرد على التحدي الإسلامي أولاً ثم انتقل إلى مرحلة اكتشاف الاختلاف والتعرف عليه ثانياً. فالحركة الاستشراقية لم تطلق بقرار وإنما جاءت للرد على التحديات وفي سياق الصدام مع الإسلام. وهي في السياق المذكور تطورت تاريخياً ضمن آليات تجاذب الأنا والآخر وكان «الأنا» الأوروبي دائماً هو الأرقى والأفضل. وأدى التجاذب المذكور إلى نشوء آليات مستقلة لحركة الاستشراق أفرزت مضامين معرفية رفعت الأنا (الأوروبية) إلى الأعلى ودفعت الآخر (غير الأوروبي) إلى الأدنى، وبات الاستشراق كمعرفة نصوصية عن تاريخ الآخر أسير تلك الآليات المستقلة القابلة للاستخدام في كل الاتجاهات.
لذلك لا بد من التمييز بين الاستشراق كتاريخ (نشوء وتطور وتناقض) والاستشراق كنظرية معرفة وكمنهج تحليل لشخصية «الآخر» المختلف. تاريخ الاستشراق كحركة نشاط ذهنية (فكرية) وسلوكية (العلاقة مع المختلف) تعود إلى القرن الثاني عشر. أما الاستشراق كنظرية فهي حديثة تطورت مع التوسع الجغرافي الأوروبي (حركة الاكتشافات) في مطلع القرن الخامس عشر وتأسست كمنهج مستقل مع تطور نظريات المعرفة في أوروبا من القرن السادس عشر إلى الثامن عشر ومنه إلى عصرنا الراهن. فالاستشراق تطور منهجيّاً من الاحتكاك إلى المعرفة ومن العقلية الاسطورية الخرافية عن الإسلام والمسلمين (أخبار منقولة) إلى علم ومنهج له آليات مستقلة. وبسبب نشوء تلك الآليات المستقلة اختلفت مدارس الاستشراق.
كل هذه المروحة من المستشرقين لعبت دور البحث (الباحث) عن الآخر وتنميط صورته وتحليل شخصيته ومحاولة استكشاف مكامن قوته ونقاط ضعفه. وشكلت هذه المنظومة المعرفية المعقدة والمتنوعة نظام علاقات لتفكيك الآخر وتقديمه على مشرحة التحليل النظري والمختبري، وهو أمر خدم عن وعي (عند البعض) ولا وعي (عند البعض الآخر) الدوائر السياسية في أوروبا في مرحلة التوسع وفترة الانتقال من الاكتشافات الجغرافية إلى الاستيلاء والغلبة [9].
الاستشراق أصلاً هو تجاذب حضاري تحول تاريخيّاً إلى نظرية عمل استكملت شروطها المنهجية مع تطور علوم المعرفة في أوروبا. وبهذا المعنى تحول إلى «قوة معرفة» أخذت تؤثر سلباً وإيجاباً في تحديد اتجاهات السياسة في دوائر السلطة وفي الوقت نفسه توجه أسس التحليل عند «الأنا» لمعرفة الآخر وعند الآخر لمعرفة «الأنا».
إذاً لا يمكن فصل الاستشراق كحركة معرفة وكإيديولوجيا متخيلة عن الآخر، عن تاريخ تطور الصراع بين ما سمي بالشرق والغرب وتحديداً بين العالم الإسلامي وأوروبا. لذلك بقي الاستشراق المعاصر (الحديث) أسير اضطراب العلاقات القديمة بين العالمين إذ استمر الاستشراق القديم يلعب دوره السياسي في التأثير على مدارس الاستشراق الجديدة [10].
نجح تحديث الاستشراق، في فترة تحوله من حركة سياسية ثأرية إلى حركة معرفية عقلية، في التخلص من الكثير من الفرضيات والافتراءات والأوهام السابقة. فقد اعتمد الاستشراق السابق على نقل الأخبار من الشرق عن طريق الحجاج المسيحيين بعد عودتهم من زيارة الأراضي المقدسة (فلسطين). اما الاستشراق المعاصر فقد انتقل إلى العقل والنقد من دون أن يتخلص نهائيّاً من جوهر المرحلة السابقة، لكنه بدأ بالاعتماد مباشرة على الرحلات والاحتكاك والاستطلاع. لذلك لا يمكن القطع نهائيّاً بين نشاط الرحالة وبين تمويل المؤسسات الحاكمة أو الناشئة آنذاك في أوروبا المتطلعة للسيطرة على طرق المواصلات وشبكة التجارة والمعابر البحرية.

نقد الوافد وكشف مراميه
لم تأت محاولة ادوارد سعيد في نقد «الاستشراق» من فراغ بل جاءت في سياق تفكك آليات هذه المدرسة من التفكير في قراءة الآخر وانكشاف الصور النمطية التي تراكمت زمنيّاً سواء من خلال المراقبة أو من خلال إعادة تركيب عناصر الصورة التي تكونت سابقاً في إطار نقل الأخبار والقصص والأساطير المتخيلة عن فضاءات مختلفة من تاريخ أوروبا وثقافتها.
لاشك في أن محاولة سعيد جاءت في وقت دخلت علوم «الاستشراق» ومدارسه في أزمة معرفية تحولت إلى مأزق سياسي يتراوح جريانه بين مسافتين: الأولى، هامشية الاستقلال النسبي عن مؤسسات التمويل ومصالح الدول المسيطرة. والثانية، الفشل في كسر الصورة النمطية المسبقة عن الآخر وتجاوزها إلى تصور أكثر عقلانية وواقعية.
لذلك أحدث نقد سعيد للاستشراق ضجة كبيرة عبرت عنها ردود الفعل السلبية التي صدرت عن بعض المستشرقين. فالكتاب جاء في وقت مناسب وفي فترة بلغ فيها «الاستشراق» مأزقه التاريخي. وتشكل دعوة مكسيم رودنسون لإعادة احياء الدراسات الإسلامية والعربية وتنقيتها من مركزيتها الأوروبية وجوانبها العنصرية محاولة في سياق تجديد «الاستشراق» وتحديثه في ضوء العلوم المعاصرة وبعيداً عن فضاءات القرن الثامن عشر حينما تبلور الاستشراق في صيغته النظرية وقوالبه الثابتة.
لكن دعوة رودنسون تحمل أكثر من وجه فإذا كان المقصود تجديد «الاستشراق» بعد التخلص من نواقصه فمعنى ذلك أن وظيفة الاستشراق انتهت وتجاوز الزمن دوره. وإذا كان المقصود العودة إلى الاستشراق لتجديد دوره ووظيفته بعد الانتهاء من تنقيته من الشوائب العالقة فإن هذه المسألة تحتاج إلى نقاش بصدد الدعوة نفسها. فالمطلوب الآن ليس تحديث الاستشراق بل تجاوزه نحو دراسات مختلفة لا صلة معرفية لها بما سبق من محاولات واجتهادات وإذا تم هذا الأمر فإن مثل هذا النوع من البحوث المطلوبة لا يمكن إطلاق صفة الاستشراق عليه. وفي الحالين تكون وظيفة «الاستشراق» قد انتهت لا من الناحية المعرفية فقط بل من الناحية التاريخية أيضاً.
هذه العناصر (الوظيفة، الحاجة، والدور) شارفت على نهايتها لأن المعرفة نفسها تطورت آلياتها واختلفت تقنيًّا طرائق الحصول عليها. وباتت الخدمات التي كان يقدمها الاستشراق (المستشرق) تفقد قيمتها في عصر التطور التكنولوجي وثورة الاتصالات وشبكة المعلومات، وتقدم وسائل المراقبة والرصد.
نهاية الجانب الوظيفي، لا يعني في الآن نفسه نهاية المنهج الاستشراقي. المنهج مسألة مختلفة وهو ربما الجانب الوحيد الذي سيستمر في ساحة المعرفة يجدد نفسه في كل منعطف تاريخي كما طالب رودنسون. لقد نجح الاستشراق كمنهج معرفة في بلورة «معرفة مستقلة» وفي تكوين آليات تفكير يأخذ بها بعض أبناء الشرق أنفسهم كمسلمات نهائية ويعيدون إنتاجها سلباً وإيجاباً. وبات المنهج المذكور بحاجة إلى ثورة معرفية تكسر هيمنته وتحجم آلياته المسيطرة على تفكير شرائح معينة من أبناء العالم الإسلامي (والعربي)، وهي مهمة أصعب من الجوانب الأخرى.
إلى جانب تراجع الوظيفة هناك مسألة الحاجة. فالحاجة إلى الاستشراق تقلصت بعد أن تم الاختراق السياسي ـ الثقافي المطلوب، وبات السوق يتحكم بمفاصل الديار العربية ـ الإسلامية.
إلى جانب تراجع الوظيفة وتقلص الحاجة هناك مسألة الدهشة (المفاجأة) بالاستشراق. فهذه الناحية أخذت أيضاً تتلاشى في بيانها ومعانيها إذ لم يعد هناك ما يدهش في الاستشراق.
في السياق المذكور يمكن القول إن وظيفة الاستشراق كحاجة معرفية ودور سياسي تاريخي تقلصت وتراجعت إلى حدودها الدنيا وبدأت تدخل في مرحلة الضمور. إلا أن الاستشراق ترك بصماته كآليات مستقلة (منهج معرفة) ويحاول قدر الإمكان تثبيت موقعه من خلال الاستعداد لتجديد دوره مستفيداً من تركته السابقة خصوصاً تلك المتعلقة بمنهجية التفكير وأسلوب استقراء الحوادث واستنطاق الكتب.
--------------------------------------------
[1] مؤرخ وباحث في علم الاجتماع السياسي ـ لبنان.
[2] مناهج المستشرقين في الدراسات العربية الإسلامية (مجلدان)، مجموعة مؤلفين، إصدار المنظمة العربية للتربية والثقافة، ومكتب التربية العربي لدول الخليج، الرياض 1985.
[3] عجائب الآثار في التراجم والأخبار، عبد الرحمن الجبرتي، دار الجيل، بيروت، من دون تاريخ.
[4] الاستشراق ـ المعرفة، السلطة، الانشاء، ادوارد سعيد، ترجمه وقدم له كمال أبو ديب، بيروت، مؤسسة الأبحاث العربية.
[5] جاذبية الاسلام، مكسيم رودنسون، ترجمة الياس مرقص، بيروت، دار التنوير، الطبعة الثانية، 1998. ص 65.
[6] رودسنون ـ المصدر نفسه ـ ص 67.
[7] المصدر نفسه ص 70.
[8] Islam in European Thought, Albert Hourani, Cambridge Universtity Press.
[9] تشارلز داوتي، رحلات في الجزيرة العربية (Travels in Arabia Deserta)، ترجمة عدنان حسن، دار الوراق، 2010.
[10] الثورة في الصحراء، توماس ادوار لورنس، ترجمة رشيد كرم، القاهرة 1950.