البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

في إمكانية معرفة الغرب، ملاحظات منهجية

الباحث :  رضا داوري الأردكاني
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  1
السنة :  السنة الاولى - خريف 2015 م / 1436 هـ
تاريخ إضافة البحث :  September / 20 / 2015
عدد زيارات البحث :  4182
تحميل  ( 153.443 KB )
في إمكانية معرفة الغرب
ملاحظات منهجية

رضا داوري الأردَكانيّ [1]

يتناول البروفسور الإيراني البروفسور رضا داوري الأردَكاني في مقالته هذه نظرية «الاستغراب» كحقلٍ علميٍّ تفتقر إليه مجتمعاتنا الشرقيّة، وذلك على الرغم من شدّة الحاجة إليه. يذهب الكاتب إلى تبيين الشروط اللاّزمة لإطلاق مشروعٍ شرقي إسلامي يحمل اسم «الاستغراب». لكنه يدعو فضلاً عن ذلك إلى ضرورة التمييز بينه وبين المحاولات المجتزأة والسطحية للتعرف على الغرب، كما يبيّن بإيجاز الظروف التي أدّت إلى ظهور نظريات «الاستشراق»، محذّراً من خطر إسقاطها منهجياً على مشروع «الاستغراب» الذي ينبغي بلورته وفق مناهج مبتكرة..
«المحرر»

على الرغم من تداول مصطلح «الاستغراب»، فإنّ سبر معناه يثير الاستغراب؛ فقد ألِفنا تعبيرَي «الاستشراق» و«المستشرِق»، نتيجةَ انهمام مؤسّساتٍ متخصّصةٍ بهذَين الحقلَين في أوربا وأميركا منذ قرنَين من الزمان.
في المقابل، غابت الدراسات في مجالَي «الاستغراب» و«المستغرِب». ولعلّ من النادر العثور على مصطلح «Oxidentalism» (الاستغراب) كمقابلٍ لمصطلح «Orientalism» (الاستشراق) في أيّ معجمٍ لغويٍّ، وفي حال وجوده، فلا يشير إلى معنى «الاستغراب» المتوخّى.
لم يكتسب «المستشرِق» صفته تلك بمجرّد إحاطته ببعض المعلومات حول الشرق، بل نشأ كلٌّ من مصطلحَي «المستشرِق» و«الاستشراق» نتيجةَ تحوّل «الشرق» موضوعاً لحقلٍ معيّنٍ من الدراسات والأبحاث.
ألم يكن ممكناً قيام بعض الشرقيّين جغرافياً بالمبادرة للاطّلاع على الغرب، ليصبحوا «مستغرِبين»؟
ألم يدرس كثيرٌ من علماء الشرق وطلاّبه في الغرب، الأمر الذي سمح لهم بالاطّلاع على الغرب؟
يدرس أطفالنا في كتبهم الدراسيّة تاريخ كلٍّ من أوربا وأميركا وجغرافيّتهما، حتّى أنّ العلوم التي تُدرَّس في الثانويّات والجامعات، ليست في أغلبها سوى ترجمةٍ لأعمال الغربيّين، ناهيك عمّا دوّنه المستشرقون الغربيّون من تاريخ علومنا وفلسفتنا وفنوننا وآدابنا، لينحصر دورنا بترجمتها فحسب.
إذاً، لسنا غرباء عن الغرب، بل نعرفه بطريقةٍ أو أخرى.
مع ذلك كلّه، لماذا نفتقر «للمستغرِبين»، ونفتقد فرعاً معرفياً يُعرف باسم «الاستغراب» حتّى الآن؟
وبالتالي هل تختلف معرفتنا بالغرب، عن معرفة المستشرِقين بالشرق؟
إنّ هاتَين المعرفتَين متمايزتان تماماً؛ فمعرفة الغرب بالشرق هي معرفةٌ استقصائية، أمّا المعرفة التي نمتلكها عن الغرب ـ كما يُعبِّر غابرييل مارسيل ـ فهي معرفةٌ أوّليّةٌ ناقصةٌ، تمثّل مجموعة العلوم الرسميّة التي تلقّيناها من الغرب، لا تشكّل إلا مجرّد أخبارٍ وصلتنا عنهم.
في المقابل، لم يأخذ المستشرِقون شيئاً منّا، بل قاموا بدراساتٍ في علومنا وثقافتنا وآدابنا ومعتقداتنا؛ جاعلين من تاريخنا موضوع بحثهم، متّخذين مبدأ إعطاء الأولويّة للمواضيع التي تخدم أغراضهم في الغلَبة.
لقد حالت هيمنة الغرب دونَ تمكّننا من اتّخاذ الغرب موضوعاً لدراساتنا، نتيجةَ عجزنا عن تأطيره ضمنَ حدود قدرتنا، كما أنّ بدايات احتكاكنا بالغرب كشفت حاجتنا للعلوم والقوانين والتقاليد الغربيّة، ما حرمَنا من مقاربة الغرب بنظرةٍ موضوعيّةٍ لانعدام القدرة أو المجال لدينا للقيام بذلك.
في هذا السياق، يبدو أنّنا بحاجةٍ إلى تقديم قدرٍ من الإيضاح في هذا الخصوص، من خلال التأكيد على أنّ «الاستغراب» يختلف كلّيّاً عن الإحاطة بعلوم العالَم الحديث وآدابه وتقاليده؛ فلم يُصنَّف علماؤنا الأقدمون الذين أخذوا الطبّ والفلك والنجوم والفلسفة من اليونانيّين وقاموا ببسطها، في زمرة المتخصّصين في «اليونانيّات»، بل لم يُطلَق عليهم هذا العنوان أصلاً.
ناهيك عن أنّنا لا نسبغ على أدباء الشرق وفلاسفته وعلماء الدين فيه لقب المستشرقين، وما إطلاق صفة المتخصّصين في «الإسلاميّات» على علماء الإسلام إلا على سبيل التسامح، لأنّ علماء الدين لا يحظون بذلك اللّقب ما لم يؤمنوا بذلك الدين ويبلّغوا أحكامه، بينما ليس من الضروري أن يكون المتخصّص بـ«الإسلاميّات» معتقداً بذلك الدين ومتمسّكاً به.
إذاً، يشكّل «الاستشراق» علاقةً خاصّةً بين الباحث والمواضيع التي يدرسها، في نسبةٍ بين «فاعل» المعرفة وموضوعها، والتي يُعبَّر عنها في لغة الفلسفة الأوروبّيّة بالنسبة بين «Subject» (الفاعل) و«Object» (الموضوع)، دون وجود أيّ ميلٍ لدى فاعل المعرفة نحو مفعولها، مكتفياً بوضعه أمامه حتى يتعرّف عليه من خلال المناهج العلميّة المقرّرة، ليُدخله في نطاق العلم.
ولا تشذّ سائر العلوم الحديثة عن تلك النسبة؛ بمعنى أنّ منهجيّة البحث تقتضي من الباحث مقاربة متعلَّق (بفتح اللّام) بحثه بنظرةٍ موضوعيّةٍ تعتمد الحياديّة؛ إذ يمكن لأديبٍ وشاعرٍ فارسيٍّ تناول شعرٍ فارسيٍّ بهذه المنهجيّة ويكتب عملاً في تاريخ الأدب، دون التغاضي عن النسبة «ما وراء الموضوعيّة» التي تربطه بالشعر الفارسيِّ، والتي تبتعد عن النظرة الحياديّة؛ فيمكن للقارئ الفارسيّ للشعر الفارسيّ تناول أنواع الشعر وصوره بحثاً ودراسةً، دون أن يتأثّر تذوّقه للشعر بمنهجيّة البحث، لأنّ تذوّق الشعر والاستئناس به، ليسا إلا نتيجةَ ميله له؛ فالشاعر يهوى الشعر، دون أن يُعاب عليه ذلك، أو يُعتَرَضَ عليه بحجّة لزوم اتّخاذ الحياديّة سبيلاً في رؤيته الشعريّة.
لطالما كان أدباؤنا وشعراؤنا متذوّقين للشعر ومستأنسين باللّغة، ومع ذلك لم يظهر ما يُسمّى بتاريخ الأدب الفارسيّ إلا في العصر الحديث؛ إذ تعود بواكير الكتابات في تاريخ الأدب الفارسي والفلسفة الإسلامية و... إلى أعمال المستشرِقين التي حذا حذوَها باحثونا وعلماؤنا فيما بعد، وقد تعاملت المدرسة الوضعيّة مع ذلك التقليد باعتباره أمراً مفروضاً وضروريّاً مع ازدراء كلّ نسبةٍ وطريق آخر سواه.
ويتجلّى هذا الأمر بأوضح صورةٍ في حقل الدين والعلوم الدينيّة؛ إذ يمكن لشخصٍ ما أن يكون مؤرّخاً للأديان أو يمتلك معلوماتٍ واسعةً في أحكام دينٍ ما أو عدّة أديان، دونَ أن يعني ذلك اعتقاده بأيٍّ منها.
وكم من قادةٍ روحيّين لم تمنع مكانتهم كعلماء في الدين ومبلّغين لأحكامه، من مقاربة الدين وفقَ نظرةٍ موضوعيّةٍ بحتةٍ، لأنّ تلك الرؤية للدين لا تعدو أن تتعامل معه كمتعلَّقٍ (بفتح اللّام) لعلوم المستشرِقين، بينما تختصر نسبة الناس للدين بتلك النسبة التي تربط المستشرِقين بالثقافات والأديان الشرقيّة فحسب، في حالةٍ تقيّد حراك البشر ضمن ساحةٍ واحدةٍ فقط، للعلم الموضوعيّ وحدَه فيها الكلمة الفصل، في انعكاسٍ لفئةٍ مغلوبٍ على أمرها أمام الغرب، دون إضفاء صفة «الاستغراب» عليها، حتّى ولو كانت ملمّةً بالعلوم الحديثة.
إنّ كلّ ما ذكرنا آنفاً لمّا يرفع الغموض عن موضوع البحث بعدُ؛ إذ لم نتبيّن الفرق بين «الاستغراب» من جهة، والإحاطة بعلوم الغرب وثقافته من جهةٍ أخرى؛ الأمر الذي يدعونا لتسليط الضوء على أقسام العلم تخفيفاً لحالة الإبهام.
في الوهلة الأولى، يمكن تقسيم العلم قسمَين: أحدهما العلم الموضوعيّ الذي يحيط فيه العالِم بالمعلوم ويتصرّف به، والآخر العلم الذي لا يشرف فيه العالِم على المعلوم أو يتحكّم به، بالرغم من عدم انفصاله عنه.
كما ينقسم العلم الأوّل الموضوعيّ بدوره إلى قسمَين؛ أحدهما العلم بالأمور والأشياء التي تتّصل بالعالَم الموجود والمتجدّد، سواءً كانت تاريخيّةً أو ثقافيّةً أو طبيعيّةً، والآخر العلم بالأمور ذات العلاقة بعالَمٍ متشتّتٍ، لم يبلغنا منه سوى مجموعة أخبارٍ وآثار، والذي يُعَدّ «الاستشراق» من سنخه؛ فلو كان من المقرَّر التعامل مع «الاستغراب» كـ «الاستشراق»، عندئذٍ يلزمنا انتظار نهاية العصر الغربيّ أو افتراض حالةٍ يكون العصر الغربيّ قد بلغ فيها نهاياته.
علينا الأخذ بعين الاعتبار فكرة إعراض المستشرِق عن الاهتمام بأيّ شيءٍ لا يزال ينبض بالحياة في الشرق، فقد قام المستشرِقون بدراساتٍ مهمّةٍ في مجالات العرفان والفلسفة والكلام والأدب والسياسة و...، لكن لم نعثر على باحثٍ مستشرِقٍ أنجز دراساتٍ في علم أصول الفقه، ويعود السبب في ذلك، برأيي، إلى صعوبة نسبة علم أصول الفقه إلى الماضي، للجوء الفقهاء إليه في استنباط الأحكام، دون أن يعني كلامنا اعتبار كلٍّ من الفلسفة والعرفان والكلام والأدب ميّتةً عفا عليها الزمن، وأنّه لم يبقَ من العلوم الحيّة سوى أصول الفقه، لأنّ كافّة العلوم والمعارف حيّة، ولكنّ المستشرِق ينسبها للماضي.
لا يخفى أنّ هناك فلسفةً وكلاماً وعرفاناً وأدباً في الغرب أيضاً، لكلٍ منها تاريخه الخاصّ، فإذا بادر شخصٌ غير غربيٍّ بالبحث في تاريخ آداب الغرب وفلسفته وكلامه، فلماذا لا نعتبره «مستغرِباً»؟
بعبارةٍ أخرى، إذا كان للمستشرِقين أن يُجروا أبحاثهم ودراساتهم في تاريخ الشعوب الشرقيّة وفلسفتها وآدابها وعلومها، حتّى يُعدّوا نتيجةَ ذلك في عِداد المستشرِقين، فلماذا لا يمكن لناـ نحن الذين أخذنا بعلوم الغرب، ونعتبر أنفسنا وغيرنا في حاجةٍ إليها ـ أن نُعَدَّ «مستغرِبين» من خلال القيام بدراساتٍ في علوم الغرب وآدابه؟.
إنّنا، بتناولنا تاريخ فلسفة الغرب وكلامه وآدابه، سنقوم بتجميل تاريخنا من خلال المعلومات التي نحصل عليها في هذه العملية، بينما يتّخذ المستشرِق من ماضي الشرق مادّةً لتاريخه، مُضفياً على تاريخ الشرق وماضيه صبغةً غربيّةً.
كان «بيرجسون» يقول، في سياق حديثه عن المعرفة العلميّة والعقليّة، بأنّ العقل يُسكِّن الأشياء المتحرّكة والمتغيّرة ذاتيّاً؛ إذ كان يرى بأنّ العقل الذي تبلور في مرحلة تاريخ الغرب الحديث لا يميّز حقيقة الموجود الذي يُمثّل عين الحياة والنشاط والسيرورة والصيرورة، بل يبحث عن صورة الأشياء الميّتة والجامدة.
إذا كان هذا الكلام منوطاً بقبول بعض مبادئ فلسفة «بيرجسون» وقواعدها، عندئذٍ يمكن تظهير صورة الموضوع بطريقةٍ أخرى؛ إذ عندما ننظر إلى التاريخ وفق المنهجيّة الفيزيائيّة، فإنّ تاريخ البشر وماضيهم سيتبدّل إلى شيءٍ فيزيائيٍّ خاضعٍ لقوانين الفيزياء.
لقد كتب المستشرِقون تاريخ الشرق من موقع التسلّط والهيمنة والغلَبة؛ الأمر الذي يجعل من معرفتهم بالشرق مختلفةً كلّيّاً عن معرفتنا بالغرب، بل لا مجال للمقارنة بينهما، لأنّهم تمكّنوا من اتّخاذ الشرق موضوعاً لأبحاثهم ومعرفتهم، بينما لم تتعدَّ معرفتنا بالغرب شكلاً من أشكال المساهمة في تلك المعرفة؛ فالإحاطة بالعلم والتكنولوجيا الغربيّة يشكّل نوعاً من المشاركة في التاريخ الغربيّ، ولا ينبغي الخلط بين هذا النوع من المعرفة و»الاستغراب».
لقد أخذت الأمم الشرقيّة، منذ قرونٍ عديدةٍ، بعلوم الغرب وآدابه وفلسفته وتكنولوجيّته، دون أن يُعتَبَروا «مستغرِبين»، بل لم يتعامل أحدٌ مع منهجيّتهم وسلوكهم في هذا السبيل كنوعٍ من «الاستغراب».
بناءً على ذلك، هل يمكن اعتبار «الاستغراب» مفهوماً مستحيلاً يحول دونَ تأسيس فرعٍ بحثيٍّ تحت هذا العنوان؟
إنّ التمييز بين مصطلحَي «الاستغراب» و»الاستشراق»، يعيننا على استعراض شروط تحقّقه ـ أي «الاستغراب»ـ كما يلي:
1ـ ينبغي على من يتصدّون لدراسة «الاستغراب» تحاشي الشعور بالتبعيّة للغرب والدونيّة تجاهَهم، من خلال الحفاظ على استقلاليتهم وحريّتهم، أو تنمية حسّ التمايز بينهم والعالم الغربيّ كحدٍّ أدنى، رافضين التعامل مع الغرب كنموذجٍ للكمال المتوخّى، أو باعتباره المعلّم والموجّه، مكتفين بالنظر إليه كآخَرَ مختلف.
لقد نشأ الاستشراق في ظروفٍ كان الغرب يعتبر نفسه قمّة العالم والمهيمن عليه.
إنّ مقاربة معرفة الغرب وأدبه كغاية المعرفة والأدب الإنسانيَّين، أوالتعامل معهما كانحرافٍ عن مبادئ الأخلاق وأصول الدين، تحول دونَ إمكانيّة تبلور «الاستغراب»، لتحوّل الغرب في هذه الحالة إلى شيء بعيدٍ عن صورة الآخَر.
فلو ابتعدت الدراسات التي ظهرت في الآونة الأخيرة واتّسمت بالعبثيّة ـ حول وجود الغرب عن النزعات الأيديولوجيّة، لساهمت في تسليط الضوء على شروط إمكانيّة تحقّق مشروع «الاستغراب».
لقد صادفنا خلال بحثنا جهات تنكر أيّ ماهيّةٍ للغرب أو ذاتيّةٍ له، مدّعيةً أنّ ما بلغه الغرب من قدرةٍ ومكانةٍ ليس خاصّاً به، بل يمكن، وينبغي، للعالم كافّةً أن يصل إلى تلك المرحلة.
إن تبنّي هذا القول صحيح نسبيّاً من إحدى الجهات؛ بمعنى أن يتصوّر مدّعوه احتكار الغرب الجغرافيّ للعلم والتكنولوجيا، عندئذٍ يحقّ لهم القول بأنّ كافّة سكّان العالم يمكنهم أن يأخذوا بذلك العلم الجديد، وسلوك سبيل التنمية العلميّة والتكنولوجيّة، إلا أنّ محلّ النزاع ليس في القول بأنّ كلّاً من العلم والتقنيّة الحديثة خاصّةٌ بمجموعةٍ من البشر، بل يكمن في أنّ تاريخاً معيّناً يحمل مبادئ خاصّةً قد تبلور في الغرب، وبسط جناحه على كافّة أرجاء العالم، محوّلاً تاريخ العالم إلى تاريخٍ عالَميٍّ واحدٍ، وفي مثل هذا التاريخ الواحد كيف يمكننا تمييز الآخر وتحديد الخصوصيّات؟
لا شكّ في أنّ من ينكرون وجود الغرب وكينونيّته سيتعاملون بالضرورة مع «الاستغراب» بلا مبالاةٍ، وحتّى لو برّروا لأنفسهم التعامل مع هذا الموضوع، فإنّهم يحصرونه في نطاق معرفة الغرب، والاطّلاع على تاريخ الغربيّين وجغرافيّتهم وآدابهم وعلومهم.
أمّا أولئك الذين يقاربون الغرب تاريخاً عالميّاً، ذا ماهيّةٍ ومزايا معيّنةٍ، فإنّهم يُجارون تلك الفئة من الغربيّين الذين يتساءلون عن بدايات الغرب ومآلاته، ويسبرون حقيقة تاريخ الغرب في سبيل معرفته؛ فهم، بمعنىً ما، يتقبّلون فكرة إمكانيّة تحقّق «الاستغراب» لا بسنخه الاستشراقيّ؛ فلا يتّخذ المستغرِب من الغرب موضوعاً لبحثه، بل يستوعب تاريخه في ضوء ماهيّته، التي يبحث عنها ماهية في ضوء تاريخه.
يمثّل هذا النوع من فهم تاريخ الغرب وماهيّته نوعاً من المعرفة الظاهراتيّة، التي تستلزم الاحتكاك بعالم الغرب وفهمه من الناحية التجريبيّة.
2 ـ يستلزم إطلاق مشروع «الاستغراب» استيعاب التاريخ الغربيّ بشكلٍ عامٍّ، والذي ينحصر سبيل بلوغه في سبر فلسفته، ويتمظهر في تقنيّته، ما يستدعي الإحاطة بكلَيهما (الفلسفة والتقنية الحديثتَين)؛ إذ لم يعُد كافياً في هذه العمليّة مجرّد دراسة تلك الفلسفة في الجامعات وتأليف الكتب حول تاريخها وترجمتها وطبعها ونشرها وجمع المعلومات عن آخر الآراء والأفكار الفلسفيّة هناك، بل ينبغي التأمّل فيها من خلال وعي النسبة بينها وبين العالم الحديث، لا سيّما عبرَ التفكير في نهاية الفلسفة الغربيّة وأحوال ما بعد الحداثة.
لا يولد «الاستغراب» بكتابة مقالةٍ حول الثورة الفرنسيّة، أو ترجمة عملٍ أدبيٍّ أو فلسفيٍّ، لأنّ الشرط الأساس لتحقّقه يتمثّل في القدرة على التغلغل في فكر الغرب وفنّه وتاريخه وترسيخ الأقدام فيها.
إن كتابة مقالةٍ تناقش فلسفة فيلسوفٍ وشعر شاعرٍ من خلال جمع معلوماتٍ من هنا وهناك، تجسّد في أحسن الحالات اتباعاً لمنهجٍ ودراسةٍ جديدةٍ، إلا أن يتمكّن الباحث من إعادة قراءة الموضوع وتحديد موقعه في سياقه التاريخي؛ بمعنى أن ينظر إليه من موقع المشرِف في إطلالةٍ بانوراميّةٍ.
قد نكتب مئات المقالات حول «سوفوكليس» و«أفلاطون» و«فيرجل» و«بوئيسيوس» و«سانت أوغستين» و«توماس مور» و«هيغل» و«غوته» و«نيتشه» و... إلا أنّ ذلك كلّه قد لا يكون كافياً لإضفاء صفة «الاستغراب» عليها؛ لأنّ أقصى ما يمكن أن تعكسه تلك المقالات إثبات شغفنا بكبار شعراء الغرب وأدبائه وفلاسفته وعلمائه، بينما «المستغرِب» الحقيقيّ هو ذلك الشخص القادر على إدخالهم في منظومتنا الفكريّة.
قد يقال: ألم يكن «نيكلسون» مهتمّاً ولهان بالمولويّ؟ ألم يصرف «ماسينيون» ردحاً من عمره في البحث حول أحوال «الحلّاج» وآثاره؟
إنّ إطلاق «ماسينيون» عنوان «محنة الحلّاج» على كتابه أكبر دليلٍ على تعلّقه بسيرة «الحلّاج».
لسنا في حاجةٍ لسرد الأمثلة حتّى نثبت ولع كبار المستشرِقين بالأعمال التي أنجزوها؛ فقد كان بعضهم عاشقاً للشرق والشرقيّين، دونَ أن ينسوا ما يربطهم بالتاريخ الغربيّ، بل إنّ كثيراً منهم صرّحوا أو لوّحوا بإيمانهم بوحدة التاريخ، وما جرى في الماضي سواءً في الشرق أو أيّ مكانٍ آخر على الأرض لم يكن سوى مقدّمةٍ للتاريخ الغربيّ.
3 ـ مشروع «الاستغراب» رهنٌ بمعرفة منشأ ومعنى كلٍّ من العلم الحديث والثقافة الحديثة والحقوق الحديثة والسياسة الحديثة، وطالما أطلقنا أحكامنا على العلم والسياسة و... بناءً على المشهور السائد من الآراء فلا يمكننا أن نكون «مستغرِبين»؛ فلا نتوقّع من مؤيّدي الديمقراطيّة الاشتراكيّين، والفاشيّين، والنازيّين، و... أن ينتموا إلى تلك الفئة.
طبعاً، ليس على «المستغرِب» أن يكون معارضاً لتلك النزعات جميعاً، بل عليه أن يكون متحرّراً منها، ولا تخلو تلك النزعة للاستقلاليّة من صعوبة. مع ذلك، فإنّ تعسّر التحرّر من تقاليد الغرب الظاهريّة من سياسةٍ وحقوقٍ وغيرها، لا يُقارَن بمشقّة التحرّر من هيمنة تقنيّة الغرب وفلسفته.
4ـ مع ذلك كلّه، فقد توافرت في الغرب ظروفٌ يمكن في ضوئها تصوّر إيجاد مجالٍ لبروز «الاستغراب»؛ إذ لم يعد مشروع «الاستغراب» اليوم نوعاً من الترف الذي لا لزوم له، نتيجةَ ظهور أشخاصٍ يدّعون بأنّ الحداثة قد وصلت إلى مرحلةٍ من الجمود والتوسّع الصوريّ والرسميّ، الأمر الذي قد يرسّخ في أذهاننا فكرة توقّف التجدّد وجموده.
في المقابل، يمتاز الفكر «ما بعد الحداثويّ» بالرفض للتعامل مع كل جديد، ما يمهّد الأرضيّة للعودة إلى الشرق واقتباس كلمات مفكّريه ومرشدي الفكر الروحيّ والمعنويّ لإضاءة طريق المستقبل.
5 ـ ليس «الاستغراب» ردّة فعلٍ على «الاستشراق»؛ فلا يمكن لـ«المستغرِب». ولا ينبغي له تطبيق المنهجيّة الاستشراقيّة في معرفة الغرب، لأنّ استخدامها في الغرب شاقّ للغاية، لن يُفضي إلى شيءٍ سوى تقديم تقريرٍ ناقصٍ عن موضوع الدراسة، كما حدث قبل مئتَي عام في إيران، حين ظهرت مجموعة من الأشخاص الذين خاضوا تجربة كتابة تقارير حول سياسة بريطانيا وبعض الدول الأوربّيّة.
إنّ سبر «الاستغراب» ودراسته في حاجةٍ إلى القدرة على كتابة مقالةٍ بحثيّةٍ أو تأليف كتابٍ تحقيقيٍّ حول السياسة والأدب والفنّ والثقافة والاقتصاد والفلسفة في الغرب، ما يؤكّد أهمّيّة ترجمة كافّة الأعمال الفلسفيّة والأدبيّة والسياسيّة والتاريخيّة الغربيّة المهمّة من ناحية، ويفرض على اللّغة أن تتمتّع بالمقدرة والحيوية اللّازمتَين تمهيداً لخلق هذا التحوّل التاريخيّ الكبير.
لا يعني «الاستغراب» الاكتفاء بمعرفة أمورٍ في التاريخ والجغرافية والأدب والفلسفة الغربيّة؛ إذ لو كان الأمر كذلك، لما احتجنا للتفكير في إيجاد فرعٍ علميٍّ باسم «الاستغراب».
إنّ أطفالنا في المرحلتَين الابتدائيّة والإعداديّة يقرؤون تاريخ وجغرافية أوروبّا وأمريكا، ويطالعون القصص الغربيّة ويطّلعون على سِيَر الشخصيّات الغربيّة البارزة. فضلاً عن مطالعة قرّائنا ترجمات الكتب الأجنبيّة، ناهيك عن أنّ كثيراً من الأفلام والبرامج التلفزيونيّة التي نشاهدها هي من نتاج الغرب، كما أنّ ما نتعلّمه في مدارسنا عن الغرب وما ينعكس في وسائل تواصلنا الاجتماعيّة عنه، لا تمكن مقارنته بما يعرضه الغربيّون أنفسهم عن الشرق في كتبهم وإذاعاتهم وتلفزيوناتهم.
مع ذلك كلّه، فإنّ للغربيّين «مستشرقيهم» و«استشراقهم»، بينما لا نطلق اسم «المستغرِب» على علمائنا المُلِمّين بأوضاع الغرب وأحوالهم؛ إذ على سبيل المثال، لم نطلق صفة «المستغرِب» على كلٍّ من «عبد اللطيف شوشتريّ» و«اعتصام الدين» و«أبي طالب الأصفهانيّ» و«آقا أحمد الكرمنشاهيّ»، مع أنّهم خاضوا غمار تجربة تقديم توصيف النظام السياسيّ في الغرب، وقاربوا سلوك الأوربيّين السياسيّ في مناطق أخرى من العالم.
من غير المقبول الادّعاء بأنّ المستشرِق يتناول دراسة الشرق باعتباره تاريخاً مضى، بينما لا يمكن اعتبار الغرب موضوعاً لـ«الاستغراب» لأنّه لم يلتحق بالماضي بعد؛ حيث يوجد اليوم مستشرِقون يدرسون الأوضاع الجارية في كلٍّ من إيران والصين والهند ودولٍ إسلاميّةٍ وشرقيّةٍ أخرى بصورة عامّة.
يمثّل المستشرِقون بشكل عامٍّ انعكاساً لمظاهر الثقافة الغربيّة، فإنّ هناك مجموعةً منهم تنتمي للمرحلة النهائية والأخيرة من الاستشراق، ويمتاز أعضاؤها بالاهتمام بالأوضاع المعاصِرة ويميلون غالباً إلى الاهتمام بالسياسة أكثر، وينشغلون بالتفكير في خلق تحوّلٍ سياسيٍّ في الدول غير الغربيّة وتنتابهم حالات القلق من ظهور سياساتٍ مخالفةٍ للغرب فيها.
فإذا كان مسموحاً للاستشراق أن يتناول الأوضاع الجارية وعدم الاكتفاء بدراسة الماضي، فلماذا لا يمكن تناول الاستغراب للأوضاع الجارية في الغرب؟
لا يخفى أنّ للغرب ماضياً يمكن دراسته، ولكنّ معرفته العميقة تحتاج إلى شروطٍ منها، لزوم سبر ماهيّة الغرب، أو تقبّل ادّعائه، كحدٍّ أدنى، بضرورة التعامل معه ككيانٍ ذي عنوانٍ تاريخيٍّ مميّزٍ يختلف عن التواريخ الأخرى ويفرض تأثيره على العالم كلّه.
في المقابل، لا يحتاج سكّان العالم الغربيّ إلى «الاستغراب»، ما يفرض على من يسعى الى إطلاق ذلك المشروع أن يكون من خارج ذلك العالم، علماً أنّ الخروج من هذا النطاق في عصرنا الحاضر أمرٌ شاقٌّ للغاية؛ إذ كيف يمكن تصوّر اتّخاذ الغرب موضوعاً للبحث، طالما لم يتحرّر كلٌّ من الرؤية والفكر والرأي والعقل والقلب والروح من قيوده؟
لقد علّم الغرب البشر، طوالَ 400 عام، كيفيّة النظر إلى الموجودات وانتخاب الطريق ومآله، متقمّصاً خلالها دور دليل عملٍ وعلمٍ، أو مدّعياً الهداية والقيادة على الأقلّ، معتبراً نفسه تجسيداً للعلم والعقل معاً، فكيف يمكن التفكير بإنزاله من سدّة العلم والسلطة بتلك البساطة، وتحديده في إطار حدودنا المعرفية؟
لقد حدّد الغرب بنفسه حدود الإدراك والمعرفة، ولا يمكن لمن يتواجد في إطار تلك الحدود تصوّر ما وراءها!
لا يمكن لمشروع «الاستغراب» أن يتحقّق إلا بالتحرّر من الغرب عبرَ التحرّر التاريخيّ من عالَمه والخروج منه؛ فلا يمكن اعتبار مجرّد المعارضة السياسيّة أو النقاش والجدل في المواضيع الثقافيّة والفلسفيّة دليلاً على التحرّر من الغرب، لأنّ كثيراً من سكّان الغرب، بل حتى بعض حراكات ذلك العالَم حاليّاً، تخالف بعض تلك السياسات، وتعكس آراءً اجتماعيّةً وفلسفيّةً خاصّةً بها.
إنّ التحرّر من الغرب لا يمكن أن يتحقّق إلا من خلال خلق حالة من الثورة في رؤية الناس ووجودهم، وهذا لا يتمّ إلا من خلال إدراك ماهيّة الغرب، واستيعاب أصوله ومبادئه، الأمر الذي لا يخلو من قدرٍ من الألم والمشقّة يعادل ما تحمله تلك الثورة معها من صعوبات، ولا يمكن بلوغها بمجرّد البحث والدراسة.
قد يبادر البعض لتبرير بعض الفلسفات الغربيّة ورفض أخرى وفقَ معايير يعتبرونها من المشهورات والمقبولات؛ علماً أنّ تلك المقاربات تسدّ الطريق أمام معرفة الغرب محوّلةً العلم إلى حجابٍ مانعٍ، يصيبنا بحالةٍ يكون فيه العلم أشدَّ علينا من الجهل.
في الظروف الحاليّة، إن الفلسفة «ما بعد الحداثوية» هي الفلسفة الوحيدة التي يمكن لها، بشكلٍ أو بآخر، أن تشكّل سبيلاً لمعرفة الغرب، والتي تتميّز بإخضاع كافّة مبادئ الغرب ومرتكزاته للتشكيك والتساؤل بعيداً عن الجدل لإثبات قضيّةٍ أو نفيها، ما يمهّد الطريق لخلق بدايات التحرّر من غلَبَة الغرب وهيمنته، كمنطلَقٍ لمعرفته بحقٍّ؛ إذ يتّصف الفكر «ما بعد الحداثويّ» بالطريقيّة لا الموضوعيّة، الأمر الذي يجعل من تأييده أو معارضته مؤشّراً على سوء الفهم، وإنّنا بحاجةٍ إلى معرفة الغرب لأنّ فتح طريق المستقبل يتوقّف على استيعاب وضع البشر بصبغته الغربيّة في العصر الحاضر.
---------------------------------------------
[1] فيلسوف ومفكّر من إيران، أستاذ الفلسفة في جامعة طهران، أستاذ زائر في عدد من الجامعات في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية.
ـ نقله من الفارسية: علي فخر الإسلام، باحث ومترجم.