البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الاستغراب القسري، في جدل التثاقف بين المركز والهوامش

الباحث :  نجلاء مكاوي
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  1
السنة :  السنة الاولى - خريف 2015 م / 1436 هـ
تاريخ إضافة البحث :  September / 20 / 2015
عدد زيارات البحث :  6368
تحميل  ( 228.723 KB )
الاستغراب القسري
في جدل التثاقف بين المركز والهوامش

نجلاء مكاوي [1]

ارتبط الجدل حول الثقافة، حركة ومفهومًا وبنية، بطبيعة العلاقات بين الغرب، والمجتمعات غير الغربية «التابعة» له. لكن استمرار هذا الجدل وتطوره، سيبدأ مع محاكمة النموذج الثقافي الغربي، ومآلات فرضه قسرًا على المجتمعات التي اعتبرتها الرؤية والتصور الأوروبي «هوامش» في مقابل مركزية الغرب وثقافته.
هذه الدراسة تسعى إلى مقاربة دور الثقافة والجدل حولها من خلال تناول موقعيتها في الاستراتيجية الأوروبية لتقسيم العالم، وهي الاستراتيجية التي تندرج في سياق نظرة فوقية «تشرعن» سيطرة أوروبا على مجتمعات، روّج الخطاب الغربي لفكرة ان الثقافة هي أهم أسباب تخلفها ودونيتها. كذلك ستعرض الدراسة الى سياق المواجهة الثقافية، وارتداداته على المجتمعات التابعة وثقافاتها المحلية، سواء في حقبة الاستعمار الأوروبي، أو الهيمنة الأميركية على النظام العالمي، وتحديدًا في المجتمعات العربية والإسلامية.
«المحرر»

استخدمت الثقافة الأوروبية عدة استراتيجيات، وهي تؤطر فكريًّا ما اعتقدته تفوقًا أوروبيًّا على كافة الحضارات والثقافات، تضمنت التنظير لتلك الرؤية، وصياغة الخطاب الذي يبرر السيطرة الأوروبية على الثقافات الأخرى، من خلال تعميم القيم والممارسات الأوروبية على «الآخر» الذي اعتُبر وصُوِّر ذا قيم وثقافة أدنى، ويستوجب تقدمه الدوران في الفلك الثقافي الغربي.
وضعت النظرة للعالم في الوعي والثقافة الأوروبية أسس مفهوم المركزية الغربية، وما استتبعها من تجليات ثقافية، فوفقا للتصور الأوروبي المبني على نظرة ثنائية للعالم «برابرة ومتحضرون» فإن الغرب هو منتج القيم الإنسانية، والمحدد الوحيد لمسار انتقال أي ثقافة من البربرية إلى المدنية، وهي كل الثقافات غير الغربية، وواضع معايير التقدم والتخلف.
وقد ظهر مفهوم الغرب، تمخضًا عن الحقبة الطويلة التي يصطلح عليها بالعصر الوسيط، التي طورت جملة من العناصر الاجتماعية والدينية والسياسية والثقافية، فاندمجت لتشكل هوية أوروبا، وبانتهاء تلك الحقبة ظهر المفهوم بأبعاده الدلالية الأولية‏، التي تمثلت في تثبيت مجموعة من الصفات والخصائص العرقية والحضارية والدينية علي أنها ركائز أساسية تشكل هويته‏.‏ وأدت هذه العملية إلي ولادة مفهوم المركزية الغربية، الذي تتجلى إشكاليته في أنه يؤسس وجهة نظر حول الغرب بناء على إعادة إنتاج مكونات تاريخية، توافق رؤيته، معتبرًا إياها جذورًا خاصة به، ومستحوذًا في الوقت نفسه على كل الإشعاعات الحضارية القديمة، وقاطعًا أواصر الصلة بينها وبين المحاضن التي احتضنت نشأتها‏. فيما تقصد المفهوم أن يمارس إقصاء لكل ما هو ليس غربيًّا، دافعًا به إلى خارج الفلك التاريخي الذي أصبح الغرب مركزه‏،‏ على أن يكون مجالاً يتمدد فيه، وحقلاً يجهزه بما يحتاج إليه [2].‏
ساعدت عوامل عدة، على تدشين وتثبيت الهوية الغربية الحديثة، ووضوح وتجلي مفهوم التمركز، فبجانب الثورة الفكرية والعلمية، وحلول العلمية العقلية محل الرسالة الدينية، ما كرس لتمركز «الأنا» عند الغرب، الذي صار رمزًا للتحضر، بينما العالم الآخر هو رمز للتوحش والهمجية، بعد أن نابت ثنائية حيوية أوروبا / خمول العالم عن ثنائية الإيمان/الكفر التقليدية، أو ثنائية التمدن/التوحش، فإن بداية الإعلان عن الزمن الأوروبي، وتشكيل هوية محددة إعمالاً للمركزية الغربية جاءت مع الكشوف الجغرافية الكبرى، وعبور كولمبوس للمحيط الأطلسي عام 1492،حيث أقصيت أمريكا وتاريخها القديم، وطمست معالمها ابتداءً من تحديد تسمية تحتفي بالاتباعية للذات الغربية، هذه التسمية التي حاولت ممارسة الإقصاء بإخفاء هويتها الحقيقية وإخماد وطمس أصلها، فكان الإعلان عن هوية أوروبا الغربية وذاتها بقتل الآخر واستبعاده [3]. واستمرت الآثار السياسية والثقافية لهذه الحملة كامنة في صميم الثقافة الغربية‏،‏ ولعل أبرز تجلياتها نظرة الغرب الاستعلائية إلي نفسه، والتي ترافقها النظرة الدونية للثقافات والشعوب غير الغربية، وقيمها، وثقافتها، والشعور بالتفوق لدى الذات الغربية. هذه النظرة التي تجلى تطورها في كونها أضحت مبررًا عنصريًّا بواجهة أخلاقية لتوسعات أوروبا الاستعمارية في بلاد من اعتبرتهم هوامش، مروجة خطاب المنوط بإخراجهم من الظلام والجهل وإلحاقهم بركب الحضارة، وإن كان باستخدام القوة، بكافة تمثلاتها.
ثمة منظومات فكرية صاغت أسس فكرة التمركز الأوروبي، وأصّلت له، من أجل صناعة صورة تشرعن للغربي إقصاءَه للآخر وتهميشه، وتجلت في نظريات أصلت للحضارة الأوروبية بادعاء النقاء، وعدم تأثرها بأيّ حضارة أخرى غير غربية، وانعدام القيمة والتأثير المطلق للحضارات الأخرى، وقد أشار الأنثروبولوجي الفرنسي، جيرار ليكريلك، إلى دور «النظريات التطورية» في رسم صورة عن حضارات متفرقة ومتأخرة تتقدمها أوروبا وتشكل نموذجاً يمكن تتبع خطاه، فقد كان بناء تلك النظريات أحد الطرق التي حاولت أوروبا بواسطتها أن تفهم التنوع الثقافي في العالم، الذي اعترفت به، إبان التوسع الاستعماري. ففي إطار مقاربة كهذه يمكن ترتيب المجموعات البشرية تبعًا لخط زمني طويل يمثل في الوقت نفسه سلمًا للتقدم، بحيث يظهر هذا الخط الإنسان وقد انتقل من حالة التوحش إلى البربرية، ثم إلى المرحلة المتحضرة. وإذا قدر لكل المجتمعات أن تتقدم تبعًا لهذا الخط، فإن بعضها كان أكثر «تقدما» من البعض الآخر، بعضها يقود السباق، وبعضها الآخر يشكل جزءًا من المتبارين، وثمة بعض ثالث يسير في ذيل المتبارين. وهنا، تحتل أوروبا وبشكل طبيعي، كليًّا، موقعًا يجعلها رأس الحضارة (إنها الحضارة بامتياز) أما «الحضارات الأخرى» (الإسلام، الهند، الصين) فقد كانت أكثر «تأخرا». وفي النهاية فإننا نصادف مجتمعات متوحشة أو «بدائية» لا حق لها بأن يطلق عليها صفة «المتحضرة»، وتاليًا فإنه لابد لها أن تكتفي بموقع صاحبة «ثقافات» [4].
الزعم الأوروبي بإمكانية تصنيف المجتمعات الإنسانية، والحضارات والثقافات الأخرى، تبعًا لتقدمها على سلم التقدم الثقافي والاجتماعي، الممثل في الحضارة والحداثة الأوروبية، استند إلى مبادئ العقلانية والعلمانية، التي رسختها فلسفة الأنوار التي انطلقت في أوروبا في القرن الثامن عشر، ومثَّلت مرجعًا تأسيسيًّا للفكر الغربي الحديث، وشكلت منعطفًا تاريخيًّا تحكم في مجمل الإنتاج المعرفي الغربي والعالمي، حيث أحدثت قطيعةً معرفيةً مع النسق المعرفي الذي كان سائدًا غربًا، كانت ضروريَّةً للخروج من أفق التخلف والدخول في مسالك النهضة، فعملت على تعميم نموذجها باعتباره نموذجًا كونيًّا يصلح في كل زمان ومكان؛ وتشكلت مركزية غربية عنصرية تمثلت باحتقار الثقافات والشعوب الأخرى، وخصوصًا الشرقيّة منها، وبدت الممارسة الاستعمارية أكثر وضوحًا مما كانت تتخفى خلفه من المثل العليا للأنوار، فانقلب العقل إلى اللاعقل، و العدل والمساواة إلى الاستبداد، وزحفت أوروبا إلى العالم لفرض هيمنتها وسيطرتها بذرائع تحرير العالم وتمدينه، وفق أيديولوجيا الاستعمار [5].

الاستعلاء المعرفي
هنا تفترض النظرية التطورية أن الاختلافات بين الثقافات (أو بين الحضارات) هي اختلافات ناجمة، أساسًا، عن الموقف المتقدم نسبيًّا على طريق التقدم التقني الوحيد. إنه طريق واحد لا يمكن تحاشيه، فكانت عبارة «الخط الوحيد» عبارة تقرن بهذه المقاربة في أغلب الأحيان. حيث تقوم أوروبا بقيادة مباراة الحضارات، وفي إثرها يسير صف من الثقافات الصغيرة البدائية المعزولة والقديمة، والتي أصيبت بالتأخر التقني، وبالتالي الثقافي. فانعزال الحضارات الواحدة عن الأخرى، وهذا ما كان قاعدة طيلة التاريخ، قد آل إلى الانتهاء مع تشكل السوق العالمية، وتوسع الحضارة الحديثة، المولودة في أوروبا بشكل كوني. أما الحضارات الكبرى الأخرى سيكون بوسعها لاحقًا أن تتكيف مع الخطوط الكبرى لهذه الأخيرة. فيما يتهدد الفناء الحضارات الأخرى، خاصة لجهة خصوصيتها الثقافية (الدينية بوجه خاص)، ولجهة التأقلم مع الوضع التقني، أي أن الدخول في العالم الحديث ـ أو في الحضارة كما كان يقال ـ يمر باكتساب الشكل الثقافي الوحيد، وبامتلاك العلم والتقنية [6].
على ذلك، فالنمط الغربي هو الوحيد المتعين محاكاته لتطور المجتمعات، التي اعتبرتها أوروبا تحمل عناصر الثبات، ولا تسمح خصوصيتها بالتقدم، بينما الثقافة الأوروبية الحديثة تمتلك عناصر التطور المستمر، لذلك كان من الضروري أن يقسم العالم إلى مركز وهوامش، مركز غربي من حقه التمدد والسيطرة لفرض نمطه، وهوامش تحتاج إلى التغيير والتحديث، بينما كانت تلك ذريعة للاستجابة إلى التحولات المرتبطة بالرأسمالية، وتلبية حاجات الغرب الاقتصادية، عبر الانطلاق بتوسيع مجاله الاقتصادي خارج نطاق القارة الأوروبية، في ذلك الجزء من العالم الذي اعتبر مجالاً مُستحقًّا للتمدد.
تجلت الأهداف المرتبطة بقاعدة النظام الرأسمالي، التي تحمل طابعه، والتي وقفت وراء تقسيم العالم إلى مركز وهوامش، وعمل خطاب التمركز الغربي على إخفائها، في مسار عملية التحديث المدعاة من قِبل الغرب للدول التي استعمرها، واعتبر أنها بما تحمله من خصوصية سبُبُ في عدم الاستجابة للحداثة، كمشروع فلسفي وتجربة تاريخية، فصُنفت مجتمعاتها بأنها «ممانعة» للتحديث، ومنها المجتمعات العربية والإسلامية، حيث اتضح أن تحديث العالم ليس هدفًا غربيًّا، بقدر ما كان هدفًا خطابيًّا لنزعة التمركز الغربي حول الذات، وفي القلب منها نسق الفكر الكولونيالي. فما سعى الغرب إلى تصديره للمجتمعات الأخرى إنما هو أشكال الحداثة الملونة، كي تصبح هوامش فعالة، تعمل كأسواق مفتوحة لسلعه من دون إنتاج، وجمهور مستهلك لإعلامه من دون ثقافة. ومن تلك الفجوة بين حاجة الغرب إلى تحديث هوامش المجتمعات الأخرى، وخوفه العميق من حداثة متونها، ولدت الإشكالية التي صارت مألوفة عن ازدواجية المعايير داخل مشروعه الحضاري، فحكم بعض المعايير مسارات تطوره الذاتي، وتحكمت نقائضها بمسارات تمدده الخارجي؛ حيث احتل الغرب بلادًا ووظف أصحابها، في خدمة مشاريعه، فظل البناء الفلسفي المعتمد لمشروعه الحضاري عاجزاً عن حمل مشروع كوني حقيقي [7].
تمثلت تناقضات أطروحة التمركز الثقافي الغربي، في رفض أوروبا التنوع البشري الثقافي، وادعائها امتلاك الحقيقة، موجهة بنزوع إمبريالي، مستند إلى أيديولوجيا التقدم والعقل والحرية، أسهم في تبلور تناقضاتها وأوجهها المتعددة، وفي تطبيق نظريات العلوم الإنسانية الحديثة على الآخر، هذا التطبيق الذي عبّر بوضوح تام عن النزعة الاستعلائية لمرجعياته الفكرية، التي يجعلها الأوروبيون في المقدمة دائماً. وفي هذا السياق تعرض الباحث إدريس هاني في دراسته حول « نقد الإنتروبولوجيا والتمركز الأوروبي ـ حالة إفريقيا» إلى اصطدام هذه النظرة الغريبة للذات بحقيقة مرّة تمثلت بالنموذج الأفريقي، في إطار المعطيات الأنتروبولوجية التي أُريد لها أن تُسخر في خدمة التمركز الأوروبي، لكنها انقلبت ضده، حيث غابت المصاديق الأنتروبولوجية في المجتمعات المدروسة، ومن ضمنها المجتمع الأفريقي. هذا المجتمع الذي يمتلك خصوصية الذوق وخصوصية الاتجاه، وبدلاً من أن تلتفت الأنتروبولوجيا إلى التراث الأفريقي، الذي يعبّر عن الهموم والأفراح المشتركة بين الشعب الإفريقي وبين المجتمعات البشرية، راحت تؤكد على تفسيرات التجلي البدائي في العقل الإفريقي وانغلاقه، من خلال دراسة بعض المظاهر الأسطورية في هذا المجتمع [8].
تبيَّن التركيب المتناقض للمشروع الثقافي الغربي، بالرغم من صنع أوروبا لنفسها أقنعة مكنتها من ممارسة الأدوار المتناقضة، ومع إعادة منظريها كتابة تاريخ الإنسانية انطلاقاً من طموحاتهم المتمثلة في مزيد من السيطرة على العالم، في صلب المشروع نفسه، وأطروحة التمركز الأوروبي، الذي وظف في الحرب الأيديولوجية الرامية إلى تعميم التفوق الغربي في مختلف أصعدة الحياة. هذه الأطروحة اقتضى بناؤها الخلط بين معطيات تنتمي إلى مجالات معرفية، وأخرى ترتبط بالتوظيف الايديولوجي الرامي إلى إنجاز مهام سياسية وأيديولوجية محددة، وهنا إشارة إلى السوسيولوجيا الاستعمارية والأبحاث اللغوية، وأنثروبولوجيا الإثنيات، وغير ذلك من المجالات المعرفية التي تم فيها توظيف الآلية الأيديولوجية المتمركزة على الذات الغربية، كذات فاعلة في التاريخ، بهدف ضمان استمرار فاعليتها بأكثر من وسيلة، ثم حماية مكتسباتها ومصالحها في المجالات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والايديولوجية [9].
هذه التناقضات التي تكشفت، مع تطور مشروع الحداثة، وتجلي ازدواجية المعايير في الأدوار التي مارستها الحضارة الغربية، بجانب المقاومة التي أبدتها الشعوب غير الأوربية، أطلقت النقاش حول نقد المركزية المعرفية الغربية، فالنزعة التحررية التي صاحبت عمليات مواجهة الاستعمار الأوروبي في إفريقيا وآسيا، أبرزت عاملاً آخر ساهم في إضفاء النسبية على ايديولوجيا التمركز الثقافي الغربي. يتعلق الأمر بالخصوصيات الثقافية والتاريخية للأمم والشعوب غير الأوروبية، فلم تعد الأحكام المعرفية العامة التي بلورها الفكر الغربي وبلورتها العلوم الإنسانية في لحظات تشكلها، وتشكل نماذجها المعرفية والأبستمولوجية أحكاماً عامة ومطلقة، بل تم إضفاء كثير من النسبية عليها. فلا يمكن للمعارف السوسيولوجية والسيكولوجية أن تصبح كونية وعامة، إلا بإدخال عناصر المتغيرات التي تنتمي إلى مجالات خارج محيط المركز الغربي [10].
على المستوى الخطابي، أي العناصر المكونة للخطاب وآليات تطبيقاته، فقد قُدمت تشخيصات للآخر الغربي، وقراءة لخطابه الكولونيالي، وكان من أهم من اشتغل في هذا المجال فرانز فانون، وهومي بابا، وقد وصف الأخير خطابات المستعمِر بأنها تتميز بتمثيلاتها الساحقة، وتصير إنشاءً متخيلاً يقدِّم سرداً يقتنع بأنه ممثل للسكان التابعين. وكما وصفه بابا فالخطاب الكولونيالي هو جهاز يعمل على الاعتراف بالاختلافات العرقية والثقافية والتاريخية، وإنكارها، ووظيفته الاستراتيجية الغالبة هي خلق فضاء للشعوب التابعة، بإنتاج معارف تمارس من خلال المراقبة، ساعيًا إلى إقرار استراتيجية عن طريق إنتاج معارف بالمستعمِر والمستعمَر، التي تكوّن نمطية مقولته، لكنها تقدم تقويماً متناقضاً. فالقراءات المنمَّطة التي اتخذت شكلاً مُقولباً وشبه ثابت، لكن بصورة مختلطة ومجزَّأة، عن تنوعات في التوصيف الذي ألصقه الآخر بالسكان الأصليين بواسطة سردياته، فهم أنماطٌ دونية تستأهل التوجيه، وقبولها يرتبط بقابليتها للمعرفة، ووضعيتها التابعة، فجعل الأسود متوحشاً ومن أكلة لحوم البشر، لكنه أكثر خنوعاً. فالكائن الأسود هو تجسيد للجنسانية الهائجة، ومع ذلك فهو بريء كالطفل، إنه صوفي وبدائي وساذج، ومع ذلك، إنه الأكثر دنيوية [11].
لا يقر الخطاب الاستعماري بالمساواة، ولا يؤمن بالشراكة الإنسانية في القيم العامة، وتقوم فرضيته على ثنائية ضدية، كما يذهب الباحث العراقي، عبد الله إبراهيم، فالمستعمِر ممثل الخير وسمو المقام والرفعة الأخلاقية والتقدم، أما المستعمَر فمستودع للشر والانحطاط والدونية والتخلف، ولا سبيل الى لقاء بينهما إلا حينما يدرج المستعمَر كتابعٍ للمستعمِر، فربما جرى تعديل وضعه، لكنه لن يكتسب السوية البشرية الطبيعية، فيكون بذلك مثل العبد الذي يحاول تقليد سلوك سيده، لكنه لن يتبوأ رتبة السيادة، فعبوديته تبقى هي المانحة لقيمته. وكذلك الأمر في سوق التداول الاستعمارية، حيث تكون التبعية علامة امتثال بها تتحدد قيمة التابع [12].

جدلية التابع والمتبوع
لقد أراد الخطاب الاستعماري تملك الآخر، فلم يضعه في مستوى رتبته، إنما حجزه في رتبة التابع، فمارس بذلك نوعًا من الرغبة في التملك، وعدم الإقرار بها، إذ قام المبدأ الاستعماري على فكرة السيطرة على الآخرين بالقوة المعززة بالمراقبة والعزل، والأخذ بفكرة تفوق الطبائع والثقافات؛ فروج لمعرفة خدمت المصالح الاستعمارية، وسعى إلى تثبيت صورة راكدة للمجتمعات المستعمَرة، فكان بذلك جزءًا من وسائل السيطرة عليها، لأنه وضعها في موقع أدنى من موقع الشعوب المستعمِرة. وانشق مضمونه إلى شقين: ظاهر ادعى الموضوعية، وقام بتحليل الأبنية الثقافية والاقتصادية والدينية لتلك المجتمعات، بمناهج وصفية لا تنقصها الدقة العلمية، ولكن تعوزها الرؤية الصحيحة، ومضمر روج لفكرة التبعية، ومؤداها ألا سبيل لبعث الحراك في ركود المجتمعات الأصلية، إلا باستعارة التجربة الغربية في التقدم، وتبني خط تطورها التاريخي [13].
بالنسبة للشرق العربي والإسلامي، اتضح الخطاب الغربي المتمركز حول ذاته في الكتابات الاستشراقية التي قدمت صورة نمطية للشرق في المتخيل الغربي، فلم يستطع النشاط الاستشراقي التحرر من مضامينه الغربية في قراءاته، وانطلق المستشرق من أرضية ثقافته الخاصة، بإسقاطات غير عادلة عند التناول والتقييم، ومن منطلقات الفكر الأوربي نفسه في مراحل تفوقه [14].
وفي هذا السياق تطرق إدوارد سعيد في كتابيه «الاستشراق» و«تعقيبات على الاستشراق» إلى أسس التفكير الغربي تجاه العرب والمسلمين، وبيّن أن الغرب تشكل وعيه تجاه الشرق على أساس الاستشراق، فذكر أن الدارسين الأوروبيين قاموا بوصف الشرقيين بأنهم غير عقلانيين وضعفاء ومخنثين، على عكس الشخصية الأوروبية العقلانية والقوية والرجولية. واعتبر سعيد أن موطن الضعف الأساسي في خطاب الاستشراق هو التحيز الأيديولوجي الغربي ضد المسلمين، كانعكاس للإمبريالية الثقافية الأوروبية [15].
على ذلك، يمكن القول بأن الغرب روج لمعرفته عبر خطاب خدم أهدافه ومصالحه، كرس صورة للآخر غير الغربي، وثقافته وعناصرها، تستدعي ضرورة الدوران في فلك التطور والمعرفة الغربيين، كمكونات للتجربة الغربية، التي اعتبرت النموذج الأوحد والأمثل للتقدم الإنساني.
2ـ الثقافة في بنية نظام السوق: عولمة قسرية
ثمة خلاف حول مراحل تطور العولمة، ومدلول الكلمة من حيث النشأة والتشكُّل، فإذا كان المصطلح حديثًا، فإن الظاهرة «كواقع عالمي» قديمة، ارتبطت بالإمبراطوريات الكبرى في التاريخ التي نزع معظمها باتجاه تأسيس «الطابع العالمي للثقافات والحضارات»، فأيّ حضارة منتصرة أو «قاهرة/غالبة» تختزن في داخلها نزوعًا، أو «مشروع نزوع» باتجاه العالمية والكونية في الدعوة إلى مبادئها، وأنساقها المعرفية الحضارية الخاصة، بهدف تحويلها لحالة دعوتية سلوكية عامة. لكن هذا النزوع يصبح نوعًا من القهر والضغط والاستعمار، عندما تنطلق مفاعيله على شكل سلوك عدواني، ينزع للهيمنة والتسلط في فرض نمط وحيد أحادي على الآخر، على مستوى الفكر والثقافة وأساليب العمل والحياة [16].
هناك من يربط، العولمة بعصر النهضة في أوروبا، ثم الثورة الصناعية، وما أدت إليه من نشأة الطبقة البرجوازية، وتطور النظام الرأسمالي، وحركة الاستعمار التي زادت حركة التجارة وتبادل السلع بهدف توفير الأسواق ومصادر المواد الخام، وتأمين طرق التجارة، وضمان استمرارية عملية التراكم اللازمة لتطور النظام الرأسمالي، ثم أخذت مسارها التطوري مع تقدم وسائل التواصل والاتصال الحضارية، فقد كان ذلك التواصل والتفاعل البشري يتزايد ويتعمق من حين لآخر، حتى وصل حاليًّا إلى أعلى أشكاله وأنماطه، من خلال هذا الكم الهائل المتدفق من وسائل الإعلام والتواصل، والتقنية الحديثة المعاصرة العابرة للحدود، والآفاق الكونية التي تأسست على قاعدتي التبادل التجاري والتبادل المعلوماتي، بآليات ومعايير معقدة تجعل من السوق العالمية ساحة مفتوحة لكل من يمتلك المال لشراء الأسهم والمستندات والمعلومات في دقائق معدودات [17].
ويعتبر الباحث المغربي، عبد اللطيف الخمسي، أن تاريخ العولمة محكوم بتحولات عميقة قد ترجع إلى التحولات العميقة التي عرفتها رأسمالية القرن التاسع عشر، وحكمته فلسفة فرض نموذج واحد للمعرفة والتطور، وضعت لصالح هيمنة محددة، شكلت منطلقًا خطيرًا على الصعيد المعرفي والتاريخي، تمثل في وضع حد فاصل بين شعوب متقدمة، عقلانية، وأخرى بدائية، ما زالت تعيش المرحلة الميتافيزيقية، وبأن ليفي بريل هو خير معبر عن هذا المنطق في كتابه الشهير «العقل البدائي»، والذي يمكن اعتباره إنجيلاً لكل التصورات المدافعة عن عولمة قسرية، لا ترى أمامها إلا نظام السوق، وقيمة الربح. فخطاب العولمة الآن يجد سنده الكبير في الأنثروبولوجيا الاستعمارية المتمركزة حول العرق، وحول ثنائية شعوب بدائية/شعوب عقلانية متحضرة. كما أن فلسفة هيجل باتت تشكل المنطلق الأساسي لأغلب منظري العولمة، وذلك استنادًا إلى أطروحة «نهاية التاريخ»، والعلاقة الدموية بين العبد والسيد، والصدام الحضاري، التي تشكل الخلفية الفلسفية لكل دعاة العولمة، «ففلسفة هيجل التاريخية، في ارتباط بأطروحة العولمة ليست سوى تبرير نظري لمشروعية هيمنة السيد العقلاني على الإنسان الشرقي الغارق في ضلالات الوهم والتعصب» [18].
ما يستهدفه نظام العولمة من إقرار وضمان سيطرة مطلقة للغرب الرأسمالي، وفرض أنماطه، وجد تأسيسًا له في الفهم والتصور الغربي القائم على استخدام أي تمايزات ثقافية وعرقية لصالح العولمة، ثم في الليبرالية الجديدة، كعقيدة اقترنت بتمدد وتطور ظاهرة العولمة بأبعادها السياسية والاقتصادية والثقافية.

النيوليبرالية كظاهرة ايديولوجية
مع ظهور الليبرالية الجديدة، كمفهوم أيديولوجي، ظهرت مفاهيم واصطلاحات جديدة مرافقة للخطاب النيوليبرالي، ومؤسِسة له، مثل المنافسة الحرة، وإحلال السوق محل الدولة، وفتح الأولى وزيادة مرونتها. فقد استخدم هذا الخطاب، ظاهرًا وضمنيًّا كلمة «الحرية»، و بعض مفاهيم الليبرالية التقليدية، مثل أهمية الفرد، والحد من دور وتدخل مؤسسة الدولة، والسوق الحرة.
ومن بين مظاهر الفكر الليبرالي الجديد، وتأثيره على الأفراد، ظهور مواطن انعزالي، يتميز بدرجة عالية من البراغماتية، أوالذاتية، وينطلق سياسيًّا من وحي التسرع، ومحاولة ابتلاع الآخر، ماديًّا واجتماعيًّا. فالليبرالية الجديدة تؤسس لمفهوم جديد حول الواقع الاجتماعي وتبعاته الاقتصادية، وكذلك حول النظريات الاقتصادية وتبعاتها الاجتماعية، بما في ذلك توَسع هوّة الخلل الداخلي التي تُلقي بآثارها على حياة سكان هذه البلدان. وتتضح بين مواطني الغرب الذين يعيشون في ظل النظام الليبرالي الجديد في وضع، فيما يتمتع سكان المناطق القريبة من المركز بحياة أفضل من سكان المناطق الواقعة على الهامش. وتستغل الليبرالية الجديدة هذه الحالة، من وحي الصياغة الأيديولوجية من أجل توظيف الثروة المادية والأسواق الخارجية لصالح سكان المركز [19].
لم تقتصر اتجاهات العولمة على إزالة الحواجز بين الأسواق المالية، وتوسيع مبادلات السلع والتكنولوجيا والخدمات ورؤوس الأموال ووسائل الاتصال، بل لها اتجاه آخر تندثر بمقتضاه الخصوصيات الثقافية وأنماط الاستهلاك الخصوصية من جراء تجانس الطلب، وخضوع المنتوجات لتنميطات موحدة، ذات بعد كوني شامل. فالسوق المعولمة ترفض اعتبار وجود خصائص وطبائع ثقافية أو سيكولوجية محلية، وبذلك فإن العولمة تقضي بميلاد نموذج جديد للتبادل له بعد كوني [20].
لقد ارتبط الحديث عن الثقافة في بنية نظام السوق العولمي، باستخدامها في التوظيف لبُعده الاقتصادي، وما ترتب عليه اجتماعيًّا، فأصبحت الثقافة سلعة، أجاد استخدامها واستغلال اختلافها وتبايناتها الشركات متعدية الجنسية، من أجل الترويج للسلع عابرة الحدود، ذلك الاستخدام الذي كرَّس الاختلاف، ووظفه تجاريًّا، من منطلق عنصري وتمييزي، يُبقي «المتخلف» متخلفًا، حتى يُستثمر تخلفه، ويصب في صالح القائمين على السوق المفتوحة، والمروجين لها، وواضعي قوانيها. وبالتالي، أعادوا تعريف الثقافة، وكل افتراضاتها، وارتباطاتها بالهوية والبيئة والجغرافيا، حتى تناسب تحديات نظام العولمة من تحولات اقتصادية وتكنولوجية واجتماعية، بل تُسخَّر من أجل تلك التحولات.
في سعيه للترويج لمفاهيمه وسياساته الاقتصادية الرئيسة، روج الخطاب النيوليبرالي للثنائية ذاتها: الآخر المتخلف/ الغرب المتقدم، مُعْزِيًا تخلف الأول لأمور ملازمة ذاتية، منها الثقافة، فبجانب فشل الدولة في الإدارة، والافتقار للطاقة البشرية المؤهلة، وانعدام روح المبادرة، وحاجة الدول الصغرى للكبرى للتدخل ومؤسساتها، في رسم سياسات الدول الصغرى الاقتصادية؛ من أجل تطويرها، اعتبر ذلك الخطاب أن ثقافة الآخر المتخلف الفقير هي المسؤولة عن تخلفه، وأنه يتعين دعمه بواسطة «برامج مساعدة التنمية». هنا يصبح جزءًا من تعريف الثقافة، أنها إذا كانت عاملاً للتقدم، فمن الممكن أن تكون أيضًا عاملاً مضادًّا له، أي سببًا في الفقر والتخلف، والنتيجة المترتبة على هذا الطرح هي: «نحن أغنياء لأن ثقافتنا تدفع وتشجع على ذلك، وهم فقراء، لأن ثقافتهم لا تسمح لهم بالتقدم، وعليه، فإذا كان الازدهار مرهونًا بالثقافة، فالتخلف نتيجة لها أيضًا». أي أن الثقافة تحدد فرص التنمية أو التخلف، فإذا ما أخذنا بهذا التحليل، فلا مجال للهروب من هذا المصير، والمحصلة النهائية التي تترتب عن ذلك هي أن الدول النامية لا مفر لها من العولمة. فجانب عولمة الاقتصاد وفتح أسواق الآخر، تعدت، مع الليبرالية الجديدة، حدود الاقتصاد والسياسة إلى عولمة ثقافة معينة، هي ثقافة الأنا، وبسطها على الآخر، لأنها الوحيدة الكفيلة بالمبادرة والتقدم والازدهار والحرية [21].
موضعة الثقافة تلك في نظام العولمة تربط بين معارك العولمة الاقتصادية والسياسية من جهة، والثقافية من جهة أخرى، ولا تفصل بينها، فإذا كان ذلك النظام قائم على الاستغلال والهيمنة الاقتصادية، فإن تدمير، وابتلاع، واستضعاف ثقافة الآخر، وطمس تشكيلاته الثقافية، مقوم أساسي لفرض الهيمنة وتكريسها، كرأسمال رمزي يوظف لصالح رأسمال مالي. ويقوم بدور محدد، بجانب الدور الاقتصادي والسياسي، في عملية الانصهار القسري في النظام العالمي.
أما الجدل حول التجانس الثقافي والتنوع الثقافي، وتبني خطاب الاختلاف الثقافي لفتح مسارات جديدة للمجتمع العالمي، ولتشارك دول الشمال والجنوب في إنتاج ثقافة بديلة، والترويج لزوال فكرة المركز والهوامش، فيقتضي مقاربة لمفهوم الاختلاف لدى منظري العولمة، وتبعات التجانس المنشود على أساسه.
من منظور الغربيين، أصحاب مدرسة التنوع الثقافي للعولمة، فإن الاختلاف والاختلاط بين الثقافات يفترض مقاومة أفكار النقاء الثقافي، والثقافات الأصلية الموحدة، وزعزعة مفهوم الثقافة التقليدي الذي ـ من وجهة نظرهم ـ حبس الهوية الثقافية في دائرة العرق الحتمية، بوضعه حدودًا واضحةً أو «سياجًا وهميًّا» يحيط بكل ثقافة، وأن كل من يقعون داخل هذه الثقافة متفقون ومشتركون، في الوقت الذي تشير الدراسة والملاحظة إلي الاختلافات والانقسامات في أساليب الحياة. فتلك النظريات تدعو إلى الاحتفاء بالتنوع الثقافي والاختلاط والتداخل الثقافي في عصر العولمة، وترفض نموذج المركز والأطراف، متجاهلة توزيع القوة والسلطة في النظام العالمي [22].
تقول ماري تريز في قراءتها لخطاب ما بعد الحداثة، من منظور ما بعد كولونيالي، أن الفكر الما بعد حداثي، (الذي انبثق عنه خطاب العولمة)، ينزع إلى إذابة الاختلافات بتجاوز الحدود والهوامش، بوصفها حواجز مصطنعة، سوف تأتي بنتيجة عكسية. فتقبل الاختلاف في كافة أشكاله دون تمييز قد يفضي إلى تحويله إلى نموذج معمم في محاولة للتوصل إلى مفهوم للعالمية يتأسس على الاختلاف، مما يعني تأكيده دون محاولة التعرف عليه، أو التداول معه. وفي تأكيد الاختلاف ما ينذر بعهد جديد من الكولونيالية المستترة، تتخفى وراء خطاب فكري معكاس لخطاب الكولونيالية، الذي اتخذ من نشر الحداثة الغربية ذريعة للفصل بين العالم المتمدين والآخر المتخلف لإضفاء صفة الشرعية على تطلعات الغرب الاستعمارية. ففي مواجهتها للحداثة الغربية بتوجهاتها الإمبريالية، وخطاب المركزية، عالجت ما بعد الحداثة الخطأ بمثله بخلق نظام عالمي جديد؛ لمواجهة نظام عالمي سابق، وكأنها تحارب الشمولية بمثيلتها. فبرغم إسهام حركة ما بعد الحداثة في تقويض بنى الحداثة السلطوية، إلا أنها ساعدت على إقامة عولمة شمولية بديلة، ينبغي نقضها بمؤازرة العناصر المقاومة لرأس المال [23].
لقد اقتضت خطة التجانس العالمي، أن تصبح شروط السوق مقياسًا معقولاً مُعدًّا داخل أشكال الحياة في الأطراف، وآلية ذلك التدفق الثقافي، ونشر أنساق فكرية، وسلع ثقافية عابرة للقوميات، بل وهيمنتها، عبر التكتلات الكبرى التي تضطلع بمهمة الثقافة في النظام العالمي، التي لا تهتم بجودة تلك السلع، ولكن بحجم ما تحققه من مصالح، وهذا بالضرورة يأتي على حساب الثقافات المحلية، فهذه السلع لا تعبأ بأيّ تمايزت ثقافية لسكان الأطراف «المستهلكين» لتلك الثقافة، المنتمية إلى أسس غربية في أساسها، والقادرة على الاختراق والتأثير بحكم امتلاك المركز مقومات تفوقها لجهة الإغراق الثقافي.
عن التصورات الخاصة بالمستقبل الثقافي في عالم اليوم، الذي يموج بالتفاعل والتبادل الثقافي المتواصل، ليس فحسب من الزوايا الثقافية والاقتصادية، كما كان الحال في المرحلة الكولونيالية، وإنما أيضًا من زاوية بنائه الثقافي، العالم الذي لا يشكل قرية عالمية تتسم بالمساواة، بل هو ليس سوى صرح مبني، بصرامة، دونما تناسق أو تماثل بين المركز والأطراف، يذهب أولف هانرز في تصوره لسيناريو تحقيق التجانس العالمي للثقافة إلى أنه يجري التصوير الخطابي للتهديد القاتل للإمبريالية الثقافية، باعتباره يضم ثقافة التكنولوجيا العالمية للمدن والعواصم، إضافة إلى المساندة التنظيمية القوية في مواجهة ثقافة شعبية صغيرة لا حول لها ولا قوة. ولكن «الإمبريالية الثقافية»، كما أصبح واضحًا، تمتلك علاقات بالسوق تزيد عن علاقاتها بالإمبراطورية. ويعمل المحرك الرئيسي المزعوم لعملية التكرار البشري العام للاتساق في الرأسمالية الغربية السابقة على الدوام على إغراء مزيد من المجتمعات نحو الاعتماد على أهداب المجتمع الاستهلاكي، عالمي النطاق، الآخذ في الاتساع. وتحقيق التجانس ينتج أساسًا عن طريق تدفق الثقافة كسلعة من المركز نحو الأطراف، ووفقًا لهذه الرؤية فإن الثقافة العالمية المتجانسة الوافدة، سوف تكون، على وجه العموم، صيغة من الثقافة الغربية المعاصرة، وعندئذ سيظهر فقدان الثقافة المحلية بشكل متمايز عند الأطراف [24].

سيناريو «الفساد بالأطراف»..
بينما يقول هانرز بأن هناك سيناريو آخر يتعلق بالعملية الثقافية العالمية، ولكنه قابع في موضع خفي، ولا يخرج كثيرًا للمنافسة مع سيناريو تحقيق التجانس العالمي، وهو سيناريو «الفساد بالأطراف»، إذ إن ما يصوره كمتتابعة متكررة دوريًّا يقع أينما يمنح المركز مثله العليا، وأفضل معارفه، مع وجود شكل مؤسسي، وأينما تتبنى الأطراف هذه المثل والمعارف، ثم سرعان ما تقوم بإفسادها. يحدد هذا السيناريو لمن يقعون في المركز متى يتشاءمون بشأن دورهم في تحسين العالم، بل ويرتابون في الأطراف ويسخرون منها. ويتعلق الأمر بمركزية عرقية عميقة، إذ تفرض توزيعًا غير عادل على الإطلاق للقوة والتأثير، وبذلك يأتي إنكار صحة وقيمة أي تشكيلات قائمة لدى الأطراف، وكانت مأخوذة في الأصل من المركز. وهنا تكمن قضية وجود قدر من الاختلاف الثقافي، ولكنه اختلاف بين الثقافة وغير الثقافة، بين الحضارة والهمجية [25].
أما عن الأدوات، وحتى تتوفر أسواق لاستهلاك منتجات العولمة المادية والرمزية، بصناعة وتعميم الشخصية الاستهلاكية، وتعميم نموذج موحدٍ للقيم، متجاوزٍ للخصوصيّة ومفككٍ لعناصرها، فقد تلازم إنتاج العولمة بإنتاج الصورة الخائلية، ولعب التقدم التقني وعلم المعلومات في تطوير النظم الخائلية مفضيًا بدوره إلى دعم الاقتصاد الرأسمالي، الذي يعتمد بشكل أساسي على الخائلي لتطوره. وعلى خلاف رأس المال الصناعي، الذي اعتمد على إنتاجية العمل وتحولها إلى الإنتاج الكمي، يعمل رأس مال العولمة عبر دائرة السبرانية العابرة للأقطار، بفعل ضخ المعلومات الفورية عبر الشبكات الإليكترونية، مختصرًا المسافات. وصارت الصورة سلعة جاهزة للاستهلاك السريع وسهولة التداول، لما تسهله من إمكانية التواصل عبر الحدود إلى أبعد المواقع. فسهل ذلك ظهور أنظمة سلطوية مغايرة للأنظمة الكولونيالية السابقة تعتمد إدارتها على الصورة الخائلية من جهة، والبنوك وشركات استثمار الأموال المتعدية للجنسيات من جهة أخرى، حيث يعد نظام البيع والتعامل عبر كروت الائتمان دربًا من البيع الخائلي، فهو بيع مُرْجَأُ السداد، مما يُعجِّل بتداول رأس المال. فالسداد المؤجل يساعد الرأسماليين على إعادة توظيف الأموال، ومن ثم تسديد ديونهم، وبهذا النظام يغدو تداول رأس المال عملية خائلية غير منتهية، ينمو فيها رأس المال «كجسم بدون أعضاء» في شبكة من أنظمة خائلية تنتمي إليها ثقافة الصورة المعولمة، فيتراكم رأس المال بمعدل تداول الأموال وتداول الصور، ومثلما يتولد المال عن المال، تتولد الصور عن الصور [26].
كما أن الإعلام الجديد، الذي تزامن تطوره مع ظاهرة انتشار وتوسع العولمة، أسهم في تنامي قيم العولمة، التي توهم بامتلاك الحرية المطلقة في الاختيار والامتلاك الخصوصي للأشياء والأفكار، ولعب دورًا كبيرًا في تشجيع القيم الاستهلاكية. فالعولمة خلقت فيضًا من الخيارات، ولكنها أوجدت تقاربًا في التطلعات والقيم، التي تركزت على رغبة الإنسان في التملك والاكتساب، وهو ما أصبح معروفًا في الخطاب السائد بالتنميط الثقافي، أي توحيد التطلعات والرؤى والقيم حتى الأحلام، حيث تصبح متشابهة لدى الجميع؛ فيتجه الفرد أكثر فأكثر إلى الفردانية، وهي قيمة تعتبر الفرد مركز الكون، ومرجعية ذاته، ويتم بالتالي إسقاط أي اعتبارات يؤمن بها المجتمع لفائدة قيم العولمة. وعلى الرغم من تصدير انطباع واهم بالحرية، عبر الإعلام الجديد، فإنها ليست مطلقة، فهي موجهة من طرف الشركات العملاقة متعدية الجنسية التي تهيمن على الإعلام الجديد، كغيره من أدوات التواصل والاتصال، وبالتالي فالمضامين، بل حتى أشكال تصميم وتقديم القنوات والمواقع والتطبيقات ليست محايدة من الناحية القيمية، بل تعكس مضامين قيمية متحيزة لقيم السوق، وموجهة نحو الاستهلاك والتسلية والترفيه، أكثر من البناء الفكري والتفكير النقدي [27].
لذلك، فاجتياح العولمة، وتأثيراتها على الثقافات المحلية، المرتبطة بسياقات العولمة الاقتصادية والسياسية، وتبعاتها على دول الأطراف، وأفضت إليه تجربة التحديث الغربية التي سعت إلى إدماج الشعوب قسرًا، إلى خلق ثنائيات فكرية تعمل على الإقصاء، وما أنتجته العولمة من تفاوت في مصادر المعرفة والعلم، كنتاج للتفاوت الاقتصادي، وسعيها أيضًا إلى فرض قيمها، وتسليع الثقافة التي تحدد المنظومة أنها هي «الثقافة»، كل ذلك قد أفرز مقاومة متعددة الاتجاهات، من بينها التشدد في التمسك بالخصوصية القومية، التي ازداد حولها الجدل، في إطار جدل الثقافة بين العولمة والخصوصية، والمحلي والعالمي .
3ـ اتجاهات المقاومة الثقافية (الخصوصية ـ الكونية ـ الخروج من الثنائيات)
دفعت مآلات الهيمنة المعرفية والفكرية الغربية، وما كشفت عنه من مظاهر تأزم هذا النموذج الغربي وتحيزاته ونسبيته، واستمرار عملية فرضه بصيغ استحدثتها العولمة، إلى ظهور حركات مقاومة، أعادت النظر في مبادئ مركزية المعرفة الغربية، ومشروع الحداثة، وقيمه، ووضعية الثقافة في منظومة العولمة. وتصاعد الجدل حول مفهوم الاختلاف الثقافي والحضاري، وضوابطه، ودوره، وآليات مقاومة الهيمنة الغربية الثقافية، ما أفرز عدة اتجاهات في طبيعة وشكل تلك المقاومة في المجتمعات التي اعتبرت هوامش، تنوعت أسسها ومنطلقاتها، وما قدمته من بدائل.
أنتج النموذج المعرفي والحضاري الغربي، الذي سعى إلى الهيمنة، حالة من الشك واليأس في مبادئ عصر التنوير، ومشروع الحداثة بجميع قيمه وأسسه التي قام عليها، بما في ذلك مقولات العقل والعلم والتقدم والتحرر، فبرغم ظاهر انتصار العقلانية ومبادئها، وما قادت إليه من غنى فكري، وتنوع معرفي، وتقدم علمي وتقني هائل، إلا أن هذا الانتصار قد انحرف عن مساره، وأدى إلى نقيض مقصوده، ولا أدل على ذلك من أن هذه العقلانية التي بشَّرت الإنسان بعالم تسوده الطمأنينة والسعادة هي التي أدت إلى تدميره [28].
لقد حملت بداية القرن العشرين علامات ضعف وتراجع الانتصار الثقافي الغربي، فتبع الحرب العالمية الأولى، والتي كانت بمثابة تمزق داخلي في قلب الحضارة الأوروبية، استعادة بعض المفكرين لوعيهم بحقيقة الاستعمار، وما عليه من وحشية، وما يعانيه من ضعف. وتولدت أفكار بدفع الشعور بضرورة فهم التاريخ الأوروبي على ضوء التاريخ العالمي في حركيته، وعلى ضوء رؤية كونية للإنسان، حيث الأوروبي، ومهما كانت عظمته الحاضرة أو الماضية، ليس إلا صورة من صور الإنسان، وحيث الغرب ليس إلا صورة ممكنة للحداثة. ويقول جيرار ليكريلك «على الحضارة الغربية أن تقابل بالحضارات الكبرى التي يشهدها التاريخ، فلا تعتبر الحضارة الأوروبية بمثابة الحضارة بامتياز، إلا إذا كان في ذلك بعض السذاجة والادعاء» [29].

غواية الاستغراب
في المقابل، وفي مواجهة قوى إمبراطورية تريد إعادة تشكيل العالم، طبقاً لرؤاها ومصالحها، لجأت كثير من المجتمعات إلى الاعتصام بنفسها، وبقيمها، وبثقافتها، وذلك في رغبة عارمة للحماية الذاتية. فأضيف إلى أسباب التنازع، كالأيديولوجيات المطلقة، والاستبداد، والاستغلال، والمصالح، تنازعات نتاج المركزيات الثقافية، التي وجدت لها دعماً من أطراف التنازع، وبسبب غياب النقد الذي يجرّد تلك المركزيات من غلوائها، في نظرتها المغلقة إلى نفسها وإلى غيرها، فقد تصلبت تصوراتها، واصطنعت لها دعامات عرقية أو دينية أو ثقافية، أدت إلى زرع فكرة السمو والرفعة في الذات والدونية والانتقاص في الآخر، ومع أن كثيراً من أطراف العالم تداخلت في مصالحها، وثقافاتها، وأفكارها، لكن ضعف الفكر النقدي حال دون أن تتلاشى المركزيات الكبرى [30]. التي أسست لمفهوم الخلاف ينحصر في كونه مرادفًا للتميز والتفوق، أو العزلة والانقطاع.
على نقيض بعض المثقفين العرب، ومثلما حدث في معظم ما سمي «العالم الثالث»، الذين انبهروا بالغرب وشعاراته، وحضارته، ولغته، وانعكست العقدة التاريخية لديهم في تبني ما قدمه من أفكار وتصورات ومناهج، دون اعتراف بنسبية ثقافته وتاريخيتها، ما دفع إلى الانصهار في الثقافة الاستعمارية التي استهدفت الثقافات المحلية، فإنه كثيرًا ما اقترن أدب المقاومة بالقومية المتطرفة، ونشأ خطاب أصولي متمسك بالجذور الثقافية المحلية، وارتفع صوت الخطاب القومي بمعانيه الثقافية والدينية. وتقول ماري تريز بأنها نزعة يمكن تفسيرها بوصفها آلية لتعريف الذات وتأكيدها، واعتبارها عنصرًا من عناصر المقاومة، لما هو دخيل عليها ويسعى لتهميشها. وفي مواجهة خطاب الهيمنة المتستر وراء مزاعم العولمة، الذي يعمل على تقليص الإحساس بالهوية المشتركة في استهانته بالتاريخ المشترك للأمة لتحويل الاهتمام بحاضر تسيره قوانين السوق والتطلعات الاستهلاكية، تتجه بعض العناصر المحبطة إلى تخييل التراث والارتكان إلى أحد مصادره، لتأصيل جذوره، واقتطاع جزء من التاريخ لتأصيله، مما يستدعي وضع شروط لتفسيره ومن ثم تقنينه، ويأتي ذلك كرد فعل للمجتمع الاستهلاكي، الذي أسبغ كافة أنشطته بالطابع التجاري. فالخطاب الأصولي في خلقه للأسطورة، يسعى لتطهير الثقافة من النمط الاستهلاكي، بيد أنه يخفق في سعيه لأنه غالبًا ما يقيم نسقًا معرفيًّا يتعارض والدور الرئيسي للثقافة، حيث يعلي ثقافته على غيرها من الثقافات، ويكسبها الرفعة، ففي تطرفه لتأكيد الهوية وتنقيتها من الصورة الواهنة التي أضفاها الآخر عليها، يخلق الخطاب الأصولي لغة كولونيالية معكوسة تعمل على تهميش الآخر، لتأكيد الذات، في محاولة منه لتأسيس مركزية جديدة مضادة [31].
وعن تأكيد القيم الثقافية، كجزء من تأكيد الذات، يقول إيمانويل والرشتاين أنها كمقاومة ثقافية منظمة ومخططة، تماثل المقاومة السياسية، وتعد جزءًا لا يتجزأ منها، فعند تعمّد تأكيد (أو إعادة تأكيد) قيم ثقافية بعينها كانت قد تعرضت للتجاهل أو الانتقاص من قدرها، من أجل الاحتجاج على فرض القيم الثقافية للأقوياء على حساب قيم الضعفاء «فإننا نعمل على تقوية الأضعف في نضاله السياسي داخل دولة معينة وداخل النظام العالمي ككل، ولكننا عندئذ نمارس ضغوطًا لإثبات صحة قيمنا المؤكدة (أو المعاد تأكيدها) من زاوية المعايير التي وضعها الأقوياء... فعندما يعمل القائمون على تخطيط المقاومة الثقافية على تأكيد ثقافة بعينها فإنهم في واقع الأمر (يعيدون) إضفاء الشرعية على مفهوم القيم العالمية، لذلك تشتمل المقاومة الثقافية على المأزق نفسه، كما هو حال المقاومة السياسية، التي تستخدم هياكل النظام من أجل معارضته، وهو ما يضفي شرعية جزئية على تلك الهياكل، وبذلك تقبل جزئيًّا شروط النقاش كما حددتها القوى المهيمنة» [32].
في المجتمعات العربية والإسلامية، لخص البحث عن الذات لتأكيدها، عبر تضخيمها والتمركز حولها، مفهوم ومنظور الخصوصية الثقافية لدى الأصوليين في مواجهة هيمنة الغرب، فالخطاب الأصولي استدعى التراث، واختزل الصراع الكوني في صراع ما بين الإسلام والكفر، وبأنها معركة تخوضها الهوية الإسلامية ضد التغريب، فتلخصت المواجهة الثقافية في ثنائية الهوية الإسلامية/ التغريب، وارتكز مفهوم خصوصية الهوية الثقافية على ركائز عقدية، وبالتالي منطلقات الصدام مع الغرب، فأضحى السلاح الوحيد هو التمسك بجوهر تلك الهوية، وأصالتها، والعودة إلى الجذور، أي داخل إطار التراث، وليس بالتحرر منه أثناء التفكير، أو تأسيس معرفة علمية، لجهة فهم إشكاليات الحداثة وعلاقة التبعية بين المجتمعات التي خضعت وتخضع للهيمنة الغربية الرأسمالية، وإشكالات وتعقدات الواقع العربي والإسلامي، ومن ضمنها أسباب التخلف الذاتية، بعيدًا عن استدعاء التقولب التراثي، وتغذية شعور مقابل بالتفوق، والانعزال والانزواء.
في مقاربته للأصولية الإسلامية، اعتبر عبد الله إبراهيم بأنها ليست في صدام مع الحضارة الغربية، بل مع الأصولية الغربية. فالحضارات بذاتها لا تتصارع؛ لأنها المكسب النهائي للعقل البشري، لكنها وهي تتفاعل في ما بينها، تنتج أصوليات راديكالية ناقمة وعنيفة، هذه الأصوليات المغلقة على نفسها هي التي تتصادم، وليس الحضارات الكبرى، «فما نجده الآن ليس صراعاً بين الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية، إنما هو نزاع عنيف بين أصولية إسلامية لها تفسيرها الضيق للدين، وبين مزيج من أصولية إمبريالية ـ أميركية ذات بطانة مسيحية، تقول بالتفسير نفسه، وإذا كانت الجماعات الجهادية والسلفية تمثل الطرف الأول فالمركزية الغربية، ومنها العولمة الاقتصادية والثقافية القائمة على الاحتكار والاستغلال والهيمنة، بما في ذلك الأصولية المسيحية، التي نشطت في الفكر الديني خلال العقود الأخيرة تمثل الطرف الثاني، إذ يحاول كل طرف خلق مجال ثقافي وديني للتحيزات الخاصة به، فيمارس العنف باسم الحضارات التي ينتمي إليها، لكن تلك الحاضنات الكبرى لا علاقة لها بصراعاتهم». وعليه، تبطل بعض جوانب فرضية صاموئيل هنتنغتون القائلة بصراع الحضارات، فالأصح هو أن جماعات راديكالية أصولية تؤجج العنف داخل هذه الحضارة أو تلك، ضد مجموعة مضادة. إذن، فنحن بإزاء صدام للأصوليات وليس للحضارات، وبعبارة أخرى هنالك نزاع بين قوى تريد فرض هوية كونية، وقوى إقليمية تدعي الحفاظ على الهويات الخاصة [33].
على صعيد آخر، وفي سياق أوسع، ففي مقابل الحركات التي تبنت نزعات الغلو الديني والتطرف القومي، وأنتجت أيدلوجيات توافرت فيها درجة عالية من الكراهية للآخر، فإن حركات أخرى أفرزت نقدًا تحليليًّا للتجربة الاستعمارية، وتمكنت من تفكيك ركائز الخطاب الاستعماري، فانبثقت «دراسات ما بعد الحقبة الاستعمارية»، التي هدفت إلى إعادة النظر بالتركة الاستعمارية الثقافية في العالم، خارج المجال الغربي. وتشظت تلك الدراسات إلى فروع عدة؛ فشملت سائر المظاهر الثقافية من فنون وآداب وكتابة تاريخية. وظهرت على أنها رد فعل على تحيزات الخطاب الاستعماري، الذي اختزل الشعوب والثقافات غير الغربية إلى أنماط مضادة للتحديث، وعائقة للتطور، وقدم لها وصفًا يوافق مقولاته [34].
وسرعان ما تفرعت عن تلك الدراسات دراسات أخرى، سعت إلى إعادة الاعتبار للرؤى الأصلية، وفحص الظواهر الثقافية والدينية والعرقية، بعيدًا عن الإكراهات النظرية التي مارسها الخطاب الاستعماري. ثم ما لبثت دراسات ما بعد الكولونيالية أن تعمقت في سائر أنحاء العالم، فشملت المرأة، والجنوسة، والأعراق، والتاريخ، والهوية، والمقاومة، والأقليات، ومفهوم الأمة، وأساليب الهيمنة الثقافية، وأفرغت المنهجيات التقليدية من محتواها، وأجهزت عليها، إذ ضخت أفكارًا جديدة، وتصورات مبتكرة في تحليلها للظواهر الاجتماعية والثقافية. ولعل أبرز ما تمخضت عنه ظهور جماعات ناقدة، اندرجت في ما يصطلح عليه بـ «دراسات التابع»، التي أصبحت عابرة للقارات، وهدفت إلى نقد الخطاب الاستعماري وفرضياته، واقتراح المناهج البديلة لدراسة التاريخ الاجتماعي والسياسي والثقافي، وتفكيك المقولات الغربية في الآداب، والثقافات، والمناهج، وسحب الثقة العلمية والثقافية منها، عبر اقتراحات أخرى مغايرة أكثر كفاءة، تعالج بها شؤون المجتمعات خارج المركز الغربي [35].
لقد استهدفت قراءة خطاب ما بعد الحداثة، من منظور ما بعد كولونيالي، التوصل للغة نقدية تعمل على التخلص من الرواسب المتبقية من الماضي الإمبريالي، وقادرة على تعميق الوعي بالكولونيالية الجديدة المستترة في خطاب ما بعد الحداثة. فقد تناول نقاد ما بعد الكولونيالية ـ التي اعتبر الناقد الأسترالي، سايمون ديورنج، أنها ممثلة لحالة الشعوب والأمم والجماعات، التي عانت من الاستعمار، وتريد تأكيد هويتها بعيدًا عن المفاهيم الأوروبية، التي تزعم العالمية، ولا تتبناها في واقع الأمر ـ قضية الاختلاف من منظور مغاير، فالتعرف على الاختلاف بالنسبة لهم فيه سعي للتواصل عبر الثقافات، ويتركز سعيهم في قراءة التراث الثقافي من منظور يحترم الخصوصية، كما يرصد تفاعل تلك الخصوصية بالمؤثرات العالمية، فهو مسعى سياسي مغاير لموقف نقاد ما بعد الحداثة، في تناولهم للاختلاف تناولاً استطيقيًّا، أي ذريعة للتأمل السلبي، بدلاً من التفكير الإيجابي في كيفية تشييد معابر بين الثقافات.[36].
إذن، فإن مشروع الكونية الثقافية، في شكله وصياغاته وإدارة الغرب له، المستهدف الهيمنة والتوظيف من أجل مصالحه، قوبل بمقاومة متباينة الاتجاهات، فما بين تمركز مضاد، ومشروع يستبدل هيمنة بأخرى، ويقابل التعصب والعنصرية والاستعلاء بمثلها، بنزعة ماضوية، تسلب أيّ ثقافة محلية القدرة على مواجهة الدينامية القوية والمتقدمة لثقافة اليوم، لافتقادها أسلحة الخصم، والرؤية الموضوعية، وإدراك أبعاد وطبيعة الصراع. واتجاه آخر يسعى إلى تنقيح تاريخ العالم من المركزية بإعادة إنتاج الهويات التي انتزعت عنها ثقافاتها بفعل المستعمِر، و يقدم نقدًا للمشروع الثقافي الغربي في مجمله. واتجاه يرفض النزعة الأصولية، والتقوقع حول الذات، ونبذ الحداثة، ويدعو إلى القطيعة مع التراث، مع نقد الحداثة، وعدم إغفال الذات، وعناصر تأزمها، بالركون إلى الخصوصية، والانغلاق عليها.
بين هذا وذاك يستمر الجدل، وتتعقد خلافات اتجاهاته، ما أفرز تمردًا على سياقات وأطر المواجهة التقليدية، تمثل في ضرورة الخروج من ثنائيات تراث/حداثة، خصوصية/ كونية، المستعمِر/ المستعمَر، بخلق مساحة جديدة تكسر انغلاق دائرة المواجهات المتأزمة، وتتأسس على المساءلة، حتى تكون مقاومة الهيمنة أكثر فاعلية.
الخروج من الثنائيات، وخلق هذه المساحة ضروري، ليس من أجل مواجهة الآخر القمعي فحسب، بل من أجل أن تتكشف فيه المواجهات الداخلية، أيضًا، المتمثلة في الانقسامات داخل الأمة الواحدة. مساحة تقوم على تنمية العناصر المشتركة بين الثقافات، في المجالين المعرفي والاجتماعي، وتحقيق التواصل النقدي مع الذات والآخر، وفق جدل بين العقل والتاريخ على قاعدة الإبداع، حتى يمكن للهوية الثقافية أن تكون جزءًا من بناء ذات مستقلة، تستطيع مواجهة معارك الهيمنة الاقتصادية والسياسية، وتقويض أطروحة كونية الثقافة الغربية، والتمركز العرقي والطبقي وتَوجُّه المعرفة الأحادي لنظام العولمة.
-------------------------------------------
[1] أستاذة جامعية وباحثة في الفكر السياسي الحديث ـ جمهورية مصر العربية.
[2] السيد ياسين، المركزية الغربية وتجلياتها المعاصرة، أوراق ثقافية، الأهرام.
http://www.ahram.org.eg/Archive/2001/8/16/WRIT3.HTM.

[3] غزلان هاشمي، التحيز الأيديولوجي في التمثيلات الخطابية الغربية، مركز أسبار للدراسات والبحوث والإعلام، نوفمبر
http://www.dalilalkitab.net/?id=401.

[4] جيرار ليكريلك، العولمة الثقافية .. الحضارات على المحك، ترجمة: جورج كتورة، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، 2004. ص 33

[5] حسن أبو هنية، “روح الأنوار” كأيديولوجيا استعمار والإصلاحيّة الإسلاميّة، التقرير.
22/11/2014: http://altagreer.com

[6] جيرار ليكريلك، مرجع سبق ذكره، ص 34.

[7] صلاح سالم، العلاقات المصرية ـ الأميركية أسيرة الدين السياسي والمركزية الغربية، الحياة، لندن، 2/3/2015.

[8] إديس هاني، العرب والغرب.. أية علاقة.. أي رهان? عرض: عبد الرحمن الوائلي، مجلة الكلمة، العدد 23، ربيع 1999 http://www.kalema.net/v1/?rpt=388&art

[9] كمال عبد اللطيف، نقد المركزية الثقافية الغربية، العربي، الكويت، عدد 439، 1 يونيو 1995:
http://www.arabphilosophers.com

[10] نفسه.

[11] ناجح المعموري، هومي بابا ·· والنقد ما بعد الكولونيالي، الاتحاد، 15/12/2007:
http://www.alittihad.ae/details.php?id=159194&y=2007

[12] عبد الله إبراهيم، التخيل التاريخي والتمثيل الاستعماري للعالم، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، 8/7/2014: http://mominoun.com

[13] نفسه.

[14] غزلان هاشمي، مرجع سبق ذكره.

[15] اعتقد عدد من المفكرين العرب والغربيين أن إدوارد سعيد بالغ في نقده لخطاب الاستشراق، واعتبروا أن تفسير المشروع الاستشراقي في مجمله بأنه دراسات قامت على أساس «المعرفة هي السلطة»، وبالتالي فإن المستشرقين يبحثون عن معرفة الشعوب الشرقية من أجل الهيمنة عليها، يبدو ناقصًا، فثمة دراسات لمستشرقين ركزت على الجانب المعرفي، وليس الاستعماري، مثل المستشرقين الألمان. وأن هناك عددًا لا بأس به من كبار المستشرقين عرفوا كيف يميزون بين اهتماماتهم العلمية وبين الأهداف والغايات السياسية لبلدانهم (بين قوة المتخيل وحدود المعرفة)، مثل المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون، الذي كتب عن «الحلاج»، والمستشرق الألماني تيودور نولدكه، الذي كتب عن «تاريخ القرآن»، وإينياس جولدزيهر، ويوليوس فلهاوزن، وسلفستر دوساسي، وسيلفان ليفي، وبيشيل وآماري، ولوكوك، وغيرهم. انظر: بسام عويضة، صورة العربي في وسائل الإعلام الألمانية بعد «الربيع العربي»، مؤسسة مؤمنون بلا حدود
3/2/2014: http://mominoun.com

[16] نبيل علي صالح، مقاربة في المشروع الثقافي والحضاري الإسلامي: تحدّيات الحاضر وآفاق المستقبل، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، 25/6/2014: http://www.mominoun.com

[17] وليد محمود عبد الناصر، الحالة الراهنة للعولمة ومسألة الهوية الثقافية، نبيل علي صالح، مرجع:
http://www.arabworldbooks.com/Articles/articles66.htm؛

[18] عبد اللطيف الخمسي، الهوية الثقافية بين الخصوصية وخطاب

[19] محمد المذكوري المعطاوي، الليبرالية الجديدة والعولمة والثقافة، 13/1/2014:
http://www.hurriyatsudan.com/?p=139481

[20] محمد المذكوري المعطاوي، الليبرالية الجديدة والعولمة والثقافة، 13/1/2014:
http://www.hurriyatsudan.com/?p=139481

[21] محمد المذكوري المعطاوي، مرجع سبق ذكره.

[22] هديل غنيم، كيف يتطور مفهوم الثقافة استجابة لتحديات العولمة، الديمقراطية، الأهرام، القاهرة، عدد 31، يوليو 2008، من ص 42 ـ 44 .

[23] ماري تريز عبد المسيح، الثقافة القومية بين العالمية والعولمة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2009، ص 11ـ 12، 19، 20، 37، 51.

[24] أولف هانرز، سيناريوهات ثقافات الأطراف، في: الثقافة والعولمة والنظام العالمي، تحرير أنطوني كينج، ترجمة: شهرت العالم وهالة فؤاد ومحمد يحيى، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة ، 2005، ص 161 ـ 162.

[25] نفسه ص 162، 163.

[26] ماري تريز عبد المسيح ، مرجع سبق ذكره، ص 66 ـ 67.

[27] محمد مصباح، الإعلام الجديد: العولمة وتحدي «خصخصة» القيم، مؤسسة مؤمنون بلا حدود.
25/3/2014: http://www.mominoun.com

[28] علي صديقي، الأزمة الفكرية العالمية: نحو نموذج معرفي توحيدي بديل، مؤسسة مؤمنون بلا حدود.
17/4/2015: http://www.mominoun.com

[29] جيرار ليكريلك، مرجع سبق ذكره، ص36 ـ 37.

[30] عبد الله إبراهيم، صدام أصوليات لا صدام حضارات، الحياة، 13/10/2007.

[31] ماري تريز عبد المسيح، مرجع سبق ذكره، ص 28 ـ 31.

[32] إيمانويل والرشتين، القومي والعالمي: هل يمكن أن توجد ثقافة عالمية؟ في: الثقافة والعولمة والنظام العالمي، مرجع سبق ذكره، ص 150.

[33] عبد الله إبراهيم، صدام أصوليات لا صدام حضارات، مرجع سبق ذكره.

[34] عبد الله إبراهيم، التخيل التاريخي والتمثيل الاستعماري للعالم، مرجع سبق ذكره.

[35] نفسه.

[36] ماري تريز عبد المسيح، مرجع سبق ذكره، ص 12 ـ 13 ، 27، 37.