البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

فكر الاستنارة..وتناقضاته

الباحث :  عبد الوهاب المسيري
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  1
السنة :  السنة الاولى - خريف 2015 م / 1436 هـ
تاريخ إضافة البحث :  September / 20 / 2015
عدد زيارات البحث :  6278
تحميل  ( 132.989 KB )
فكر الاستنارة..وتناقضاته

عبد الوهاب المسيري [*]

أصبحت كلمة «استنارة»، مؤخراً، كلمة محورية في الخطاب السياسي والفلسفي العربي. وقد يكون من المفيد أن نُعلق على ما حدث للمصطلح في السياق العربي. ولنا أن نلاحظ أن تعريفات الاستنارة في الأدبيات العربية تعريفات عامة للغاية مثل «حق الاجتهاد والاختلاف»، و«شجاعة استخدام العقل»، و «لا سلطان على العقل إلا سلطان العقل»، و«الاستخدام العام لعقل الإنسان في جميع القضايا».
في هذه المقالة للمفكر وعالم الاجتماع المصري الراحل عبد الوهاب المسيري سنسعى لتأصيل الفكر التنويري الذي أعلنه بداية الحداثة في الغرب، كما يبيّن التناقضات التي انبنى عليها فكر الاستنارة، انطلاقاً من كونه حركة فلسفية بدأت تحفر مجراها في القرن الثامن عشر الميلادي في الغرب.
«المحرر»

عرف أحد المعاجم «الفلسفية» حركة الاستنارة بأنها «حركة فلسفية في القرن الثامن عشر تتميز بفكرة التقدم، وعدم الثقة بالتقاليد، وبالتفاؤل والإيمان بالعقل، وبالدعوة إلى التفكير الذاتي والحكم على أساس التجربة الشخصية» ثم توقف المعجم عند هذا القدر، أي أنه ساوى بين «تعريف حركة الاستنارة» والأماني الشجاعة الساذجة التي عبر عنها دعاة هذه الحركة، وكأن الأماني هي التعريف، وكأن المتتالية المثالية المفترضة هي ذاتها المتتالية المتحققة.
ولا بد أن هناك تعريفات أكثر عمقاً وتركيبيّة من هذه، ولكن المشكلة أن التعريفات النبيلة السهلة هي التي كُتب لها الذيوع، وهى التي أصبحت إطار الحوار بخصوص هذه الحركة الفلسفية الغربية، وكل ما تدعو إليه هذه التعريفات نبيل للغاية ولا يمكن للإنسان أن يختلف معها، فمن ذا الذي يرفض حق الاجتهاد والاختلاف وتحكيم العقل في جميع القضايا. فالمشكلة لا تكمن في استخدام العقل أو عدم استخدامه وإنما في نوع العقل الذي يُستخدم (عقل مادي أداتي أم عقل قادر على تجاوز المادة) وفى الإطار الكلي الذي يتحرك فيه هذا العقل والمرجعية النهائية التي تصدر عنه. (يُلاحَظ أنه ثمة ترادف بين كلمتي «استنارة» و«علمانية»، بل بين كلمتي «استنارة» و «مادية»، على الرغم من أن النزعة العقلية ليست بالضرورة مادية، والنزعة المادية ليست بالضرورة عقلية، والسوفسطائيون ونيتشه وفكر ما بعد الحداثة شاهد على ذلك).
1 ـ ومن الواضح أن صورة النور المجازية هذه ليست من إبداع العقل العربي العلماني، إنما هي صورة استعيرت من التراث الغربي لا بالمعنى المجازي وحسب وإنما بمعنى أنها قد «أُخذت» أو «اقتُبست» (كما نقول «استعرت الكتاب»). وإن كانت «الاستعارة» تعنى أن ما أُخذ يُردُّ، ففي حالة الاستنارة هي مجموعة من الأفكار اقتبست ولن تُرد بأيّ حال، فهي معنا باقية، وصورة الأنوار المجازية جزء من المعجم الفلسفي والحضاري الغربي. ولا بأس أن نستعير من حضارات الآخرين، إذ كيف يمكن أن يتسع أفقنا المعرفي وندرك ما أبدعته يد الإنسان في أماكن أخرى وفى أزمنة مغايرة؟ ولكننا سنلاحظ أن الفكر العلماني العربي، حينما يقتبس من الغرب، فإنه على ما يبدو يتجاهل حقيقة أن مصطلحات الآخر ليست جزءاً من معجمه اللغوي وحسب وإنما هي جزء من معجمه الحضاري أيضاً. ففكر الاستنارة وعصر النهضة يوضع عادةً في الأدبيات الغربية مقابل عصر الظلمات الوسيط، ولنا أن نسأل : هل العصر العباسي الأول (الذي يتزامن مع العصور الوسطى المظلمة في الغرب) هو أيضا عصر ظلمات بالنسبة لنا يتبعه عصر نهضة ثم عصر استنارة ؟ إن اقتباس الصور المجازية على هذا النحو أمر فكاهي يدل على أن بعض الإخوة العلمانيين غير عقلانيين في إيمانهم بالغرب حتى أنهم ينساقون للنقل بهذا الشكل دون تحكيم العقل.
2 ـ تُقدّم حركة الاستنارة إلى القارئ العربي على أنها مجموعة من الأفكار الجيدة التي سيؤدي تبنيها إلى إصلاح حال البلاد والعباد. ونحن نفرق بين الفكر والأفكار، ونذهب إلى أن العقل العربي ينقل أفكاراً لا فكراً أو منظومات فكرية، فكلمة «فكر» تفترض وجود منظومة مترابطة من الأفكار التي يوجد بينها وحدة ما، ونموذج معرفي واحد، وحينما يتم نقل الأفكار دون إدراك للنموذج الكامن وراءها، فإنه يتم تجاهل أبعادها المعرفية «الكلية النهائية» ومن ثَمَّ يختفي المنظور النقدي وتتعايش الأفكار المتناقضة جنباً إلى جنب ولا يمكن التمييز بين الجوهري منها والهامشي.
3 ـ الفكر العلماني العربي ليس منفتحاً بما فيه الكفاية على كل الحضارات الأخرى، فالحضارة «العالمية» بالنسبة للمثقف العربي تعنى عادة إنجلترا وفرنسا والولايات المتحدة والفكر الليبرالي والفكر الماركسي. وإن اتسع أفقه، ضم إلى ذلك إسبانيا وبولندا وروسيا، وإن كد وتعب تعرف على إيطاليا واليونان وهكذا، ولكنه لا يغادر نطاق العالم الغربي إلا في ما ندر. فحدود العالم ـ بالنسبة له ـ تنتهي عند العالم الغربي، ولذا فهو لا يعرف شيئاً عن الاستنارة في الصين (وبالمناسبة فإن مصطلح «استنارة» له امتداد تاريخي عريق في التراث الصيني).
4 ـ ابتدع العقل الغربي صورة الاستنارة المجازية في القرن الثامن عشر حينما كان العلم الحديث لا يزال غضّاً وليداً، فقد ساد الوهم لدى العلماء بأن العلم سينير المجهول (المُظلم) ليصبح معلوماً منيراً، وأن هذه العملية تدريجية، بمعنى أن رقعة المعلوم ستتزايد على مر الأيام ورقعة المجهول ستنكمش إلى أن تصل إلى نقطة تختفي فيها الأسرار ونتحكم فيها في الواقع وقوانينه ونصلح البيئة، بل وربما النفس البشرية ذاتها.
وبعد أربعة قرون من الاستنارة، اكتشف الإنسان الغربي أن الأمور ليست بهذه البساطة، لأنها لو كانت لكنا قد قضينا على الشر والأشرار (أو على معظمهم على الأقل) منذ زمن بعيد، ولما ظهرت في العالم الغربي (الذي طبق مُثُل الاستنارة منذ أمد بعيد) حركة عنصرية كاسحة في القرن التاسع عشر، وتشكيل إمبريالي شرس أباد الشعوب وأذلها، ولما اندلعت حربان عالميتان (غربيتان)، ولما ظهر الحكم الإستاليني والنازي اللذان لم يدمرا العقل وحسب بل دمرا الروح والجسد، ولما ظهرت حركات ثورية تدافع عن الإنسان وتحولت إلى حكومات إرهابية تبيد الملايين، ولما وجدنا أنفسنا في مدن إيقاعها لعين نسير في طرقاتها نتلفت من حولنا، ولما استيقظنا في الصباح نسأل عن أخبار التلوث والانفجارات النووية والتطهيرات العرقية والرشاوَى وعمولات السلاح والفساد والإباحية والإيدز وأخبار النجوم وفضائحهم ومعدلات تفكك الأسرة ومدى نهب الشمال للجنوب وحسابات حكام العالم الثالث في بنوك سويسرا، ولما ظهرت حركات عبثية لا عقلانية تناصب العقل العداء وتعلن بفرح وحبور تفكيك الإنسان ونهاية التاريخ، ولما شعرنا بالاغتراب حتى أصبح رمز الإنسان في الأدب الحداِثي هو«سيزيف الذي يحيا حياة لا معنى لها» وأصبح رمز العصر الحديث هو الأرض الخراب، ولما قضى الإنسان الحديث وقته في انتظار جودو الذي لن يحضر.
إن ثمرة قرون طويلة من الاستنارة كانت إلى حدِّ ما مظلمة، ولذا راجع الإنسان الغربي كثيراً من أطروحاته بخصوص الاستنارة بعد أن أدرك بعض جوانبها المظلمة وتناقضاتها الكامنة وخطورتها على الإنسان والكون.
ومع هذا، يقوم الفكر العلماني العربي بنقل أطروحــات الاستنارة من الغرب بكفاءة غير عادية تبعث على التثاؤب والملل أحياناً، وعلى الحزن والغم الشديدين أحياناً أخرى، فهو ينقل دون أن يُحوِّر أو يُعدِّل أو ينتقد أو يُراجع.

متناقضات الاستنارة
يشكل فكر حركة الاستنارة نسقاً فكرياً متكاملاً يستند إلى ركيزة أساسية. وقد وصفنا هذا النسق (بشيء من التبسيط غير المخل) بأنه “مادة عقلانية” تُعَدُّ تجليّاً للنموذج الحلولي الكموني الواحدي في صيغته المادية. ولأول وهلة يبدو الأمر وكأن هذا النسق الفكري متسق مع نفسه، ويجيب على كل الأسئلة التي تواجه الإنسان بطريقة واحدة وبسيطة. ولكن النظرة الفاحصة تبين أنه يحتوي على كثير من التناقضات التي تتبدى في مجالات مختلفة (نذكر منها على سبيل المثال):

المجال المتعلق بنظرية المعرفة:
ان فكر حركة الاستنارة، باعتباره فكراً عقلانيّاً ماديّاً، يصدر عن رفض فكرة المركز المتجاوز للنموذج والواقع، والإصرار على أن المركز موجود (حالّ) فى المادة ذاتها. ومن ثم أصبحت الحقيقة أمراً ليس مفارقاً للعالم (الطبيعة والإنسان) وإنما كامناً فيه، أي في طبيعة الأشياء (وليس مرسلاً من إله).
وفى داخل هذا النظام الواحدي الحلولي الكموني المادي، طرح الفكر الاستناري فكرة أن العالم يتبع قوانين مطردة ثابتة وأن العقل الإنساني أداة كافية، يمكن للإنسان أن يدرك من خلالها الواقع الذي يحيط به. ولكن ثمة إشكالية أساسية كامنة في المنظومات المعرفية التي تدور في إطار المرجعية المادية الكامنة هي إشكالية علاقة العقل الإنساني بالطبيعة / المادة وأيهما هو موضع الكمون (وهذه الإشكالية تتعلق بعلاقة الجزء بالكل والخاص بالعام). وتتبدى الإشكالية في الصراع بين النموذج الواحدي المادي المتمركز حول الذات والذي يفترض أسبقية الإنسان على الطبيعة / المادة والنموذج الواحدي المادي المتمركز حول الطبيعة /المادة ويفترض أسبقيتها على الإنسان. ولذا، نجد أن فكر حركة الاستنارة انقسم إلى قسمين يتبدى من خلالهما الصراع بين النموذج المتمركز حول الإنسان وذلك المتمركز حول الموضوع. فليس هناك مفهوم واحد للعقل وللإنسان والطبيعة وإنما مفهومان متناقضان متصارعان يؤديان إلى ظهور نوعين من أنواع الفكر، كلاهما يُصنَّف على أنه “عقلاني” : قسم يمنح أولوية للعقل على الطبيعة /المادة (التمركز حول الإنسان)، وقسم يمنح الطبيعة /المادة أولوية على الإنسان (التمركز حول الطبيعة). فالقسم الأول يرى أن العقل الإنساني عقل فعال يدرك الطبيعة وهو الذي سيصوغها ويستخلص منها القوانين ويؤسس النظم المعرفية ويصبح الإنسان والكون بديلاً للإله. أما القسم الثاني فيرى أن عقل الإنسان عقل سلبي وأن الأولوية للطبيعة وأن مهمة العقل الإنساني تتحدد في تلقى قوانين الطبيعة واتباعها والإذعان لها وكفى.
وبذا، نكون قد عدنا للإشكالية القديمة التي واجهتها الفلسفة المادية عبر تاريخها (منذ ظهور الفكر الفلسفي قبل سقراط) وهي مشكلة تحديد مركز الكون: هل هو الطبيعة /المادة أم الإنسان، وأيهما له الأسبقية على الآخر؟ إذ لا يمكن أن يوجد مركزان في الكون. ولا بد من حسم هذا الصراع. وهو أمر يحسم عادةً لصالح النموذج المتمركز حول الطبيعة / المادة، فهي الأصل في بداية الأمر وهي أيضاً المآل في نهاية المطاف وفي التحليل الأخير. أما العقل الإنساني فهو العنصر الأضعف، فهو يدرك العالم من خلال الحواس (المادية)، وهو ذاته إن هو إلا مادة في حالة حركة، جزء لا يتجزأ من الطبيعة ويُرد إلى المبدأ الواحد الدافع للأشياء من خارجها الكامن داخلها. والعقل لا يمكن الوثوق به، فإذا كانت الأفكار الكلية هي نتيجة تراكم الأحاسيس وكان ترابطها يتم بشكل آلي (أو حتى إبداعي) في عقولنا، فهذه الأفكار الكلية هي مجرد وهم من أوهامنا، فهي نتاج حواسنا. أما السببية الكامنة في الطبيعة فهي قد تكون عادة من عاداتنا العقلية، مجرد خرافة إنسانية غائية يفرضها العقل الإنساني على واقع حسي مادي غير متماسك حتى يُدخل الإنسان على نفسه الأمن والطمأنينة (وهي قيم إنسانية غير علمية لا علاقة لها بعالم العلم والأشياء والطبيعة /المادة).
والإنسان مستوعَب تماماً في الطبيعة، لا يمكن أن يكون له قوانينه الإنسانية الخاصة ولا يمكن أن يتمتع باستقلال عما حوله، فهو يتبع قوانينها الثابتة الآلية الرياضية الشاملة الضرورية الحتمية المطردة التي تسوي بينه وبين الأشياء، فهو يتحرك حسبما تحركه هذه القوانين ؛ إنه جزء متسق مع النظام الطبيعي، خاضع تماماً (بما في ذلك عقله) للقانون الطبيعي الآلي العام (وهذا ما دعمته اكتشافات نيوتن بشأن الحركة الآلية للكون واكتشافات هارفي الخاصة بالحركة الآلية للدم). والطبيعة وحركتها وبنيتها لا تقع خارج نطاق الوحي الإلهي وحسب، وإنما تقع خارج نطاق الوعي الإنساني والإرادة أو الرغبة أو الغائية الإنسانية، أي أن الطبيعة لا علاقة لها لا بالإله ولا بالإنسان، فهي متجاوزة لهما. وحتى داخل النموذج الأول، نجد أن قواعد العقل (رغم استقلاليته) تشبه قوانين الطبيعة، وأن حركة الفكر تشبه الطبيعة، وأن الجزء يتلاقى مع الكل والذات مع الموضوع.
ومن ثم، وبعد أن يقوم الفكر الاستناري بتأكيد أهمية العقل الإنساني ومركزية الإنسان فإنه ينتهي إلى تفكيك العقل ورده إلى المادة والقوانين العامة للحركة بحيث يصبح العقل مادة طبيعية متلقية (سلبية وغير فعالة) للمعطيات المادية الحسية وتصبح مهمته هي رصد الطبيعة بأمانة شديدة واكتشاف ما فيها من توازن دون أي تدخل، ومن ثم يفقد الإنسان مركزيته (التي اكتسبها بسبب عقله الفعال). وتكمن حرية الإنسان الرشيد صاحب هذا العقل (أو الدماغ) السلبي في مدى انصياعه لقوانين الضرورة (المادية الآلية). ويحقق هذا الإنسان الرشيد سعادته بمقدار انصياعه لقوانين الطبيعة وذوبانه فيها، أي أن مركزية العقل الإنساني يتم تصفيتها ويحل محلها مركزية الطبيعة المادية الصلبة. وقل نفس الشيء عن الإنسان، فقد بدأ المشروع الهيوماني (الإنساني) والاستناري بتهميش الإله باسم الإنسان ومركزيته، ولكننا بعد قليل نكتشف أن هذا مجرد قول إذ إنّ منطق البنية المادية ذاتها قد همَّش الإنسان (ككائن متميز عن الطبيعة) ثم استوعبه تماماً في النظام الطبيعي الذي يتجاوز غاياته وأغراضه. وبذا يُصفَّى الإنسانُ ويسقط الجميع في أحضان المادية الواحدية الجنينية المريحة (فالواحدية الكمونية المادية تعني العودة للرحم ولعالم البساطة الأولى الذي لا ثنائيات فيه ولا جدل ولا تدافع ولا مسؤولية خلقية ولا قرارات أخلاقية تتطلب الاختيار الحر بين الخير والشر). (ومع هذا، لابد من القول إن انتصار النموذج المتمركز حول الطبيعة / المادة ليس نصراً نهائيّاً، إذ إنّ النموذج المتمركز حول الإنسان لا يلبث أن يحاول تأكيد نفسه).
والواقع أن تأكيد المركزية الإنسانية وأسبقية العقل الإنساني على الطبيعة ثم تصفيتها لصالح المركزية الطبيعية المادية، وتأكيد أسبقية الطبيعة /المادة على العقل الإنساني (التمركز حول الذات ثم انتصار الموضوع)، هو نمط يتكرر في كل أرجاء المنظومة الاستنارية (وكل المنظومات الحلولية الكمونية الواحدية المادية). وتاريخ الفلسفة الغربية منذ عصر النهضة في الغرب، هو ذاته تاريخ الصراع بين النزعة نحو إنكار الكون وتأليه الإنسان والنزعة المضادة نحو تأليه الكون وإنكار الإنسان. وقد نحت أحد مؤرخي الفلسفة الغربية اصطلاح “الاستنارة المظلمة” تمييزاً لها عن “الاستنارة المضيئة”. ونحن نرى أن “الاستنارة المظلمة” التفكيكية التي تقضي على الإنسان، كمقولة مستقلة عن الطبيعة، كامنة تماماً في مقولات “الاستنارة المضيئة”، فهي فلسفة عقلانية مادية يُرد فيها كل شيء إلى المبدإ المادي الواحد، والعقل ذاته يستمد حقيقته ووجوده من ماديته ومن مقدرته على التعرف على قوانين المادة، والإنسان لا وجود له خارج قوانين المادة. ولذا، وعلى الرغم من أن هيجل يذهب إلى أن الحقيقي هو العقلي (الإنساني) وأن العقلي هو الحقيقي، فإن بنية منظومته الاستنارية ذاتها (وكذلك كل المنظومات العلمانية) تؤكد على أن الحقيقي هو المادي (الطبيعي) والمادي هو الحقيقي. وعلى كلٍّ، فإن منظومة هيجل تلتقي فيها الذات بالموضوع والروح بالمادة ويتعانقان ويتحدان، وهي وحدة لا يمكن أن تكون الغلبة فيها إلا لقوانين المادة الصارمة ولعالم الواحدية المادية، أي أن تصفية الإنساني لصالح الطبيعي (والكوني والمادي) أمر حتمي وكامن في بنية المنظومات المعرفية المادية رغم كل ما قد يصاحب ذلك من أقوال رائعة عن الإنسان وعن عقله وحريته.

أصول فكر حركة الاستنارة
كلمة «استنارة» مأخوذة في اللغة العربية من الفعل «استنار» المشتق من كلمة «نور» وهي ترجمة لعدة كلمات في اللغات الأوربية مثل «إنلايتنمت Enlightenment» الإنجليزية، وهى مشتقة من كلمة «لايت Light» بمعنى «نور» (التي هي بدورها ترجمة للكلمة الألمانية). ويقال لفكر الاستنارة أحياناً «فلسفة الأنوار» أو «فلسفة التنوير». و«النور» في الوجدان الإنساني هو عكس الظلام تماماً، كما أن الخير هو عكس الشر. ومن ثم فإن كلمة «الاستنارة»، (بمعنى الفكر الشبيه بالنور الذي يبدد الجهل الشبيه بالظلام)، لا تختلف كثيراً عن صور الخطاب السياسي والفلسفي المجازية الشائعة والذي يجنح إلى رؤية العالم من خلال مجموعة من الثنائيات الصلبة المتعارضة البسيطة مثل حمائم / صقور ـ مدني / ديني ـ آلي / عضوي، وهى ثنائية صلبة تعكس الثنائيات المتعارضة التي يتوهم البعض وجودها في الطبيعة، والتي تعبر عن نفسها في الرمزين الرياضيين سالب / موجب.
ويُشار أحياناً لــ «عصر الاستنارة» باعتباره «عصر العقل» (مقابل عصر اللاعقل). ولكن هناك من يستخدم عبارة «عصر العقل» للإشارة إلى تلك الحقبة في التاريخ الفكري لأوروبا في القرن السابع عشر وبدايات القرن الثامن عشر التي انتشرت فيها الفلسفات العقلية والرؤية العلمية والمادية الآلية بين أعداد كبيرة من الجمهور المتعلم وفي أوساط بعض أعضاء النخبة الثقافية والسياسية، وقد أخذ هؤلاء يدعون بشكل واع لأفكار عصر العقل ابتداءً من القرن الثامن عشر. يشار إلى هؤلاء الدعاة بكلمة «المستنيرين»، ويشار إلى هذه الحقبة من تاريخ أوروبا الفكري بتعبير «عصر الاستنارة». ولكننا لا نأخذ بهذا التمييز ونشير إلى كلتا المرحلتين بعبارة «عصر الاستنارة». وكان من بين دعاة الاستنارة بعض ملوك أوروبا المطلقين وأعضاء الجمعية الملكية البريطانية (1662) وأعضاء الأكاديمية الفرنسية للعلوم (1666) وأعضاء المحافل الماسونية وجماعات الإليوميناتي والروزيكروشيان السرية.
ويعتقد البعض أن فكر عصر العقل يعود بجذوره إلى كتابات فرانسيس بيكون، وخصوصاً كتابه نوفوم أورجانوم (Novum Orgunum 1620)، أي المنهج الجديد، وإلى كتابات توماس هوبز (1588ـ1679) بماديتها الصارمة، وإلى عقلانية رينيه ديكارت (1596ـ1650) وإلى حلولية باروخ إسبينوزا (1632ـ1677) الواحدية المادية، وإلى إمبيريقية جون لوك (1632ـ1704)، وإلى رؤية إسحق نيوتن (1642ـ 1726) الآلية للكون، وإلى أفكار لايبنتس (1646ـ 1716). ويضم الجيل الأول من المستنيرين في فرنسا جان جاك روسو (1712ـ 1778) وفرانسوا فولتير (1694ـ1778) ومونتسكيو (1689ـ1755)، أما الجيل الثاني فيضم دنيس ديديرو (1733ـ1784) الذي نشر أول جزء من موسوعته عام 1751، وإيتان بونيه دي كونديلاك (1715ـ1780) وجوليان دي لامتيري(1709ـ1751) وكلود هلفتيوس (1715ـ1771) وبول هنري هولباخ (1723ـ1789). وفى ألمانيا، ضمت قائمة المستنيرين كلاً من كريستيان وولف (1679ـ1754) وجتليب باومجارتن (1714ـ1792) والمفكر الألماني اليهودي موسى مندلسون (1729ـ1786) ولسنج (1729ـ 1781) وعمانوئل كانط (1724ـ1804) ويوحنان هردر (1744ـ1803)، أما في إنجلترا، فإن أهم تجلِّ للاستنارة هو حركة الربوبية، ومن أهم مفكري الاستنارة فيها جوزيف بريستلي (1733ـ1804) وجريمي بنتام (1748ـ1832) وآدم سميث (1723ـ1790) وإدوارد جيبون (1737ـ1794) ووليام جودوين (1756ـ1816)، ومن أهم مفكري الاستنارة في الولايات المتحدة توماس بين (1737ـ1809) وتوماس جيفرسون (1743ـ1826) وبنجامين فرانكلين (1706ـ1790). وتُجمِع كتب التاريخ على أن كلاًّ من الثورة الأميركية والثورة الفرنسية هما نتاج عصر الاستنارة، وأن عصرنا الحديث هو ابن عصر الاستنارة.