البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

عقيدة المستنيرين

الباحث :  كرين برنتون Crane Brinton
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  1
السنة :  السنة الاولى - خريف 2015 م / 1436 هـ
تاريخ إضافة البحث :  September / 20 / 2015
عدد زيارات البحث :  4065
تحميل  ( 156.294 KB )
عقيدة المستنيرين

كرين برنتون Crane Brinton
[1]

تحت عنوان عقيدة المستنيرين يكتب المفكر والمؤرخ الأميركي كرين برنتون حول الاستنارة ومفاهيمها المتعددة، ضمن هذه المقالة المستعادة له من كتاب «تشكيل العقل الحديث» الذي تُرجم ونُشر في القاهرة عام 2004، يقول برنتون في هذا المجال:
إن التحول في موقف الإنسان الغربي من الكون وكل ما فيه، هو التحول من نعيم المسيحية الغيبي في السماء بعد الموت إلى النعيم العقلاني الطبيعي على هذه الأرض الآن، أو على الأقل في القريب العاجل. سوى أن أوضح سبيل لإدراك عظمة ذلك التحول هو أن نبدأ من عقيدة حديثة أساسيّة جداً، بمعنى أنها جديدة يقيناً وهي عقيدة التقدم.
«المحرر»

الإيمان بالتقدم، على الرغم من حربين عالميتين، وأزمة اقتصادية طاحنة شهدتها ثلاثينيات هذا القرن، لا يزال يمثل إلى حد كبير جانباً من الطريقة التي يربى عليها الأميركيون، وإن قلة قليلة من الأميركيين تدرك أن هذا الاعتقاد ليس له مثيل في الماضي، وطبيعي أن الناس منذ زمان طويل يرون أن وسيلة ما من الوسائل أفضل من سواها في أداء شيء ما، وعرفوا مظاهر تحسن مميزة في التقنيات، وفوق هذا وذاك كان الناس باعتبارهم أفراداً في جماعة يدركون حالة جماعتهم المميزة وما إذا كانت تعيش حالة ازدهار أم العكس.
ولكن لنسترجع في إيجاز سريع ما سبق أن عرفناه عن أثينا خلال القرن الخامس قبل الميلاد. هنا شعب في ذروة إنجاز مشترك عظيم للغاية، شعب يدرك تماماً أنه يفعل الكثير على نحو أفضل من أسلافه، فها هو المؤرخ اليوناني ثوكو ديديو Thucydidies يصف حرب البلوبونيزية [2] في كتابه بأنها «أكبر وأفضل» الحروب التي شهدها العالم من قبل، ونجد في كلمة التأبين التي ألقاها بريكليس لمسة من لمسات الغرفة التجارية اليوم.
بيد أننا مع هذا لا نجد في هذه السنوات الزاهرة للثقافة الأثينية أي فكرة واضحة عن التقدم باعتباره جزءاً من الكون، وباعتباره عملية نمو وتطور من الأدنى إلى الأرقى. بل أننا لو تصفحنا المراحل الأخرى للتاريخ القديم والوسيط سنجد ما هو دون ذلك شبهاً بعقيدة التقدم.
لقد وجدنا في الحقيقة الكثير من الخطط المنظمة عن مصير الإنسان. فهنالك الأساطير الوثنية الشعبية في منطقة البحر الأبيض المتوسط التي ترد أسعد وأفضل عصر للبشرية إلى الماضي البعيد إلى العصر الذهبي، عصر الأبطال، وجنة عدن. كما سادت بين مثقفي العالم الإغريقي الروماني العديد من الأفكار المعقدة المختلفة عن مسار التاريخ، وخاصة تلك السلسلة من النظريات التي تحدثنا عن دورات التاريخ؛ أشهر هذه النظريات وأكثرها شيوعاً تلك التي تحكي عن عصر ذهبي يعقبه عصر فضي ثم يليه عصر حديدي تحل بعده كارثة، ثم تبدأ الدورة من جديد بالعصر الذهبي، وهكذا عود على بدء، عالم يسير في دورانه بلا نهاية، ويبدو على الأرجح أن بعض هذه الأفكار هي ذات صلة بالأفكار الهندية عن تناسخ الأرواح، والعود الأبدي وما شابه ذلك والتي تمثل لقاء لم يجر تدوينه بين الشرق والغرب. هذه الأفكار تختلف بطبيعة الحال عن أفكارنا حول التقدم، وجدير بالذكر أن المؤمنين بها هم من يظنون أنفسهم يحيون في عصر حديدي. واما صفوة القول فإن هذه الأفكار عند المؤمنين بها، مثل الأفكار عن عصر ذهبي ولى، أساسها الإيمان بالتردي أو الانحلال وليس الإيمان بالتقدم.

التنوير ثمرة المسيحية
لقد سبق أن أشرنا إلى أن المسيحية التقليدية لم تكن لديها نظرية عن التقدم في الطبيعة على هذه الأرض، أو لم تكن يقيناً على الوضوح الذي أخذته هذه النظرية في عصر التنوير. لكن يمكن أن نشير هنا على نحو عابر إلى أن التنوير هو في واقع الأمر ابن المسيحية وثمرتها، ولعل هذا الذي يفسر لأنصار الفرويدية في عصرنا لماذا كان التنوير شديد العداء للمسيحية التقليدية. فالمسيحية بها أساس عاطفي معين لا يتنافر تماماً مع عقيدة التقدم، ولكن من الواضح أن النظرة الشكلية للمسيحية التقليدية إلى الكون أقرب صلة بالأفكار الوثنية عن مسار الإنسان على الأرض منها إلى أفكار التنوير، وخير حياة هي الحياة الأولى، حياة البراءة قبل السقوط إلى الأرض على إثر تفاحة آدم، لقد زلّ الإنسان، وبات عاجزاً عن استعادة جنة عدن على الأرض، حقّاً إن باستطاعته أن يكون أفضل، ولكن لن يتأتى له هذا بأي أفعال تاريخية وإنما سبيله إلى ذلك معجزة خارقة تتجاوز حدوده، هي معجزة الخلاص عن طريق النعمة الإلهية، فالجنة لا تتحقق قطعاً على الأرض.
في كتاب «صراع القدماء والمحدثين» في أواخر القرن السابع عشر سنلاحظ البدايات الأولى للجدل العام بين المثقفين حول هذه الموضوعات.
المبدأ في خطوطه العريضة يشبه كثيراً أفكارنا الشعبية عن التقدم حيث لاقى قبولاً سريعاً في الثقافة الغربية للقرن الثامن عشر، وإن لم يكن بحال من الأحوال قبولاً إجماعيّاً، وليس بدون معارضة على الإطلاق.
نستطيع إذا شئنا، أن نجد عند فولتير على سبيل المثال بيِّنات كثيرة يُستشهد بها على صدق الفرضية التي يؤمن بها عن الدورات التاريخية، مثل اعتقاده أن دورة عام 1750 أدنى من عصر لويس الرابع عشر، كما نجد عنده القدر نفسه من البينات التي يستشهد بها على صدق نظريته مؤكداً إيمانه بالتقدم المتمثل في عصره، عصر التنوير.
مع نهاية القرن (الثامن عشر) قدم كوندورسيه كتابه «تقدم العقل البشري» الذي يعرض فيه تفسيراً كاملاً للمراحل العشر التي انتقلت البشرية عبرها ابتداء من الحياة البربرية البدائية، إلى حافة مرحلة الكمال على الأرض، وهكذا بعد وفاة القديس أغسطين بألفِ وخمسمائة عام تظهر فلسفة التاريخ هذه التي تمتزج فيها دون تمييز مدينة السماء بمدينة الأرض (Civitas dei and civitas terrena). ويبدو كوندورسيه مبهماً في عرضه للطريقة التي حدث بها كل ذلك. وخصوصاً في تفسيره للقوة المحركة التي تدفع البشرية من مرحلة إلى المرحلة الأرقى التي تليها. ويمكن القول بوجه عام إننا لا نكاد نجد نظرية عامة مقنعة عن التقدم تحاول تفسير أسباب وكيفية وقوع التغيرات الارتقائية التفصيلية. ولقد ظل الأمر على هذا الحال حتى القرن التالي عندما بدأ تطبيق الآراء الداروينية عن التطور العضوي على العلوم الاجتماعية، وكان التفسير المفضل عند المثقفين في القرن الثامن عشر هو أن سبب التقدم مرجعه إلى انتشار العقل، وذيوع التنوير باطراد مما يسر للبشر التحكم في بيئتهم على نحو أفضل.
يبدو هنا واضحاً أكثر الربط التاريخي بين التقدم العلمي والتكنولوجي وبين فكرة التقدم بالمعنى الأخلاقي والثقافي. فمع القرن الثامن عشر كانت جهود العلماء ابتداء من كوبرنيكس ومروراً بإسحق نيوتن قد صاغت مجموعة عريضة جداً من المبادئ العامة عن سلوك الكون المادي، وأضحت هذه المبادئ العامة معروفة لدى العامة مع منتصف القرن الثامن عشر مثلما نعرف نحن الآن مبادئ النسبية والميكانيكا الكونية. علاوة على هذا فقط بدا واضحاً إن هذه المبادئ النيوتونية العامة هي أفضل وأصدق من بديلاتها لدى أسلافنا في العصور الوسطى. ومع منتصف القرن وضح نوع التقدم المادي إلى الحد الذي يدعو فطين الرأي إلى الظن بأنه أقوى من العلم ذاته للإيمان بالتقدم، فقد امتدت الطرقات المعبدة التي تقطعها الحافلات والمركبات التي تزداد سرعتها عاماً بعد آخر، وليس الناس مظاهر واضحة للتقدم والتحسن في خدمات البيت مثل استحداث المراحيض، بل شهد القرن في نهايته بدايات غزو الجو. حقاً كانت محاولات غزو الجو أول الأمر قاصرة على متن البالونات، ومع ذلك ففي عام 1787 لاقى رائد فرنسي حتفه وهو يحاول عبور القنال البريطاني جواً. صفوة القول إن شيخنا في ختام القرن الثامن عشر كان بوسعه أن يسترجع ذكريات طفولته، حيث كان الناس محرومين من وسائل الراحة إلا القليل منها. في حين كانت البيئة المادية أبسط كثيراً، والأدوات والآلات أدنى فاعلية، ومستوى الحياة كذلك.
ومهما كانت نظرية التقدم مدينة لنمو المعارف الراقية وزيادة قدرة البشر على إنتاج الثروات المادية من بيئتهم الطبيعية، إلا أنها نظرية أخلاق وميتافيزيقا حقيقية. فالناس حسب هذه النظرية يصيرون أفضل وأسعد وأقرب إلى المثل العليا التي تهدف إليها أفضل ثقافاتنا، وإذا ما حاولت تعقب هذه الفكرة عن التحسن الأخلاقي ممثلة في تفصيلات موضوعية محددة فإنك ستصدم بشيء من نفس نوع الغموض الذي كان يكتنف دائماً الآراء المسيحية عن الجنة، وربما نقع على بينة توضح الفكرة القائلة إن مبدأ التقدم لا يزيد عن كونه صورة حديثة لعقيدة الإيمان بالغيبيات.
وكما تقضي فكرة القرن الثامن عشر فإن التقدم سيقود الناس سريعاً خلال جيل او جيلين، إلى حالة تعم فيها السعادة ويغمر البشر وينتفي الشر، وهذه السعادة ليست بحال من الأحوال نوعاً من الراحة البدنية فحسب، ولن نجانب الدقة حين نقول إن غالبية من تحدثوا خلال القرن الثامن عشر عن تقدم الإنسان وإمكانية بلوغه الكمال إنما كانوا يفكرون بلغة قريبة جدّاً من لغة الأخلاق المسيحية والإغريقية العبرانية، والتبشير بالسّلام على الأرض للناس الذين صلحت نواياهم، وزوال كل الرذائل التقليدية، ورسوخ الفصائل التقليدية.

جدلية التقدم والعقل
ثمة الكثير مما يقال عن القاعدة العريضة لعقيدة التقدم على الأرض، هذا التقدم الذي حققه انتشار العقل، الذي نحاول أن نتتبعه هنا في عصر التنوير. انه كلمة السر العظمى التي تكشف له الكون الجديد الذي يعيش فيه. فالعقل هو الذي سيهدي الناس، إلى فهم الطبيعة (وهذه هي كلمة السر الثانية)، ويفيد المرء بهذا الفهم لصوغ سلوكه وفقاً للطبيعة، ومن ثم يتحاشى كل المحاولات العقيمة التي قامت بها في ظل الأفكار الخاطئة للمسيحية التقليدية وحلفائها الأخلاقيين والسياسيين من أجل السير ضد الطبيعة، حيث لم يكن العقل شيئاً حتى ظهر فجأة إلى الوجود حوالي عام 1687، وهذا هو تاريخ نشر كتاب نيوتن «المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية».
يجب أن نسلم بوجود بعض المحدثين غير المتسامحين الذين كادوا يقرون أن كل ما كان سابقاً على عام 1700 ليس إلا سلسلة من الأخطاء الكبيرة، بل وتخبطاً أعمى لإنسان حائر وسط غرفة معتمة. إلا أن المثقف المستنير العادي الذي يعنينا هنا كان أَمْيَل إلى الثقة في أن قدماء الإغريق والرومان قدموا عملاً رائعاً، وإلى الاعتقاد بأن ما نسميه نهضة وإصلاحاً كان دعماً جديداً لتطور العقل. لقد وجد المفكر المستنير في الكنيسة، وبخاصة الكنيسة الكاثوليكية للعصر الوسيط وورثتها علة الظلام ومصدره، والقمع غير الطبيعي للطبيعة. أي باختصار وجد فيها الشيطان الذي يحتاج إليه كل دين، وسوف نعود إلى هذا مرة أخرى نظراً لأهميته القصوى، ويكفينا الآن أن نثبت واقع أن إنسان عصر التنوير كان يؤمن بأن العقل شيء يمكن لأي إنسان أن يهتدي به، عدا قلّة مصابة لسوء حظها بتخلف عقلي. لقد مرّ زمن كان العقل فيه مقهوراً، بل وربما أصابه الضمور، بسبب خضوعه زمناً طويلاً لقمع المسيحية التقليدية. أما في القرن الثامن عشر، فقد أصبح في إمكان العقل أن يستعيد مكانته، وأن يقدم لكل الناس مثل ما قدمه لآخرين من أمثال نيوتن ولوك. إن العقل قادر على أن يهدي الناس إلى السبيل الذي يمكنهم من السيطرة على بيئتهم وأنفسهم.
فالعقل يمكن أن يبين للناس كيف كانت تعمل الطبيعة، وكيف يمكن أن تعمل إذا ما كفّ الناس عن إعاقة عملها بمؤسساتهم وعاداتهم غير الطبيعية. ويمكن للعقل أن يهدي الناس إلى القوانين الطبيعية التي انتهكوها بجهلهم لها. مثال ذلك أنهم وضعوا نظام التعريفات الجمركية، وفنون الملاحظة، وكل ضروب التنظيمات الاقتصادية بهدف «حماية» تجارة بلدهم، وبهدف ضمان أكبر نصيب من الثروة لبلدهم هم، وإذا ما استخدموا عقلهم ذات مرة بشأن هذه الموضوعات سيتضح لهم أنه لو التزم كل إنسان بمصلحته الاقتصادية الخاصة (أي لو عمل على نحو طبيعي) ليشتري بأرخص الأسعار، ويبيع بأغلى الأثمان فسوف يمكن بناء أقصى قدر من الثروة بفضل النشاط الحر (الطبيعي) القائم على أساس العرض والطلب، وسيكتشفون أن التعريفات الجمركية، وكل محاولات تنظيم النشاط الاقتصادي عن طريق إجراء سياسي أدت جميعها إلى خفض الإنتاج ولم تفد سوى قلّة محدودة جداً حققت لنفسها احتكاراً غير طبيعي.
ومن ناحية أخرى ظل الناس على مدى أجيال يحاولون طرد أو رقية الشياطين التي اعتقدوا أنها تلبسَّت أجسام المجانين بصورة ما، فكانوا يجلدون المجانين التعساء، ويوثقونهم بالحبال ويقيمون حولهم كل أنواع الطقوس التماساً لطرد الشياطين، ولكن العقل حين تأمل وتدبر مشكلات الدين استطاع أن يبين للناس أن لا وجود لهذا النوع من الشياطين، وحين عمل العقل على مستوى البحث الطبي والنفسي أوضح أن الجنون اضطراب طبيعي (وإن كنا ناسف له) يصيب العقل (وربما البدن أيضاً)، إنه باختصار مرض يمكن الشفاء منه أو يمكن على الأقل تخفيف حدته بمزيد من استخدام العقل.
مسألة أخرى: لقد ظل الناس رجالا ًونساء على مدى قرون طويلة يلتحقون بالأديرة ويلتزمون بنظمها ويُقسمون الأيمان متعهدين التزام جانب العفة والطاعة والفقر، ويعيشون حياة الرهبان والراهبات، وربما أَلِف الرهبان في الأصل تنظيف الحقول وتجفيف المستنقعات، وربما كانوا ما يزالون يقومون ببعض الأعمال الموسمية النافعة إلا أن العقل أوضح أن الرهبنة المسيحية في إجمالها خسارة كبرى لطاقة البشر الإنتاجية، أو إن شئت صراحة أكثر فقل لقد أوضح العقل أن من غير الطبيعي تماماً أن يمسك الأصحاء عن ممارسة الجنس ويحرمونه على أنفسهم نهائيّاً، وأن التبرير اللاهوتي لمثل هذا الضرب من السلوك غير الطبيعي هراء، ومثله كمثل فكرة الشياطين التي تتلبس المجنون، وحينما تأمل العقل حياة الرهبنة بدت له هذه المؤسسة مثالاً نموذجيّاً للمعتقدات السيئة والعادات الرديئة والسبل الفاسدة لأداء الأمور واختفاء حياة الرهبنة في المجتمع الجديد.
تكاملت كل الآراء السابقة لتؤلف معا للإنسان المستنير مذهباً واحداً يفسر له الكون. وسبق أن أشرنا في معرض الحديث عن هذا المذهب إلى عبارة ملائمة هي «الآلة ـ العالمية النيوتونية»، إنها آلة لا يزال المفكر المستنير على بداية الطريق لفهمها، خاصة ما يتعلق منها بالعلاقات الإنسانية، ويرجع الفضل إلى نيوتن والسابقين عليه في فهم المجموعة الشمسية والجاذبية والكتلة، والعلوم الطبيعية في خطوطها العريضة، ولم يعد البحث العلمي بحاجة إلى شيء أكثر من ملء الفراغات واستكمال التفاصيل، أما عن العلاقات الإنسانية فقد كانوا يدركون بوضوح أن أسلافهم غير المستنيرين أخطأُوا في فهم العلاقات الإنسانية بسبب خضوعهم لنفوذ المسيحية التقليدية، إلا أنهم على الرغم من هذا وضعوا نظاماً من القوانين والمؤسسات إلا أنهم لم يبلغوا بحال من الأحوال ما بلغه نيوتن. فهذا هو الرجل الذي سيجمع ويلخص معارفنا المستنيرة ويصوغها في نسق للعلوم الاجتماعية وليس على الناس إلا الاقتداء بها ضماناً لبلوغ العصر الذهبي الحقيقي، جنة عدن الحقة، تلك التي نراها أمامنا لا خلفنا.
ولقد باتت المسيحية التقليدية عاجزة عن تزويد مفكر عصر التنوير بنظرة إلى الكون، فقد بدأت تتوافر معلومات كافية في مجال علم طبقات الأرض «الجيولوجيا» جعلت أحداثاً مثل تاريخ الخلق، الذي حدد له الأسقف أوشر عام 4004ق.م، وقصة الفيضان أموراً غير مرجحة، ولم تكن ثمة حاجة للانتظار حتى تكتمل المعارف الجيولوجية، ولنأخذ عقيدة التثليث المسيحية على سبيل المثال: كانت الرياضيات ضد هذا، إذ لا نجد نسقاً رياضياً سوياً يقبل القول بأن الثلاثة هم ثلاثة وفي الوقت ذاته واحداً، أما عن المعجزات فقد كان السؤال هو التالي: لماذا توقفت؟ إذا كان بالإمكان إحياء الموتى في القرن الأول، فلماذا بات غير ممكن في القرن الثامن عشر؟ وإلى سوى ذلك من حجج تبدو لنا عادية ومألوفة اليوم وكانت وقتها جديدة وجسورة.
بيد أن من اهتز إيمانهم بالمسيحية التقليدية لم يتخلوا دفعة واحدة عن فكرة الله، إذ كانت غالبية المستنيرين خلال النصف الأول من القرن الثامن عشر، بما في ذلك أعلام بارزة من أمثال فولتير و(الشاعر الإنجليزي)، بوب، مؤمنين بالله جهراً وعلانية على الأقل، وأضحى مذهب الربوبية الآن عقيدة محددة وعملية عن الكون، وهي ليست مرادفاً للإلحاد أو الشك (اللا أدريّة) إلا في بعض مجالات من باب الجدال وقتذاك.
كانت هذه على الأقل نظرة المتمردين المعتدلين والماديين الذين رأوا الله غير ضروري، وذهب آخرون إلى أبعد من ذلك، وقالوا إن الله شرّ حقيقي خاصة إذا كان هو إله الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، وسمُّوا أنفسهم في كبرياء وغرور ملحدين أو بشراً بغير إله، وانتفت مظان الشك عندهم، فهم يقررون عن يقين أن الله المسيحي لم يكن موجوداً، ويعرفون أن الكون نسق من «مادة» في حالة حركة ويمكن فهمها فهماً كاملاً باستخدام العقل وفق الأسس التي حددتها العلوم الطبيعية، ويرون مذهبهم المادي، ونظرتهم الإلحادية عقيدة إيجابية يقينية وليست صورة من صور نزعة الشك، لقد كانت صورة محددة لإيمان ما، أي لنوع من الدين، وهذا الإيمان اليقيني بأن الكون قابل لأن يعرفه الإنسان، وأنه مؤلف في النهاية من جُزَيْئات المادة ظل منذ ذلك التاريخ عنصراً من عناصر الثقافة الغربية، ولا أحد يعرف بدقة حتى الآن كم عدد من ارتضوا مثل هذه العقيدة ولا يزالون يؤمنون بها حتى الآن.
هكذا رفض كل من الربوبي والملحد الكنيسة الرسمية في أيامهم، وكان القرن الثامن عشر قرن معاداة رجال اللاهوت وسلطتهم، حيث طفت على السطح لتوضح كل أنواع العداء والشكوى ضد المسيحية الكاثوليكية والبروتستانتية على السواء، وجاء هذا نتيجةً لازِمةً عن «روح عصر» التنوير ورخص الطباعة، وضعف الرقابة، وعجز الشرطة، والطريقة الساخرة التي رحبت بها الطبقات الحاكمة القديمة بالهجمات الموجهة ضد الدين الرسمي، وما أباحه هذان البلدان اللذان نَعِما بقدرٍ مذهل من الحرية، وهما إنجلترا وهولندا، حُرِمته فرنسا والولايات الألمانية. ولأول مرة منذ الإمبراطورية الرومانية ترى المسيحية نفسها عرضة لهجمات عنيفة تنبع من داخل ثقافتها، وما أن جاءت الثورة الفرنسية حتى اشتدت حدة هذا الهجوم إلى أقصاه خاصة داخل القارة الأوروبية، وعاد المسيحيون من جديد يعانون مخاطر الشهادة دفاعاً عن الإيمان، ولكنهم هذه المرة يلقون الشهادة على المقصلة.
وإذا كان كل المؤمنين بديانة العقل الجديدة، ربوبيين وماديين على السواء، قد انصرفوا عن الله المسيحي، إلا أنه كان لزاماً عليهم أن يخوضوا معركتهم ضد مشكلة الشر، وبدت لهم مشكلة عويصة، إنهم ينطلقون من فكرة الإله العالمية أو العالم كآلة كبرى والإنسان جزء منها بالضرورة، والكل يجري وفق قوانين الطبيعة، ثم افترضوا كمُسلَّمة أخرى أن للإنسان ملكة خاصة هي ملكة العقل، ويستطيع البشر باستخدام العقل أن يفهموا قوانين الطبيعية، المنظمة الرتيبة المحكمة، وأضافوا أن الناس إذا أُلزِموا في سلوكهم بهذه القوانين وامتثلوا لها فإنهم سيعيشون في سلام وسعادة. ولكنهم حين تلفتوا حولهم في عالم القرن الثامن عشر رأوا النزاع والبؤس في كل مكان، وأبصروا الشرور بكل أنواعها. كانوا يسألون أنّى لهذه الشرور أن تتسق مع قوانين الطبيعة، وما هي الطبيعة السمحة؟ و(سيأتيهم الجواب) طبيعي أنها لا تتسق معها، فهي منافية للطبيعة، وكان طبيعيّاً أن يعمل المستنيرون على اقتلاع جذورها، ولكن كيف كان ذلك؟ كيف تأتَّى لغير الطبيعي أن يكون طبيعيّاً؟ وكيف صار الأرفع مقاماً أدنى منزلة؟
تطالعنا هذه المشكلة في أيّ دراسة عن المسيحية. ولكن إذا كان للمسيحية شيطانها، فإن اولئك الذين ارتضوا نظرة نيوتن إلى الكون كآلة كبرى، لا تزال أمامهم مصاعب أشد وأخطر، ابتغاء إضافة، أو تبرير رغبتهم الواضحة في تغيير وتحسين شيء ما بدا كاملاً، تلقائيّاً، محدداً. والواقع أنه في أي نزعة طبيعية غير واحدية يكون من السهل الانزلاق إلى ما هو غير طبيعي، ولم يكن روسو نفسه من المعجبين بفكرة نيوتن عن الآلة العالمية وعن العقل، وذهب إلى أن الطبيعة في أساسها هي عفوية ودية ورقيقة كما تتجلى عند البسطاء الأنقياء من أمثال الأطفال والبدائيين والفلاحين، ورأى أن هذه الحالة من الطبيعة سادت في الماضي قبل أن تجلب الحضارة مفاسدها، ويحاول روسو في كتابه «بحث في أصل عدم المساواة» تفسير نشأة الشر، وقال أن أول إنسان تجاسر على انتزاع قطعة أرض واقتطاعها من الملكية العامة ثم أحاطها بسياج وقال «هذه ملكي» هو الوغد المسؤول عن إنهاء حالة الطبيعة، ولا يفسر لنا روسو لماذا تصرف ابن الطبيعة على هذا النحو غير الطبيعي.

بين الشر والاستنارة
إذا عجز المستنيرون عن حل مشكلة أصل الشر، فإن لديهم أفكاراً راسخة وثابتة للغاية عن الخير والشر في زمانهم، إذ يرون الشر نموّاً تاريخيّاً متجسداً في الأعراف والقوانين والمؤسسات، أي متجسداً في البيئة، وخاصة البيئة الاجتماعية، التي صنعها الإنسان من الإنسان. ولقد أدركوا في ضوء ما كتبه مونتسكيو في كتابه «روح القوانين» أن البيئة الطبيعية إما خشنة جرداء غالباً أو يسيرة مترفة جداً، وعرفوا أمراضاً بذاتها ليست كلها في ما يبدو نتيجة البيئة الاجتماعية، ولكنهم عقدوا الأمل على إمكانية السيطرة على البيئة المادية، وإن كانوا يأملون في الحقيقة في السيطرة على البيئة الاجتماعية، ورأوا أن البيئة الاجتماعية في عصرهم سيئة بل ربما شديدة السّوء مما يستلزم استئصالها جملة وتفصيلاً، ولم يؤمنوا في الغالب الأعم بأن يأتي تدميرها بوسائل العنف، لقد تنبَّأوا بثورة فرنسية، ولكن لم يتنبأوا في المقابل بحكم الإرهاب.
لقد ساوى المستنيرون بين الشر والبيئة، وكذلك بين الخير وشيء فطري في الطبيعة البشرية، فالإنسان يولد خيّراً، ويفسده المجتمع، وسبيل إصلاحه حماية هذه الخيرية الطبيعية من إفساد المجتمع لها. بعبارة أخرى فإن السبيل لإصلاح الأفراد هو إصلاح المجتمع، والعقل قادر على أن يهدينا سواء السبيل، ومن ثم فإن كل قانون وكل عرف وكل مؤسسة لابد أن نخضعها لاختبار معقوليتها، هل النبالة الموروثة أمر معقول؟ إن لم تكن كذلك وجب علينا إلغاؤها، وإن كانت كذلك فلنُبقِ عليها، وإذا أخضعنا النبالة الموروثة لاختبار العقل ليحكم عليها في ضوء ما أثبته العقل في أذهان المستنيرين حتى العقد الثامن من القرن الثامن عشر نجد أنها غير معقولة، ومن ثم فإن من بين القوانين الأولى التي أصدرتها الجمعية الوطنية الفرنسية والتي استهدفت إعادة بناء فرنسا قانون إلغاء نظام النبالة.
ها نحن إزاء صورة من الصور الهامة التي تبدَّت فيها للعقل الحديث المشكلات الأخلاقية والسياسية، وهي الصورة التي نعرفها جميعاً ونصوغها في عبارة البيئة مقابل الطبيعة. وقد نجد بهذه المناسبة من يعلن مؤكداً أنه يؤمن بأن الحرب وما تجره من ويلات ووحشية خير، بينما يشكو آخر من وسائل الراحة المادية قائلاً إنها شر، ولكن الناس في المجتمع الغربي متفقون في الأغلب على الخطوط العريضة لما يرونه خيراً وما يرونه شراً. ونقطة الخلاف هي تفسيرهم لاستمرار الشر وثباته، واتجه عصر التنوير، واتجهنا نحن معه باعتبارنا ورثته، إلى التأكيد على جانب البيئة. فنحن أميَلُ إلى الاعتقاد وأكثرنا، نحن الأميركيين، أميل إلى الاعتقاد بأنه لو أننا وضعنا الترتيبات المناسبة والقوانين والمؤسسات وقبل كل شيء التعليم فإن البشر سيدركون الحياة الخيرة. وينزع التقليد المسيحي إلى دفع التفسير إلى جانب الطبيعية البشرية، فالناس يولدون وفي داخلهم شيء يدفعهم إلى الميل نحو الشر، إنهم يولدون في الخطيئة، حقّاً إن المسيحية ترى أن ثمة مخرجاً يتمثل في إمكانية الخلاص الذي يسره لنا يسوع المسيح، ولكن هذا بعيد عن البيئة، وبعيد عن الإيمان بإمكانية سن قوانين أو إعداد مناهج تعليمية.
ومن المهم أن ندرك الآن أن النظرة البيئية الحديثة لم تذهب حتى في مراحلها الأولى الواعدة والمفعمة بالأمل إلى حدود التطرف غير المعقول. فالمجنون وحده هو الذي يؤكد أننا لو أخرنا عشوائيّاً طفلاً وليداً من بين عدد من الأطفال حديثي الولادة وتركناه للطبيعة فإنها ستتكفل وحدها بأن تصنع منه شيئاً ما على الإطلاق: ملاكماً من الوزن الثقيل مثلاً، أو موسيقيّاً عظيماً، أو عالم طبيعة مرموقاً. ولقد كان علم النفس في القرن الثامن عشر، الذي استمد ركيزته الأولى من جون لوك، يرى أن عقل الإنسان صفحة بيضاء تخط عليها الخبرة مضمون الحياة، ولكن علم النفس القائل بالصفحة البيضاء لم يفسر المساواة بين البشر على أنها تطابق بينهم، ومن العبارات الهامة المميزة الدالة على النظرة البيئية للقرن الثامن عشر عبارة قالها أحد أبنائها الفتيان، الاشتراكي روبرت أوين:
«إن أيّ صفة عامة، من الأفضل إلى الأسوأ، ومن الأشد جهالة إلى الأكثر استنارة يمكننا نسبتها إلى أي مجتمع، بل وإلى العالم على اتساعه، باستعمال الوسائل الملائمة، وهو ما يعني أنها تخضع إلى حد كبير لسيطرة وتوجيه أصحاب النفوذ المتحكمين في شؤون الناس».
مفتاح هذه العبارة كلمة «عامة». لم يتصور أوين أن بإمكانه تحقيق نتائج محددة ومميزة مع كل فرد على حدة، وإنما يرى أن بإمكانه أن يفعل هذا مع جماعات واسعة.
وبعد، هل يختلف هذا كثيراً عن الأفكار التي تظاهر كل الجهود الهادفة إلى التأثير على الناس والتحكم في ظروفهم اليوم؟
في الحقيقة لا يزال الإيمان بالنظرة البيئية أمراً حيوياً عند كل من يأملون في إحداث تغييرات سريعة وشاملة في السلوك الواقعي للبشر على الأرض، وهناك قلة اليوم تؤمن أن مثل هذه التغيرات يمكن إنجازها بفضل تدخل قوة خارقة، والفرق وحده من يعتقد أن بالإمكان الوصول إلى نتائج سريعة عن طريق استخدام وسائل تحسين نسل الإنسان، فنحن لا نستطيع أن نُنسِّل سريعاً نوعاً أفضل من الرجال والنساء، ومن ثم علينا أن نستعين بالأدوات المتاحة لنا الآن لصنع رجال ونساء أفضل، ولندع روبرت أوين يتلو علينا ثانية حديثه المفعم بتفاؤل عصر التنوير، والذي لم تفسده أهوال الثورة الفرنسية وحروب نابليون العالمية.
«يجب إعداد هذه الخطط لتدريب الأطفال منذ نعومة أظفارهم على العادات الطيبة باختلاف أنواعها (والتي ستمنعهم بطبيعة الحال من اكتساب عادات الكذب والخداع) ويلزم بعد هذا تعليمهم تعليماً عقلانيّاً وتوجيه عملهم على نحو نافع ومفيد. ولا ريب في أن مثل هذه العادات ومثل هذا التعليم سيغرس فيهم رغبة نشطة وغيورة في دعم وتعزيز سعادة كل فرد، دون أدنى استثناءلأيّ طائفة أو حزب أو بلد أو مناخ، وستكفل أيضاً مع أقل قدر من الاستثناءات، صحة البدن وقوته وعافيته، ذلك لأن سعادة الإنسان لا يمكن بناؤها إلا على أسس من صحة البدن وراحة البال».
-------------------------------------
[1] مفكّر ومؤرخ أمريكي (1898 ـ 1968).
ـ ترجمة: شوقي حلال.
العنوان الأصلي: The Shoping Of Modern Mind, New York, 1953.

[2] فصل من كتاب تكوين العقل الحديث: The shaping of Modern Mind , by Crane Brinton ـ New york 1953.