البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

«الاستغراب» في مواجهة «التغريب»

الباحث :  حسن حنفي
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  1
السنة :  السنة الاولى - خريف 2015 م / 1436 هـ
تاريخ إضافة البحث :  September / 20 / 2015
عدد زيارات البحث :  3237
تحميل  ( 153.729 KB )
«الاستغراب» في مواجهة «التغريب»

حسن حنفي [1]

ننشر هذا النص للمفكر المصري البروفسور الدكتور حسن حنفي (1935 ـ ) توخياً لتعميق الرؤية بأطروحة «الاستغراب» والإحاطة بإشكالياتها من غير وجهٍ وزاوية. فقد اشتغل الدكتور حنفي في خلال العقدين الاخيرين على ما أسماه «علم الاستغراب»في إطار مشروعه الفكري لتجديد التراث العربي الإسلامي... وهذا النص الذي نقدمه للقارئ يندرج في السياق المعرفي الذي تعمل فصلية «الاستغراب» على تظهيره من خلال استعادة النصوص الجادة في هذا الإطار.
نشير إلى أن المقال التالي، مقتطف من بحث للمؤلف تحت عنوان: «ماذا يعني علم الاستغراب»؟ وقد صدر في العام 2000 عن سلسلة قضايا إسلامية معاصرة.
من الجدير ذكره ان المفكر حنفي لا يزال يمارس نشاطه الأكاديمي من خلال التدريس في جامعة القاهرة، بالإضافة الى عدد من الجامعات والمعاهد العالمية، وخصوصاً في مادتي الفلسفة وعلم الاجتماع السياسي.
«المحرر»

نشـأ (علـم الاستغـراب )  Occidentalisation في مواجهـة التغـريب Westernisation الذي امتد ليس فقط إلى الحياة الثقافية وتصوراتنا للعالم وهدَّد استقلالنا الحضاري، بل امتد إلى أساليب الحياة اليومية، ونقاء اللغة ومظاهر الحياة العامة وفن العمارة.
صَاحَبَ الانفتاح الاقتصادي في الرأسمالية العالمية الانفتاح اللغوي على الألفاظ الاجنبية. فكل كلمة عربية تتجاوز عقدة نقصها بإلحاقها بكلمة غربية، او تنقل الألفاظ الإفرنجية الى الحروف العربية. ضاعت اللغة الفصحى، وازدوجت مع العامية. ولم يعد احد قادراً على التحدث لا من القادة، ولا من رجال الإعلام، ولا حتى من المثقفين واساتذة الجامعات بلغة عربية سليمة من دون لحن. وأصبحت صورتنا في العالم العربي الذي حافظنا على عروبته من خلال بعثاتنا التعليمية أننا آخر من يتكلم العربية على نحو سليم، وسبقنا في ذلك المغرب والشام. وأصبحنا نعرف بلهجاتنا العامية المصرية، وليس بلغتنا العربية الفصحى إلا في قراءة القرآن الكريم. وهروباً من الإعراب نسكِّن آخر الكلمات، وهو أضعف الايمان.
تحولت مدننا الى خليط من أساليب العمارة لا هوية لها. فلا هي تقليدية حافظت على الطابع القديم، ولا هي حديثة لها طابع الحداثة، ولا هي عملية ناتجة عن مقتضيات البيئة. كما غاب الزي الوطني. وبدأ رد الفعل بالزي الاسلامي، واللحية والجلباب كأحد مظاهر التمسك بالهوية. وإذا ما ذهبنا الى باقي العالم العربي، الى تونس او المغرب او اليمن او السودان، او حتى الى الدول النفطية في الحجاز او الخليج، وجدنا اقل قدر من الطابع العربي القديم او المتجدد، وأصدرنا حكماً على اننا في بلد عربي زياً، وعمارة، وأسلوب حياة، إلا في مصر لم يعد لدينا زي وطني نلبسه في الأعياد الوطنية. وكلما زاد التغريب في أساليب الحياة العامة زاد التمسك بالزي الوطني او الاسلامي كرد فعل، (كما حدث في الثورة الاسلامية في ايران ولدى الجماعات الاسلامية المعاصرة في مصر) والتمسك بالطب النبوي في مواجهة الطب الحديث، وبعلوم القرآن في مواجهة العلوم العصرية. وفي الجمل غنى عن وسائل المواصلات الحديثة، وفي الخيمة بديل عن المساكن. كل ذلك يعبر عن أزمة ضيق بمظاهر التغريب أكثر مما يعبر عن تخلف في رؤية، مجرد رد فعل على فعل. ومعظم النقد لردِّ الفعل هذه يتوجه الى النتيجة ويترك السبب، يدش من المعلول ويترك العلة، يسخر من النتائج ويستسلم للمقدمات. كما بدأت الهجرة الى الغرب تشكل أحد البواعث الدفينة لدى جموع الناس، وانفك الارتباط بالأرض الذي كان السمة الغالبة في الشخصية الوطنية، ووقف الناس امام ابواب السفارات طلباً للهجرة، وضاع احترام المواطنين. كما أصبح الاستيراد هو هم التاجر والمستهلك، وتحول الاقتصاد الوطني الى اقتصاد تابع، وفي عصر الانفتاح ظهر طلعت حرب وكأنه حلم مجهض، وعبد الناصر وكأنه كان كثيراً علينا.
لقد تحولت مساحة كبيرة من ثقافتنا المعاصرة الى وكالات حضارية للغير، وامتداد لمذاهب غربية اشتراكية، ماركسية، ليبرالية، قومية، وجودية، وضعية، شخصانية، بنيوية، سيريالية، تكعيبية...الخ. حتى لم يعد أحد قادراً على أن يكون مفكراً أو عالماً او فناناً إن لم يكن له مذهب ينتسب اليه. ووضعنا انفسنا أطرافاً في معارك لسنا أطرافاً فيها، وتفرقنا شيعاً وأحزاباً كما تفرق القدماء من ذواتهم، ولكن فرقتنا هذه المرة لم تكن موقفاً من الذات بل تبعية للآخر. ضاعت وحدة الثقافة الوطنية، والكل يبحث عن الاصالة الضائعة ويجدها البعض في الفنون الشعبية. وتكون هذه البؤر الثقافية جسر انتقال لثقافة الآخر في ثقافة الأنا. وعادة ما يتحول التغريب الثقافي الى موالاة سياسية للغرب مما يسبب فيما بعد ثورات الشعوب الوطنية تأكيداً للهوية والثقافة والوطنية في جدل تاريخي مستمر بين الأنا والآخر. وعلى الرغم من ذلك لم تنشأ لدينا في مصر مشكلة هوية في الأعماق، ولم تثر لدينا قضية عروبة الثقافة كما هو الحال في تونس، او عروبة اللغة كما هو الحال في الجزائر، او عروبة الوطن كما هو الحال في لبنان، او عروبة الشعب كما هو الحال في الخليج [2]. لم يهتم الاستعمار البريطاني في مصر بالشعب والثقافة والتاريخ قدر اهتمامه بالقناة والطريق الى الهند قدر اهتمام الاستعمار الفرنسي في تونس والجزائر والمغرب بالتوجه الى ثقافة الشعب ولغته وتاريخه من أجل طمسها ومحوها، واخفاء معالم الشخصية الوطنية، والقضاء على الهوية، ومحو اللغة العربية والمدارس العربية وتعليم الدين الاسلامي. ومع ذلك أصبحت مصر من أشد البلاد الاسلامية تغريباً وهي التي حافظت على عروبة باقي الاقطار العربية، وفرطت فيما لم يقض الاستعمار عليه. ربما لأن الهجمة الاستعمارية لم تكن قوية عليها فلم يشد الناس على العروبة بالنواجذ كما فعل المسلمون في الشمال الافريقي عندما ولد الفعل (اي الاستعمار الفرنسي ومحاولته طمس معالم الهوية العربية الاسلامية) رد الفعل اي التمسك بالعروبة والاسلام.
ومع ذلك، قضية الهوية بالنسبة لنا هي احدى قضايانا الرئيسية في مواجهة التغريب، نتفاوت فيها من منطقة الى منطقة تبعاً لشدة الاستعمار وتغلغله في النفوس وما تبقى منه في العقول. إذ تتفاوت المجتمعات الاسلامية فيما بينها في حدة المشكلة. فالمجتمعات التي داهمها الاستعمار كانت إحدى وسائل المقاومة فيها اثبات الهوية في مقابل التغاير، والأنا في مواجهة الآخر، والاصالة في مواجهة التحديث والاغتراب المرتبط به. فالتغريب Westernization نوع من الإغتراب Alienation بالمعنى الاشتقاقي للفظ اي تحول الأنا الى آخر. ولكن بعد الاستقلال الوطني عاد المستعمر من خلال الثقافة. وانتشر التغريب. استقلت البلاد ولكن احتلت الاذهان. وقد ولد الفعل، وهو التوجه نحو الآخر في رد فعل وهو الرجوع الى الأنا كما هو الحال في الثورة الاسلامية في ايران والحركة الاسلامية المعاصرة في شتى أنحاء العالم العربي والاسلامي. ووقعنا في ازدواية الثقافة، وتخاصمت ثقافتان، كل منهما يكفِّر الآخر، يرى كل منهما بقاءه وحياته في فناء الآخر وموته. ولذلك اكثرنا من الإشارة الى التحديات السبعة التي تواجهها الامة في لحظتها الحالية والتي تكون جوهر الجبهة الثالثة، الموقف من الواقع او نظرية التفسير وهي: تحرير الارض من الغزو الخارجي، الاستعمار والصهيونية، الحريات العامة ضد صنوف القهر والتسلط والطغيان الداخلي، العدالة الاجتماعية في مواجهة هذا التفاوت الضخم بين الاغنياء والفقراء. وحدة الامة في مواجهة التجزئة والتشتت والتشرذم، التنمية الشاملة في مقابل التخلف الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي، الهوية ضد التغريب والتبعية والتقليد، وأخيراً تعبئة الجماهير وحشد قواها وتجنيد طاقاتها في مقابل اللامبالاة والفتور وعدم الاكتراث.
صحيح ان التغريب متفاوت في قوته من قطر الى قطر، ومن فترة الى فترة، ومن طبقة الى طبقة. فهو اكثر انتشاراً في الطبقة العليا منه في الطبقات الدنيا. ولو ان هذه الطبقات الدنيا أيضاً، نظراً لعائدات النفط، بدأت من خلال تملكها لأجهزة الاعلام تخضع لأثر الغرب ووسائل الرفاهية. ان التحدي الأعظم لكل فرق الامة حالياً هو كيف يمكن المحافظة على الهوية من دون الوقوع في مخاطر الانغلاق على الذات ورفض كل مساهمة للغير، وكيف يمكن مواجهة ثقافات العصر دون الوقوع في مخاطر التقليد والتبعية؟ هذه هي القضية التي نثيرها جميعاً باسم «الاصالة والمعاصرة». وهي موجودة منذ نشأة الوحي عندما أبقى الاسلام على الهوية العربية وبعض قيم الجاهلية واعرافها وطورها في منظوره الجديد. وهي القضية التي عرض لها الحكماء فظلوا مفكرين إسلاميين متمثلين لثقافات الغير وفي مقدمتها ثقافة اليونان. وهي القضية الاساسية التي تعالجها العلوم الاجتماعية الغربية الآن لدراسة تطور المجتمعات النامية [3].
ومما لا شك فيه ان قضية الهوية أو الاصالة تكمن وراء مشاكلنا الاجتماعية والسياسية لأنها هي المشكلة الحضارية. وما زلنا منذ فجر نهضتنا العربية الحديثة نطرحها، وندعو لها، وننبه عليها، ولم نحلها بعد. وربما كانت معظم تياراتنا الفكرية الحديثة اقرب الى التغريب منها الى الاصالة. فالاصلاح الديني(الافغاني) والليبرالية السياسية(الطهطاوي) والعقلانية العلمية (شبلي شميل) كلها ترى الغرب نمطاً للتحديث ونموذجاً للتقدم. ترى صورتها في مرآة الاخر مما ولد الحركة السلفية حتى اصبحت وريثة الاصلاح، وقضينا على الليبرالية بأيدينا باسم الثورات العربية الاخيرة. وانتهى العقل والعلم من حياتنا بذيوع مسوح الايمانوالخرافة. ولما تولدت احزابنا السياسية الحالية عن تياراتنا الفكرية الحديثة فإنها تعثرت في رؤيتها للواقع وفي حشدها للجماهير. إذ لا يوجد عمل سياسي ابداعي دون اصالة بعيداً عن التغريب. وما زالت أحزابنا السياسية حتى الآن خاصة العلمانية منها تصوغ القضية السياسية على نحو مغترب، وتجد الحل عند الآخر وليس بتحليل الأنا [4].
وتستطيع الجبهة الاولى «موقفنا من التراث القديم» ان تساعد في ايقاف التغريب، بداية من إعادة بناء الأنا على نحو يقضي على اغترابها، ولوقف التغريب الذي حدث للخاصة التي انفصلت عن التراث لأنها لم تجد نفسها فيه، ولم تستطع تجاوز لغته القديمة او اعتبار نفسها مسؤولة عنه فلم تغير مستوياته، او تعدل محاوره، او تعيد الاختيار بين البدائل، بل قبلت كضرورة لا مفر منها، مزاحمة الفكر الغربي لتراث الامة ومكونها الرئيسي حتى نشب العداء بين انصار القديم وانصار الجديد. يمكن إذن عن طريق هذا الموقف من التراث القديم القضاء على الازدواجية في الشخصية القومية وعلى هذا «الفصام النكد» في ثقافتها الوطنية [5]. كما يستطيع الفكر الاسلامي أن يعطي نماذج عديدة دفاعاً عن الهوية ضد التغريب مثل:
تحريم القرآن موالاة الغير، والتقرب الى الاعداء، والتودد اليهم، ومصالحتهم.فغاية الأعداء القضاء على هوية الأنا، وايقاعها في التقليد، والقضاء عليها حتى لا يوجد إلا الآخر. والاعتماد على القرآن هنا إنما هو اعتماد على موروث شعبي ومصدر سلطة، وتوجيه في وعي الناس.
رفض التقليد والتبعية في السلوك الفردي وفي العقائد من اي فرد كان، واثبات المسؤولية الفردية. فإيمان المقلد لا يجوز، والاعتذار بالتقليد غير مقبول يوم الحساب.
ج ـ نموذج الفكر الاسلامي القديم الذي استطاع تمثل الحضارات السابقة دون ان يفقد هويته وقام بنقدها، مطوراً لها، ومكملاً لإنجازاتها. فظل اسلامياً معاصراً، ذاتياً قادراً على التعامل مع الآخر، وممثلاً للحضارات الانسانية كلها [6].
دـ بالرغم من انبهار الفكر الاسلامي الحديث بالغرب، وأخذه كنموذج للتحديث من حيث الصناعة، والتعليم والنظم البرلمانية والدستورية والعمران، إلا انه ايضاً استطاع ان يكون ناقداً للغرب في دهريته وإباحيته ودنيويته (الإفغاني، إقبال...الخ) ولم يفقد خصوصيته وهو في اول التعامل معه بالرغم من الاستقلال او الاستقلال المنقوص [7].
هـ ـ الاعتماد على موقف الحركة الاسلامية الآن من الغرب، في هذا التمايز بين الأنا والآخر، بين الايمان والكفر بين الاسلام والجاهلية، بين الله والطاغوت، ثم ترشيد العلاقة الى نقد مستنير، وتحويل علاقة العداوة بين الأنا والآخر الى علاقة عالم بمعلوم، ذاتٍ بموضوع، دارسٍ بمدروس، راءٍ بمرئي، ملاحظٍ بملاحظ.

من «الاستشراق» الى «الاستغراب»
الاستغراب هو الوجه الآخر والمقابل، بل والنقيض من «الاستشراق». فإذا كان الاستشراق هو رؤية الأنا (الشرق) [8] من خلال الآخر (الغرب)، يهدف «علم الاستغراب» إذن الى فك العقدة التاريخية المزدوجة بين الأنا والآخر والجدل بين مركب النقص عند الأنا ومركَّب العظمة عند الآخر. فمنذ الاستشراق القديم الذي نشأ واكتمل في عنفوان المد الاستعماري الاوروبي لجمع أكبر قدر ممكن من المعلومات عن الشعوب المستعمرة اخذ الغرب دور الأنا فأصبح ذاتاً واعتبر اللاَّغرب هو الآخر فأصبح موضوعاً. فالاستشراق القديم يعني رؤية الأنا الأوروبي للآخر اللاأوروبي، علاقة الذات الدارس بالموضوع المدروس. وكان نتيجة لذلك أن نشأ لدى الأنا الأوروبي مركب عظمة من كونه ذاتاً دارساً كما نشأ لدى الآخر اللاأوروبي مركب نقص من كونه موضوعاً مدروساً. أما في «الاستغراب» فقد انقلبت الموازين، وتبدلت الأدوار، فأصبح الأنا الأوروبي الدارس بالأمس هو الموضوع المدروس اليوم، كما أصبح الآخر اللاأوروبي المدروس بالأمس هو الذات الدارس اليوم. وبالتالي تحول جدل الأنا والآخر من جدل الغرب واللاغرب الى جدل اللاغرب والغرب. مهمة علم «الاستغراب» هو فك عقدة النقص التاريخية في علاقة الأنا بالآخر، والقضاء على مركب العظمة لدى الآخر الغربي بتحويله من ذات دارس الى موضوع مدروس، والقضاء على مركب النقص لدى الأنا بتحويله من موضوع مدروس الى ذات دارس. مهمته القضاء على الإحساس بالنقص امام الغرب، لغة وثقافة وعلماً، مذاهب ونظريات وآراء، مما يخلق فيهم إحساساً بالدونية، وقد ينقلب الى إحساس وهميٍ بالعظمة كما هو الحال لدى الجماعات الاسلامية المعاصرة، وفي الثورة الاسلامية في ايران. وليس هذا إلا رد على مركب العظمة الدفين في الثقافة الغربية والذي لا يخلو من عنصرية ثقافية، صريحة او ضمنية [9].
والفرق بين «الاستشراق» القديم و«الاستغراب» الحالي هو خلاف في اللحظة التاريخية للحضارة الاوروبية التي نشأ فيها الاستشراق سابقا، واللحظة التاريخية التالية التي ينشأ فيها «الاستغراب» الآن وعلى النحو الآتي:
1ـ ظهر الاستشراق قديماً إبان المد الاستعماري الاوروبي، والشعوب الاوروبية منتصرة بعد مرحلة الهجوم منذ سقوط غرناطة و«الاستشكافات» الجغرافية، في حين يظهر «الاستغراب» الآن في عصر الردة وبعد حركات التحرر العربية، والشعوب مهزومة في مرحلة الدفاع. لذلك يظهر «الاستغراب» كدفاع عن النفس، وخير وسيلة للدفاع الهجوم، والتحرر من عقدة الخوف تجاه الآخر، وقلب الموازين رأسا على عقب، وقلب المائدة في وجه الخصوم.
بـ ظهر «الاستشراق» قديماً محملاً بأيديولوجية مناهج البحث العلمي او المذاهب السياسية التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر خاصة من وضعية، وتاريخية، وعلمية، وعنصرية، وقومية. في حين يظهر «الاستغراب» اليوم في أيديولوجية مناهج علمية مخالفة، مثل مناهج اللغة، وتحليل التجارب المعاشة، وأيديولوجيات التحرر الوطني.
ج ـ «الاستشراق»، الآن قد تغير شكله، وورثته العلوم الانسانية خاصة الانتروبولوجيا الحضارية، وعلم اجتماع الثقافة. في حين أن «الاستغراب» ما زال بادئاً، ولم يطوِّر اي شكل له بعد. فإذا كانت بدايات «الاستشراق» في القرن السابع عشر، وبدايات «الاستغراب» في أواخر القرن العشرين فإن «الاستشراق» يكون سابقاً على «الاستغراب» بأربعة قرون، هي عمر النهضة الأوروبية الحديثة.
د ـ لم يكن الاستشراق القديم محايداً بل غالبت عليه مناهج تعبر عن بنية الوعي الاوروبي التي تكونت عبر حضارته الحديثة مثل المناهج التاريخية، والتحليلية، والاسقاطية، والاثر والتأثر. في حين أن وعي الباحث الآن في علم «الاستغراب» أقرب الى الشعور المحايد، نظراً لأنه لا يبغي السيطرة او الهيمنة، بل يبغي فقط التحرر من أسار الآخر حتى يوضع الآنا والآخر على نفس المستوى من الندِّية والتكافؤ.
فإذا كان «الاستشراق» هو دراسة الحضارة الاسلامية من باحثين ينتمون الى حضارة اخرى ولهم بناء شعوري مخالف لبناء الحضارة التي يدرسونها فإن «الاستغراب» هو التعبير عن وعينا بهذا العلم ومادته الاساسية. وبالتالي يضيع الخطر الماثل من اعتبار الحضارة الاوروبية مصدر كل علم. وما سواها من حضارة تعيش عليها، وتنتظر منها المذاهب والنظريات. لقد خلق هذا الموقف انحراف الحضارات اللاأوروبية كلها وانحسارها عن واقعها، وبترها من جذورها، والارتباط بالحضارةالاوروبية، والدخول في فلكها باعتبار انها الحصيلة النهائية للتجربة البشرية. وبلغة هيجل نقول: «إن كل حضارة اصبحت مغتربة خارج نفسها، مرتبطة بشيء آخر سواها» [10].
مهمة هذا العلم الجديد هي إعادة الشعور اللاأوروبي الى وضعه الطبيعي، والقضاء على اغترابه، وإعادة ربطه بجذوره القديمة وإعادة توجيهه إلى واقعه الخاص من اجل التحليل المباشر له، وأخذ موقف بالنسبة لهذه الحضارة التي يظنها الجميع مصدر كل علم، وهي في الحقيقة حضارة غازية لحضارة اخرى ناشئة نشأة ثانية او تعيش عصر إحيائها ونهضتها [11].
وإذا كان «الاستشراق» قد وقع في التحيُّز المقصود الى درجة سوء النية الإرادية والأهداف غير المعلنة فإن «الاستغراب» يعبر عن قدرة الأنا باعتبارها شعوراً محايداً على رؤية الآخر، ودراسته، وتحويله الى موضوع. وهو الذي طالما كان ذاتاً يحوِّل كل آخر الى موضوع. ولكن الفرق هذه المرة هو ان «الاستغراب» يقوم على أنا محايد لا يبغي السيطرة، وان بغى التحرر.
ولا يريد تشويه ثقافات الآخر، وان اراد معرفة تكوينها وبنيتها. إن «أنا» الاستغراب اكثر نزاهةوموضوعية وحياداً من «أنا» الاستشراق. بل انه يبدو احياناً أن «الأنا» الغربي، وما كان يدعيه سلفاً منذ القرن الماضي من شروط الموضوعية والحياد كشرطين للعلم إنما كان يستعملهما كوسيلة لاخفاء الذاتية والتحيز كما بدا ذلك في الاستشراق [12].
بل إنه من أفيْدَ الامور بالنسبة للتراث الغربي ذاته، دراسته من باحثين غير منتمين له يمكنهم إلقاء وجهات نظر جديدة عليه. وذلك لأن الباحث الاوروبي مشبع بتراثه. وله نفس البناء الشعوري الذي له. ومن ثم لا توجد بينه وبين موضوعه مسافة كافية، وبالتالي تصعب عليه الرؤية. في حين ان الباحث غير الاوروبي له بناء شعوري مخالف، وبينه وبين موضوعه، اعني الشعور الاوروبي، مسافة كبيرة تمكنه من الرؤية عن بعد. صحيح ان هناك خطورة الاسقاط من ذات الباحث على موضوعه، فيرى ما في نفسه اكثر مما يرى ما في الواقع. وصحيح ايضاً ان هناك خطورة الوقوع في الخطابة او في التعصب للذات والهجوم على الحضارة الأخرى موضوع دراسته، خاصة اذا كان قد قاسى منها سواء من الاستعمار المباشر أو من الاستعمار الثقافي. حينئذٍ تكون فرصة فريدة للانتقام. ولكن وعي الباحث واصالته يحفظانه من الوقوع في مثل هذه الاخطار. في حين ان الخطر الاكبر هو في ترديد الباحثين الاوروبيين اشياء كثيرة، وتدقيقهم في البحث لدرجة المتناهي في الصغر دون استطاعتهم إدراك الموضوع ككل وذلك لأن الباحث الاوروبي بعد طول تعوده على البحث وبعد رفضه لكل نظرة كلية شاملة بعد ان اكتشف عيوب هذا اللون من الفكر الذي ورثه عن العصر الوسيط، رَفَضَ الكل وآمن بالجزء، وأراد إعادة تكوين الكل ابتداء من الاجزاء التي يصل اليها هو بطريقة الخاص وبمناهجه الحسية.
ولا يعني ذلك الوقوع في تصور قومي للعلم، او في نظرة قومية للحضارة، بل يعني بدء حضارتنا في مرحلتها الحالية، مرحلة الإحياء لتراثها، والتجديد والتطوير في وعيها بذاتها، واخذ مواقف بالنسبة لما يحيط بها من افكار ولما يتسرب اليها من مذاهب. كما يعني ايضاً إفادة التراث الغربي بدراسته من باحثين محايدين كما يفعل الباحثون الاوروبيون مع غيرهم من الحضارات غير الاوروبية. ولايعني ذلك ايضاً ما تدعو اليه بعض الطوائف الرجعية لدينا من الحديث عن فكر مرتبطٍ بالأرض ونابع من البيئة، ومرتبط بالعادات والتقاليد لمعارضة كل فكر علمي او كل نظام تقدمي له نموذج مشابه في التراث الغربي. بل يعني إعطاء النظرة العلمية اساساً متيناً من التحليل المباشر للواقع [13].
وعلم «الاستغراب» في مقابل الاستشراق ضرورة ملحة في عصر الثورة المضادة بعد ان عاد الغرب بهجمته الاستعمارية الثانية بعد هجمته الاستعمارية الاولى، أثر حركات التحرر الوطني. كان السؤال: لماذا نجحت حركات التحرر الوطني في التخلص من الاستعمار العسكري ثم تم اجهاض نتائجها في الاستقلال الوطني اقتصادياً وسياسياً وثقافياً وحضارياً؟ لماذا زادت معظم البلاد المتحررة حديثاً بعد الاستقلال تبعية في الغذاء والتسليح والتعليم وتحديث المجتمعات؟ كان الصراع بين الأنا والآخر في المواجهة الاولى بين حركات التحرر والاستعمار صراع وجود، صراعاً عضلياً يعتمد على الغلبة المادية، أيهما اقوى. ولكن ظل اقتداء المستعمَر بالمستعمِر قائماً. ثم جاءت الردة الحالية، وانقلبت الثورات الحديثة الى ثورات مضادة من داخلها. فلا ثقافات ثارت، ولا شعوب تحركت لأن علاقة الأنا بالآخر، بالرغم من الاستقلال السياسي الظاهري، ما زالت علاقة تبعية وليست علاقة استقلال، ولأن عقدة النقص التاريخية امام الآخر ما زالت قابعة في الشعور، ولان العلاقة بينهما ما زالت بين ندَّين غير متكافئين، علاقة المركز بالاطراف، علاقة السيد بالعبد، علاقة أحادية الطرف غير متبادلة المواقع، طرف ينتج والآخر يستهلك، طرف يأمر والثاني يطيع. الاول لديه احساس بالعظمة والثاني لديه احساس بالنقص، عقدة تاريخية في صراع الحضارات.
يهدف علم «الاستغراب» إذن، الى إقالة الثورات الحديثة من عثراتها، واستكمال عصر التحرر من الاستعمار، والانتقال من التحرر العسكري الى التحرر الاقتصادي والسياسي والثقافي، وقبل كل شيء التحرر الحضاري. فطالما ان الغرب قابع في قلب كل منا كمصدر للمعرفة، وكإطار مرجعي يحال إليه كل شيء للفهم والتقييم، فسنظل قاصرين وفي حاجة الى أوصياء.
لقد استطاعت الشعور غير الاوروبية ان تقدم تجربة فريدة في تاريخ البشرية، وهي تجربة التحرر الوطني من الاستعمار والتي غيَّرت موازين القوى في العالم. وظهرت الشعوب المتحررة حديثاً كمركز ثقل جديد في العالم تحفظ العالم من ويلات الحروب، وتدعو لاقامة انسانية جديدة وقواعد للتعاون الدولي اكثر عدالة وانصافا للشعوب غير الاوربية، وكان من حصيلة تجربتها انهاء عصر الهيمنة الاوروبية على الشعوب غير الأوروبية وبداية تاريخ جديد للبشرية، يبدأ بعصر التحرر الذي يواكب أزمة القرن العشرين في الغرب وبداية الانكماش الأوروبي داخل حدود الغرب الطبيعية. وانحسار ثقافته وآثاره على الغير. ونشأت ايديولوجيات العالم الثالث في افريقيا وآسيا واميركا اللاتينية مثل «الزنجية» «الوجدانية» «الوحدة الاسلامية»، «القومية العربية». «الاشتراكية العربية»، «الاشتراكية الافريقية»، «الساتياجراها»، «لاهوت التحرر»...الخ. لقد قام عديد من حركات التحرر على التراث القومي للشعوب في مواجهة حضارة الرجل الابيض وغزوه مثل حركة «ماوماو»، «أنبياء بانتو»...الخ. وغيرها من الحركات الثورية المحلية ووضعها اسس الاشتراكية الطبيعية المستقلة التي تقوم على الملكية الجماعية للارض كجزء من التراث المحلي، وتحويل بعض هذه التقاليد والاعراف الى ايديولوجيات كاملة مثل «الوحدانية» و»الزنجية»الخ... [14]. وتم انشاء منظمات عديدة لذلك «التضامن الآسيوي الافريقي»، «اتحاد كتاب آسيا وافريقيا»، «القارات الثالث»، «مؤتمر عدم الانحياز»، «منظمة الوحدة الافريقية» من اجل بلورة عالم جديد. وأصبحت اصوات شعوب العالم الثالث في المحافل الدولية تجسد وعياً جديداً بنظام عالمي جديد.
«علم الاستغراب» يستأنف كلّ ذلك وينقله من مستوى الأماني الطيبة، والنيات الحسنة الى مستوى العلم الدقيق، ومن مستوى الخطابة السياسية الى مستوى التحليل العلمي [15]، وقد يحتاج ذلك الى عدة أجيال فما زلت انتسب الى جيل المخضرمين، جيل عصر النهضة العربي الذي يتم فيه التحول من القديم الى الجديد. ما زلت في إطار فلسفات التاريخ التي تعبر عن حركة الوعي المكبوت. ونحتاج الى عدة اجيال اخرى كي تتحول فلسفات التاريخ الى علوم اجتماعية دقيقة.
----------------------------------------------
[1] مفكر وفيلسوف عربي من مصر .
[2] انظر مراجعتننا لكتاب الأخ الصديق هشام جعيط «الشخصية العربية الاسلامية والمصير العربي» بعنوان «هل يمكن تحليل الشخصية العربية الاسلامية والمصير العربي من منظور اقليمي وفي اطار نظري غربي استشراقي؟ في
«دراسات اسلامية»، ص 228ـ255.
[3] انظر «موقفنا الحضاري» في «دراسات اسلامية»، ص 46.
[4] «التراث والعمل السياسي:، مصدر سابق، ص 171ـ172. وأيضاً «مأساة الاحزاب التقدمية في البلاد المتخلفة» في «الدين والثورة في مصر 1952ـ1981»، الجزء الثامن «اليسار الاسلامي والوحدة الوطنية»، ص 189ـ214.
[5] «موقفنا الحضاري» في دراسات اسلامية»، ص 30. وتعبير «الفصام النكد» للمفكر الشهيد سيد قطب في «المستقبل لهذا الدين»، القاهرة، دار الشروق، 1980، ص 27ـ54.
[6] وهذا هو موضوع الجزء الثاني «من النقل الى الابداع» محاولة لاعادة بناء علوم الحكمة.
[7] «الفكر الاسلامي والتخطيط لدوره الثقافي المستقبلي» في «دراسات اسلامية»، ص 215ـ216.
[8] عرضنا من قبل لنقدنا للاستشراق ومناهجه المختلفة: التاريخي، والتحليلي، والاسقاط، والأثر والتأثر في «التراث والتجديد»، موقفنا من التراث القديم، ثالثاً: أزمة المناهج في الدراسات الإسلامية. 1ـ النعربة العلمية ص 77ـ108.
[9] «موقفنا الحضاري»، في «دراسات اسلامية» ص 34.
[10] يمكن من الآن بداية ذكر أسماء الأعلام دون خشية كسر اتساق الخطاب. فموضوع علم «الاستغراب» هو التراث الغربي الذي تكون من خلال أعلامه بدليل نسبة مذاهبه الى أصحابها مثل الديكارتية، الكانطية، الهيجلية، الماركسية، البرجسونية..الخ.
[11] «موقفنا من التراث الغربي» في «قضايا معاصرة»، الجزء الاول «في الفكر الغربي المعاصر»، القاهرة، دار الفكر العربي، الطبعة الاولى، 1976، ص 7.
[12] انطر مقدمة الجزء الاول من رسالتنا الثانية عن ظاهرة الوعي الأوروبي. «الشعور المحايد والشعور المغترب».
[13] «موقفنا من التراث الغربي» في «قضايا معاصرة»، ج 1: في الفكر الغربي المعاصر ص 7ـ9.
[14] «التراث والنهضة الحضارية» في «دراسات فلسفية»، ص 79ـ81.
[15] انظر دراستنا بالانجليزية التي قدمت كاحدى مشروعات البحث في جامعة الامم المتحدة في طوكيو 1987 بعنوان:
The New Social Science Islam: Religion, Ideeology and Development