البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

السوبر حداثة، منهج علمي غايته بلوغ المعرفة القصوى

الباحث :  حسن عجمي
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  1
السنة :  السنة الاولى - خريف 2015 م / 1436 هـ
تاريخ إضافة البحث :  September / 20 / 2015
عدد زيارات البحث :  1492
تحميل  ( 228.138 KB )
السوبر حداثة
منهج علمي غايته بلوغ المعرفة القصوى
حسن عجمي [*] [1]
في هذا البحث من «عالم المفاهيم» يطرق الباحث حسن عجمي مفهوماً مستحدثاً لا يزال قيد التداول المحدود ضمن بيئات فكرية وأكاديمية متخصصة في الغرب، وكذلك في بعض  البيئات المهتمة بالفكر والفلسفة السياسية المعاصرة في العالمين العربي والإسلامي. مفهوم «السوبر حداثة» أو ما ذهب إليه بعض المفكرين فأطلقوا عليه تارة تسمية الميتا ـ حداثة وطوراً «الحداثة الفائقة».  هو ما سيتناوله الباحث  بجلاء مقدماته ومبانيه العلمية والفلسفية.
المعلوم أن لهذا المفهوم ارتباطاً وثيقاً بما سبقه من مفاهيم ومصطلحات تتعلق بالحداثة وما بعدها والتطورات المعرفية التي رافقتهما على امتداد قرون خلت. ولذا سنرى كيف أن الباحث لجأ إلى المرور على تعاريف الحداثة في سياق تأصيله لمفهوم  «السوبر حداثة» موضوع هذا البحث. وهو بحث جدير بالاهتمام، والنقد والتمحيص من قبل النخب الفكرية، لما يحمل في طيّاته من حالة الشكّ الصارخة وعدم اتخاذه موقفاً أمام صدق القضايا أو كذبها، حيث يجعل القضايا كلّها ممكنة جرّاء قبوله التناقض الداخلي. ولا نعدم الرأي لو قلنا إن نظرية السوبر حداثة هي أقرب إلى أن تكون سفسطة متطوّرة، طوّرها المناخ اللامعرفي الحديث والانفلات الفكري المنقلب حتى على نفسه..
(المحرر)
الحداثة ـ على ما هو شائع ـ هي المذهب المؤمن بوجود منهج عقلي فلسفي أو علمي مقبول ويوصلنا إلى المعرفة؛ وبالتالي هي المؤمنة بتأصيل المعارف. وإذا كانت ما بعد الحداثة، كما يقول محمد أركون، هي الاعتقاد باستحالة تأصيل أي معرفة أكانت دينية ام علمية[2]، فإن الحداثة ليست سوى الإيمان بإمكانية تأصيل المعارف. أما آخرون فيذهبون إلى أن ما بعد الحداثة هي تلك المتصفة بمبدإ اللاحتمية المطابق أو الشبيه بمبدإ اللاحتمية في ميكانيكا الكمّ. وبهذا المعنى، يتصف مذهب ما بعد الحداثة بالذاتية، والتفكيكية، والتعددية، والاختلاف، والعشوائية... الخ[3].
أما السوبر حداثة فهي المذهب الذي يستخدم مفاهيم ومناهج ما بعد الحداثة من أجل الوصول إلى الهدف الأساسي للحداثة، ألا وهو المعرفة. مثال ذلك محاولات العلماء والفلاسفة في تفسير ميكانيكا الكمّ. بالنسبة إلى ميكانيكا الكمّ، مبدأ اللاحتمية أو مبدأ اللامحدد يحكم العالم. يقول هذا المبدإ انه من غير الممكن تحديد مكان الجسيم وسرعته في آن معاً. وقد انشغل العديد من العلماء وما زالوا منشغلين بتفسير هذا المبدأ. بعضهم يفسره على أساس ان الوعي الإنساني يحدد ما يحدث في عالم الجسيمات، وبعضهم الآخر يفسره من خلال نفي وجود هوية الجسيمات بحيث تصبح غير مختلفة عن بعضها بعضاً الخ. نجد هنا استخدام مفهوم اللاحتمية أو اللامحدد وهو مفهوم ما بعد حداثوي من أجل الوصول إلى المعرفة وهو الهدف الحداثوي. من هنا، السوبر حداثة تستغل ما بعد الحداثة للوصول إلى أهداف الحداثة.
أما علم الأفكار فهو جزء أساسي من السوبر حداثة. بما أن علم الأفكار يدرس الأفكار الممكنة وكيفية تطبيقها في ميادين مختلفة كأن يطبق مبدأ اللامحدد على المجتمع والتاريخ، فهو بذلك يستخدم مفاهيم ما بعد الحداثة كما تفعل السوبر حداثة. ويسعى علم الأفكار نحو التوصل إلى معرفة العوالم الممكنة التي قد تشبه عالمنا الواقعي والتي تضمه. وبما أن الحداثة تهدف إلى معرفة عالمنا الواقعي، فإن هدف هذه الأفكار يتطابق أحيانا مع هدف السوبر حداثة. كل هذا يرينا أن علم الأفكار يستخدم ما بعد الحداثة من اجل تحقيق هدف الحداثة بشكل غير مباشر. من هنا يشكل علم الأفكار جزءاً أساسياً من السوبر حداثة.
لا يهدف علم الأفكار إلى معرفة العالم الواقعي بشكل مباشر بل يدرس العوالم الممكنة. وبذلك يختلف عن الحداثة لأنها تُعنى بدراسة الواقع والحصول على معرفة الواقع. كما أن علم الأفكار لا يسعى إلى نقد المعرفة ورفضها كما تفعل ما بعد الحداثة لأن علم الأفكار يهدف إلى الحصول على المعرفة بالعوالم الممكنة؛ فهو يبني تلك المعرفة. وبذلك يختلف علم الأفكار عن ما بعد الحداثة. الآن، بما أن علم الأفكار يختلف عن كل من الحداثة وما بعد الحداثة فهو يشكل مذهبا متكاملاً في السوبر حداثة التي تحاول الخروج من مفهومي الحداثة وما بعدها.
علم الأفكار هو العلم الذي يدرس الأفكار الممكنة. أي أن موضوعه هو دراسة المذاهب الفكرية كافة (الفلسفية والعلمية والاجتماعية والأدبية الخ) شرط أن تكون هذه المذاهب لم تنشأ بعد. فهدفه الأولي هو بناء المذاهب والأفكار الجديدة ومحاولة الدفاع عنها ورؤية فضائلها (ونواقصها إذا أمكن) شرط أن لا يعتبرها المؤلف هي حقا مذاهبه وأفكاره. بمعنى آخر، علم الأفكار يحاول أن يتوصل إلى تحديد مجموعة الأفكار والمذاهب الفكرية التي من الممكن ان توجد أو التي من الممكن أن يفكر بها فرد ما في عالم ما أو التي من الممكن ان تكون صادقة في عالم ما.
ما الفائدة من وراء هذا العلم وما وظيفته؟
يُساهم هذا العلم في إعطاء العالم حجة معرفية لكي يكتب وينشر ما فكر به رغم انه غير مقتنع كلّيّاً بما كتب أو فكّر به. هذا لأن هذا العلم يدرس الأفكار الممكنة والتي قد لا يعتنقها أو قد لا يؤمن بها مؤلفها أو اي فرد آخر. من هنا، لا يحتاج العالم إلى قضاء مزيد من الوقت لكي تحدث التجارب والخبرات الداعمة لفكرته هذه أو تلك. في الآن ذاته عندما نحدد الأفكار الممكنة نساهم في البحث الفلسفي والعلمي؛ فإذا ما وضعنا أمامنا معظم الأفكار التي من الممكن التفكير فيها قد يختار العالم مذهبا منها ويطوره مما يساهم في بناء المعرفة والبحث العلمي. هذه بعض الحجج البراغماتية وراء خلق هذا العلم. والحجة الأساسية الداعمة لهذا العلم هي انه يتجنب المذهب الشكي؛ فحتى لو كان الشك صادقاً ما زلنا قادرين بحق دراسة ما يمكن أن يكون صادقاً.
القدرة التفسيرية
بالإضافة إلى ذلك، فإنّ الحجة المعرفية وراء هذا العلم، أي الوظيفة المعرفية لهذا العلم، تكمن في أنه يملك قدرة تفسيرية ناجحة. فهو قادر على أن يفسر بعض الظواهر. من هنا، فإنّ علم الأفكار يشكل نظرية أو مذهبا قائما بذاته، لديه القدرة على ان يفسر لماذا نشأت بعض الأفكار والمذاهب في الماضي، كما لديه القدرة على التنبؤ بالأفكار والمذاهب التي قد تنشأ في المستقبل. لا نستطيع البرهنة على هذا الدور سوى من خلال تقديم مثل عملي على ذلك. سنختار فكرة اللامحدد Indeterminated كميدان لعملنا.
وجدت فكرة اللامحدد في التراث الفكري الغربي. نجد أن كانط طبقها على العقل والإدراك، بينما هيغل طبقها على الوجود[4] فلا عجب من انتقال هذه الفكرة، التي شغلت التراث الغربي، إلى العلم. وبالفعل هذه الفكرة قد تشخصت في ميكانيكا الكمّ التي تقول انه من غير المحدد سرعة الجسيم ومكانه. اعتماداً على انتشار فكرة اللامحدد، ومن منطلق علم الافكار كونه يدرس الأفكار التي من الممكن خلقها، نستطيع ان نتنبأ بأن فكرة اللامحدد سوف تطبق في علم الاقتصاد. بالفعل لقد طبقت مؤخراً[5] ,هذا دليل على صدق هذا التنبؤ، وبذلك هو دليل على صدق علم الأفكار وقدرته التفسيرية، فلقد فسر ظاهرة معينة ألا وهي لماذا نشأ مذهب جديد في علم الاقتصاد يدعي دراسة الاقتصاد من خلال فكرة اللامحدد.
من هذا المنطلق بالذات وبفضل علم الأفكار نستطيع أيضا التنبؤ بتطبيق فكرة اللامحدد في ميدان تحليل مفهوم المعنى. بالفعل أنتج كوين مذهبا في المعنى يدّعي ان المعنى غير محدد[6]، ينجح علم الأفكار في تفسير لماذا نشأ هذا المذهب في المعنى في وقت نشوئه بالذات. لقد نشأ هذا المذهب في القرن العشرين ومن بعد تطوير ميكانيكا الكمّ بسبب أن فكرة اللامحدد هي جزء من التراث الغربي المتمثل في مذاهب عدة كمذاهب كانط وهيغل وميكانيكا الكمّ. بالنسبة إلى علم الأفكار، الأفكار التي تتخذ حيزاً أساسيّاً أو غير أساسي في الفكر البشري قد ينتشر تطبيقها في ميادين عدة. وبذلك بما أن فكرة اللامحدد اتخذت حيزاً معيناً في الفكر البشري فمن الممكن تطبيقها في الاقتصاد والمعنى. هذا ما حصل بالذات. هنا تكمن قدرة علم الأفكار في التفسير.
من جهة أخرى، ومن منطلق علم الأفكار، نستطيع بحق تطبيق فكرة اللامحدد في ميادين وحقول عدة. هذا ما سنقوم به تفصيليّاً، الآن. علم الأفكار يدعونا إلى دراسة الأفكار الممكنة، ومن ضمن هذه الأفكار فكرة تطبيق فكرة اللامحدد في حقول معرفية مختلفة. وبذلك يتنبأ علم الأفكار بتطبيق فكرة اللامحدد في ميادين عدة. هنا تكمن قدرة علم الأفكار على التنبؤ بظواهر فكرية معينة. فمثلاً، يتنبأ بتطبيق فكرة اللامحدد في علم البيولوجيا. فإذا تم ذلك، حينها يتعزز صدق علم الأفكار. من هنا، علم الأفكار يشكل نظرية علمية ولا يشكل فقط نظرية فلسفية. كما أن علم الأفكار يتنبأ وبذلك بُحِث في تطبيق فكرة اللامحدد في ميادين مختلفة. لكن ما هو اللامحدد؟ لقد عرفنا اللامحدد في كتاب «مقام المعرفة ـ فلسفة العقل والمعنى» على انه ليس سوى عدم وجود الزمان والمكان في عالم ما دون الذرة. فإذا طبقنا هذه الفرضية على العالم الذري أي العالم المرئي فسوف نحصل على نظرية جديدة في الفيزياء. لكني أدع هذه المهمة للقارئ.
هنا ندخل في ديموقراطية الثقافة؛ فلكل منا حق في دراسة ما هو ممكن.
في المنهج
لقد حددنا موضوع علم الأفكار، لكن ما هو منهجه؟ لا يوجد منهج محدد له، بل بفضل بناء أي فكرة ممكنة أو مذهب ممكن نبني منهجاً ممكناً. فتتنوع  المناهج، وتنوعها أفضل من أن نسجن في منهج واحد ومحدد. مثلاً، من خلال دراستنا لكيفية تطبيق اللامحدد على مواضيع عدة نبني في الحقيقة منهجاً جديداً ألا وهو القائل: لا بد من دراسة الأشياء من خلال أنها غير محددة. فالظواهر غير محددة، والنصوص غير محددة، والمعرفة والواقع غير محددين، جواهرنا (جوهر الإنسان وجوهر الطبيعة الخ) غير محددة. المنهج ليس سوى تطبيق هذه الأفكار والمسلمات في دراساتنا والكشف عن مدى نجاح هذه الدراسات.
لا بد من مقارنة بسيطة هنا، بينما المنهج التفكيكي يقوم بتفكيك النصوص أي بالكشف عن اللامعقوليات التي تنبني عليها النصوص، منهج علم الأفكار يقوم بتحديد الأفكار التي من الممكن ان توجد أو مناهج مختلفة تتنوع مع تنوع العوالم الممكنة التي يراد دراستها. توجد عوالم ممكنة تتكون من الأفكار الممكنة التي لم تفكر بها البشرية، ومن خلال حجبها واقصائها حددت الأفكار التي سيطرت على فكر البشرية. مثل على ذلك أن الظواهر محددة فإما أنك إنسان وإما أنك حيوان. هذه الفكرة سيطرت على عقولنا. لكن في المقابل توجد عوالم فكرية حيث الظواهر غير محددة بل تقسيمنا إلى إنسان وحيوان هو تقسيم اعتباطي.
التفكير الممكن
توجد طرق عديدة في التفكير منها طريقة جديدة تدعى التفكير الممكن. لنقسم بحثنا في اتجاهين: أولا، يوجد الموقف الداعي إلى أننا نملك الحق بأن نعتقد باعتقاد ما إذا لم توجد حجة أو دليل ينقض اعتقادنا. موقف آخر معارض يقول أننا لا نملك الحق في أن نعتقد باعتقاد ما إلا إذا كانت لدينا حجة أو دليل على صدق اعتقادنا. الموقف الأول لا يلزمنا بأن نبرهن على ما نعتقد، بما أن الموقف الاول لا يلزمنا على أن نبرهن على ما نعتقد، فيحق لنا الاستمرار في الاعتقاد بصدق ما نعتقد رغم أنه من الممكن أن تكون معتقداتنا كاذبة، فيشجعنا على أن لا نبحث عمّا ينقض معتقداتنا فيخرجنا هذا الموقف عن الصواب والبحث العلمي؛ فينهي البحث العلمي قبل أن يبدأ. أما التفكير الممكن فلا ينهي ولا يقضي على البحث العلمي قبل ان يبدأ لأنه يدعونا إلى إنشاء نظريات وأفكار من الممكن ان توجد أو يفكر بها مما يستدعي الأفكار والمعتقدات التي قد تنقض معتقداتنا ومسلماتنا.
الموقف الثاني يلزمنا بتقديم براهين على صدق ما نعتقد لكي تشكل معتقداتنا معرفة أو علما. لكن من الممكن أن ألاّ نملك مثل تلك البراهين مما يجعل معظم أو كل معتقداتنا لا تشكل معرفة أو علما وبذلك نسقط في الشك المعرفي. أي نسقط في الشك بصدق اي معتقد لدينا أو لدى الآخرين. أما التفكير الممكن فلا يسوقنا نحو المذهب الشكي لأنه يدعونا إلى بناء الأفكار التي من الممكن ان توجد والتي من الممكن ان تنقد معتقداتنا ومسلماتنا، لكنه في المقابل لا يدعونا إلى الاقتناع أو الإيمان بها ورفض ما نعتقد. بكل بساطة، التفكير الممكن لا يلزمنا بتقديم براهين على ما نعتقد في عالمنا الواقعي بل يدعونا إلى أن نتصور أننا علماء أو فلاسفة نسكن في عالم ممكن حيث علينا أن نفكر بما يفكر ويعتقد به هؤلاء الغرباء.
التفكير الممكن هو دعوة إلى الخروج مؤقتا من معتقداتنا والادعاء بأننا نعتقد بمعتقدات اخرى. طبعا هذا الخروج لا بد ان يعتمد على أصول البحث الموضوعي أو العلمي. التفكير الممكن دعوة للانفتاح على المعتقدات الممكنة أو المحتملة. هذه وظائفه وليست تحليلات لمفهوم «التفكير الممكن». التفكير الممكن دعوة نحو التغيير وعدم عبادة الأوثان الفكرية؛ كل واحد منا يستطيع الآن أن يتفلسف وينشئ نظريات علمية. في ميدان علم الأفكار، تلك الأفكار والمذاهب والنظريات التي تعبر عنها هي ليست ما تعتقد أو تعلم بل هي فقط ما قد تعتقد وتعلم؛ علم الأفكار تمهيد لما قد يعتقد ويعلم الآخرون.
ثانياً، بالإضافة إلى الموقفين السابقين يوجد المذهبان التاليان:
أـ لا بد ان تتخذ موقفا من كل مسألة. فإذا سألناك عما هو الجمال عليك ان تجيب. وإذا سألناك عما هو التحليل الصادق للعمل الخير، عليك أن تجيب الخ.
ب ـ ليس من الداعي أن يكون لديك موقف من كل مسألة؛ بل لديك الحق في أن تمتنع عن الحكم.
الاتجاه الأول يدعوك إلى أن تكون لديك اعتقادات أو نظريات عن معظم الأشياء أو كلها. لكن إذا قمت بذلك، فسوف ينتهي البحث العلمي. فمثلاً، إذا اعتقدت بأن نظرية أينشتاين هي النظرية الصادقة عن الكون، إذاً بحثك العلمي في الكون سينحصر ضمن تلك النظرية، وبذلك ينتهي حقا البحث العلمي الخلاق. لكن التفكير الممكن يتجنب هذه المشكلة. فهو لا ينهي البحث العلمي بل يشجعه ويطوره لأنه يدعوك إلى التفكير بأفكار من الممكن وجودها أو التفكير فيها. وبذلك يستمر البحث العلمي وإن كنت مثلاً مقتنعاً بأن هذه النظرية أو تلك صادقة؛ فما زلت قادرا على التفكير بنظريات اخرى وإبداع نظريات جديدة ومختلفة.
أما الاتجاه الثاني فيقول: لك الحق في أن تمتنع عن الحكم فلا تشكل معتقدات في كل مجال من مجالات العلوم لأنك لا تستطيع ان تعرف كل الحقائق والحجج أو الدلائل لكي تكتشف أي نظرية هي الصادقة أو المقبولة في كل مجال من مجالات البحث. وبذلك إذا كنت أديبا مثلا فسوف يشجعك هذا الاتجاه على عدم التفكير بالفيزياء رغم أنك قد تفكر ببعض النظريات الفيزيائية الممكنة. هذه هي مشكلة هذا الاتجاه فهو يضع حدوداً لكل باحث ويحصره في مجاله التخصصي. أما التفكير الممكن فيتجنب هذه المشكلة بل يدفع المثقفين كافة وحتى غير المثقفين نحو التفكير والإبداع في أي مجال قد يلامسون به الحقيقة من بعيد أو قريب، وبذلك يدفن الحدود بين المجالات المختلفة في البحث والعلوم. هذا لأنه لا يدعوك إلى أن تمتنع عن الحكم على أساس أنك لا تملك كل المعارف. فلا أحد يملكها كلها. بل التفكير الممكن يقدم لك أساساً معرفيّاً من خلاله تستطيع بحق أن تحكم على صدق هذه النظرية أو تلك رغم أنك تفتقر إلى العدة المعرفية الكاملة والتي لا يملكها أحد. وبذلك يستمر البحث ويزدهر.
البحث عن العلم وتجنب التناقض
إذا قبلنا بصدق نظرية العلم المثبتة في كتاب «مقام المعرفة ـ فلسفة العقل والمعنى». سيتضح أن علم الأفكار هو علم يبحث عن النظريات العلمية. بالنسبة إلى تلك النظرية، النظرية العلمية هي النظرية الصادقة في عالم ممكن شبيه بعالمنا. لكن علم الأفكار هو العلم الذي يدرس العوالم الممكنة الشبيهة بعالمنا وغير الشبيهة به. من هنا فإنّ فإنّ علم الأفكار يدرس النظريات العلمية بل يحاول أن يكتشف ما هي. علم الأفكار لا يكتفي بذلك بل هو العلم المُؤسس للعلوم. هذا لأنه يسعى ف نماء النظريات التي من الممكن ان تكون صادقة في أي عالم ممكن، ومن ضمن هذه العوالم الممكنة توجد العوالم حيث تُكشَف النظريات العلمية.
بالإضافة إلى ذلك، لعلم الأفكار فضيلة كبرى هي أنه يساعد الباحث على عدم القلق بالنسبة إلى السقوط في التناقض. بمعنى آخر، إذا كنا نقوم بأبحاثنا من منطلق علم الأفكار فيحق لنا أن نُنشئ نظريات مختلفة بل مناقضة لبعضها بعضاً. هذا لأننا ندرس فقط الأفكار التي من الممكن ان تبنى والتي لا نعتقد بصدقها، أو التي اعتقادنا بها محدود. طبعا، هذا لا يعني أنه يحق لنا أن نسقط في التناقض في النظرية نفسها.
علم الأفكار والفلسفات الأخرى
من منطلق علم الأفكار نستطيع بحق أن نسلم بفلسفة ما أو أخرى وننطلق في العمل ضمن ميدانها. هذا لأنه بالنسبة إلى علم الأفكار نحن نعنى ببناء الأفكار التي من الممكن التفكير فيها ولا نتخذها كمعتقدات نهائية لنا. من هنا يحق لنا أن نخوض في الفلسفة التحليلية محاولين أن نقدم تحليلات جديدة أو شبه جديدة للمفاهيم. لا يكتفي علم الأفكار بهذا بل يشرع ما يقوم به الفلاسفة والعلماء. هذا لأنه علم يدرس النظريات التي من الممكن ان تكون صادقة، وكل ما قام به الفلاسفة والعلماء على مر التاريخ هو البحث عن النظريات التي من الممكن ان تكون صادقة. هذا العلم ليس علماً «جديداً» لأنه أصل العلوم.
إذا دفعنا السوبر حداثة أو علم الأفكار إلى أقصاه، تصبح مهمتنا أن نضع ما هو صادق أو ما نعرفه بين مزدوجين ونتناساه، وأن نبحث عما من الممكن ان يكون صادقاً رغم كذبه في عالمنا. هذا هو المذهب الفلسفي الذي يدعو إلى بناء النظريات الكاذبة. فتاريخ الفلسفات والعلوم تاريخ النظريات الكاذبة.
في معناها ومبانيها النظرية والعملية
بينما تدرس الحداثة العالم الواقعي وتعتبره قائماً بذاته ومستقلاً عن العقل، ترى ما بعد الحداثة ان العالم غير مستقل عن العقل، بل هو نتيجة بناءات عقلية. بالنسبة إلى الحداثة العالم موضوعي، لكن ما بعد الحداثة تقر بأنه غير موضوعي؛ وعلى سبيل المثال تقول ما بعد الحداثة. «إن العلوم لا تدرس الكون كما هو بل تخلقه من خلال دراسته»[7].
أما السوبر حداثة فتتجنب المذهبين السابقين حين تدرس الممكنات كممكنات. فالممكن ـ حسب مذهبها ـ قائم بذاته، أي انه مستقل عن العقل، ومعتمد على العقل في آنٍ. الممكن موضوعي، قائم باستقلال في العالم الواقعي، وذاتي أي ليس سوى بناء عقلي في الآن ذاته. هو موضوعي وقائم بذاته في العالم الواقعي لأنه صفة للكون؛ كأن تكون إمكانية وجود حصان طائر صفة للكون كصفة أنه لا بد من وجود ظروف معينة أو أسباب معينة ليوجد حصان طائر. ومن جهة اخرى، الممكن معتمِدٌ على العقل، بل هو بناء عقلي لأن ما نتمكن من تخيله أو التفكير فيه لا بد أن يكون ممكناً (في حال عدم تناقضه) والعكس صحيح. على هذا الأساس تتخطى السوبر حداثة الانقسام التقليدي القائم بين اعتبار الكون مستقلاً عن العقل واعتباره معتمداً عليه.
الحداثة ـ كما تبيّن لنا سابقاً ـ تعترف بنظام فكري واحد صادق ومقبول، أما ما بعد الحداثة فتتجه نحو التعددية، لتقول بعدم أفضلية نظام فكري أو سلوكي على نظام آخر، ومن هنا تدافع ما بعد الحداثة عن البراغماتية التعددية في المجتمع[8]. لكن السوبر حداثة هي حالة التعددية في الفرد ذاته. فمن غير الضروري أن يكون للفرد نظام فكري واحد، بل لا بد ان يكون للفرد نُظُم فكرية متعددة كأن ينتج نظريات علمية مختلفة ومتناقضة في ما بينها كما انتج اينشتاين نظرية النسبية وميكانيكا الكمّ المتعارضتين. فالسوبر حداثة هي دراسة الممكنات، حيث الممكنات تشكل نُظُماً فكرية عديدة ومختلفة في ما بينها.
من جهة اخرى، إذا كانت الحداثة تحلل المفاهيم القديمة أو التقليدية، وما بعد الحداثة تخلق المفاهيم الجديدة (انظر: جيل دولوز وفليكيس غتاري: ما هي الفلسفة. ترجمة: مطاع صفدي 1997. مركز الإنماء والمركز الثقافي العربي)، فالسوبر حداثة تنفي المفاهيم، أكانت قديمة أم جديدة، كنفي وجود مفهوم المثقف ومدلوله. من هنا من الممكن مثلاً نفي مفهوم الدولة ومدلوله.
الدول والامبراطوريات
لقد تعودنا أن نقرأ عن الدول والحضارات. لكن هل توجد حقا؟ لا، بل الدول والحضارات كائنات ورقية، أي توجد فقط على الورق، هي مشاريع فكرية تعودنا ان نعتقد بوجودها. لنسلم بوجود ما يدعى الدول. عنصر أساسي لا يفارق مفهوم الدولة هو ان لها سيادة مطلقة فلا يحق لأي دولة ان تغزو أخرى وتغير نظامها أو ثقافتها. نجد أن هذا العنصر الأساسي لتشكيل الدول غير متوفر. وبذلك لا توجد دول على وجه الأرض بل توجد فقط على الخارجة الورقية. فلو انه توجد دول، لا بد من وجود سيادة مطلقة لها. لكن لا توجد هذه السيادة، وبذلك لا وجود للدول. مثل على فقدان السيادة واقعيا هو اجتياح الدول لبعضها بعضا كاجتياح أميركا للعراق واحتلال فلسطين وتشريد شعبها. نضيف: توجد الدول إذا وجد نظام عالمي يفرض، بالقوةِ والحقِّ، حدودَ تلك الدول وواجباتِها وحقوقَها كحق السيادة فيمنع ما يسمى الدول من غزو بعضها بعضاً. هذا الشرط غير متوفر، وبذلك مفهوم الدولة مفهوم ملفق لا أساس له.
بينما نجد بعض المفكرين يفسرون الأحداث السياسية والعسكرية من خلال منطق صراع الدول من اجل تحقيق مصالحها كما يفعل مثلاً فؤاد عجمي[9]، نجد بعضهم الآخر يفسر تلك الظواهر من خلال صراع الحضارات كما يفعل هنتنغتون[10]. لكن هل وجدت اميركا مصلحة عسكرية أو مالية في غزو يوغسلافيا؟ لا. من هنا، مصالح الدول لا قدرة تفسيرية لها. وهل التنافس بين الشرق والغرب يعكس صورة الصراع الحضاري المزعوم؟ لا، بما أن أميركا التي مثلا غزت العراق تتشكل من ما يدعى حضارات عدة وممن ضمنها «الحضارة العربية»، ذلك ان أميركا تتكون من مجموعات شعوب أوروبية وصينية وعربية الخ، تحمل معتقدات وتصرفات قد تختلف وقد تتفق. نسأل هنا: هل حقا توجد حضارات عدة؟ الجواب: مفهوم الحضارات المختلفة مفهوم يوجد على الورق ولا يشير إلى أي وقائع موجودة حقا. والدليل مثلا ان ما يدعى الحضارة الأميركية يتشكل من ثقافات عدة.
على هذا الأساس لا بد من استعادة مفهوم «الامبراطورية» واعتباره مفهوماً علميّاً. لا وجود لدول وحضارات بل توجد امبراطوريات كالإمبراطورية المغولية والرومانية في التاريخ والإمبراطورية الأميركية حاليّاً. ما هو الجوهر المكون للإمبراطورية؟ القوة ثم القوة، أي الجيش القوي الغازي بالمعنى الحربي. تشكلت الإمبراطورية المغولية من جيشها القوي ولم تبن على أساس ثقافتها المتطورة، أما الإمبراطورية الرومانية فاتصفت بجيشها القوي وسن قوانينها، بينما الامبراطورية الأميركية فتتصف بقوة جيشها وعلمها التكنولوجي المتطور. على أساس هذه المقارنة البسيطة يبدو ان جوهر الإمبراطورية يتكون من قوتها العسكرية ليس إلا.
يتشكل العالم من امبراطوريات. فقد تشكل في القرن الماضي من امبراطورية سوفياتية وصينية وأميركية، ويتشكل اليوم من الامبراطوريتين الصينية والأميركية بينما تنشأ امبراطورية أوروبية تتمثل اليوم في الاتحاد الأوروبي. أما باقي العالم فيتكون من شعوب وسلطات محلية إما موالية لإمبراطورية ما وبذلك تكون مستقرة نسبيا وإما معادية للإمبراطوريات القائمة وبذلك تتصف بالاضطرابات والثورات والحروب وتكون بذلك معرضة للغزو من قبل هذه الامبراطورية أو تلك. هذه النظرية تملك قدرة تفسيريّة ناجحة. فالدول الأوروبية مستقرة نسبيا لأنّها موالية للإمبراطورية الأميركية. أما شرقنا العربي فغير مستقر لأنه لا يوالي هذه الإمبراطورية أو تلك ولا توجد امبراطورية عربية.
لنعد إلى مفهوم السيادة. قد ينظر إلى السيادة على أنها غير مطلقة بحيث أن أي دولة تفقد حق السيادة على أراضيها إذا خالفت قوانين المجتمع الدولي. لنسلم بأن هذا التعريف صادق وبأن الدول حقاً موجودة. لكن إذا كان من الممكن للدول ان تفقد حق السيادة اذا خالفت قوانين المجتمع الدولي، إذاً من الممكن ان يفقد المجتمع الدولي حق السيادة إذا خالف قوانينه بالذات. بالفعل لقد خالف المجتمع الدولي قوانينه بالذات حين سمح لبعض الدول بالاعتداء على دول اخرى كاعتداء أميركا على العراق، واعتداء إسرائيل على الدول العربية. من هنا، وبالنسبة إلى المفهوم السابق للسيادة، فقد المجتمع الدولي حق السيادة، وبذلك يحق لنا ان نقاتله. هذه نتيجة غير مرغوب بها. من هنا لم يفقد المجتمع الدولي حق السيادة بل المفهوم السابق للسيادة مفهوم خاطئ[11].
اليقين واللايقين
أحد المذاهب الأساسية في ما بعد الحداثة هو التفكيكية التي تعتبر ان كل خطاب مبني على اللامعقوليات. من هذا المنطلق من الممكن درس العلوم على انها تتضمن اللايقين واعتبار الأخير ركيزة تقدم العلم[12] فبينما تسعى الحداثة للوصول إلى اليقين ودراسته، تدرس ما بعد الحداثة اللايقين وتدعي انه صفة ملازمة للعلم. أما السوبر حداثة فتدرس اللامعقوليات على أنها معقوليات وتدرس اللايقين على أنه يقين لأنها تدرس الممكنات. بما أنها تعنى بفحص الأفكار الممكنة والتي من ضمنها اللامعقول واللايقين وتطور تلك الأفكار على أساس أنها صادقة في عوالم ممكنة غير عالمنا، فهي تدرس اللامعقوليات في عالمنا على أنها معقوليات في عوالم ممكنة، واللايقين في عالمنا على انه يقين في عوالم اخرى. من هنا تعزز السوبر حداثة أحلام الفلاسفة الكبار فمثلاً من الممكن اعتبار انه يوجد عقل كوني يتجسد في ظواهر شتى ودراسة تجسده مما يتيح لنا دفع فلسفة هيغل قدما بتطبيقها على الظواهر المكتشفة حديثاً. وسنترك تفاصيل هكذا أبحاث لعلماء الأكوان الممكنة.
من أهم ما جاءت به ما بعد الحداثة شكّها بمفاهيم الموضوعية والحقيقة والمعايير والعقل إلخ[13]. أما الحداثة فتدعي عكس ذلك. من هنا تقول الحداثة مع هيغل ان الواقعي عقلاني وأن العقلاني واقعي بينما تقول ما بعد الحداثة ان الواقعي ليس عقلانيّاً، والعقلاني ليس واقعيّاً[14] على هذا الأساس تعتبر السوبر حداثة ان الوهمي عقلاني، والعقلاني وهمي، والواقع احد تشخصات الوهم كما ان الوهم أحد تشخصات الواقع. هذا لأنها تدرس العوالم الممكنة (الوهمية) التي من ضمنها عالمنا (الواقعي) بحيث إن كل عالم ممكن يشكل جزءا من العقلانية كونه ممكناً. من هنا، يتكون الموضوعي من مجموع تشخصات اللاموضوعي، والحقيقة من مجموع تشخصات اللاحقائق، والمعيار الصحيح من مجموع تشخّصات المعايير النسبيّة والمتضاربة في ما بينها. هذا لأن السوبر حداثة تعنى بفحص العوالم الممكنة التي يتكون منها اللاموضوعي واللاحقائق والمعايير النسبيّة بيد أن العوالم الممكنة تتضمن ايضا عالمنا الواقعي الموضوعي المالك للحقائق والمعيار الاصيل لكشفها. بمعنى ما، الحقيقة هي مجموعة الأوهام، والأوهام هي العوالم الممكنة. والمعنى هو مجموع اللامعاني التي تتكون منها الأكوان المختلفة، والمعرفة هي مجموع اللامعرفيات التي تشكل العوالم الممكنة. هذه ليست بتعاريف لمفاهيم الموضوعي والحقيقة والمعنى والمعرفة وإلا وقعنا في الدور. بل المقصود بأنه مثلا المعرفة تحتوي فقط على مجموع اللامعرفيات الخ.
وتقول الحداثة بوجود مجموعة قيم ثقافية صادقة من بين مجموعات القيم المختلفة وبذلك من الممكن المفاضلة بينها. أما ما بعد الحداثة فتقول باستحالة تقويم مجموعات القيم المختلفة وبذلك من غير الممكن تفضيل بعضها على بعضها الآخر. من هنا استخدمت ما بعد الحداثة مفهوم الاختلاف بمعنى اننا فقط مختلفون ونملك قيما مختلفة فلا وجود مجموعة قيم متفوقة على مجموعة قيم أخرى. والنقد الذي يوجهه الفلاسفة لهذا الاتجاه ما بعد الحداثوي هو انه من الممكن مقارنة مجموعات القيم المختلفة وتقويمها[15]. أما السوبر حداثة فتخطو نحو الممكنات، فمن الممكن ان تقول أنها تعنى بكشف أو خلق قيم ممكنة لم نفكر بها من قبل أو لم توجد من قبل. من هنا تسعى السوبر حداثة إلى خلق قيم المستقبل؛ فالقيم الحقيقية هي مجموع كل القيم الممكنة. من هذه القيم الممكنة انه يحق لكل فرد ان يستنسخ جينيّاً ويملك حق استخدام اعضاء قرينه (Clone) (أي المستنسخ منه) لكي يستمر في الحياة بصحة أفضل ولمدة أطول.
بالإضافة إلى ذلك، تؤمن الحداثة بالجوهرانية التي تدعي بأن للأشياء جواهر بفضلها تصبح الأشياء على ما هي. لكن جواهر الأشياء هي الضرورية والكافية لوجود الأشياء، بينما تحليل المفاهيم يقدم الظروف الضروريّة والكافية لتحقق مدلولات المفاهيم. وبذلك تؤمن الحداثة بتحليل المفاهيم وتسعى إليه. أما ما بعد الحداثة فترفض الجوهرانية، فلا وجود لجواهر للأشياء وبذلك ترفض تحليل المفاهيم[16]. أما السوبر حداثة فتعترف بوجود الجواهر لكنها تضيف أن الجواهر موجودة في العوالم الممكنة وليست موجودة في عالمنا الواقعي. من هنا من الممكن دراسة الجواهر وتحليل المفاهيم كما هي في العوالم الممكنة. والسوبر حداثة تقول بأنه توجد جواهر عدة للشيء الواحد وتحليلات عدة ومختلفة وصادقة للمفهوم ذاته في عوالم ممكنة ومختلفة. هذا لأن السوبر حداثة تدرس الممكنات. فمثلاً العقل في عالم ممكن مختلف عن العقل في عالم ممكن آخر، وبذلك من الممكن تقديم تحليلات عدة ومختلفة للعقل وصادقة في عوالم مختلفة، وبذلك توجد جواهر عدة للشيء الواحد. على هذا الأساس تبنى الفلسفة التحليلية كأنها مختبر للممكنات.
من جهة أخرى، تتبنى ما بعد الحداثة النسبية الثقافة أو العلمية التي تزعم أننا ننتمي إلى ثقافات مختلفة من غير الممكن تقويمها على أسس محايدة مما يدفعها إلى نتيجة أن المنتمين إلى ثقافات مختلفة على أسس محايدة أو نظريات علمية مختلفة من غير الممكن ان يتفاهموا أو يتحاوروا[17]. أما الحداثة فتنفي تلك الأقوال وتعتبر أننا وإن انتمينا إلى نظريات أو ثقافات مختلفة فما نزال قادرين على التفاهم والتحاور. من جهتها تقول السوبر حداثة أننا كمنتمين إلى ثقافات ونظريات مختلفة نستطيع ان نتفاهم ونتحاور في بعض العوالم الممكنة لكننا في عوالم اخرى لا نستطيع ذلك. هذا لأننا نحيا في العوالم الممكنة ولا نحيا في الواقع فقط. هذا يعني أن كل عقل ينقسم إلى عوالم مختلفة تحتوي على مضامين ومفاهيم مختلفة. وبذلك من الممكن الانتقال من نظام مفاهيمي إلى آخر بقرار أو اختيار شخصي.
بما ان السوبر حداثة مختبر يفحص الممكنات في الفكر والسلوك فمن المتوقع تنوع النظريات في الموضوع الواحد وتعارضها. هذا لا يشكل مشكلة فكرية لأننا في الحقيقة ندرس الممكنات فقط. من هنا سنعيد طرح بعض الأسئلة ونجيب عنها باختلاف عما كنا  قد أجبنا.
المعرفة واللغة والعلوم
بينما ترفض ما بعد الحداثة وجود معرفة مطلقة لا تتبدل ولا تتغير، تقبل الحداثة بها. المعرفة بالنسبة إلى ما بعد الحداثة هي معرفة نسبية، أما الحداثة فتدعي انها معرفة غير نسبية. من جهة اخرى، قد ترتقي السوبر حداثة بقولها: إن المعرفة المطلقة هي مجموع المعارف النسبية. فتاريخ المعرفة هو تاريخ نسبية المعارف وتبدلها. لا يوجد داع للقول بأن المعرفة تختلف عن تاريخها بل المعرفة هي النصوص والأفكار المختلفة التي رافقت البشرية وتغيرت بتغير البشر وظروفهم. من هنا، بالنسبة إلى السوبر حداثة، توجد معرفة غير نسبية لكنها في الآن نفسه تتكون من معارف نسبية؛ هذا لأنها مع المعارف النسبية تعبر عن العقل البشري وبذلك تصبح لا نسبية. نعلم ان بعض المعارف تناقض البعض الآخر. هذا لا يشير سوى إلى أن مضمون المعرفة غير محدد لأن الواقع غير محدد، وهذا لا ينفي وجود المعرفة. فمثلاً، نحن نعرف ان نظرية ميكانيكا الكمّ صادقة، لكننا لا نعرف مضمونها؛ فهل يعني هذا ان الوعي يخلق الواقع ام انه يوجد عالمان بدلاً من واحد؟
كما تمتاز ما بعد الحداثة بقبول فكرة أن تاريخ المعرفة يتصف بانقطاعات معرفة فما هو جديد يختلف نوعيّاً عما هو قديم[18]. اما الحداثة فترفض هذه الفكرة وتقول ان المعرفة تتصف بالتواصل اي الارتباط والتراكم والاستمرار. من جهتها تعتبر السوبر حداثة ان المعرفة تتصف بالانقطاع والارتباط معا؛ فما هو انقطاع هو ارتباط وما هو ارتباط هو انقطاع. مثال ذلك، إن مفهوم الكتلة mass في نظرية نيوتن يختلف في معناه عن مفهوم الكتلة في نظرية أينشتاين (فالكتلة m تعني F/a لدى نيوتن بينما تعني E/c2 لدى أينشتاين). لكن في الوقت ذاته مفهوم الكتلة في النظريتين يدل على الشيء ذاته ألا وهو كمية المادة. من هنا يوجد انقطاع هو ارتباط وارتباط هو انقطاع في آن، اي تتصف المعرفة بالانقطاع والارتباط معاً. فمثلاً المعرفة منقطعة بما ان مفهوم الكتلة في نظرية نيوتن يعني شيئاً مختلفاً عما يعنيه في نظرية أينشتاين. والمعرفة مرتبطة في ما بينهما لأن مفهوم الكتلة في نظرية نيوتن ونظرية أينشتاين يدل على الشيء ذاته.
كما ان الحداثة تقول ان مصدر المعرفة هو العالم الخارجي أو البنية المسبقة لعقولنا، بينما تقول ما بعد الحداثة ان مصدر المعرفة هو المجتمع أو السلطة (انظر فوكو). بالنسبة إلى السوبر حداثة، لا يوجد مصدر للمعرفة بل المعرفة تشكل حقلاً قائماً بذاته ومستقلاً عن أي عالم مادي في الخارج أو اجتماعي أو سلطوي أو داخلي مسبق في العقول، بكلام آخر، المعرفة مصدر نفسها. هذا لأن فقط ما هو معرفة يستطيع بحق أن يبرهن على المعتقدات وبذلك تصبح المعتقدات الأخيرة معرفة، أي فقط ما هو معرفة يتمكن بحق من خلق معارف اخرى. والدليل هو التالي: لو ان معتقداً ما (أ) لا يشكل معرفة بالنسبة لنا فلن نتمكن بحق الاعتماد عليه لكي نبرهن على صدق معتقد آخر، وبذلك لن نصل بحق من خلاله إلى معرفة اخرى. فاعتمادنا على أي معتقد لكي نبرهن على معتقد آخر يواجه ضرورة البرهنة على المعتقد الاول وهذا لا يتم سوى من خلال الاعتماد على معتقد ثالث وهكذا تتسلسل عملية البرهنة إما إلى ما لا نهاية وإما إلى دور قاتل. من هنا لا مجال أمام البرهنة على المعتقدات سوى الركون إلى ما هو معرفة مما يجعل المعرفة حقلاً مستقلاًّ عن أي كائن آخر أو مصدر.
وتضيف ما بعد الحداثة ان المشاكل الفلسفية هي مشاكل كاذبة لأنها في الحقيقة تخبط لغوي، وبذلك المشاكل الفكرية تذوب من خلال ايضاح معاني المفاهيم [19]لكن الحداثة تدعي ان المشاكل الفلسفية هي حقّاً مشاكل حقيقية وتحتاج إلى نظريات فلسفية معقدة لحلها. من جهتها تتنبأ السوبر حداثة بالحقيقة التالية: المشاكل الفلسفية هي حقا مشاكل حقيقية لكن حلها يتم من خلال إيضاح معاني المفاهيم. في الفقرات التالية سنطبق هذا الاتجاه السوبر حداثي على فلسفة العلوم.
لا نستطيع هنا ان نختصر فلسفة العلوم. لكن من الجدير ذكره هو ان النزاع قائم بين المذهب الواقعي realism والمذهب اللاواقعي antirealism اللذين سنعنى بشرحهما وتقييمهما، ولن نغفل عن رسم العلاقة القائمة بينهما وبين نظرية المعنى.
بالنسبة إلى المذهب الواقعي، النظريات العلمية المعاصرة ناجحة لأنها صادقة.
من أتباع هذا المذهب بتنام (في كتاباته الأولى) وبويد. أما الحجة العامة لهذا المذهب فهي التالية: إذا كانت النظريات العلمية غير صادقة رغم انها ناجحة في تفسير الكون والتنبؤ بظواهره، إذا فقط من خلال معجزة ما قد أصبحت ناجحة. لكن المعجزات غير موجودة. لذا النظريات العلمية الناجحة هي حقا صادقة[20]. أما المذهب اللاواقعي فيرفض تفسير نجاح النظريات العلمية على هذا النحو بل يحاول تفسير نجاحها بأساليب اخرى بالنسبة اليه، النظريات العلمية الناجحة مقبولة فقط وليست صادقة ولا كاذبة. من أتباع هذا المذهب كون وفان فراسن وغيير. لدى هذا المذهب حجج عديدة منها: النظريات العلمية الناجحة لا يمكن ان تكون صادقة لانه توجد نظريات علمية ناجحة رغم انها تناقض بعضها بعضا كنظريتي النسبية لأينشتاين ونظرية ميكانيكا الكمّ[21].
يقدم كون وفان فراسن وغيير تفاسير مختلفة لحقيقة ان النظريات العلمية ناجحة. يعتبر كون ان النظريات العلمية الأساسية كنظريتي نيوتن وأينشتاين هي نماذج فكرية تختلف في ما بينها في تصور الكون وتفسيره ممّا يجعل التفاهم بين اتباع النظريات المختلفة مستحيلاً. فما هو صادق وما يشكل معرفة بالنسبة إلى نموذج علمي معين هو كاذب ولا يشكل معرفة بالنسبة إلى نموذج علمي آخر. يضيف كون: كل نموذج علمي يحدد المشاكلَ العلمية كيفيةَ حلها بحيث يعتبر ان فقط المشاكل التي يستطيع حلها هي حقا علمية. كما ان كل نموذج علمي يحدد الحقائق العلمية التي لا بد من تفسيرها بحيث يعتبر ان فقط تلك الحقائق التي ينجح في تفسيرها هي حقا حقائق علمية وذات اهمية. وبذلك تصبح النظريات العلمية ناجحة. بالنسبة إلى كون النظريات العلمية ناجحة لانها معيار ذاتها. وبما ان النظريات العلمية تشكل المناهج التي لا بد من الاعتماد عليها من أجل تقويم النظريات، فإنّه من المستحيل تقويم النماذج العلمية من دون السقوط في الدور (الدور هنا هو البرهنة على القضية من خلال القضية ذاتها). وبذلك يستنتج أنّ النظريات العلمية ليست صادقة ولا كاذبة بل هي فقط مقبولة[22].
أما فان فراسن فيفسر نجاح النظريات العلمية على النحو التالي: تولد النظريات العلمية في غابة من الصراع المميت في ما بينها وفقط النظريات الناجحة تبقى، لذا فإنّ النظريات المعاصرة الناجحة هي علميّة[23]. أما غيير فيفسر نجاحها من خلال قدراتنا العقلية. لدينا قدرات عقلية تخولنا ان نتصور العلاقات المكانية وان نفكر من خلال البنيات الهندسية مما يسمح لنا ببناء نظريات علمية ناجحة[24].
لكن من الممكن الدفاع عن نظرية أخرى تقول ان الخلاف بين المذهب الواقعي والمذهب اللاواقعي هو خلاف هش. فلا يوجد ما نحتاج إلى تفسيره. لقد قام الخلاف على تفسير نجاح النظريات العلمية، لكن نجاحها لا يحتاج إلى تفسير مختلف عن حقيقة أن مفهوم «النجاح» لا معنى له خارج سياق العلم. فالنجاح مصطلح يأخذ معناه في العلم وفقط في العلم. لذا فإنّ النظريات العلمية ناجحة وبذلك لا نحتاج إلى تفسير نجاحها من خلال صدقها أو من خلال تفاسير اخرى. بل النظريات العلمية هي المعيار للحكم على نجاح أو فشل النظريات الأخرى (اللاعلمية أو الشبيهة بالعلم). فمثلا نقوّم نظريات علم الاجتماع من خلال تشابهها مع نظريات العلم؛ كلما قام تشابه أكثر كلما حكمنا على ان نجاحها أكبر. أما الدليل الأساسي على هذه الفرضية فيأتي من نظرية الأوتار. هذه النظرية علمية وتفسر كل الأشياء في الكون على أنها أوتار بحيث ان ذبذباتها أو أنغامها المختلفة تشكل الأنواع المختلفة من الطاقة والمادة[25]، لكن هذه النظرية تفتقد للتنبؤات كما انه لا توجد تجربة مخبرية ترينا صدقها. ومع ذلك تعد نظرية علمية ناجحة. الآن، كيف من الممكن أن تُعد هذه النظرية ناجحة رغم أنها غير مبرهن عليها مخبريّاً ولا تؤدي إلى أيّ تنبؤات؟ على الأرجح، التفسير الأفضل هو أنها ناجحة لأن مفهوم النجاح ليس له معنى سوى بارتباطه بالنظريات العلمية، ونظرية الأوتار نظرية علمية.
بالإضافة إلى ذلك، نظريتنا في المعنى والدلالة تحدد ما إذا كنا من اتباع المذهب الواقعي في العلوم أم من اتباع المذهب اللاواقعي في العلوم. فإذا قبلنا بالمذهب الواقعي في المعنى والدلالة سنصل حتماً إلى قبول المذهب الواقعي في العلوم، اما إذا ارتضينا بالمذهب اللاواقعي في المعنى والدلالة فسوف نصبح من أصحاب المذهب اللاواقعي في العلوم. مثال ذلك أننا إذا قلنا ان المعنى محدد من قبل العلاقة السببية بين المفهوم والشيء المشار اليه في الواقع، تصبح حينئذٍ مفاهيم العلم وجمله مرتبطة سببيّاً بالاشياء والحقائق القائمة في الواقع وبذلك تغدو النظريات العلمية الناجحة صحيحة اي معتبرة عن الواقع الموضوعي فنصل إلى قبول المذهب الواقعي في العلوم. هذا ما حدث مع بويد[26]. أما إذا اعتبرنا ان المعنى محدد من قبل استعمال المفهوم كما يقول كون أو من قبل الأفكار التي نملكها إذا سنصل لا محالة إلى نتيجة أن مفاهيم العلم وجمله غير مرتبطة بالعالم الخارجي وبذلك تصبح النظريات الناجحة للعلم مقبولة فقط وليست صادقة ولا كاذبة. أي نصل حتما إلى المذهب اللاواقعي في العلوم كما حدث مع كون[27].
لكن من جهة أخرى، من الممكن أن نتجنب المذهب الواقعي واللاواقعي في المعنى والدلالة وبذلك نتجنب قبول المذهب الواقعي أو اللاواقعي في العلوم. ويتم ذلك من خلال قبول نظرية مختلفة في المعنى كالنظرية الداروينية التي بالنسبة إليها نجاحنا في البقاء على قيد الحياة هو الذي يحدد المعنى والدلالة. مثال ذلك اذا كان مفهوم «القط» يعني أو يدل على نمر بدلا من ان يعني أو يدل على قط، وكنا نعتقد بأن مفهوم «القط» يعني قطّاً بدلاً من نمر، إذا سنتصرف على أساس انه يوجد قط هنا حين نسمع احدهم يقول «يوجد قط هنا» رغم انه يوجد نمر بقربنا مما يرجح ان هذا النمر سوف يلتهمنا (علماً بأننا إذا اعتقدنا بأن هذا قط وليس نمراً فلن نهرب منه). من هنا مفهوم «قط» يعني قطّاً ولا يعني نمراً لأننا ننجح في البقاء على قيد الحياة.هنا المعنى غير محلل من قبل العالم الخارجي وغير محلل من قبل أفكارنا أو استعمالنا للمفاهيم وبذلك نتجنب المذهب الواقعي واللاواقعي في المعنى والعلوم.
كما لا بد من تجنب المذهب الواقعي واللاواقعي في المعنى والدلالة لأنه يوجد نقد يرينا فشل كل منهما. لنتفحص الجملة التالية: «الفوتون في حالة تراكب». هذه الجملة صادقة في ميكانيكا الكمّ. اذا تخيلنا فوتونا أراد العبور نحو الشاشة وأمامه فتحتان، فمن المتوقع ان يعبر إما من الفتحة الأولى وإما من الفتحة الثانية. بالنسبة إلى ميكانيكا الكمّ لن يعبر من الفتحة الأولى ولن يعبر من الفتحة الثانية لكنه سوف يعبر إلى الشاشة بطريقة لا نعرف ما هي. هذه هي حالة التراكب التي يعبّر عنها بمثل قط شرودنغر الذي هو حي وميت في آن معاً[28]. رغم ان جملة «الفوتون في حالة تراكب» جملة صادقة علميّاً ما نزال نجهل ما تعني وما زال العلماء يسعون في تفسيرها. بما أننا لا نعرف ما تعني إذا من المستحيل ان تكون أفكارنا هي التي تحدد معناها. ومن المستحيل ان يكون استعمالنا يحدد معناها لأن العلماء يستعملونها بطرق مختلفة. منهم من يستعملها على انها تعني وجود عالمين، في احدهما يعبر الفوتون من الفتحة الأولى وفي العالم الثاني يعبر الفوتون من الفتحة الثانية. ومنهم من يستعملها على أساس انها تعني ان وعي العالم هو الذي يحدد مرورها العجيب نحو الشاشة إلى ما هنالك من تفسيرات عدة لميكانيكا الكمّ أو لحالة التراكب. كما انه من الخطإ القول أن العالم الخارجي هو الذي يحدد معنى تلك الجملة أو معنى التراكب لأنه من المستحيل أن يكون العالم الواقعي في حالة تراكب كأن يعبر الفوتون ولا يعبر في آن معنا أو ان يكون قط شرودنغر حيّاً وميتاً في الوقت ذاته، ولذا فإنّ العلماء يسعون في تفاسيرهم المختلفة لمفهوم التراكب. وجدنا إذا انه من المستحيل تحليل المعنى أو تحديده من خلال أفكارنا أو استعمالنا للمفهوم أو من خلال العلم الخارجي. لكن جملة «الفوتون في حالة تراكب» أو مفهوم «التراكب» لديه معنى بما أن العلماء يسعون في كشف معناه من خلال تفاسيرهم المختلفة لميكانيكا الكمّ. من هنا كل من المذهب اللاواقعي (الذي يحلل المعنى والدلالة من خلال الافكار أو الاستعمال) والمذهب الواقعي (الذي يحلل المعنى والدلالة من خلال العالم الخارجي) خاطئ، وبذلك لا بد من تجنبهما.
وبما ان المذهب الواقعي في العلوم يتضمن المذهب الواقعي في المعنى أو الدلالة، والمذهب اللاواقعي في العلوم يتضمن المذهب اللاواقعي في الدلالة، وبما ان كلا من المذهب الواقعي واللاواقعي في الدلالة خاطئ، إذاً كل من المذهب الواقعي واللاواقعي في العلوم خاطئ. وبذلك لا بد من تجنبهما مما يدفعنا إلى التمسك بتفسير نجاح النظريات العلمية من خلال القول بأن مفهوم النجاح ليس له معنى أو دلالة خارج نطاق العلم والقبول بالوقت نفسه بأن النظريات العلمية قد تكون صادقة كما سنرى لاحقاً. الآن، لا بد من البرهنة على المسلمة الأولى في البرهان أعلاه: إذا كانت النظريات العلمية ناجحة لأنها صادقة، كما يقول المذهب الواقعي، إذا ستدل مفاهيمها على مدلولاتها بفضل الوقائع في العالم (من اجل ضمان صدقها) وبذلك يصبح المذهب الواقعي في الدلالة صادقاً. أما إذا كانت النظريات العلمية ليست صادقة ولا كاذبة إذاً تكون مفاهيمها غير مرتبطة بوقائع العالم وبذلك يصبح المذهب اللاواقعي في الدلالة صادقاً.
لكن يبقى السؤال: هل النظريات العلمية الناجحة صادقة؟ من الممكن القول أنها صادقة لأن مفهوم الصدق لا يكتسب معناه سوى في ميدان العلم؛ فخارج العلم لامعنى له. وهذا بسبب الحجة التالية: إذا وجدت فرضيتان(أ) و(ب)، السبيل الأساسي لإظهار صدق (أ) في مواجهة كذب (ب) هو من خلال إظهار أن الفرضية (ب) ليست علمية بينما الفرضية (أ) علمية. فبمجرد إثبات أن (ب) ليست علمية بينما(أ) علمية نكون قد اعتبرنا أن (ب) كاذبة و(أ) صادقة. من هنا مفهوم الصدق لا معنى له خارج العلم. فمثلا عندما نقول ان هذه الفرضية او تلك خرافية، نحن حقا نقول أنها ليست علمية وبذلك نكون قد اعتبرنا أنها كاذبة. من فإنّ هنا نفي علمية قول ما هو متطابق مع اعتباره كاذبا مما يعني أن إثبات علمية قول ما متطابق مع إثبات صدقه.
لا بد من أن نشير إلى أن السوبر حداثة تسعى إلى بناء نظريات علمية ناجحة وصادقة في عوالم ممكنة. من هنا، تقول السوبر حداثة أن العلم يُعبر عن الحقائق كما هي في العوالم الممكنة التي قد يكون من ضمنها عالمنا الواقعي. بينما تعتبر الحداثة ان العلم يعبر عن الحقيقة في عالمنا الواقعي، تدعي ما بعد الحداثة ان العلم لا يعبر عن الحقيقة بل هو مجرد أداة نافعة في تفسير الظواهر والتنبؤ بها[29] اما السوبر حداثة فتتخطى المذهبين السابقين اذ تقول ان العلم يعبر عن الحقائق القائمة في الأكوان الممكنة.
ومن منطلق ان المشاكل الفلسفية مشاكل حقيقية ويتم حلها من خلال إيضاح معاني المفاهيم أو كيفية استعمالها نتمكن من الإجابة عن السؤالين التاليين: لماذا وكيف تنجح الفيزياء في التعبير عن العالم من خلال معادلات رياضية؟ ولماذا ينجح الإدراك البشري في ابقائنا على قيد الحياة أو إيصالنا إلى المعرفة؟ النظريات الفيزيائية ناجحة في التعبير عن العالم من خلال الرياضيات لأن «النجاح» لا معنى له خارج ميدان الرياضيات؛ فالرياضيات هي المعيار في الحكم على النجاح أو الفشل. وإدراكنا للكون ناجح لأنه لا معنى للنجاح خارج إدراكنا، فالإدراك البشري هو المعيار في الحكم على ما هو ناجح وما هو فاشل.
الممكن والعقلاني
إذا كانت الحداثة تتميز بقبول وجود أسس وماهيات، فإن ما بعد الحداثة ترفض وجودها[30]. من المفترض أن تكون أسس هي المبادئ التي تبنى عليها المعرفة بأشكالها كافة، وان تكون الماهيات هي التي تحدد الأشياء والحقائق. لكن من الممكن تخطي الاتجاهين السابقين بقبول السوبر حداثة التي هي دراسة للأسس والماهيات الممكنة. تطالب السوبر حداثة بخلق الأسس والماهيات من خلال دراستها لأنها لا تعنى بوجودها أو عدم وجودها بل بدراستها كممكنات. وإذا كانت الحداثة تملك مضمونا محدداً، وما بعد الحداثة تملك مضموناً نقيضاً للحداثة، فإن السوبر حداثة لا تملك مضمونا محددا لأنها تدرس الممكنات (بل تكشف فتخلق الممكنات) التي تحتوي مضامين مختلفة. وبذلك مضمون السوبر حداثة يختلف مع اختلاف الممكنات. وإذا كانت ما بعد الحداثة تتميز بالكشف عن نهايات الأشياء كنهاية الايديولوجيا والفن والطبقة الخ[31]، فإن السوبر حداثة تركز على بديات الاشياء لانها تدرس الممكنات مما قد يدفعها نحو أن تتحقق.
ختاماً كلمة في العقلانية
تُعرَّف الحداثة العقلانية rationality على النحو التالي: أيُّ نظام اعتقادي هو نظام عقلاني فقط إذا لا يناقض أو لا يخرق مبادئ المنطق؟ فمثلاً إذا وقعت في التناقض الذاتي أو الدور فأنت لا عقلاني. اما ما بعد الحداثة فترفع النقد التالي في وجه المفهوم الحداثوي للعقلانية، مثلاً:  من الممكن خرق بعض قوانين المفهوم الحداثوي للعقلانية: من الممكن خرق بعض قوانين المنطق من قبل فرد ما أو نظام فكري معين ويبقى مع ذلك فرداً أو نظاماً فكريّاً عقلانيّاً. فالعديد من المفكرين الكبار وقعوا في التناقض أو الدور، لكنهم ظلوا عقلانيين. من هنا تستنتج وِفْقَ ما بعد الحداثة بأن مفهوم العقلانية مفهوم فارغ بحيث إنه من الخطأ اعتبار نظام فكري معين عقلانيّاً وآخر لا عقلانيّاً. وتنبثق السوبر حداثة معلنة ان العقلانية قائمة في التالي: أي فرد هو عقلاني إذاً وفقط إذا عرف بأن معتقداته تخرق مبادئ المنطق مثل انها تقع في التناقض أو الدور، فسوف يتخلى عن معتقداته تلك. وفقط في حال عدم تخليه عنها يصبح لا عقلانيّاً. لهذا المذهب فضائله؛ فمن جهة يقر بأنه من الممكن للفرد ان يخرق مبادئ المنطق ويبقى عقلانيّاً في حال أنه لا يعرف انه قد ناقض المنطق، ومن جهة اخرى يعترف هذا المذهب بأن على الفرد أن يُراعي المنطق وإلا أصبح لا عقلانيّاً في حال انه عرف خرقه للمنطق وقبل به.
لا داعِيَ للتذكير بأن ما جاء في هذا البحث هو ممكن فقط. وبهذا ينطرح التساؤل عما إذا أصبحنا اليوم في عصر السوبر حداثة؟
[1]* ـ باحث وأستاذ الفلسفة الإسلامية  والألسنيات في جامعة ولاية أريزونا ـ أميركا.
[2] ـ انظر: محمد أركون: الفكر الأصولي واستحالة التأصيل. ترجمة وتعليق: هاشم صالح. الطبعة الاولى 1999. دار الساقي. ص9.
[3]- Hans Bertens: The Idea of The Postmodern. Routledge. 1995.
[4] ـ See Kant: Critique of pure Reason & Hegel: Phenomenology of Spirit.
[5] ـ See: George Soros: Open Society. 2000. Little، Brown and Company.
[6] ـ See: Quine: Word and Object. 1960. M.I.T press.
[7] ـ Henry Pollack: Uncertain Science… Uncertain Word. Cambridge University Press P8. 2003.
[8] ـ SEE: Jon Stuhr: Pragmatism، Postmodernism، and The Future of Philosophy. 2003. Routledge.
[9]  ـThe Clash of Civilizations: The Debate. Foreign Affairs. 1996
[10] ـ Samuel Hintington: The Clash of Civilizations:Touchstone Book. 1996.
[11] ـ راجع حسن عجمي ـ حول مفهوم الدولة ـ مجلة فكرـ بيروت ـ العدد 80، 2003.
[12] ـSee: Henry Pollack: Uncertain Science… Uncertain Word. Cambridge University Press. 2003.
[13]ـ تيري ايغلتون: اوهام ما بعد الحداثة، ترجمة: ثائر ديب 2000. دار الحوار. سورية. ص 7ـ8.
[14] ـ المرجع السابق. ص 10.
[15] ـ انظر: أوهام ما بعد الحداثة. ص 85ـ86.
[16]ـ أنظر: المرجع السابق. ص 180ـ189.
[17]ـ المرجع السابق. ص 222 ـ 223.
[18] ـ أنظر ميشال فوكو: حفريات المعرفة. ترجمة سالم يفوت. 1987، المركز الثقافي العربي.
[19] ـ See: Wittgenstein: Tractatus Logico Philosophicus. Routledge. 1961
[20] ـ Editors: Boyd، Gasper، and Trout: Philosophy of Science. 1991. MTT. PP. 14ـ16.
[21] ـ المرجع السابق. ص 223ـ243.
[22] ـ Thomas Kuhn: The Structure of Scientific Revolutions. Second Edition. The University of Chicago Press.. 1970.
[23] ـ Van Fraassen: The Scientific Image. Oxford University Press. pp. 39ـ40. 1980.
[24] ـGiere: Explininig Science. The University of Chicago Press. pp. 4ـ6. P.136. 1988
[25] ـ Stephen Hawking: The Universe in a Nutshell. Bantam Books. 2001.
[26] ـ Richard Body: “Confirmation Semantics، and the Interpretation of Scientific Theories” in The Philosophy of Science. MIT Press. 1991
[27] ـ Thomas Kuhn: “Dubbing and Redubbing: The Vulnerability of Rigid Designation” in Scientific Theories. Editor: C. Wade Savage. University of Minnesota Press. 1990.
[28] ـ Roger Penrose: The Large. The Small and the Human Mind. Cambridge University Press. 1997.
[29] ـ أنظر: تحرير: اوليفر ليمان: مستقبل الفلسفة في القرن الواحد والعشرين. ت: مصطفى محمود محمد. مراجعة: د. رمضان بسطاويسي. 2004. عالم المعرفة. الكويت. ص 155ـ156).
[30] ـ See: Freedric Hameson: Postmodernism. Verso. P.XII. 1991
[31] ـ المرجع السابق. ص 1.