البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

" حالة ما بعد الحداثة " لديفيد هارفي، رحلة تفكيك القيم والمسلمات

الباحث :  قراءة وتحليل : خضر إبراهيم حيدر
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  1
السنة :  السنة الاولى - خريف 2015 م / 1436 هـ
تاريخ إضافة البحث :  September / 20 / 2015
عدد زيارات البحث :  3136
تحميل  ( 178.657 KB )
“حالة ما بعد الحداثة” لديفيد هارفي
رحلة تفكيك القيم والمسلّمات
قراءة وتحليل: خضر إبراهيم حيدر
في كتابه المعنوَن «حالة ما بعد الحداثة»، بدا الكاتب والمفكر الاميركي ديفيد هارفي حائراً في مقاربته لموضوعه. والسبب ـ كما يتبين لنا من مقدمته ـ عائد الى الغموض الكثيف الذي أحاط بالمفهوم، سيما ما يتعلق بتعدد تعريفاته، بل وتناقضاتها في كثير من الأحيان.
في المقدمة يقول المؤلف: «ليس بمقدوري ان أتذكر متى واجهت لفظة ما بعد الحداثة لأول مرة. ومن المحتمل ان يكون رد فعلي عندئذ مماثلاً كثيراً لردود فعلي للمفرادات الأخرى المختلفة التي تنتهي بالمقطع الذي يفيد بالمذهبية، والتي ظهرت وولّت في العقدين الماضيين من الزمان. ذلك على أمل أن تختفي تحت وطأة تناقضها الذاتي او ببساطة ان تفقد جاذبيتها كمجموعة من «الأفكار الجديدة» ذات الموضة». (من التمهيد ـ ص 15).
لكن الامر لم يتوقف عند هذا الانطباع الذي حرص المؤلف على ان يفتتح به كتابه المترجم حديثاً الى العربية. فهو يعترف بأن حالة ما بعد الحداثة على الرغم من النقاشات المستدامة حول غموضها وانفلاتها من نظام معرفي محدَّد وواضح المعالم، فإن ارتباطها بمستودع من الأفكار الجديدة التي رافقتها جعلها أكثر فأكثر تتبدى كمنظومة قوية من المشاعر والأفكار. وبدا أيضاً، أن الإنصاف يقضي بأن تلعب دوراً حاسماً في تحديد مسار التطور الاجتماعي والسياسي للمجتمعات المتقدمة.
وقبل الشروع في استعراض الفِكَر الرئيسة التي قدمها الكاتب حول «حالة ما بعد الحداثة»، نجد من الضروري الإحاطة بنقاط الفصل والوصل وعلامات التمايز التي تميزها عن الحداثة.
موت التنوير
في تصوير ذي دلالة يقدم الكاتب الأميركي نيل سميث توصيفاً لحالة ما بعد الحداثة بالكلمات التالية: «التنوير مات، الماركسية ماتت، حركة الطبقة العاملة ماتت.. والمؤلف ـ اي المفكر ـ لا يشعر بأنه على ما يرام أيضاً...».
هذه الكلمات المعبِّرة والمقتضبة، تعكس قراءة انتقادية غربية للأحقاب التاريخية التي تلت المرحلة الذهبية لعصر التنوير. في ذلك العصر كان كل شيء ينتظم تحت إشراف عقل الحداثة الصارم. وكانت الأمور واضحة وبيّنة لا لبس فيها. إلا أنه مع حلول القرن الثامن عشر حلّ زمن جديد، هو زمن الفكاك والانفصال بين المعرفة العلمية والاحكام الأخلاقية، واتسعت الهوة بين منطق العلم ومنطق القيم.
انطلاقاً من هذا التوصيف الذي ينظر الى ما بعد الحداثة بوصفها واقعاً تاريخياً وجغرافياً، يتساءل مؤلف الكتاب عن ماهية هذا الواقع التاريخي والأسلوب الذي ينبغي اعتماده حتى الآن للتعامل معه. ثم يسأل: «هل هو مجرد انحرافٍ مَرَضّي ام هو مؤشر الى ثورة في حياة البشر أكثر عمقاً واتساعاً من كل ما تحقق حتى الآن في الجغرافيا التاريخية للرأسمالية؟
لقد تحولت ما بعد الحداثة وعلى مدى العقود القليلة الماضية الى مفهوم إشكالي حاضر باستمرار، في منتديات الفكروالفلسفة والسياسة. وعلى ما يلاحظ الكاتب اليوناني اندرياس هويسنز فإن ثقافة المجتمع الرأسمالي المتقدم قد تعرضت لهزّة حاسمة في «بنية المشاعر» التي تخص أبناء هذا المجتمع. ويقول: إن ما يظهر باعتباره أخر صرعة، وخبطة إعلانية، ومجرد شاهد زور إنما هو في الحقيقة نتاج تحول ثقافي تراكم ببطء في المجتمعات الغربية، وأدى الى تغيير في «المعنى».
لاهوت ما بعد الحداثة
ثمة إذا علامة جوهرية في حالة ما بعد الحداثة، هي التغيير في المعنى. والمقصود هنا، تغيير درامي ليس فقط في الشعور لدى ناس الزمن المابعد حداثي، وانما في طرق التفكير والايمان والايديولوجيا وانماط النشاط العام في السياسة والاقتصاد والاجتماع والسلوك الفردي...
واذ يذكر المؤلف شواهد كثيرة من التحولات التي أدت الى حدوث تغييرات في الثقافة والاجتماع والسياسات العامة وحتى الفنون على تنوعها، يشير الى ما شهده الفضاء الفلسفي الغربي على هذا الصعيد. لاسيما لناحية النتائج المترتبة على التداخل وعلى سبيل المثال ما بين البراغماتية الاميركية، وموجة ما بعد الماركسية، وما بعد البنيوية، التي ضربت فرنسا بعد عام 1968. فقد ادى التداخل الى ما أسماه برنشتاين[1] «موجة غضب عارمة ضد الانسانويه وتراث التنوير». تمثلت أبرز نتائج هذه الموجة من خلال إدانة عارمة للعقل المجرّد، وكُرهٍ عميقٍ لأي مشروع يستهدف تحرير الإنسان عبر تحريك قوى التكنولوجيا والعلم والعقل”. حتى ان شخصاً في مقام البابا يوحنا بولس الثاني ـ كما يشير المؤلف ـ سوف يدخل النقاش منحازاً الى صفوف المحتفين بما بعد الحداثة. فالبابا ـ وبحسب روكو بتليوني، ـ وهو أحد اللاهوتيين المقربين منه ـ «لا يهاجم الماركسية او العلمانية الليبرالية باعتبارهما موجة  مستقبلية»، وانما باعتبارهما «فلسفتين من القرن العشرين فقدتا رونقهما وعفا عليهما الزمن». ويعلق المؤلف على كلام بتليوني مبيناً ان الأخير أراد ان يتوصل الى نتيجة تقول: إن الأزمة الاخلاقية لعصرنا هي تحديداً أزمة فكر التنوير. فإذا كان صحيحاً ان هذا الفكر قد سمح فعلاً للانسان بتحرير ذاته «من الجماعة ومن تقاليد العصور الوسطى التي حجبت حريته الفردية»، إلا أن إصرار الفكر هذا على «الذات بدون الله» قاد الى تناقض ذاتي، إذ تُرك العقل، وفي غياب حقيقة الله، ليتحول الى مجرد أداة ومن دون اي هدف روحي او أخلاقي. وإذا كان اكتشاف الرغبة والقوة  «لا يحتاج الى  نور العقل»، فإن العقل بالتالي يصبح اداة اخضاع لما تبقى. وعليه فالمشروع اللاهوتي ما بعد الحداثي هو استعادة الله من دون ترك قدرات العقل[2].
إن هذا اللجوء الى خطاب ما بعد الحداثة ومنطقها، من قبل شخصيات بارزة ومركزية مثل البابا انما يشير بوضوح ـ كما يلاحظ المؤلف ـ الى عمق التحول الذي اصاب «بنية المشاعر» في الثمانينيات. ومع ذلك يبقى هناك قدر من الغموض يحيط بالمدى الذي يمكن ان تبلغه «بنية المشاعر» الجديدة تلك.
ثم يتساءل على الشكل التالي: هل تمثل ما بعد الحداثة ، مثلاً، كسراً جذرياً مع الحداثة، او انها ببساطة انتفاضة داخل الحداثية ضد شكل من الحداثية العليا، هل ما بعد الحداثية اسلوب بحيث يمكن رد تباشيره السريالية ونيتشه أو الى القديس اوغسطين في اعترافاته في القرن الرابع[3]، أو يجب معاملتها باعتبارها تصور عصراً كاملاً (بدأ في الخمسينيات او الستينيات او السبعينيات»؟ .. ثم هل ثوريتها هي بفضل معارضتها لكل أشكال ما وراء الرواية (بما فيها الماركسية والفرويدية واشكال عقل التنوير الاخرى)، أو انها ببساطة تريد تدجين الحداثة واختزال تطلعاتها التي بهت لونها الى مبدأ «دعهم يفعلون» او حتى النظر اليها، باعتبارها «فن عصر التضخم»، او انها «المنطق الثقافي للرأسمالية الجديدة»؟
في التمايز بين الحداثة وما بعدها
عام 1863 يقول الشاعر بودلير في مقالته الاصلية «رسام الحياة الحديثة «ان الحداثة» هي المؤقت، وسريع الزوال، والجائز، وهي نصف الفن، بينما الأبدي والثابت هو النصف الآخر»[4].
أما مارشال بيرمان[5] (berman) فيرى ان «هناك شكلاً من التجربة الحية ـ تجربة المكان والزمان، والأنا والآخر، واحتمالات العيش ومخاطره، حيث  يشترك فيها الرجال والنساء في ارجاء العالم اليوم كافة. هذا الحجم من التجربة المشتركة هو ما ادعوه «حداثة». يضيف: أن نكون حديثين يعني ان نجد انفسنا في بيئة تعد بصنوف المخاطرة والقوة، والمتعة، والثروة، وتحولات الذات والعالم من حولنا وان تهددنا في الآن نفسه مخاطرة في وسعها ان تدمر كل ما نملك، وكل ما نعرف، وكل ما نحن عليه. البيئات الحديثة والتجارب الحديثة تعبر كلها حدود الجغرافيا والاثينات وحدود الطبقات والهويات، والدين والايدولوجيا؛ ويمكن بهذا المعنى القول ان الحداثة انما توحد البشرية. لكنها وحدة أضداد، وحدة اللاوحدة فهي تحيانا جميعا الى خضم تيار من العزلة المتزايدة والولادة من جديد، ان تكون جزءا من عالم حيث، كما يقول احد المفكرين العظام «كل ما هو صلب قد يتبخر في الهواء»[6].
وكان الشاعر ييتس (w.b.Yeats) قد التقط الفكرة نفسها حين رأى أن الاشياء تنفك بعضها عن بعض؛ ولا يسع المركز الثبات؛ ذلك بأن الفوضى وحدها التي تشيع في العالم. أما كيف نفسر ذلك كله، وكيف نكتشف العناصر «الخالدة التي لا تتغير» في غمرة تلك التصدعات الجذرية، فإن ذلك يصبح مشكلة جديدة. وحتى لو ظلت الحداثية ملتزمة على الدوام، باكتشاف «السمة الجوهرية في ما هو عرضي»، فهي ملزمة الآن ان تفعل ذلك في حقل من المعاني المتغيّرة باستمرار والتي غالباً ما بدت «تناقش مع تجربة  الامس العقلانية».
فلقد تشظت الممارسات والأحكام الجمالية الى نوع من «القصاصات الجنونية المملوءة بأنواع لا تحصى من المداخل الملونة التي لا رابط بينها، ولا يجمعها اطار محدد، عقلاني او اقتصادي والتي يصفها رابان بأنها السمة الجوهرية للحياة المدينية»[7].
مع ذلك يبقى ان نتلمَّس الاجابة على السؤال التالي: أبن كان يمكننا أن نبحث وسط ذلك كله عن قدر معين من حسن الانسجام، فضلا عن شيء مقنع بصدد «الخالد الذي لا يتغير»، والذي كان من المفترض ان يبقى في هذه الدوامة من التغيير الاجتماعي في المكان والزمان؟
قدم مفكرو عصر التنوير اجابتهم الفلسفية، بل والعملية، عن هذا  السؤال. ولأن الاجابة هذه كانت حاضرة في كل النقاش اللاحق لمعنى الحداثة، فهي تستحق بعض التفحص الدقيق عن كثبٍ أكثر. فعلى  رغم ان مصطلح «حديث» ليس بالجديد تماماً، فإن ما يدعوه الفيلسوف الالماني المعاصر يورغن هابرماس «مشروع» الحداثة انما يعود أساساً الى القرن الثامن عشر. لكن المشروع سوف يصل من خلال الجهد الفكري الاستثنائي لمفكري عصر النهضة الى حد «تطوير علم موضوعي، وأخلاق وتشريع عالميين، وفن مستقل لا يتبع الا منطقه الداخلي الخاص».
الانتقال الصعب
جاء القرن العشرون ليمزق التفاؤل (الذي أطلقه التنوير) إرباً عبر معسكرات الموت، وفرق الموت، وعبر العسكرة، والحربين العالميتين، وخطر الفناء النووي  وتجربته بالفعل في هيروشيما وناغازاكي. بل انه تضمن، وعلى نحو  أسوأ، أن يكون مشروع التنوير قد حكم عليه ان يتحول الى عكس ما يعلنه، وأن يحيل مطلب التحرر الانساني الى نظام اضطهاد عالمي باسم تحرير البشر. تلك كانت الاطروحة الجريئة التي تقدم بها هوركهايمر وأدورنو في عملهما «ديالكتيك التنوير الصادر عام 1972». لقد حاولا البرهنة، وفي الذهن تجربة المانيا هتلر وروسيا ستالين، على ان المنطق الذي يقبع خلف عقلانية التنوير هو منطق هيمنة واضطهاد. والتلهف الى السيطرة على الطبيعة جَلَبَ معه السيطرة على البشر، ولم يكن يمكن ان يوصل ذلك في النهاية «إلا الى كابوس قهرٍ للذات. وهكذا جرى تصوُّر تمرد الطبيعة، ـ الذي افترضاه الطريق الوحيد للخروج من المأزق ـ على انه تمرد الطبيعة البشرية بالذات على سلطة الاضطهاد لدى العقل الأداتي الصرف ضد الثقافة والشخصية.
لقد انطوى فكر التنوير، بالطبع، على لائحة طويلة من المشكلات الصعبة، وعلى قدر غير قليل من التناقضات المثيرة للقلق. أول التناقضات تلك، وكان حاضراً باستمرار، هو مسألة العلاقة بين الوسائل والغايات، بينما تبدو الاهداف نفسها عصية على التعيين على نحو دقيق الا من ضمن مشروع (طوباوي)، غالبا ما بدا مشروعا قائما على الاضطهاد بالنسبة للبعض، بينما هو للبعض الآخر مشروع تحرر والى ذلك، لا مفر من مواجهة مسألة من يملك حق إعلان سلطة العقل العليا، وفي ظل اية شروط يتحول ذلك العقل الى سلطة ملموسة؟ فالبشرية بحسب روسو ملزمة بان تصبح حرة ويعاقبه الثورة الفرنسية لم يتورعوا عن اخذ هذه الملاحظة في تفكيرهم السياسي وان يضيفوا اليها في الممارسة ما لم يكن جزءا من فكر روسو الفلسفي. اما فرنسيس بيكون، أحد آباء فكر التنوير، فيتخيل في مجتمعه الطوباوي بيتا يسكنه الكهنة الحكماء ممن سيكون حراس المعرفة وقضاة الأخلاق، والعلماء الحقيقيين، فيما هم يعيشون خارج الحياة اليومية للجماعة، وفي وسعهم ان يمارسوا سلطة اخلاقية على الحياة تلك[8].
من جانبه «رأى ماكس فيبر وهو يقرأ مأزق المشروع التنويري،أن الامل والتوقعات التي كانت معقودة على مفكري حركة التنوير تحولت مرارة ووهماً ساخراً. لقد سعى هؤلاء باستمرار الى صلة ضرورة قوية بين صعوبد العلم والعقلانية وحرية الإنسان الشاملة. ولكن حين وزالت الاقنعة وتبدت الحقيقة، تبين انتراث التنوير انما قام على انتصار العقلانية الأداتية ذات الأغراض المحددة، هذا الشكل من العقلانية حفر عميقا في جملة حياتنا الاجتماعية والثقافية، ومن ضمنها البنى الاقتصادية، والقوانين، والإدارة البيروقراطية، وحتى الفنون. وعليه فلا يقود نمو العقلانية الادوية ـ الفرضية الى تحقيق ملموس للحرية الشاملة، وانما الى ايجاد «قفص حديدي» من العقلانية البيروقراطية لا فرار منه»[9].
إذا أمكن قراءة تحذير فيبر «الرصين،» كما لو كان آية ننقشها على شاهد قبر عقل التنوير على حد تعبير ديفيد هارفي. فإن هجوم نيتشه المبكر على مقدماته الاساسية انما كان إحدى غضبات آلهة الاغريق. لقد بدا نيتشه في المقلب الآخر تماماً من تعريف بودلير، حيث «الحديث» أو الحداثي، بالنسبة اليه ليس اكثر من طاقة جامعة، وارادة العيش والقوة والسباحة في بحر من عدم الانتظام. كذلك والفوضى، والتدمير، والاغتراب الفردي واليأس. وكل ذلك «تحت سطح الحياة الحديثة، المغطى بالمعرفة والعلم، حيث تكمن قوى دافعة برية، بدائية، وخالية من كل أثر للرحمة»[10]. ان كل صور التنوير المتعلقة بالحضارة، والعقل، والحقوق الكلية، والأخلاق، انتهت الى لا شيءْ. لقد تمثل الجوهر الدائم والثابت للإنسانية أحسن تمثيل في الصورة الخرافية لديونيزوس: أن تكون في الآن نفسه «خلافاً مدمراً» (أي أن تشكل العالم الراهن من الفردية والصيرورة، أي عملية تدمير الوحدة)، ومدمرا خلاقا (أي أن تزيل عالم الفردية الوهمي، عملية استعادة الوحدة). والطريق الوحيد لتأكيد الذات هو ان تقدم، أن تظهر ارادة، وسط هذا الدفق من الخلق التدميري والتدمير الخلاق ولو بلغت النتائج حد المأساة[11].
وتبدو صورة «التدمير الخلاق» في غاية الاهمية لفهم الحداثة لأنها نابعة تماماً من المآزق العملية التي واجهت تطبيق المشروع الحداثي، إذ كيف يمكن، في النهاية، أن يقوم عالم جديد من دون تدمير العالم الذي كان موجوداً من قبل؟ اما نموذج هذا المأزق، بحسب بيرمان[12] ولوكاتش[13]، فتجده جليا في فاوست Faust لغوته. وفاوست، البطل الملحمي المستعد لتدمير الخرافات الدينية، والقيم التقليدية والتقاليد، لبناء عالم جديد شجاع من رماد العالم القديم، فاوست هذا هو نموذج تراجيدي. يجبر فاوست نفسه، وكل الآخرين (بمن فيهم الياطين)، بالفكروالعمل معا، على طلب الحد الأقصى من التنظيم، والألم، والكد، وصولاً الى السيطرة على الطبيعة، وخلق مشهد جديد ، رائع وسام، يستوعب كل الطاقات الكامنة والكفيلة بتحرير البشرية من الفاقة والحاجة. ولإظهار إرادة ازالة كل ما يعيق ولادة هذا العالم الجديد السام، لا يتورع فاوست في منتهى رعبه عن ترك شياطينه تقتل زوجين متحابين طاعنين في السن يعيشان في كوخ صغير على شاطئ البحر لا لسبب الا لكونهما ببساطة لم يعودا ملائمين للعيش طبقا لتصميم العالم الجديد. [14].
في الفروقات بين الحداثة وما بعدها
عند هذه القضية بالذات يجد المؤلف طريقاً آخر لبيان مزايا كل من الحداثة وما بعد الحداثة كما رسمها الباحث والأكاديمي الاميركي من أصل مصري إيهاب حسن. يرسم حسن سلسلة من التعارضات النمطية لالتقاط الوسائل التي ربما بدت من خلال ما بعد الحداثية كرد فعل على الحداثية. ثم يستعين بترسيمة جدولية مقارنة وضعها على الوجه التالي[15]:
الفروقات الترسيمية بين الحداثة وما بعد الحداثة[16]
الرومنطييقية / الرمزية
ما بعد الطبيعة / الدادائية
الشكل/(متصل ومقفل)
اللاشكل / (متقطع ومفتوح)
قصد
لعب
تصميم
مصادفة
تراتبية
فوضى
سيد/كلمة
استنزاف/صمت
موضوع الفن/ عمل منته
عملية/أداء/حدث
خلق/شمولية/تركيب
اشتراك
مركزة
تناثر
نوع [فني أو أدبي]حدد
نص /عبر النص
سيمائيات
خطاب
نموذج
كلمة أو عبارة منظمة
Hypotaxis ترتيب بواسطة روابط...
باراتاكسيس parataxis ترتيب بدون روابط بخاصة الجمل والعبارات
استعارة
بديل مرادف
جذر/عمق
جذمور(ساق سطحية) سطح
تفسير قراءة
ضد التفسير/قراءة خاطئة
مدلول
دال
يمكن قراءته(مقروء)
يمكن كتابته (مكتوب)
رواية(تاريخ كبير)
ضد الرواية(تاريخ صغير)
لغة سيدة
لغة مفككة
سمة
رغبة
نمط Type
 متغير Mutant
تناصلي /ذكوري
متعدد الاشكال(متخنّث)
جنون العظمة
انفصام الشخصية
الأصل /السبب
الاختلاف /الأثر
الله ـ الأب
الروح القدس
ماورائيات
سخرية
حتمية
لا حتمية
محايثة
تجاوز
مسافة
اشتراك
حضور
غياب
هناك الكثير مما يستدعي التفكير في هذا المخطط، والمستند الى حقول معرفية متنوعة مثل اللغويات، والانثربولوجيا، والفلسفة، والخطابة، وعلم السياسة واللاهوت. فقد اشار حسن، وبسرعة الى أن الثنائيات المتعارضة اعلاه مترجرجة وملتبسة. ورغم ذلك فهي تحدد مقداراً مما تعنيه تلك الفروق.
زمن التشظي والتغير وعدم اليقين
وبناء على مثل هذه القراءات فإن حقيقة ما بعد الحداثة الاكثر بروزاً هي تلك التي يراها ديفيد هارفي طبقاً للمواصفات التالية: «قبولها الكامل للعرضي، والمتشظي والمتقطع والفوضوي، باعتبارها تشكل نصف مفهوم بودلير للحداثة. ان طريقة استجابة ما بعد الحداثة للحقيقة تلك انما تجري بطريقة خاصة. فهي لا تحاول تجاوزها ولا الهجوم عليها، ولا حتى تعريف العناصر«الثابتة والدائمة» التي يمكن ان تقوم بها. ما بعد الحداثة هو واقع يسبح، بل يتمرغ، في موجة من التشظي والتغير، كما لو كان ذلك هو كل ما في الأمر. في الحقل المعرفي نفسه يقترح علينا فوكو على سبيل المثال «تطوير ممارسة وفكر ورغبات» بالتوالد والتجاوز والتقطيع، وعبر «تفضيل ما هو وضعي ومتعدد، وتفضيل الاختلاف على التجانس، والمتحرر على الموحد، والمتنقل المتفلِّت على النظام». وحتى حين تعود ما بعد الحداثة الى الماضي لتبرير شرعيتها، فهي انما تعود الى تيار في الفكر، وبخاصة عند نيتشه، حيث يشدد على طابع الفوضى العميق في الحياة الحديثة، وعلى عجز الفكر العقلاني عن التقاط ذلك. لا يعني ذلك بالتأكيد، أن ما بعد الحداثة هي ببساطة نسخة معدلة من الحداثة، فالثورات الفعلية على مستوى الافكار إنما تحدث عندما يغدو ما هو كامن ومغلوب في حقبة ما مكشوفاً وغالباً في حقبة اخرى. ورغم ذلك، فان استمرار واقع التشظي والعرضي والتقطيع والتغير الفوضوي في الحداثة وفي ما بعد الحداثة في آن هو أمر لا يمكن تجاوزه[17].
إن متابعة التشظي والعرضية بطريقة ايجابية تستدعي لائحة كاملة من النتائج التي تحيل مباشرة الى تعارضات حسن أعلاه كما يقول المؤلف. نجد، بداءة، كتّاباً ومفكرين مثل فوكو وليوتار يهاجمون كل فكرة مفادها انه يمكن ان يكون هناك ما وراء لغة، أو ما وراء رواية، أو ما وراء نظرية يمكن ان تربط بها او تتمثل عبرها كل الاشياء. فالحقائق الكلية والثابتة لا يمكن تعيينها، هذا إذا وجدت في الأساس. فهؤلاء الكتاب اذ يدينون كل ما وراء الروايات (او الترسيمات المفسرة لكل شيء كما عند ماركس او فرويد) باعتبارها توتاليتارية، يؤكدون بالمقابل على تعددية صياغات «خطاب ـ السلطة» (فوكو)، او «ألعاب اللغة» (كما عند ليوتار). وليوتار يعرِّف ما بعد الحداثة ببساطة باعتبارها «التشكيك في ما وراء الروايات».
في ميدان التأصيل النقدي العميق لحالة ما بعد الحداثة تستحق افكار فوكو المزيد من الاهتمام ـ وبخاصة كما جرى تطويرها في أعماله الاولى ـ ذلك لأنها مثلث احد المصادرالثرة لحجج ما بعد الحداثة. والعلاقة بين السلطة والمعرفة هي الموضوع المركزي في الاعمال تلك. لكن فوكو[18] سرعان ما يتخلى عن فكرة تمركز السلطة كليا في الدولة، وذلك عبر القيام «بتحليل متصاعد للسلطة يبدأه من آلياتها الميكروسكوبية، والتي لكلّ منها تاريخها، ومسارها، وتقنياتها وتكتيكاتها، ثم النظر كيف أن آليات السلطة تلك قد استثمرت، واستعمرت، واستخدمت، والتفت، واستمالت، وانتقلت، وامتدت... الخ ولا تزال، من خلال آليات اخرى أكثر تصميماً وبواسطة أشكال من الهيمنة العالمية».
لقد كُتب الكثير من المطالعات حول طبيعة وهوية ما بعد الحداثة إلا أن الشيء الأكيد هو أن هذه الكتابات فتحت على المزيد من الجدل حول المفهوم.
لقد سبق للفيلسوف الفرنسي جان فرانسوا ليوتار ان وضع كتاباً تحت العنوان نفسه. أي «حالة ما بعد الحداثة» (Postmpdern Condition). وقد كتبه كتقرير عن المعرفة لحكومة كيبيك [في كندا]. في هذا الكتاب يبحث ليوتار في المعرفة والعلم والتكنولوجيا في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة. وفيه نجد أن فكرة المجتمع بالذات باعتباره شكلاً من أشكال «الوحدانية» (Unicity) (كما في الهوية الوطنية او القومية) يحكم عليها بأنها أخذت تفقد مصداقيتها، فالمجتمع كوحدانيةـ سواء تم تصوره ككل عضوي (دوركهايم)، او كنظام وظيفي (بارسونز)، أو ككل ينقسم جوهرياً الى طبقتين متعارضتين (ماركس) ـ لم تعد له مصداقية في ضوء التشكيك المتنامي باتجاه اعطاء شرعية لأنواع السرد الفوقي (Metanarrative).
ولكن هناك في هذا المجال سردان مؤثران هما:
أولاً: الفكرة القائلة بأن المعرفة يتم انتاجها من اجل ذاتها (وهذا نموذجي عند المثالية الالمانية).
وثانياً: الفكرة القائلة بأن المعرفة تم انتاجها من أجل شعب خاضع في سعيه وراء التحرر. أما ما بعد الحداثة، فترى ان أهداف المعرفة هذه قد اصبحت الآن عرضة للشك والتفنيد، وبالاضافة الى ذلك، لا يتوفر دليل نهائي لتسوية الخلافات حول هذه الاهداف. في عصر الحاسوب، حيث التعقيد في ازدياد مستمر، فإن امكانية وجود سبب منطقي مفرد او مزدوج للمعرفة او العلم أصبحت بعيدة. في السابق، كان الايمان بنص سردي ما(مثل العقائد الدينية) يكفي لحل الصعوبة المحتملة. ومنذ الحرب العالمية الثانية قامت التقنيات والتكنولوجيات، كما توقع ماكس فيبر (Weber) «بتحويل التأكيد من غايات الفعل الى وسائله»[19]. وبغض النظر عما إذا كان شكل توحيد السرد من النوع التأملي او التحرري، فإن إعطاء الشرعية للمعرفة لا يمكن ان يعتمد على «سرد كبير» (Grand Narrative). حتى العلم الآن سوف يكون فهمه بالشكل الأفضل عن طريق نظرية فتغنشتاين المتعلقة بـ «لعبة اللغة» (Language Game). وبالمناسبة هنا، تفيد لعبة اللغة أنه ما من مفهوم او نظرية يمكنها ان تحيط باللغة بكلِّتيها بصورة مناسبة وكافية، ذلك لأن المحاولة للقيام بذلك هي نفسها تكون لعبة لغوية محددة خاصة بها. وهكذا، مرة اخرى يمكن القول إن كل أنواع السرد الكلي الفخم لا تمتلك مصداقية بعد الآن لأنها جزء من لعبة لغوية هي ذاتها جزء من لعبة لغوية متعددة.
[1] ـ Richard J. Bernestein, ed Habermas and Modernity (oxford: Blackwell, 1985, P 25.
[2]ـ حالة ما بعد الحداثة ـ ص 63.
[3] ـ Arthur Kroker and David Cook, The Postmodern Scene: Excremental  Culture and HyperـAesthetics New York; St. Martin’s Press 1986
[4] ـ من المصدر نفسه ـ ص 27.
[5] ـ Marshall Berman All That is Solid Melts Into Air: The Experience of Modernity (New York: Simon and SchusterK 1982, p15
[6]ـ المصدر نفسه ـ ص 28.
[7]ـ نقلا عن المصدر نفسه ـ ص 29.
[8] ـ حالة ما بعد الحداثة ـ ص 32.
[9] ـ المصدر نفسه، ص 5.
[10] ـ Malcolm Bradbury and James Mc Farlane eds Modernism: 1890ـ1930, Pelican Guides to European Literature Harmondsworth: New York Penguin 1976m P 446.
[11] ـ حالة ما بعد الحداثة ـ المصدر نفسه ـ ص
[12] ـ Berman All That is Solid Melts Into Air: The Experience of Modernity
[13] ـGyrgy Lukacs Goethe and his age= Goethe und seine Zeit, Translated by Robert Anchor London Merlin press 1968.
[14]ـ أن عملية التطوير نفسها، حتى وهي تحيل الارض البرية الى مكان طبيعي واجتماعي مثمر، تعيد زرع البري هذا داخل الإنسان الذي انجز العملية. وتلك هي مأساة عملية التطور».
[15] ـ ihab Hassan Paracriticisms: Seven  Speculations of the Tumes (Urbanam Il: University of Illinois press 1975 and the Culture of Postmodernism . Theory Culture and Society, vol 2, no 3 , 1985.
[16] ـ ihab Hassan the Culture of Postmodernism . Theory Culture and Society, vol 2, no 3 , 1985. pp. 123, 124
[17] ـThe Foucault Reader Edied by Paul Rabinow (Hamondsworth: Penguin 1984, P xiii Michel Foucaul
[18] ـ Michel Foucault, Power/ Knowledge: Selected Interviews and other Writings, 1972ـ1977, Edited by Colin Gordon: Translated by Colin Gordon (et al) New York: Pantheon Books 1972, P 159.
[19] ـ JeanـFrançois Lyotard  Postmodern Condition: A Report on Knowledge Translation from the French by Geoff Bennington and Brain Massumi: Foreword by Fredrie Jameson(Minneapolis Minnesota University Press; Manchester :  Manchester University Press 1984). P 37.