البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

تقييم الأسس المعرفيّة للنّسبيّة الثّقافيّة في ضوء نظريّة الفطرة

الباحث :  د. عين الله خادمي وعلي حيدري
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  38
السنة :  ربيع 2025م / 1446هـ
تاريخ إضافة البحث :  July / 15 / 2025
عدد زيارات البحث :  367
تحميل  ( 508.657 KB )
الملخّص
إنّ النّسبيّة الثّقافيّة واحدة من أكثر لوازم الاتّجاه النّسبيّ في علم المعرفة شيوعًا وانتشارًا. وفي ضوء النّسبيّة الثّقافيّة، إنّما يمكن إدراك قيمة العنصر الثّقافي في إطار ثقافيّ خاصّ فقط. هناك ثلاث تقريرات رئيسة عن النّسبيّة، وهي: النّسبيّة المفهوميّة، والنّسبيّة الاعتقاديّة، والنّسبيّة القيَميّة / المعياريّة. وفي ضوء الاستناد إلى الأبستمولوجيا والأنثروبولوجيا الفطريّة، يمكن العمل على تقييم تقريرات النّسبيّة. إنّ تقريرات النّسبيّة تغتذي من المباني الخاطئة لعلم المعرفة في باب الصّدق، من قبيل التّشكيكيّة، أو الانسجام، وما إلى ذلك، وهي مصابة بالخطأ المنهجي القائم على الخلط بين النّظرة التّوصيفيّة الاجتماعيّة، وبين النّظرة التّحليليّة الفلسفيّة. في ضوء الاستناد إلى الفطرة يمكن الدّفاع عن نوع من المبنائيّة المعرفيّة القائمة على البديهيّات في حقل المعرفة الّتي ترى في نظريّة التّطابق ملاكًا للصّدق، وتدافع عن نوع من الواقعيّة، كما يمكن الدّفاع عن نوع من المبنائيّة الأخلاقيّة القائمة على أساس البديهيّات في حقّ الأخلاق، الّتي تعمل على تفسير، وبيان المشتركات المعرفيّة / الأخلاقيّة للمجتمعات، والثّقافات بأسلوب معقول. إنّ الاستمرار التّاريخي، واتّساع الرّقعة الجغرافيّة للعناصر الثّقافيّة الشّاملة، من قبيل: الحقيقة، والمعنويّة، والعدالة، والحرّيّة، بغضّ النّظر عن أشكالها المتنوّعة، قد ذلّلت الأرضيّة للوفاق، والتّلاحم بين المجتمعات البشريّة بمحوريّة الفطرة الإنسانيّة، وشكّلت تحدّيًا للنّسبيّة الثّقافيّة.

الكلمات المفتاحية: الفطرة، الثّقافة، النّسبيّة الثّقافيّة.

بيان المسألة
إنّ مفهوم الثّقافة في النّظرة السّطحيّة يبدو بسيطها وواضحًا؛ ولكنّه في الواقع يشمل بأبعاده وزواياه الواسعة جدًّا جميع المساحات الاعتقاديّة، والسّلوكيّة للبشر. إنّ أهمّيّة الثّقافة بمكان بحيث يذهب العلماء في حقل علم الاجتماع، والمفكّرون في العلوم الاجتماعيّة إلى اعتبار الثّقافة هي الوجه المميّز للإنسان من سائر الحيوانات، حتّى أنّهم عرّفوا الإنسان بأنّه «حيوان مثقّف». ومن ناحية أخرى فإنّ الإنسان، وأفعاله الاجتماعيّة يقعان بدورهما موضوعًا لدراسة العلوم الاجتماعيّة؛ وعلى هذا الأساس فإنّ الإنسان والثّقافة ـ الّتي هي حصيلة النّشاطات الاعتقاديّة، والسّلوكيّة للإنسان ـ يعتبران عنصرين مهمّين، ومحوريين في العلوم الاجتماعيّة.

إنّ مجرّد قراءة إجماليّة حول الثّقافات، والمعتقدات، والقيَم الاجتماعيّة المتنوّعة، يؤكّد وجود التّنوّع الثّقافي. وإنّ هذا التّنوّع في الثّقافات، والقيم لدى مختلف المجتمعات البشريّة، قد حمل بعض الفلاسفة، والعلماء، والمفكّرين المختصّين في حقل العلوم الاجتماعيّة إلى الاعتقاد بالنّسبيّة الثّقافيّة. وقد ذهبوا إلى القول بأنّ «النّسبيّة الثّقافيّة واحدة من الخصائص المتجذّرة، والثّابتة في المجتمعات البشريّة. وإنّ للثّقافات المختلفة طرقًا مختلفة لتنظيم العلاقات الإنسانيّة، والحصول على معرفة بالنّسبة إلى العالم، وتقييم الأفعال الإنسانيّة، ولا يوجد أيّ معيار ثقافي لتوصيف، وتقييم هذه الأطر المتنوّعة والمتفاوتة[4].»
ومن ناحية أخرى فإنّ الفطرة تشكّل مبنى للأنثروبولوجيا الدّينيّة، حيث إنّ المباني الفلسفيّة الإسلاميّة ـ ولا سيّما منها فلسفة صدر المتألّهين ـ تعمل على بيانها، وتأييدها. إنّ إنسانيّة الإنسان ـ في ضوء نظريّة الفطرة ـ هي المرتبة الوجودية ذاتها الخاصّة للإنسان الواجد للآراء، والتّوجّهات المتعاليّة. وحيث إنّ الخصائص الفطريّة توجد عند جميع أفراد البشر بالقوّة، والاستعداد، فإنّ الإيمان بالفطرة لا ينسجم مع القبول بتفسير خاصّ للنّسبيّة الثّقافيّة، وليس التّنوّع الثّقافي بالضّرورة. وعلى هذا الأساس فإنّ المسألة الأصليّة الّتي نروم بحثها في هذه المقالة هي: هل النّسبيّة الثّقافيّة في علم الاجتماع تنسجم مع مباني معرفة الإنسان الفطريّة أم لا؟ ولكي نجيب عن السّؤال الأصليّ أعلاه، يجب علينا أن نجيب عن الأسئلة الفرعيّة التّالية أيضًا: ما هو مدّعى نظريّة الفطرة؟ ما هو مفهوم الثّقافة، والنّسبيّة الثّقافيّة؟ ما هو مفهوم الثّقافة، والنّسبيّة الثّقافيّة؟ وما هي التّقريرات المتنوّعة للثّقافة، وما هي الأدلّة الّتي تقام لصالحها أو ضدّها؟

أوّلًا: معرفة المفاهيم
من الضّروري قبل الدّخول إلى المسألة الأصليّة في هذا البحث، أن نعمل على تعريف بعض المفاهيم ذات الصّلة بهذا الأمر، ومن بينها: الفطرة، والثّقافة، والنّسبيّة الثّقافيّة:

الفطرة
ترتبط الفطرة بالخلقة، وحيث إن وزن «فعلة» في اللّغة العربيّة يدل على النّوع، أو الصّنف، فإنّ الفطرة بدورها تدلّ على خلقة خاصّة مقرونة ببعض الخصائص أيضًا. وقد تمّ عدّ معرفة الله من بعض مصاديق الفطريّات[5]. ومن أجل بيان المفهوم الاصطلاحي للفطرة، من الضّروري أن نشير إلى مفهوم «الطّبيعة»، ومفهوم «الغريزة» أيضًا. حيث إنّ «الطّبيعة» تشير إلى الخصائص النّوعيّة للأشياء غير الحيّة، أو إلى الأبعاد المشتركة بين الكائنات الحيّة، وغير الحيّة، والغريزة بدورها تشير إلى الرّغبات، أو الاحتياجات المشتركة بين الموجودات، والّتي تتعلّق في الغالب بالبُعد الجسماني لتلك الموجودات. «إنّ الغريزة تكمن في حدود المسائل المادّيّة من حياة الحيوان، وأمّا فطريّات الإنسان فهي ترتبط بالمسائل الّتي نسمّيها المسائل الإنسانيّة (المسائل ما وراء الحيوانيّة)[6].» إنّ الفطرّيّات في هذه المقال تطلق على تلك الطّائفة من الخصائص الإنسانيّة في حقل المعرفة، والسّلوك، والرّؤية، والاتّجاه، الّذي تكون نوعيّة الإنسان ـ طبقًا للمسار المعهود من قبل الفلاسفة ـ تابعة له، وهي بناء على تعاليم الحكمة المتعاليّة تعود بجذورها إلى الصّورة الإنسانيّة، وإلى الفصل الأخير من الإنسان. وفي معنى أعمق يمكن القول: إنّ حقيقة الفطرة في الإنسان هي ذات حقيقة وجوده، وليست شيئًا مستقلًّا، ومنفصلًا عنه[7].
يذهب بعض المحقّقين ـ من خلال بيان بعض الملاكات لتحديد الفطريّات ـ إلى الاعتقاد بأنّ كلمة «الفطري» إنّما تستعمل في مورد حيث يكون الشّيء من مقتضيات «الفطرة» بمعنى نوع خلق الموجود، ومن هنا تكون الأمور الفطريّة مشتملة على ثلاث خصائص، وهي أوّلًا: إنّها لا تحتاج إلى تعليم وتعلم. وثانيًا: إنّها لا تقبل التّغيير والتّبديل. وثالثًا: إنّ فطريّات كلّ نوع من الموجودات تتوفّر في جميع أفراد ذلك النّوع، وإن كانت تختلف عندهم في الشّدّة والضّعف[8].

وإنّ الخصائص أعلاه ـ بطبيعة الحال ـ وإن كانت موجودة في أكثر الغرائز أيضًا، فإنّه بالنّظر إلى التّعريف المذكور للغرائز، يمكن اعتبار تلك الرّغبات، والاحتياجات، والدّوافع ـ الّتي تتعلّق في الغالب بالبُعد الجسماني للموجودات الحيّة، وأغلب نشاطها عبارة عن تنظيم الحياة الدّنيويّة للكائنات، والموجودات الحيّة (الأعمّ من الإنسان وغير الإنسان) ـ أمورًا غريزيّة، واعتبار الآراء، والتّوجّهات المرتبطة بالبُعد المجرّد، والرّوحاني للإنسان أمورًا فطريّة. ليس لنا نزاع في المصطلحات، وفي مصطلح، واستعمال أعمّ يمكن إطلاق الفطرة ـ بالمعنى العامّ ـ على مجموع الطّبائع، والغرائز، والفطرة بالمعنى الخاصّ المذكور. وأمّا في البحث الرّاهن ـ الّذي يحتوي في الغالب على بعد أخلاقي ـ فله معرفة، وله استعمال في حقل حياة إنسانيّة خاصّة. ولكي نجتنب بعض المغالطات، وسوء الفهم يجب التّصريح بأنّ المراد من الفطرة هنا هي الفطرة بمعناها الخاصّ المستعمل في قبال الغريزة.
إنّ النّقطة المهمّة هي أنّه يمكن النّظر إلى الفطرة من زاويتين، وهما البعد الأنطولوجي، والبعد الأبستمولوجي. إن الفطرة من حيث إنّها تشير إلى وجود خاصّ للإنسان، والآراء، والاتّجاهات المرتبطة بهذه المرتبة الخاصّة من الوجود، فإنّها تتعلّق بحقل الوجود، والأنطولوجيا، وتشير إلى مرتبة من الوجود، والمراتب الإنسانيّة. ومن حيث إنّ بعض الآراء، والمعارف الإنسانيّة الخاصّة تعدّ بدورها من مصاديق الفطريّات، يكون للفطرة نشاط معرفيّ، وأبستمولوجيّ، وتتعلّق أيضًا بحقل الأبستمولوجيا أيضًا. كما أنّ ما نبحثه في متن هذه الدّراسة والتّحقيق، من النّاحية المعرفية استنادًا إلى الفطرة، يمكن الدّفاع عن نوع من المبنائيّة في حقل الأبستمولوجيا، كما يمكن الدّفاع في حقل فلسفة الأخلاق ـ في بحث معرفة معيار الحُسن، والقبح، وملاك أخلاقيّة الفعل الأخلاقيّ ـ عن نوع من المبنائيّة الأخلاقيّة أيضًا، حيث سوف نتعرّض له في نقد، وتقييم التّقريرات المتنوّعة للنّسبيّة الثّقافيّة في هذه الدّراسة.

الثّقافة
إنّ الثّقافة من الأهمّيّة بحيث إنّ علماء الاجتماع يعرّفون الإنسان بأنّه «حيوان مثقّف»، ويعدّون الثّقافة هي الفصل المميّز للإنسان من سائر أنواع الحيوانات الأخرى؛ وعلى هذا الأساس ليس هناك مناص من الثّقافة؛ إذ على الرّغم من أنّ سلوك النّاس يتأثّر بالمقتضيات البيئيّة، أو البيولوجيّة أيضًا، لا شكّ في أنّ سلوك نوع الإنسان ـ خلافًا لسائر الحيوانات ـ ينشأ في الغالب من المقتضيات الثّقافيّة[9]. وعلى هذا الأساس من الواضح أنّ الثّقافة تعمل في الغالب على بيان السّلوكيّات الاكتسابيّة الّتي تقع في قبال السّلوكيّات الغريزيّة، أو البيولوجيّة المعيّنة[10]؛ حيث أشار بعض علماء الاجتماع في تعريف الثّقافة إلى هذه المسألة قائلًا: «إنّ الّذين يقسّمون أفراد المجتمع إلى قسمين وطبقتين، وهما: طبقة المثقّفين، وطبقة عدم المثقّفين، يحملون تصوّرًا خاطئًا، وسطحيًّا عن المجتمع. ليس هناك ـ من وجهة النّظر الاجتماعيّة ـ أي فرد كبير، وراشد، وطبيعي يخلو من الثّقافة. يمكن تعريف الثّقافة بوصفها مجموعة من السّلوكيّات الاكتسابيّة، والاعتقاديّة الخاصّة لأعضاء مجتمع بعينه. إنّ المفردة الأساس، والمهمّة في هذا التّعريف هي مفردة الاكتسابيّة الّتي تميّز الثّقافة من السّلوكيّات المنبثقة من العوامل الوراثيّة، أو الخصائص البيئيّة[11].» في ضوء هذا الفهم للثّقافة يستحيل فصل الثّقافة عن المجتمع، أو يستحيل فصل المجتمع عن الثّقافة؛ فحيثما يكون هناك مجتمع، تكون الثّقافة المتطابقة معه موجودة أيضًا.
وبطبيعة الحال فإنّ التّفسيرات، والتّعريفات الّتي يتمّ تقديمها عن الثّقافة في غاية الكثرة، ويعود سبب هذه الكثرة إلى تعقيد، وصعوبة الأبعاد الوجوديّة للإنسان، وتأثير الفرضيّات المسبقة، والمباني الميتافيزيقيّة، وما بعد الطّبيعيّة في دراسات، وتحقيقات العلوم الاجتماعيّة. إنّ بعض العلماء المختصّين في العلوم الاجتماعيّة من الّذين لم يكونوا يمتلكون معرفة، وإدراكًا بشأن معطيات فلسفة العلم، والميثودولوجيا، كانوا ينظرون إلى الثّقافة، وأبعادها من الزّاوية التّجريبيّة البحتة، ويعتبرون تدخّل، وتأثير المباني الميتافيزيقيّة، وما بعد الطّبيعيّة، وفوق التّجريبيّة مخالفًا للعينيّة العلميّة. وقد بلغت هذه النّظرة ذروتها في الغرب في عصر النّهضة ولا سيّما بعد ظهور المذهب الوضعي. وقال بعض علماء علم الاجتماع الدّيني في إشارة منه إلى هذه المسألة: «إنّ من بين جذور مداخل علم الاجتماع في مورد دراسة الدّين، عبارة عن عقلانيّة، أو وضعيّة القرن التّاسع عشر، حيث كانت ترى الأفهام الدّينيّة وهمًا، وعبثًا بعيدًا من العقلانيّة، وذلك في مجتمع حديث يجب أن يهيمن فيه العلم بوصفه أسلوبًا لفهم الواقعيّة، وتنحسر الأفكار الدّينيّة في قبال المفاهيم، والتّفسيرات الأسمى للعلوم ثمّ تضمحلّ، وتزول نهائيًّا[12].» وبطبيعة الحال فإنّ هميلتون كان يذهب إلى القول بخطأ هذا التّفكير حول الدّين؛ إذ إنّه ـ خلافًا للمجتمعات المعاصرة الّتي تخصص مساحة خاصّة بالإضافة إلى المفاهيم الدّنيويّة تحت سيطرة الأفكار العلمانيّة على حقل الرّؤية الكونيّة، والنّظام القيَمي للدّين ـ يرى أنّ الأفكار، والمعتقدات الدّينيّة في المجتمعات السّابقة كانت تعمل بشكل، وآخر على صنع كامل الرّؤية الكونيّة، والمنظومة القيَميّة للبشر؛ وعليه فإنّ تجاهل هذا البعد المهمّ للغاية من الثّقافة البشريّة يعدّ أمرًا غير عقلانيّ.

إنّ النّزعة التّجريبيّة المتطرّفة للوضعيّين أدّت إلى ذهابهم إلى اعتبار النّزعة الإثباتيّة بأسلوب تجريبيّ ملاكًا، ومعيارًا للمفهوميّة، واعتبار أبعاد مهمّة عن الثّقافة البشريّة، ومن بينها الدّين، والأخلاق، والفلسفة، وما إلى ذلك عديمة المعنى. لا شكّ في أنّ ظهور فلسفة العلم في الغرب، وبيان حضور المراحل التّنظيريّة في حقل العلوم التّجريبيّة، والهشّة لمعيار المفهوميّة لدى الوضعيّين، قد أدّى بأنصار عينيّة، وواقعيّة القضايا التّجريبيّة إلى التّراجع عن مواقفهم السّابقة، أو العمل على تعديلها. ومن الجدير ذكره بطبيعة الحال أنّ المذهب الوضعي الّذي يشير إليه هاملتون، إنّما كان مجرّد واحد من بين النِحَل الشّائعة، أو جذور مدخل الرّؤية الاجتماعيّة إلى الدّين في الغرب، حيث تمّ التّصريح به بوصفه مثالًا، ونموذجًا في هذا الشّأن.
وقد كتب بعض علماء الاجتماع في ضوء فهمه العام للثّقافة: إنّ الثّقافة تطلق على مجموعة من أساليب حياة أفراد مجتمع ما، حيث يشتمل على قيَم تتبنّاها مجموعة ما، وعلى معايير يتّبعونها، وبضائع ينتجونها. إنّ القيَم عبارة عن مجموعة من الأمور الانتزاعيّة، في حين أنّ المعايير عبارة عن أصول، وقواعد معيّنة يتوقّع من النّاس أن يلتزموا بها، وأن يعملوا على مراعاتها[13].
إنّ بعض الباحثين من خلال دراستهم لتعاريف العلماء في مختلف حقول العلوم الإنسانيّة، قد عدّوا للثّقافة خمسة أبعاد مهمّة لتلك التّعاريف على النّحو الآتي:

أ. مجموعة العلوم البشريّة.
ب. الفضائل الإنسانيّة.
ج. مجموع المعطيات المادّيّة والمعنويّة.
د. مجموع المعتقدات، والقيَم، والآداب، والتّقاليد السّائدة بين الشّعوب.
هـ. الأنظمة والعلاقات الإنسانيّة.
يذهب هؤلاء إلى الاعتقاد بأنّ الوجه المشترك للمصادر الخمسة أعلاه، عبارة عن التّربية التّكاملة، والقابلة للتّوسعة، والتّنمية، وبهذه النّظرة فإنّهم يعرّفون الثّقافة بقولهم: «إنّ الثّقافة عبارة عن تلك العلاقات المنتظمة بين أجزاء السّلوك، والتّصوّر، والكلام الإنساني الّذي يتجلّى حصوليًّا في الأبعاد المادّيّة من قبيل الأدوات، وسلسلة المراتب، والحوارات، والفنّ، والقوانين، والاقتصاد، والسّياسة، والإدارة، والتّاريخ، والتّجلّيات الطّبيعيّة الأخرى بمنزلة حضور روح فاعلة وقوية، من دون أن يُحس بتلك الذّات. إنّ مفهوم الثّقافة مثل الوجود في الفلسفة الّذي تكون له كثرة في عين الوحدة، وتكون له وحدة في ضمن الكثرة، ويكون حضوره في كلّ مكان، وفي كلّ شيء يقينيًّا[14].»

يبدو أنّ الثّقافة في مفهوم عامّ، تطلق في الدّرجة الأولى على مجموعة من المعطيات المعنويّة من حياة البشر، حيث تشتمل على العقائد، والقيَم والمعايير الّتي تحتوي على أسس الفطريّة، والمكتسبة، حيث إنّها ـ بلحاظ الاشتمال على عنصر الاكتسابيّة تتجلّى ضمن قوالب متعدّدة، ومتنوّعة ـ تعمل على إعداد الأرضيّة لظهور، وتبلور التّنوّع الثّقافي، وتشتمل في الدّرجة الثّانية على المعطيات المادّيّة من حياة البشر الّتي تعدّ نوعًا ما من المظاهر المادّيّة للعناصر الثّقافية أيضًا.

النّسبيّة الثّقافيّة
جاء في تعريف النّسبيّة الثّقافيّة: «إنّه مفهوم يقول بأنّ الإدراك الكامل لمعنى، وقيمة عنصر ثقافيّ يجب أن يتمّ تقييمه ضمن البيئة الثّقافيّة الّتي أخذ منها[15].» إنّ النّظرة الغالبة بين علماء الاجتماع هي أنّنا لو عملنا على تجزئة، وتحليل ثقافات الجماعات الأخرى باعتبار دوافعنا، وقيَمنا فحسب، فإنّ فهم نماذجهم السّلوكيّة سوف يكون مستحيلًا تقريبًا؛ إذ قد يكون العنصر الثّقافيّ المضرّ باستقرار مجتمع ما، ضروريًّا، وحيويًّا بالنّسبة إلى استقرار مجتمع آخر[16].

ليس هناك من شكّ في أصل وجود التّشابهات، والاختلافات الثّقافيّة؛ وذلك لأنّ الإنسان كائن ثقافيّ، وهو قابل للتّثقيف، وإنّ مدنيّته، وحياته الاجتماعيّة سوف تكون هي المنشأ للتّأثير، والتّأثر. «بيد أنّ التّقبّل الثّقافي يكون في بعض الأحيان تلقائيًّا، وطبيعيًّا وحرًّا، حيث يُطلق عليه مصطلح التّبادل الثّقافي. إنّ هذا النّوع من التّبادل الثّقافي إنّما يحدث حيث تكون الثّقافتان على تواصل، وتماس في ظلّ ظروف متكافئة ... وتارة يكون هذا النّوع من الثّقافة مفروضًا على الآخر بالقوّة، وهو ما يُعرف بـ (الغزو الثّقافي)[17].» إنّ النّوع الحادّ من الغزو الثّقافي عبارة عن «الإمبرياليّة الثّقافيّة»، الّتي قيل في تعريفها: «استخدام القوّة السّياسيّة، والاقتصاديّة من أجل نشر القيَم، والتّقاليد الثّقافيّة المتعلّقة بتلك القوّة بين شعوب أخرى، وذلك من أجل الإضرار بتلك الشّعوب. يمكن للإمبرياليّة الثّقافيّة أن تساعد الإمبرياليّة السّياسيّة، والاقتصاديّة، كما تعمل صناعة الأفلام في الولايات المتّحدة الأمريكيّة ـ مثلًا ـ على خلق فرص لتوسيع مساحة الطّلب، والإقبال على البضائعّ والمنتوجات الأمريكيّة[18].»
بالنّظر إلى تعريفنا المختار للثّقافة، تعمل الأرضيّات الفطريّة للعناصر الثّقافيّة، على توفير الأرضيّة للمشتركات الثّقافيّة في مختلف المجتمعات؛ بيد أنّ تدخّل عنصر الإرادة، والكسب، يوفّر أرضيّة للاختلاف، والتّنوّع الثّقافي. إنّ التّبادل، والتّعاطي الثّقافي أمر لا محيص عنه؛ بيد أنّ الغزو الثّقافي، والإمبرياليّة الثّقافيّة تمثّل تدخّلًا غير مشروع في مسار التّقبّل الثّقافي، ولهذا السّبب لا ينبغي اعتبار بعض العناصر الثّقافيّة بوصفها مسارًا ثقافيًا طبيعيًّا. إنّ تدخّل عنصر الاكتساب، حيث يتعارض مع الأرضيّات الفطريّة المشتركة، يكون موضعًا للإشكال، والتّرديد. إنّ النّقطة المهمّة هي أنّه لا يمكن بمجرّد مشاهدة التّنوّع، والاختلافات الثّقافيّة الحكم بالنّسبيّة الثّقافيّة بالمعنى الدّقيق للنّسبيّة؛ وذلك لأنّ النّسبيّة الثّقافيّة بمعناها الدّقيق تؤدّي إلى نسبيّة الحقيقة، وبطلان ذلك واضح، ولا يمكن الدّفاع عنه؛ وذلك لأنّ النّسبيّة ـ من وجهة نظر بعض الباحثين ـ تقابل الواقعيّة. إنّ ما هو صحيح، أو واقعي يعدّ ـ في ضوء الواقعيّة ـ موجودًا بشكل مستقلّ عن الذّهن؛ في حين أنّ الأنواع المتعدّدة للنّسبيّة ـ الأعمّ من النّسبيّة المعرفيّة، والأخلاقيّة، والثّقافيّة ـ تحتوي على خصوصيّتين مشتركتين، وهما أوّلًا: إنّ القيمة الأخلاقيّة للعلم في هذه الرّؤية ـ على سبيل المثال ـ ترتبط بالإطار الخاصّ الأعمّ من الموضوع الفرديّ، أو الثّقافة، أو المرحلة الزّمنيّة، أو اللّغة. وثانيًا: في ضوء النّزعة النّسبيّة يتمّ إنكار ترجيح، وتمييز رأي خاصّ من سائر النّظريّات الأخرى[19].

إنّ النّسبيّة الثّقافيّة إنّما تعبّر في الواقع عن تبعيّة الواقع للذّات، حيث «ترى المعرفة تابعة على الدّوام لذلك الإطار الّذي تتبلور فيه المفاهيم، والكلمات المتشكّلة لتلك اللّغة، وإنّ اللّغة تعمل على وصف الحقائق المتبلورة في داخلها. إنّ بداية، وانطلاقة هذا الرّأي كانت منذ عصر إيمانوئيل كانط فصاعدًا، حيث كان يرى بعض المقولات شرطًا ضروريًّا، وإطارًا ذهنيًّا للتّجربة، ولإدراك، وفهم العالم. إنّ الإطار الذّاتي للنّظر لا يستلزم اختلافًا جوهريًّا، وأساسًا بين الأطر أبدًا، وفي الواقع فإنّ إيمانوئيل كانط كان يرى إطار النّظر إلى العالم بين النّاس واحدًا؛ بيد أنّ هذا الرّأي في شكله الحادّ يؤدّي إلى النّسبيّة الّتي تدّعي الاختلاف الجوهريّ للأطر بين الثّقافات، والمراحل الزّمنيّة، والمجتمعات المتنوّعة[20].»
إنّ الّذي يجب الالتفات إليه بشأن النّسبيّة الثّقافيّة، هو أنّ المراد من النّسبيّة ليس بأن يرى كلّ شخص، أو مجتمع أنّ معتقده هو الصّادق، والمعتقد المخالف له هو الكاذب، بل إنّ قضيّة ما تكون لدى شخص، وبيئة، أو ثقافة صادقة واقعًا، وتكون لدى شخص، وبيئة، أو ثقافة أخرى كاذبة واقعًا. لو سألنا شخصًا من القائلين بالنّسبيّة: هل القضيّة (أ) ـ بغض النّظر عن اعتقاد الأشخاص، والمجتمعات بها ـ صادقة أم كاذبة؟ سوف يكون جوابه هو أنّ هذا السّؤال خاطئ؛ وذلك لأنّه بغضّ النّظر عن عقائد الأشخاص، والمجتمعات، لا يكون هناك معنى للصّدق، والكذب، وإنّ القول بالصّدق، والكذب الذّاتي في القضايا، حكم إطلاقي يتنافى مع القول بالنّسبيّة[21].

ثانيًا: التّقريرات الثّلاثة للنّسبيّة الثّقافيّة
نكتفي هنا من بين مجموع التّقريرات المتنوّعة للنّسبيّة الثّقافيّة بذكر ثلاثة تقريرات، وهي:

أ. النّسبيّة المفهوميّة.
ب. النّسبيّة الاعتقاديّة.
ج. النّسبيّة القيميّة/ المعياريّة.

دراسة التّقريرات الثّلاثة للنّسبيّة الثّقافيّة بمعيار الأنثروبولوجيا الفطريّة
من الجدير ذكره أنّه «لا يمكن لشيء من العلوم الاجتماعيّة ـ ومن بينها علم الاجتماع نفسه ـ أن يخلو من الآراء المنبثقة من الفلسفة، والرّؤية الكونيّة، ومعرفة الإنسان بشكل كامل، بل إنّ التّوظيف الصّحيح، والعلميّ لهذه المعارف، يساعد على تطوير، وتعميق التّحقيقات الخاصّة بعلم الاجتماع[22].» وعلى هذا الأساس من الواضح أنّه من خلال القبول بالفطرة، وأصالة البُعد المعنويّ، والرّوحيّ للإنسان، وتبعًا لذلك الاختيار، والحرّيّة، ومعرفة الله، وما إلى ذلك، سوف يُقدّم تفسيرًا خاصًّا عن الانسان، وشخصيّته في ضوء الاتّجاه الإسلامي، وحيث إنّ الإنسان ـ وأنشطته الاجتماعيّة ـ يقع موردًا لدراسة علم الاجتماع، وسائر العلوم الاجتماعيّة الأخرى، فإنّ المبنى الأنثروبولوجي-الإناسة الفطريّ يضفي على جميع التّحقيقات في الحقول المعرفيّة بُعدًا خاصًّا؛ وذلك لأنّ القبول بالدّور المعرفيّ للفطرة، ينشر مظلّة تأثيره على جميع الحقول المعرفيّة.

أ. النّسبيّة المفهوميّة
سوف نبحث مسألة النّسبيّة المفهوميّة ضمن هذين العنوانين: «بيان النّسبيّة المفهوميّة»، و«تقييم النّسبيّة المفهوميّة»:

1. بيان النّسبيّة المفهوميّة
إنّ النّسبيّة المفهوميّة ـ تبعًا لبعض المدارس الجديدة في فلسفة العلم، وفي فلسفة اللّغة ـ بصدد القول بأنّ اللّغات المختلفة تشتمل على أنظمة مفهوميّة لا يمكن مقارنتها، ونتيجة لذلك فإنّهم يدرجون الثّقافات، والجماعات المختلفة في العالم ضمن مقولات بحيث لا يمكن مقارنتها ببعضها[23]. في النّسبيّة المفهوميّة يتمّ الاستناد إلى مفهوم استحالة المقارنة أكثر من أيّ شيء آخر، ويذهبون في هذه النّسبيّة إلى الاعتقاد بأنّه حيث لا توجد مساواة تعريفيّة، ولغة مشتركة بين الثّقافات المتنوّعة في التّعبير عن حقائق العالم والحياة، فإنّ المقارنة، والحكم بين الثّقافات المتنوّعة لن يكون ممكنًا. إنّ الاستناد إلى استحالة المقارنة يتأثّر قبل كلّ شيء بتحليل توماس كون لبنية الثّورات العلميّة في فلسفة العلم. وإنّ المتغيّرات العلميّة ـ من وجهة نظر توماس كون ـ قبل أن يكون لها سبب منطقي، فإنّها تتأثّر بالعوامل النّفسيّة، والاجتماعيّة. إنّ الإطار العام للتّحوّلات العلميّة ـ من وجهة نظره ـ يتمّ بيانه ضمن ستّ مراحل، وهي: «ما قبل العلم، والعلم العادي، والأزمة، والثّورة العلميّة، والعلم العادي، والأزمة الجديدة[24].» إنّ التّحقيق العلمي ـ من وجهة نظر توماس كون ـ يدور على الدّوام حول نموذج هو عبارة عن «شبكة قوّيّة من الالتزامات، والتّقيّدات المفهوميّة، والنّظريّة، والآليّة، والمنهجيّة المعرفيّة». إنّه يرى جريان استحالة المقارنة المفهوميّة في النّماذج، حيث إنّ كلّ نموذج يتألّف من مجموعة من الأمثلة على التّفسيرات العلميّة، والاختبارات، والتّجارب النّموذجيّة، والمباني الاعتقاديّة، ونظائر ذلك، حيث يقوم المحقّقون بتبويب مسائلهم التّحقيقيّة الدّقيقة في صلبها. يذهب كون إلى القول بأنّ «النّماذج (البارادايمات) هي رؤى عالميّة شاملة ينظمّ الباحثون وفقًا لمقولاتها بياناتهم التّجريبيّة، ويضفون عليها الانتظام. والنّماذج المختلفة تقوم على مفاهيم، ومعتقدات لا يمكن ترجمتها إلى بعضها البعض. فالمفاهيم والمصطلحات النّظريّة، وتفسير البيانات التّجريبيّة، والادّعاءات النّظريّة، ومعايير الاستدلال، والاستنباط في النّماذج تختلف إلى حدّ أنّها تصبح غير قابلة للمقارنة مع بعضها البعض[25].»

2. تقييم النّسبيّة المفهوميّة
فيما يتعلّق بنقد النّسبيّة المفهوميّة على أساس تقرير توماس كون، يمكن الإشارة إلى الموارد أدناه:

1. إنّ النّسبيّة المفهوميّة تنتهي إلى النّسبيّة الحقيقيّة، وعليه فإنّ جميع الإشكالات الواردة على نسبيّة الحقيقة، ترد بدورها على الرّأي المذكور أيضًا؛ ومن بينها أنّه «إذا كان مدّعى النّسبيّة الكلّي، بمعنى عدم وجود أيّ معرفة صادقة بالمطلق ـ كما أنّ هذا هو المراد ـ فإنّ هذا الادّعاء سوف يكون مبطلًا لنفسه؛ وذلك لأنّ ذات هذه القضيّة تدّعي الصّدق المطلق، وإذا كان مدّعاها قضيّة جزئيّة، بمعنى أنّ بعض المعارف نسبيّة، فإنّها لا تنفي وجود المعارف الأخرى المطلقة[26].» «وفي الحقيقة فإنّ المشكلة الأساس الّتي يعاني منها النّسبيّون هي أنّهم يتحدّثون من موقع الحَكَم والقاضي؛ في حين يبدو أنّ النّسبيذة لو كانت صحيحة، فإنّهم بدورهم سوف يكونون لاعبين لهم إطارهم المفهومي الخاصّ أيضًا[27].»

2. لا يمكن الدّفاع عن استحالة المقارنة، وعن استحالة ترجمة الثّقافات واللّغات؛ وذلك أوّلًا: لأنّ «وجود وصحّة القواعد العامّة من قبيل قواعد المنطق بالنّسبة إلى جميع الثّقافات، وفي جميع المراحل، وخطأ التّخلّف عنها بالنّسبة إلى الجميع ـ خلافًا للنّسبيّة ـ تعبّر عن وجود مشتركات بين جميع البشر في مختلف المجتمعات على مختلف أنواعها[28].» وثانيًا: ما أن نتحدّث عن الاختلاف بين الثّقافات المتنوّعة، والقول بعدم إمكان المقارنة فيما بينها، يكون ذلك في حدّ ذاته عن معرفتنا في الجملة لهذه الثّقافات المختلفة، والمتنوّعة، وهذا الأمر يخالف الادّعاء القائل باستحالة المقارنة، والتّرجمة، والحصر المحض في شاكلة مفهوميّة خاصّة.

3. يذهب علماء اللّغة إلى الاعتقاد بأنّ أصل تعلّم، واستعمال اللّغة يستند إلى استعداد إدراكي خاصّ موجود في نوع الإنسان، وإنّ تنوّع أشكال اللّغة ينشأ من تأثير البيئات الاجتماعيّة؛ وذلك لأنّ أصل وجود اللّغة الطّبيعيّة، والجسديّة، وكذلك أصل تعلّم اللّغة يُعدّ أمرًا فطريًّا، ولا شكّ في أنّ الفطريّات أمور بالقوّة، وتحصل عن طريق الاستعداد، وهي بالإضافة إلى ذلك تحتاج في بسطها، وفعليّتها إلى مساعدة من البيئة، بيد أنّ هذا الأمر لا ينقض كلّيّة الأصول اللّغويّة المشتركة[29].

4. إنّ من بين النّظريّات المعرفيّة العامّة في باب الصّدق نجد أنّ نظريّة الانسجام، أو التّناغم تعدّ مقدّمة لنظريّة النّسبيّة الثّقافيّة، وحيث إنّ نظريّة الانسجام لا يمكن الدّفاع عنها، لن يكون للنّسبيّة الثّقافيّة مبنى صحيح. إنّ لنظريّة الانسجام تقريرين أحدهما اجتماعي، والآخر مثالي؛ وفي التّقرير الاجتماعي يكون ملاك الصّدق هو المقبوليّة، والتّلاؤم الجماعي، والقبول العامّ. هذا في حين أوّلًا: أنّ التّوافق الجماعي، والعام قد يكون أمارة، ومؤشّرًا على الصّدق، ولكنّه لا يمثّل عين الحقيقة، كما أنّ اختلاف الأفكار بدوره لا يشكّل دليلًا على بطلانها. وثانيًا: إنّ اتّصاف عقيدة، أو معتقد ما بالحقيقة، إذا كان في يد عموم الأفراد؛ فإنّه يصبح منشأ للتّعميم، لا أن يكون التّعميم علّة لامتلاك الحقيقة. وفي التّقرير المثالي يكون ملاك الصّدق هو الانسجام، في حين قد نأخذ بنظر الاعتبار مجموعتين يكون لكلّ واحدة منهما ارتباط داخليّ، وانسجام، وتناغم بالمقدار الكافي، ولكنّهما متناقضتان. وكذلك قد يمكن افتراض مجموعة من المعتقدات، والقضايا الّتي تكون من الأساطير الكاذبة على الرّغم من تناغمها، وترابط أجزائها، من قبيل القصص، والرّوايات الخياليّة الّتي يكون منشؤها بأجمعها خيال الكاتب، أو المتكلّم[30].

تنقسم مجموعة المعارف الإنسانيّة في نظم طولي إلى قسمين، وهما:
1. المعارف الّتي تحتاج إلى إثبات، وتأييد من قبل المعتقدات الأخرى.
2. المعارف البيّنة، والواضحة والتي لا تحتاج إلى إثبات. وإنّ جميع المعارف الإنسانيّة تقوم على أساس هذه المعلومات الأصليّة، والأساس من المجموعة الثّانية[31].

يبدو أنّه من الممكن إثبات هذا الأمر من خلال الاستناد إلى القول بالفطرة؛ إذ الفطرة بالمعنى الخاصّ، تعدّ من النّاحية الأنطولوجيّة مرتبة خاصّة من الوجود الإنساني، ومن النّاحية الأبستمولوجيّة تعدّ المعرفة الفطريّة للإنسان معرفة شهوديّة، وحضوريّة، وإنّ الدّفاع عن بداهة القضايا البيّنة يتحقّق من طريق الاستناد إلى الشّهود؛ وعلى هذا الأساس فإنّ اعتبار قيام النّظريّة الّتي تقوم على البديهيّات يستند إلى ابتنائها على الشّهود الفطري؛ وذلك لأنّ «المعارف النّظريّة العقليّة تنتهي إلى المعارف البديهيّة، والأوليّة العقليّة، والمعرفة الأوّليّة العقليّة تستند إلى الشّهود الأوّلي، وغير القابل للتّشكيك[32].»
من خلال التّوضيحات أعلاه يبدو أنّه من الممكن ـ استنادًا إلى معرفة الإنسان الفطريّة ـ الدّفاع عن البنيويّة أي النّظريّة الّتي تقول بوجود البنى الثّابتة للمعرفة في باب الصّدق، حيث تقوم على القضايا البديهيّة المؤيَّدة بالشّهود الفطري. ويكون ملاك صدق كلّ قضيّة عبارة عن تطابقها مع الواقع، ومن بين مزايا هذا القول انسجامه، وتناغمه مع العقل السّليم، وإن كان هناك بعض النّاقدين لهذا القول أيضًا[33].

ب. النّسبيّة الاعتقاديّة
في البحث عن النّسبيّة الاعتقاديّة، نتعرّض إلى بيان ذلك من خلال هذين العنوانين، وهما: «بيان النّسبيّة الاعتقاديّة»، و«تقييم النّسبيّة الاعتقاديّة»:

1. بيان النّسبيّة الاعتقاديّة
«إنّ من بين أكثر مدعيات النّسبيّة الثّقافيّة إثارة للنّزاع والجدل، عبارة عن عدم وجود أيّ معيار ما فوق ثقافي ثابت لعقلانيّة العقائد. إنّ الثّقافات المختلفة لها معايير مختلفة لتقييم الأحكام المرتبطة بـالحقائق، ولا يمكن القول ـ بأيّ معنى من المعاني ـ بأنّ هذه الطّائفة من المعايير أفضل من الطّوائف الأخرى أبدًا[34].» إنّ أتباع النّسبيّة الاعتقاديّة من خلال مشاهدة تنوّع الأنظمة الاعتقاديّة في الثّقافات المتنوّعة قد توصلوا إلى نتيجة مفادها عدم إمكان الدّفاع عن فلسفة بوصفها أكثر عقلانيّة من فلسفة أخرى بغض النّظر عن الفضاء الثّقافي الخاصّ.

2. تقييم النّسبيّة الاعتقاديّة
في تقييم النّسبيّة الاعتقاديّة يمكن أن نشير إلى الموارد أدناه:
1. إنّ فرضيّة النّسبيّة الاعتقاديّة ـ من بين النّظريّات في باب الصّدق ـ لا تخرج عن إحدى حالتين، وهما:
أ. التّشكيك القائل بعدم وجود أيّ قضية يمكن توجيهها من النّاحية المنطقيّة.
ب. الانسجام، حيث يجب الحديث في ضوء هذا المبنى أوّلًا: استنادًا إلى أصالة المشهد عن الصّدق في الإطار، أو الأرضيّة الثّقافيّة الخاصّة. وثانيًا: ملاك ومناط الصّدق، عبارة عن تناغم القضايا الجديدة مع القضايا السّابقة المرتبطة بذلك النّظام الفكري. إنّ هذا التّقرير هو ذات التّقرير المثالي لنظريّة الانسجام في باب الصّدق، الّذي تمّ العمل على نقده ضمن عنوان «تقييم النّسبيّة المفهوميّة».
كما أنّ نظريّة التّشكيك بدورها ناقضة لنفسها أيضًا؛ وذلك لأنّ الادّعاء القائل: «لا توجد أيّ معرفة، أو قضيّة صحیحة فی نفسها»، يشمل ذات هذا المعيار أيضًا؛ وعلى هذا الأساس فإنّ المدّعى أعلاه يبدو متهافتًا ومتناقضًا؛ إذ إن صدقه، أو كذبه يخبر في الحدّ الأدنى عن وجود بعض القضايا الصّادقة على نحو الموجبة الجزئيّة.

2. يعاني أنصار النّسبيّة الاعتقاديّة من الخطأ الأسلوبي المعرفي النّاشئ عن الخلط بين الرّؤية التّوصيفيّة وبين الرّؤية القيَميّة والتّحليليّة. وبعبارة أخرى: إنّ هؤلاء بسبب الخلط بين الرّؤية الاجتماعيّة، وبين الرّؤية الفلسفيّة، قد رضخوا من خلال مشاهدة مجرّد التّنوّع في الأنظمة الاعتقاديّة إلى القول ببطلان، أو نسبيّة تلك الأنظمة، وهذا لا ينسجم مع الأسلوب الواقعي. يقول بعض الباحثين في هذا الشّأن: «إنّ علم الاجتماع المعرفي يتعيّن عليه إخضاع كلّ ما يُعدّ في مجتمع ما أمرًا معرفيًّا ـ بغض النّظر عن صحّة، أو عدم صحّة هذا النّوع من الأمر المعرفيّ، على أساس أيّ نوع من أنواع المعايير ـ للبحث والدّراسة، وحيث إنّ جميع الأمور المعرفيّة للإنسان إنّما تظهر في الموقعيّات الاجتماعيّة، فإنّها تشهد انتقالًا وبقاءً، وعليه يتعيّن على علم الاجتماع المعرفيّ أن يكون بصدد فهم المسارات الّتي تتحقّق هذه الأمور من خلالها بنحو من الأنحاء، حيث تتحوّل الحقيقة الثّابتة بالنّسبة إلى الشّخص العامّي إلى شيء متجمّد ومتحجّر. وبعبارة أخرى: نحن نذهب إلى الاعتقاد بأنّ علم الاجتماع يتعاطى مع تحليل البنية الاجتماعيّة للواقعيّة[35].»

ومن الواضح أنّ رؤية عالم الاجتماع مجرّد رؤية توصيفيّة، وتتلخّص في أنّه هل يمكن توجيه الاختلاف بين حقيقتين (قيَميّة كانت أو غير قيَميّة) بالنّظر إلى تنوّع المجتمعات ذات الصّلة؟ كما أنّ عالم الاجتماع سوف يسعى إلى تفسير مسار تأثير المجتمعات على تبلور القيَم وما إلى ذلك؛ وعلى هذا الأساس فإنّ علم الاجتماع المعرفيّ ـ من خلال ملاحظة قيود، وحدود منهجه المعرفي ـ لا يستطيع، ولا ينبغي أن يقوم بعمليّة التّقييم المستندة إلى مجرّد توصيف الحقائق؛ وبطبيعة الحال لو أنّ بعض الاتّجاهات الاجتماعيّة تعرّضت إلى حقل الحكم استنادًا إلى المباني، والمداخل النّظريّة، فإنّ مبانيها الفكريّة سوف تندرج قهرًا ضمن واحدة من النّظريّات المعرفيّة في مورد الصّدق، وسوف يتمّ العمل على تقييمها على أساس المفاد المذكور أعلاه، في الفقرة رقم (1).

وكذلك فإنّ علم الاجتماع لا يزال يفتقر إلى النّظريّة العامّة الّتي تعمل ضمن إطار عامّ على تجزئة، وتحليل الظّواهر الاجتماعيّة. إنّ علم الاجتماع بسبب استناده الكبير إلى التّاريخ السّياسيّ، والاجتماعيّ، يعدّ في حدّ ذاته ظاهرة اجتماعيّة، ويُعد بذلك تابعًا للعناصر، والعوامل الاجتماعيّة[36]؛ وعلى هذا الأساس لا ينبغي اعتبار التّحليلات الاجتماعيّة أمرًا مطلقًا.

3. بالاستناد إلى معرفة الإنسان الفطريّة يمكن الدّفاع عن الوحدة النّوعيّة للإنسان، ونتيجة لذلك يمكن الدّفاع عن وحدة القواعد، والأصول الإدراكيّة للإنسان، والدّفاع عن مجموع القواعد المنطقيّة المشتركة أيضًا؛ وذلك لأنّ العقل في هذا الاتّجاه يُعدّ عنصرًا معرفيًّا للفطرة، وإنّ فطريّات الإنسان تشترك بين جميع أفراد النّوع البشري، ولهذا السّبب يكون المنطق التّدويني متطابقًا مع المنطق التّكويني، والفطري؛ وعلى هذا الأساس فإنّ القبول بهذه الأرضيّات الفكريّة الفطريّة، يضعّف أساس مدّعي النّسبيّة الاعتقاديّة القائم على عدم وجود المعايير ما بعد الثّقافيّة الثّابتة، والمشتركة بشدّة وإلى حدّ كبير.

ج. النّسبيّة القيَميّة / المعياريّة
في بحث النّسبيّة القيَميّة / المعياريّة، نواصل البحث في العنوانين الآتيين: «بيان النّسبيّة القيَميّة / المعياريّة»، و«تقييم النّسبيّة القيَميّة / المعياريّة.»

1. بيان النّسبيّة القيَميّة / المعياريّة
قبل الخوض في بيان النّسبيّة القيَميّة / المعياريّة، يجب العمل أوّلًا على تكوين تصوّر عن القيمة، والمعايير الثّقافيّة. يذهب بعض علماء الاجتماع إلى الاعتقاد بأنّ المعايير الثّقافيّة معايير ثابتة تتوقّعها الجماعة من الأفراد بلحاظ النّاحية الفكريّة، أو السّلوكيّة، أو يعملون على تأييدها؛ وبطبيعة الحال فإنّ هذه التّوقّعات، والسّلوكيّات النّاتجة منها تتغيّر غالبًا من ثقافة إلى ثقافة أخرى. وقد كانوا في العادة يقسّمون المعايير الثّقافيّة إلى ثلاثة أقسام، وهي: القيَم، والأداب، والتّقاليد العاديّة، والتّقاليد الأخلاقيّة. إنّ القيَم إحساسات متجذّرة، وعميقة يشترك فيها أعضاء المجتمع، وإنّ هذه القيَم هي الّتي تحدّد أعمال، وسلوكيّات المجتمع. وإنّ الآداب، والتّقاليد بدورها تطلق على تلك الطّائفة من الأساليب السّلوكيّة العاديّة الّتي تسود في المجتمع. وأمّا التّقاليد الأخلاقيّة فهي تقاليد تشتمل على خصائص مفهوميّة من السّلوكيّات، والأفعال الصّحيحة، وغير الصّحيحة. إنّ التّقاليد الأخلاقيّة في كلّ مجتمع إنّما تتبلور ضمن نظامه الحقوقيّ، وتعاليمه الدّينيّة. إنّ القوانين في كلّ مجتمع بدورها تمثّل جزءًا من التّقاليد الأخلاقيّة الّتي تحوّلت لتصبح على شكل قواعد ومقرّرات، وإنّ كلّ شخص يخرج على هذه القواعد والقوانين، سوف يتعرّض للعقوبة والمساءلة[37]. ومن بين هذه الأقسام الثّلاثة من المعايير المذكورة، لا شكّ في نسبيّة الآداب، والتّقاليد العاديّة، والجزئيّة في المجتمعات المتعدّدة، والمتنوّعة؛ وذلك لأنّها تعود في الغالب إلى نوع من الأمزجة، والأذواق السّلوكيّة، وإنّ أذواق الأشخاص تبعًا للظّروف البيئيّة ـ الأعمّ من البيئة الجغرافيّة، أو الاجتماعيّة ـ قد تكون مختلفة؛ وأمّا القيَم، والتّقاليد الأخلاقيّة فهي أمور عميقة، ومتجذّرة، وتكون مشتركة بين المجتمعات المتنوّعة بشكل وآخر؛ وعلى هذا الأساس فإنّ القائلين بالنّسبيّة القيَميّة / المعياريّة، يشيرون إلى نسبيّة هاتين الطّائفتين من المعايير الثّقافيّة الأخيرة.
يذهب بعض الباحثين في حقل فلسفة الأخلاق إلى الاعتقاد بأنّ التّأمّل في باب الأشكال المتنوّعة، والمختلفة من الحياة الاجتماعيّة في مختلف المجتمعات يمثّل مصدرًا قديمًا للشّكّ الأخلاقيّ، وإنّ القول بأنّ الأنظمة الاجتماعيّة مختلفة للغاية، قد يزعزع ثقتنا، واعتمادنا على صحّة، وصوابيّة طريقة رؤيتنا. وقد تمّ الادّعاء في الغالب أنّ دراسة الثّقافات الأجنبيّة تشير إلى التّباعد الكبير بين الأنظمة الأخلاقيّة، وعليه ألا يوجد في النّظرة الأولى مورد للتّشكيك في وجود الحقيقة الأخلاقيّة؟[38] وقد أشار جي. إل. مكي بدوره من خلال اعتبار وهميّة الأخلاقيّات إلى دليلي النّسبيّة، والغرابة. في ضوء مفاد «دليل النّسبيّة»، «يذهب مكّي إلى الاعتقاد بوجود اختلافات كبيرة بين الأصول الأخلاقيّة الموجودة في البلدان، والأديان، والمراحل التّاريخيّة المختلفة. ومن خلال مشاهدته لهذا النّوع من الاختلافات خطرت في ذهنه فرضيّتان، الأولى: إنّ الأصول الأخلاقيّة إنّما تدلّ على الأساليب المختلفة في الحياة. والأخرى: لا شيء من قيَم الحياة ـ من النّاحية الأخلاقيّة ـ أفضل من القيَم الأخرى[39].» والدّليل الثّاني الّذي يسوقه جي. إل. مكي على وهميّة الأخلاق، والّذي يطلق عليه عنوان «الدّليل من طريق الغرابة»، فهو على النّحو الآتي: لو كان هناك من وجود للقيَم الأخلاقيّة العينيّة، لوجب أن تكون من الأمور الغريبة جدًّا، بحيث تكون مختلفة عن كلّ شيء آخر في العالم؛ من ذلك ـ على سبيل المثال ـ أنّ الحُسن لا يشبه الحُمرة، بمعنى أنّه لا يمكن مشاهدته بالعين الباصرة. كما أنّ الحُسن لا يُشبه النّعومة، أي لا يمكن إحساسه باللّمس. والحُسن كذلك لا يشبه الثّقل؛ إذ لا يمكن قياسه بالوزن؛ وعليه فإنّه شيء غريب. بيد أنّ مكّي قد ذهب إلى أبعد من ذلك، حتّى وصل به الأمر إلى الادّعاء قائلًا: حيث إنّ الحُسن إذا كان موجودًا، فسوف يكون شيئًا غريبًا، فيجب أن تكون حقيقة الأمر بالنّسبة إليه هي أنّه غير موجود[40].

وقد ذكر فرانكنا بدوره في فلسفته الأخلاقيّة ثلاثة تقريرات عن النّسبيّة الأخلاقيّة، وهي: النّسبيّة التّوصيفيّة، والنّسبيّة ما وراء الأخلاقيّة، والنّسبيّة المعياريّة. وقد ذهب إلى الاعتقاد بأنّ النّسبيّة التّوصيفيّة لا تقول بأنّ الأحكام الأخلاقيّة للأشخاص، والمجتمعات مختلفة؛ وذلك لأنّ هذا الأمر قد يكون صحيحًا، حتّى إذا كانت الأحكام الأخلاقيّة الأصليّة للأفراد، والمجتمعات مثل بعضها، وإنّما تختلف أحكامها الفرعيّة فقط. فإنّ الّذي تقوله النّسبيّة التّوصيفيّة بشكل دقيق هو أنّ المعتقدات الأخلاقيّة الأصليّة للأفراد، والمجتمعات المتنوّعة مختلفة بل وحتّى متعارضة أيضًا. إنّ النّسبيّة ما بعد الأخلاقيّة تذهب في مورد الأحكام الأخلاقيّة الأصليّة إلى القول بعدم وجود أسلوب معقول، وعيني معتبر لتبرير أحدهما في مقابل الآخر؛ ونتيجة لذلك يمكن أن يحظى الحكمين الأصليّين المتعارضين باعتبار مماثل؛ بيد أنّ النّسبيّة المعياريّة تقدّم أصلًا معياريًّا، وترى أنّ ما يكون جيّدًا، وصائبًا بالنّسبة إلى الشّخص، أو المجتمع، حتّى إذا كانت جميع الظّروف، والشّرائط ذات الصّلة متماثلة، ومتشابهة، لا تكون صائبة بالنّسبة إلى شخص، أو مجتمع آخر، ويبدو أنّ هذا الأمر ينقض دوام، وتعميم المعتقدات الأخلاقيّة الأصليّة[41].

2. تقييم النّسبيّة القيَميّة / المعياريّة
الآن بالنّظر إلى التّقريرات المتنوّعة للنّسبيّة الأخلاقيّة الّتي تمّ تقديمها، سوف نعمل على تقييم كلّ واحد من هذه التّفاسير، والقراءات النّسبيّة:

1. إنّ «دليل النّسبيّة» عند جي. إل. مكي، هو ذات النّسبيّة التّوصيفيّة، ويجب القول في نقده أوّلًا: بالنّظر إلى تنوّع الأصول القيَميّة / المعياريّة، لا يمكن الوصول بالضّرورة إلى النّسبيّة الأخلاقيّة؛ وذلك لأنّ النّظرة أعلاه نظرة توصيفيّة، واجتماعية، وبمقتضى المنطق المنهجي (ميثودولوجيا المعرفة) لا يمكن الوصول بالنّظرة التّوصيفيّة البحتة إلى التّقييم، وإنّ الحكم حول نسبيّة، أو إطلاق الأصول الأخلاقيّة، حكم تحليلي / فلسفي؛ وذلك أوّلًا: لأنّ «الاختلافات الموجودة في العقائد الأخلاقيّة لا تثبت شيئًا. وعلى كلّ حال فإنّ مختلف العلماء ـ على سبيل المثال ـ يختلفون فيما بينهم في الآراء، والنّظريّات الّتي يقدّمونها حول منشأ العالم، أو في مورد أسباب مرض الأيدز (نقص المناعة)؛ ولكنّهم لا يستنتجون من ذلك أبدًا أنّ الحقيقة العلميّة تابعة للشّخص النّاظر[42].» وثانيًا: هناك الكثير من المشتركات في العقائد، والأصول الأخلاقيّة للمجتمعات، وإنّ الاهتمام البحت بالاختلافات لا يتنافى مع الأحكام المنصفة، والإنصاف العلمي.
2. في نقد «دليل الغرابة» لجي. إل. مكي لإثبات وهميّة الأخلاقيّات، والنّسبيّة الأخلاقيّة، يجب القول أوّلًا: من أين لنا أن نعلم بأنّ الأمور «الغريبة» غير موجودة؟ إنّ الغرابة أيًّا كان معناها، لا تشكّل بالضّرورة مانعًا يحول دون الوجود، أو أن يكون معارضًا للوجود. وثانيًا: لو أنّ مفهومًا أصليًّا في الأخلاق مثل الحُسن إذا كان «غريبًا» حقًا، فما هي الكيفيّات «العاديّة» إذن؟ في حين أنّنا حتّى في العلوم التّجريبيّة لدينا مفردات، أو مصطلحات نظريّة، وعلى الرّغم من عدم كونها قابلة للمشاهدة الحسّيّة المباشرة، لسنا نشكّ في اعتبارها، ولا نعتبر الأمور الّتي هي من قبيل: الطّاقة، والجينات، والألكترونات، وما إلى ذلك، من الأمور الغريبة؛ وعلى هذا الأساس فإنّ ذات مفهوم «الغرابة» هو في حدّ ذاته مفهوم نسبيّ، ولا يحتوي على وضوح مفهومي أيضًا[43]. وثالثًا: يبدو أنّ الفرضيّة الفلسفيّة لجي. إل. مكي ـ بالنّظر إلى مضامين «دليل الغرابة» ـ عبارة عن النّزعة التّجريبيّة المفرطة، أو هي ذات النّزعة الحسّيّة. في حين أنّ المبنى المعرفي الحسّي ليس مبنى معتبرًا، ويمكن الدّفاع عنه، وإنّ ذات الانتقادات الواردة على الوضعيّين، تردّ على الحسّيين المفرطين أيضًا، يُضاف إلى ذلك أنّ التّجريبيّة، والحسّيّة واحدة من التّوجّهات المعرفيّة في الأبستمولوجيا، وهناك آراء بديلة أكثر استحكامًا منها من قبيل النّزعة المبنائيّة القائمة على البداهة، والنّزعة التّناغميّة وما إلى ذلك.
إنّ النّقطة الأهمّ في نقد دليل الغرابة لجي. إل. مكي، هي أنّه ـ من خلال الخلط بين المفاهيم الانتزاعيّة الأخلاقيّة، وبين سائر المفاهيم الماهويّة الطّبيعيّة ـ قد أخفق في تفسير المفاهيم الأخلاقيّة بشكل صحيح؛ بيان ذلك أنّ هناك في الحدّ الأدنى ثلاث نظريّات في بحث العلاقة بين القيمة، والواقعيّة، وهي على النّحو الآتي:

أ. عينيّة القيم، والّتي ترى القيَم من نوع المفاهيم الماهويّة الّتي لها ما بإزاء خارجي.
ب. ذهنيّة القيَم، والّتي تقول بالفصل بين مساحة القيَم والواقعيّة، وتحصر القيَم بدائرة الإحساسات، والأذواق الفرديّة.
ج. انتزاعيّة القيَم، الّتي ترى القيَم من نوع المفاهيم الفلسفيّة، والّتي هي على الرّغم من عدم وجود ما بإزاء خارجي، وعيني لها، ذات منشأ انتزاع خارجيّ، ويمكن الحصول عليها من خلال القيام ببعض الجهود، وشيء من التّأمّل العقلاني، وبعض المقارانات[44].

وعليه فإنّ الانتقاد الوارد على رؤية جي. إل. مكي، هو أنّه على ما يبدو كان يرى المفاهيم منحصرة في المفاهيم الماهويّة والذّهنيّة، أو الاعتباريّة فقط؛ ولذلك فإنّه حيث وقف على عدم ماهويّة المفاهيم الأخلاقيّة، ذهب إلى عدّ الأخلاقيات من سنخ الوهميّات؛ وعليه فإنّه قد تنكّب الطّريق، ولم يسلك النّهج اللّاحب في التّحليل الصّحيح للمفاهيم الأخلاقيّة.

3. يمكن القول في نقد النّسبيّة المعياريّة ـ في ضوء التّقرير الّذي قدّمه فرانكنا ـ إنّ ما هو صائب، وصحيح بالنّسبة إلى مجتمع ما حقًا ـ لا أن يكون هناك مجرّد احتمال في أن يكون صحيحًا ـ لا يمكن أن يكون صحيحًا، أو حسنًا حقًّا في الظّروف المماثلة في مجتمع آخر لا أن يُحتمل أن يكون غير صحيح، أو حسن؛ وذلك لأنّ هذا يخالف البداهة، ويلزم منه اجتماع النّقيضين؛ بمعنى أنّ الأصل المعياري في مجتمعين، وفي ظروف، وشرائط مماثلة، مع مراعاة وحدة جميع الشّروط الضّروريّة في التّناقض، يكون صحيحًا واقعًا، ولا يكون صحيحًا واقعًا أيضًا، وإنّ بطلان اجتماع النّقيضين بدوره من البديهيّات الأوّليّة أيضًا. ويبدو بطبيعة الحال أنّه حيث يتمّ ذكر اختلاف ذلك الحكم في مجتمعين، فإنّهما سيختلفان عن بعضهما من النّاحية المكانيّة في الحدّ الأدنى، ولكن حتّى مع هذه الملاحظة فإنّ ذكر المماثلة في جميع الشّرائط يعرّض أصل ادّعاء النّسبيّة المعياريّة إلى التّناقض الدّاخلي؛ بمعنى أنّه في الواقع لم تتحقّق الشّروط، والظّروف المدعاة لهم، وفي هذه الحال فإنّ حكم النّسبيّة المعياريّة في تقرير فرانكنا يشبه حكم النّسبيّة التّوصيفيّة، وإنّ الانتقادات الواردة عليه ترد على هذا التّقرير أيضًا.

4. في نقد النّسبيّة ما بعد الأخلاقيّة ـ الّتي تعدّ من وجهة نظر فرانكنا هي المسألة الأصليّة في فلسفة الأخلاق في باب النّسبيّة ـ يجب القول: إنّ كلّ استدلال شائع يتمّ توظيفه لإثباته، إنّما يقوم على أساس النّسبيّة التّوصيفيّة؛ في حين لا يزال هناك متّسع للبحث، والمناقشة حول النّسبيّة التّوصيفيّة. بل حتّى أنّ بعض المختصّين في الأنثروبولوجيا الثّقافيّة، وعلماء النّفس الاجتماعي ـ ومن بينهم رولف لينتون وأس. أي. أش ـ قد شكّكوا في صحّتها أيضًا؛ إذ يجب إثبات أنّ الأحكام الأخلاقيّة الأصليّة للنّاس حتّى إذا تمّ تعلّمها بشكل كامل، وكان لدى الجميع معتقدات ناظرة إلى واقع مشترك، فإنّها سوف تبقى مختلفة ومتعارضة. لا يكفي أن نثبت أنّ الأحكام الأخلاقيّة الأصليّة للنّاس مختلفة فقط؛ إذ من الممكن أن تكون جميع هذه الاختلافات ناشئة عن الاختلاف، والنّقص في المعتقدات النّاظرة إلى واقعها؛ وعلى هذا الأساس إنّما يمكن أن تنتهي النّسبيّة التّوصيفيّة إلى النّسبيّة ما بعد الأخلاقيّة، حيث يتمّ إثبات أنّ النّاس حتّى إذا تمّ تعليمهم بشكل كامل، وصاروا على وعي، وإدراك تامّ من النّاحية المفهوميّة، وكانت لديهم معتقدات ناظرة إلى الواقع المشترك، وكان لهم رأي واحد، سوف تكون الأحكام الأخلاقيّة الأصليّة لهم مختلفة أيضًا، وبطبيعة الحال فإنّ إثبات هذا الأمر إذا لم نقل إنّه مستحيل، فهو في غاية الإشكال[45].

5. إنّ النّقطة المهمّة في البين هي أنّه يجب الفصل، والتّفكيك بين النّظرة الاجتماعيّة، وبين النّظرة الفلسفيّة. إنّ النّظرة الاجتماعيّة نظرة توصيفيّة، وإنّ مجرّد اختلاف، وتعارض الأحكام الأخلاقيّة في الأشكال الظّاهريّة لا يمكن أن يؤدّي إلى النّسبيّة الأخلاقيّة، إلّا إذا كان التّعارض في المعايير الأخلاقيّة الأصليّة، حيث تتمّ دراسة تلك المعايير في فلسفة الأخلاق، ومن خلال الاستناد إلى المباني الأبستمولوجيّة الفلسفيّة في باب الصّدق، وما إلى ذلك، ولا صلة لهذا الأمر بالتّحقيق الاجتماعي للأخلاق.

6. يبدو أنّ إحدى الفرضيات الأبستمولوجيّة في النّسبيّة الأخلاقيّة عبارة عن القبول بنظريّة التّشكيك، أو الانسجام في باب الصّدق؛ إذ بناء على مبنى الشّكّ الأبستمولوجي، والمعرفي في مورد الأحكام الأخلاقيّة الأصليّة، في مثل أحكام سائر الحقول المعرفيّة لا يوجد أسلوب عيني معقول، ومعتبر لتفسير، وترجيح عقيدة، أو حكم على سائر العقائد، أو الأحكام. وعلى هذا الأساس يمكن للحكمين الأصليّين المتعارضين أن يحظيا باعتبار واحد. وفي ضوء مبنى التّناغم يمكن تصوّر منظومتين أخلاقيّتين بحيث تكون قضاياهما متناغمة مع بعضها، وتحتوي على انسجام داخليّ، بيد أنّ ذات المنظومتين المذكورتين غير منسجمتين، كما ذكر ذلك توماس كون في بحث استحالة قياس الشّاكلات المعرفيّة. وعلى هذا الأساس يمكن الوصول ـ في ضوء المبنى الأبستمولوجي للشّكّ، أو الانسجام ـ إلى نوع من النّسبيّة المعرفيّة.

ولكن يبدو أنّه كما يمكن الاستفادة في المعارف النّظريّة من نوع من المبنائيّة القائمة على أساس البداهة، يمكن كذلك في بحث الحكمة العمليّة، وحقل الأخلاق الدّفاع عن نوع من المبنائيّة الأخلاقيّة القائمة على أساس البداهة أيضًا، والّتي ترى أنّه كما يجب أن تكون في الحكمة النّظريّة سلسلة من القضايا البديهيّة، وذات المعيار الذّاتي الّتي يتمّ الحصول على الأفكار النّظريّة بواسطتها، كذلك يجب في الحكمة العمليّة أن تكون هناك سلسلة من القضايا ذاتيّة المعيار بحيث تعدّ مفتاحًا لحلّ سائر المسائل الأخرى في الحكمة العمليّة؛ وذلك لأنّ الحكمة العمليّة بدورها هي الأخرى من مقولة العلم، والإدراك أيضًا، وإذا لم تنته الإدراكات، والمعارف إلى سلسلة من المطالب البديهيّة، فسوف يلزم من ذلك أن يستمر التّفكير، والاستدلال إلى ما لا نهاية، بل ولا تتّضح حتّى مسألة واحدة للإنسان، وهذا أمر مخالف للوجدان؛ إذ لدينا الكثير من المعلومات في حقل الحكمة العمليّة. وعلى هذا الأساس فإنّ القضايا المرتبطة بالحُسن، والقبح تعدّ من القضايا البديهيّة، وذاتيّة المعيار في الحكمة الأولى؛ حيث يكفي تصوّر القضيّة في الإقرار بالنّسبة، وفي هذه المرحلة يقرّ الإنسان بحُسن العدل، ومشتقّاته، وقبح الظّلم، وتفريعاته، ولا يحتاج في تحصيل الإقرار بهاتين القضيّتين إلى ملاحظة المصالح، والمفاسد الاجتماعيّة أبدًا. إنّ هذه نقطة تفصل نظريتنا في مسائل التّحسين، والتّقبيح عن سائر القائلين بالحُسن، والقبح العقليّ من الّذين يسعون إلى تبرير حكم العقل بشكل، وآخر من طريق المصالح، والمفاسد النّوعيّة[46].

من الجدير ذكره أنّه يمكن التعرّف على القضايا الأخلاقيّة الكلّيّة من خلال الاستناد إلى البداهة، والشّهود الفطريّ، والعمل من طريق توجيه اللّوازم، والتّوجّهات الفطريّة، وبمساعدة القضايا الأخلاقيّة البديهيّة رسم غاية للأخلاق، والعمل ـ من خلال مقارنة سائر الأحكام الجزئيّة للأخلاق بتلك الغاية المنشودة ـ على إدخال العقل، والاستدلال في دائرة الأخلاق أيضًا، والقيام بتدوين نظام أخلاقيّ قابل للدّفاع من خلال الاستناد إلى البداهة، وإلى الفطرة، والعقل. ومن ناحية أخرى ومن خلال الاستناد إلى الفطرة، والاشتراك، وثبات الفطرة لدى النّوع الإنساني، بالإضافة إلى الدّفاع عن نوع من الإطلاقيّة المعقولة، يمكن العمل بيسر على تفسير، وبيان وجود، واستمرار العناصر الثّقافيّة المشتركة، من قبيل الحقيقة، والمعنويّة، والعدالة، والحرّيّة، وما إلى ذلك في الثّقافات، والمجتمعات المتنوّعة.

والنّقطة المهمّة الأخرى الّتي يمكن أن تكون نقدًا لجميع التّقريرات المحتملة للنّسبيّة ـ ولا سيّما منها النّسبيّة الأخلاقيّة ـ هي أنّ القول بالنّسبيّة الأخلاقيّة مخالف للبداهة، والوجدان؛ وذلك لأنّ جميع النّاس في مختلف الثّقافات، والمجتمعات المتنوّعة، يقول بحجّيّة، واعتبار خاصّ بالنّسبة إلى الأحكام، والأصول الأخلاقيّة، ولا يمكن للنّسبيّة أن تكون مبيّنة، ومفسّرة لهذه المرجعيّة، وحجّيّة الأخلاق، والقضايا الأخلاقيّة. يذهب بعض فلاسفة الأخلاق إلى الاعتقاد بأنّ «الأخلاق ليست مجرّد واحدة من الأساليب المتنوّعة لتقييم السّلوك، وبمقتضى ماهيّتها العمليّة تدّعي المرجعيّة والإطلاق. إنّ كلّ ما يرتبط بمسألة >ما الّذي يجب فعله