البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

العلمانية والدين في عصر العولمة - محاورة بين عالمي الاجتماع الاميركيين مارك جنسماير و روبرت ن.بيلا

الباحث :  ------
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  2
السنة :  السنة الثانية - شتاء 2016 م / 1437 هـ
تاريخ إضافة البحث :  December / 26 / 2015
عدد زيارات البحث :  1706
تحميل  ( 331.467 KB )
ـ العلمانيّة والدين في عصر العولمة
محاورة بين عالميّ الاجتماع الأميركيين
مارك جورجنسماير وروبرت ن. بيلاّ

العلمانيّة والدين في عصر العولمة
محاورة بين عالِمَيّ الاجتماع الأميركِيّين مارك جورجنسماير وروبرت ن. بيلا[1]
تحت عنوان «العلمانية والدين في عصر العولمة» جرت محاورة بين عالمين أميركيين في علم الاجتماع هما مارك جورجنسماير وهو محاضر في جامعة كاليفورنيا ومدير مركز أورفاليا للدراسات الدولية والعالمية، وروبرت بيلاّّ المحاضر أيضاً في قسم علم الاجتماع في الجامعة نفسها، وأحد أبرز علماء الاجتماع المعاصرين في الولايات المتحدة الأميركية.
تركّز النقاس بين هاتين الشخصيتين العلميّتين حول ضرورة إنتاج رؤية جديدة لمفهومَيّ الدين والعلمانية في ضوء التحولات الهائلة التي أحدثتها العولمة على القيم الدينية في الغرب. كما تطرّق النقاش إلى السؤال الكبير الذي يشغل علماء الاجتماع والمفكرين اليوم، ويتعلّق بمستقبل الأديان في العالم وفي أوروبا وأميركا بصفة خاصة.
في ما يلي النص الكامل للمحاورة.
المحرر
مارك جورجنسماير: أتحدث اليوم مع الأستاذ روبرت بيلاّ، أحد أبرز علماء الاجتماع في البلاد، والذي يتمتع بتاريخ مهني لامع وله مؤلفات مهمة أذكر منها كتاب Tokugawa Religion (ديانة توكوغاوا)، والمقالة المؤثرة «Civil Religion in America» (الدين المدني في أميركا)، والكتاب الشهير «Habits of the Heart» (خصال القلب).
سنناقش معاً موضوع «العلمانية في عصر العولمة برؤية جديدة». أما الفكرة المحورية فهي الإحاطة بالوضع المعاصر، ونشوء الإسلام السياسي، وبروز ظاهرات سياسية دينية من نوع جديد، وبالتالي كل ما يتعلّق بما هو ديني وعلماني في العالم المعاصر، وظهور مجتمع مدني معولم، ودور الدين فيه.
تلك هي الوجهة التي نقصدها في حوارنا، لكنني ارتأيت أن نستهله بالعودة إلى الوراء إلى الزمن الذي تعمل عليه حاليّاً، أي التاريخ القديم، مع تطور الدين، وبالتحديد إلى «العصر المحوري» الذي كتبت مقالة عنه في الآونة الأخيرة والتي ستشكل جزءاً من كتابك الجديد، الذي سيصدر قريباً جدّاً على ما أعتقد، حول الانتقال من التأمّل (theoria) كممارسة دينية وتبصّر ديني في رؤية مختلفة لدى أفلاطون والفلاسفة الإغريق، اكتشاف من نوع مختلف كان فكريّاً أكثر منه روحيّاً.
هل يتعلّق الأمر بالدين؟ أم بنشوء العلمانية في هذا الزمن الخاص؟ أم أنك تريد فقط تفادي استخدام كلا هذين المصطلحين؟
روبرت بيلاّ: أعتقد حتماً، في هذه المرحلة، بأن كلِمَتيْ «دين» و«علمانية» تستخدمان بهذه الطرق المختلفة على نحو عشوائي إلى حد أصبحتا عديمَتِي النفع.
مع ذلك، أعتقد أن ما تشير إليه مهم. حينما تغوص في عمق تطوّر الجنس البشري وتبحث عن مكان الدين، تجد شيئاً مختلفاً جدّاً عن كثير مما يجري اليوم. يعتقد كثيرون اليوم، بمن فيهم أكثر نقّاد الدين ضراوةً، مثل داوكنز، وهيتشنز، وغيرهما، بأن الدين هو نظرية أو مجموعة من النظريات الخاطئة بكل بساطة، وبما أن العلم فنّد تلك النظريات، فلا حاجة لنا بها.
إن مغزى المقالة التي تتحدث عنها هي أن تلك النظرية ظهرت في مرحلة معيّنة من التاريخ البشري، ولم يكن لها أي وجود قبلها. يمكن القول أنها ظهرت منذ زمن طويل، في منتصف الألفية الأولى قبل المسيح، أي منذ نحو 2500 عام. لكن بالنظر إلى التطوّر البشري فهو حديث العهد، وقد استجد في غمضة عين. فعلى الأرجح تواصل البشر منذ مليون إلى مليوني سنة بشكل تام بواسطة أجسادهم، وهو ما يسمّى ثقافة المحاكاة. ولا نزال نتواصل بهذه الطريقة. الأمر ضروري، وبالنسبة إلى الدين، أساسي جدّاً.
مارك جورجنسماير: لكن عندما تطوّر التأمّل (theoria)، أقلّه بالطريقة التي شرحتها، جاء استخدام المصطلح في الأساس ليشير إلى ما يسمّى بالدين.
روبرت بيلاّ: أجل، لأن كل شيء، ومجدداً في إطار الاستخدام المعقّد للكلمة هذا، ينطلق من الدين. الشعائر هي المفتاح لفهم ثقافة المحاكاة. برأيي، الشعائر هي الأساس الظواهري للأديان كافة. تشكل الشعائر حتماً جزءاً من حياتنا. فإن كنت تعيش في الجامعة، أنت إذن مقيّد بمجموعة تفصيلية من الشعائر. لا نسمّي الأمور بأسمائها، ولا نتذكر ذلك، لكن هذا هو الواقع.
من ثم، مع ظهور اللغة منذ حوالى 50 ألف إلى 120 ألف سنة تقريباً، بات لدينا السرد الذي أضاف كميات هائلة من المعلومات إلى ما كان يتم تناقله بواسطة لغة الجسد، أو المحاكاة. ظل الأمر على تلك الحال. فمعظم حياتنا كان يتحكم بها السرد، وليس التفكير المنطقي أو العلم، إلا أن التفكير العقلاني والمنطقي برز في مرحلة من المراحل، أي ما يسمّى بالعصر المحوري، منذ 2500 عاماً تقريباً.
نشأ ذلك أيضاً عن تجربة دينية. لقد أعطيت مثالين في تلك الدراسة المقتضبة وهما أفلاطون وبوذا، أحد أعظم العقلانيين. فمن يعتقد بأن البوذية عبارة عن نوع من التصوّف الجنوني ليس على اطلاع واسع. فبوذا قد يعطيك أسباباً محددة جدّاً لكل ما صدر عنه قولاً ـ ويستطيع إقناعك عن طريق العقل. فهو قد مرّ حتماً بتجربة تحوّليّة عميقة يمكن تسميتها بالدينية.
مارك جورجنسماير: وكل ما سبق بوذا في العرف الهندوسي كان شعائرياً بالتأكيد، وهو ما كان عليه دور البراهمة.
روبرت بيلاّ: حسناً، ليس كلّه، لأن بدايات كتابات الأوبانيشاد كانت أقرب إلى التأمّل.
مارك جورجنسماير: قبل ذلك، كان هناك البراهمة والتلاعب بالآلهة ودور....
روبرت بيلاّ: أجل، بالطبع، قبل الأوبانيشاد، كان الأمر برمته شعائريّاً. ولا تزال الهندوسية قائمة على الشعائر حتى يومنا هذا. وجميع الديانات هي كذلك بالطبع. لذلك ليس القصد دحض الدين باعتباره مجموعة من النظريات، لأنه يجب فهم ما هو المقصود بالدين.
مارك جورجنسماير: لكن الشعائر موجودة ولو غاب الدين، كالطريقة التي تنظف بها أسنانك، أو الطريقة التي تمشّط بها شعرك، ....
روبرت بيلاّ: أجل.
مارك جورجنسماير: جميعنا يعيش من خلال نشاط نمطي.
روبرت بيلاّ: الطريقة التي تعطي بها محاضرة. فالمحاضرة الجامعية من أكثر ما جرى اعتماده كشعيرة في العالم، فهي من الشعائر المنهجية.
مارك جورجنسماير: لكن ما هي رؤيتك للشعائر في إطار الدين؟ هل أنها ذات طابع جماعي أو أنها ذات طابع يشير إلى ما هو متسامٍ؟ لقد قلت في مرحلة من المراحل مقولة شهيرة حول تعريف الدين تحدثت فيها عن أن التسامي هو الطابع الجوهري لما نعتبره ديناً.
روبرت بيلاّ: التسامي، مرةً أخرى ـ ما الذي يعنيه ذلك؟
مارك جورجنسماير: ما الذي يعنيه. أنت من استخدمت هذه الكلمة.
روبرت بيلاّ: أجل. بالفعل. يتمثل الجانب الديني لثقافة المحاكاة، أو، لنقل بعبارة أسهل من «محاكاة»، «الثقافة الشعائرية»، في أنه من أهم الأمور. إنه وسيلة للتعبير عن تلك الأمور المهمّة تستخدمها مجموعة معاً. لكن ثمّة انطباع بأن كل شكل من أشكال الشعيرة له طابع شبه ديني. فالجامعة مؤسسة نؤمن بها. وبعضنا مستعد للتضحية بحياته من أجلها إذا ما تعرّضت للهجوم. من جهة أخرى، الشعائر الأسرية ضرورية، وهي في خطر. فالوجبة العائلية تعبير جوهري عن حياة الأسرة المشتركة، ولها بعد ديني. إن العائلة تجسيد لمجموعة مرتبطة ومقترنة، من خلال روابطها القوية، بمعانٍ عميقة. إذن أنت بذلك تنزلق من النواحي كافة في ما هو ديني وكل ما هو مقصود بعبارة «علماني».
مارك جورجنسماير: مع ذلك، بالرغم من أن إقامة علاقة جنسية من دون زواج أمر مباح، إلا أن الناس يقدمون على الزواج.
روبرت بيلاّ: أجل. واليوم، يرغب المثليون في الزواج لأنهم يريدون التمتع أيضاً بهذا الحق.
مارك جورجنسماير: أجل، يريدون المشاركة.
روبرت بيلاّ: أجل، يريدون ذلك باعتباره أمراً من الممكن القيام به. ففي أوروبا، يجب أن يكون المرء متزوجاً بطريقة علمانية أولاً، من ثم بوسعه الزواج كنسيّاً إن رغب في ذلك. لكن في الولايات المتحدة، ننظر إلى الزواج في سياق ديني قبل كل شيء.
مارك جورجنسماير: وفقاً للتعبير الذي استخدمته للتو لتعريف الدين، أي ذلك النشاط النمطي أو من خلال ارتباطه بأعمق الأمور وأهمها في إطار المجموعة، يعتبر الزواج أمراً دينيّاً بغض النظر عما إذا كنت تعتبره كذلك أم لا.
روبرت بيلاّ: أجل، هو كذلك. على ما أعتقد. وقد يصبح أيضاً أمراً سلبيّاً، لأنه قوة عظيمة تستطيع التنافس مع متطلّبات أخرى للبشر.
مارك جورجنسماير: صحيح. لنعد الآن إلى الإغريق. إن كان الفلاسفة الإغريق يتبنون اليوم التأمّل (theoria) كنشاط نمطي في ما يخص الفكر أو الأفكار، أكثر منه كنشاط مرتبط بالمحاكاة، فهل هذا نوع جديد من التديّن؟ يعتقد عادةً بأن أصول العلمانية تعود إلى الفلاسفة الإغريق، إلا أن ويلفريد كانتويل سميث زعم ولسنوات عدّة بأن الفلسفة (philosophia)، وقد نسبها مباشرةً إلى الإغريق كما تفعل أنت، بدأت في الأساس كعرف ديني، لكنه لم يدعها بهذا الاسم.
روبرت بيلاّ: كان من المناسب جدّاً للمسيحيين الذين أرادوا تبني مظاهر كثيرة من الثقافة الإغريقية، القول: «آه! إنها فلسفة، وليست ديناً».
مارك جورجنسماير: صحيح.
روبرت بيلاّ: لكن في الواقع كان الأمر متعلّقاً حتماً بالدين، ولطالما كان كذلك. في هذا الإطار، يتحدث بيار هادو، الكلاسيكي الفرنسي العظيم، عن الفلسلفة كأسلوب حياة، كأسلوب حياة شامل، ومرتبط دوماً وحتماً بحس من التسامي. وقد تحدث عنها أفلاطون بشكل جوهري، وأيضاً أرسطو، وكذلك الرواقية. إنها جزء من ذلك الجانب من عرفنا، وقد تشرّبها اللاهوت المسيحي. توما الأكويني، الذي يعتبر أحد أعظم اللاهوتيين المسيحيين الذين عاشوا على وجه الأرض، متشبّع بفكر أرسطو. فأين منتهى الفلسفة ومنطلق الدين؟
مارك جورجنسماير: صحيح.
روبرت بيلاّ: لكن التأمل (theoria)، بمعناه السابق للفلسفة، كان يقصد به النظر إلى مشهد ديني ومن ثم العودة والتحدث عمّا تمّت رؤيته. وقد بات يقصد به، لدى أفلاطون، السعي الفلسفي إلى رؤية شكل الخير.
مارك جورجنسماير: كما في الكهف.
روبرت بيلاّ: إن الخروج من الكهف ورؤية ما يوجد هناك واكتشاف الحقيقة، هو رؤية للحقيقة.
مع ذلك، بمجرّد أن رأيت الحقيقة، ستنظر إلى العالم العادي بطريقة مختلفة. ستنظر عبر افتراءاته، الأمر الذي يمنحك الفرصة لاستخدام النظرية بطريقة مختلفة، أي كشكل أساسي لإضعاف المعتقدات المسلّم بها. وهذا ما قام به كل من أفلاطون وأرسطو. لقد كان أفلاطون أحد أعظم المقوّضين في زمانه، إذ جال تاريخ الثقافة الإغريقية بأكمله، مثل هومر، والتراجيديّين، وجميع الشعراء الإغريق، واستبدلهم جميعاً بمن؟ بنفسه، لأنه رأى الحقيقة ورأى بأن كل ما يقوله هؤلاء مجرّد أكاذيب وافتراءات.
يندرج مفهوم التأمل (theoria) ذلك في مفهومنا عن العلم. العلم لا يسلّم جدلاً بأي أمر، بل يطرح الأسئلة حول كل شيء. لا شيء محظوراً. يمكن التشكيك في أي شيء. لا نستطيع التشكيك في كل شيء دفعةً واحدة، لكن أقلّه نستطيع التشكيك في كل أمر على حدة. هذا الأمر متوارث بشكل مباشر من الإغريق، فالمصطلح نفسه الذي نستخدمه، أي «النظرية العلمية»، مأخوذ من الإغريق.
مارك جورجنسماير: ينظر إلى العرف الإغريقي، الدين الفلسفي، من حيث الدين، بطريقتين. الأولى تعتبر أنه يعالج بعض أنواع الأمور نفسها التي نعتقد بأن الدين يعالجها. أمّا الأخرى فهي القول بكل بساطة، كما قال ويلفريد كانتويل سميث في مقالته الشهيرة «الفلسفة كعرف ديني للبشرية»، بأنها دين، وأنه لكل منا دين بشكل أو بآخر.
روبرت بيلاّ: أجل
مارك جورجنسماير: والعلمانية التي نفتخر باعتناقها كمظهر لا يمت للدين بصلة، هي عبارة عن دين قديم الجذور.
روبرت بيلاّ: أجل، يحق للناس استخدام الكلمات بالطريقة التي يريدونها. لكن ما تقوله ينطوي على الكثير من الحقيقة. يصح الأمر أيضاً عند أخذ مثال الصين. لا يفترض بالكونفوشيوسية أن تكون ديناً، وإنما فلسفة.
مارك جورجنسماير: صحيح.
روبرت بيلاّ: لتنظر إلى تاريخ الكونفوشيوسية ولتقل لي أنها ليست ديناً.
مارك جورجنسماير: بالطبع، لا يشمل هيئة الأديان في بكين الكونفوشيوسية.
روبرت بيلاّ: في الحقيقة، اليوم....
مارك جورجنسماير: حقّاً؟
روبرت بيلاّ: لقد بدأوا بذلك.
مارك جورجنسماير: الأمر مثير للاهتمام.
روبرت بيلاّ: هذا التغيير الجسيم مستمر في الصين الشيوعية، حيث أقدمت كل صحيفة خلال الثورة الثقافية على ذم كونفوشيوس في الصفحة الأولى منها.
مارك جورجنسماير: لكنها عادت إلى الساحة، إنما كدين، أليس كذلك؟
روبرت بيلاّ: أجل، حاليّاً، كدين. كتبت إحدى طالباتي السابقات، التي تعمل حاليّاً على نيل شهادة الدكتوراه في جامعة برينستون، بأنهم يرغبون في استخدام عنوان الدين، والأمر قيد النقاش، ويريدون استخدام الكونفوشيوسية تحت ذلك العنوان.
مارك جورجنسماير: لا شك في أنه لدينا أيضاً مسألة الثقافة. ففي الهند، عندما أراد حزب بهاراتيا جاناتا أن يكون حزباً متديّناً في الأساس دون أن يكون حزباً دينياً بالنظر بالطبع إلى استحالة نشوء حزب ديني في الهند العلمانية، اعتمد مصطلح، «هندوتفا»، الذي ابتكره للإشارة إلى «القيم الهندوسية». يبدو الأمر شبيهاً إلى حد كبير بالسياسة الأميركية، أليس كذلك؟
روبرت بيلاّ: أجل.
مارك جورجنسماير: هم لا يبشّرون بدين معيّن، وإنما يتبنون قيماً هندوسية بكل فخر باعتبارها جزءاً من عرف الهند. هل هذه الطريقة فعّالة؟
روبرت بيلاّ: ذلك أحد تلك المجالات الغامضة. تذكر أن الكثير من البلدان الأوروبية لديها أحزاب ديمقراطية مسيحية تجهر بانتمائها إلى الكاثوليكية، في حين أنها ديمقراطية، وليس لديها أي كنيسة معترف بها...
مارك جورجنسماير: يوجد في السويد. ولإنكلترا كنيسة معترف بها بطريقة ما.
روبرت بيلاّ: لقد أتمّت السويد الاعتراف بالكنيسة. ولا تزال المملكة المتحدة تعترف بالكنيسة بطريقة مبهمة. لكن لا علاقة للأمر بما إذا كان هناك كنيسة معترف بها أم لا. لدينا حزب ديمقراطي في الولايات المتحدة. ولا يوجد في دستورنا ما ينكر عليك الحق في إقامة مثل هذا الحزب.
إن وجود الدين في ميدان عام علماني (بمعنى أنه لا يتطلّب وجود أي دين) مسألة مفتوحة للنقاش.
مارك جورجنسماير: عندما يتحدث الناس، بأسلوب غير مقيّد، عن «الثقافة الدينية»، في حين أن الأمر لا يتعلّق بالدين، من الصعب التمييز.
روبرت بيلاّ: لدي رؤية واسعة للدين. برأيي، هو أمر لا تستطيع الهروب منه. من ضمن تعريفات الدين، بحسب بول تيليش، ولعله تعريفه الجوهري، هو أنه محور اهتمام المرء. فبطريقة ما، لكل شخص محور اهتمام ما.
روجر ويليامز، مؤسس مستعمرة رود أيلاند، وأحد أوائل المعمدانيين لدينا في التاريخ الاستعماري الأميركي، تحدث عن أناس يعبدون «إله الطعام» أو «إله المال». لقد كان يدرك بأن الولاء الأقصى، شبه الديني، لم يكن فحسب ليسوع المسيح وآبُه (his papa).
مارك جورجنسماير: ولقد كان من المعمدانيين. هل تتخيل ذلك؟
روبرت بيلاّ: كان معمدانيّاً، لم يلقَ هؤلاء الأشخاص استحسانه. لقد كانوا في نظره وثنيين. مع ذلك، اعترف بهم كمعتنقي ديانة ما.
عندما ترى ملصقاً على مصد سيارة، كما جرت العادة منذ بضع سنوات في الولايات المتحدة، كتب عليه «من يمت ومعه أكبر عدد من الدمى يَفُوز في النهاية». ما هي الرسالة من ذلك؟ المقصود هو أن الاستهلاكية أصبحت ديانة. بمعنىً آخر، الخلاص لمن يملك أكثر الأشياء. وهكذا، بنظري لا مفرّ من وجود بعد ديني ما، والأمر يصح أيضاً بالنسبة إلى هاتشنز وداوكنز، بالرغم من أنه قد لا يروق لهما ذلك.
مارك جورجنسماير: يقودنا ذلك إلى تايلور. أعلم أنك تثمّن كتاب تشارلز تايلور، The Age of Secularism (عصر العلمانية).
روبرت بيلاّ: تقصد A Secular Age (عصر علماني).
مارك جورجنسماير: عذراً، A Secular Age (عصر علماني). لكنك تتساءل حتماً، كما تايلور، عما إذا كنا مررنا حقّاً بعصر علماني. لكن عبر اعتقادنا بوجود هذا العصر، كوّنا صورة دين متميّزة جدّاً، عبارة عن فكرة في غاية الصلابة والبساطة عن مفهوم الدين. ليس بالضرورة أن يعتنقها كل شخص، وليس الجميع يملكها.
هل كانت العلمانية، كما الدين، فعلاً أمراً ذا أهمية؟ هل كان هذا التمييز قائماً حقّاً؟ هل يشكّل ذلك جزءاً من المشكلة؟
روبرت بيلاّ: يستحق تاريخ العالم التمعّن فيه، ولو أننا لا نملك الوقت حاليّاً لذلك. كان مصطلح «علماني» دينيّاً في البداية.
مارك جورجنسماير: صحيح، كما كان مصطلح «ديني»، نوعان مختلفان من ...
روبرت بيلاّ: كان ببساطة جزءاً من مجمل البنية الدينية. ولم يكن يعني البعد عن الدين. لكن مع الخروج لا سيما من حروب الأديان عقب الإصلاح البروتستانتي ومساعي البروتستانت والكاثوليكيين معاً إلى ـ تطبيق الأحكام الدينية، بوسائل عنيفة جدّاً أحياناً، قال عدد كبير من المفكّرين الأوروبيين، «كفانا. لنبتعد عن ذلك. لنتخلَّ عن الدين بسبب ذلك».
مارك جورجنسماير: أو ما ظنوّه ديناً.
روبرت بيلاّ: في الواقع، كان الدين أمراً ملموساً عند قيام الكنائس التي كانت تضطهد الناس. نعم، هذا ما كان يعنيه الدين. في المقابل، كانت معتقداتهم، وقيمهم، ومطالبهم الأخلاقية الخاصة، التي كانت تتمحور حول سمو استثنائي لمفهوم الكرامة الإنسانية، نفسها تعبيراً عن العرف الديني. يشير تايلور إلى أن الدين مرّ بمراحل متتالية: في القرن الثامن عشر، "الإيمان بالله، وليس بعيسى..."
مارك جورجنسماير: كما الربوبيون، وكما الأشخاص الذين أسسوا في أميركا...
روبرت بيلاّ: الربوبية. جميعنا نؤمن بالله. وينطبق ذلك في أميركا أيضاً. لم يذكر في أي خطاب رئاسي اسم المسيح، إنما يرد اسم الله في كل خطاب تنصيب رئاسي. إذاً نحن أمّة ربوبية. إن سماع ذلك لن يروق لأصدقائنا الذين يعتبرون هذه الأمّة أمّة مسيحية.
قضت الخطوة الأولى إذن بقول: «نعم، نحن نؤمن بالله، إنما لا نؤمن بتلك الأمور التي يقتل الناس أحدهم الآخر من أجلها».
أمّا الخطوة التالية فهي بالقول: «ما حاجتنا إلى الله، حتى من دون عيسى المسيح؟ فلدينا تقدّم عظيم». ظن الناس في القرن التاسع عشر بأن التقدّم سيأتي مع الألفية الجديدة بمجتمع مثالي، وسنتعامل جميعنا بلطف مع أحدنا الآخر. فأتى التقدم الحديث بالقنبلة الذرية وجميع أشكال الفوضى والكوارث الاقتصادية إلى كثير من بلدان العالم، وهكذا دواليك.
لكننا هنا أمام سلالة، حيث أن كلاًّ من هذه المثل المسمّاة علمانية مشتقة من عرف ديني. وهذا هو جلّ ما يقصده تايلور برأيي، أي أن العلمانية بالمفهوم الذي عهدناها به لا معنى لها في مجتمع لم يترسخ في تاريخ مسيحي. فهي رد الفعل عليه، وبطريقة ما، تطبيق له. على حد قول تايلور، لقد طبّق عصر التنوير والحداثة عناصر في الإنجيل لم تطبق يوماً حين كان للكنيسة قوّة أكبر.
مارك جورجنسماير: بطريقة مثيرة للفضول، تلك رؤية ديتريش بونهوفر للدين كدين مسيحي، ومأخذه بأن مشكلة المسيحية تكمن في الكنيسة. غالباً ما وقفت الكنيسة عائقاً أمام التعبير عن التديّن بطريقة معنوية وروحانية أكثر استناداً إلى الأسس.
روبرت بيلاّ: من هنا نعرج إلى موضوع آخر. وفي طريقنا إليه، علينا أن نستذكر ما قاله جورج برنارد شاو إن «المسيحية قد تكون ذات منفعة إذا ما جرّبناها».
لكن الهجوم على الكنيسة، أو على ما اصطلح غالباً على تسميته في أميركا الدين المؤسساتي، أصبح شائعاً جدّاً بين الأشخاص الذين لا يزالون ينظرون إلى أنفسهم على أنهم «روحانيون». قد لا أكون شخصاً متديّناً، أي أنني لا أرتاد الكنيسة، لكنني روحاني، بمعنى أنني أقرأ كتاباً عن البوذية الصينية أو ما شابه.
تلك إذاً طريقة أخرى لتجزئة المفهوم، وهو ليس ببعيد عن الدين في نظر أي عالم اجتماع. لكن في المقابل، يشير ذلك نوعاً ما إلى طبيعة مجتمعنا، بحيث أن أعيان الكنيسة أنفسهم غالباً ما هاجموا الجانب «المؤسساتي» للكنيسة باعتباره قمعيّاً.
لكن كوني عالم اجتماع، أقول لك بأنه لولا الجانب المؤسساتي، ما كان هناك دين في وقت قصير، وهؤلاء الأشخاص الذين يملكون روحانية خاصة بهم ستزول معهم.
مارك جورجنسماير: لا دين مسيحيّاً، لكن كان هناك دين العلمانية بالطريقة التي تحدثت بها عنه للتوّ.
روبرت بيلاّ: أجل، ما كانت المسيحية لتكون سائدة، هذا أمر لا شك فيه.
مارك جورجنسماير: كنت تتحدث عن تايلور. يميّز تايلور بشكل مثير للاهتمام بين ثلاثة أنواع من العلمانية: الانقسام بين الكنيسة والدولة، وتلاشي المعتقدات والممارسات في الثقافة الشعبية، ومن ثم البحث عن معنى وأخلاقية في الحياة العلمانية، وهو أمر يستميلك إلى أقصى حد وحيث تكمن مصالحك، بأسلوب دوركايمي فعلي، لأن هذا النوع من الدين هو دين المجموعة.
لكن ما أريد الوصول إليه هو اختلافك البسيط مع تايلور حول مفهوم ما بعد زمن إميل دوركايم القائل أن نوع العلمانية هذا مختلف أو بعيد عن مفهوم دوركايم إلى حد ما. ما أقلقك ليس أن تايلور لا يفهم على ما يبدو دوركايم كما فهمته أنت فحسب، إنما أيضاً أنه لم يفكّر حتى في محاولة فهمه.
روبرت بيلاّ: السؤال هو ما إذا كان مجتمع لا وجود لأي شيء مهم مشترك فيه ممكناً. أعتبر، مرّة أخرى على أسس اجتماعية، بأن مثل هذا المجتمع مستحيل.
مارك جورجنسماير: حتّى مجتمع مؤلف من فردانيين تعبيريين جشعين، وأنانيين، واستهلاكيين مثلنا.
روبرت بيلاّ: وحتى اليوم، مع أن الدول الأمم لا تزال حتماً مهمة إنما ليست بأي شكل من الأشكال المجتمع الأوحد المهم، ومع أننا نعمل بطرق شتى على المستوى العالمي، لا الوطني، ثمّة إجماع قيمي واسع الانتشار، إنما ليس مطلقاً ويتخلله شكوك وترددات، أو ما يسمّى بإجماع حقوق الإنسان، بأن أي مجتمع تنتهك فيه كرامة الفرد هو مجتمع سيئ وسيكون عرضة لجميع أنواع الانتقادات. يضم كل مجتمع أشخاصاً يؤمنون بشدّة بذلك. ففكرة أن الأرض مقدسة إلى حد ما وأن انتهاك مناخنا أمر خاطئ، وخاطئ جدّاً، وهو أمر يشبه الخطيئة وفق نظرية كالفين بعض الشيء، رؤية تتخطى أي أمة ويتشاطرها ملايين الأشخاص في أنحاء العالم.
بعبارة أخرى، حتّى على المستوى العالمي، ثمّة معتقدات مشتركة لها تداعيات. برأيي، طالما هناك ما يكمن تسميته بالمجتمع العالمي، ستجد بعض المعتقدات العالمية، لأن هذين الأمرين متلازمان دوماً من الناحية الاجتماعية.
مارك جورجنسماير: معتقدات بمعنى قيم مشتركة أو حساسيات أخلاقية؟
روبرت بيلاّ: والمفاهيم المشتركة عن المقدس، أو القداسة، أو كرامة الفرد، أو حرمة الأرض. الأمر لا يقتصر فحسب على المعتقدات المعرفية، وإنما هناك بعد قيمي ديني وأخلاقي عميق.
مارك جورجنسماير: لكن كأنك تقول بأن أي نوع من الحساسية الأخلاقية المشتركة، بمعنى حس مشترك بمصدر معنى، له طابع ديني.
روبرت بيلاّ: إذن؟ هذا ما يسميه بول تيليش «بعد العمق»، الموجود في كل مضمار من مضامير الحياة.
مارك جورجنسماير: لكن على الصعيد الاجتماعي، يفترض ذلك وجود جماعيّة.
روبرت بيلاّ: بالطبع، هذا هو المغزى برمّته. لو لم يكن هناك جماعية، لانتهى الأمر بنا إلى حرب الجميع ضد الجميع بحسب مفهوم هوبز. تسير السياسة الأميركية حاليّاً في هذا الاتجاه على ما يبدو، أليس كذلك؟
مارك جورجنسماير: صحيح. وهل تظن بأن الدولة الأمة بقي لديها ما يكفي من طابع الجماعية لعرض هذا النوع من القيم المشتركة..
روبرت بيلاّ: الأمر متغير جداً. من اللافت كيف لا تزال الولايات المتحدة تتمتع بحسّ قوي من الهوية الوطنية، في حين أن هذا الحس ضعيف في معظم البلدان الأوروبية. تشهد اليابان، التي أمضيت فيها فترة كبيرة من حياتي وأنا أدرس، نهضة لقومية من نوع محدد، قومية غير عنيفة، غير عسكرية، وإنما شبيهة إلى حد كبير بما حدث في ثلاثينات القرن الماضي.
مارك جورجنسماير: أتساءل ما إذا كان الاتّحاد الأوروبي في أوروبا لا يعبّر بطريقة ما عن هوية مشتركة...
روبرت بيلاّ: صحيح
مارك جورجنسماير: لا سيما في ما يتعلق بـ..... لنأخذ على سبيل المثال الخلاف الذي أحدثته الرسومات الكاريكاتورية في الدنمارك.
روبرت بيلاّ: أعتقد أن الاتحاد الأوروبي هو جهد جزئي للتعالي فوق ما يعرف اليوم بقومية منزوعة الشرعية كانت السبب في نشوب حروب مروّعة. مع ذلك لا يزال يناضل. من ثم شهدنا ظهور ولاءات إقليمية، كما في الويلز واسكتلندا وهذا البلد وذاك. كذلك يوجد في إسبانيا ولاءات إقليمية. ما هي المنطقة التي تشكل برشلونة.......
مارك جورجنسماير: كتالونيا
روبرت بيلاّ: الكاتالونيون والباسكيون. يريد أن يحظى بعض من ينتمون إلى هذين الشعبين بدولتهم الخاصة، بينما يود آخرون أن تكون ألاسكا دولتهم الخاصة.
مارك جورجنسماير: يعتقد بعضنا بأنّه ربما يجب أن تكون كاليفورنيا دولته الخاصة وأن الشعوب الأخرى لا أهمية لها.
روبرت بيلاّ: نعم ولا سيما كاليفورنيا الشمالية التي لا تبالي بوجود كاليفورنيا الجنوبية.
مارك جورجنسماير: اسمح لي، أنا صرت أنتمي إلى جنوب كاليفورنيا. ولكنني أعتقد بأن كاليفورنيا شبيهة جدّاً بألاسكا من حيث شخصيتي.
ما رأيك بالعلمانية المتشدّدة؟ فلنأخذ على سبيل المثال قضية الرسوم الكاريكاتورية الدنماركية وهذا النوع من الشعور القوي الذي يعترينا من أجل الدفاع عن حرية التعبير، فمضايقة المسلمين أمر مُدان.ففي تركيا، قامت تظاهرات في الشوارع.
روبرت بيلاّ: للأسف، إن الشعور المعادي للإسلام في أوروبا مماثل تماماً للردّ الذي جاء على الهجرة الضخمة التي شهدناها في الولايات المتحدة الأميركية. يشير خوسيه كازانوفا، أستاذ علم الاجتماع في جامعة جورج تاون، الذي كتب بإسهاب عن الدين السياسي في العالم الحديث، إلى أنّ ما يدّعيه الأوروبي نحو الإسلام يلتقي بشكل كبير مع ما صدر عن الأميركيين بشأن الكاثوليك في أواخر القرن التَاسع عشر وأوائل القرن العشرين، بأنه بعيد كلّ البعد عن الديمقراطية، وأن ولاءه لقوى خارجية، وأنه يقوّض قيمنا، وأنه أمر سيء. وبالتالي، فإنّ تناول هذه المقدسات في الإسلام، والاستهزاء بها، يعدّ نوعاً من السخرية، إذا جاز التعبير. أعتقد بأن حرية التعبير أمر أساسي للغاية في أي مجتمع ديمقراطي. ولن أقول بأنهم يجب ثنيهم عن القيام بذلك،إ نما يبدو لي بأن الدافع وراء القيام بذلك ليس محبذاً على الإطلاق.
مارك جورجنسماير: لقد كان الدافع السخرية من المسلمين إذن.
روبرت بيلاّ: صحيح.
مارك جورجنسماير: ألم يتخلّل ذلك أيضاً انطباع، كما حدث مع الكاثوليك، «بأنهم متدينون ونحن لا»، أي هذا النوع من تفوّق القيم الثقافية العلمانية التي...
روبرت بيلاّ: ليسوا «متدينين» فحسب، وإنما «يهدمون ثقافتنا». حتى لو كنتَ شخصاً متديّناً غير مسلم، قد يخطر ببالك بأنهم يهدمون تراثنا المسيحي، أو يهدمون الثقافة الغربية، أو أي شيء. وكما قلت سابقاً، اعتقد العديد من المسيحيين، منذ زمن وجيز، ليس في أوروبا فحسب، وإنما في هذه البلاد أيضاً، بأن اليهود كانوا «يهدمون»الحضارة الغربية وكانوا يشكلون خطراً حقيقيّاً. لذلك، فإن هذه الحملة المناهضة للمسلمين قديمة العهد وقد مررنا بها من قبل.
مارك جورجنسماير: لكن إذا ما التفتّ إلى الجانب الآخر، ستجد الجهاديين المتطرفين الذين يرون الأمر عينه بالضبط في ما يخيّل إليهم أنه تهديد من الغرب العلماني.
روبرت بيلاّ:نعم صحيح.
مارك جورجنسماير:هم يعتقدون أن هذه العلمانية قد ظهرت من أجل تدمير كل ما هو جيد وذي قيمة وعفّة في ثقافتهم.
روبرت بيلاّ: أجل. مع ذلك، إنّه لمن السخرية، أن يقتل الجهاديون، لا سيما القاعدة وتوابعها، من المسلمين أكثر بكثير من غير المسلمين. فهم يكنّون الكراهية للشيعة بوجه خاص، وهم الذين فجّروا تلك المساجد في العراق، الأمر الذي كاد أن يتسبب بنشوب حرب أهلية، وتسببوا بمقتل آلاف الأشخاص من كلا الجانبين. أما بالنسبة إلى المتدينين الفعليين، فكراهيتهم موجّهة بشكل أساسي نحو إخوانهم المسلمين. إنهم يكرهون الأنظمة التي تتواجد في السلطة في منطقة الشرق الأوسط. يكرهون النظام السعودي، ويكرهون النظام المصري.
مارك جورجنسماير: العدو القريب والعدو البعيد.
روبرت بيلاّ: تعتبر أميركا سيئة لأنها في المقام الأول تدعم هذه الجماعات التي تكنّ لها الكراهية في بلدها.
مارك جورجنسماير: ولكنها ليست سيئة لأنها العدو البعيد الذي يدعم العدو القريب فحسب، كما قلتَ، وإنما لأنها دولة علمانية، أي أنها مناهضة للدين باعتبارها عدوة الدين.
روبرت بيلاّ: نعم.
مارك جورجنسماير:عندما أجريت مقابلة مع (أبو حليمة)، أحد المتورطين في تفجير مركز التجارة العالمي في العام 1993، سألته عن المسيحية، وفي حال كانت أميركا أمّة مسيحية، فهل من شأن ذلك أن يزيد الأمر سوءاً أم بالعكس؟ فأجاب لا بالعكس، فعلى الأقل سيكون لديها بعض القيم. فمشكلة أميركا اليوم بالنسبة إليه أنها كانت مناهضة للدين. وهو بطبيعة الحال كان يقصد الإسلام بوجه خاص. ولكنه ضمناً، كان يضمر كراهية شديدة لمن يناهضون الدين، هذه الكراهية التي كانت لتضعف بعض الشيء لو كانت أميركا أمة مسيحية.
روبرت بيلاّ: المفارقة بالطبع هي أن أميركا أقرب إلى كونها دولة مسيحية من أي بلد أوروبي. حاول فقط مهاجمة المسيحية وإطلاق حملة سياسية، وسترى كم هي فعّالة في هذا البلد. لذا أعتقد بأنه لم يفهم أميركا بالشكل الجيد. بالطبع، من وجهة نظر مسلم متشدد، المسيحيون هم أهل كتاب، ولا يجب التعرّض لهم.
مارك جورجنسماير: يقول جهاديون آخرون أن أميركا تخفي في الحقيقة أجندة مسيحية. تؤكّد وجهة النظر هذه بأن العلمانية غير موجودة فعلاً، وبأنّ الحضارات هي دينية في الأساس، وبأنّ العلمانية في أميركا هي في الواقع علمانية مسيحية، وهذه النقطة لا تختلف كثيراً عما أثرته أنتَ أو تايلور.
روبرت بيلاّ: نعم. في الواقع هذا الأمر صحيح من الناحية التاريخية. فالعلمانية بحدّ ذاتها قد ظهرت في مكان واحد فحسب، ألا وهو الغرب. أما الإسلام فلم يُظهر أي حركة وطنية يمكن تسميتها بالعلمانية. كان يوجد علمانيون عرب وإيرانيون وغيرهم، ولكنهم تلقوا تعاليمهم في مدارس غربية، فاصطبغوا بالعلمانية من الغرب. حتى أن هناك العديد من المسلمين الورعين الذين كان يُطلق عليهم المسلمون الحداثويون الذين تقبّلوا فكرة فصل الكنيسة عن الدولة أو الدين عن الدولة. لكن هذه الفكرة نابعة من الغرب، لا من الأعراف الإسلامية. ونجد ذلك أيضاً في الهند كما في شرقي آسيا. تعتبر فكرة العلمانية ككل فكرة حديثة وغربية، لذا تجدها غريبة حين تنتقل خارج الغرب.
مارك جورجنسماير: لكن هذه النقطة لا نجدها لدى اليمين المسيحي في أميركا، على سبيل المثال، الذي يرتعب من العلمانية، والذي ينظر إلى السياسات والثقافة العلمانية كعدو للدين، ما يجعل تفكيره أقرب إلى تفكير (أبو حليمة) والجهاديين المسلمين حول العلمانية باعتبارها عدواً الدين. هل هم ببساطة مخطئون؟ أم هم على حق ولكن العلمانية في الغرب هي شكل من أشكال الدين المختلف عن دينهم، وبالتالي لا تزال تتخللها عيوب جوهرية؟
روبرت بيلاّ: إذا ما عدنا، هنا أيضاً، إلى الفكرة المقلقة حول هذا الموضوع، بأن العلمانية بصدد تقويض ديننا المسيحي، سنعود بذلك إلى الأصولية التي تعتبر اختراعاً أميركيّاً منذ العقود الأولى للقرن العشرين و...
مارك جورجنسماير: تقصد «أسس المسيحية».
روبرت بيلاّ: صحيح. كان المسيحيون الآخرون المستهدفين الرئيسيين. بما أنهم كانوا من البروتستانتيين، فتجدهم ممتعضين من غيرهم من البروتسنتاتيين من حولهم الذين تأثروا بشدّة بالأفكار العلمانية. لقد كانوا في غاية التحرّر. لم تكن الحرب في الواقع ضدّ العلمانية بحدّ ذاتها بقدر ما كانت حرباً بين جماعات تعتبر نفسها مسيحية.
مارك جورجنسماير: يبدو كما لو أنّ مفكّري عصر التنوير قد اخترعوا فكرة «العلمانية» هذه لحمايتهم من الدين المتشدّد، ولكن هذا الدين قد ظهر اليوم بوجه خاص بسبب هذه العلمانية بهدف مواجهتها.
روبرت بيلاّ: تمنيت لو أنني شهدت علمانية منظمة تهاجم الدين في هذا البلد. فبصرف النظرعن العدد القليل من المثقفين غير الناضجين، أنا لا أرى أي حركة علمانية واسعة النطاق في الولايات المتحدة الأميركية.
مارك جورجنسماير: مع ذلك، فإنّ الخوف الشديد الذي ينتاب اليمين المسيحي، أي أن يقوم العلمانيون بفرض الإجهاض و..
روبرت بيلاّ: ربما ذلك صحيح. لكنني أعتقد بأنهم أكثر غضباً تجاه المسيحيين الآخرين منهم تجاه العلمانيين. فالأشخاص المتدينون يريدون أن يكونوا هم على حق، وجميع المتدينين الآخرين على خطأ.
مارك جورجنسماير: لكن ما يثير اهتمامي هو أنّ صعود اليمين المسيحي في الولايات المتحدة سيظهر في بلد غير مناهض أساساً للدين، وتتخلّل قيمه العلمانية، كما أشرت، قيم الدين المسيحي.
روبرت بيلاّ: كما تعلم، وكما أشارت كتاباتك، غالبية هذه الأمور تتعلق بقضايا الهوية، والناس الذين يشعرون بأن هويتهم تتقوّض، من قبل المجتمع الذي يعيشون فيه، يتمسكون بأشكال من المعتقدات الدينية من أجل التأكيدعلى احترام ذاتهم وكرامتهم.
مارك جورجنسماير: هذا يأخذنا إلى وضع العولمة المعاصر. إنها مشكلة الجميع في عصر العولمة.
روبرت بيلاّ: هذا صحيح بالفعل.
مارك جورجنسماير: حين يتمكن الجميع من العيش أينما كان، ويطبقون هذا الأمر، سيفتقرون إلى حس أنهم يملكون مجتمعاً مبنيّاً على أسس.
روبرت بيلاّ: صحيح، أنت تتمسك إذن ببعض الهواجس، والهواجس بشكل أساسي. ما هي قصّة الحجاب؟ هل المعنى الكلي للشريعة يتحدّد حول ما إذا كانت الفتاة ترتدي الحجاب أم لا؟ ذلك شبيه بحق المسيحيين في هذا البلد الذي يركّز على مسألة الإجهاض التي لم تكن يوماً مشكلة حتى وقت قريب جدّاً.
مارك جورجنسماير:صحيح. كذلك، لم يكن الشذوذ الجنسي مشكلة بالعادة لدى المسيحيين.
روبرت بيلاّ: ولا نَنْسَ زواج المثليين الذي لم يكن في الواجهة أيضاً. ففي أوائل القرن العشرين، لم يكن التركيز على شرب الخمر فحسب..
مارك جورجنسماير: كانت والدتي عضواً في اتحاد النساء المسيحيات لمكافحة الكحول.
روبرت بيلاّ: ولكنهم كانوا أيضاً معارضين للرقص وللطلاق. تلك هي المسائل المحدّدة التي كانت تحدّد هويّتهم.ما الأمر المهم الذي سيحققه الواعظ الإنجيلي بمهاجمته الطلاق كل أسبوع في هذه الأيام، في حين أنّ نصف رعيّته مطلّقون؟ هذه الأمور متغيرة، إذ ليس لها أي أصول في العهد الجديد، إنما تحوّلت إلى مواضيع حساسة تحدد من هو الصالح ومن هو الطالح.
مارك جورجنسماير: سيصدمون حين يعلمون بأنّ الدوافع وراء تديّنهم الشديد ليس دينيّاً، وإنما، هو في الواقع اجتماعيٌّ.
روبرت بيلاّ: صحيح.
مارك جورجنسماير: هم يحاولون الحصول على هوية ما، أو مطلب ما، وعلى بعض الجذور الثقافية. قد يكونون على صواب في عصر العولمة هذا، وذلك لأنّ الدين التقليدي أو الهويات الدينية، كسائر الهويات التي أوجدتها المجتمعات، تتعرّض للهجوم. فهي هشّة ولم يعد لديها جذور جغرافية أو سياسية تحميها.
روبرت بيلاّ: لكن لسوء الحظ، معظم الجماعات الدينية المتشدّدة هذه ليست تقليدية على الإطلاق، إنما حديثة للغاية وجاهلة بالأعراف.
مارك جورجنسماير: إذن هم يتحرّكون ردّاً على خوف حديث العهد.
روبرت بيلاّ: وتركيزهم منحرف بشدّة في ما يتعلق بأي فهم أساسي للعرف الذي لا يعرفون منه إلاّ القليل. يدرّس أحد طلابي مادّة علم اجتماع الدين، وفي سبيل أن يأخذ فكرة عن طلابه الموجودين في الصف، وزّع اِستبانةً صغيرةً عليهم يتضمن بعض الأسئلة من بينها تحديد الهوية الدينية الشخصية في الخانة الصحيحة: كاثوليكي، بروتستانتي، يهودي، وغيرها، و«أخرى». فوضع عدد كبير من طلابه المسيحيين إشارة في خانة «أخرى».
مارك جورجنسماير: ذلك مثير للاهتمام، لأنهم اعتقدوا بأنهم أقلية.
روبرت بيلاّ: لقد زال المفهوم القائل بأن المسيحيون كانوافي الماضي منقسمين يين كاثوليك وبروتستانت. لم يكن يدرون ما هي البروتستانتية في الأصل. وبالحديث عن العرف، هؤلاء الأشخاص أميّون جداً، ولا يعلمون أي شيء عنه، باستثناء بعض قضايا الهوية التي من أجلها هم مستعدون لقتال أشخاص آخرين.
مارك جورجنسماير: صحيح. ولا أعتقد أن جهلهم للعرف يشكّل مشكلة، إلاّ في حال صاروا متكبّرين ومتزمّتين جدّاً في ما يتعلق بمحاولتهم المحافظة على ما يتصورونه حول هذه الفكرة الجديدة المبتكرة للعرف. هنا ندخل في إطار السياسة.
روبرت بيلاّ: ما يحدث بطبيعة الحال أنه عندما بدأ الإنجيليون باتّخاذ منحىً أكثر جدية وبالتعلّم، أصبحوا من الأساقفة البروتستانت.
مارك جورجنسماير: هذا الأمر ليس بسيّئ، أليس كذلك؟ ففي إحدى النقاط المثارة في إحدى مقالاتك، استبعدتَ قيام دين عالمي. لكن في عصر العولمة، حيث لا يمكن لهذا التعلّق الشديد بالهويات الذي نشهده لدى المجموعات الدينية المتطرفة بالتأكيد أن يكون انعكاساً للمستقبل ـ كان الله في عوننا إذا كان هذا هو الحال ـ سنتتجزأ جميعنا، وستكثر الحروب القبلية. ألا يوجد إمكانية قيام مجتمع مدني عالمي تتخلله قيم مشتركة ومواطنية عامة في هذا العالم؟
روبرت بيلاّ: نعم هذا بالضبط ما كنت أشير إليه في السابق عندما تحدثت عن أجندة حقوق الإنسان والبيئة. أعتقد بأنه يوجد عنصران من مجموعة مشتركة من المعتقدات التي..
مارك جورجنسماير: ليس حصراً لأميركا..
روبرت بيلاّ: لا، بالطبع لا.
مارك جورجنسماير: ولكن كجزء من عالم يتّسم بالعولمة الكونية حيث نعيش نحن.
روبرت بيلاّ: يؤكّد على ذلك ملايين الأشخاص حول العالم
مارك جورجنسماير: ألا يوجد عمق ديني في الطريقة الدوركايمية التي تستخدمها؟
روبرت بيلاّ: نعم يوجد. بالطبع يوجد.
مارك جورجنسماير: هذه المناقبية المشتركة في الميدان العام هي بحث مشترك عن المعنى.
روبرت بيلاّ: من دون شك. نحن نملك اقتصاداً عالميّاً يفتقر لجميع أنواع الرقابة أو التنظيم، ونحن بحاجة ماسة إلى مجتمع مدني عالمي من أجل ألاّ نسمح للاقتصاد بالقضاء علينا. فلدينا مؤسسات وليدة، ولدينا قانون دولي، ويوجد بعض الهيئات الدولية إنما الضعيفة جدّاً مقارنة مع القوة الخارقة للاقتصاد العالمي. في هذا الإطار، قال يورغن هابرماس وبعض المفكرين الأوروبيين الآخرين أننا بحاجة إلى بناء مجتمع مدني عالمي. إذا كنت ستعمل على بناء مجتمع مدني عالمي، أعتقد أنّ إطاراً من المعتقدات المشتركة كفيل بأن يمنحها جزءاً من الاستمرارية. وبالطبع تستطيع أن تلاحظ بأن من يتحدثون عن مجتمع مدني عالمي لديهم التزام قوي على سبيل المثال بحقوق الإنسان والديمقراطية. جميع هذه الأمور في حالة من الغليان والاضطراب. وفي الوقت الحالي، تقوم مراكز القوة الاقتصادية والسياسية المرّكزة بما تشاء مع التغاضي عن جميع هذه الأمور.
مارك جورجنسماير: لكن المرء يأمل لو أن بإمكانه تغيير ذلك في مرحلة ما في حال توفّرت بعض أدوات العدالة والمساءلة، فمنظمة التجارة العالمية تتعرض لضغوط متزايدة من أجل تقبّل تسويات تجارية إضافية، فضلاً عن معايير العمل وحماية البيئة.
روبرت بيلاّ: إذا فكّرت في الأمر، فستجده مؤثراً جدّاً، مع أن غالبية الناس لا يدركونه، حيث يتمركز الإسلام الرجعي والأكثر تطرفاً في المملكة العربية السعودية. فالحركة الوهابية هي التي أنتجت القاعدة وتنظيمات أخرى مماثلة، وهم قادرون على نشر هذه المعتقدات الإسلامية الرجعية اليمينية لأنهم يملكون أموالاً طائلة في جميع أنحاء العالم. إنهم أصدقاؤنا وحلفاؤنا الأقوى.
مارك جورجنسماير: نحن بحاجة إلى نفطهم.
روبرت بيلاّ: جورج بوش على علاقة وطيدة بالعائلة المالكة السعودية.
مارك جورجنسماير: إذا كانت (طائفة) الأميش (Amish) تملك النفط، فسنبني صداقات معهم.
روبرت بيلاّ: ما الذي يتحدثون عنه؟ الحرب على المتطرفين الإسلاميين؟ هم من يدعم التطرّف الإسلامي بمليارات الدولارات. بالفعل لم يكن أسامة بن لادن ليصل إلى ما وصل إليه لولا المال الأميركي الذي تدفّق إلى أفغانستان لمحاربة الاتّحاد السوفياتي. نحن إذن كنّا نموّل الإسلام المتطرّف، وغالبية الأميركيين غير مدركين لذلك.
مارك جورجنسماير: صحيح. فهم يعتقدون بطبيعة الحال أن أمثال بن لادن في هذا العالم، وكل من يشاركه جنون العظمة هذا لا يرفضون العولمة، وإنما ينتهزونها ليقيموا.
روبرت بيلاّ: الخلافة الجديدة التي ستحكم العالم بأسره تحت سلطة خليفة واحد.
مارك جورجنسماير: صحيح. ألا تعتقد بأن ذلك سيكون نوعاً مختلفاً من الدين العالمي؟ دعني أنقلك إلى النقطة السابقة؛ في حال توفر نوع من البعد الديني لمجتمع مدني عالمي، تحدثت سابقاً عن أنه سيبنى، لكن يبدو لي بأنه سيظهر، ولا داعي لأن تبنيه. إنّه مجرّد بعدٍ حول استيطان الأرض، وأن تكون من المواطنين المعنيين وتتفاعل بطريقة أو بأخرى. أما في حال كان لهذا المجتمع عمق ديني، فماذا الذي قصدته حين شككتَ باحتمال وجود ديني عالمي؟ هل كنتَ تعني بذلك الدين بمعناه الضيّق؟
روبرت بيلاّ: أعتقد بأن الدين يعمل على مختلف الأصعدة، لكنني لا أعتقد بأنّ ما نسمّيه الأديان العالمية، والأعراف العظيمة، ستتوارى وراء بعضٍ من التجانس العالمي، إنما ستبقى جزءاً من الحوار العالمي. وسيكون هناك عناصر يمكن أن تتشاركها المجموعات الدينية الرئيسة. كما تعلم، حاول عدد كبير من المفكرين المسلمين وضع نسخة إسلامية عن حقوق الإنسان من دون نقل الليبرالية الغربية ببساطة، وإنما عبر البحث عن مصادر في الشريعة الإسلامية، والتي بدورها تؤكّد على هذه المعتقدات المشتركة. إلاّ أنهم لن يتخلّوا عن إسلامهم بالرغم من أنهم قد يجدون أرضية مشتركة مع المجموعات الأخرى. وعند الحديث عن «دين واحد»، يقصد عادة بـ«الدين» المعنى التقليدي له، أي المسيحية، أو الإسلام، أو الهندوسية، أو الكونفوشيوسية، أوغيرها. لا أعتقد بأننا سنلتزم بدين واحد من هذا المنطلق. فالحضارات العظيمة تتفكّك دائماً إلى حدّ ما، إنما ليس بالطريقة التي يتصورها هنتنغتون. إذ ليس بالضرورة أن تدخل في صدام، فهي تملك القيم التي قد تستمرّ، وبالفعل لا يزال الكثير من القيم الناتجة من بعض الحضارات قائماً.
مارك جورجنسماير: وقد تكون هذه القيم جزءاً من هذا المجتمع المدني العالمي، جزءاً من الطابع الديني للمجتمع العالمي.
روبرت بيلاّ: بالضبط. سيحصل توازن بين ما يوحّدنا وما هو تعددي، على أمل أن نكون مجتمعاً متسامحاً وواضحاً.
مارك جورجنسماير: يمكن التفكير بالطابع الديني للمجتمع المدني العالمي على أنه علماني بالطريقة التي تحدثنا فيها.
روبرت بيلاّ: صحيح.
مارك جورجنسماير: فهو يتميّز في النهاية بالبعد الديني، أو بخصائص دين معيّن عند النظر إليه بمنظور ضيّق. لنأخذ مثلاً منطقة البحر الأبيض المتوسط، التي كانت إلى حدّ ما منطقة تسودها العولمة في ذلك الوقت.فمن كان ليظنّ أن الطائفة اليهودية الصغيرة للغاية، والتي كسبت شعبية كبيرة جدّاً عند ظهورها في العالم الروماني، قد تلقى نجاحاً بين ليلة وضحاها وهي التي نشأت حديثاً كدين عالمي يمكن أن يضمّ كافة وجهات النظر والثقافات، فضلاً عن استيعاب ثقافتها وطقوسها ومعتقداتها لعبادة الأوثان أيضاً؟ فهل يمكن أن تتصور فرعاً كبيراً جدّاً في الإسلام يمكن أن يحتضن أشخاصاً كانوا يعتقدون أنفسهم في ما مضى مسيحيين أو علمانيين؟
روبرت بيلاّ: كلا، لا أعتقد ذلك.
مارك جورجنسماير: أنت لا تعتقد ذلك، لكن في الواقع سيتحقق ذلك عند وجود مجتمع مدني عالمي، أي مجتمع يتميّز بشيء من الطابع الديني أو العمق الديني.
روبرت بيلاّّ: نعم، لكن ذلك لن يتحقق لأن المسيحية والإسلام يدعيان أنهما دينان عالميان، إلاّ أنّ ذلك لم يكن يوماً صحيحاً. لطالما تصديا للأشخاص الذين قالوا، «أخرجوا من هنا. لا نريد أن نصبح مثلكم». لاقت هاتان الديانتان نجاحاً أكبر مع الأشخاص القبليين أكثر منه مع من ينتمون إلى بعض الحضارات المرموقة.
فإذا نظرت إلى الإمبراطورية الساسانية قبل أن يدمرها الإسلام في القرن السابع، فستجد ثقافة فارسية عظيمةقد جعلت الزرادشتية ديانة للدولة، كما لو أنهم يقولون. «نحن لسنا مسيحيين». كانوا في أغلب الأحيان يخوضون الحروب مع البيزنطيين. ولسوء الحظ دمّروا بعضهم بعضاً، مما مكّن المسلمين من السيطرة عليهما.
لكن في جميع الأحوال، لا أعتقد بأنّ الأديان العالمية التي شهدناها في السابق ستتكرّر من خلال دين عالمي جديد. فبالنسبة إلي، هذا الاحتمال مستبعد كليّاً، وستكون المسألة ذات مستوى مختلف من الفهم المشترك الذي لن يحجب الأعراف السابقة أو حتى يشملها بشكل كامل.
مارك جورجنسماير: ومن المحتمل أن يكون امتداداً لما اعتقدناه ثقافة علمانية في الغرب؟
روبرت بيلاّ: نعم، من دون شك.
مارك جورجنسماير: مع عمقٍ ديني، كما ناقشتَ فيها المسألة أنتَ وتايلور.
روبرت بيلاّ: يعلم إيرانيو اليوم المنشقون، على الرغم من أنهم مسلمون ورعون جدّاً، أن هذا الانصهار بين الكنيسة (الجامع) والدولة ما كان ليعود عليهم إلاّ بالضرر، وبأنهم لن يتمتعوا بالديمقراطية إلاّ عندّ الفصل بينهما.
مارك جورجنسماير: لكن الأديان القديمة تزول بهدوء. لو أن هذا مسار تاريخ العالم، فالعكس تماماً...
روبرت بيلاّ: لا أعتقد أنها يجب أن تزول أبداً، وإنما يجب أن تتكيّف وتتغير كما كان الحال دوماً. فما من دين بقي على حاله أو لم يشهد تغيرات مستمرّة.
مارك جورجنسماير: هذا صحيح، ولكنها تتخبط في الوقت الحاضر وتعاني الأمرّين.
روبرت بيلاّ: حسب الأوضاع. فكل عرف يمتاز بآلاف المتغيّرات.
مارك جورجنسماير: لم أكن لأوجّه إليك اتهاماً في أي نقطة سابقة لعلمنا بأننا متفائلان.
روبرت بيلاّ: لا، أنا لست متفائلاً.
مارك جورجنسماير: لكن ذلك يبدو نوعاً من التفاؤل.
روبرت بيلاّ: لا، بالتأكيد لا، إذ أنني أعتقد بأن تركيز السلطة الاقتصادية والسياسة العالمية في الوقت الراهن هو أمر مدمّر ومنيع ضدّ أي شكل من أشكال الرقابة الأخلاقية والطويلة الأمد على حدّ سواء. وبما أن الولايات المتحدة رفضت التوقيع على اتفاقية كيوتو، ومضت في مشاريعها الملوّثة إلى حدّ يفوق الخيال، وبما أننا لو نفّذنا خطّة جيمي كارتر في العام 1979، لكان العالم أفضل حالاً بألف مرّة مما هو عليه اليوم ـ فكّر فقط كم تنتهك هذه السلطة المتحكّمة بالعالم جميع أشكال اتفاقيات القيم. فنحن ندعم الأنظمة الفاسدة في العالم، ونتحدث عن حقوق الإنسان، ولا نطبّق شيئاً منها، ما عدا في المواقع التي نريد الحصول منها على النفط، كالعراق على سبيل المثال. من يتولّى أمر موغابي؟ من يساعد على حلّ مشكلة السودان؟ أو بورما، أكثر البلدان سوءاً في العالم؟ من الذي يهتم بهؤلاء الناس؟ بإمكاننا قطع المياه عن بورما في الوقت الحالي ببساطة وليس شراء نفطها اللعين.
مارك جورجنسماير: أميركا إذن أصبحت العدو الأكبر للمجتمع المدني العالمي.
روبرت بيلاّ: لا تقوم أميركا وحلفاؤها بأي أمر مهم لمساعدتنا في الوقت الحاضر. وبالتالي، فإنّ الصراع اليوم بغالبيته سياسيٌّ وليس دينيّاً.
مارك جورجنسماير: بوب، بالرغم من أنك أمضيت مؤخراً الكثير من الوقت في دراسة الماضي، من الواضح بأنه يخبر الكثير عن المستقبل بتعابير جدلية وتنشد الأمل بتردد. لقد كان بالفعل نقاشاً غنيّاً ومثيراً للاهتمام. أشكر مشاركتك.
روبرت بيلاّ: بكل سرور.

من السيرة الذاتية للمتحاورَيْن
روبرت ن. بيلا: أستاذ فخري في علم الاجتماع في كلية إيليوت للشؤون الدولية في جامعة كاليفورنيا ـ بركلي، حيث درّس لأكثر من ثلاثة عقود، وهو أحد المساهمين الدائمين في منتدىThe Immanent Frame. يعتبر أحد أبرز علماء اجتماع الدين في يومنا الحاضر، ومن أهم منشوراته: Beyond Belief، مقالات حول الدين في عالم ما بعد الأعراف (1970)، The Broken Covenant، الدين المدني الأميركي في الوقت العصيب (1975)، Varieties of Civil Religion(1980)، Habits of the Heart (1985)، The Good Society (1991)1). في العام 2000، منح الرئيس ويليام ج. كلينتون روبرت بيلاّّ الميدالية الوطنية الإنسانية.
* مارك جورجنسماير: هو أستاذ في علم الاجتماع، وأستاذ مشارك في الدراسات الدينية، ومدير مركز أورفاليا للدراسات العالمية والدولية في جامعة كاليفورنيا فيسانتا باربرا. ويشغل أيضاً منصب رئيس فريق عمل «مجلس أبحاث العلوم الاجتماعية» حول الدين، والعلمانية، والشؤون الدولية. وهو رئيس الأكاديمية الأمريكية للدين، وأحد المساهمين المنتظمين في منتدى The Immanent Frame. تضمّ مؤلفاته الأخيرة: Global Religion، عن التحديات الدينية للوصول إلى دولة علمانية (2008)،Gandhi’s Way (2005)،Terror in the Mind of God، (نسخة منقحة، 2003) حول الارتفاع العالمي للعنف الديني. أما المحاضرات التي ألقاها جورجنسماير في جامعة ستانفورد في العام 2006 تحت عنوان God and War، فهي صادرة عن منشورات جامعة برينستون.
[1]ـ العنوان الأصلي للمقال: Rethinking Secularism and Religion in the Global Age
Mark Juergensmeyer and Robert N. Bellah in Conversation University of California, Berkeley : نقلاً عن September 11, 2008.
ـ المرجع: جامعة كاليفورنيا، بيركلي ـ 11 أيلول 2008.
ـ ترجمة وتعريب: رشا طاهر ومنار درويش.