البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

المجتمع « ما بعد العلماني »

الباحث :  يورغن هابرماس Jurgen Habermas
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  2
السنة :  السنة الثانية - شتاء 2016 م / 1437 هـ
تاريخ إضافة البحث :  December / 26 / 2015
عدد زيارات البحث :  1502
تحميل  ( 346.307 KB )
المجتمع «ما بعد العلماني»
تأصيل المعنى والتجربة[1]
يورغن هابرماس Jurgen Habermas [*]
الفكرة التي أرادها الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس من هذه المقالة يمكن اختصارها بسؤال طرحه على الشكل التالي: لماذا لا يمكننا بعدُ أن نسمي المجتمعات التي تحولت إلى العلمانية مجتمعات «ما بعد علمانية» ؟ في هذه المجتمعات لا يزال الدين حسب هابرماس يحتل حيزاً كبيراً من التأثير على الرأي العام، بينما بدأت حالة اليقين العلمانية القائلة بأن الدين سيختفي في العالم مع تسارع وتيرة الحداثة بفقدان «يقينيتها». والأهم من كل شيء أن ثلاث ظواهر تلاقت لتصنع انطباعاً عالميّاً بعودة ظهور الدين في الغرب وهي: توسع العمل التبشيري، والتحول إلى الراديكالية الأصولية، والاستغلال السياسي للعنف المتأصل في كثير من أديان العالم.
فيما يلي نقرأ عرضاً إجمالياً لما تضمنته أطروحة هابرماس حول سمات وخصائص المجتمع ما بعد العلماني. المحرر
يفترض أن يكون المجتمع «ما بعد العلماني» في وقت ما ضمن دولة «علمانية». ولذا فإن هذا المصطلح المثير للجدل لا ينطبق إلا على بعض المجتمعات الأوروبية الثرية، أو على بلدان مثل كندا وأوستراليا ونيوزيلندا، حيث استمر اختفاء الروابط الدينية بين الناس بشكل دراماتيكي خاصة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. لقد شهدت هذه المناطق وعياً متزايداً بأن المواطنين يعيشون في مجتمعات علمانية. لكن من حيث المؤشرات العلم ـ إجتماعيّة فإن السلوكيات والقناعات الدينية لدى غالبية السكان المحليين لم تتغير، بدرجة يمكننا معها القول أن هذه المجتمعات أصبحت مجتمعات «ما بعد علمانية» إن الاتجاه نحو أشكال جديدة من التدين أكثر روحانية وغير مرتبطة بالمؤسسات لم يعوّض الخسائر الملموسة التي عانت منها المجموعات الدينية الكبرى[2].
(1)ـ إعادة التفكير في النقاش الاجتماعي بصدد التحول إلى العلمانية
على الرغم مما قيل، فإن التغيرات العالمية والنزاعات الظاهرة للعيان ولا سيما تلك المتصلة بقضايا دينية تثير شكوكنا حول ما إذا كانت أهمية الدين قد اضمحلت بالفعل. لم يعد هناك إلا أقلية يتناقص عددها باستمرار من علماء الإجتماع تدعم هذه الفرضية التي ظلت سائدة وبدون منازع لفترة طويلة، أعني الفرضية القائلة بأن هناك رابطة وثيقة بين تحديث المجتمع وميل سكانه إلى العلمانية[3]. ولقد تأسست هذه الفرضية على ثلاثة اعتبارات تبدو مقبولة للعقل في أول وهلة.
ـ الاعتبار الأول هو أن التقدم في العلم والتكنولوجيا لا بد وأن يروِّج لفهم إناسي ـ محوري (anthropocentric) «للعالم المنزوع السحر» (disenchanted)؛ ذلك لأن مجموع الأحداث والأحوال التجريبية يمكن أن تجد تفسيراً عابراً دون عناء. والعقل «المتنور علميّاً» لا يمكن أن يقبل بسهولة نظرة كهنوتية ـ محوريّة (Theocentric) وميتافيزيقية للعالم.
ـ الاعتبار الثاني هو التفاضل الوظيفي للأنظمة الاجتماعية الفرعية، فالكنيسة وغيرها من المؤسسات الدينية تفقد سيطرتها على القانون والسياسة والرعاية العامة والتربية والتعليم والعلوم، ولذلك حددت نفسها في دورها الصحيح المتعلق بالإشراف على وسائل الخلاص الأخروي. ـ الاعتبار الثالث والأخير هو أن التقدم من مجتمع زراعي إلى صناعي إلى ما بعد صناعي يؤدي إلى درجة أعلى من الرعاية والأمن الاجتماعيين مما يفضي إلى انخفاض في الحاجة الشخصية إلى ممارسة تَعِدُ بمواجهة الحوادث غير المسيطر عليها من خلال الإيمان بقوة «أعلى» أو كونيّة.
هذه إذن الأسباب الرئيسية وراء الحجة القائلة بتوجه المجتمعات نحو العلمنة، بالنسبة لخبراء علم الاجتماع ظل هذا موضوعاً مثيراً للجدل لأكثر من عقدين من الزمن.[4] ومؤخراً، وبعد الانتقادات ـ التي لا أساس لها ـ حول وجهة النظر الضيقة المتمركزة على أوروبا، بدأ الحديث يدور حول «نهاية نظرية العلمنة»[5] فالولايات المتحدة مع حيوية مجتمعاتها الدينية الراسخة، والنسبة التي لم تكد تتغير من مواطنيها الملتزمين والناشطين دينياً تظل هي رأس حربة الحداثة. وقد ظلت النظرة إليها ولفترة طويلة على أنها هي الاستثناء الكبير للاتجاه العلماني، ولكنها الآن وبامتداد وجهة النظر العالمية فيها إلى ثقافات وأديان عالمية أخرى فقد أصبحت الولايات المتحدة الآن تمثل الحالة المعيارية الطبيعيّة.
من وجهة النظر الرجعية هذه فإن التطور الأوروبي الذي كان يفترض لـ«عقلانيته الغربية» أن تشكل نموذجاً لباقي العالم هو الاستثناء وليس القاعدة الطبيعية ـ أي أنه يسير في درب منحرف عن الطبيعي، إنّنا نحن من يلاحق «الطريق المخالف» وليس هم[6]. والأهم من كل ذلك فقد تلاقت ثلاثة ظواهر متداخلة لتصنع انطباعاً بوجود «طفرة دينية عالمية جديدة» وهي:
أ) تمدد العمل التبشيري.
ب) التحول إلى الراديكالية الأصولية.
ج) تحويل إمكانية المَيل إلى كوامن العنف المتأصلة في الكثير من أديان العالم إلى أداة سياسية.
(أ) العلامة الأولى لحيوية هذا العمل تكمن في حقيقة أن المجموعات المتطرفة ـ أو على الأقل المحافظة ـ ضمن المؤسسات الدينية الموجودة، هي التي تتقدم في كل مكان. وهذا يُطبَّقان في أديان مثل الهندوسية والبوذية كما ينطبق على الأديان التوحيدية. المدهش حقّاً هو امتداد هذه الديانات المؤسسة إلى أفريقيا وبلاد جنوب شرق آسيا. من الأشياء التي تعتمد عليها نشاطات نشرالديانات على ما يبدو هو مرونة الأشكال المماثلة من المنظمات، فالكنيسة الرومانية الكاثوليكية تبدو أكثر قدرة على التكيف مع اتجاهات العولمة من الكنائس البروتستانتية المنظمة على مستوى وطني فقط، والتي هي الخاسر الأكبر العابرة للحدود والثقافات في هذا الاتجاه. أما أكثر أشكال الامتداد الديني حركية فهو الشبكات اللامركزية التي تدعو إلى الإسلام (وأكثر نشاطاتها في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى) والإنجيليون (وخاصة في أميركا اللاتينية)، تتميز هذه الشبكات بشكل من التدين يثير النشوة يلهمه قادة أصحاب كاريزما عالية.
(ب) بالنسبة للأصولية، يمكن أن نذكر أسرع الحركات الدينية نمواً، كالحركة الخمسينية (البنتيكوستال) والإسلاميين المتطرفين. ما تفعله هذه الحركات هي إما أن تحارب العالم الحديث أو تنسحب منه وتعتزله جامعة في أشكال تعبدها بين الروحانية من ناحية وتصورات أخلاقية متزمتة، واتباع حرفي للنصوص المقدسة من ناحية أخرى. على العكس من ذلك نجد حركات «العصر الجديد» التي انتشرت منذ سبعينيات القرن الماضي لتظهر نزعة تلفيقية على طريقة «كاليفورنيا». تشترك هذه الحركات مع الإنجيليين في كونها غير مرتبطة بمؤسسة دينية. في اليابان وحدها ثمة ما يقارب الأربعمائة طائفة تجمع عناصر من البوذية مع النزعات الدينية الشعبية، مع عقائد شبه علمية وباطنية. في جمهورية الصين الشعبية كشف القمع السياسي لطائفة فالون غونغ العدد الكبير لأتباع «الديانات الجديدة» التي يعتقد أنه يصل إلى حوالي 70 مليون نسمة[7].
(ج) وأخيراً فإن ما يمارسه بعض المسلمين من أعمال إرهابية هي مجرد أدلة دراماتيكية على الاستغلال السياسي لإمكانية اللجوء إلى العنف الكامنة في الدين. فكثيراً ما تندلع أكثر الصراعات نارية ـ والتي كثيراً ما تكون «دنسة» في خلفيتها الحقيقية ـ عندما تعاد صياغتها بحيثيات دينية. ينطبق هذا على «إزالة العلمانية» من الصراع في الشرق الأوسط، وعلى النزعة الوطنية الهندوسية وعلى الصراع الدائم بين الهند وباكستان[8] وعلى احتشاد اليمين الديني في الولايات المتحدة قبل غزو العراق وخلاله.
(2) ـ السرد الوصفي لمجتمع «ما بعد علماني» وقضية المعايير التي يجب على مواطني مجتمع كهذا أن يفهموا بها أنفسهم
لا يمكنني أن أناقش بالتفصيل الجدل الدائر بين علماء الاجتماع حول «الطريق المنفردة» المفترضة التي تتبعها المجتمعات المعلمنة في أوروبا وسط المجتمع العالمي المحتشد دينيّاً. إن انطباعي الشخصي هو أن البيانات الملتقطة عالميّاً لا تزال، وبصورة تثير الدّهشة، تقدم أدلة قوية تدعم رأي المدافعين عن فرضية العلمنة[9]. من وجهة نظري فإن نقطة ضعف نظرية العلمنة تعود في الواقع إلى استنتاجات متعجلة تكشف عن استخدام غير دقيق لمفاهيم «العلمنة» و«التحديث». ما هو صحيح هو أنه في مسار التفاضل بين الأنظمة الاجتماعية الفاعلة حددت الكنائس والمجتمعات الدينية وبشكل متزايد دورها في الوظيفة الأساسية التي هي العناية الرعوية وكان عليهم ترك قدراتهم في المجالات الاجتماعية الأخرى، وفي ذات الوقت تراجعت الممارسة الدينية إلى مجالات شخصية بشكل متزايد. يوجد ترابط بين التحديد الوظيفي للنظام الديني والتوجه إلى الفردية في الممارسة الدينية.
لكن وكما أشار خوزيه كازانوفا بشكل صحيح إلى أن فقدان الدور والتوجه إلى الممارسة الفردية لا تعني بالضرورة أن الدين قد فقد تأثيره أو أهميته سواء في الساحة السياسية وثقافة المجتمع أو في السلوكيات والأخلاقيات الشخصية[10]. وبغض النظر عن ثقلها العددي السابق فإن المجتمعات الدينية لا تزال قادرة على حجز «مقعد» لها في حياة المجتمعات التي توجهت وبشكل كبير نحو العلمانية. يمكننا اليوم وصف الوعي العام في أوروبا من خلال حيثيات «المجتمع ما بعد العلماني» إلى درجة أنه في الوقت الحاضر لا يزال عليه «أن يكيف نفسه مع الوجود المستمر لمجتمعات دينية في بيئة تتجه إلى العلمانية بشكل متزايد»[11]. لا تتعلق القراءة الجديدة لفرضية العلمنة بجوهرها بقدر ما تتعلق بتنبؤاتها عن الدور المستقبلي لـ «الدين»، إن وصف المجتمعات الحديثة باعتبارها مجتمعات ما بعد دينية يرجع إلى تغير في الإدراك أنسبه أنا إلى ثلاث ظواهر:
ـ الأولى: أن الإدراك الواسع للصراعات العالمية التي كثيراً ما تقدم وكأنها ترتكز على نزاعات دينية، يغير الوعي العام. إن غالبية المواطنين الأوروبيين ليست بحاجة إلى وجود حركات أصولية عدوانية أو الخوف من العمليات الإرهابية المعرفة بحيثيات دينية حتى تدرك نسبيتهم ضمن الأفق العالمي. إن هذا ينسف الاعتقاد العلماني بالاختفاء القريب للدين ويحرم الفهم العلماني للعالم من أي نشوة بالانتصار. الوعي السائد لدى من يعيش في مجتمع علماني لم يعد مقيداً بالقناعة أن الحداثة الثقافية والاجتماعية لا بد وأن يتقدما على حساب التأثير العام والأهمية الشخصية للدين.
ـ الثانية: أن الدين لا ينال المزيد من التأثير على المستوى العالمي فحسب، بل وفي المحيط الوطني العام أيضاً، أنا أفكر هنا في الدور المتزايد الذي تلعبه الكنائس والمؤسسات الدينية كـ«مجتمعات للتفسير» في الساحة العامة للمجتمعات العلمانية[12] كما يمكنهم أيضاً التأثير على الرأي العام وتشكيل الإرادات من خلال المساهمات ذات العلاقة بالقضايا الأساسية بغض النظر عما إذا كانت حججهم مقنعة أم مثيرة للإعتراض. تؤلف مجتمعاتنا التعددية بيئة متجاوبة مع تدخلات كهذه لأن هذه المجتمعات تواجه انقساماً متزايداً حول النزاعات المتعلقة بالقيم والتي تتطلب قراراً سياسيّاً. سواء كان النزاع حول تشريع الإجهاض أو القتل الرحيم الاختياري أم مسائل أخلاقية بيولوجية مثل مسألة الأدوية المتعلقة بالتكاثر والمسائل المتعلقة بحماية الحيوانات وتغير المناخ ـ في هذه المسائل وما يشبهها تكون الأسس التي تفرق بين آراء الناس غامضة لدرجة أنه لا يمكن الوصول إلى حل فيها بناء على الضرب على وتيرة الحدس الأخلاقي المقنع أكثر من غيره بسرعة.
إذا ما أردنا تقريب النقطة بشكل أقرب إلى بيت القصيد، دعني أذكركم بوضوح وحيوية المجتمعات الدينية الأجنبية والتي يحفزون من خلالها انتباه الكنائس والتجمعات الدينية المعروفة، فالمسلمون الذين يقطنون بجانبنا يفرضون على المواطنين المسيحيين أن يواجهوا ممارسة لعقيدة منافسة لعقيدتهم وكما يقدمون للمواطنين العلمانيين إدراكاً أفضل لظاهرة وجود عام للدين.
ـ الثالثة: العامل المحفز لتغيير الوعي بين السكان هو هجرة «العمال الضيوف» واللاجئين خصوصاً القادمين من بلاد لها خلفية ثقافية تقليدية. منذ القرن السادس عشر كان على أوروبا أن تمر عبر انشقاقات دينية عميقة في ثقافتها ومجتمعاتها وعلى أثر حركات الهجرة الأخيرة هذه ارتبط التنافر بين الأديان المختلفة مع تحديات التعددية في طرق الحياة التي تواجهها المجتمعات المهاجرة. يتغذى هذا الأمر بشكل أكبر من تعدد الطوائف، ففي مجتمعات كمجتمعاتنا التي لا تزال عالقة في عملية التحول المؤلمة إلى مجتمعات ما بعد استعمارية وتحتوي على عدد كبير من المهاجرين، تصبح مسألة التعايش بين المجتمعات الدينية المختلفة أكثر صعوبة بسبب مشكلة كيفية الوصول إلى ضمان تكامل الثقافات المهاجرة اجتماعيّاً. وتحت ضغط أسواق العمالة العالمية على التكامل الاجتماعي أن ينجح حتى تحت الشروط غير الكريمة للامساواة الاجتماعية. ولكن هذه قصة أخرى.
قمت حتى الآن بالالتزام بدور المراقب الاجتماعي في محاولة مني للوصول إلى إجابة عن سؤال: لماذا لا يمكننا أن نسمي المجتمعات المعلمنة مجتمعات «ما بعد علمانية»، في هذه المجتمعات يحافظ الدين على تأثيره العام وأهميته بينما تخسر نقطة اليقين العلمانية السابقة يقينيتها بكون الدين سيختفي على مستوى العالم يقينيتها. إذا اعتمدنا من الآن فصاعداً دور المشاركين فسوف نواجه سؤالاً مختلفاً وإن كان قياسيّاً: كيف علينا أن نرى أنفسنا كأعضاء في مجتمع ما بعد علماني، وماذا علينا أن نتوقع من بعضنا البعض لنتأكد من أنه وفي دول أممية عميقة الجذور تظل العلاقات الاجتماعية مدنية وحضارية رغم نمو تعددية الثقافات ووجهات النظر الدينية؟
المجتمعات الأوروبية كلها تواجه اليوم هذا السؤال. بينما كنت أجهز هذه المحاضرة في شباط الماضي 2004 قدمت لي عطلة نهاية أسبوع واحدة ثلاثة أخبار مختلفة: أمر الرئيس الفرنسي ساركوزي بإرسال 4000 شرطي إضافي إلى الضواحي الباريسية السيئة السمعة والمبتلاة بمشاكل شغب الشباب المغاربي، بينما أوصى أسقف كانتربري صانعي القوانين البريطانية باعتماد أجزاء من قانون الشريعة لتطبيقها على سكان البلاد المسلمين، بينما شب حريق في حي سكني في لودفغشافن لقي فيه تسعة أتراك حتفهم بينهم أربعة أطفال. على الرغم من عدم وجود أدلة على أن الحريق كان متعمداً إلا أنه أثار شبهات إن لم نقل مخاوف حقيقية في وسائل الإعلام التركية. أقنع هذا الأمر رئيس الوزراء التركي بضرورة زيارة ألمانيا، وهي الزيارة التي أدى فيه خطابه ذا الوجهين في ساحة في كولونيا إلى ردود حادة من الصحافة الألمانية.
أخذت المجادلات هذه نبرة أشد حدة بعد الهجمات الإرهابية في 11 أيلول 2011. في هولندا أشعل مقتل ثيو فان كوخ مناخاً انفعاليّاً، وكذلك حدث للدنمارك في قضية الرسومات المسيئة، لقد اتخذت هذه المجادلات وتيرة خاصة بها[13] ولذلك امتدت آثارها إلى خارج حدود البلاد لتطلق جدالاً على نطاق أوروبا بأسرها[14]. ما يهمني هنا هو الافتراضات الخلفية التي تجعل من النقاش حول «الإسلام في أوروبا» أمراً حادّاً إلى هذه الدرجة. ومن قبل أن أتمكن من التعاطي مع الجوهر الفلسفي للاتهامات المتبادلة دعوني أوضح نقاط البداية لكل من الجانبين المتضادين ـ تفسير مناسب لما كنا نسميه «الفصل بين الكنيسة والدولة».
(3)ـ من تسوية مؤقتة مضطربة إلى توازن بين المواطنة المشتركة والفروقات الثقافية
كانت الدولة العلمانية هي الاستجابة المناسبة للحروب الطائفية التي ثارت في بداية الحداثة الأوروبية. لم يتحقق مبدأ «فصل الكنيسة عن الدولة» إلا تدريجيّاً واتخذ شكلاً مختلفاً في كل جسم قانوني وطني، وكلما زاد المدى الذي اتخذت فيه الدولة طابعاً علمانيّاً نالت الأقليات الدينية (في البداية، فقط ننكر المسموح بها) حقوقاً أكثر وأكثر. في البداية نال أبناؤها حق حرية ممارسة دينهم الخاص في بيوتهم، ومن بعد ذلك حرية التعبير الديني، وأخيراً حقوقاً مساوية لممارسة أديانهم بشكل علني وعام. إن النظرة التاريخية إلى هذه العملية الملتوية التي لم تنته إلا في القرن العشرين يمكن أن تخبرنا شيئاً عن الشروط المسبقة لهذا الإنجاز الثمين ـ أي الحقوق الشاملة في الحرية الدينية والممتدة إلى كل المواطنين بالتساوي. بعد الإصلاح البروتستانتي واجهت الدولة في البداية مهمة أساسية وهي أنها عليها أن تسيّج مجتمعاً ممزَّقاً بحدود طائفيّة، أي بكلمات أخرى كان عليها تحقيق السلام والنظام. وفي سياق هذه المناقشة تذكِّر المؤلفة الهولندية مارغريت دو مور مواطني بلادها بهذه البدايات: «إن التسامح عادة ما يُذكر مع الاحترام في الجملة نفسها، ولكن تسامحنا الذي يرجع في جذوره إلى القرنين السادس عشر والسابع عشر لم يكن مبنياً على الاحترام بل على العكس تماماً، فقد كنا نكره أديان بعضنا البعض، ولم يكن الكاثوليكيون والكالفينيون يحملون ذرة احترام لآراء بعضهم البعض. لم تكن حرب الثمانين سنة التي خضناها مجرد ثورة ضد إسبانيا بل كانت أيضاً جهاداً دمويّاً قاده الكالفينيون ضد الكاثوليكية»[15]. سوف نرى قريباً نوع الاحترام الذي تشير إليه مارغريت دو مور.
حيادية العلمانية الحاكمة
بالنسبة للسلام والنظام كان على الحكومات أن تعتمد موقفاً محايداً حتى لو بقيت على روابطها مع الأديان السائدة[16]. أما في البلاد التي اندلع فيها النزاع الطائفي فقد كان على الدولة أن تنزع سلاح الأطراف المتنازعة، وتخترع ترتيبات للتعايش السلمي بين الطوائف المتناحرة وتراقب وجودهم المتزعزع مع بعضهم البعض. وفي البلاد المنقسمة طائفيّاً مثل ألمانيا أو هولندا فقد عششت كل من الثقافات الفرعية المتضادة في أجوائها الخاصة لتبقى أجنبية حيال بعضها البعض في المجتمع. هذه التسوية المؤقتة (وهذا بالضبط ما أردت أن أؤكد عليه) لم تكن كافية. وهو ما تبيَّن عندما آلت الثورات الدستورية في نهاية القرن الثامن عشر إلى نظام سياسي جديد أخضع قوى الدولة التي أصبحت علمانية بالكامل لكل من سيادة القانون وإرادة الشعب الديموقراطية.
كانت الدولة الدستورية قادرة على أن تضمن لمواطنيها المساواة في الحرية الدينية تحت شرط أن لا يحبسوا أنفسهم ضمن مجتمعاتهم الدينية ويحجبوا أنفسهم عن بعضهم البعض. كان من المتوقع من جميع الثقافات الفرعية أن تطلق سراح أعضائها، حتى يتعرفوا على وجود بعضهم البعض كأعضاء في مجتمع مدني واحد. يعطي المواطنون قوانين كهذه والتي بفضلها يتمتعون بحق الحفاظ على هويتهم في سياق ثقافتهم المحددة ونظرتهم إلى العالم الخاصة بهم. إن هذه العلاقة بين الحكومة الديموقراطية والمجتمع المدني والحفاظ على الثقافات الفرعية هو المفتاح الفعال للفهم الصحيح، لأن المشروع الخاص بالتنوير السياسي العام لا يتناقض مع الحساسيات الخاصة ضمن تعددية ثقافية مطبقة بشكل صحيح.
سيادة القانون الليبرالية تضمن بالفعل الحرية الدينية كحق أساسي مما يعني أن مصير الأقليات الدينية لم يعد يعتمد على رحمة سلطة دولة متسامحة، لكن على الدولة في البداية أن تكون ديموقراطية حتى تتمكن من التطبيق غير المتحيِّز لمبدإ الحرية الدينية هذا[17]. حين تسعى المجتمعات التركية في برلين أو كولونيا أو فرانكفورت إلى إخراج بيوت صلاتهم من الباحات الخلفية ليبنوا مساجد مرئية من على مسافات بعيدة لا يعود الأمر يتعلق بالمسألة نفسها بل بتطبيقها العادل، ولكن لا يمكن التيقن من الأدلة الواضحة على ما يجب التسامح معه وما لا يجب، إلا من خلال عمليات تداولية وشاملة لبناء إرادة ديموقراطية. إن أول خطوة نحو تحرير مبدإ التسامح من الاشتباه في التعبير عن محض التعالي هي أن تلتقي الأطراف المتنازعة على نحو متكافئ في مسار عملي عملية للوصول إلى اتفاق في ما بينها[18]. ذلك ان كيفية رسم الخط بين الحرية الدينية الإيجابية (أي حق ممارسة دينك الخاص) والحرية السلبية (أي حق أن لا تضطر لأن ترى الممارسات الدينية لأشخاص من أديان أخرى) سيظل دائماً موضعاً للجدل. ولكن في بلاد ديمقراطية سيكون المتأثرون ـ بشكل غير مباشر ـ هم المشاركون في عملية اتخاذ القرار.
ليس «التسامح» بالطبع مجرد مسألة تشريع وتطبيقٍ للقوانين بل يجب ممارسته في الحياة اليومية. ما يعنيه التسامح هو أن المؤمنين بعقيدة معينةً والمؤمنين بغيرها، بل وغير المؤمنين أصلاً، يجب أن يتبادلوا تقبل حق الآخرين بما آمنوا به وما يمارسونه وبطرق الحياة التي يعيشها الآخرون ويرفضونها هم، كما ينبغي دعم هذا التقبل بأسس مشتركة من الاحترام المتبادل على نحو يفضي إلى التغلب على التنافرات البغيضة. يجب عدم الخلط بين هذا الاحترام المطلوب مع تقدير لثقافة وطريقة عيش غريبين عنا أو عقائد وممارسات قد لا نعتقدها شخصيا[19]،إذ لا نحتاج إلى «التسامح» إلا مع نظرات إلى العالم نعتبرها خاطئة أو في مواجهة عادات لا نحبها، ولذلك فإن أساس الاحترام ليس فقط «التقدير» لهذا الشيء أو لهذه الخاصية أو لهذا الإنجاز بل هو وعي وواقع أن الآخر عضو في مجتمع شمولي يتألف من مواطنين لهم حقوق متساوية، وحيث إنّ كل مواطن مسؤول أمام جميع الآخرين عن مساهمته السياسية[20].
طبعاً يسهل قول هذه الأمور أكثر مما يسهل فعلها، فالشمول المتساوي لجميع المواطنين في مجتمع مدني لا يتطلب ثقافة سياسية تحفظ الخلط بين طرق التعامل الليبرالية وعدم الاكتراث فحسب، بل لا يمكن تحقيق الشمول إلا إذا تحققت مجموعة من الشروط الملموسة مثل التكامل التام والتربية التعويضية في روضات الأطفال والمدارس والجامعات والفرص المتساوية للوصول إلى سوق اليد العاملة. غير أن ما هو مهم بالنسبة لي هو بالدرجة الأولى هو صورة مجتمع مدني شمولي تكمِّل فيه المواطنة المتساوية والفروقات الثقافية بعضها بعضاً بالطريقة الصحيحة.
(4)ـ الصراع الثقافي بين التعددية الثقافية المتطرفة والعلمانية المتشددة: خلفية الافتراضات الفلسفية
للإجابة عن سؤال: كيف علينا أن نفهم أنفسنا كأعضاء في مجتمع «ما بعد علماني»؟ يمكننا أن نلتقط إشاراتنا من هاتين العمليتين المتشابكتين. الأطراف الأيديولوجية التي تواجه بعضها بعضاً في النقاشات العامة اليوم، تكاد لا تلاحظ كيف تناسبُ كلٌّ من العمليتين الأخرى. جهة التعدديني أنصار التعدّد الثقافي ينادون بحماية الهويات المجتمعة ويتهمون الطرف الآخر بتمثيل «أصولية تنويرية»؛ بينما يصر العلمانيون على إدماج الأقليات بدون هوادة في الإطار السياسي الموجود متهمين خصومهم بـ«خيانة تعددية» للقيم الجوهرية التي يقوم عليها التنوير. في بعض الدول الأوروبية يلعب طرف ثالث دوراً كبيراً في هذه المعارك. مع وجود مؤسسة كنسية وراءهم يعتنق المسيحيون المحافظون ما يسمى «ثقافة التنوير» تحت عنوان «القيم الغربية» التي يلتزمون بها وهم بذلك ينفون أي توجه عالمي لمبادئ التنوير. لكن هذا التنكر يرسم خطوطاً رمادية على الحدود الفاصلة بين الخصمين الحقيقييْن اللذيْن ذكرتهما وهما اللذيْن سأركز على مواقفهما.
التعدديون (أنصار التعدد الثقافي)
يسعى «التعدديون أنصار التعدد الثقافي» لتعديل غير متحيز للنظام القانوني خصوصاً لجهة حق الأقليات الثقافية بمعاملة متساوية، وهم يحذرون من سياسة الاستيعاب الإجباري التي تؤدي إلى اقتلاع هذه الأقليات من أصولها. ما يقوله التعدديون هو أن الدولة العلمانية يجب أن لا تضغط باتجاه إدراج الأقليات في مجتمع قائم على المساواة بين المواطنين بطريقة تمزق الأفراد بعيداً عن السياق الذي يشكل هوياتهم. من وجهة النظر المجتمعية هذه، قد تؤدي سياسة تكامل تجريدية إلى إخضاع الأقليات إلى ما تفرضه ثقافة الأكثرية. في وقتنا الحاضر تجري الرياح على غير ما تشتهي سفن التعدديين: «ليس الأكاديميون فقط، بل السياسيون والصحافيون كلهم يعتبرون التنوير قلعة يجب الدفاع عنها أمام التطرف الإسلامي»[21]. إن ردة الفعل هذه بدورها تبرز الانتقادات الموجهة إلى «الأصولية التنويرية»، فتيموثي غارتون آش على سبيل المثال وفي مجلة «New York Review of Books» (عدد 5 تشرين الأول 2006) يقول أن «جميع النساء المسلمات يعارضن تمام المعارضة الطريقة التي تنسب فيها هيرسي على (الممثلة في فيلم ثيو فان غوغ) القمع الذي مرت به إلى الإسلام بدلاً من الثقافات الوطنية والإقليمية والقبلية»[22] في الواقع لا يمكننا الوصول إلى تكامل المهاجرين المسلمين مع المجتمع الغربي رغماً عن دينهم بل فقط بالتوافق مع دينهم.
من ناحية أخرى يسعى العلمانيون إلى شمول «أعمى الألوان» لكل المواطنين بغض النظر عن أصولهم وخلفياتهم الدينية. يحذر هذا الجانب من تبعات «سياسات الهويات» التي تذهب بعيداً في مطالبها بتكييف النظام القانوني مع مطالب الحفاظ على الصفات المميزة للثقافات الأقلوية. من وجهة النظر العلمانية هذه يجب أن يظل الدين أمراً خاصاً ولهذا يرفض باسكال بروكنر «الحقوق الثقافية» لأن هذه ستخلق مجتمعات متوازية أو «فرق اجتماعية صغيرة منعزلة على نفسها تلتزم كل واحدة منها بمعايير مختلفة عن الأخرى»[23]. يدين بروكنر التعددية الثقافية بشدة قائلاً أنها «عنصرية معادية للعنصرية» مع أن أكثر من ينطبق عليهم هجومه هم التعدديون المتطرفون الذين يدعون إلى إدخال حقوق ثقافية جماعية، فحماية كهذه للمجموعة ككل ستحد في الواقع من حق أفراد هذه المجموعات في اختيار طريقة الحياة التي يريدونها[24].
وهكذا يدّعي كلٌّ من الطرفين أنه يحارب للغاية نفسها: مجتمع ليبرالي يتيح المجال لمواطنين مستقلين التعايش بطريقة متحضرة، ولكنهما في حالة من الصراع الثقافي الذي يبرز إلى السطح في كل مناسبة سياسية ومع أنه من الواضح أن كلاًّ من الجانبين متشابك مع الآخر، إلا أن الصراع المرير بينهما يتعلق بما إذا كان الحفاظ على الهوية الحضارية يجب أن يتم قبل فرض المواطنة المشتركة أم بالعكس. يتصاعد النقاش إلى مستوى من الحدة شبه الدينية نتيجة الخلفيات والأسس الفلسفية التي ينسبها كلٌّ من الفريقين إلى خصمه، سواء كانت هذه النسبة صحيحة أم خاطئة. لقد أبدى إيان بوروما ملاحظة مثيرة للاهتمام وهي أنه بعد 11 سبتمبر خرج الجدل الأكاديمي حول التنوير والحداثة وما بعد الحداثة من الجامعات وطفا في الأسواق[25]! فلقد اندلع هذا الجدال بسبب النسبوية الثقافية التي يعززها انتقاد العقل من ناحية والعلمانية المتزمتة التي تدفع باتجاه انتقاد الدين من ناحية أخرى.
تعتمد القراءة الراديكالية للتعددية الثقافية على فكرة «عدم وجود مقاييس مشتركة» لوجهات النظر والخطابات العامة والمشاريع التصورية. من وجهة النظر السياقية هذه، تبدو أساليب الحياة المختلفة ثقافياً كأكوان منغلقة لغويّاً ينغلق كل واحد منهاعلى معاييره للعقلانية ثم يدَّعي التفرّد بالحقيقة. ولذلك يفترض بكل ثقافة أن تحتفظ ببقائها لنفسها ككلٍّ مُغْلقٍ لغويّاً ومنقطعٍ عن الحوار مع الثقافات الأخرى. وعدا بعض حلول الوسط غير المستقرة فإن الاستسلام أو التحوّل هما البديلان الوحيدان لإنهاء الصراع مع هكذا ثقافات. إذا أخذنا هذه الفرضية فالتعدديون الراديكاليون لا يقدرون على الوصول إلى أي ادعاء كوني للصحة والحق مثل القول بعمومية وكونية الديموقراطية وحقوق الإنسان. لا شيء، سوى قوة إمبرياليّة، قادرة على إدعاء أنه يملك ثقافة مهيمنة. هذه القراءة النسبوية تحرم نفسها من غير أن تشعر، من المقاييس النقدية للمعاملة غير المتساوية للأقليات الثقافية. في مجتمعاتنا ما بعد الاستعمارية، والحاوية للكثير من المهاجرين، يضرب التمييز ضد الأقليات بجذوره في الميول الثقافية السائدة، ما يؤدي إلى تطبيق تمييزي للمبادئ الدستورية الموجودة. ما لم يأخذ أحدنا زرعاً كلياً لهذه المبادئ بشكل جدي، فلن يكون لدينا إذن أي وجهة نظر تمكننا من كشف حقيقة كون تأويل الدستور مقيد بهذه الميول والانحيازات التي تحددها ثقافة الغالبية. لا أحتاج إلى الخوض في قضية فلسفية عن سبب كون النسبوية الثقافية المستمدة من نقد ما بعد حداثي للعقل هي موقف لا يمكن الدفاع عنه[26]، ولكن الموقف بحد ذاته مثير للاهتمام لسبب آخر: هو يقدم نفسه لاستنتاج سياسي مضاد ويُفَسَرُ تغيراً فريداً من نوعه في الجوانب السياسية.
من المثير للسخرية أن المسيحيين المتشددين المحاربين لـ«الأصولية الإسلامية» يشاركون التعدديين في هذه النسبوية نفسها بينما يدعون بفخر أن ثقافة التنوير هي إما جزء من تقاليد الكاثوليكية أو نتيجة من نتائج البروتستنتية. من ناحية أخرى فإن هؤلاء المحافظين يشتركون في هذه النظرة مع مجموعة غريبة للغاية بما أن بعض اليساريين «التعدديين» السابقين تحولوا إلى صقور ليبراليين مولعين بالقتال.منذ ذلك الوقت انضم هؤلاء إلى صفوف المحافظين الجدد أصحاب «الأصولية التنويرية»، وفي هذه المعركة ضد «الأصولية الإسلامية» اعتمدوا ثقافة التنوير التي حاربوها يوماً ما باسم «حضارتهم الغربية» لأنهم كانوا يرفضون التوجه الكوني من الأصل: «لقد أصبح التنوير جذاباً تماماً لأن قيمه ليست كلية وعالمية فحسب، ولكن لأنها «قيمنا»، أي قيم غربية أوروبية»[27].
لا نحتاج لأن نقول أن هذا المنهج لا يشير إلى المفكرين العلمانيين ذوي الأصول الفرنسية والذين توجه إليهم المصطلح الازدرائي: «الأصولية التنويرية» في الأصل. ولكن ومرة أخرى فإن فرضية خلفية فلسفية أخرى تفسر عامل التشدد الموجود لدى حرس التنوير هؤلاء من ذوي النزعة الكونية العالمية . من وجهة نظرهم، على الدين أن ينسحب من الصعيد السياسي إلى الحياة الشخصية. إذ من الناحية المعرفية تم التغلب عليه تاريخيّاً «كتكوين عقلي» من الماضي (كتكوين من الأشباح كما يقول هيغل). لكن في ضوء دستور ليبرالي يجب التسامح مع الدين مع أنه يجب عليه يجب أن لا يدعي أنه يقدم الأساس الثقافي لأي عقل حداثي بكل معنى الكلمة.
(5)ـ عملية التعلم التكميلية: العقليات الدينية والعلمانية
لا يعتمد الموقف العلماني على كيف يحكم أحدنا على الاقتراح التجريبي القائل بأن المواطنين المتدينين ومجتمعاتهم العقائدية لا يزال بإمكانهم أن يقدموا مساهمة فعالة للرأي العام السياسي وتشكيل الإرادات حتى في المجتمعات المعلمنة إلى حد كبير. بغض النظر عما إذا كنا نعتبر أن استخدام مصطلح «ما بعد حداثي» مناسب لوصف مجتمعات أوروبا الغربية أم لا فلا يزال الواحد منا مقتنعاً، ولأسباب فلسفية، أن المجتمعات الدينية تدين بتأثيرها المستمر للبقاء العنيد لطرق تفكير ما قبل حداثية. حقيقة تطلب تفسيراً لها على أساس تجريبي. من وجهة النظر العلمانية فإن أصول الإيمان تتعرض للتكذيب على أساس علمي ومن هذا الجانب فإن القائل بأن وضع التقاليد الدينية لا يستحق أي قلق جدي أمر يثير مواقف إنفعاليّة ضد أي أشخاص متدينين ومؤسسات دينية لا يزالون يدعون أهمية لدورهم في الحياة العامة.
بين «العلماني» و «العلماني النزعة»..
أنا أميز هنا ما بين مصطلحي «علماني» (secular) و«علماني النزعة» (secularist)، عدا الموقف غير المكترث لشخص علماني أو غير مؤمن قد يرتبط بشكل «لا أدري» بزعم الأديان كونَها حقائقَ صحيحة، يميل الشخص «العلماني النزعة» إلى اعتماد موقف انفعالي معاد وواضح حيال العقائد الدينية التي تؤثر على عموم الناس رغم عدم إمكانية تبريرها علميّاً. في يومنا هذا تنبني العلمانية على نزعة طبائعية شديدة، أي على افتراضات علمية فحسب، وبخلاف الحال في النسبوية الثقافية ليس علي أن أعلق على الخلفية الفلسفية[28]. ما يهمني في السياق الحالي هو السؤال عما إذا لو كُتِبَ لتقليل «العلماني النزعة| لقيمة الدين أن ينتشر على نطاق واسع بين المواطنين، هل سيكون ذلك متوافقاً بأي شكل من الأشكال مع التوازن ما بعد العلماني، بين المواطنة المشتركة والفروقات الثقافية.. وبالتالي عما إذا العقلية «العلماني النزعة» ستكون في عدد كبير من المواطنين فاتحة لشهية تحديد معايير فهم النفس في المجتمع الما بعد علماني كما هو الحال في الأصولية بالنسبة للجماهير المتدينة؟ يطال هذا السؤال جذوراً أعمق للشعور الحالي بالضيق من تلك التي تصل إليها الدراما «التعددية». ما هو نوع المشكلة التي نواجهها؟.
من النقاط التي تسجل لصالح «العلمانيِيّي النزعة» أنهم يصرون على أنه لا غنى عن شمول كل المواطنين كمتساوين في مجتمع مدني. ولأن النظام الديموقراطي لا يمكن فرضه ببساطة على أناس هم في الواقع يشكلون المرجعيات فيه، فإن الدولة الدستورية تواجه مواطنيها بتوقعات تتطلب منهم أخلاقيات مواطنة تذهب أبعد من مجرد اتباع القانون. المواطنون والمجتمعات المرتبطة بالدين لا يجب أن يتكيفوا بشكل سطحي مع النظام الدستوري، بل ينتظر منهم زرع مبادئ التشريع العلماني في القواعد المؤسسة لعقيدتهم[29]. من المعلوم أن الكنيسة الكاثوليكية علقت أعلامها على صارية الليبرالية والديموقراطية في المجمع الفاتيكاني الثاني عام 1965. وفي ألمانيا لم تتصرف الكنائس البروتستانتية بشكل مختلف. لا يزال أمام الكثير من المجتمعات الإسلامية عملية تعلّم. وبكل تأكيد فهناك في العالم الإسلامي تنامٍ للنظرة القائلة أن مُقاربة تفسيريّة ـ تاريخيّة للقرآن مطلوبة. ولكن النقاش حول الإسلام الأوروبي تجعلنا نعي مرة أخرى حقيقة أن المجتمعات الدينية هي التي يجب أن تقرر ما الذي يقبلون في عقيدتهم المصححة باعتباره «العقيدة الحقّة»[30].
عندما نفكر في التحول من الشكل التقليدي للوعي الديني، إلى شكل أكثر مرونة فما يبرز للتفكير هو نموذج ما بعد الإصلاح البروتستانتي من حيث التغير في طرق التعامل المعرفية الذي جرى في المجتمعات المسيحية في الغرب. ولكن لا توجد «وصفة» للتغير في العقلية، ولا يمكن التلاعب بها سياسيّاً، أو أن تُفرض بالقانون ولا تكون في أفضل تطبيق لها إلا نتيجة عملية تعلّم، ولا تظهر كعملية تعلّم إلا من وجهة نظر فهم علماني للنفس في إطار الحداثة. من حيث ما تتطلبه أخلاقيات المواطنة الديموقراطية في إطار العقليات نواجه الحدود القصوى للنظرية السياسية المعيارية التي مُكِّن لها فقط أن تبرر الحقوق والواجبات. لا يمكننا سوى رعاية عمليات التعلم لا فرضها أخلاقيّاً أو قانونيّاً[31].
ولكن هل علينا أن ننظر إلى طريق مسدودة من الجانب الآخر أيضاً؟ هل عملية التعلم هذه ضرورية فقط في جانب التقليدية الدينية وليس من جانب العلمانية أيضاً؟ ألا تفرض التوقعات المعيارية نفسُها التي تحكم مجتمعاً مدنيّاً شموليّاً تحريماً على ما يقوم بها «علمانيو النزعة» من تقليل لقيمة الدين كما تحرِّم مثلاً الرفض الديني لحقوق مساوية للمرأة؟ إن عملية تعلم مكملة مطلوبة بكل تأكيد من الجانب العلماني إلا إذا خلطنا بين حيادية علمانية الدولة أمام نظرات دينية متنافسة للعالم وبين تطهير المحيط العام السياسي من جميع المساهمات الدينية.
لا شك بأن مجال الدولة التي تتحكم بكل وسائل الإكراه القانوني يجب أن يفتح أمام الصراع بين المجتمعات الدينية المختلفة، وإلا ستصبح الحكومة الذراع التنفيذية لغالبية دينية تفرض إرادتها على معارضيها. في دولة دستورية جميع المقاييس التي يمكن فرضها بالقانون يجب أن تتشكل وتبرر بشكل عام بلغة يفهمها جميع المواطنين. لكن حيادية الدولة لا تمنع التعبير الديني في المحيط السياسي العام طالما تظل عملية اتخاذ القرارات على المستويات البرلمانية والقانونية والحكومية والإدارية منفصلة بشكل واضح عن التدفق غير الرسمي للتواصل السياسي، وتشكيل الآراء في الإطار العريض الأوسع للمواطنين. يدعو «فصل الكنيسة عن الدولة» إلى فلترة بين هذين الميدانين ـ أي مصفاة لا تسمح إلا بمرور المساهمات «المترجمة» إلى العلمانية من بين ضجيج الأصوات المختلفة في الميدان العام فضلاً عن الأجندات الرسمية لمؤسسات الدولة.
ثمة سببان لصالح الممارسة الليبرالية هذه: الأول أنه يجب إتاحة المجال أمام الأشخاص غير الراغبين في ولا القادرين على تقسيم قناعاتهم الأخلاقية ومصطلحاتهم بين الخطوط الدينية واللادينية للمشاركة في تشكيل الإرادات السياسية حتى لو استخدموا في ذلك لغة دينية. الثاني أنه يجب على الدولة الديموقراطية أن لا تقلل بشكل استباقي تعقيد وتعدد أصواتها العامة لأنها لا تعلم حينئذ ما إذا كانت تقطع عن المجتمع مصادر نادرة لتوليد المعاني وتشكيل الهويات. خصوصاً حين يتعلق الأمر بالعلاقات الاجتماعية المعرضة للخطر، فالتقاليد الدينية لديها القوة لتشكيل الحساسيات الأخلاقية والمدارك الحدسية المتشددة.
إن ما يعرض العلمانية للضغط هو التوقع أنّ المواطنين العلمانيين في مجتمع مدني وفي المحيط السياسي العام يجب أن يكونوا قادرين على مواجهة إخوتهم في المواطنة كمساوين لهم. ولكن إذا حدثت هذه المواجهة مع المواطنين المتدينين ـ مع التحفظ على أن هؤلاء الأخيرين يجب أن لا ينظر إليهم بجدية على أنهم من أهل هذا العصر بسبب عقليتهم المتدينة ـ فسوف نرجع إلى مستوى التسوية المؤقتة. وبذلك ننهي أسس التقدير المتبادل التي لا غنى للمواطنة المشتركة عنها. يتوقع من المواطنين العلمانيين من باب أولى أن لا يستبعدوا أنهم قد يكتشفون في العبارات الدينية محتويات لغوية وحدساً شخصيّاً مستتراً يمكن ترجمته إلى الخطاب العلماني العام. فإذا استمر الأمر على ما يرام من الجانبين فإن على كل منهما ومن حيث وجهة نظره، أن يتقبل تفسيراً للعلاقة بين الإيمان والمعرفة تمكن الجميع من العيش سوية بطريقة يعكس فيها الجميع قيم الجميع.

[1]* ـ فيلسوف ألماني معاصر.
ـ قُدِّم النص ضمن حلقات اللقاء السنوي الذي يقام في جامعة تيلبرغ، هولندا، في 15 آذار(مارس) 2007.
ـ العنوان الأصلي للمقال: ?A “post-secular” society – what does that mean
ـ نقلاً عن:
The web magazine for all the tribes of the world, Reset- Dialogues on Civilizations (Reset-DoC) is an italian mon-profit Association (since 2004) based in Rome .
- تعريب: د. ريم اليوسف، منسقة دائرة الترجمة في مركز دلتا للأبحاث المعمّقة.
[2]- D. Pollack, Säkularisierung – ein moderner Mythos? (Tübingen: Mohr Siebeck, 2003)
[3]- H. Joas, “Gesellschaft, Staat und Religion,” in: H. Joas (ed.), Säkularisierung und die Weltreligionen, (Frankfurt/M.: Fischer, 2007), pp. 9 - 43.
[4]- J. Hadden, “Towards desacralizing secularization theory,” in: Social Force, vol. 65, 1987, pp. 587 611.
[5]- H. Joas, op. cit., pp. 9 - 43 .
[6]- P.L. Berger, in: Berger (ed.), The Desecularization of the World: A Global Overview, (Grand Rapids, Michigan, 2005), pp. 1 -18.
[7]- J. Gentz, “Die religiöse Lage in Ostasien,” in: Joas (2007), pp. 35875
[8]- cf. the essays by H.G. Kippenberg and H. v. Stietencron in Joas (2007), pp. 465 - 507 and pp. 194 - 223
[9]- P. Norris & R. Ingelhart, Sacred and Secular. Religion and Politics Worldwide,(Cambridge: Cambridge University Press, 2004)
[10]- J. Casanova, Public Religions in the Modern World, (Chicago, 1994)
[11]- J. Habermas, Glauben und Wissen (Frankfurt: special edition of edition Suhrkamp, 2001, p. 13
[12]- Francis Schüssler Fiorenza, The Church as a Community of Interpretation, in: D. Browning & F. Schüssler Fiorenza (eds.), Habermas, Modernity, and Public Theology, (New York: Crossroad, 1992), pp. 66 - 91.
[13]- G. Mak, Der Mord an Theo van Gogh. Geschichte einer moralischen Panik, (Frankfurt/Main: Suhrkamp, 2005).
[14]- Th. Chervel & A. Seeliger (ed.), Islam in Europa, (Frankfurt/Main: Suhrkamp, 2007).
[15] ـ M. de Moor, “Alarmglocken, die am Herzen hängen,” in: Chervel & Seeliger (2007), p. 211.
[16]ـ نسبة إلى اللاهوتي البروتستانتي الفرنسي جان كالفن.
[17]ـ لأجل الوقوف على تاريخ المسألة وتحليلها المنهجي أنظر في هذه الدراسة الشاملة:
R. Forst, Toleranz im Konflikt, (Frankfurt/Main: Suhrkamp, 2003)
[18] ـ J. Habermas, “Religiöse Toleranz als Schrittmacher kultureller Rechte,” in: my Zwischen Naturalismus und Religion, (Frankfurt/Main: Suhrkamp, 2005), pp. 258 - 78.
[19]ـ أنظر مناظرتي مع سي إتش تايلور:
Multikulturalismus und die Politik der Anerkennung, (Frankfurt/Main: Fischer, 1993), in: J. Habermas, “Kampf um Anerkennung im demokratischen Rechtsstaat,” in: my Die Einbeziehung des Anderen, (Frankfurt/Main: Suhrkamp, 1996), pp. 237 - 76.
[20] ـ بالنسبة للاستخدام العلني للعقل أنظر: J. Rawls, Politischer Liberalismus (Suhrkamp), Frankfurt/Main 1998, 312366
[21]- ( I. Buruma, Murder in Amsterdam: The Death of Theo Van Gogh and the Limits of Tolerance (New York: Atlantic Books, 2006) (Carl Hanser Verlag), München 2006, 34.
[22]- Timothy Garton Ash in: Chervel & Seeliger (2007), 45f.
[23]- P. Bruckner in: Chervel,Seeliger (2007), 67.
[24]- P. Bruckner, op. cit., p.62:
«تضمن التعددية الثقافية المعاملة نفسها لكل المجتمعات ولكن ليس للأشخاص الذين يؤلفون هذه المجتمعات لأنها تحرمهم حرية التخلي عن تراثهم». أنظر: B. Barry, Culture and Equality, (Cambridge UK: Polity, 2001); and J. Habermas, “Kulturelle Gleichbehandlung und die Grenzen des Postmodernen Liberalismus,” in my Zwischen Naturalismus und Religion, (Frankfurt/Main: Suhrkamp, 2005), pp. 279-323
[25]- Buruma (2006), 34.
[26]ـ النقد الحاسم لفكرة «عدم وجود مقاييس مشتركة» يرجع إلى د. دافيدسون في خطابه الشهير للرئيس عام 1973: «في فكرة المشروع التصوري نفسها»
“On the very Idea of a Conceptual Scheme (deutsch: Was ist eigentlich ein Begriffsschema? in: D. Davidson & R. Rorty, Wozu Wahrheit?, (Frankfurt/Main: Suhrkamp, 2005, pp. 726).
[27]أ بوروما (2006) ص. 34. يصف بوروما دوافع المتحولين اليساريين هؤلاء بالشكل التالي (ص 123 وما بعد): «[يقول هؤلاء اليساريون السابقون]: المسلمون هم من أفسد الحفلة إذْ جاؤوا إليها من غير أن يدعوهم أحد... توجد حدود للتسامح حتى بين التقدميين في هولندا. من السهل أن تتسامح مع أناس تثق بهم غريزياً وتفهم نكاتهم والذين يشاركون طريقتك في السخرية... ولكن يصعب تطبيق هذا المبدإ على أناس يعيشون وسطنا نجد طريقة عيشهم مزعجة كما يجدون هم طريقة عيشنا مزعجة...»
[28]- See the critique in my essays on H.P. Krüher (ed.), Hirn als Subjekt? Philosophische Grenzfragen der Neurobiologie (Berlin: Akademie-Verlag, 2007), pp. 101 - 120 and pp. 263 - 304.
[29]ـ إن هذه هي القضية الأساسية بالنسبة لجون راولز حين يدعو لإجماع متداخل بين المجموعات التي تمتلك نظرات مختلفة إلى العالم للوصول إلى تقبل المادة المعيارية للنظام الدستوري. Rawls (1998), pp. 219 64 .
[30]- (I. Buruma, “Wer ist Tariq Ramadan,” in: Chervel & Seeliger (2007), pp. 88- 110; B. Tibi, “Der Euro-Islam als Brücke zwischen Islam und Europa,” ibid., pp. 183 - 99.
[31]- Zum folgenden J. Habermas, Religion in der Öffentlichkeit, in: ders.(2005),119 -154.