البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

العلمانية والدمج

الباحث :  كازوو ماسودا Kazua Masuda
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  2
السنة :  السنة الثانية - شتاء 2016 م / 1437 هـ
تاريخ إضافة البحث :  December / 26 / 2015
عدد زيارات البحث :  1257
تحميل  ( 292.654 KB )
العلمانية والدمج
كازوو ماسودا Kazua Masuda [1] M [*]
لعلّ الفكرة الأكثر مدعاة للاهتمام في هذه المقالة هي تلك التي ركز عليها الباحث الياباني كازوو ماسودا وتتصل بفقدان العلمانية لروحها، عندما واجهت تحديات حضور الإسلام في العالم المعاصر، ويشير في هذا الإطار إلى قضية الحجاب في مواجهة أطروحة العلمنة الشاملة. وعلى الرغم من تحفظنا على عدد من النقاط التي تطرق إليها في مناقشة هذه القضية إلا أن أهمية هذه المقالة هي في تشريحها للسجالات الدائرة في المجتمع الفرنسي حول إشكالية العلاقة بين العلمانية وعمليات الدمج القهرية حيال الجاليات المسلمة في فرنسا.
المحرر
منذ سنوات قليلة، تشارك جان بوبيرو، الذي نجتمع حوله اليوم، مع عالم الاجتماع ميشال فييفيوركا في تحرير كتابٍ جمعا فيه الأوراق البحثية المقدّمة في إطار أعمال مؤتمر أوكسير السنوي حيث تلتقي كل عام نخبة من الشخصيات الفرنسية والأجنبية في هذه المدينة الواقعة في منطقة بورغوني لمناقشة مواضيع ذات أهمية في العالم المعاصر. عام 2004، تمحور الموضوع حول خطاب إميل كومب الذي ألقاه منذ 100 سنة عندما كان رئيساً لمجلس الوزراء الفرنسي حينذاك. في الرابع من أيلول 1904، تحدّث كومب عن فصل الكنيسة والدولة بشكلٍ جسّد مسبقاً قانون 9 كانون الأول 1905 الذي حدّد شروط هذا الفصل. وقد تم نشر أعمال مؤتمر أوكسير لعام 2004 في السنة التالية تحت عنوان «من الفصل بين الكنسية والدولة إلى مستقبل العلمانية»[1] سأنطلق من مقدّمة هذا العمل الذي يستهلّه ميشال فييفيوركا بالتحدّث عن «حقبة جديدة».
عام 1984، شهدت فرنسا تظاهرة ضخمة نظّمها مناصرو المدرسة المُسمّاة «الحرّة» أي الخاصّة. وكانت المظاهرة موجّهة ضد الحكومة الإشتراكية حينها التي أرادت إعادة تنظيم التعليم ضمن قطاع عام موحّد وعلماني. حسب فييفيوركا، «كان النزاع، فعليّاً، قائماً بين خط اليسار العلماني والجمهوري من جهة واليمين الطائفي أو الكاثوليكي من جهة ثانية»[2]. انطلاقاً من هذا المنظار، لا يبدو أنّ الكثير من الأمور تغيّرت منذ قرن مضى على الرغم من صدور قانون سنة 1905م حول الفصل بين الكنيسة والدولة. كانت فرنسا لا تزال منقسمة كما كانت تقليدياً حول رهاناتٍ سياسية ودينية مترسّخة منذ القرن التاسع عشر.
عام 1989م، بعد خمس سنوات بالكاد، انفجرت مسألة «الحجاب». وقد أدّى ذلك، حسب فييفيوركا، إلى تبدّل عميق في المشهد الكلاسيكي للنضالات من أجل العلمانية. ها هي «المرحلة الجديدة» تحلّ إذاً من دون أن يكون أحدٌ متأهباً لمواجهتها، الأمر الذي ولّد التباساً سياسيّاً وإيديولوجيّاً. إذ إنّ المواقف المؤيدة أو المعارضة لمنع الحجاب في المدارس الرسمية أوجدت انشقاقات في داخل القوى المتشكّلة. فلم يعد اليمين واليسار في المواجهة، بل برزت مواقف بالغة التنوّع داخل الأحزاب السياسية. وهذا ما ينهي به فييفيوركا الفقرة الأولى من مقدّمته. «فجأة، وجب علينا أن ندرك أنّ المسألة الكبرى لم تعد فصل الكنيسة، لا سيما الكنيسة الكاثوليكية، عن الدولة، بل باتت الدمج في المجتمع الفرنسي ومؤسساته لشعبٍ ولديانته: الإسلام»[3] بنظره، أو بنظر الفرنسيين، أصبح دمج الإسلام شرطاً لا غنى عنه للحفاظ على العلمانية.
2 ـ الحجاب الإسلامي والإعلان العالمي
سنة 1989، تركّز كامل اهتمام الرأي العام الفرنسي على قطعة قماش تغطّي رأس الشابات المسلمات في المدارس. إنّ حسب الخطاب العام أصبح إختفاء هذه القطعة، الشرطَ الوحيد لدمج السكان المسلمين. عند إحالة القضية إلى مجلس الدولة، أصدر المجلس رأياً يسمح بارتداء الحجاب «الذي لا يجذب الانتباه» في المدرسة. لكن بعد بداية الانتفاضة الثانية (في فلسطين) في أيلول 2000، ثم هجمات 11 أيلول 2001، تفجّرت مسألة الحجاب من جديد ما أدى إلى إقرار قانون 15 آذار 2004 المتعلق بمنع الرموز الدينية ـ «الظاهرة» هذه المرة ـ في المدارس. وقد انطوى هذا التغيير الدقيق في المفردات على عواقب جوهرية حيث إنّه لم تعد الرغبة في إظهار الحجاب هي موضع العقاب بل ارتداؤه البحت والبسيط. وتفيد التقارير أنّ تطبيق القانون لم يتسبّب بالكثير من المشاكل كما كنا نخشى، غير أنّ المزاعم المعلَنة لهذا القانون كانت تعزيز الدمج عبر تخليص الفتيات من كافة أشكال القيود والتمييز التي هنّ عرضة لها. أما من تناقض في هذه الفكرة بالذات؟ هذا ما يراه الفيلسوف إتيان باليبار حين يقول: «... نزعم الدفاع عن القاصرات وحمايتهن من التزمّت الديني الذي تشكّل الجنسوية (Le sexisme) عنصراً جوهرياً منه عبر عزلهن، أي عبر جعلهن يتحمّلن عقاب الظلم الذي هنّ «ضحاياه» وإرسالهن إلى محيط مجتمعي تسوده، لسخرية القدر، هذه الجنسوية الدينية.»[4]
نفهم آنذاك لماذا يبقى هذا القانون بعيداً عن تحقيق أي إجماع. ويلحظ بوبيرو في هذا الصدد: «إذا ما وجدت الفتيات مدافعين عنهن وإذا ما حافظت مسألة الحجاب على مدى 15 عاماً في فرنسا على أهمية غير معهودة في غيرها من الدول الديمقراطية، فذلك إنّ الفرنسيين منقسمون انقساماً عميقاً.»[5] تستمر هذه الضائقة في فرنسا كما في الخارج، لا سيما لدى من بنوا في أذهانهم فكرة سامية ونبيلة عن الجمهورية الفرنسية. هل من معلومات تفيد بزيادة ملحوظة في ارتداء الحجاب بين 1989 و2004؟ لا تدل الإحصاءات الرسمية على أي أمر من هذا القبيل. إنّ عثورنا في المكتبة على كتاب مثل «أراضي الجمهورية المفقودة» (Les territoires perdus de la République) مرفقاً بفخر بشريط يقدّمه على أنه «الكتاب الذي قلب الجدل حول العلمانية»، يشير إلى الدور المهم الذي تؤديه دور النشر ووسائل الإعلام التي هي ، غالباً، يغويها البيع[6] على أي حال، فقد جال خبر اعتماد القانون أنحاء العالم أجمع، مثيراً في أغلب الأحيان التساؤلات وخيبات الأمل وحتى السخط. مذّاك، ساهم عدد من العوامل مثل النقاشات حول نشر الرسوم الكاريكاتورية للنبي محمد وقانون 23 شباط 2005، الذي يتضمّن بنداً عن تعليم حسنات الاستعمار الفرنسي في المدارس، ناهيك عن رفض مجلس الدولة منحَ الجنسية إلى النساء المنقّبات، كل ذلك ساهم في إظهار فرنسا كدولة تتراجع عن حسن وفادتها كما كانت في الماضي.
كان جان بوبيرو عضواً في لجنة ستاسي المكلّفة بالتفكير في تطبيق مبدإ العلمانية والتي أسّس تقريرُها لوضع قانون منع الرموز الدينية. وفيما عارضت اللجنة ارتداء الحجاب في المدارس، حتى عندما لا يترافق بغرض تبشيري، كان جان بوبيرو الوحيد الذي لم يوافق على هذا الرأي، فأرسل كتاباً في 6 كانون الأول 2003 إلى أعضاء اللجنة وأهاب بهم إيجاد مخرج ملائم يرتكز على فكرة العلمانية السخية المناسبة لمجتمع تعددي، لأنّ العلمانية الصارمة والمتصلّبة قد تؤدي إلى عواقب مخالفة لنية المشرّعين وقد تشكّل عائقاً أمام علمنة المجتمع. وهنا يستشهد بوبيرو بحالة الاشتراكي الكبير جان جوريس في بداية القرن العشرين، الذي يدير ظهره للعلمانية «الكاملة» ويعتمد قانوناً يسمح بتطبيق أكثر مرونة للمبدإ على الرغم من تعرضه للانتقاد الحاد في ذلك الوقت من المعسكر العلماني الذي ينتمي إليه، فقد برهن التاريخ أن قرار جوريس كان محقّاً. لمَ لم يتم اعتماد قانون منصف شكلاً بل اختير التصلّب؟ كان تعليق جان بوبيرو كما يلي: «قد يكون القانون هو نفسَه بالنسبة للجميع بيد أنّ آثاره لا تكون متشابهة لأنها اختلفت بحسب الانتماء الاجتماعي.»[7] وبعد مضي قرن، من اعتماد قانون منع الرموز الدينية، لا يبدو أنّ هذا التباعد بين النية والآثار نجح في جذب اهتمام المشرّعين. ألم يكن قانونٌ منصفٌ شكلاً ليؤثر على نحو مختلف على مكوّنات المجتمع المتنوّعة؟ ألا ينتقد القانون شريحةً من المواطنين أو حتى يقصيها؟ هل تمكّنّا من تفادي فخ الكونية المجرّدة؟ أسئلة كثيرة ما فتئت تُطرَح حتى يومنا هذا.
اجتمعنا إذاً اليوم حول جان بوبيرو وكذلك حول نص هو «الإعلان العالمي حول العلمانية في القرن الحادي والعشرين.» بوبيرو امتنع عن تبني كتابة الإعلان، كما امتنع عن الإعلان أن العلمانية تشكّل «استثناءً فرنسيّاً» خلافاً لبعض الكُتّاب من بينهم مثلاً مارسيل غوشيه[8] إذ يرد في الإعلان: «ليست العلمانية إذاً حكراً على ثقافة أو أمة أو قارة ما» (المادة 7) ويمكن أن تحصل «عمليات علمنة مختلفة» (المادة 17) بالتالي، ليس الموضوع استبعاد مجتمعات معيّنة لافتقارهها إلى العلمانية بل على العكس تشجيع تطوّر «عناصر العلمانية» (المادة 5) التي تظهر في كل مجتمع. لن أطيل الحديث عن الأفكار الواردة في نص الإعلان، لكني كمواطن ليس بوسعي سوى تأييد هذا النص الذي يسعى إلى «تعزيز العيش المشترك المتناغم» (المقدمة) وتدعيم «ضرورة احترام تعدّدية القناعات الدينية والملحدة واللاأدرية والفلسفية» و«تعزيز التشاور الديمقراطي السلمي بِسُبُلٍ مختلفة».
ما غاب عن النقاشات حول العلمانية
وقّع على الإعلان «الجامعيون والمواطنون»، وقد اقتُرِح على الفئة الأولى (الجامعيين) على اعتباره «موضوع دراسة». سأحاول أن أصوغ، كجامعي، سؤالاً حول المسألة القديمة ذاتها، مسألة فصل الكنيسة عن الدولة. فالعلمانية لا تُختزَل فقط بهذا الفصل بل هي تفترضه. ويمكن قراءة هذا الشرط منذ المادة الثانية التي تنص على أنّ: «استقلالية الدولة تعني إذاً فصل القانون المدني عن المعايير الدينية أو الفلسفية المعيّنة. ويمكن للأديان والمجموعات الإيمانية المشاركة بحرية في نقاشات المجتمع المدني، إلا أنه لا يجوز لها بأي شكل من الأشكال توجيه هذا المجتمع وفرض عقائد أو سلوكيات معيّنة عليه.»
بالعودة إلى كتاب جان بوبيرو وميشال فييفيوركا، يقترح الكتاب سلسلة كاملة من المناقشات حول مختلف جوانب العلمانية عبر العالم. من بعض مواضيعه: العلمانية في الجزائر في ظل الاستعمار الفرنسي، بناء العلمانية في أميركا الإسبانية، ممارسة العلمانية المفتوحة في الولايات المتحدة، الفصل الخاطئ بين الدولة والدين في الصين، شروط دمج الإسلام في الإطار الجمهوري، العلمانية والقومية في تركيا، النموذج الإيطالي لـ «الانسجام» بين الكنيسة والدولة، حكم القانون في ألمانيا، ماضي ومستقبل العلمانية في الفضاء ما بعد السوفياتي، الحياد السياسي والحريات الدينية في المجتمع المتعدّد الكندي، ناهيك عن حالة اليابان التي ترد في الكتاب في مقال لهيروتاكا واتانابي بعنوان «العلاقات بين ديانة الشنتو وتحديث اليابان». يتطرّق الكتاب إذاً إلى المسيحية والإسلام وديانة بسيطة لا يتخطى مداها الشرق الأقصى. لكن ما يدعو للفضول هو تجاهل ديانات شبه القارة الهندية. كذلك لا يرد أي ذكر لليهودية باعتبارها ثالث الديانات السماوية. المسيحية، الممثَّلة خاصة بالكنيسة الكاثوليكية، هي من توجّب على العلمانية مواجهتها تاريخياً، أما الإسلام، فهو يطرح اليوم المشكلة الأكبر بالنسبة إلى العلمانية. لذا من الطبيعي تخصيص مساحة كبيرة لهاتين الديانتين. ماذا عن اليهودية؟ هل وجودها في فرنسا قليل لدرجة أنّها لا تستحق أن تُذكَر في المناقشات؟ هنا سؤال لا يمكن لأي شخص يراقب فرنسا من مسافة معينة إلا أن يطرحه. لكن بالنسبة إلى القارئ الفرنسي، هل يمر هذا الغياب مرور الكرام؟ أم سيبدو له كأنه نقص أو إغفال؟
في مقدّمة الكتاب الذي حرّره مع جان بوبيرو، يشير ميشال فييفيوركا إلى الإسلام على أنه العائق الأساسي أمام العلمانية. ويستعرض مختلف جوانب المشكلة مع الحرص على توازن العرض. في هذا العرض للمجتمع الفرنسي اليوم، لا ترد أي إشارة لليهودية إلا عبر جملة الكونت كليرمون تونير الشهيرة التي قالها عام 1789: «يجب أن نرفض كل ما يطلبه اليهود كأمة ونعطيهم كل ما يريدونه كأفراد.»[9] في مقالة أخرى في الكتاب بعنوان «هل ما زالت الجمهورية علمانية؟» لجان روبير راغاش، يؤتى على ذكر اليهودية وعلى شكرها، إذ إنها لا تثير أي مشكلة بالنسبة إلى العلمانية: «لطالما رضيت البروتستانتية واليهودية، وهما من الأقليات، بالفكر العلماني. لكن ها أنّ الضوء يُلقى على الإسلام الذي أصبح ثاني أكبر ديانة في فرنسا بمناسبة مسألة شكّكت في مبدإ العلمانية. وعلى الفور، تم نسب التقصير في المبادئ العلمانية إلى الإسلام...»[10] هل ما زالت اليهودية راضية بالفكر العلماني؟ أعترف أني لست متيقّناً من هذا بالطبع، ليس الموضوع نسب أزمة العلمانية إلى اليهودية وتحميلها مسؤوليتها. غير أنّ الواقع هو أنّ بعض المؤلفين اليهود يدلون بخطابات موسّعة ومستفيضة تشكّك في فكرة فصل الدولة عن الأديان.
اليهودية والعلمانية
سأضرب مثالاً واحداً كان أعطاه الفيلسوف إمانويل ليفيناس الذي اكتسب شهرة عالمية منذ الثمانينيات: «العدل كسبب لوجود الدولة، هذا هو الدين. هو يفترض علم العدل السامي. دولة إسرائيل إذاً تكون دينية بذكاء كتبها العظيمة التي لا نملك الحرية في نسيانها. تكون دينية بناء على الفعل نفسه الذي يفرضها كدولة. إما أن تكون دينية أو أن لا تكون أصْلاً.»[11] أليس هذا نفياً صريحاً للفصل بين الأديان والدولة؟ أدّى ذلك ببعض المفكّرين، اليهود أيضاً، إلى الاحتفاظ بالعامل الإثني والتساؤل حول الطبيعة «الديمقراطية» لهذه الدولة: «بما أن إسرائيل تعتبر نفسها «دولة الشعب اليهودي»، فهي ليس دولة دينية ولا ديمقراطية بل «إثنوقراطية»[12] باختصار هي أمة إثنية ماذا يعني ذلك؟ يمكننا التذكير في هذا الإطار بجملة دومينيك شنابر: «إن مفهوم الأمة الإثنية بحد ذاته متناقض في مصطلحاته»[13].
الدين والإثنية والأمة. مصطلح «يهودي» يعبر كل هذه السِّجلَّات، إذ لا يبدو أنه يعترف بأي فصل حاسم بينها. كيف يمكن لليهودية إذاً استيعاب النموذج الجمهوري والانسجام معه؟ منذ ثلاثين سنة، شهدنا «ظاهرة جماعوية يهودية لم يسبق لها مثيل في جمهورية فرنسا العجوز»[14]. من كتب هذه الكلمات هما مؤلفا كتاب بعنوان «نحن، يهود فرنسا». أحدهما المسؤول عن الإعلام في مجلة «Tribune juive» الشهرية التي تخاطب بالدرجة الأولى الجماعة اليهودية أما الثاني فهو رئيس التحرير في إذاعة «Radio J» وهي الإذاعة المحلية لهذه الجماعة ذاتها. هما إذاً يدركان تماماً عمّا يتحدثان. في موضع آخر في الكتاب نفسه، يؤكدان: «[...] القادة (اليهود) يتصرّفون كما لو أنهم خزّنوا جانباً بشكل نهائي في متجر الملحقات المثال الجمهوري القديم»[15]. يجمع الكتاب محاورات مع إثنتي عشر شخصية يهودية من بينها شخصية تزعم أنها تعيش بشكل علماني وتقول: «ما حدث للتو بسرعة خارقة هو الانتقال من فكرة الإسرائيلي إلى فكرة اليهودي. سواء شئنا أم أبينا، بات النموذج الجمهوري التقليدي خلفنا. لم يعد في بلدنا فرنسيون من طوائف متنوعة. الفصل بين الفضاء العام والخاص (كنا يهوداً في المنزل ومواطنين غير متمايزين في الخارج) صار بائداً»[16] .
إلى أي مدى الجمهورية الفرنسية هي أيضاً من صنع هؤلاء اليهود، «الذين جُنّوا بالجمهورية» حسب تعبير بيار بيرنباوم[17]، هؤلاء اليهود المناصرون المطلَقون للعلمانية والكونية وسلطان الجدارة؟ هل الفتور لديهم، أو على الأقل لدى قسم منهم، هو ما يشكّل أحد أسباب أزمة العلمانية وبالتالي أزمة الجمهورية؟ يبدو لي أنّ هذا السؤال لا يُطرَح في غالب الأحيان على الرغم من أهميته. على مستوى المؤسسات، لا سيما المدرسية منها، لا يثير اليهود مشاكل مثل مشكلة الحجاب، والسبب في ذلك يعود إلى أنّ المدارس اليهودية ليست بقليلة العدد. فبينما كانت تستقبل أقل من ألف تلميذ بعد الحرب، تجدها اليوم تستضيف نحو ثلاثين ألف طالب. هل إضفاء الطابع الجماعوي إلى التعليم مفيد للعلمانية، للدمج، للجمهورية؟ المواطن الجيد المندمج يبقى، حتى إشعار آخر، ليس فقط من يحافظ على السلم الأهلي عبر احترام القانون إنما أيضاً من يعرف كيفية تغليب القيم العالمية على نزعاته الخصوصية سواء كانت ذات طبيعة دينية أو إثنية. وبالنسبة إلى مسألة الحجاب، أذهب أحياناً إلى التساؤل ماذا إذا كان ليحدث لو أنّ الصيغة كانت نفسها، أي لو أنّ الأطفال اليهود اختاروا المدارس الرسمية... طبعاً، ليست هذه سوى فرضية لا يمكن التحقق منها. ذلك لا يمنع أن يتوجّب علينا يوماً ما التوقّف عند معنى وحجم إعادة تهويد الفرنسيين المتعدّدي الطوائف أو إعادة تهويد اليهودية ببساطة، وتحليل العواقب التي من الممكن أن تترتّب بالنسبة إلى «أزمّتي» العلمانية والجمهورية، حتى ولو تطلّب هذا العمل احتياطات خاصة لأسباب نعرفها جميعاً.
تضمّن الخطاب الذي ألقاه نيكولا ساركوزي في لاتران في شهر كانون الأول من سنة 2007 عدداً لا بأس به من التباينات بالنسبة إلى فكر التشدّد الجمهوري. فأن يقول رئيس الجمهورية الفرنسية «إنّ الأخلاق العلمانية معرّضة دوماً لخطر النفاد أو التحوّل إلى تعصّب حين لا تكون مستندة إلى رجاءٍ يملأ الطموح الذي لا حدود له» أثار المخاوف والانتقادات لدى مؤيدي العلمانية. كما أنّ التذكير بـ «جذور فرنسا المسيحية» والتعلق المميّز بديانة معينة تسبّب بموجة من الاستنكار. هذه المرة، ليس مبدأ العلمانية مهدّداً من قِبَل وافدين جدد بل من قِبَل مَن هو في قمة الدولة ومن عليه أن يسهر على احترام مبادئ الجمهورية. أنا شخصيّاً باعتباري أكاديميّاً يهتم بالطموح الكوني الذي ترتكز عليه الجمهورية، أعترف أني أشارك بعض الفرنسيين استغرابهم وتوجّسهم إزاء التصرّف الرئاسي. لكن في الوقت عينه، قد يكون قدر العلمانية بلوغ نوع من اللاإستقرار أو بالنتيجة من التدهور. أوليست كل سياسة تستند إلى قيم أو مبادئ قطعت كل صلاتها بالأديان تطمح إلى العالمية والعمومية المطلقة أو إلى العدالة اللامتناهية؟ وإذا كان الجواب عن هذا السؤال بالإيجاب، ألسنا ملزمين بالإقرار، في أي سياسة، ببُعدٍ «لاهوتي» متميّز عن الديانات الموجودة؟ بُعد قد يستهويه في أي لحظة محاكاة هذه الديانات واعتبار أنها تمتلك نفس سلطتها أو ببساطة الاستعانة بمفرداتها؟
إن لزوم العلمانية بحد ذاته يتأتى عن هذه اللانهاية. فبقدر ما هو يرمي إلى العدالة العالمية، لا يمكن تحقيق لزوم العلمانية بشكل كامل. ما من علمانية تامة ومثالية، بل يوجد مسار لامتناهٍ نحو علمانية أكبر. لا شك أنّ الإدراك العميق لهذا النقص الإلزامي هو ما يدعو مؤلفي «الإعلان العالمي حول العلمانية في القرن الحادي والعشرين» إلى الحفاظ على التواضع. فلا ينبغي قراءة هذا النص كإيعاز صادر عن سلطة تزعم امتلاك نموذج لعلمانية جاهزة وترغب في فرضه من طرف واحد، بل هو يحثنا على بلورة عناصر العلمانية الظاهرة في كافة المجتمعات ويطلب منا إعادة ترجمته إذا لزم الأمر في حال وجدنا أنه يسرف في استخدام لغة غربية، وحتى أوروبية مركزية.
[1]*ـ باحث وأستاذ في جامعة طوكيو ـ اليابان.
ـ العنوان الأصلي للمقال: laïcité et integration: Quelques réflexions à partir de la déclaration universelle sur la laïcite
[1]-Jean Baubérot et le Michel Wieviorka (dir.), De la Séparation des Églises et de l’État à l’avenir de la laïcité, La Tour-d’Aigues Éditions de l’Aube, 2005.
ـ تعريب: د. رائد أ. الحسيني.
[2]- Michel Wieviorka, «Introduction» in Jean Baubérot et le Michel Wieviorka (dir.), op. cit., p. 5.
[3]ـ المرجع السابق، ص. 6.
[4]- Étienne Balibar, «Dissonances dans la laïcité», in Le Foulard islamique en questions, Paris, Éditions Amsterdam, 2004, p.15.
[5]- Jean Baubérot, «Conclusion», in Jean Baubérot et le Michel Wieviorka (dir.), op. cit., p. 359.
[6]- Emmanuel Brenner (dir.), Territoires perdus de la République, Paris, Mille et une nuits, 2002. Sur le rôle joué par cet ouvrage, voir par exemple : Alain Gresh, L’Islam, la République et le monde, Paris, Hachette, 2006 (initialement paru chez Arthème Fayard en 2004), pp. 314–316.
[7]- Jean Baubérot, «Conclusion», in Jean Baubérot et Michel Wieviorka (dir.), op. cit. pp.110–111.
[8]- Marcel Gauchet, La Religion dans la démocratie. Parcours de la laïcité, Paris, Gallimard, 1998.
[9]- Michel Wieviorka, «Introduction» in Jean Baubérot et Michel Wieviorka (dir.), op. cit., p. 8.
[10]- Jean-Robert Ragache, «La République est-elle toujours laïque ?», in Jean Baubérot et Michel Wieviorka, op. cit., p. 200
[11]- Emmanuel Levinas, «État d’Israël et religion d’Israël», in Difficile liberté. Essais sur le judaïsme, Paris, Albin Michel, 1976 (première édition, 1963), p. 283. Je souligne: Il s’agit là d’un texte ancien, mais je pense pouvoir montrer que Levinas fait preuve d’une grande constance sur ce sujet.
[12]- Gil Anidjar, «Postface», in Juifs et musulmans. Une histoire partagée, un dialogue à construire, Paris, La Découverte, 2006, p. 119.
[13]- Dominique Schnapper, La Communauté des citoyens. Sur l’idée moderne de nation, Paris, Gallimard, 1994, p. 24.
[14]- Olivier Guland et Michel Zerbib, Nous, Juifs de France, Paris, Bayard, 2000, p. 7.
[15]ـ المرجع نفسه، ص. 10.
[16]- Annette Wieviorka, «Le judaïsme laïc n’a pas d’avenir», ibid., p. 26.
[17]- Pierre Birnbaum, Les fous de la République. Histoire politique des Juifs d’État de Gambetta
à Vichy, Paris, Arthème Fayard, 1992.