البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

ثقب العلمانية الأسود

الباحث :  إدغار موران Edgar Morin
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  2
السنة :  السنة الثانية - شتاء 2016 م / 1437 هـ
تاريخ إضافة البحث :  December / 26 / 2015
عدد زيارات البحث :  1625
تحميل  ( 300.291 KB )
ثقب العلمانية الأسود
إدغار موران إدغ[1] Edgar Morin [*]
يدخلنا الفيلسوف الفرنسي ادغار موران في مطالعة نقدية لتموضوعات العلمنة في المجتمعات الغربية المعاصرة. فهو ينطلق من قضية الحجاب الإسلامي وما دار حوله من جدل، ليبيّن لنا طائفة من العيوب التي تتخلّل مسيرة العلمنة في إدارة المجتمع والدولة.
سينتهي موران في مقالته إلى أن ثقباً أسود بات يتشكل تحت جناح العلمانية، فما الذي يقصده من عبارة "الثقب الأسود"؟
ولنا أن نقرأ مقالته هذه لنقف على قصده من وراء هذا التوصيف.
المحرر
من الملاحظ أنه في مسألة الحجاب، تبرز جميع الآراء المتضاربة مُشَرعنة باسم العلمانية. إن هذه الموانع لم تأت فقط من اختلافات تكتيكية ـ أين نُعيِّن خطّ الدفاع ؟ ـ أو استراتيجية ـ استراتيجية المرونة في مقابل استراتيجية القسوة. تدلّ تلك الموانع بالأخصّ على أننا لا نعلم على وجه الدقّة ما تُشير إليه العلمانية، وأن «ثقباً أسود» تشكّل تحت هذه الكلمة.
بحسب الظاهر فإن معنى كلمة علمانية واضح: إنها العقلانية النقدية التي تتعارض مع العقائد، إنها التعدد الذي يتعارض مع احتكار الحقيقة. وفي صراعها السياسي من أجل المدرسة والدولة كانت العلمانية تُحدّد نفسها في بداية القرن بما يتعارض مع الكنيسة الكاثوليكية. كانت الكنيسة الكاثوليكية تشغل موقعا احتكاريّاً في التعليم، وتحرص على فرض عقائدها الخاصة في المدينة، ولا تتسامح مع التعدد في حَرَمِها إنها تتماهى مع ردّة الفعل.
إنّ الأمر الذي لم تكن علمانية الجمهورية الثالثة تَعيه هو أنها كانت تستمدّ طاقتها وحيويّتها ليس من مجرّد فكرة تسامح وتعددية، وإنما في دين غامض كانت تتضمّنه، والذي كان مستتراً بقناع العِلموية والعقلانية. لقد كان ذلك الدينَ الـ«كاثوـ لائكي» (catho-laïque) الذي يقوم على ثالوث العناية الإلهية: العقل ـ العلم ـ التقدّم. كان العقل والعلم يتقدّمان جنباً إلى جنب لتعقّب الأخطاء والخُرافات، جالبَين خيراتهما للبشرية جمعاء. أما التقدم فقد أثبته التطور في مجال البيولوجيا وضمنته قوانين علم التاريخ. في الواقع، إن الأيديولوجيا العلموية ذات الطبيعة العقائدية (domgmatique) والمحصورة هي التي أضفت الشرعية على الدين وليس العلم. لقد كان نظاماً مُصَلَّباً ومُقَدَّساً من العقلنة ولا العقلانية (القلقة والناقدة لذاتها بالفطرة) والذي كان شبه مُقدَّس باسم العقل. وكما أخفت الماركسية أسطورتها الدينية عن الخلاص وبرّرتها بحجّة العلموية المادّية، مُتستِّرة بالعقلانية الراديكالية، فإنّ الـ«كاثو ـ لائكية» استترت وتذرّعت على نحو أقلّ ضراوة بثالوث العقل ـ العلم ـ التقدّم.
لكن، شيئا فشيئاً، وخلال هذا القرن (العشرين)، تحوّل العدو الديني الخارجي بينما أصاب التفكّك الدين الداخلي.
من جهة لم تَعُد الكنيسة الكاثوليكية اليوم كما كانت من قبل. إذ تراجعت وباتت تتسامح مع التعددية الفكرية. إنها لم تعد تتماهى مع ردّة الفعل. في الوقت نفسه، أُجبِر عصرنا شيئا فشيئا على اكتشاف أن مفهوم العقل كان يستطيع إخفاء، ليس فقط العقلانية النقدية، بل أيضاً العقلنة البليدة. لقد جرى توضيح ازدواجيات العقل وقصوراته، ليس فقط على يد «اللاعقلانيين»، وإنما أيضاً بواسطة النقد العقلاني، لا سيما نقد مدرسة فرانكفورت. لقد اتّضح شيئا فشيئا أن يقينيات الأدلّة لم تُؤدِّ بحدّ ذاتها إلى تأكيد النظريات العلمية التي بقيت افتراضية وتخمينية. واتّضح أيضاً، شيئاً فشيئاً، بعد الذي جرى في هيروشيما، أن نتائج العلم كان يمكن أن تكون مدمِّرة ومسيطِرة، وأن التطورات التي أفرزها العلم كانت مزدوجة. وأينما كانت فكرة التقدّم الآلي ـ الضروري والذي لا جدال فيه ـ فإنها وقعت في أزمة وكانت النتيجة تدمير أسس الدين الـ «كاثو ـ لائكي».
إن عبثية المجازر التي وقعت خلال الحرب العالمية الأولى ووحشيتها قد أدّتا بطبيعتهما إلى وقوع فكرة التقدّم في أزمة. فكانت الثورة ردّاً على تلك الأزمة. كان ذلك الردّ معقّداً بطبيعته: كان تفلّت القوى الشيطانية للمسيح الدجّال الأمبريالي إعلاناً لمجيء الخلاص الشيوعي ومعه المخلّص البروليتاري. إنّ الطريقة الوحيدة لتفسير معنى ويلات وفظاعات هذا القرن (العشرين)، بشكل تقدّمي، كانت بفهمها بحسب المنطق القيامي (opcalyptique) كإعلان عن أزمنة الخلاص الجديدة. لقد جرى فهم الستالينية، ليس باعتبارها شمولية، بل باعتبارها قلعة الآمال الخلاصيّة للمستقبل. وهكذا، وللمفارقة، والحال أنّه، شيئاً فشيئاً، شهد العوّ الديني الخارجي للعلمانية، تحوّلاً، فيما تفكك الدين الدّاخلي. جاءت الارتدادات الهائلة للحربين العالميتين والشمولية لإثارة الأمل بالمستقبل ودعْم فكرة التقدّم، وذلك حتى هلاك ومن ثمّ تفكّك الدين الشيوعي للخلاص الأرضي. بالرغم من عدم إسهامها في الميثولوجيا المُعقّدة، فإن ال «كاثو ـ لائكية» استفادت منها، واستمرّت في تلاوة لازمة التقدّم لكن بنَفَس وإيمان آخذين في التناقص.
اعتقدت العلمانية القديمة أنها انتعشت سنة 1984 في قضية المدارس الخاصة عندما قامت بالانقضاض على عدوّها الطائفي القديم. لكن وجهة الصراع انقلبت: فالمدارس الخاصّة أصبحت أحد عناصر التنوّع السّليم لا تهديداً للفكر الحُرّ. من الممكن جدّا أن العلمانية القديمة اعتقدت من جديد في خريف 1989 بأنها تتجدّد عندما تدحر العدو الطائفي المُتمثِّل بالإسلام. لكن الإسلام، بخلاف الدين الكاثوليكي في بداية القرن، لا يحتلّ موقع في التعليم. إنّه غير هجومي على الإطلاق: ليس هو من يفرض النقاب، بل أحد مذاهبه الذي يُشكِّل أقلية صغيرة جدّاً. وهكذا وجد المعسكر العلماني نفْسَه منقسماً بين متصلِّب وليِّن. والمسألة، التي تطرح مشاكل بالغة الأهمية تتّصل بالهوية الفرنسية والتعايش الثقافي واندماج المهاجرين، تكشف لنا بشكل سلبي الثقب الأسود للعلمانية.
بالفعل في سنة 1989، التي كانت ربيع الحريات الجديد في العالم، والتي ارتبط بها تفكّك الماركسية ـ اللينينية المزيَّفة وأزمة النموذج اللينيني ـ الستاليني للمجتمع، وجفاف الديمقراطية الاشتراكية الغربية (مثال: تيهُ الحزب الاشتراكي الفرنسي الذي وَقَفَ نفسه في تلك السنة الأوروبية الكوكبية العظيمة لأجل أحقر النزاعات التي تدور داخله)؛ كل ذلك يحجّر (fossilise) علمانية الجمهورية الثالثة؛ إنه التحجير الذي يُخفي الثقب الأسود الذي الغائر العلمانية.
هل ماتت العلمانيّة؟ هل يجب علينا الانتقال إلى أمر آخر؟ أم يجب «تحديث» العلمانية؟ برأيي، يجب ألّا نتخلّى عن العلمانية، يجب علينا إنعاشها وتأصيلها لا يجب تحديث العلمانية، بل تعبئتها في مواجهة التوحّش والأوثان الحديثة. يجب إنعاش العلمانية. إن العلمانية التي تعني منذ الوهلة الأولى، تشكيل فضاء عام للتعددية وتداول الأفكار والتسامح، والدفاع عنه، هي شيء أعمق وأكثر جوهرية مما تُعبّر عنه الحركة العلمانية في فرنسا الجمهورية في مطلع هذا القرن. إنها ما يُشكّل أصالة الثقافة الأوروبية الحديثة بالصورة التي نشأت عليها في بداية عصر النهضة: إنها في الوقت عينه الحاملة والثمرة للاستشكال المُعمَّم الذي هَدَمَ تصوّر العالم الذي ساد في العصر الوسيط. استشكال على الله، على العالم، على الطبيعة، على الإنسان، على المدينة، على الحقيقة. وهي أيضاً في الوقت عينه الحاملة والثمرة للحوارية الخاصّة بالثقافة الأوروبية، والتي تُحدِّد نفسها للا بهذه أو تلك الحقيقة أو العقيدة، بل بعلاقة متناقضة ومُكمِّلة وفاعلة للأفكار والحقائق المتعارضة. كذلك فإن العلمانية هي، أولا، «استشكال» «patocka) «problématicité) دائم وتساؤل لا يتوقّف وحوارية متجدّدة دائماً، وهذا كلّه أنتج وصنع ما أنتجته وصنعته الثقافة الأوروبية مما هو شديد الغنى، وثمين جداً.
إنه هذا الإشكال (بالمعنى المصدري) (problématicité) وهذا التساؤل هما اللذان يجب التعبير عنهما قِبال البديهيات الجديدة الغامضة والأوثان الجديدة. إنّ ما يجب التساؤل بشأنه والاستشكال عليه اليوم ليس فقط التوحّش والظلاميات المستمرّة في العالم المعاصر، وإنما أيضاً التوحّش والظلاميات الناتجة من الحداثة والتي، في تحالفها أحياناً مع الأشكال القديمة للتوحّش، تتدفّق على قرننا الحالي.
بالتالي، فإنّ «العلم التقني» (technoscience) والنموّ المفرط للدول وما ترتّب عليهما من نتائج في التكنقرطة (technocratisation) والبقرطة (bureaucratisation) والتخصّص المفرِط المعمّم كما في تجزئة الوجودات وتجزيء (atomisation) الأفراد، إضافةً إلى الانحلال البيئي والأخلاقي الذي يؤدّيان إليه، كل ذلك خَلَقَ داخل عمليات التقدّم الحقيقي أولاً، والتي واجهت تهديداً من جرّاء ذلك، حالةً خاصّة من التوحّش في حضارتنا، وحالة من الظلامية في عقولنا التي تعتقد نفسها عقلانية. إن التفسير الذي قدّمته العلوم يترافق، ليس فقط مع تفتيت مُمَنهج للمعرفة، وإنما أيضاً مع عمىً على مستوى سيرورة المغامرة العلمية وتحرير أشكال التلاعب الخارجة عن السيطرة والنفوذ المتعاظم والظلامي للخبراء العاجزين عن فهْم ما هو موجود خارج كفاءاتهم التخصّصية، والعاجزين أيضاً عن إدراك المشاكل العامة والأساسيّة.
يجب أن يعرف العالم العلماني أن العدوّ الجديد يأتي عادةً من الداخل. لا يرتبط الأمر اليوم برفع راية العلم والعقل والتقدّم، بل يرتبط بمساءلتهم ويرتبط كذلك بالتحرّك لمواجهة البديهيات التي لم يستوعبها العلم التقني. ويُعَدّ ذلك مشكلة ديمقراطية رئيسة. ثمة مناطق آخذة في الاتساع أكثر فأكثر، حيث تشهد تراجعاً في الديمقراطية. هنا تَطرح التطوّرات التي حقّقها العلم التقنيص مشاكل جديدة تُعَدّ حيوية بالنسبة لكلّ فرد بدءاً بالسلاح النووي الحراري وصولاً إلى التلاعبات الجينية، بانتظار التلاعبات الدماغية، والتي تتعلّق بالولادة والأمومة والأبوّة والمرض والموت والحياة اليومية. هنا تستقرّ لجان الخبراء التي تقوم على الأغلب بتبسيط آراءها في وسائل الإعلام، بيد أن المواطنين مسلوبون لدرجة أن الأمناء الجُدد على المعرفة الباطنية والمُتخصِّصة يُحيلونهم إلى الجهل. إن قائمة أسماء الخبراء والاختصاصيين لا تحتكر فقط المشكلات، بل تعمل على تجزئتها وتفتيتها.
مذّاك يصبح الصراع الجديد للعلمانية صراعا من أجل تشجيع ديمقراطية إدراكية. هنا كان يكمن بالضبط، بعبارة أخرى وشروط أخرى، مغزى رسالة المعلمين في بداية القرن. هذا هو الصراع بالضبط الذي يجب استئنافه وتحويله.
ويُعَدّ ذلك أكثر إلحاحاً لا سيّما وأن عقولنا باتت متحرِّرة من عراقيل الشمولية والخطر الذي تُمثِّله، والتي أرغمت بعضنا طيلة عقود على إنهاك نفسه في إفهام الذات ما أثبته أخيرا سقوط جدار العمى.
أصبح بإمكاننا إدراك الديمقراطية ليس فقط من خلال تجربة الشمولية (التي رغم ظهورها بمظهر علماني كانت العدوّ الضاري لكل ما تدلّ عليه العلمانية) ولكن من دون التفكير بتاتاً بالخطر الشمولي. يمكننا الآن أن ننظر بالكثير من الحذر إلى ديمقراطياتنا، ليس فقط بهدف التفرّغ لتصحيح مواطن النقص والعجز القديمة فيها، وإنما أيضاً لكشف مواطن العجز والتراجع الجديدة التي نجمت عن التطورات التقنية ـ العلمية ـ البيروقراطية.
إن الدعوة إلى الديمقراطية الإدراكية ليست فقط دعوة لحضور دروس مسائية أو الحضور في مدارس صيفية أو جامعات شعبية. إنها دعوة من أجل ديمقراطية لا تكون فيها المناقشات حول القضايا الجوهرية حِكرا على الخبراء وحدهم فيما تُنقل وقائعها إلى المواطنين. كالعادة، سيصطدم الجهد التاريخي للدمقرطة (إحلال الديمقراطية) بمقاومة الطبقة الشعبية والنخبة (nomenklatura) اللتين استولتا على احتكار ما، إنه هنا احتكار معرفة القضايا الحقيقة.
إنّ مثل هذا الجهد يحتاج بالطبع إلى إصلاح الفكر الذي يطرح إشكالية طريقة التفكير المتخصص ـ تقنياً التي تفرض نفسها اليوم كما لو كانت الطريقة الوحيدة الملائمة وغير القابلة للتعديل إطلاقاً. لقد بدأ هذا الإصلاح بوهن هنا وهناك، وتملّصت قطاعات علمية بكاملها من التفكير التحليلي المُقَسَّم والمُجَزّأ، من بينها علم الكون المنبثق من الفيزياء الفلكية، وعلوم الأرض، وعلم البيئة، وهي علوم تتناول تفاعلات نظام معقّد وليس مجرّد عنصر من عناصر تلك التفاعلات.
للمعلّمين دور أساسي يلعبونه في هذا الصراع الجديد وعليهم أن يؤدوا دورهم في حركة إصلاح الفكر عبر إدخال أفق ما هو كلّي وما هو معقّد في تصوّراتهم. يجب عليهم الخروج من قلعة الطبقة المُحاصَرة بوسائل الإعلام الخارجية.
إنها حقّاً مهمة تاريخية، أي طويلة وصعبة وغير مُحقَّقة، وتعمل على تحريك وعي الأفراد والمنظمات العلمانية. هل سيتوقف تحفير الأيديولوجيا «الكاثو ـ لائكية» عن حجب الثقب الأسود؟ هل يمكن أنصص نتوقّع انبثاق علمانية في طور الولادة والولادة من جديد؟

[1]*ـ فيلسوف فرنسي معاصر.
ـ العنوان الأصلي للمقال: Le trou noir de la laïcité
ـ المقال مأخوذ من الموقع التالي:WWW.Cairn.info/revue le debat-1990- 1- page- 35.htm
ـ ترجمة: عماد أيوب.