البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

منازل الفلسفة الغربية في فكر الطباطبائي - نقد المنهج والأصول

الباحث :  مازن المطوري
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  2
السنة :  السنة الثانية - شتاء 2016 م / 1437 هـ
تاريخ إضافة البحث :  December / 26 / 2015
عدد زيارات البحث :  3982
تحميل  ( 350.887 KB )
منازل الفلسفة الغربية في فكر الطباطبائي
نقد المنهج والأصول
مازن المطوري[1][*]
مسعى هذه الدراسة التعريف بدور العلامة الفيلسوف محمد حسين الطباطبائي في نقد الفلسفة الغربية في اتجاهاتها البارزة، عبر سفره القيّم (أصول الفلسفة والمنهج الواقعي). تطرق الكاتب الأستاذ الشيخ مازن المطوري في هذا البحث إلى محطّات معرفية في غاية الأهمية خصوصاً لجهة التقاء الفلسفتين الشرقية والغربية على نصاب السجال والتداول مع ما رافق ذلك من تداعيات وإخفاقات ومعوقات.
نشير إلى أن مسار الدراسة ركز على تظهير مباني كتاب أصول الفلسفة ومنهجه ودوره وأهميته في فضاء السجال مع الفلسفة الغربية الحديثة بمنهجية متزنة وموضوعية ساهمت إلى حد بعيد في تفعيل حركة البحث الفلسفي والدرس النقدي.
المحرر
يحسنُ بنا ونحن نُقدِم على التعريف بمساهمة العلامة الطباطبائي في نقد الفلسفة الغربية عبر كتاب (أصول الفلسفة والمنهج الواقعي)، أن نتعرّف أوّلاً على محطّات لقاء المسلمين مع حكمة الغرب في التاريخ المعاصر، وما رافق ذلك من معوّقات وأخطاء.
لابد من الإقرار سلفاً أن تعاطي الغربيّين مع ثقافة وفكر المسلمين كان أسبق بمديات من تعاطي المسلمين مع فكر الغرب وثقافته وفلسفته، أيّاً كانت الأسباب في هذا التعاطي سياسيّة استعماريّة، أو تبشيريّة، أو معرفية خالصة. لقد تهيّأت رؤية فكريّة في القرن الثاني عشر ثمَّ توسعت في القرنين الثالث والرابع عشر، ثم امتدّت حتّى العصر الاستعماري، انطلقت من العِداء لنبيّ المسلمين صلّى الله عليه وآله، فشكّل هذا الموقف تحوّلاً في التعامل مع الإسلام نفسه. وقد اعترف بطرس الجليل (1092 ـ 1156م) رئيس دير كلوني ـ الذي كان يقوم بجولة على الحدود الفرنسيّة مع الأندلس فتعرّف إلى الإسلام عن كثب ـ بما يعزّز هذه الرؤية، فقال: «يجب أن نقاوم الإسلام لا في ساحة الحرب بل في الساحة الثقافيّة» فكان لهذا الغرض أن شكّل لجنة من مجموعة مترجمين، تمثّلت مهمّتها في ترجمة القرآن الكريم. فقد أدرك بطرس أنّه لإبطال العقيدة الإسلاميّة يجب التعرّف عليها أولاً [2].
أضف إلى ذلك، فقد توفّر الغربيّون على أفكار ومؤلّفات أكابر فلاسفة الإسلام أمثال الكندي (801 ـ 873م)، والفارابي (872 ـ 950م)، وابن سينا (980 ـ 1037م)، وابن رشد (1126 ـ 1198م). وأوجدوا لهذا الغرض مراكز ترجمة تعهّدت انجاز المهمّة. ومن أشهر تلك المراكز: طليطلة، صقلية، القسطنطينية، جامعة أكسفورد، البلاط البابوي. وقد عكست الترجمةُ إعجاب الكثير من الأوروبيّين بالحضارة العربيّة الإسلاميّة، ولأجل ذلك سعوا جاهدين للتعرّف على أوجهٍ كثيرةٍ منها، وكان في مقدّمتهم رجالُ الدّين الّذين شجّعوا ترجمة الكتب من العربيّة إلى اللغات الأوربيّة[3].
يومَ كنّا نغطّ في سبات عميق أصدرت شركة بريل الهولندية بين عامي (1913/ 1938) دائرة المعارف الإسلامية التي تعتبر أهم موسوعة دوّنها الغربيّون عن الشرق، واهتمت بكلّ ما يتّصل بالحضارة الإسلامية من النواحي المختلفة الدينية والثقافية والعلمية والسياسية، وعمل عليها اثنان وعشرون مستشرقاً من أكابر المستشرقين من أمثال لويس ماسينيون (1883 ـ 1962)، جوزيف شخت (1902 ـ 1970م)، هنري لامنس اليسوعي (1862 ـ 1937م)، رينولد ألين نيكلسون (1868 ـ 1945م)، دافيد صموئيل مرجليوث (1858 ـ 1940م)، كارل بروكلمان (1868 ـ 1956م)، وغيرهم. ومن دلائل همّة الغربيين أن دائرة المعارف هذه ظهرت في أول إصدار لها باللغات؛ الفرنسية والألمانية والإنجليزية.
ويومَ كان سلفُنا ينقّب ويبحث ويترجم ويتوفّر على تراث اليونانيين والهنود والفهلويين والاسكندرانيين وُجِدت نهضة ثقافية وعلمية كبيرة، تجلت آثارها في أبعاد مختلفة، أما يومَ انقطعنا عن مواصلة طريقتهم ومساعيهم، وبتنا يلفّنا السُّباتُ والخمولُ واللاأُباليةُ، فقد صرنا مادة لتجارب الآخرين ونهباً لمساعيهم ودراساتهم، ونلعنُ بعد ذلك كلّه تيارات التغريب وهجوم الأفكار والثقافات الوافدة!
لو تركنا حديث الغربيّين جانباً، وانتقلنا إلى الحال في العالم الإسلامي وبالأخص في الحواضر العلمية الدينية، فسنجدُ الوضع مختلفاً، إذ على الرغم من محاولة بعض أهل الفكر المسلمين الانفتاح على ثقافة العصر منذ بدايات القرن التاسع عشر الميلادي ـ كجمال الدين الأفغاني (1838 ـ 1897م) وغيره ـ إلا أن المفكرين المسلمين لم يحاولوا التواصل مع الفلسفة والفكر الغربي المعاصر إلا في محاولات خجولة ومحدودة. فلم يحاول أصحاب الفكر في الشرق اتخاذ موقف علمي وموضوعي شامل ومبادر من فلسفة كلّ من: فرانسيس بيكون (1561 ـ 1626م)، رينيه ديكارت (1596 ـ 1650م)، عمانوئيل كانط (1724 ـ 1804م)، فردريك هيجل (1770 ـ 1831م)، كارل ماركس (1818 ـ 1883م)، فردريك نيتشه (1844 ـ 1900م)، وغيرهم من روّاد الفكر الغربي المعاصر، الذين أسهموا في تشكّل صورة الغرب الثقافية والفكرية والفلسفية، والتي وجدت طريقها إلى الشرق عبر المتعلّمين الشرقيين في أوروبا. بل لم تعرف الفلسفةُ الإسلاميّةُ المعاصرة شيئاً من فلسفة الغرب، ولم تلتق معها على بساط الحوار والنقد والتفاعل تأثراً وتأثيراً. وإنّما رأت حكمة المسلمين في نفسها ـ سيّما بعد إنجازات الفيلسوف صدر الدين الشيرازي (1572 ـ 1640م) ـ أنها الفلسفة الحقّ التي لا يشوبها رين أو شك، ولا يستطيع أحدٌ مخاصمتها، وأخذت تنسج على هذا المنوال، منعزلة في دهاليز طلاسمها، وأنفاق التعقيد، محاطة بنزاعات المشارب والمذاهب، حتّى بدت بواكير الغزو الثقافي وتطلّعات الماديّين للنيل من وجود الإسلام، فَغُزِينا في عُقْرِ دارِنا، فكان التعاطي الانفعالي فشوّهت كثيرٌ من الأفكار.
لعلَّ أسباباً متعدّدةً اجتمعت فأفضت لتلك النتيجة المؤسفة، منها ما يرجع إلى اضمحلال الهَمّ المعرفي ونزعة البحث والتنقيب في معارف الآخرين إلا في نفر محدود. ومنها ما يتعلّق بتصور شائع يحسب الفلسفة الأوربيّة بسائر مدارسها واتجاهاتها، تتقاطع تقاطعاً تاماً مع الفلسفة الإسلاميّة، ومع الأُلوهية والعقل، باعتبار أن كلاً منهما تحرّكت في مسارها الخاص، واحتضنتها بيئةٌ مغايرةٌ للأخرى. فضلاً عن هاجس الهويّة، وعقدة التعالي.
لقد تركّز حديثنا على هذه الحواضر لأكثر من سبب؛ فقد كانت تمثّل الجامعات الرسمية لحفظ العلوم وتعليم الأجيال قبل أن تنتشر جامعات التعليم الحديثة في البلدان الإسلامية، كما وأنها بحسب المفكّر اليساري الإيراني جلال آل أحمد (1923 ـ 1969م) تمثّل: آخر حصون المقاومة إزاء التغريب[4]. أما غيرها من الحواضر فيكفي أن نعلّم أنّه «في عصر التقهقر العلمي والعقل السياسي في الشرق العربي اعتبرت الفلسفة عدواً للدين، وأدّى ذلك إلى تحريم دراستها في المعاهد الدينية ومراكز الثقافة حتّى فيما يتعلّق منها بعلم الكلام ـ سوى معاهد الثقافة في طهران عاصمة إيران، ومعاهد النجف الأشرف ـ وأخذت مصر بقسط وافر من ذلك التحريم[5]. فهل بعد ذلك يمكن التواصل مع فلسفات الآخرين؟!
أيّاً ما كان الأمر، ففي القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديّين، حيث تكثّف الاتصال بين أوروبّا والعالم الإسلامي في ظلّ اشتداد سطوة الاستعمار الأوربّي المباشر، كانت هناك محطّات لقاء بين فلسفتي الشرق والغرب، مثّلت شعلة في العتمة ومصادر النور:
1 ـ المُدَرس الطهراني وبدايع الحكم:
لعلَّ أقدم أثر تعاطى مع فلسفة الغرب ـ وإن بشكل مقتضب ـ يتمثّل في كتاب (بدايع الحِكَم) باللغة الفارسية، تأليف الفيلسوف علي المُدرِّس الزَنوزي الطهراني (1818 ـ 1893م)[6] الذي أتمّه سنة (1890م) وطبع في إيران سنة (1897م).
يشتمل الكتاب على مجموعة من الأسئلة طرحها عماد الدولة على المُدَرّس الطهراني[7]. وقد أشار عماد الدولة في السؤال السابع إلى أفكار كلٍّ من ديكارت وكانط وليبنتز (1646 ـ 1716م) وغيرهم، فأجاب الطهراني عن أفكار هؤلاء الفلاسفة، وبيّن صلتها بالمعقول الإسلامي. واستطاع إلى حدّ ما أن يقارن مقارنة علميّة بين أفكار فلاسفة ما بعد عصر النهضة وفلسفة صّدر الدين الشيرازي.
تجدر الإشارة إلى أن الفيلسوف علي المدرّس كان يرتبط بعلاقات علميّة مع المستشرق الفرنسي جوزيف آرثر كونت غوبينو(1816 ـ 1882م)[8]، فذكره الأخير في مواضع متعددة من كتابه (الأديان والفلسفات في آسيا الوسطى) الذي ألّفه بالفرنسية، مشيراً إلى أنه يكنّ له تقديراً كبيراً [9].
2 ـ الزنجاني ودروس الفلسفة:
ومن أبرز محطّات لقاء الفلسفتين الشرقيّة والغربيّة محاولة الفيلسوف عبد الكريم الزنجاني (1887 ـ 1968م) في كتاب (دروس الفلسفة)، الذي أتمّه سنة (1930م) وطبع أول أجزائه في النجف الأشرف عام (1940م).
اهتم الزنجاني بالفلسفة الغربيّة أيّما اهتمام، ورأى أنّها تشّكل مع الفلسفة الإسلاميّة قوّة عقليّة جاهزة، وعدّة فكريّة ناهضة، يجب استغلالهما ولا يجوز الاستغناء عن كلّ منهما، بل يجب أن نضُمّ نفائس الفلسفة الحديثة الغربيّة إلى حقائق الفلسفة القديمة الشرقيّة، على ضوء العقل والرَويّة، لنستخلص منهما مزيجاً إصلاحيّاً خالصاً، وفلسفةً قويمةً صالحةً للحياة والبقاء، وكذلك أراد الله أن تكون الحياة مزيجاً من صالحِ القديم والحديث[10].
استعرض الزنجاني بعض مقولات ديكارت مقارنةً بفلسفة الرئيس ابن سينا، كما استعرض مقولات فيلسوف النقدية الألماني عمانوئيل كانط وآرائه في الزمان والمكان، ودلّل على أسبقية الفيلسوف صدر الدين الشيرازي بتقرير حقائق هذه المسائل قبل كانط بقرنين من الزمان[11]. كذلك استعرض النظرية النسبيّة للدكتور ألبرت أينشتاين (1879 ـ 1955م)، مشيراً إلى أن ما جاء في هذه النظرية من المفاخرة بإثبات البعد الرابع للموجودات الماديّة، كان قد أثبته صدر الدين الشيرازي قبل أينشتاين بقرون، ودلّل على ذلك بنقل كلمات الشيرازي[12].
فضلاً عن ذلك، فقد وقف الزنجاني عند الأفكار الاشتراكية والشيوعية مبيّناً تهافتها. وحفلت دراسات ومقالات ومحاضرات الزنجاني المختلفة بذكر آراء وأفكار كثير من الفلاسفة والمفكرين الغربيّين من أمثال: توماس مور (1478 ـ 1535م)، كامپانيلا (1568 ـ 1639م)، جون لوك (1632ـ 1704م)، نيوتن (1642 ـ 1727م)، داروين (1809 ـ 1882م)، هيجل، أنجلز (1820 ـ 1895م)، دريبر (1837 ـ 1882م)، غوستاف لوبون (1841 ـ 1931م)، وليم جيمس (1842 ـ 1910م)، فرنسيس بيكون، كارل ماركس، أدوارد هاتمان، فيلبون، كرّادي فو (1867 ـ 1953م)، وغيرهم.
وقد دلّلت كتابات الزنجاني لاسيّما كتاب (دروس الفلسفة)، على عظيم اطّلاعه على الفلسفة الغربيّة وإحاطته بها. ويمكن أن يعدّ الزنجاني من أوائل الذين تعاطوا مع الفلسفة الغربيّة مقارنة بفلسفة المسلمين بعد الفيلسوف الزَنوزي. وتوقّف الزنجاني كذلك عند تخرّصات المستشرقين وما حملته أقوالهم من خبط وخلط بشأن الفلسفة الإسلاميّة.
ومع ذلك كلّه لم يكن الزنجاني فيلسوفاً من صنف الذين يقضون حياتهم متأمّلين في عزلة باردة في قمّة الأبراج العاجيّة، وإنّما كان فيلسوفاً يحمل موقفاً اجتماعياً ورسالياً عظيماً، حاملاً لواء الإصلاح يجوب أقطار المسلمين، وظلَّ يدافع عن موقفه ويضحّي لأجله طوال حياته الغنّاء.
3 ـ الطباطبائي وأصول الفلسفة:
أمّا المحطّة الأهم في دراسة فلسفة الغرب، وتقويم اتجاهاتها الحديثة، ومقارنتها بالموروث الفلسفي الإسلامي، فقد تجلّت في كتاب أصول الفلسفة والمنهج الواقعي (محور الدراسة) تأليف الفيلسوف العلامة محمّد حسين الطباطبائي (1892 ـ 1981). فقد افتتح الطباطبائي حواراً عقلياً معمّقاً مع اتجاهات الفلسفة الأوربية الحديثة سيّما المادية الديالكتيكية، منطلقاً من ضرورة تحليل أصولها ومرتكزاتها ونقدها، بعد اتّساع ظاهرة التغريب، ودخول التيار الماركسي خط الصراع، وعمل قطّاع واسع من المثقفين الدارسين في أوربّا على الترويج لمقولات الفلسفة المادية المناهضة للميتافيزيقيا والإيمان بالله تعالى.
جاءت خطوة الطباطبائي بعد سبات طويل عمّ هذا الحقل المعرفي المهم، وكسرت حاجز الصمت، لتدخل ميدان البحث الفلسفي المقارن بعمق وشمول. إذ برغم من «مرور زمان على إحساس هواة المعرفة بضرورة طرح الفكر الفلسفي الحديث، ومقارنة النظريات المحدثة بنظريات الفلاسفة المسلمين، لكنَّ المؤسف أن هذا الأمر لم يتجسّد عملياً حتى لحظة كتابة هذه المقدمة[13]. نعم ما تمَّ انجازه عبر هذه الفترة لا يتعدّى رسائل فلسفية على المنهج التقليدي، قد تتناول أحياناً قضايا الطبيعة والفلك وتتناقض تماماً مع النظريات العلمية الحديثة، أو جاء ترجمة بحتة للنظريات الفلسفية الحديثة. إذن لا يتعدّى النشاط الفلسفي الراهن هذين اللونين: إمّا تقليداً تاماً للنهج الفلسفي المأثور، وإمّا ترجمة صرف للنظريات الحديثة، وحيث اختلاف مراكز اهتمام هذين اللونين من التحقيق، فما اهتم به السلف لم تعره الدراسات الحديثة اهتماماً، أو اهتمّت به اهتماماً يسيراً، وطرحت قضايا ومواضيع أخرى أمامَ الدرس، ممّا أدّى إلى أن القارئ لهذين اللونين لا يخرج بمحصّلة من خلال قراءتهما معاً. ومن هنا جاء الكتاب الذي بين أيدينا لوناً ثالثاً من الدرس، لا هو بالنهج التقليدي، ولا هو بالترجمة للنظريات الحديثة»[14].
4 ـ الصدر والأنا الفكري:
ولا ننسى الإشارة والإشادة بجهود السيّد محمد باقر الصدر (1935 ـ 1980م) في مجال دراسة ونقد اتجاهات الفلسفة الغربيّة في (فلسفتنا) و(اقتصادنا) و(الأسس المنطقيّة للاستقراء)، سالكاً في ذلك منهجاً فريداً، سبق وتحدّثنا عنه[15].
وما سِوى هذه المحطّات السبّاقة والجادّة، كانت هناك محاولات أخرى مختلفة كماً وكيفاً ومنهجاً، تنوعت في دارسيها ومنهجياتهم، ظهرت في العراق وإيران والهند وبلدان أخرى، ولكنها تبقى ثانوية، وفيها مشاكل كثيرة، ولا ترقى إلى النماذج المتقدّمة سيّما النموذجين الفريدين الطباطبائي والصّدر.
وفي سبيل رصد المشكلات التي واكبت تعاطي المسلمين إجمالاً مع فلسفة الغرب، فإنّا نراها تتجلّى بشكل أساس في أمرين:
الأوّل: قلّة الترجمات الأمينة للكتابات والأفكار الفلسفية الغربيّة التي تضطلع بها مراكز ترجمة مختصّة، والقليل المترجم منها جاء رديئاً مشوّهاً بسبب من كونها تمثّل محاولات فرديّة لأناسٍ غير متمرسين في الفكر. وحتى نعضد كلامنا بشهادة عدل، نُذكّر بأن الدكتور موسى وهبة أستاذ الفلسفة الحديثة في الجامعة اللبنانيّة، قام بإعادة ترجمة كتاب (نقد العقل المحض) لعمانوئيل كانط بالرغم من سبق الدكتور أحمد الشيباني (1923 ـ 1995م) لذلك بأكثر من ثلاثين عاماً[16]، معلّلاً بأن تلك الترجمة «لم تقرأ ولو جزئياً بسبب من افتقاد المترجم للصبر يوم لم يكن لأحد الصبر على القراءة والتروّي»[17]. فيما يرى باحث آخر أن كلا الترجمتين لكتاب كانط (الشيباني/ وهبة)، أعجميّتان، ومن المتعذّر قراءتهما، وتّتسمان بالغموض والاستغلاق، رغم ما بذل فيهما من جهد كبير، ولا يزال الكتاب بحاجة إلى جهد أكبر حتى يمكن أن ينقل إلى العربية بلغة مفهومة[18]. وغير هاتين الترجمتين قام الدكتور غانم هنا بترجمة الكتاب ثالثة عن النصّ الألماني[19].
على أن الترجمة لا تتحقّق بتوفّر الفرد على معرفة اللغة المترجَم عنها، مطلعاً على مفرداتها واستعمالاتها وتراكيبها الخاصّة، وإنما يجب أن تتوفّر فيه مضافاً لذلك وخصوصاً في الأفكار الدقيقة كالفلسفة، أن يكون المترجِم من أهل الاختصاص، ومستوعباً للأفكار التي يريد ترجَمتها، حتى ينقلها بأمانة.
إن الذي يؤسف له حقاً هو أن مفكّرينا لم تتسنّ لهم فرصة قراءة الأصول الفكرية والفلسفية الغربية بلغتها الأم، لعدم معرفتهم بتلك اللغات، ممّا أبقاهم أسرى النصوص المترجَمة، مع ما يعتور تلك الترجمات من فقدان الدقّة وعدم الأمانة في النقل أحياناً كثيرة، ومن الوقوع في أَسر ما ينتخبه المترجِم من نصوص الفلسفة الغربيّة، مع العلم أن بعض الترجمات كانت تتم عبر واسطتين عن اللغة الأم.
الثاني: إنّ الكثير من مظاهر التعاطي واللقاء جاءت في أجواء ردّات الفعل، حيث الدفاع عن الوجود الإسلامي بوجه الأفكار الوافدة، فاتّسم بطابع إلزام الخصوم حسب الطريقة المتّبعة في علم الكلام، فأفضى إلى أخطاء كبيرة.
لقد كان من نتائج القراءة السطحيّة والمستعجلة لما ورَد لنا من ثقافة الغرب أنها «أدّت إلى فضائح ثقافيّة، حيث ترسّخ في أذهان الوسط العام لقرّائنا ومثقفينا (إن جاز الإطلاق) أن الوجودية تعادل الإلحاد، وأن الوجوديّة تعني اللاإيمان. والحال أن الوجودية في تكوينها تمثّل نقلة ثقافيّة ترتبط بتفاعلات الفكر الأوروبي المعاصر، ولا يشكّل الإلحاد محوراً لهذا الفكر، بل هناك كبار ..«بين الفلاسفة الوجودييّن ممّن يتعصّب بحماس للإيمان بالله»[20]. حتّى دعت هذه الظاهرة جون ماكوري أستاذ اللاهوت في الجامعات والمعاهد الأميركية، إلى تأليف كتابِهِ المعنون بـ(الوجودية) لغرض دفع هذه الأفكار المشوّهة عنها[21]. ومن جملة الفضائح تلك المعادلة التي تساوي بين المنهج الاستقرائي والمذهب التجريبي. والحال أنّه بالمراجعة لتاريخ حضارة الغرب نلاحظ أن التجريبيّة كاتجاه معرفي لم يكن أساساً لأي من التطورات الخطيرة، التي لعبت دوراً رئيسياً في تقرير مصير النهضة العلمية والحضارية المعاصرة. وإنما كلُّ هذه التطورات هي وليدة المنهج الاستقرائي[22].
الطباطبائي والغرب
من المهم ونحن بصدد التعريف بدور الطباطبائي في نقد الفلسفة الغربية كما تجلّى في كتاب أصول الفلسفة، أن نتوقف عند أمر قد يكون غيباً أو غريباً عند كثيرين، يتعلّق بتواصل الفيلسوف الطباطبائي مع الغرب بصورة عامة. ذلك أن تعاطي الطباطبائي مع الغرب لم يقتصر على فلسفته في مقالات كتاب أصول الفلسفة، وإنما سبقته ورافقته حلقات ومحطّات التقى فيها الطباطبائي مع الفكر الغربي ورجاله وسلوكه وأنظمة حضارته محاوراً وناقداً، يمكننا الإشارة إليها إيجازاً في عدة نقاط:
1 ـ في ستينيّات القرن الماضي تبنّى الطباطبائي مشروع تقديم الفكر الشيعي في مختلف أبعاده ميسراً باللغات الأوربية، حتى يكون بمقدور الباحثين والشباب الغربي التوفر على اطلالة سهلة وأمينة لهذا الفكر. كان منطلق الطباطبائي في هذا المشروع يتمثّل في أن جلّ الدارسين الغربيين لم ينفتحوا على دين الإسلام إلا بواسطة مصادر أهل السنة، سواء في ذلك الحديث والتفسير والكلام والتاريخ والفقه، ومن ثم بقي الوجه الآخر الشيعي محجوباً مع ما ينطوي عليه من فكر ومعارف.
حدث بعد ذلك وتحديداً في العام (1964م) أن تباحث الطباطبائي بهذا الشأن مع تلميذه الدكتور حسين نصر لإنجاز المشروع، بحيث يتكفّل الدكتور نصر ترجمة ما يكتبه الطباطبائي إلى الإنجليزية، وهذا ما تمّ بالفعل. وفي غضون ثلاث سنوات انشغل الطباطبائي بإعداد حلقات هذا المشروع، الذي صدرت أولى حلقاته بعنوان (الشيعة في الإسلام) الذي ترجم للإنجليزية[23]، ثم نقله الدكتور جعفر دلشاد إلى العربية[24]. بعد ذلك أعقبه بثاني الحلقات (القرآن في الإسلام) الذي ترجم كذلك[25].
2 ـ حلقة أخرى من حلقات تواصل الطباطبائي مع الفكر الغربي حواراً ونقداً تمثلت في سلسلة حواراته ولقاءاته مع المستشرق الفرنسي هنري كوربان (1903 ـ 1978م)، والتي أثمرت كتاباً بعنوان (الشيعة، نصّ الحوار مع المستشرق كوربان). ففي هذا الكتاب التقى الشرق مع الغرب لقاءً فكرياً حوارياً[26].
ومن الإشارات المهمة التي انطوى عليها حديث الطباطبائي في هذا الكتاب، وفي معرض جوابه لسؤال كوربان عن سبب توقّف الاهتمام الغربي بشأن البحث الفلسفي الإسلامي مع ابن رشد، تحليلُ الطباطبائي لنظام الاستشراق الفكري، مستغلاً الفرصة للإشارة (مبكّراً)، للعوامل والدوافع المتحكّمة في بنيته كالسلطة والتفوق والنزوع إلى الغاء العوالم والثقافات الأخرى تحت ذريعة العالمية[27].
والطباطبائي في هذا التحليل سبق الباحثين المعاصرين كإدوارد سعيد (1935ـ 2003م) وغيره، الذين توفروا على تحليل بنية الاستشراق وتجلية دوافعه التي يغطّيها بستار البحث المعرفي[28].
وفي سياق حديثنا عن الطباطبائي والغرب لا بأس من الإشارة إلى أن رسالة مكتوبة وصلت الطباطبائي سجّلَ صاحبُها اعتراضاً على تواصل الأخير مع (الأجانب)، و(أهل الدنيا)، حتى اضطر لكتابة جواب لها ونشره في الكتاب الذي تضمّن حواراته مع كوربان[29]!
استطاع الطباطبائي في هذا الحوار أن يفرض حضوره الفكري والمعرفي المستقل، منطلقاً من هويته الفكرية الأصيلة، حتّى أن الدكتور علي شريعتي (1933 ـ 1977م) سجّل لنا واصفاً الطباطبائي في معرض نقده لعُقدة الاستلاب ومرض التغريب التي بلي بها تيار من المثقفين، قائلاً: «كانت تعقد في طهران جلسات أُسبوعية، وكان يحضرها البروفسور هنري كوربن أُستاذ السّوربون وعالم الإسلاميات المعروف والمتخصص الفريد في الثقافة الشيعية، كما كان يشترك فيها السيّد محمد حسين الطباطبائي مدرّس الحكمة وتفسير القرآن في قم، وعدد آخر من الفضلاء والعلماء في العلوم القديمة والجديدة. وكان الطباطبائي وكأنه سقراط قد جلس وحوله تلاميذه، وكان كوربن العظيم حسن الأدب، يجاهد في اغتراف جرعات من هذا المحيط العظيم للأفكار والعواطف العميقة والمتنوعة الني كونتها الثقافة الإسلامية الشيعية. أيّة روح وقوة وهبته هذا الثبات في الشخصية والاستقلال الفكري؟ ليس هذا تعصباً قومياً أو غروراً ناشئاً عن جهل، إنه يعرّف نفسه كممثل لتاريخ عظيم وحضارة عظيمة، وكنز فيّاض من الأفكار الفلسفية والمواهب الإنسانية والمعنويات الأخلاقية والعواطف والجماليات المدهشة العرفانية والفنية والأدبية، إنه مرتكن على جبل من الثقافة البشرية[30].
3 ـ في محطّة ثالثة من تواصل الطباطبائي مع الغرب الفكري والاهتمام برجالاته وفكره وفتح جسور التواصل الحواري، تمثلت في لقاء الطباطبائي مع المستشرق الأميركي كينيث مورغان (معاصر، تولد 1934م) الذي قضى شطراً من حياته في الشرق، وكانت له لقاءات وتواصل مع رجال الفكر وعلماء الدين في الأديان المختلفة.
زار مورغان إيران صيف (1964م) فاستقدمه الدكتور حسين نصر إلى العلامة الطباطبائي الذي كان يصطاف في قرية (دركه) شمال غربي طهران. وقد وصف الدكتور نصر صورة من ذلك اللقاء في مقدمة الطبعة الفارسية لكتاب (الشيعة في الإسلام)، بقوله: «منذ اللحظة الأولى هيمن العلامة الطباطبائي على البروفيسور موركان [كذا] بحضوره المعنوي والروحي، فأحسّ الأستاذ الأميركي بالألفة والأُنس، وأدرك للفور أنه بمحضر إنسان تجاوز في العلم والحكمة مرحلة الفكر إلى العمل، وأنه قد تذوّق ما يقوله وطواه عملياً وسلوكياً» [31].
4 ـ وفي مقالات الكتاب الذي حمل عنوان (مقالات تأسيسيّة في الفكر الإسلامي)، تعرّض الطباطبائي ناقداً الكثير من مقولات وسلوكيات ومظاهر الفكر الغربي ومدنيته المعاصرة، كاشفاً عن هِناتها ومآلاها، وعن خطر التحديث على النمط الأوربي، مبيناً في ذات الوقت أصالة الفكر الإسلامي وفلسفته القويمة في معالجاته لمشاكل الإنسان في أبعاد وجوده المختلفة[32].
5 ـ لقد حفلت الأجزاء المختلفة من موسوعة الطباطبائي التفسيرية القيّمة (الميزان في تفسير القرآن)، بفصول توقف فيها الطباطبائي ناقداً للفكر الغربي وفلسفته ومدنيته، بنحو لو أُتيح لمّ شتاتها في دراسة خاصة لكانت كتاباً كبيراً، وبأدنى مراجعة للفهرس التفصيلي لمواضيع هذه الموسوعة توقف القارئ على ذلك.
فعلى سبيل الإشارة نجد الطباطبائي قد تناول في الأجزاء الأولى من موسوعته التفسيرية (1/ 2/ 4) مواضيع من قبيل: الفساد الأخلاقي ورذائل المجتمع المتمدّن الحاضر، ونتيجة ظهور المدنية الغربية، وعلى أي شيء أقبل الناس بعد ظهور مدنيّة الغرب، وكتابات المستشرقين الغربيين حول مدنيّة الإسلام، وغيرها من المسائل والمواضيع والمقولات المبثوثة في الأجزاء المشار إليها، وكذا سائر أجزاء تفسير الميزان.
قصّة كتاب (أصول الفلسفة)
مذ سقطت البلدان الإسلامية صريعة بأيدي الاستعمار في القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين، رافق ذلك السقوط وُرودُ سيل من الأفكار والثقافات والفلسفات التي تتقاطع مع الهوية الأصيلة للمجتمعات الإسلامية، بشّر بها كتّاب ومثقفون تلقوا تعليمهم في المراكز البحثية والعلمية الأوروبية، فضلاً عن رجال الاستشراق. وقد شكّل سيلُ الأفكار هذا إلى جانب الاستعمار العسكري والسياسي استعماراً ثقافياً وغزواً فكرياً أمدّ المستعمر بمؤونة الهيمنة. وفي سنوات لاحقة وفد سيل آخر من تيارات الفكر الغربي حاملاً لواء الماركسية، ومتخذاً من الثورة البلشفية ركناً يلوذ به.
وعلى حين غرّة، وفي لحظة غفلة رضت حكمة الشرق بإنجازاتها، دقّت الماركسيةُ نواقيس الخطر، وكان خطراً موحشاً، أربك المؤسّسة الدينيّة بزحف داهم البيوت، فاستيقظت هذه المؤسّسة بما لها من عمق بشري، مدافعة عن إيمانها الذي هدّده الإلحاد الماركسي، وعن قيمها التي ناجزتها قيم الفكر المادي الزاحف بشكل منظّم، وكان دفاعها دفاعاً سلبياً بوجه عام. وإلى حقول هذه المؤسّسة هرع الفلاح العلامة هاجراً مسقط رأسه ومزرعته، ليبدأ زرعاً من لون آخر[33].
تعاضدت عدّة أسباب دفعت بالطباطبائي إلى اتخاذ هذه الخطوة، من أهمها: ازدياد حجم المطبوعات الفلسفية في إيران بفعل الترجمة من دون ضوابط من جهة، واهتمام الشباب الإيراني بفكر فلاسفة أوروبا الذي راح ينتشر بفعل تلك الترجمة من جهة ثانية، إضافة إلى انتشار المطبوعات المُروّجة للمادية الديالكتيكية، والتي يقف خلفها خط سياسي وجهاز حزبي ممثلاً بالحزب الشيوعي الإيراني. وقد كان لصدور كتاب نگهبان سِحْر أفسون (الحارس السّحري) (عام 1950م) دافعاً مؤثراً، إذ تعرَّض الكتاب للأديان والمذاهب بالاستهزاء والسخرية بخسة متناهية، وتهكَّم بالمتدينين ورجال الدين بشراسة[34].
استقرَّ الطباطبائي في مدينة قم المقدّسة، وعمل على إحياء درس المعقول فيها إلى جانب الأبحاث التفسيرية والقرآنية، التي كانت تخلو منهما المعاهد الدينية العلميّة أو تكاد. كما بادر إلى تأسيس جمعيّة فلسفيّة، ضمّت في عضويتها كفاءات فلسفية، اهتمّت بإثارة البحث والنقد في قضايا الفلسفة، حتّى أضحى العلامة المدرس الوِتر لهذه العلوم في حوزة قم العلميّة.
بعد انتهاء الطباطبائي من تدريس دورة من كتاب (الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة)، عزم على القيام بالبحث المقارن بين الفلسفتين الشرقيّة والغربيّة. وقد كان يعتقد أن البحث فيما لو أقيم على أساس البرهان والطرق الصحيحة، فمن المستحيل أن نخرج بنتيجتين مختلفتين وفي أية مدرسة كنّا، ولهذا يجب أن نتتبّع سرَّ الاختلاف بين الفلسفتين وبيان نقاط الضعف فيهما[35]. وبحسب شهادة تلميذه المطهري (1919 ـ 1979م) فإن الطباطبائي كان من سنوات يهمّ على تأليف دورة فلسفية تتشابك فيها معطيات الفلسفة الإسلامية التي نمت شجرتها خلال ألف سنة من الزمان، مع نظريات فلاسفة أوربا المحدثين، وتهدف إلى ردم الهوّة بين هذين اللونين من التفكير حتى تكون منسجمة مع مزاج العصر، وتظلّ في الوقت ذاته محافظة على قيمة الفلسفة الإلهية وتتصدّى لفكرة انتهاء عصر الميتافيزيقيا والإلهيات[36].
ولهذا المقصد قام بانتقاء ثلّةٍ من تلامذته لتشكيل حلقته الفلسفيّة، والْتَأمت منذ سنة (1951م) بعقد ندوة علميّة فلسفيّة في ليالي تعطيل الدراسة من كلّ أسبوع (ليالي الخميس والجمعة)، واستمرّت حتّى سنة (1957م). وضمّت يوم تأسيسها كلاً من: مرتضى المطهري، محمد حسين بهشتي (1928 ـ 1981م)، إبراهيم الأميني (1925 معاصر)، عبد الحميد الشربياني (1889 ـ 2015م)، موسى الصّدر (1928 ـ 1978م)، حسين علي المنتظري (1922 ـ 2009م)، محمد مفتّح (1928 ـ 1979م)، علي قدّوسي (1927 ـ 1981م)، جعفر السبحاني (1929 ـ معاصر)[37]، وانضم لها آخرون فيما بعد.
كانت طريقة الندوة تتمثّل في أن يقوم الطباطبائي بإعداد بحوث تلقى في الجلسة، وبعد ذلك يبدأ الحاضرون بمناقشة ما طرحه الأستاذ، فكان حصيلة هذه الدروس والحوارات، أن ولدت النواة الأولى لكتاب أصول الفلسفة والمنهج الواقعي (اصول فلسفه وروش رئاليسم)، الذي يعدُّ من أبرز مؤلّفات الفيلسوف العلامة إلى جانب موسوعته التفسيرية القيّمة (الميزان).
جرى العلامة في هذه الأبحاث، على عرض المطالب بنحو موجز مكثّف، يبتعد ما أمكن عن الإبهام والتعقيد وعدم الوضوح، وذلك كي تكون في متناول أكبر عدد ممكن من القرّاء من ذوي الذوق الفلسفي مع التوفّر على الحد الأدنى من المعلومات الفلسفية. وكذلك اقتصر على بيان أمهات المسائل الفلسفية، وأعرض عن بيان الأدلّة والبراهين العديدة لكلّ مسألة، واكتفى بما هو أسهل البراهين وأوضحها لإثبات المدّعى.
وبعد تحرير المباحث التي كانت تلقى في تلك الجلسات الفلسفية على شكل مقالات، أخذ عشّاق الفلسفة وطلاب المعرفة والشرائح المثقفة داخل مدينة قم وخارجها باستنساخها، فكانت تنتقل من يد إلى أخرى، إلى أن زاد الإلحاح على طبعها على شكل كتاب حتى يستفيد منها عموم القرّاء.
كانت تعتري فكرة طباعتها على شكل كتاب بعض الصعوبات والمعوّقات، إذ برغم أن العلامة الطباطبائي قد تحرّى التبسيط فيها وتجنّب التعقيد والانغلاق الذي هو السمة الغالبة لكتب الفلسفة، إلا أنها مع ذلك كانت عسيرة على الفهم العام، وبسبب انشغالات الطباطبائي المتعددة العلمية والدراسية، طلبَ من تلميذه العلامة مطهّري، والذي كان وقتها انتقل للاستقرار في طهران بسبب ظروف معينة، أن يقوم بمهمة إيضاح وبسط مطالبها أكثر حتى تكون في متناول جميع القرّاء[38].
كان اختيار الطباطبائي للمطهّري في غاية التوفيق، فقد اضطلع الأخير بالمهمّة على أحسن ما يكون، إذ بذل المطهّري الوسع والجهد في كتابة تعليقاته لتكون لائقة بما طرحه أستاذه، حتّى أن العلامة الطباطبائي يحدثنا بما ينبئ عن جهود المطهّري قائلاً: «لكي يصل المرحوم مطهّري إلى عمق مسألة (القوة والفعل) التي طرحت للبحث في أصول الفلسفة، أخذني معه إلى طهران وأبقاني في بيته أسبوعاً كاملاً، حيث تباحث معي في المسألة لكي يستوعبها بعمق ويستطيع أن يكتب حواشيه عليها، ولم يقنع إلا بعد أسبوع كامل من البحث»[39].
وبعد أن التأَمَ شتات المتن والشرح، صدر الكتاب في خمسة أجزاء بالفارسيّة تباعاً. ضم الجزء الأول الصادر سنة (1953م) أربعة مقالات: ماهي الفلسفة، الفلسفة والسفسطة والواقعية والمثالية، العلم والإدراك، قيمة المعرفة. فيما ضم الجزء الثاني الصادر سنة (1954م) مقالتين: نمو المعرفة وحصول الكثرة في الإدراكات، والإدراكات الاعتبارية.
تأخر صدور الجزء الثالث سنتين عن صدور الثاني (1956م)، وضم المقالات: الوجود وواقع الأشياء، الضرورة والإمكان، العلّة والعلول. أما رابع الأجزاء الذي لم يتم المطهري تعليقاته عليه وصدر بعد استشهاده[40]، فقد ضمّ المقالات: القوة والفعل/ الإمكان والفعلية، القدم والحدوث، الوحدة والكثرة، الماهية/ الجوهر والعرض. وجاء خامس الأجزاء الصادر سنة (1971م) في مقالة واحدة هي الرابعة عشرة تحت عنوان: إله العالَم والعالَم، وقد تأخّر صدوره عن بقية الأجزاء أكثر من عشرة سنوات.
شكّل صدور الجزء الأوّل من الكتاب أعمق تحدٍ فلسفي واجهته الاتجاهات المادية الديالكتيكية الناطقة بالفارسية، ولذلك عكف المعنيون بالشأن الفلسفي الماركسي على مراجعته، فأدهشتهم البراهين التي ساقها الطباطبائي في نقض الأسس الفلسفية للمادية الديالكتيكية، وبهرتهم الأمانة والدقة العلمية التي تحلّى بها.
لقد مثّل جهد الطباطبائي وجّدته في مقالات الكتاب، خطوة أساسيّة أدخلت الفلسفة في إيران مرحلةً جديدةً غير منظورة، إذ لم تتجاوز معلومات دارسي الفلسفة قبل ذلك معطيات الكتب المدرسية المقررة، أمّا بعد مدّة وجيزة من خطوة الطباطبائي وكتابه فقد توفّر كثير من طلاب العلوم الدينية في حوزة قم على معلومات فلسفية شاملة نسبياً، خصوصاً فيما يرتبط منها بنظريات الفلسفة المادية، واكتشاف مواطن المغالطة في أساليب استدلالها[41].
في المنهج الفلسفي للكتاب
1ـ من المعالم البارزة في مقالات كتاب أصول الفلسفة وضوح المنهج العقلي. فلقد كان تناول الطباطبائي للمواضيع الفلسفية والمقولات التي قاربها ولمختلف المشارب، وفق منهج نقدي واضح، معتمداً في ذلك كلّه على ميراث المذهب العقلي في المعرفة الذي يستند للمقولات التصورية والتصديقية الضرورية.
وبرغم إيمان الطباطبائي بتعدد مصادر المعرفة وتوزعها بين العقل والقلب والوحي، ولكنه لم يتبع في مقالات كتابه سوى العقل ومقولاته في التصور والتصديق، ولم يركن لدليل نقلي أو لحجة مستندة لمكاشفة متصوّف وتجربة عارف وإشراق متعبّد، وإنما التزم بالعقل كحجة نهائية عرضاً واستدلالاً. سيما وأن غالب مدارس الفكر التي تعرّض لها ونقدها في مقالات أصول الفلسفة لا تؤمن بالمصدرين: الكشف والنقل، وبالتالي فإن الضرورة النقدية تلزم أن يكون الأسلوب المتبع هو الأسلوب العقلي، وذلك لسعة دائرة المؤمنين به إجمالاً وإن اختلفوا في التفاصيل.
لقد ارتكز الطباطبائي في مقالات هذا الكتاب على اعتماد المقولات العقلية البديهية واتخاذها منطلقاً في نقده وتقويمه لسائر الاتجاهات والمذاهب الفكرية المختلفة. والطباطبائي في مذهبه المعرفي فيلسوف عقلي يؤمن أن كل ألوان النشاط الفكري البشري التصديقي ترجع لمقولات بديهية واضحة في نفسها وغنية عن كل برهنة، وإنما النفس تضطر للتصديق والإذعان بها، وعلاوة على ذلك فإن صدق وصحة كل برهان تتوقف عليها. وعلى رأس تلك الأصول قانون استحالة التناقض. وقد تكفلت مقالات القسم الأول من الكتاب (نظرية المعرفة) ببيان وايضاح هذا الموقف بشكل كبير.
ومن اللافت في هذا الإطار أن الطباطبائي وخلافاً لأنصار مدرسة الحكمة المتعالية قد ابتعد ببحثه عن الاعتماد على معطيات ومصطلحات التصوف والإشراق والعرفان، التي توجب فيما لو ولجت البحث الفلسفي الاضطراب والتشويش كما يرى ذلك في كتاب غرر الفرائد المعروف بشرح المنظومة.
وبتعبير آخر: إن الطباطبائي وإن كان مدرسياً ينتمي لسلسلة الحكمة المتعالية التي شيّد أركانها الفيلسوف صدر الدين الشيرازي، إلا أنه في كتاباته الفلسفية سيما أصول الفلسفة جرى وفق الأسلوب المشائي، وذلك بالاعتماد على البرهان العقلي دون الاعتناء بالذوق والتصوف، وإدخال اصطلاحات علم العرفان. ولذا قيل بحق الطباطبائي: صدرائي المبنى سينوي المشرب[42].
2 ـ أما طريقة بحث المسائل، فقد كان يعمد في المرحلة الأولى إلى توضيح المفاهيم الأساسية في كل مسألة يراد بحثها، ثم ينتقل لبيان المدعى، فالاستدلال عليه بأوضح البراهين العقلية وأخصرها، بعد ذلك ينتقل لاستعراض ما قد يرد على نتائجه من إشكالات فيعمد إلى إيضاحها، ثم يقارب الأجوبة لها.
لقد سار الطباطبائي في هذه المقالات على منهج تحليلي قائم على أساس الدراسة المستوعبة للموضوع المراد بحثه، فما لم يعط تصوراً صحيحاً للموضوع لا يلج في بحثه مطلقاً، ولا يخوض في مرحلة التدليل عليه والإثبات والنفي. بمعنى أن التصور النظري للمسائل الفلسفية في هذه المقالات يسبق مرحلة التصديق النظري، وفق الطريقة المنطقية.
وفي نقده لمختلف الأفكار والمقولات، فإنا نجد الطباطبائي يساير تلك الاتجاهات بشكل يوضح تهافتها الداخلي وتناقضها، فضلاً عن تسجيله النقد الفلسفي لها وفق القواعد الأساسية العقلية والفلسفية.
المتابع لمقالات الكتاب يجد الطباطبائي متمكناً من ملكة التحليل والتنظير الفلسفي بشكل يدهش القاري، فضلاً عن سحر البيان، وتجلّى ذلك بوضوح في مقالتي: نمو المعرفة والإدراكات الاعتبارية. وفي خصوص هاتين المقالتين فقد طرح الطباطبائي أفكاراً لم يسبق لها قديماً وحديثاً، كما سنأتي إلى ذكر ذلك في القادم من أبحاث.
3 ـ تماشى الطباطبائي مع الفلسفة الغربية في إعطاء الأولوية في البحث لمسائل نظرية المعرفة قبل الولوج في بحث نظرية الوجود، وخلافاً للفلسفة الإسلامية الموروثة التي لم تفرد مسائل المعرفة ببحث خاص. ولعلّ من أسباب ذلك أن الحقبة المعاصرة شهدت بروز تيارات وفلسفات تشكك بصحة المنهج العقلي في المعرفة بشكل واسع، وكذا التشكيك في قيمة المدركات العقلية وحدودها ومدياتها، ولذا خصّ الطباطبائي مسائل نظرية المعرفة بمقالات القسم الأول من الكتاب.
كما وأن تحليل المعضلات الفلسفية ومقاربة مشاكلها، يقتضي في المرتبة الأولى دراسة أفكار الإنسان وإدراكاته ونشاطه الذهني، ولذا فإن البحث في نظرية المعرفة (فلسفة الإدراك) يسبق الولوج في المسائل الفلسفية المتعارفة.
إن أهمية البحث في نظرية المعرفة تتأتى من جهة أن تقييم جميع المدارس الفلسفية، والمناهج العلمية، يتوقف على المنحى والاتجاه المتخذ في المعرفة، فما لم يتخذ الباحث رأياً حاسماً في المسائل المطروحة في نظرية المعرفة (مصدر المعرفة، قيمة المعرفة، حدود المعرفة)، لا يصح منه الإذعان بأي قانون فلسفي أو مسألة علمية، بمعنى أن أبحاث نظرية المعرفة توفر خيارات الباحث المعرفية.
لقد شكّل تناول العلامة الطباطبائي لنظرية المعرفة ومسائلها بشكل مفرد ومستقل ظاهرة غير مسبوقة في الفلسفة الإسلامية، ذلك أن الفلاسفة الإسلاميين لم يفردوا مسائل نظرية المعرفة بالبحث المستقل قديماً وحديثاً، وإنما غاية ما تطرّقوا إليه بعض مسائل نظرية المعرفة والتي بحثوها بشكل مشتّت في مختلف فصول علمي المنطق والفلسفة، كما يلاحظ ذلك في بحث الوجود الذهني وبحث العلم والعالِم والمعلوم. أما الطباطبائي فقد كان فريداً وسابقاً في بحث مسائل نظرية المعرفة بشكل مستقل في المقالات الأولى من الكتاب.
4 ـ انتظمت المسائل الفلسفية في الكتاب وفق طريقة شبيهة بتنظيم أبحاث الرياضيات، وذلك بأن تأخذ كل مسألة موقعها المناسب لها، فتكون مكمّلةً للمسائل المتقدمة عليها، وفي الوقت ذاته توفّر الأرضية للمسائل الآتية. وعلى هذا الأساس وبمتابعة استدلالات الطباطبائي، نجده حريصاً على أن تكون براهينُ مسألة متقدمة مُعْيِنَةً في البرهنة على المسائل اللاحقة، كما يتجلّى ذلك في استدلاله على مسألة وحدة الخالق والتي استند فيها لبرهان تقدم في مسألة إثبات وجود الخالق.
5 ـ لقد أفضت تطورات العلم الحديث ـ وما صاحب ذلك من تغيرات في الرؤى والأفكار المتعلقة بالوجود والمعرفة ـ بالمذهب التجريبي وأئمته إلى تقديس العلم التجريبي وجعله المرجعية الوحيدة في تفسير كل قضايا الوجود والمعرفة والحياة. فقد قررت تيارات هذا المذهب على تنوعها جعل التجربة المحكّ الأخير في قبول ورفض مختلف الأفكار والمقولات أيا كانت دائرتها وموضوعها. فخرجت من رحم هذه الفكرة الفلسفة العلمية التي رفعت رايتها الماركسية والمدرسة الوضعية المنطقية.
اتفقت تيارات هذا المذهب المختلفة في مسائل كثيرة على مجافاة فلسفة الوجود (الفلسفة الأولى)، والهجوم على الميتافيزيقيا والإلهيات واعتبارها أوهاماً ولغواً وتخلّفاً معرفياً، وكانت حجتهم في ذلك القاعدة الأساسيّة في المذهب التجريبي التي ترى أن قضايا الميتافيزيقيا والإلهيات تتحدث عن أمور لا يمكن التحقّق من صدقها، ومن ثم فهي خارجة عن دائرة العلم والمعرفة والحكمة.
في مقابل ذلك قدم الطباطبائي في مقالات أصول الفلسفة سيَما في مقالات القسم الأول منه، معالجات لهذا التصور وللمذهب التجريبي في قواعده الأساسية. ولأن تطبيقات قاعدة المذهب التجريبي متعدّدة، ويحتج بها أنصار المذهب المادي في كل مسألة، فقد عكفَ الطباطبائي على تقديم مقاربات ومعالجات لزوايا متعددة ترتبط بمنهج العلم التجريبي، في أكثر من مقالة في أصول الفلسفة. نجد ذلك في المقالة الأولى والخامسة والسادسة ومواضع متفرقة من المقالات الأخرى.
6 ـ وحتى يستكمل الطباطبائي إيضاح معالم المنهج الفلسفي، ويستكمل من جانب آخر نقده للفكر المادي ولما يُعرف بالفلسفة العلمية، فقد أكدت مقالات أصول الفلسفة على ضرورة الفصل والتمييز بين الفلسفة وباقي العلوم، ذلك أن الفلسفة تختلف عن العلوم منهجاً وموضوعاً وغاية، فهي تتخذ من الوجود بما هو موجود موضوعاً لها، أي الوجود بما له من صفة الإطلاق دون لحاظ خصوصية يتصف بها، بينما تتخذ العلوم دائرة أضيق في بحث الوجود وتتمحور مسائلها حول مواضيع محددة، متحيّثة بحيثيات خاصة.
ومن ناحية المنهج، فإن الفلسفة العقلية الميتافيزيقية تتخذ من البرهان العقلي بمعناه المنطقي الأرسطي وسيلة وأداة في المعرفة، بينما تتخذ العلوم من التجربة والملاحظة الحسية وسيلة لإثبات مسائلها وحلّ مشكلاتها. ويفرّع الطباطبائي على ذلك عدم إمكان استنتاج قضية فلسفية من مقدمات علمية ولا العكس، لأسباب تتعلق بطبيعة الحكم الفلسفي المرتبط بشروط البرهان.
نعم، قرر الطباطبائي إمكان الاستفادة من نتائج العلوم في انتزاع قضية فلسفية، ولكن هذا شيء والاستنتاج شيء آخر، إذ الاستنتاج يعني استخراج نتيجة فلسفية من مُقَدمَتَي قياس (صغرى وكبرى) علميتين، وهو أمر غير ممكن وفق شروط البرهان المنطقي، أما الانتزاع بواسطة مقدمة علمية تمثل صغرى القياس إلى جانب الكبرى الفلسفية، لتعطينا نتيجة فلسفية، فأمر ممكن.
وعلى وفق هذا، يرى الطباطبائي في مقام تأصيله للمنهج النقدي الفلسفي، عدم وجود قطيعة تامة بين الفلسفة والعلوم، كما لا توجد موافقة تامة، إذ لكل منهما أدواته وميدانه وفضاؤه النموذجي، ناعياً على الاتجاهات المادية الغربية عدم حفظها حريم هذه العلاقة، عندما تجاوزت حدود العلم فوقعت في خلط واشتباه[43].
رتّب الطباطبائي على ذلك أن ما نشاهده في الفلسفة الغربية في اتجاهاتها المادية من نتائج خطيرة، كإنكار عالم ما وراء المادة والميتافيزيقيا، وتفسير ظاهرة الإدراك البشري تفسيراً فسلجياً مادياً، ناشئ من الخلط والاشتباه وعدم وضع الشيء في موضعه المناسب، وتجاوز التجربة لجلدها لتمسك بالمسائل الخارجة عن حريم اختصاها، متصورين أن المسائل الفلسفية يمكن استنتاجها من مقدمات علمية تثبت بالتجربة.
ولا بد من الإشارة في هذه النقطة إلى أن الطباطبائي لم يبتعد عن الأخذ بمُسَلّمات العلم الحديث، واتخاذها أصولاً موضوعة في كثير من المسائل التي قاربها. وكذا تعاطى مع الكثير من نتائج العلوم المختلفة المعاصرة في مقاربة كثير من المسائل، سواء كانت علوماً إنسانية أم غيرها.
ومن معالم المنهج الفلسفي في كتاب أصول الفلسفة فصلُ الطباطبائي وتمييزُه بين المدركات الحقيقية والاعتبارية، ذلك أن حصول الخلط في البحث الفلسفي بين المدركات الحقيقية والاعتبارية يوجب الاضطراب في تصور المسائل الفلسفية فضلاً عن التصديق بها، وقد أدى هذا الخلط في علوم مختلفة إلى التباس وتشويش، كما يلاحظ في بعض مسائل علم أصول الفقه. ولذا اضطلع الطباطبائي بمهمّة كشف النقاب عن هذه المسألة، وتوصّل إلى تفسير محدّد للفرق بين هذين النوعين من الادراكات، وأكد على أن البرهان لا يجري في الإدراكات الاعتبارية، وعلى هذا فهي خارجة عن البحث الفلسفي.
[1]*ـ باحث وأستاذ في الحوزة العلمية ـ النجف الأشرف ـ العراق.
[2]ـ المثقّفون في الحضارة العربية، محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد، د. محمد عابد الجابري: 27، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثانية، بيروت 2000م. وقد طبعت الترجمة الأولى هذه سنة 1143م بفضل اللاهوتي السويسري تيودور ببلياندر (1509 ـ 1564م) ضمن حملة واسعة لدحض الإسلام.
[3]ـ أثر الفلسفة العربية في الفكر الأوروبّي خلال القرون الوسطى، يوئيل يوسف عزيز: 65، سلسلة آفاق عربية، العدد الثاني، بغداد 1985م.
[4]ـ نزعة التغريب، جلال آل أحمد: 59، ترجمة: حيدر نجف، مراجعة: عبد الجبّار الرفاعي، كتاب قضايا إسلامية معاصرة، الكتاب 21، مؤسسة الأعراف للنشر 2000م.
[5]ـ صفحة من رحلة الإمام الزنجاني، محمد هادي الدفتر 1: 357، مؤسسة النعمان للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الثالثة، بيروت 1996م.
[6]ـ علي عبد الله الزنوزي، من مشاهير الفلاسفة الإسلاميين في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين، جمع بين المعقول والمنقول، واضطلع بمهمة التدريس بمدرسة (عالي سپهسالار) في طهران. لقّب بأستاذ الأساتذة، توفي بطهران، ويعتبر من المؤسّسين بعد صدر الدين الشيرازي. من مؤلّفاته: بدائع الحكم، حاشية على الأسفار، سبيل الرشاد في أحوال المعاد، النفس كل القوى.
[7]ـ الذريعة إلى تصانيف الشيعة، آقا بزرك الطهراني 3: 64، دار الأضواء، بيروت، الطبعة الثالثة.
[8]ـ أحد مشاهير الكتّاب الفرنسيين، ومؤسّس طريقة عنصرية في فلسفة التاريخ عرفت بـ(الجوبينية)، كان لها أتباع كثيرون خصوصاً في ألمانيا. أقام في طهران السنوات (1855 ـ 1858م) بوصفه النائب الأوّل لسفارة فرنسا، كما مكث فيها (1862 ـ 1864م) بمنصب الوزير المفوّض.
[9] ـLes Religions et les Philosophies Dans L’asie Centrale, M. Le Comte De Gobineau :9397, Paris 1866.
[10]ـ دروس الفلسفة، الشيخ عبد الكريم الزنجاني 1: 16 ـ 17، مطبعة الغري الحديثة ـ النجف، الطبعة الثانية 1962م.
[11]ـ دروس الفلسفة 1: 31، 36.
[12]ـ دروس الفلسفة 1: 40 ـ45.
[13]ـ أي سنة 1953م.
[14]ـ أصول الفلسفة 1: 42 ـ 43، مقدّمة الشارح.
[15]ـ مدخل إلى منهج لنقد الغرب قراءة في دراسات الشهيد الصدر، الاستغراب 1: 118، خريف 2015م.
[16]ـ صدرت عن النص الإنجليزي بعنوان: نقد العقل المجرّد، في بمجلّد ضخم عام 1965م عن دار اليقظة البيروتية.
[17]ـ نقد العقل المحض، عمانوئيل كانط، ترجمة وتقديم موسى وهبة: 5 ـ 6 الهامش، مركز الإنماء القومي ـ لبنان.
[18]ـ العقل وما بعد الطبيعية، تأويل جديد لفلسفتي هيوم وكانط، محمد إبراهيم الخشت: 227، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى 2005م.
[19]ـ صدرت عن المنظمة العربية للترجمة ببيروت 2013م.
[20]ـ منطق الاستقراء، السيّد عمّار أبو رغيف: 52 بتصرّف، دار الفقه للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1427هـ.
[21]ـ انظر: الوجودية، جون ما كوري، ترجمة: د. إمام عبد الفتاح إمام. سلسلة عالم المعرفة 1982م.
[22]ـ منطق الاستقراء: 53 بتصرّف.
[23]ـ ترجمه الدكتور نصر إلى الإنجليزية تحت عنوان Shi’ite in Islam بمساعدة وليام شيتيك.
[24]ـ الشيعة في الإسلام، السيد محمد حسين الطباطبائي، مؤسسة الإمام الحسين g، قم، الطبعة الثانية 2004م.
[25]ـ رسالة التشيّع في العالم المعاصر، الطباطبائي: 12 ـ 14، مقدمة المترجم.
[26]ـ انظر: الشيعة، نص الحوار مع المستشرق كوربان، محمد حسين الطباطبائي، نقله إلى العربية جواد علي، مؤسسة أم القرى للتحقيق والنشر، الطبعة الأولى 1416هـ.
[27]ـ الشيعة، نص الحوار مع المستشرق كوربان: 123.
[28]ـ انظر: الاستشراق، المفاهيم الغربية للشرق، إدوارد سعيد، ترجمة: د. محمد عناني، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة 2006م.
[29]ـ لشيعة، نص الحوار مع المستشرق كوربان: 223.
[30]ـ الأعمال الكاملة، العودة إلى الذات، علي شريعتي 10: 139 ـ 140، ترجمة: د. إبراهيم دسوقي شتا، مراجعة: حسين علي شعيب، دار ابن طاووس، الطبعة الثالثة 2010م.
[31]ـ رسالة التشيّع في العالم المعاصر: 13، مقدمة المترجم.
[32]ـ مقالات تأسيسية في الفكر الإسلامي، محمد حسين الطباطبائي، تعريب خالد توفيق، مؤسسة أم القرى للتحقيق والنشر، الطبعة الأولى 1415هـ.
[33]ـ أصول الفلسفة والمنهج الواقعي 1: 15 ـ 16، مقدمة الأستاذ المترجم.
[34]ـ محمد حسين الطباطبائي مفسّراً وفيلسوفاً، دراسات في فكره ومنهجه، مجموعة من الباحثين: 61، تعريب: عباس صافي، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى 2012م.
[35]ـ الشمس الساطعة، محمد حسين الطهراني: 56، تعريب: عباس نور الدين وعبد الرحيم مبارك، دار الأولياء، الطبعة الثانية 2008م.
[36]ـ أصول الفلسفة 1: 45.
[37]ـ محمد حسين الطباطبائي مفسّراً وفيلسوفاً: 61.
[38]ـ صول الفلسفة والمنهج الواقعي 1: 46، مقدمة الشارح.
[39]ـ ذكرياتي مع الشهيد مطهري، الشيخ علي الدوّاني: 22، ترجمة خالد توفيق، مؤسسة أم القرى للتحقيق والنشرـ قم، الطبعة الأولى 1417هـ ش.
[40]ـ اصول فلسفه وروش رئاليسم 4: 5، بنياد علمى وفرهنگي أستاذ شهيد مرتضى مطهرى.
[41]ـ أصول الفلسفة 1: 46، مقدمة الشارح.
[42]ـ إيضاح الحكمة في شرح بداية الحكمة، علي الرباني الكلبايكاني 1: 16، ترجمة: الشيخ محمد شقير، دار زين العابدين 2011م.
[43]ـ انظر المقالة الأولى من أصول الفلسفة.