البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

روحانية "العصر الجديد" بديلاً من العلمنة - بطلان الديانة الفردية

الباحث :  ستيف بروس Steve Bruce
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  2
السنة :  السنة الثانية - شتاء 2016 م / 1437 هـ
تاريخ إضافة البحث :  December / 26 / 2015
عدد زيارات البحث :  1592
تحميل  ( 320.076 KB )
روحانية "العصر الجديد" بديلاً من العلمنة
بطلان الديانة الفردية
ستيف بروس Steve Bruce [1][*]
يُؤسس عالم الاجتماع البريطاني ستيف بروس بحثه هذا على نقد النموذج الفكري العلماني السائد الآن في الغرب عموماً، وفي المجتمع الأنكلوساكسوني البريطاني على وجه التعيين. يرى بروس أن الاتجاه الذي يسمّيه روحانية "العصر الجديد" هو اتجاه يجمع بين نقد العلمانية الحادة، واعتماد روحانية اجتماعية تقوم على الاستمداد القيمي من جميع الأديان على المستويين الفردي والاجتماعي.
يفترض هذا البحث أن روحانية "العصر الجديد" قد تكون بديلاً من العلمنة، وكذلك بديلاً من الديانة الفردية التي ظهر بطلانها عندما استحكمت العلمانية بولادتها وتطورها.
أهمية البحث أنه يُجري إستقصاءات ميدانية في المجتمع البريطاني للبرهنة على استمرار تراجع السلوك التقليدي للكنيسة، وكذلك للبرهنة على ظاهرة الإنكفاء في ثقافة العلمنة.
المحرر
يَجمعُ النموذج الفكري العلماني بين شيئين: الأول، توكيد للتغيّر في حضور وطبيعة الدين، والثاني مجموعة من الشروح لهذه التغيرات. هذا الجمع ليس قانوناً علمياً ينطبق على كل الظواهر في جميع الأحوال، بل هو توصيف وتبيان للمجتمعات الأوروبية الماضية، والمجتمعات الاستيطانية التي أنتجتها خارج أوروبا. وبخلاف التصاوير المثيرة للسخرية التي طالما قدَّمت هذا النموذج الفكري فهو ليس نموذجاً تطورياً بسيطاً ولا يتضمن مستقبلاً موحداً وفريداً إلا أنه يفترض وجود منطق معين للتغيرات الاجتماعية: أي أن بعض التغيرات تتفاعل مع بعضها البعض، فيما بعضها الآخر يتناقض مع نظيره. فعلى سبيل المثال يمكن للمجتمعات الإقطاعية أن تتضمن كنائس رسمية قوية وفعالة، أما الديموقراطيات الليبرالية فلا يمكنها ذلك. ليس هذا الأمر وليد الصدفة، بل ـ كما سأبين لاحقاً ـ فإنه يمكننا تفسيره من خلال السمات الجوهرية لهذا النوع الأخير من المجتمعات.
التوضيح الكامل للنموذج الفكري العلماني مع البيانات اللازمة بهذا التوضيح يحتاج على الأقل إلى كتاب كامل لإقناع أصحاب العقول المنفتحة. أنا شخصياً قد استغرقني هذا الأمر تأليف ثلاثة كتب. كل ما يمكنني فعله هنا هو تقديم بعض الوقائع التبيانية وتوضيح جزء من الشرح وتفحص إحدى بدائل النموذج الفكري العلماني ببعض التفصيل. مع رجائي من كرم القارئ أن يكون على بيِّنة من أنني تعاملت مع الانتقادات الواضحة لآرائي في عمل آخر من أعمالي.
أحوال النموذج الفكريّ العلمانيّ
في عام 1851 كان نصف سكان بريطانيا يذهبون إلى الكنيسة بانتظام، لكن عدد من يفعل هذا اليوم لا يتجاوز الثمانية بالمئة من السكان. لا توجد لدينا إحصائيات دقيقة حول المعتقدات الدينية إلا تلك التي تعود إلى السنوات الخمسين الأخيرة والتي تظهر مساراً مشابهاً لانحدار نسبة الحضور في الكنيسة. كما تظهر هذه الإحصاءات انحداراً ثابتاً في انتشار المعتقدات المسيحية. أما بالنسبة للإيمان بوجود الله، فالبريطانيون منقسمون إلى أربعة مواقف متساوية في أعداد المعتقدين بها تقريباً وهي: الإيمان بوجود إله خالق «شخصي» (أي تصور الإله على أنه شخص بذاته يحب ويغضب ويرضى وهو التصور الديني للإله)، ـ الإيمان بوجود «قوة أعلى حية» أي (الاعتقاد الغامض بوجود قوة ما أعلى من الإنسان دون اتفاق على كينونتها أو صفاتها)، الإلحاد المحض، أو اللاأدرية. في يوم من الأيام كان التعميد شأناً عمومياً لكل مولود في بريطانيا، بل لقد كان يعتبر أساسياً في القرون الوسطى. إلى درجة أن القابلات كنَّ يتَّبعنَ طريقة بسيطة في تعميد الطفل الحديث الولادة إذا اعتقدن أنه قد لا يبقى على قيد الحياة حتى وصول راهب ليعمده. في يومنا هذا لا يلقى إلا ثلث الأطفال الحديثي الولادة. أما بالنسبة للزواج فإن ثلثي الزيجات عام 1971 كانت تجري على أساس ديني وضمن مؤسسة دينية، أما اليوم فلا يتجاوز عدد الزيجات التي تتم بهذه الطريقة نسبة الثلث.
لا حاجة لنا أن نتوسع في هذه النقطة كثيراً، فأي شخص ذي اطلاع على المجتمعات الأوروبية يعي تمام الوعي الانحدار الهائل في الانتماء إلى الأديان المنظمة. في هولندا مثلاً تزايد عدد السكان البالغين الذين يصفون أنفسهم بأنهم لا ينتمون إلى ديانة معينة من 14 بالمئة عام 1930 إلى 39 بالمئة عام 1997 ثم إلى 42 بالمئة عام 2003.[2] كذلك فالغالبية الساحقة من السويديين (95 بالمئة) لا يحضرون طقوس العبادة العامة. أما في السويد فإن نسبة السكان الملتزمين بمعتقدات الدين المسيحي، أو بأي نشاطات دينية تقليدية مثل الصلاة والحضور إلى الكنيسة قد تناقص بشكل كبير خلال القرن العشرين... لا تشير البيانات إلى انحدار شيوع هذه المعتقدات فحسب، بل حتى على انحدار أهمية هذه المعتقدات [بالنسبة إلى الناس][3].
حتى الولايات المتحدة ـ التي طالما اعتبرها علماء الاجتماع «الاستثناء الكبير» في الدول العلمانية ـ فلا يتجاوز عدد الذين يذهبون إلى الكنائس العشرين بالمئة مقارنة مع نسبة خمسين بالمئة عام 1950. الأهم من ذلك، أن الأشخاص الذين يحضرون إلى الكنائس اليوم يرتبطون مع الديانات المنظمة بروحية مختلفة تماماً عن تلك التي كان أجدادهم يتمتعون بها. فقد تخلى معظم المسيحيين عن التركيز على «الخارق للطبيعة» بينما نجد أن النقطة الرئيسية التي يركز عليها المتدينون هي المنافع النفسية الشفائية التي يحظى بها أصحاب الإيمان (وهو أمر كان ثانوياً مقارنة بما مضى لجهة السعي إلى رضا الله والنجاة في الآخرة). لقد اختلفت طريقة تعامل معظم المؤمنين مع دياناتهم بشكل كبير إذ تحولوا من أتباع مخلصين إلى تسهلكين انتقائيين لـ«سلع» الدين النفسية والروحية.
إن تفسير هذا التراجع في دور الدين هو أمر معقد بطبيعته، والرسم البياني الذي أستخدمه عادة لتمثيل النموذج الفكري العلماني يحتوي على 21 مربعاً!. سأذكر بعض الأشياء الأساسية التي تحتوي عليها هذه المربعات: أولاً: إن المقولة بأن العلم يحل محل الدين في منافسة تكون فيها مكاسب أحد الطرفين خسارة الطرف الآخر لا تتجاوز كونها فرضية مضلِّلة. فعلى عكس توقعات علماء اللاهوت الليبراليين في أواخر القرن التاسع عشر الذين دعوا إلى «النقد التاريخي» للنصوص التوراتية والإنجيلية، فمن البيِّن أن الناس في عصرنا الحديث قادرون على تصديق أنواع مختلفة من الهراء (وكل ما عليك فعله لتصدق هذه النقطة هو أن تبحث في الانتشار الواسع لقصص «الاختطاف من قبل رجال فضاء». كذلك الأمر بالنسبة إلى نظريات «التفوق العرقي» التي يعتقد معتنقوها أنها نظريات «علمية»). أما بالنسبة إلى مدى تأثير العلم على الإيمان فإن التكنولوجيا القائمة على اكتشافات العلوم هي ما يعطينا الشعور ـ الصحيح أو الخاطئ ـ بأننا قادرون على التحكم بمصائرنا. فقد أدت ظروف حياة فلاحي القرون الوسطى إلى سيادة الإحساس بعدم أهمية الفرد سواء أمام الأقدار الغيبية أم في أعين أسيادهم من النبلاء الدنيويين، وبالمقارنة مع هذا المنظور إلى الدنيا فإن المستهلكين الغربيين في عصرنا الحديث يتمتعون بشعور مفرط بأهميتهم الفردية، إذ يمكن لكل واحد منهم أن «يختار» الأدوات الإلكترونية التي يرغب في شرائها كما يمكن لكل واحد منهم أن «يختار» الحكومة التي يرغب في أن تحكمه، بل ويمكن له أن «يختار» التصور الذي يشاء بالنسبة إلى الإله الذي يؤمن به وبالطريقة التي يتعامل بها مع هذا الإيمان.
لقد أسهم ائتلاف المساواة مع النزعة الفردية ومع التنوع الفكري والإثني والعرقي في تهميش دور الدين في حياة الناس في الغرب. ذلك لأن صدقية أي نظام من المعتقدات تصل إلى مداها الأقصى إذا كانت توافقية، أي إذا آمن جميع الناس في محيط معين بنظام المعتقدات نفسه. وإذا حصل هذا فلن يعود الأمر يتعلق بمجرد «معتقدات»، بل سيصبح هذا النظام هو الرواية الدقيقة لواقع وحقيقة الأشياء. لقد استخدم بيتر بيرغر مقاربة ألفريد شوتز الفينومينولوجية لعلم الاجتماع كي ينبهنا إلى تأثير «تعدد العوالم الحياتية» في قدرة الناس على تصديق الأنظمة الاعتقادية الدينية يقول في هذا الخصوص:
.. أفضل توصيف لوضعنا هو أنه «سوق» من وجهات النظر تجاه العالم تتنافس آنياً مع بعضها البعض. في وضع كهذا يصعب الحفاظ على أي يقين يتجاوز الضروريات التجريبية المحسوسة المباشرة سواء على صعيد الفرد أم المجتمع. وكما إن الدين في جوهره يقوم على اليقينيات الغيبية فإن الوضع التعددي يؤدي في جوهره أيضاً إلى العلمانية، ومن البديهي أنه يسوق الدين إلى أزمة في المصداقيّة[4].
لا يعني هذا بالضرورة أن التعددية ستؤدي بالناس إلى التشكيك في الحقائق الدينية، فالاستجابة الأولى للتهديد الإدراكي هذا عادة ما يكون قتالياً وعدوانياً، حيث يتعرض «الضالُّون» للقتل أو الطرد أو التغيير القسري لمعتقداتهم. هنا تكمن أهمية المساواة؛ ففي المجتمعات الصناعية الحداثية التي نشأت في أوروبا في أواخر القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر تزايد تقبل الناس لحقيقة أن البشر وبالرغم من التفاوت البديهي في أماكن ولادتهم ووضعهم الاجتماعي ومواهبهم فإنهم جميعاً بطبيعتهم «جزء من كل». ولذا تضاعف تردد الناس في فرض الالتزام الديني على الجميع من ناحية كما أصبحت الطبقات الحاكمة ترى في التناغم الاجتماعي غاية أهم من الحفاظ على التعاليم الدينية بحذافيرها. وشيئاً فشيئاً تحول تركيز حركة الإصلاح الديني من المسؤولية الفردية إلى مطالبة بحقوق الأفراد، وشيئاً فشيئاً انفصلت هذه الحقوق عن الهويات الدينية.
نظرية حيادية الدولة
ما لم تكن الدولة المتجهة إلى الحداثة مستعدة لخوض مستوى عال من النزاع الاجتماعي (ولم تكن أي من الدول مستعدة لذلك) فقد كان عليها اعتناق التعددية، ولفعل ذلك كان عليها أن تصبح حيادية على المستوى الديني وبشكل متزايد. الأمر الذي أدى إلى عزوف الساحة العامة شيئاً فشيئاً عن التوجهات والتوجيهات الدينية. لم يكن هذا يعني زوال دعم الدولة الرسمي لدين محدد فحسب، فالأهم من ذلك ـ وهنا يصبح اهتمام بيرغر بالتعاطي مع الأمور كمسلَّمات في غاية الأهمية ـ هو أن هذا كان يعني أيضاً زوال فرص كبيرة أمام تعزيز المعتقدات الدينية من خلال تفاعلاتنا اليومية. فالمجتمع إذا كان يؤمن بأكمله بعقيدة واحدة فسوف يتعامل أفراده مع الأحداث الكبيرة مثل الولادة والزواج والموت من المنظور الديني المشترك، بل سيتعاملون مع تعاقب الفصول بالطريقة نفسها وفي كل يوم ستعزز أي محادثة نجريها مع أي من معارفنا من اعتقادنا الديني حتى لو تعلق الأمر بأمور في غاية التفاهة مثل الطقس في نهار ما أو نتاج المحصول الزراعي في موسم معين. لقد أدى تشظي الثقافة الدينية في المجتمع الواحد إلى بدائل متنافسة متعددة إلى الحد بشكل كبير من هذا التعزيز الاجتماعي الروتيني للعقائد. إذ لم يعد بإمكاننا أن نكون على ثقة بأن أي شخص نقابله سيشاركنا في عقيدتنا الدينية، ولذلك فإننا غالباً ما كنا نحتفظ بهذه العقيدة لأنفسنا.
أما على صعيد المجتمع فإن النتيجة على المدى البعيد تمثلت في التحول إلى أشكال أكثر ليبرالية وتسامحاً حيال الدين. ومن بعد ذلك فإن مثل هذا التحول التدريجي أدى إلى نوع حميد من عدم الاكتراث؛ إذ حين تصبح جميع الديانات متساوية من حيث نظرة الناس إلى صحتها فسوف يفقد الوالدان الحافز ليربوا أولادهم على أساس أي نوع من العقائد كما أن هذه الأجواء المحيطة غالباً ما تكون «أراض صخرية» يندر أن تنبت فيها بذور الإيمان.
إذا نظرنا إلى الأمر من حيث تصنيف الأشكال الدينية المشتق من نظريات ماكس فيبر وإرنست تريليتش فإن نوع الدين الكنسي (الذي يشتمل على ثقافة دينية موحدة مشتركة ومؤسسة دينية تقدم الهيكلية الوحيدة التي على المجتمع بأكمله أن يعتقد بها) يصبح نادراً في هذه المجتمعات الحديثة إلا في حالات تكون فيها الكنيسة هي الضامن الأكبر للهوية الوطنية والتكامل الاجتماعي كما كانت الحال في بولندا حتى سنة 1990 وإيرلندا حتى سنة 1960. لكن حين يفقد هذا الدور أهميته فسوف نجد أن معدل الأتباع الملتزمين يتهاوى بسرعة حيث يرى الناس إلى الكنيسة حالئذٍ مركزاً من مراكز القوة ليس أكثر.
علي هنا أن أضيف نقطة جانبية مختصرة تتعلق بالمخاوف حول الأصولية الإسلامية في الغرب، وردات فعل بعض المسلمين الغربيين على بعض شؤون السياسة الخارجية، مثل حرب العراق والقضية الفلسطينية. فقد أدت هذه المخاوف ببعض المعلقين إلى القول بأن الشكل «الكنسي» من الدين قد يستعيد بعض قوته السابقة؛ أصل الفكرة هنا أن التحديات الإسلامية لليبرالية الغربية والعلمانية قد تحفز الغربيين على نهضة دينية مسيحية، حيث سيشعر الأوروبيون المنتمون ولو إسمياً وثقافياً بأن عليهم أن يقوموا باستكشاف إرثهم العقائدي السابق الذي هيمنت عليه المسيحية ومن بعد ذلك الالتزام الفعلي بذلك الإرث. أي أن عودة المخاوف من التواجد العام لدين ما قد يشجع نهضة دينية بمعناها التقليدي. لكن هذا يبدو أملاً في غير محله، فأعداد الناس الذين وصفوا أنفسهم بأنهم «مسيحيون» في إنجلترا وويلز خلال التعداد السكاني الذي أجري سنة 2001 أكبر بشكل هائل من عدد الأناس الذين يتكلفون عناء الحضور إلى أي كنيسة مسيحية، وبالإضافة إلى هذا فلا توجد أي دلائل عملية تجريبية تشير إلى حصول أي نهضة! وبغض النظر عن مقدار الخوف الذي يبثه التطرف الإسلامي حول مستقبل العلمانية في أوروبا. فإن الأثر الذي تتركه هذه المخاوف يسير باتجاه معاكس تماماً لما يرجوه قادة الكنائس: فلأن معظم البريطانيين لا يمتلكون أدنى معرفة بالدين المسيحي (ناهيك عن الالتزام به) فإنهم لا يرون في التطرف الإسلامي دليلاً على أن الإسلام «دين سيء» بقدر ما يرونه تأكيداً لمبدئهم العلماني بأن الالتزام الزائد بأي دين قد يؤدي إلى نتائج سيئة.
عودة الآن إلى تصنيف أشكال الدين: يمكن للطائفة (sect) أن تبقى إذا نجحت في عزل نفسها عن المجتمع الأوسع (وهو أمر ممكن في بعض أجزاء الولايات المتحدة، إلا أنه مستحيل في المجتمعات الأوروبية) لكن هذا يأتي في مقابل تضحيات كبيرة من جانب أعضاء هذه الطائفة. أما الانتماء الديني الأوسع (denomination) فسوف يتقلص حكماً. ذلك لأن أعضاءه سيفتقدون لأي حافز قوي يدفعهم إلى توجيه أولادهم دينياً. وهنا نصل إلى النقاش حول الفئة الدينية (cult). وهو مصطلح يستخدم غالباً في الإشارة إلى أي دين جديد صغير لا يعجبنا، أما أنا فأستخدمه للإشارة إلى شكل من التدين المتفرق شديد التسامح الذي يؤكد على التجربة الخاصة ويعطي الفرد السلطة الأساسية ليقرر ما سيؤمن به. لا يوجد هذا النوع من الدين في منظمات رسمية بل في بيئات مختلفة: في عالم من المخارج والتعبيرات المختلفة يسير فيها الأفراد في مساراتهم الخاصة التي يفضلونها. ما أريد مناقشته في بقية هذا المقال هو مستقبل هذا النوع من التدين.
الروحانية المتفرقة
يرتكز الكثير من الآراء والنظريات المعارضة للنموذج الفكري العلماني على فكرة أن الناس بطبيعتهم وجوهرهم متديِّنون. لا يرى أصحاب هذه الفكرة الدين كإنجاز اجتماعي (كما هو الحال مثلاً في التحدث باللغة الفرنسية) ولكن كتعبير عن حاجة بيولوجية فطرية في الإنسان. إن مجرد حقيقة كوننا جميعاً سنموت يوماً ما من ناحية، بالإضافة إلى قدرتنا على التمييز بين النفس والجسد تدفع بنا إلى طرح ما أسماه عالم اللاهوت بول تيليش: «الأسئلة النهائية الكبرى».
إذا كان لدينا جميعاً حاجة فطرية إلى التدين فإن العلمانية الكاملة على المدى البعيد تبدو أمراً مستحيلاً. هذا يعني أنه إذا تراجع انتشار أديان معينة في حقبة زمنية معينة، فسرعان ما ستبرز أديان أخرى محلها لسد الفجوة. وبالفعل فقد بدا في سبعينيات القرن الماضي وكأن الحركات الدينية الجديدة المستوحاة من الديانات الشرقية ستسد الفراغ الذي خلفه تراجع الكنائس المسيحية. إلا أن هذا الظن ما لبث أن تبيَّن أنه في غير محله إذ لم يبلغ كامل المنتسبين إلى هذه الحركات الدينية عدداً مساوياً لما تفقده الكنائس المسيحية الكبرى في بريطانيا كل شهر! فلم يعدَ أمل أن تعيد هذه التجديدات واقع التدين الذي ساد بين الناس سنة 1900 أو حتى سنة 1950 كونه في الحقيقة محض أوهام.
لعل الأمر الذي ينطوي على صدقية أكبر، هو في توجه الناس نحو الارتباط مع فئات «العصر الجديد» (New Age). وهو توجه روحي يركز بشكل كبير على التجربة الفردية الشخصية. وقد عبر الفيلسوف الفرنسي ريجيس دوبريه عن هذه الظاهرة ببراعة، إذ قال إن غروب عصر الآلهة تلاه شروق فجر السحرة![5] ولا شك أن هذا الغروب مع الشروق الذي تلاه مرتبطان معاً لأن تراجع دور الكنائس المسيحية أزال تسلطتها على عقول الناس، وقدرتها على تصوير البدائل عنها كتوجهات دخيلة وخطيرة. في عام 2005 تمكن ضابط يعمل في البحرية البريطانية من جعل «الوثنية» إحدى الديانات التي تقبلها القوات المسلحة البريطانية. وكما لاحظ باتريدج فقد تزايدت أعداد الطرائق والعلاجات الروحية المتاحة في الغرب بشكل هائل[6]، ولكن علينا ألا نخلط بين إجراءات العرض وإجراءات الطلب؛ فما يهمنا في اختبار الفرضية العلمانية ليس المجالات الروحية المتاحة بل أعداد الناس الذين يتبعونها والروحية التي يفعلون بها ذلك.
الأبراج
% أ
التكهن بالمستقبل % ب
اليوغا أو التأمل الروحي
العلاجات البديلة % جـ
هام للغاية
1
2
3
5
هام
4
4
7
15
ليس شديد الأهمية
21
13
9
20
ليس هاماً أبداً
15
11
4
5
لم أجربه قط
59
70
78
55
ملاحظة: كان حجم العينة المستخدمة في هذا الجدول 1605. تختلف بعض النسب عن 100 بالمائة بسبب التقريب.
أـ اللجوء إلى الأبراج في الصحف والمجلات.
ب ـ اللجوء إلى بطاقات التاروت أو العرافين أو المنجمين لمعرفة المستقبل (باستثناء الأبراج في الصحف والمجلات).
جـ الطب البديل أو المكمل مثل العلاج بالأعشاب أو الطب التجانسي (homeopathy) أو طب الروائح (aromatherapy).
في سنة 2001 سأل «مسح السلوكيات الاجتماعية الإسكتلندية» عينة تمثل كامل السكان إذا ما جربوا ما قد نعتبره نشاطات متعلقة بـ «العصر الجديد» مثل بطاقات التاروت أو العرافة أو التنجيم أو التأمل الروحي أو اليوغا أو الطب والعلاج البديلين أو الأبراج، وإذا كانوا قد جربوا ذلك بالفعل فما مدى أهمية هذه النشاطات بالنسبة لحياتهم[7]. يلخص الجدول الأول أعلاه النتائج التي توصل إليها المسح.
لم يجرب معظم الإسكتلنديين هذه النشاطات خاصة تلك التي تتطلب التزاماً كبيراً، ومعظم من جرب هذه النشاطات لم يعتبرها شديدة الأهمية. لربما كانت الأسئلة جافة بحيث لا تمكننا من التوصل إلى الكثير مما نبتغي من خلال إجابات الناس عليها. بالرغم من ذلك فإننا نرى في هذه النتائج نمطاً واضحاً يتفق مع ما وجده زملاؤنا في جامعة لانكستر أثناء دراستهم لمقدمي العصر الجديد ومستهلكيه في كيندال ـ وهي بلدة صغيرة شمال غرب إنجلترا[8]. أجرى هذه الدراسة فريق من الخبراء يقودهم كل من بول هيلاس وليندا وودهيد وقد استخدم الفريق أساليب مختلفة ومتنوعة في تمييز كل شيء يمكننا نسبته إلى العصر الجديد؛ من صفوف اليوغا المنظمة إلى العلاجات التي تجري فرداً لفرد. بعد أن أجرى أعضاء الفريق مقابلات مفصلة ومسوح واسعة توصلوا إلى تقدير معقول واستنتجوا أن عدد السكان المشاركين في كامل هذا المحيط لا يتجاوزون واحداً أو اثنين بالمائة من السكان خلال الأسبوع العادي.
لكن النشاطات التي شملها المسح تستحق منا نظرة أقرب. يلخص الجدول 2 في الأسفل توزيع نشاطات المحيط الكلي تحت عناوين رئيسية تسعة[9].
النشاط
%
اليوغا والتايتشي
45.5
الرقص والغناء والفنون والحرف
5.6
التدليك والأعمال الجسدية
13.9
العلاج التجانسي
3.6
الاستشارة
3.5
الشفاء ومجموعات الصحة التكميلية
11.2
الريكي أو العلاج الروحاني
6.1
المجموعات الروحية / الدينية المتخصصة
5.6
نشاطات متنوعة فرد لفرد
5.0
لعل أكثر ما يلفت الإنتباه في هذه النتائج هو قلة النشاطات التي يمكننا اعتبارها روحية. فأكثر من نصف الأشخاص شاركوا فيما قد نعتبرها نشاطات ترفيهية مثل اليوغا والتايتشي والغناء والرقص والفنون. كذلك فليست جميع مجموعات الشفاء والصحة التكميلية روحية أو حتى غير تقليدية. فمجموعة كانسركير (CancerCare أو العناية بالسرطان) هي مجموعة فائزة بجائزة يوبيل الملكة للخدمات التطوعية في المجتمع وهي من أكبر مجموعات الشفاء والصحة التكميلية في البلاد. ترتكز نسبة عالية من النشاطات الشفائية على معتقدات متميزة ولكن حتى هذه النشاطات (مثل الطب التجانسي أو الريكي) تبدو لي أنها شبه علمية أكثر منها روحية.
ولحسن حظنا أيضاً فليس علينا أن نطيل الجدال حول طبيعة النشاطات أو أهميتها بالنسبة للمشاركين فيها، فقد سأل هيلاس ووودهيد المشاركين في الدراسة عما إذا كانوا يرون النشاطات التي يقومون بها روحية أم لا؟ قال 51 بالمائة إنهم يرون أن صفوف اليوغا التي يحضرونها روحية؛ أما التدليك فلم تزد نسبة من رأى أن هذا النشاط روحي عن 28 بالمائة، أما المعالجة العظمية فقد رأى 10 بالمائة من المشاركين أنها روحية، ورأى 25 بالمائة أن تدليك القدمين نشاط روحي. في الحصيلة النهائية لم تزد نسبة المشاركين في المحيط الكلي الذين اعتبروا نشاطاتهم هذه روحية عن 45 بالمئة كما بلغت نسبة القائلين بإنهم استفادوا من مشاركتهم في نموهم الروحي أقل من نصف المشاركين.
لقد دافع هيلاس وودهيد عن أن هذه النشاطات تشكل «ثورة روحية» وأكدا أن «النسبة التي توصلنا إليها من المحيط الكلي... تظهر أن بروس... كان على خطأ حين قال إن عدد الناس [في بريطانيا] الذين أظهروا اهتماماً بالأديان البديلة ضئيل»[10]. لا أرى الكثير من الفائدة من الجدال حول ما هو ضئيل وما ليس بضئيل، لكني أعتقد أن دلالة نتائجهم واضحة. إذا أخذنا التوجه الروحي المسمى «العصر الجديد» في أضيق صوره فلن نجده أكثر من أمر تافه لأنه حتى ينال التزام 1 بالمائة من سكان البلاد فقد استخدم وسائل رفاهية مستوردة متعددة وطرقاً متنوعة في الاسترخاء وأشكال كثيرة من الطب البديل وهي نشاطات لا يدعي أغلب ممارسيها أنها روحية أصلاً. فبدلاً من أن نرى في العصر الجديد بديلاً يحل محل تراجع الديانة المسيحية علينا أن نفكر فيه على أنه امتداد لغرفة الجراحة والعيادة والنادي الرياضي وصالون الحلاقة والتزيين، إذ إن جُلَّ ما يهتم به أتباعه هو الصحة الجسدية والنفسية.
مستقبل العصر الجديد
ينطلق هيلاس وودهيد من فرضية تفيد أننا نرى تراجعاً في أحد أشكال الدين بدلاً من العلمنة بمعناها الدقيق الكامل، ولتعزيز هذه الفرضية توقعا بأن المحيط الكلي سيتضاعف حجمه عبر السنوات الأربعين إلى الخمسين المقبلة[11]، لكني لا أرى أن هذا مرجح الوقوع. يعترف الباحثان بأن المحيط الروحي الكلي لا يجتذب إلا مجموعات اجتماعية وديموغرافية ضيقة وبأن الشريحة الاجتماعية ذات العلاقة (النساء البيض المتعلمات اللاتي بلغن مرحلة منتصف العمر والعاملات في وظائف تتعلق بالناس) قد تكون وصلت نقطة الإشباع. إن المحيط الكلي أبعد ما يكون عن النمو، بل هو يكاد لا يحافظ على أعداده الحالية، إذ إن ثلثي المشاركين في المسح المذكور أعلاه قالوا بأن أولادهم غير مهتمين بنشاطاتهم هذه. لكن يبدو لي أن الباحثَين فوجئا بكون 32 بالمائة من الناس قد أجابوا بنعم أصلاً، وما فاتهما هو أن نسبة انتقال العقيدة من جيل إلى آخر كانت نسبة كارثية[12]، ففي مجتمع ينجب فيه أي والدين ما معدله ولدين اثنين على كل من الولدين أن يلتزما بهذه العقيدة هذا في حال كان لهذه العقيدة أن تستمر وتبقى. تقف نسبة انتقال العقيدة المسيحية من حيث الانتماء وحضور الشعائر والمعتقدات من جيل إلى آخر عند نسبة لا تتجاوز الخمسين بالمائة، وتنظر الكثير من الكنائس إلى هذه النسبة على أنها مشكلة كبرى[13]، بحسب ظواهر الأمور على «العصر الجديد» أن يتسلق قمة أعلى خاصة وأن الإحصاءات تظهر أن النساء اللاتي تحملن اهتمامات روحية كثيراً ما تكنَّ دون أولاد.
باختصار: لقد فشلت دراسة في غاية التفصيل أجراها عدد من الباحثين المتعاطفين مع «العصر الجديد» في إقناعنا بأن هذا المحيط يقترب حتى من تقديم بديل قابل للحياة عن تراجع الكنائس المسيحية، إن مجرد المقارنة ليست على نفس المقياس.
الذات وديانات أخرى
ليس عالم «العصر الجديد» في منتهى الصغر فحسب، بل لدينا أسباب وجيهة كي نقول إنه هش للغاية؛ فليس ضعف مجتمع العصر الجديد وليد الصدف بل هو نتيجة حتمية للذاتوية التي تقوم عليها سلطته. ففي «العصر الجديد» تكون ذات الإنسان هي الحَكَم الأخير فيما يتعلق بالحقيقة والمنفعة. فما يعمل بالنسبة إليك هو الحقيقة، ولا توجد أي أسس شرعية يمكنك من خلالها أن تفرض أي شيء على الآخرين أو حتى تجادلهم حوله، وهذا بطبيعته يجعل من أي تضافر للنشاطات في غاية الصعوبة لأنه إذا اختلف شخصان فلا توجد أي أسس تجعل حل النزاع بينهما ممكناً. هذا يفسر سبب فشل توجه «العصر الجديد» الروحي في إنتاج أي مدراس أو بنى مجتمعية بديلة بالرغم من جميع أحاديث دعاته عن الثقافة المضادة والمجتمع البديل.
رغم أن الباحثين برينس وريتشس نفسيهما لا يقدران أهمية الأمثلة التي ضرباها في بحثهما عن «العصر الجديد» في غلاستونبري، فقد أشارا إلى أتباع هذا النهج على أنهم «قبيلة»، إلا أن الدراسة أظهرت أمثلة في غاية الوضوح عن عجز هؤلاء الأتباع عن التعاون[14]؛ فعلى سبيل المثال انهار مشروع مدرسة ابتدائية كانوا يزمعون على إطلاقه لأن الآباء لم يتمكنوا من الاتفاق حول ما يريدون تعليمه لأبنائهم، وفي مثال آخر قررت مجموعة صغيرة من أتباع «العصر الجديد» على تنظيم لقاء أسبوعي في صباح أيام الأحد للقيام بـ «شعائر تعبدية» جماعية، ولكنهم حين تناقشوا أثناء لقائهم الأول حول ما يجب فعله لم يتمكنوا من الاتفاق على شيء فتناقص عدد الحضور في الاجتماع الثاني وفي نهاية الأمر فشلت هذه المبادرة أيضاً.
أثارت الدراسة الإثنية التي أجريت في غلاستونبري إشكالية عامة مثيرة للاهتمام خطرت على بالي للمرة الأولى أثناء إلقائي لمحاضرة على تلامذتي حول الإصلاحات الاجتماعية التي كان التبشيريون البريطانيون روادها؛ لا أبالغ إذ أقول إن حضارة المجتمع الصناعي تدين بالكثير للمسيحيين الملتزمين: فالفضل في إنهاء العبودية ووضع حدود أمام استخدام النساء والأطفال في المصانع والتحسينات التي أدخلت على السجون ومصارف توفير المبالغ الصغيرة والتأمين المتبادل ومعاهد تعليم العمال والتعليم العام للفقراء يعود إلى نشاطات خيرية قام بها أناس دفعتهم أفكار تأسست على مبدأ أننا لا يمكننا أن نتوقع من الفقراء أن يعتنوا بنجاة أرواحهم في الآخرة طالما تظل أجسادهم تتعرض لقمع مرير، وأن المجتمع الذي يزعم أنه مسيحي لا يمكن له أن يكون بربرياً في ذات الوقت. في مقابل هذه القدوة لا أملك إلا أن أجد تأثير «العصر الجديد» الاجتماعي تافهاً، وأستخلص نقطتين من هذه المقارنة:
الأولى هي أنه لا يمكن لأي دين أن يتحدى الوضع الراهن إلا إذا كان يحتوي على مرجعية معتمدة أكبر من الفرد لأننا إذا تُركنا لأهوائنا فسوف يجتمع ميلنا الطبيعي إلى الكسل والمصالح الشخصية ليمنعانا من القيام بأي تضحية، وبالرغم من أن أتباع العصر الجديد يعشقون الحديث عن تجاربهم الروحية وعلاجاتهم ويصفونها بأنها قد غيرت حياتهم جملة وتفصيلاً، إلا أن نظرة إلى واقع ممارستهم للحياة تكشف لنا أن ما تغير هو مجرد طريقة تعاملهم مع ظروف الحياة، فمدير المصرف الدائم التوتر لا يتخلى عن كونه مدير مصرف إذا مارس اليوغا أو التأمل الروحي، لربما يصبح مدير مصرف أكثر تجرداً عن دوره في العمل ولربما يصبح مدير مصرف أكثر رضاً وسعادة نتيجة نظرة وحدوية شمولية أوسع للكون وللحياة ولكنه يظل جزءاً من التيار العام في المجتمع دون أن يغير فيه شيئاً. لربما تقلص مجموعة أخرى من رفاهية حياتها فيبيع أحدهم بيته الفاخر في لندن ليختلي في كوخ في ويلز أو كامبريا ويمضي وقته في صناعة الفخار وإجراء ورشات العمل في الاستشفاء بالريكي في عطل نهايات الأسبوع، لكن مساهمة هؤلاء الأشخاص على عموم المجتمع تكاد لا تذكر.
الأسوأ من كل ذلك هو أن التغير في الكثير من الحالات لا يعدو كونه كسب اصطلاحات لغوية جديدة أوسع وأعمق للدفاع عن الأنماط السلوكية القديمة. ما علينا إلا أن ننظر إلى مثال الاستغلال الجنسي: فبعد قرائتي لعدد من الشهادات حول ما يجري في فايندهورن ـ وهو أقدم مركز للعصر الجديد في أوروبا ـ فوجئت بعدد أتباع العصر الجديد الرجال الذين يغوون النساء الأصغر سناً من خلال إقناعهن بأن الوصول إلى مشاعرهن الحقيقية أو «استكشاف الملاك الكامن» في أعماقهن أو إطلاق العنان لقواهن الروحية أو صنع علاقة إنسانية حقيقية كلها تعني ممارسة الجنس![15] وإذا أردنا أن نستخدم لغة علم الاجتماع الرسمية التي استخدمها ماكس فيبر: إن الدين القائم على رفض العالم مستحيل دون مصدر مرجعي يأتي من وحي خارجي: أي تصور لإله يعاقب من يتجاوز الحدود، وإذا كانت ذات الإنسان هي المرجع ـ كما هو شعار «العصر الجديد» الكلاسيكي: «كن صادقاً مع نفسك أنت» ـ فمن المرجح أن أي منظور أو وحي جديدين سوف يندرجان ضمن ظروف حياتنا الحالية بدلاً من أن تتسبب بأي تغيير فيها.
أما النقطة الثانية فهي أن الحركات التبشيرية التي نشأت في العصر الفيكتوري (القرن التاسع عشر) كانت كلاً أعظم من الأجزاء التي يأتلف منها لأن هذه الأجزاء كانت مجموعة من الأفراد الذين انطلقوا من عقيدة مشتركة ذات مرجعية موحدة، وبالمقارنة مع ذلك فإن حركة العصر الجديد وعلى الدوام كلٌّ أصغر من مجموع أجزائه لأنها حتى على مستوى أشد أتباعها اندفاعاً والمؤمنين أشد الإيمان بجوهر ثقافتها المضادة فلا تجمع هؤلاء الأتباع أي قيم أو معتقدات مشتركة، أو لعله من الأدق أن أقول أنها لا تجمعها إلا مبادئ عملية ومعرفية في غاية التجريد والبعد عن الواقع مثل: «لا يمتلك أي شخص الحق في أن يقول لشخص آخر ما عليه أن يفعله».
ليس هدفي هنا هو أن أوجه انتقادات روحية إلى حركة العصر الجديد (مع أنه يصعب علي مقاومة ذلك) بل فقط أن أبين سبب فشل الأسس التي تقوم عليها الحركة في مقاومة التحول إلى مجرد لقيط ثقافي وفكري وروحي وفلسفي، فمنذ ستينات القرن الماضي بدأت بريطانيا باستيراد عناصر من جميع المخزونات الدينية العالمية، ولكن بدلاً من أن «يتحول» البريطانيون روحياً بسبب فن استحضار الأرواح الصيني ومساكن التعرق الهندية الحمراء وفكرة الكارما الهندوسية فقد جردوا هذه البدع الروحية والثقافية من أساسها ومحتواها الديني. ففي سياق «الفينغ سوي» (استحضار الأرواح الصيني) الأصلي فهو ممارسة جادة للتواصل مع أرواح الموتى، ولكن في بريطانيا لا يتجاوز كونه أحد طرز ديكور المنازل. وكذلك فلم تعد اليوغا في بريطانيا ممارسة روحية كاملة متكاملة بل مجرد برنامج تمارين لا يختلف كثيراً عن التمارين السويدية أو الإيروبكس، ولم يعد التأمل الروحي طريقاً للوصول إلى الاستنارة الروحية بل مجرد وسيلة للاسترخاء، أما طب الأيورفيدا فلا يعدو كونه مجرد أدوات تجميل أخرى تبيعها متاجر البودي شوب في بريطانيا.
الخلاصة
لقد ركزت في مقالتي هذه على الاتجاه الروحي المسمى بـ «العصر الجديد» لأنه يشجعنا على أن نحرك جزءاً من النقاش حول العلمنة: فلقد تقلص في بريطانيا الانتماء إلى الكنائس المسيحية إلى درجة أصبحت تهدد استمرارها على المدى البعيد، أما الديانات الكبرى غير المسيحية التي دخلت إلى البلاد على أيدي المهاجرين إليها بعد سنة 1945 فلم تتعد قواعدها الإثنية الأصلية، وقد عجزت الحركات الدينية الجديدة في سبعينيات القرن الماضي أن تجد لنفسها أي قاعدة شعبية واسعة. فإذن لدينا في الواقع مجتمع علماني إلى حد بعيد وليس فقط في عملياته الرسمية ضمن مؤسساته الاجتماعية الكبرى بل حتى في ثقافته الشعبية، نحن في موقع تاريخي جديد وفريد من نوعه. ستمكننا السنوات الثلاثين أو الأربعين المقبلة من أن نستكشف ما إذا كانت المجتمعات متدينة لأن الناس متدينون أم إذا كان الناس متدينين لأن المجتمعات متدينة. فإذا كان الناس بشكل أو بآخر مفطورين على الاهتمام بالجانب الديني والروحي فإن هذا سيجعل علمانيتنا الحاضرة وضعاً مؤقتاً وسرعان ما ستظهر لنا أدلة تشير إلى ذلك، وأنا شخصياً أرى أن العصر الجديد قد يكون مرشحاً قوياً لأن يكون دين المستقبل لأن روحيته الفردية الاستهلاكية تتلائم بشكل جيد مع روح هذا العصر.
إننا نحتاج إلى بحث جدي يتمركز حول تقييم انتشار أشكال الاتجاهات الروحية البديلة وأهميتها وتأثيرها. لم تزد معظم الأعمال التي أجريت في هذا المجال حتى اليوم على التركيز على جانب العرض من الإبداعات والبدع الروحية، ولكن نتائج الأعمال القليلة التي توجهت إلى محاولة قياس جانب الطلب تقترح أن الاتجاهات الروحية البديلة لا ترد أو تنقض النموذج الفكري العلماني.
[1]* ـ عالم اجتماع بريطاني من اسكتلندا ـ أستاذ السوسيولوجيا في جامعة أبردين منذ سنة 1991 ـ كتب الكثير من الأعمال حول العلمنة والدين في العالم الحديث، وكذلك عن التفاعل بين الدين والسياسة.
ـ العنوان الأصلي للمقال: .Secularization and the Impotence of Individualized Religion
نقلاً:.The Hedgehog Review - 2006
ـ تعريب: ر. طوقان.
[2] ـ Nan Dirk De Graaf, Ariana Need, and Wout Ultee, “‘Losing My Religion’: A New and Comprehensive
Explanation of Three Empirical Regularities Tested on Data for the Netherlands in 1998,” Patterns and
Processes of Religious Change in Modern Industrial Societies—Europe and the United States, ed. Alasdair Crockett and Richard O’Leary (Lamenter: Edwin Millen, 1998) table 1.
[3] ـ Eva M. Hamberg, “Christendom in Decline: The Swedish Case,” The Decline of Christendom in Western Europe, 175 0–2000, ed. Hugh McLeod and Werner Ustorf Astor (Cambridge: Cambridge University Press, 2003) 47.
[4] ـ Peter L. Berger, Facing Up to Modernity (Hammondsport: Penguin, 1979) 213.
[5] ـ Régis Debray, God: An Itinerary (London: Verso, 2004) 259.
[6] ـ Christopher Partridge, The Re-Enchantment of the West, vol. 1 (Edinburgh: Clark, 2004).
[7] ـ Steve Bruce and Tony Glendinning, “Religious Beliefs and Differences,” Devolution—Scottish Answers to Scottish Questions, ed. Catherine Bromley, John Curtice, Kerstin Hinds, and Alison Park (Edinburgh: Edinburgh University Press, 2003) 86–115.
[8] ـ Paul Heelas and Linda Woodhead, The Spiritual Revolution: Why Religion Is Giving Way to Spirituality(Oxford: Blackwell, 2005).
[9]ـ علي هنا أن أتوجه بالشكر إلى صديقي ومعاوني ديفيد فاوس من جامعة مانشستر لتحضيره هذه الخلاصات عن بيانات كيندال. تتوفر كامل بيانات المشروع للعموم على الموقع الإلكتروني التالي:
www.kendalproject.org.uk.
[10] ـ Heelas and Woodhead 54–5.
[11] ـ Heelas and Woodhead 137.
[12] ـ Paul Heelas and Benjamin Seel, “An Ageing New Age?” Predicting Religion: Christian, Secular and
Alternative Futures, ed. Grace Davie, Paul Heelas, and Linda Woodhead (Aldershot: Ashgate, 2003) 234.
[13] ـ David Voas, “Intermarriage and the Demography of Secularization,” British Journal of Sociology 54.1
(2003): 83–108.
[14] ـ Ruth Prince and David Riches, The New Age in Glastonbury: The Construction of Religious Movements,(New York: Berghahn, 2000) 166–7, 176–8.
[15] ـ Steve Bruce, “Good Intentions and Bad Sociology: New Age Authenticity and Social Roles,” Journal of Contemporary Religion 13.1 (1998): 23–36.