البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

بصدد النزاع الديني في العالم - العلمنة ليست حلا

الباحث :  أول ويفر 0Ole woever
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  2
السنة :  السنة الثانية - شتاء 2016 م / 1437 هـ
تاريخ إضافة البحث :  December / 26 / 2015
عدد زيارات البحث :  1287
تحميل  ( 364.575 KB )
بصدد النزاع الدّيني في العالم
العلمنة ليست حلًّا[1]
أول ويفرOle woever [2][*]
قد يكون النزاع الديني والنقاش الذي يولِّده اليوم، في مقدم اهتمامات المفكرين ومراكز الأبحاث في الغرب. لكن النقطة الأكثر إشغالاً لمسارات التفكير هي تلك المتعلقة بالكيفية التي تواجه فيها العلمانية كمنهج ومؤسسة قضايا النزاع بين تيارات الفكر الديني في العالم، وخصوصاً بين الإسلام الغرب.
في هذا البحث للباحث والأكاديمي أول ويفر عرض وتحليل لظاهرة الاحتدام المعاصر بين الإسلام والغرب والطريقة التي عالجت فيها النظم العلمانية هذا الاحتدام.
المحرر
بين عامي 2005 ـ 2006، اندلعت موجة من الغضب والعنف في أكثر من مكان في العالم مردّ هذا جاء إثر نشر إحدى الصحف الدانماركية رسومًا كاركاتورية مسيئة للنبي محمّدs. ولقد بيّنت هذه الحادثة الدور الفعّال للعامل الديني في النزاعات السياسية وتفعيلها من خلال وسائل العولمة التي تربط النزاعات المحلية في مكان ما بأحداث محلّية في أماكن نائية من العالم. والواضح أن هذه الحادثة بالتحديد اكتسبت زخمًا كبيرًا لأنها حصلت وتفاعلت في بيئة يحكمها أحد أنماط الصراع العالمي حيث يراكم المسلمون والشعوب الغربية مخاوف وهموم متبادلة.
نسعى في هذا البحث إلى تحليل طبيعة ودينامية هذا الخلاف الكبير وما يترتب عليه من أثرعلى المفاهيم السياسية، من أجل ترشيد التفاعل في المجتمعات وبين الجماعات. كما سنناقش كيف أن اندلاع الأزمة في بلد مثل الدنمارك ليس مجرّد صدفة، وأن ما حصل لم يعالَج بالطريقة المناسبة. لكننا لن نعالج في بحثنا أزمة الرسوم الكاريكاتورية بالتحديد، مع ذلك يمكن للقارئ التفكير باستمرار في القضيّة وأنا على يقين أن التحليل والمسألة سيوضحان بعضهما إلى حدّ كبير.
ما نؤكّد عليه هنا هو الصراع العالمي بين «الغرب» والإسلاميين الأصوليين. فهذا الصراع ليس مسألة «دولية» صرفة، بل هو مسألة عابرة للدول، تشمل السياسات المحلية في البلدان الإسلامية كما في الغرب. وعلى هذين المستويين يفترض أن يكون المبدأ السياسي للعلمانية في قلب الصراعات.
سوف نستفيد من تحليل النزاع ومن نظرية الأمن لتوضيح المستوى العالمي للمسألة، في حين سوف ينصبّ تركيزنا على النظرية السياسية ودور الدين في السياسة عند مناقشة الصراعات الداخلية في الغرب.
سأركّز في الفقرة الأولى على تحوّل الدين إلى جزء من المسائل الأمنية العالمية. وعلى الفرضية المركزية المتمثّلة باعتيادنا تحريف الموضوع من خلال الاستخدام التاريخي لمصطلح «الحروب الدينية”، رغم أن معظم الصراعات تحصل بين العلمانيين من جهة وبين الناشطين الساعين إلى تعزيز دور الدين في السياسة من جهة أخرى. وهذا ما يشير إلى مركزية مبدإ العلمانية.
القسم الثاني يطرح إشكالية الطريقة التي يُناقَش فيها المفهوم بوصفه بسيطًا ومفترضًا. ثم ينظر القسم الثالث إلى مكمن الخطورة التي يواجهها مبدأ العلمانية في منظومة الصراع العالمي. يفيد هذا القسم في شرح كيفية تأثير التدابير الداخلية في أوروبا على الصراع الدولي المرتبط بالإسلام. كما يعالج القسمان التاليان مسألة ممارسة العلمانية في أوروبا ـ أولاً، مناقشة التوتّرات والقيود الناتجة عن تزايد الشكل النضالي من العلمانية بوصفها «قيمة أوروبية»، ثم نستكشف إمكانية مقاربة أكثر براغماتية للدين/السياسة. وفي الختام سنطرح النقاش على شكل السؤال التالي: هل نبحث عن حلّ سياسي للنزاعات الثقافية، أم أن هذا السؤال نفسه يشكّل جزءًا من المشكلة؟
حروب دينية أم حروب ضد الدين؟
تتكرّر كلمة «دين» بشكل متزايد في القضايا الأمنية المعاصرة. فكثير من النزاعات تفسّر على أنها «دينية» أو تديرها مجموعات شديدة التديّن ـ سواء في الشرق الأوسط كما في العلاقة القوى بين الفاعلين في الشرق الأوسط وبين الغرب الغرب، كما بين عدد من البلدان المحلّية التي يصادف أنها تشمل البلدان الأكثر سكانًا في العالم: الصين والهند والولايات المتحدة وأندونيسيا.
يكاد الدين يتحوّل إلى قاسم مشترك في السياسة العالمية. وهذا ما يجعل فهمه الصحيح على رأس الأولويات. فنحن نجد أن التصنيف السريع والأكثر انسجاماً للخلافات هو «الحروب الدينية»، وهذا تصنيف خاطئ بقدر ما هو واضح.
لكن، يبدو الأمر مفاجئاً جدّاً، أن تُلحظ المسألة بهذا الشكل، لما نستحضر تاريخ أوروبا في حروبها الصليبية، حروبها البينية وحروبها الأهلية التي خيضت، كلها باسم الدين. وعندما تظهر عبارتا «الدين» و«الصراع» في الجملة نفسها فإنهما تثيران على الفور صورة مجموعتين في حلبة صراع تدفعهما قوى إيمانية خاصة ـ إنها حرب الأديان أو بحسب التعبير الحديث «صراع الحضارات». غير أن تصوير المسألة بهذه الطريقة لا يعدو كونه تضليلاً، فنحن قلّما نشهد مجموعة شديدة التديّن تنخرط في صراع مع مجموعة متديّنة أخرى؛ المعركة في الواقع هي بين من يريدون مزيدًا من الدين في السياسة، وبين خصومهم العلمانيين، الذين يسعون بإلحاح للفصل التامّ بين الدين والسياسة.
أركّز على مبدإ العلمانية لا على عملية العلمنة. إن العلمنة عملية اجتماعية يضعف فيها تاثير الدين[3]. في حين أن العلمانية مبدأ يبيّن ما ينبغي أن يكون عليه المجتمع. يجب أن يُفصل الدين عن السياسة ـ وأن يكون كلّ منهما محميًّا مقابل الآخر لكي نضمن حرية دينية، ولكي نضمن سياسة متحرّرة من الدين بهدف توفير السلاملما سبق من حجج نقول: إن الإيمان، بالطبع، هو مسألة إيمان، إنه غير قابل عقلياً للتحديد. ولو كان القتال حول هذا النوع من المسائل مسموحًا لما نعمنا بالسلام، لأنه لا يوجد طريقة منطقية توصل إلى اتفاق حول مسائل الإيمان. (هوبز 1969) هذا ما تعتقده العلمانية، وهكذا يبرّر المتديّن القضاء وهذه هي الحجة التي بُرِّرت بها كل الحملات الصّليبية. ما تنذر به فرضيتي هنا، هو الخطر الكامن في مساهمتنا بحرب باردة جديدة ندرك فيها بوضوح ـ كما في الحرب الباردة السابقة ـ ما يتهدّدنا، لكننا غير قادرين أن نرى كيف يفهم خصومنا خطرنا عليهم، وهذا ما يجعلنا عاجزين عن فهم ديناميكية الصراع. فالحرب التي ينخرط فيها الأصوليون المسلمون ليست ضد دين آخر، بل هي ضد «أعداء الدين». إنهم يخشون إسقاط الحداثة للدين. فالنموذج الغربي للدولة المحايدة لا يضع حدًّا للفساد الذي تشجّع عليه الثقافة والعلوم والاقتصاد في الغرب. إذ لا يمكن للمارسة الصحيحة والسلوك المستقيم الاستمرار في عالم من هذا النوع. يحتاج المجتمع الصالح بالنسبة لهم، كما بالنسبة لمعارضي العلمانية في كل مكان، نظامًا سياسيًّا تسود فيه القيم، أي أن تدمج القيم الجوهرية في النظام السياسي. كما يمكننا، على العكس من ذلك، فهم هذا التصور على أنه تهديد استثنائي من ممثلي النظام العلماني الدنيوي. منذ معاهدة وستفاليا للسلام 1648 كان القانون الأول: «لا يسمح في السياسة العالمية لأي انتهاكات باسم الدين». إذًا، الخطر يكمن في اقتران الدين والسياسة. في الطرف المقابل نجد أن السياسيين المتدينين هم الذين يتخوّفون من العلمانية. إذاً، ثمّة طرفان، كلاهما يتخوّف موقف الآخر، ويرى فيه خطرًا وجوديًّا، وهذا ما يؤدّي إلى تصعيد الصراع وخروجه عن السيطرة. طرف يستسشعر خطر الدين، وطرف يشعر أن الدين في خطر. فكلاهما يقودان السياسة الأمنية ويعتقدان أن شيئاً أساسيًّا في خطر، لهذا يشعران بمنطقية فعل ما يرونه ضروريًّا. ظهر هذا بوضوح من خلال وضع نظرية الأمننة (المعروفة بمدرسة كوبنهاغن). هذه النظرية لا تعرّف الأمن وفقًا لاستخدام القوة أو خطرها، بل بشكل عام وفقًا لحركة تأخذ المسائل أبعد من السياسة العادية، وتتعامل معها كمسألة وجود وكضرورة دفاعية؛ أي أن العامل المؤمنن يعتبر أحد الموضوعات المرجعيًّة (الدولة الأمّة، البيئة، الرخاء الاقتصادي) مهدَّداً وجوديًّا، ويكسب رضا أنصار الشرعية الناجمة عن المقاييس غير العادية (العنف، السرية) لتفادي الخطر. بهذه الطريقة تبيّن النظرية كيف تتحوّل مسألة ما وفعالياتها الاجتماعية إلى تهديد وجودي. من ناحية أخرى، فإن الأمننة تزيل القيود الملزمة وتسوّغ المعايير غير الاعتيادية مثل استخدام القوة أو السريّة. كما أن تطبيق هذه النظرية يساعدنا في فهم الديناميات التصعيدية للدين المؤمنن[4] . ويمكن استخدام النظرية لإجراء اختبار تجريبي دقيق نسبيًّا لمعرفة العنصر المسيطر بين روابط الدين/ الأمن.
ثمة ثلاثة أنواع أساسية من الأمننة المرتبطة بالدين: ـ الدولة العلمانية تخشى السياسة الدينية؛ الحركات السياسية الدينية تخشى الدولة العلمانية؛ والدين يخشى الدين. بالرغم من أن الأمرالثالث يحصل[5] إلا أن النمطين الأولين أكثر شيوعًا، ومن الواضح أنهما وجهان للصراع نفسه باعتبارهما مخاوف أمنية متبادلة.
تتفاقم الخلافات عادة، بسبب ما بات يعرف بالمأزق الأمني. فنحن نجد صعوبة في فهم سبب خوف الآخرين منا؛ لأننا نعتقد أننا نعرف دوافعنا، وفي الوقت عينه نجد صعوبة في الاطمئنان حيال دوافع الآخرين. إذ يسهل علينا رؤية مخاوفنا، لأن المجتمعات العلمانية تخشى السياسة الدينية، فتنظيم القاعدة يشكّل تهديدًا خارجيًّا للغرب، والنخب العلمانية في تركيا والجزائر مثلاً، ترى في الإسلاميين خطرًا داخليًّا.
يبدو أن فهم الجانب الآخر أكثر صعوبة. فما الذي يحفّز الأشخاص الذين نسمّيهم أصوليين؟ يصعب علينا أن نفهم إلى أي درجة يمكن أن تكون الأصولية سياسة أمنية. فهم يتصرّفون لأنهم يشعرون بالخطر يتهدّدهم وأن الهجوم عليهم قد بدأ بالفعل.[6]
يرى كلّ من طَرفَيِ الصراع العلماني ـ السياسي الديني في الطرف الآخر تهديدًا له. فكلاهما يفكر انطلاقًا من السياسة الأمنية، وكلاهما يرى في الدين جوهر الصراع؛ أحدهما يرى في تسييس الدين تهديدًا، والآخر يرى دينه في خطر. وكلاهما يرى العلمانية نقطة محورية، فالمبدأ في خطر. فعندما يتصدّر العامل الديني السياسة الأمنية نسمّيه أصولية، وعندما يتصدّرها العامل العلماني نسمّيه دفاعًا عن الحريات أو ما أشبه من تسميات طنّانة.
أجرى أستاذ علم الاجتماع والدراسات الدينية مارك يورغنسماير مقابلات مع عدد كبير من الناشطين في الجماعات الدينية القتالية التي تمثل أديانًا مختلفة (غالبا في السجون وهذا ليس مفاجئًا)، وكانت الجملة الأكثر تكرارًا التي سمعها «نحن الآن في حرب». في شباط 1998 أصدر أسامة بن لادن «فتوى» قبل أشهر قليلة من تفجيرات السفارات في كينيا وتنزانيا، أعلن فيها أن «العالم في حرب»، قاصدًا أن اللوم في بدء الحرب لا يقع عليه. وممّا قاله أيضًا أن سياسات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط شكّلت «إعلاًنا واضحًا للحرب على الله ورسوله والمسلمين».
ثمّة فرق مهمّ بين ما هو تراثي وما هو أصولي. فعندما يعتقد أحدهم أن دينه في خطر؛ أي أن الناس ليسوا مؤمنين بما يكفي، أو لا يتّبعون الصراط المستقيم، يكون الرد الطبيعي بالتدبّر في الكتب المقدّسة، والإكثار من الذهاب إلى المسجد/الكنيسة، والصلاة أو مناشدة الآخرين ليفعلوا ذلك. الردّ لا يكون بمهاجمة ناطحات السحاب، بل البحث عن علاج ديني خالص. لكن الأصوليين يرون أن الردّ بهذه الطريقة يساوي الخيانة. لماذا؟ لأن الخطر يداهمهم، والهجوم على دينهم بالغ الخطورة، لذلك عليهم البروز للعالم والدفاع عن إيمانهم. فالردّ الديني المحض لا يجدي عندما يكون العدو في غاية القوة. هكذا يبرز مولود هجين غريب يدافع به الأصوليون عن تراثهم لكن بوسائل العالم الحديث: إمّا عبر قيادة طائرات ومهاجمة ناطحات السحاب، أو من خلال بثّ رسائل عن طريق الفيديو أو المحطات الفضائية. أرادت مؤسسة بن لادن، وفقًا للتقارير، إعادة تأسيس العالم الإسلامي كما كان في أيام النبي محمد. لكنهم على الأرجح لم يريدوا أن يكونوا قوّة تسعى إلى دمار العالم. يقول كارل فون كلاوسفيتس: في الحرب يسنّ الجانبان القوانين لبعضهما[7]، أي لا يستطيع أي طرف أن يختار ما يفضّله، لكن بالتأكيد يجب عليه فعل ما هو ضروري. فمنطق الحرب يتطلّب تركيزًا على فعالية الوسائل.
إذًا، الأصوليون والجهاديون الأصوليون والجهاديون الإسلاميون لا يشكّلون «نهضة دينية» بهذا الشكل. فهم ليسوا أكثر تديّنا من غيرهم، إنّهم لا يملكون لاهوتًا أصيلاً، إنهم في الواقع نشطاء سياسيون في صراع من أجل علاقة بديلة بين السياسة والدين.
تجهد دينامية التعبئة على المستوى التفصيلي في شرح تحوّل الصراع من الدين ضد الدين إلى الدين ضد العلمانية. فأثناء الحروب الصليبية والمراحل الأولى المبكرة كانت الصراعات حول نشر (أو حماية) الدين الحق والقدرات الاجتماعية والسياسية المتعلّقة بالمراتب الاجتماعية عمومًا، بما في ذلك شرعية سلطة الدولة، تعزّز ذلك بالتعبئة ضد العدو الخارجي بالاصطلاح الديني. في عالمنا الراهن يمكن اعتبار جميع المسائل الاجتماعية والمؤثّرة المهدّدة، خصوصًا الجنسانية إلى حد كبير، من النوع المحلّي والاجتماعي. ويمكن رؤية الحركات الأصولية كحركات «أبوية متطرّفة» تحافظ بالغالب على البنية الاجتماعية وعلى ما فيها من امتيازات. لذلك تكون العلمانية هي الخطر (التهديد) لا أي دين (محافظ) أخر. ما هو في خطر سياسيًّا واجتماعيًّا يساعد في شرح كيف يمكن أن يتكوّن هذا الخطر (التهديد).
إن المستوى العام من الشرح، من جهة أخرى، يلحظ النماذج والقوى التاريخية الأعظم. اسمحوا لي أن أضع المسألة على شكل تحقيب تاريخي عام.
الجزء الأول من تاريخ العالم: قبل العلمنة والعلمانية: كل المجتمعات كانت مخترقة بما نسميه راهنا «الدين». وكانت الصراعات السياسية تستدرج الدين، على أساس المعتقدات المتعارضة عمومًا. وكانت دوافع هذه الصراعات تمزج بين ما هو «ديني محض» وبين ما هو سياسي وقانوني وقائم على مصالح أخرى.
الجزء الثاني من تاريخ العالم: كانت العلمانية مشروعًا انضباطيًّا يرتبط مباشرة ببناء الدولة. ثم تدريجيًّا تحوّلت أكثر التعابير الدينية صمتًا إلى وجود غير مباشر وكـأنّها «دين مدني». ومباشرة ظهر نشاط باسم الدين كان بمثابة مقاومة خلفية للفساد الأخلاقي المتزايد.
الجزء الثالث من تاريخ العالم: هيمنت العلمانية على النخب الفكرية في أوروبا ابتداء من منتصف القرن التاسع عشر على الأقل، وعلى المجتمع الأوروبي الواسع، وعلى السياسة خلال النصف الأول من القرن العشرين، وفي الولايات المتحدة عندما فرضت المحكمةُ (العليا) العلمانيةَ بشكل قانوني بعد الحرب العالمية الثانية، وفي العالم الثالث الخارج من نير الاستعمار هيمنت العلمانية كعقيدة للجيل الأول الباني للدولة المتمثّل بالنخب التي أحسن الغرب تدريبها.
الجزء الرابع من تاريخ العالم: مع «عودة الدين» (أو انتقام الله)، أصبح الحديث عن صراع الدين ضد الدين أو العلمانية ضد الدين ممكنًا، لكن دينامية الصراع تدفع بالغالب لجعل العلمانية خطرًا على الدين (والتعبئة الدينية كأنها خطر على الدولة العلمانية).
مقابل طرحي حول العلمانية ـ ورغم أن المسيحية ليست طرفًا في الصراع المتصاعد ـ تجدر الإشارة إلى أن بعض الإسلاميين يفهمون الخطر بأنه حرب صليبية مسيحية. يشير بن لادن بطريقة منهجية إلى «التحالف الصهيوني الصليبي»، الذي وإن كان لا يصوّر حملاته على شكل حملات تبشيرية. إن الحملة الصليبية عوضًا عن ذلك هي قائمة بطريقة ملتوية على شكل علمانية وفساد أخلاقي يهدف إلى تدمير الإسلام.
أجرى مركز الدراسات (Pew Global Project Attitudes) استطلاعات رأي حول صورة الولايات المتحدة في أجزاء مختلفة من العالم وحول مسائل أخرى. بيّنت نتيجة الاستطلاع أن البلدان الإسلامية لا تشارك أروبا الغربية نظرتها لجورج بوش الأب كصليبي مسيحي. الغالبية العظمى في البلدان الإسلامية ترى أن الولايات المتحدة «ليست متديّنة بما يكفي»، كما يراها الأميركيون أنفسهم، في حين أن غالبية الأوروبيين يرون أن الولايات المتحدة «شديدة التديّن”. والصورة السائدة عن الأميركيين بين مواطني البلدان الإسلامية هي الصورة التي رسمها سيّد قطب أحد أبرز مؤسّسي الإسلام الجهادي: الولايات المتحدة لا تتفكّك فحسب، بل هي فاجرة إباحية ضحّت بالأخلاق والقيم من أجل العلم والتكنولوجيا والكفاءة. كتب قطب خلال زيارة للولايات المتحدة في الأربعينات «تمنيّت أن أجد شخصّا يتحدّث عن الشؤون الإنسانية والأخلاق والروح ـ لا عن المال ونجوم السينما والسيارات». [8] وما زال كتابه «أميركا كما رأيتها» يعتبر، إلى حدٍّ كبير، تحليلاً يلتقط المشهد الذي يشاركه في تصوّره السواد الأعظم من الناس والذي يعبّئ المتطرّفين. إذًا، المأخذ الأساسي على الولايات المتحدة هو إفلاسها الأخلاقي لا حماسها الديني.
إن ميل الغربيين لإغفال سبب شعور الفاعلين السياسيين الدينيين بالخطر من «أعداء الدين»، مدين للصورة التي يرسمها الإعلام عن الحروب الدينية. عندما يندلع صراع جديد في العالم المعاصر، أول ما يبحث عنه الصحفي عادة، ما إذا كان لأحد أطراف النزاع اعتقادات دينية معارضة ـ فإذا كان الأمر كذلك يكون هذا هو سبب النزاع ـ بالضبط كما فعل الصحافيون في تسعينيات القرن الماضي حيث كانوا يبحثون عن الفروقات الإثنية بين أطراف النزاع من أجل عنونتها بـ «الحروب الإثنية»، كما لو أن هذا الأمر يشرح لأجل ماذا يتحارب البشر وضد من. إنه لمريح جدًا للغرب العلماني، أن تكون طبيعة المشكلة «الإفراط في التدين» عند بعض الناس. من جهة أخرى، يبدو أن العلمانيين وجدوا أن الحل هو الفصل بين الدين والسياسة. لأن الصورة المؤلمة للحروب الدينية أكّدت صلاح النموذج الغربي، وصنّفت العلمانيين في موقع متميّز ينتظر الباقين للالتحاق به، وإنهاء صراعاتهم بمجرّد أن يتعلموا فصل الدين عن السياسة. لكن إذا كانت غالبية النزاعات فعلاً بين السياسة الدينية والعلمانية، إذًا العلمانيون الغربيّون ليسوا فوق الصراع، بل هم في قلبه.
هذا التقسيم للصراع يصل إلى حدّ يعزّز موقع العلمانية كإطار لحلّ الصراع، حيث تؤدّي أدوارًا محايدة يمكن خلالها الحفاظ على الحرية الدينية والتعددية والاعتراف بالجميع. لكن ما يُطرح كإطار محايد وكحلّ هو نفسه ما يخافه أحد أطرف النزاع.
يوجد خطورة جدّيّة تساهم في الحلقة المفرغة للخوف المتبادل وتصعيد النزاع إذا استمر الغرب بتعزيز العلمانية كمبدإٍ يسمو فوق السياسة وكشرط مسبق للسياسة، وكطريق لمجتمع ناجح وآمن وكشيء ينبغي على الآخرين تعلّمه.
يجب تجنّب سوء فهم محتمل، عندما يبدو أنني أجسّم «الدين» و«العلمانية» وأتعامل معهما كموضوعين خارجيين متجانسين، أنا في الواقع أدرس المسائل وفقًا لتشكّلها وعندما تؤثّر كموضوعات خارجية متجانسة تماشياً مع نظرية الأمننة، فالمسألة لا ترتبط بالدين كعامل عارض، بل كعامل يمكن إثارته بقوة ليشكّل ركيزة للفعل المتطرّف. إذًا النقطة المهمّة هنا هي قوّة فكرة الدين كموضوع مطلوب الدفاع عنه وكموضوع يُخشى منه.[9] كذلك الأمر بالنسبة للعلمانية: يمكن إساءة فهمي بسهولة عندما أتحدّث عن وجود شيء كمبدإ العلمانية المهم. سوف أرى ـ على العكس تماماً ـ أن الغالبية يعانون من وهم الاعتقاد بوجود مبدأ كهذا ـ فالفكرة قوية، ولكن الترابط الحقيقي لأي مبدأ أضعف بكثير، كما سنرى. بالتالي، من المهمّ تحديد قوّة تأثير الطرفين على إقامة نزاع انطلاقًا من ادّعاء مشترك لدى الطرفين بوجود مبدأ تامّ.
مبدأ العلمانية
يفترض الاعتقاد بفصل الدين عن الدولة، في أكثر الأحيان، وجود «الدين» و«السياسة» كموضوعات خارجية. إذ يُزعم غالبًا أن فصل الدين عن السياسة في القرنين السادس عشر والسابع عشر كان المرتكز الأساسي لنجاح الحداثة في أوروبا، من السلام المجتمعي إلى العلم، والأسواق المزدهرة، والديموقراطية وصولًا إلى الحرية الفردية. لكن المشكلة في عدم وجود كيان خارجي اسمه «الدين». وأن المفهوم الكلّي المجرّد «الدين» لم يكن منتشرًا قبل تلك المرحلة. نعم كان الناس متديّنين لكن الدين بوصفه كيانًا مجرّدًا ومميًّزا لُفّق عندما تمّ الانفصال. الأمر نفسه ينطبق على السياسة، فهي أيضًا ليست كيانًا مستقرًا. ففي نفس اللحظة التاريخية لفّقت فكرة كون السياسة نقاشًا عقلانيًّا حرًّا، من دون إشارة إلى القضايا الدينية والميتافيزيقية. بكل بساطة «الدين» و«السياسة» ليسا موجودين، لكن يمكن أن يدمجا أو يفصلا. وبالفعل أبدعت أوروبا الحديثة في بدايات تشكّلها بنية مميّزة، وأبدعت كيانات مثل الدين والسياسة (والاقتصاد والرأي العام والقانون)، كطريقة من طرق تنظيم المجتمع. وقد تكون طريقة ناجحة لكنها ليست وجودًا فعليًّا، واعتبارها كذلك يعدّ سياسيًّا بامتياز. قد يتمً التعامل مع العلمانية وكأنها غير مرتبطة بالسياسة، مع أنها قد تكون أكثر الأمور ارتباطًا بالسياسة، وأكثر الأمور أهمية، وأكثر القرارات أصالة.[10]
إن العلمانية شكل من أشكال السياسة التي تتوافق مع بعض الأديان دون بعضها الآخر. فهي متوافقة مع البروتستانتية، لأن جوهر المسألة يكمن في تعريف الدين. فهناك من يعرّف الدين بطريقة معيّنة، يعرّفه بأنه شخصي، وهذا هو الوجه الآخر للعلمانية: السياسة يجب أن تكون بمنأى عن الدين، لكن أين ينبغي للدين أن يبقى بعيدًا عن السياسة؟ في داخل الفرد. غير أن الأمر يزداد صعوبة عندما نتحدّث عن الأديان التي تكون فيها البهارج الخارجية ـ الأعمال الخارجية والجماعية والمنظمات الاجتماعية جزءًا جوهريًّا من الدين. طبعّا هذا لا يعني أن كل البروتستانت يتوافقون مع العلمانية، ولا أن العلمانية هي بأي شكل منتج طبيعي للبروتستانتية، كما يقال عادة. فكل الأديان طيّعة، وفي أي وقت تكون كما يريدها أتباعها. مع ذلك يتمّ التأكيد بطريقة غامضة أن كل خطوة نحو العلمانية، كما نعرف، كانت أقصر بالنسبة للبروتستانت من أي دين آخرـ وليس مفاجئا أن العلمانية المفترضة التي نقيس عليها هي التي انبثقت عن بدايات بروتستانتية.
النقاش بين السياسة الدينية والسياسة العلمانية هو نقاش بين وجهتي نظر متنافستين، والاعتقاد أن أحدهما إطار حيادي مقدّر على الآخر التكيّف معه هو وهم علماني. حتى أن يورغن هابرماس(6002) اعترف بأن على المرء مواجهة التحدّيات التي تطرحها كل رؤية كونية بشكل جدي.
التوازي ـ أو التفرّد المتطرف ـ المطروح من العلمانيين، بعكس التراتبية، يمكن أن يظهر أيضًا في مفارقة اعتماد العلمانية على الدين. لأن تعريف العلمانية يرتبط بالدين، والدين دائم الحضور في الطروحات العلمانية. ومما يدعو للسخرية أن العلمانية لا تلحظ «غياب» الدين عن السياسة، بل تستدرج الدين باستمرار إلى السياسة من أجل معارضته. هذا لا يعبّر عن فهم العلمانية لذاتها، فهي تركّز على مثال أعلى، وعلى عملية مستمرّة متحرّرة من الدين، ولكن كلّما احتاجت العلمانية للتسويغ أو للتعريف أو لضبط حدودها، نجد أن المبدأ لا يمكن أن يعرّف من دون الإشارة إلى الدين، أو إلى مفهوم محدّد للدين.
العلمانية، كما يرى طلال أسد، ليست فصلاً بين الدين والسياسة فحسب، إنها مشروع عام يعمل على تفعيل أنواع معيّنة من المجتمعات؛ إنها ممارسة منتجة، فهي لا تُفهم بمعنى الغياب فقط (عدم المزج بين الدين والسياسة).
ثمة طريقة أخرى للبرهنة على أن العلمانية ليست مبدأ بسيطًا، تتمثّل بالدراسة المقارنة للعلمانيات. كشفت «المناقاشات حول الحجاب» التي تزامنت مع محاولات دول الاتحاد الأوروبي لصياغة دستور مشترك، أنه رغم ظهور فرنسا وبريطانيا وبولندا وتركيا بمظهر العلمانية فهي في الواقع شيء آخر. لقد تمّ التمييز بين العلمانية والدين لكن ذلك حصل في أماكن مختلفة ووفقًا لمعايير مختلفة. فتاريخيًّا إذا لاحظنا كل بلد على حدة نجد أن كل بلد قام بتنظيم نفسه وفقًا لمميّزاته التي يمكن أن تتّخذ وضع المبدإ العام.
تسعى العولمة والأوْربة إلى دمج العلمانيات التي تحتاج إلى انفصال من أجل الحفاظ على نقائها. لقد انتهى زمن تعظيم العلمانية واعتبارها مبدأ ناصعًا يتسامى على السياسة. فهنالك عمل تاريخي حقيقي جارٍ يصنّف «العلمانية المقارنة» ضمن مواضيع الدراسة المتميّزة بقابلياتها السياسية. فوظيفة العلمانية المقارنة أن تكشف عن مدى الاختلاف في رسم الحدود، لا أن تبرهن فلسفيًّا على إمكان وجود هذه المركّبات.
العلمانية في الممارسات الواقعية، هي حقل معقّد من المركّبات الثقافية ـ السياسية، لكن في الصراعات المعاصرة، وخاصة في الحرب الباردة المتصاعدة بين الغرب والأصوليين الإسلاميين، تقلّص هذا التعقيد إلى مسألة مزدوجة: تنظيم الصراعات حول فكرة الفصل رغم أن المعنى الحقيقي للفكرة يتغيّر بشدة، وأنّ فكرة الفصل أصبحت بؤرة الصراعات.
كيف تكون العلمانية في خطر؟
وُضعت العلمانية على الأجندة السياسية لعدد من الأماكن في العالم ولأسباب مختلفة:
ـ فشل دولة ما بعد الاستعمار في كثير من دول العالم الثالث: كانت العلمانية جزءًا من عقيدة النخب المؤسِّسة لدولة ما بعد الاستعمار، لأجل إضعاف السلطات المحلية والتقليدية وإيجاد طريق للنموذج الغربي من الحداثة. وقد حدّدت الحركات المعادية للعلمانية السياسة المحلية في أماكن مختلفة، لكنها في الشرق الأوسط بشكل خاص أفضت إلى نشاط داخلي ودولي.
ـ نتيجة للجدل الداخلي في الولايات المتحدة حول مسألة «الكنيسة / الدولة» أفرزت العلمانية المحلية نموذجًا من «حرب الثقافات»، حيث تعبّأ اليمين الديني ضد ما فهموه بأنه تدمير للتراث والفضيلة من قبل النخب العلمانية التي (وفقًا لليمين) أخلّت بالميزان السياسي، خصوصًا بعد فكرة الحياد التامّ التي طرحتها المحكمةُ العليا بعد العام 1945. بدورهم اللبيراليون رأوا في هذا التمرّد خطرًا على الفصل بين الكنيسة والدولة.
ـ أصبحت العلمانية في أوروبا قضية بسبب ضغط العولمة: أولاً، الهجرة(الإسلام)، ثانياً الأوْربة(العلمانية المقارنة). وثالثًا ضعيفة، يأتي «الإحياء الديني» المحدود في أوروبا، الذي لا يمكن أن يضغط لوحده على العلمانية، لأنه عمومًا لا يتجاوز الحدود في العلاقة مع السياسة، وفي شمال أوروبا عادة يتمّ فرض العلمانية لأن العلمانية هناك تعتبر جزءًا من البروتستانتية وجزءًا من الهوية الوطنية.
العلمانية إذًا في خطر على المستوى السياسي في أماكن عدة. غير أن الأكثر أهمية هو حيث تتقاطع «الحرب الباردة الجديدة» بين الغرب والجهاديين الإسلاميين. فمتى تكون العلاقة بين العلمانية والدين مسألة أمنية محلية، ومتى تكون دولية، ومتى تكون بين دول؟ وكيف ترتبط الأمننة في مكان ما بالأماكن الأخرى من العالم؟
ـ إن حديث الجهاديين الإسلاميين عن الأمننة هو نقطة بداية واضحة، رغم أنها معقّدة، إذ أن الخطر الرئيسي التقليدي وفقًا لكلا الاتجاهين السائدين: (الإسلاميّين اللاعنفيّين مثل الإخوان المسلمين راهنًا)، والجهاديّين الذين يتوسّلون العنف هو (حسب رأيهم) الأنظمة العلمانية المرتدة. وهدفهم الإستراتيجي هو الوصول إلى السلطة في بلدانهم. لكن بدءًا من أواخر التسعينيّات، حوّل بعض «الجهاديين العابرين للأوطان» الذين يتزعمهم أسامة بن لادن «مركز الثقل» من العدو القريب (الأنظمة المحلية) إلى العدو البعيد (إسرائيل والولايات المتحدة). وهذا بالأساس لا يزال مسوّغًا على أسس إقليمية (شرق أوسطية)، والصراع بهذا المعنى ليس صراعًا دوليًّا. وسبب تركيزهم على العدو البعيد هو أن «الحلف الصليبي اليهودي» لن يسمح للإسلاميين بالوصول إلى السلطة في البلدان الإسلامية، لذلك يجب محاربتهم أولاً. بالإضافة إلى أن هذا يسهم في التعبئة وتوحيد الأمّة، خصوصًا إذا ساعدت الولايات المتحدة من خلال التدخّل العسكري. قد يأتي من يناقش أن هذا قد يُفقِد الجهاديين حجّتهم في قتال العلمانية الغربية، لأن الصراع ليس مع ماهية الغرب، بل هو صراع ضد وجوده العسكري في الشرق الأوسط وضد دعمه لإسرائيل. بيد أن فهمهم للسياسة الغربية يرتكز على تصوّرهم للغرب ـ الفصل المقوّم للغرب هنا ليس الإمبريالية الاقتصادية ولا هو التوسعية الدينية، بل هو الانحطاط الأخلاقي والمادية والممارسات المعادية للإسلاميين. أمّا العدو الأكبر في بلدانهم، فهو العلمانية.
وخلافًا لهذا، تشكّل سياسة الغرب تجاه البلدان الإسلامية جزءًا من البنية التي تشتمل على سياسة الولايات المتحدة تجاه إسرائيل/فلسطين وأفغانستان والعراق، وأيضًا ردة فعل الاتحاد الأوروبي على قانون الإلحاد التركي(سنشرح ذلك لاحقًا)، ووضع الدين والعلمانية في دستور العراق. والمهم من أجل ربط منظومة الصراع المندمجة كان الخطاب العام حول مسائل مثل: «ما خطب الإسلام؟» «وما هي المشكلة في العالم الإسلامي؟»، وكذلك المواقف من القضايا التي تخيّم على المنطقة. هكذا يتّضح أن التعامل مع أي دور للدين في السياسة يتمّ باعتبار الدين مشكلة، وباعتباره، وبشيء من الحذر، ضروريًّا أحيانًا، لكن هذا تنازل خاطئ من حيث المبدإ. وهذا مثار سخرية انطلاقًا من التوازن المتغيّر بين السياسة الدينية والسياسة العلمانية في الولايات المتحدة. لكن في ما يخصّ العالم الإسلامي، فإن الولايات المتحدة تتصرّف وتبدو كممثل متميّز للعلمانية الدولية.
نظرًا للتصور العام السائد في العالم الإسلامي أن أوروبا هي أحد الأعداء الغربيين للمسلمين والإسلام، فقد برزت أهمية أوروبا بعد الصراع الذي شهدته حول الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للنبي محمد. وأصبح الدين والهجرة في أوروبا وجهين لعملة واحدة، لأن أكبر الجماعات المهاجرة من المسلمين، ولأن المسائل الدينية المثيرة للجدل تركّز على الإسلام. هذا بخلاف الولايات المتحدة، حيث إن المسألتين منفصلتان ـ فالهجرة بالغالب من دول جنوب أميركا، والمسائل الدينية المثيرة للجدل هي في المقام الأول حول الحقوق المسيحية. بالتالي فإن أوروبا هي المكان الأفضل للمسلمين من أجل مراقبة المكانة التي يوفّرها الغرب للدين في المجتمع. سوف أركّز الآن على كيفية ممارسة العلمانية في أوروبا ثم أناقش الأمر بعد ذلك.
ثمّة طريقة لتصوير المنظومة الأكبر على شكل مثلث تحتل الولايات المتحدة مركزه نظراً لأهمية سياستها الخارجية، لكن الجزء الأكثر تعقيدًا يتعلق بشاط الدين/العلمانية. بخلاف أوروبا حيث نجد أن أوروبا والإسلاميين يتواجهان بانتظام.
تجذير العلمانية في أوروبا القرن الحادي والعشرين
عوضًا عن النقد الذاتي لعقيدة العلمانية السياسية، نجد أن التوجه في المجتمعات الغربية المعاصرة على العكس تماماً، خاصة بعد حادثة الحادي عشر من أيلول حيث يصرّ السياسيون الأوروبيون بشكل خاص على العلمانيّة عن طريق التنظير المتزايد للمسألة. فالذين يريدون أن يكونوا شموليين ومنفتحين وتعدديين يقولون: «لا بأس في الدين، طالما أنه حالة شخصية»، «يمكن القبول بجميع الأديان طالما أنها لا تؤدّي دورًا فاعلاً»، «على الناس أن يؤمنوا أن الديموقراطية تسمو على الدين»، و«عليكم القسم أن الدستور مقدّم على القرآن»، قد يبدو في الأمر شيء من التسامح، لكننا عندما نتفوّه بهذه الكلمات الودودة بطريقة مختلفة، نكون قد أقحمنا أنفسنا في مسألة بالغة الحساسية. لذلك فإن التحدّي المركزي الذي ستواجهه أوروبا في السنوات القادمة هو أن تُقدِّم أفكارًا جديدة بشأن العلاقة بين الدين والسياسة ـ لتحقيق قيم العلمانية بمزيد من التحفّظ لا يمكن للسياسة الأمنية أن تعالج كأنها مسألة تتعلّق بما يمكن فعله حيال البلدان البعيدة وشعوبها، وهذا أيضًا يشكّل مسألة صعبة بين الأوروبيين.
كردة فعل على تزايد إشراقة الدين، أصبح النقاش الأوروبي أكثر عمقًا وهذا يجعل الأمور أكثر سوءًا. فالمقاربة السائدة تغيّرت من شعور غامض بأن الدين لا يتلاءم مع السياسة إلى مناقشة مبدإ العلمانية، ومن خلال تشكّل العلمانية كمبدإ أصبح الخلاف مع الدين حتميًّا.
تبدو العلمانية مبدأ واضحًا، بسيطًا، متسامحًا وعادلًا للجميع. فهي، بالنسبة لكثير من الأوروبيين حدّ لا يجب تجاوزه: «يجب أن نصمد، وعلينا أن ندافع عن مبدإ أساسي بني مجتمعنا عليه»، لكن بعد الفحص الدقيق يتبيّن أن هذا الحدّ وهم. فليس ثمّة مبدأ بسيط، ولا هناك مكان معيّن نرسم فيه هذا الحدّ، ولا يوجد حيادية ولا براءة، ولا توجد ضرورة لإدارة مبدإ بهذا التزمّت.
يدافع العلمانيون عن موقفهم باستمرار بقولهم: «إذا استسلمنا فإن أسس النظام الديموقراطي في الغرب سوف تنهار». يشبه تصوّرهم هذا النموذج الثابت للسفر عبر الزمن: «الاستسلام سيعيدنا إلى العصور الوسطى». هذا لأننا لا نناقش بوضوح ما يمكن أن يحصل لو كانت الحجج الدينية في حالة تنافس مع غيرها في الحوار الديموقراطي. بل نحن، بدل ذلك، نرى الـ«مبدأ» في خطر، وأن أي «انتهاك» مهما كان صغيرًا سيكون بمثابة حجر الدومنو الأول القادر على إسقاط النظام بأكمله، إذًا «العلمانية» في خطر. وخطاب «القيم» الذي يتناول «المبادئ» خصوصًا يهدف لدعم الأمننة، لأنه بدل أن تعزّز مسألة ما أهميتها الفعلية تصبح مثقلة بالأزمات طويلة الأجل. لاشك أن المبادئ موجودة، وأحيانًا يجب التعامل مع النماذج المفردة وفقًا لدورها الصادّ للمخاطر العامّة، لكن التعامل مع سياسة «مبدأة» المسائل يتمّ باستخفاف مفرط مقارنة بالقوة الموجودة في إطار من هذا النوع.
يبدو أن العودة لعالم تتصارع فيه الأديان لم تعد معقولة. ففي أي صراع بين دينين، سيبرز طرف ثالث قوي، وخصم للدينين المتصارعين، هو العلمانية. وليس هناك طريقة للرجوع إلى الوضع الذي ساد قبل العلمانية، حيث كان العالم مؤلفًا من أديان مختلفة فحسب.
يُلحظ في جزء كبير من شمال أوروبا أن الإيمان الديني يزداد انتشارًا. ففي وسائل الإعلام يتحدّث المشاهير عن اعتقادهم بشيء أو بغيره ـ بخلاف ما كان منذ عشر سنوات ـ أصبح الدين حاضرًا وتمً التعامل معه على أنه أمر إيجابي، وعنصر غير مؤذ ومرحّب به ـ باستثناء حضوره في السياسة، حيث يبقى شعار فصل الدين عن السياسة مرفوعاً. إذ أن احتمال تزايد دور الدين في السياسة قد يُخلِّف أثراً سلبيًّا: فتأثير الدين في السياسة الأوروبية يزداد، وللسبب ذاته أصبح الخوف من الدين أكثر حدّة. ذلك أن المناقشات الدينية لا تستقبل بمواجهة براغماتية للأديان، ولا بمناقشات اقتصادية واجتماعية مثالية أو مصالح ذاتية، بل نجد ردة فعل قوية شبيهة بردة الفعل التي تحصل عندما يستدرج الدين إلى السياسة. فلو دافع أحد الأئمة المحليين عن رجم امرأة في نيجيريا، لن نجد إلا عددًا قليلًا يستطيع أن يشرح لنا سبب الخطإ في ذلك. ستقول الغالبية ببساطة: «هذا لتبيين كيف أن الأمور تخرج عن السيطرة عندما ترتكز حججها على الدين». إنهم يهاجمون الشكل بدل الدفاع عن وجهة نظرهم.
هل هذا منطقي؟ إن الذين يبنون استنتاجاتهم السياسية على أسس دينية جزئية يواجهون خطابًا يطالبهم بإيجاد حجج أخرى في الدائرة العامّة. فعندما تحاجج عليك باستعمال مسوّغات أخرى مغايرة لدوافعك الحقيقية. لأن إجراء مناقشات ديمقراطية تفصيلية غنية ليس بديهيًّا.
هل يمكن التخلّي ببساطة عن هذه الطريقة في التعامل السياسي مع الدين؟ أليس من الأفضل لو عبّرت الأصوات العلمانية في الحوار بصراحة عمّا تريد وما لا تريد بدل الإعلان للآخرين بأنهم ممنوعون من المحاججة بطريقتهم؟
ما أبسط أن يُجعل الدين مسألة شخصية، من وجهة نظر العلمانيين، ولكن بالنسبة لكثير من المؤمنين هذا قضاء على الدين من جهة(لأن الدين الكامل لا يمكن أن يكون شخصيًّا فقط)، ومطلب مصطنع لتولّي مراكز سياسية لا تشتمل على عناصر مهمّة من المسائل الأكثر فاعلية. فالدول العلمانية تتباهى بمعاملة الأديان بمساواة، لكن لا مكان للمساواة والحيادية في العلاقة بين المتديّنين والعلمانيين. ولا مساواة في التعامل بين الأديان المختلفة على مستوى الممارسة. فإن المفاهيم السائدة حول العدالة، والإجرام، والقيم الإنسانية...إلخ، لها جذور دينية في كل المجتمعات، وإن كان بدرجات مختلفة. لكن هذا الشكل من التأثير يتسرّب إلى النقاش فقط عند العجز عن تبرير القيم من دون إقحام التراث. بيد أن المناظرات الدينية لا تلحظ في السياسة الغربية عندما تصدر عن الغالبيات، فهي لا تبرز إلا عندما تكون نادرة ـ عندما تصدر عن الأقليّات (أو من مجموعة صغيرة متطرّفة ضمن الغالبية السكانية). إن فكرة «العلمانية» كمبدأ نهائي تثير إشكالية في أوروبا راهنًا لأنها فكرة مثالية مستحيلة لا تجد الأكثرية حرجًا في انتهاكها أكثر الأحيان، ومن ثمَّ يواجهون بها جماعات بعينها.
المشكلة الأساسية مع العلمانية هو فهمها كمبدإ فصل أو وصل ـ فهل علينا أن نفصل أو أن ندمج بين الدين والسياسة؟ ومما يثير السخرية أن تأطير المسألة بهذا الشكل يوحّد العلمانيين المتحمّسين والإسلاميين. فكلاهما يتحدّث عن فصل أو وصل مجرّد ـ أحد الطرفين يختار ببساطة أحد المصطلحين «الفصل»، والطرف الآخر يختار «عدم الفصل». ففي التراثين الغربي والإسلامي مناقشات معقّدة حول العلاقة بين الدين والسياسة، لكن العلمانيين والإسلاميين المتشددين راهنًا يتحاشون المسائل الصعبة التي ترتبط بمبدإ بسيط ظاهرًا هو «الفصل». يتجنّب الإسلاميون المعاصرون السير على خطى التراث الإسلامي بالانخراط في حوار معقول يبحث طبيعة العلاقة بين الدين والسياسة، مستبْدِلين الحوار بنفي بسيط لموقع الغرب ـ «نحن نرفض التمييز الغربي اللاإسلامي بين الدين والسياسة»، والجدل الغربي المعاصر(خاصة في أوروبا). يعتبر هذا التمييز «حدَّاً فاصلًا» على الغرب وضعه لتحديد العلاقة بالإسلام، وتقديمه في صيغة سؤال جوابه نعم أو لا كمقابل للسؤال بكيف. فالأطراف المتقابلة تعكس نفسها في الآخر وتستخدم علمانية «ذات بعد واحد» لفعل ذلك.
إن إعلان الغرب للحرب دفاعًا عن مبادئ العلمانية «المقدّسة» يشكّل استفزازًا لا ضرورة له، وخطرًا وتعصّبًا على المستوى الدولي، وهو يضفي شرعية على التمييز الصريح في السياسة الداخلية باسم التسامح. وهذا يؤدّي بشكل خاص إلى تسييس عدائي للدين مقابل التأثيرات المحدودة التي كان يمكن أن تحصل لو شكّلت المناظرات الدينية بعدًا آخر في الحوار السياسي التعدّدي. لكن بتنازعهم على هذه النماذج يخلق العلمانيون خليطًا إشكاليًّا إضافيًّا، يتمثّل بالتسييس المريب لدين بعض الجماعات، واحتمال تأثير هذا الدين على آرائهم السياسية.
قدّمت السنوات الأخيرة عددًا من الأمثلة، خاصة في أوروبا، على تزايد الحملات السياسية الشديدة ضد تدخّل الدين في السياسة. فمنذ أحداث 11 أيلول تمً تفسير الإرهاب على أنه قمّة التعبير عن السياسة الدينية. وأصبح أي جمع بين السياسة والدين مشيطَنًا نظرًا لتهمة الإرهاب التي أُلصقت به. ففي حالات مثل قانون الكفر التركي وترشح بتغليون كمفوض للاتحاد الأوروبي، أثّر العلمانيون على اقتران الدين والسياسة لأنهم اعتقدوا أنهم رأوا نفوذاً دينيّاً، فأخذوا على عاتقهم إبعاده عن الناس الذين أعلنوا بأنفسهم أنهم قادرون على تمييزه. سأستفيد من المسألة التركية لتوضيح ذلك.
في العام 2004 اقترح الحزب الإسلامي الحاكم في تركيا قانونًا لمكافحة الزنا. فكانت ردة الفعل إدانة موحّدة في أوروبا، وأصبح مشروع انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي في خطر. والمثير للاهتمام أن ردة الفعل هذه كانت إجماعية، ولم تستدع أي تبرير. وهذا ما أثار السؤال التالي: هل الزنا محدّد للهوية الأوربية؟ قد يجيب كثير من الأميركيين بنعم، ليس لأن الزنا غير شرعي في 24 ولاية فحسب، بل لأنهم يرون في أوروبا نموذجًا للفساد الأخلاقي، لا يؤمن بالدين ولا بالحقائق الثابتة. ولتوضيح الأمر دافع بعض السياسيين الأوروبيين عن موقفهم بتعبيرهم أن هذا القانون «أعطى انطباعًا» أن تركيا تتّجه لتطبيق الشريعة. لكن ليس في هذا القانون بالصيغة التي صدر فيها ما هو إسلامي، باستثناء الملاحظة التي وردت في جريدة نيويوك تايمز(14 أيلول 2004): «الزنا محرّم في الإسلام كما في أكثر الأديان». كما أنه ليس في القانون ما يمنح السلطة الدينية أي صلاحيات. لماذا إذًا؟ ألم تكن المسألة محلية؟ فعندما تضفى الشرعية على الإدانة الدولية وصولًا إلى العقوبات، مثل رفض عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي، هذا يدفع المرء للاعتقاد أن القانون انتهك معيارًا واضحًا، مثل معيار كوبنهاغن للعضوية. لكن المسألة ليست كذلك، فحق الزنا لم يذكر في الميثاق الأوروبي لحقوق الإنسان. ولا يمكن كذلك، شرح ردّة الفعل من خلال اعتبار القانون تدخّلًا غير مناسب للدولة في المسائل العائلية، ففي كثير من الدول قوانين تحرّم العقاب الجسدي للأولاد، والدولة بشكل عام تنظّم قوانين الزواج. حتى أن القانون التركي لم يفسح المجال لعامل خارجي بالتدخل، فأطراف الزاوج فقط معنيّون بالمسألة. لكن المشكلة تبدو كأنها مجرّد «انطباع» سائد حول ارتباط المسألة بالدين، وربما حتى بالشريعة. لكن قوانين العائلة بشكل عام، كما في البلدان الأوروبية، مستوحاة بشكل أو بآخر من الدين. فالقوانين حول الدين والتبنّي والتلقيح الاصطناعي والطلاق لا تقوم على أسباب سياسية مجرّدة، بل تأتي من مفاهيم مسيطرة في بعض المجتمعات حول الإنسان والحياة والحب. فحقيقة أن قوانين الأسرة تجذب أفكارًا ذات أصول دينية لا يمكن أن يكون هو القضية. في المقابل نجد الأوروبيين يربطون حزب العدالة والتنمية (akp) الحاكم، وبسبب جذوره الإسلامية، بقانون الشريعة المتوجّس منه، ويريدون مراقبة هذا الحزب حتى ولو لم يكن له أي علاقة واضحة بانتهاك القوانين الدولية. ربّما كانت الحركات النسوية على حقّ باعتقادها بإمكان وجود آثار سلبية للقانون، وأن إسداء النصح للأتراك بالمشاركة في التظاهر ضده كانت في محلّها. لكن أن يرتّب السياسيون الأوروبيون آثارًا مهمّة من دون أي أسس قانونية أو مبدئية (وتقريبًا بدون أي دراسة نقدية في الصحافة المحلية) يكشف إلى أي حدّ أصبح الاعتقاد بإبعاد الدين عن السياسة قويًّا. ومن الواضح أن هذه الحادثة ساهمت في تظهير صورة أوروبا في العالم الإسلامي كعدوٍّ صليبيٍّ معادٍ للدين وراعٍ لكل أشكال الانحلال.
ربما ارتبطت هذه الأمور بمسألة الهوية الأوروبية. فثمة بحث يجري حول القيم المحدّدة لأوروبا والتي يمكن أن تؤدّي إلى الاندماج بعد إتمام مشاريع كالسوق الأوروبية والاتحاد النقدي، فالزنا ليس مرشحًا جديدًا. فجاك دريدا ويورغن هابرماس كتبا مقالًا مؤثّرًا يعبّر عن افكار تدور بين المفكرين حول مستشار الاتحاد الأوروبي، وجدا أن الأفكار الثلاثة الأكثر تكرارًا هي: حالة الرفاهية، والقانون الدولي (مقابل سياسة القوة) والعلمانية. يبدو أن هذه الأفكار قد اختيرت على ضبط معيار يحدّد أوروبا مقابل الولايات المتحدة. فالعلمانية توافق على التصوّر الشائع في أوروبا أن بوش وبن لادن أصوليان دينيان يجرّان العالم إلى مواجهة خطرة. من هنا، فإن عملية تنشيط العلمانية من خلال التأمّل ومرجعية الذات يضفي عليها بعدًا ثالثًا. تنطلق، على المستوى الأوّل، من كونها خيارًا لتتحوّل إلى مبدإ، وبناءً على ذلك يتم الدفاع عنها، ليس فقط وفقًا لجزئيّات المسألة. فعندما يصبح هذا المبدأ بازدياد قيمة لمقاصد كلية، يصبح راسخًا وموضوعيًّا. ثمّة سؤال محدد على المستوى الأوّل (هل يجب أن تتكيّف المدارس مع المطالب الإسلامية بفصل الجنسين في دروس السباحة؟) لا يُجاب عنه بشكل ملموس، ولكن بصيغة الدفاع عن مبدإ العلمانية (على المستوى الثاني) والدفاع عن هذا المبدإ يصبح أكثر أهمية على المستوى الثالث عندما يبدو كدفاع عن القيم الأوروبية وهذا يساعد في منح أوروبا هويتها.
ظهرت نسخة خاصة من هذه المستويات في الدنمارك، حاولت طويلاً شرح الأزمة المتعلّقة بالرسوم الكاريكاتورية. ووفق ما كتبته كارن فرن Karen Wren وبر مورتيزن Per Mouritsen، أن القيم الليبرالية أصبحت بشكل متزايد مرتكز الهوية القومية في الدنمارك، إذ يواجَه المهاجرون بمطالب صعبة تنطلق من معيار الفهم الذاتي للدنماركيين بأنهم عالميين وشموليين، ولكن الوقائع تعرض بطرق انحصارية ومغلقة بالغالب، وأكثر تحديدًا تمّ الإيحاء ـ قبل أزمة الرسوم الكاريكاتورية ـ بأن الدنمارك كانت تبني علمانية نضالية خاصة كجزء من الأزمة حول الهوية القومية. الصورة الذاتية للدنمارك كانت تاريخيًّا مركّبة ضد جيرانها، ألمانيا وبروسيا والسويد، الذين عرفوا برتابتهم، وافتقارهم لروح النكتة، وأنهم تسلّطيّون ونخبويّون، في حين أن الدنماركيين كانوا دعاة مساواة، بسطاء، ليبراليين، برغماتيين ومتسامحين. غير أن السياسة التقييدية المتزايدة تجاه المهاجرين لا يمكن أن تكون جزءًا من هذه الصورة الذاتية. لقد تمّ حلّ هذا التوتر من خلال إعادة تعريف قيم الليبرالية والتنوير كما عُبٍّر عن ذلك في موضعين: المساواة بين الجنسين والعلمانيّة. وقد برز تسامح لا متسامح من هذا الترقّي الدفاعي لهذه القيم الجزئية كأمر جوهري لا بدّ من الدفاع عنه. في قضية الرسوم الكاريكوتارية، فسّر هذا الموقف التصوّر المنتشر في الدنمارك حول وجوب اتخاذ خطوات استفزازية تمامًا للدفاع عن المبادئ المصيرية، حيث يمكن لعدد كبير آخر أن يقلق على قيم ليبرالية تنويرية أخرى قلّل الدنماركيون من قيمتها حديثاً وبالتالي أزيلت من المعايير ذات الصلة.
الدمقرطة الدينية للديموقراطية
إن التخلّي عن إقصاء الدين عن السياسة قد يعزّز الدمقرطة والاندماج في المجتمع الغربي. ما هو خطير حول القانون المزيّف أنه يوظّّف بطريقة انتقائية لمهاجمةِ البعض ثم إقصائهم بدل إشراكهم في الحوار. هذا التمييز بين من يشكّلون جزءاً من «الحوار العقلاني» وبين الذين لا يعتبرون كذلك، لا يشكّل عاملًا إيجابيًّا في صياغة جماعة سياسية شمولية كمقابل لدمقرطة مستمرة تشتمل على عدد أكبر من المتغيّرات في الحوار المشترك.
هذا الأمرُ، وكما اعتبر وليام كونلي، يرتبط بمفارقة عميقة تنطوي عليها الليبرالية. على المجتمع التعددي أن يرسم الحدود. فلأجل من تُطبَّق هذه التعددية وهذا العامل المؤثّر؟ إن التفكير بمن سيكون مدرجًا لا يتناسب مع نظام فاشيّ؛ لأن تأثير الناس يكون معدومًا، وحقوقهم تكون مهضومة بالكامل. فكلّما كان المجتمع تعدديًّا كلّما ازداد الضغط لوضع حدًّ فاصل، وهذا الحدّ يُرسم بوضوح بشرط تعيين من لديه الحكمة والأهلية الكافية لوضعه. لكن هل يمكن أن تشتمل المشاركة على النساء والفقراء والمرضى النفسيين؟ مع مرور الوقت توسّعت الحدود. لذلك رسم كونيللي نهجًا يستدعي التعددية والتعدد على السواء. لا ينبغي للتعددية أن تتجمّد وأن تشكّل دائرة مغلقة، بل ينبغي أن يتمّ اعتراضها باستمرار بحيث يسمح للهويات الجديدة أن تتشكّل وأن تصبح جزءًا من المجتمع. وهذا بالضبط بسبب فهم هذا الوصف بلغة المعقولية واللامعقولية بحيث يصبح الدين هو الآخر الرئيسي في السياسة. إن تعدّد التعددية إلى درجة اشتمالها على الطروحات الدينية أصبح واحدًا من التحدّيات الكبرى.
تحوّلت بعض تفسيرات وتبريرات العلمانية إلى آلية تسهم في زيادة التصلّب والاحتقار. فثمّة حجّة شهيرة لإبقاء الدين خارج السياسة تعتبر أن الحوار السياسي سينتهي عندما نؤسّس مواقفنا على ما هو خارج إطار النقاش. وما عبارة «سينتهي الحوار» سوى تبرير زائف، من أجل افتراض غاية قصوى للسياسة كالحوار العقلاني. فقد جرت العادة أن لا تتمّ المحافظة على هذه الغاية وأن لا تنفّذ. ففي الحوار تتصارع التبريرات على أساس مصادر مختلفة، كالمصالح الشخصية، والتراث، والفلسفة الاجتماعية، وأي سياسي يمكن الوثوق به. فليس فقط يمكن لفريق أن يعتبر حجج الفريق الآخر «غير منطقية»، بل إن المشاركة نفسها في حوارات «منطقية» لا تحصل كالاختبار العقلي للتبريرات، لأن عدم التوافق يكون بالتحديد حول متى تبدأ المسألة وحول موضوعها. لكن ممارسة هذه الأشكال المتغايرة من المناقشات تتفاعل في الديمقراطية، والمرء يجد أنه أحيانًا يتحوّل ببطء من موضع إلى آخر ـ وإن كان نادرًا لأن آراء الآخرين «ترغم» المرء لفعل ذلك. لا تُرفض آراء الآخرين حرمانًا للمحاوِر من حقّه. طبعًا تمّت مقارنتها وقياسها بأنواع أخرى من الآراء. نحن لا نتزعم الحوار المفرط في العقلانية الذي يختبر فيه كل طرف أسس المواقف السياسية للطرف الآخر. والذي لا يحكم فيه على الحجج بعدم القبول على أساس أنها «مفرطة في لامنطقيتها» ـ لكن التبرير على أسس دينية غير مقبول، وسوف يُرفض تمامًا كمسألة مبدئيّة. هذا يكشف أننا لا نتعامل مع معيار عادي وعالي المستوى لا تستطيع الحجج الدينية بلوغه ـ نحن نتعامل مع حضر من نوع خاص على التسويغات الدينية في السياسة. وما ادّعاؤنا أن الحوار السياسي يُمارَس انطلاقًا من هذا المعيار العالي المستوى ـ وأن الحجج الدينية وحدها التي تفشل في الاختبار ـ إلا تمادٍ في الإهانة؛ ووسم واضح للدين باللاعقلانية. قد يبدو نقاشنا للحكم الخاص تجاه الدين بانفتاح أكثر عدلاً وصدقًا. ربما كان الحكم مبرّرًا وتقدميًّا قبل 400 سنة، لكنه الآن يحتاج إلى إعادة تقويم بمنهجية منفتحة.
يدور في «سيناريو الرعب» العلماني حوار عقلاني ضد الاعتقاد الدوغمائي. فقد يتوقّف الحوار إذا أشار أحد الأطراف إلى الكتاب المقدّس. أليس كذلك؟ من المستبعد، عمليًّا أن نقطع بما يمكن أن يفكر فيه المرء إذا انطلق من أسس دينية. يعتبر كتاب جيم ويليس «سياسة الدين: لماذا يسيئ اليمين الفهم ولماذا لا يفهم اليسار» مثالاً جيدًا، يحاول فيه وزير تقدّمي أن يقنع الديموقراطيين بإمكان تعبئة المسيحية لمصلحتهم. فقد كتب: كيف أصبح المسيح ناطقًا باسم الأغنياء، ومؤيّدًا للحرب، وداعمًا لأميركا؟» من الذي يقول إن «السياسة القائمة على القِيَم» يجب أن تعني المعارضة للزواج المثلي، في حين أنها يمكن أن تعني السلام والمساواة والعدالة الاجتماعية؟ الدين ليس موقِفًا للحوار بالضرورة. أولاً، هذا يساعد في إطلاق حورات جديدة داخل الجماعات؛ ثانيًا، يمكن أن يوفّر مصالح مشتركة بين المشاركين العلمانيين والدينيين. أشار المحلّل السياسي الأميركي توماس بنكوف أن هناك كمًّا هائلاً من الكتابات التي تتوقّع ما يمكن أن يحصل لو أصبح الدين فاعلاً في السياسة. في المقابل، تندر الأبحاث التي تلحظ المسار الفعلي للأحداث التي يتفاعل فيها الدين والعلمانية. وهو يضرب مثلاً ليبين كيف يمكن أن يوفّر البحث حول الخلايا الجذعية في الولايات المتحدة وفرنسا سير أحداث مقبول. حتى أن المشاركين العلماينيين يستطيعون الانتفاع من الأفكار المستوحاة من حوارهم مع شركائهم الدينيين في الحوار حالما يصل إلى النهاية نظرًا لما يمكن للّغة العقلانية الجارية أن تعالجه، كما يبدو بوضوح في مسائل بيولوجيا الأخلاق.
هذه الأمثلة تصوّر أن التعارض بين الحوار العلماني المتمثل بتساؤل بين الفلاسفة تجاه المفكّرين المتدينين المتصلبين إشكاليّ على الجانبين: فمن جهة يختلف الحوار السياسي الجاري جدًا عن هذا المثال الأعلى، ومن جهة أخرى يمكن للدين أن يشارك من غير وقف الحوار.
هذا لا يعني أن رفع الحضر عن تدخّل الدين في السياسة حلّ سهل. لأن العلاقة بين الدين والسياسة سوف تستمر بإثارة أسئلة شائكة. منها الأسئلة الأساسية التالية: هل ينبغي معالجة هذه العلاقة من خلال العملية السياسية العادية الجارية أو من خلال محدّدات خاصة لتدخّل الدين في السياسة؟ هل نحتاج حضرًا خاصًّا(رسميًّا أو غير رسمي) على تدخّل الدين في السياسة، أو هل يجب أن يواجه الفاعلون الدينيون نفس الشروط والموانع التي يواجهها غيرهم؟ فهم ممنوعون من استخدام العنف في السياسة، ونحن لا نسمح للديمقراطية أن تستخدم لإلغاء الديمقراطية؛ أي «الإطاحة بالنظام العام». أو هل يجب علينا ـ كسلطة تتميّز بالضعف ـ أن نضع شروطًا واضحة حول قبول التناقض؟ وكيف نسمح بالنقاشات المرتبطة بالدين، في الوقت الذي نحدّ فيه من صلاحية المؤسّسات الدينية ونقوّض المؤسسات الديموقراطية؟ هذه أسئلة صعبة ويجب معالجتها على مستوى صعوبتها ـ لا أن يُنظر إليها ببساطة، والحكم أن حلّها يتمّ عبر «انفصال» معلن بين الدين السياسة.
عندما يزداد نفوذ السياسة الدينية لصالح الأكثرية، فمن الأهمية بمكان حماية:
1) حرية الاعتقاد بما في ذلك الإلحاد.
2) المحافظة على سيادة المؤسسات الديموقراطية. (يعني لا مجلس أوصياء)
3) حماية حقوق الإنسان وليس أقلّها ما يتعلّق بالجنسانية. هذه الأمور تتعلق إلى حدّ كبير بالخطر الذي تشكّله الأكثرية عندما تفرض قراراتها المرتكزة على الدين على الأقلية وتشيّدها في بنية الدولة، ومع ذلك فإن التجربة الأميركية المبكرة كانت مع التعددية الاجتماعية (في تلك الحالة فئات بروتستانتية مختلفة، راهنًا أديان مختلفة) لكن هذا النموذج يفقد صلاحيّته شيئًا فشيئًا. فالعولمة تعني أننا جميعًا سنتأمرك وهذا شيء جيّد (في هذا السياق).
إن تخطّي جميع الفاعلين السياسيين لهذه المطالب القياسية، يعني وضع قيود إشكالية، إذا وضعت ضد الأكثرية، سيقصد منها معاداة الديمقراطية والنخبوية؛ وإذا تعلّق الأمر بالأقلية تكون انتقاصًا قمعيًّا من التعددية. يستطيع المرء مثلاً أن لا يطلب من الفاعلين الدينيين «انفتاحا» على طروحات الآخرين، لأن هذا أمر فشل معظم السياسيين في تنفيذه. ولا علينا أن نطلب أن يحتمل الفاعلون الدينيون قابليّة مواقفهم المبدئية للخطإ، لأن العلمانيين يمزجزن عادة المطالبة بذلك بالإصرار على بعض حقوق الإنسان والقيم السياسية «غير الخاضعة للتفاوض». علينا أن نلتزم بمطالب يمكن تحقيقها، مثل اتّباع القرارات التي تتّخذها الأكثرية حتى لو تمّ اسقاطها بالتصويت.
لكن أليست المثل العليا صالحة دائمًا؟ في حال كان السياسيون العلمانيون يتجاهلون القوانين الصالحة، ألا يجدر بنا أن نعزّز جهودنا ونطالب بها الفاعلين الدينيين والعلمانيين على حدّ سواء؟ لا يمكن أن تصبح المطالب التي لا تلامس الواقع أداة تستخدم بطريقة غير متوازنة ضد الأقليات. فمثلاً، تسلّط الأضواء على تعبير المسلمين عن طروحاتهم الدينية وتخفت عند إطلاق أحد السياسيين «من أبناء البلد الأصليين» مواقف قائمة على مفاهيم دينية شائعة. بالإضافة إلى أن للأكثرية طريقًا للوصول إلى المصادر السياسية، وهم أكثر قدرة على انتهاز الفرص السياسية التي يوفّرها عدم الانسجام مع مبادئ الآخرين.
تبدو فكرة إلزام المنظّرين السياسيين بتحفيز المثل العليا التي يمكن تسويغها فلسفيًّا فكرة نموذجية مميّزة للعلاقة بين الفلسفة / النظرية والسياسة العملية. يفترض أن تكون النظرية قادرة على الوصول إلى نتائج عامّة مستقلّة عن أي مجتمع بعينه، وهذه المبادئ تدخل لاحقًا إلى السياسة الراهنة من دون اعتبار للقوى الفاعلة وتأثيراتها المحتملة على النُظم السياسية. بمزيد من وجهات النظر السياسية ـ مع التأكيد على السياسة كفعل وتفاعل وإبداع مستمرّ، لا كحلّ للمشاكل ـ ترتبط الحقيقة في أي موقف سياسي مفترض بما يفعله ويقوله الآخرون. الرأي المسيطر حول العلاقة بين الجانب النظري والسياسة مدين للعلمانية؛ لأنها تفترض سيادة للعقل المستقل كسلطة خالصة ـ البنية التي نصّبت لتحلً مكان الدين كتبرير للسلطة السياسية. في المقابل أعتقد أن المداخلات النظرية يجب أن تُضبط على وقع مراقبة الصراعات السياسية الموجودة وعلاقات القِوى في الميادين ذات الصلة.
غير أنني لا أوافق مع من يطالبون بضرورة «إرجاع الدين إلى السياسة»، ولا مع الفكرة الأوروبية «العادية» المطالبة بإبقاء الفصل بين السياسىة والدين. إن استدراج مزيداً من الدين في السياسة ليس غاية ولا هو مكسب تامّ، إذ قد يكون لذلك إيجابيات كما قد يكون له سلبيات. من بين الإيجابيات القدرة الكبيرة على التعامل مع المسائل الأخلاقية والوجودية الصعبة حيث يفشل الفهم الضيّق للسياسة، كما يمكننا أن نستفيد من التقاليد والخبرات المختلفة. ومن بين السلبيات: تزايد تشتّت الرأي العام إلى مجموعات لا تعترف بالآراء الأساسية لبعضها بعض. لكن عندما لا يكون الهدف «مزيدًا من الدين في السياسة» ماذا عساه يكون؟ إنه تجنّب حظر الأفكار الدينية في السياسة، والتوقّف عن إخضاع الناس لـ«المبدأ»، ولمعايير طريقة الوصول. إن من يريدون الحوار على أساس ديني لديهم الحق في محاولة فعل ذلك. وإنهم بلا شك سيجدون أحيانًا أن هذه المقاربة ليست الأكثر فعالية في أوروبا، وأنها لن تحدِث أي فرق مهمّ على مستوى نتائج الحوارات الحاصلة؛ بل على العكس ستسبّب فوضى عارمة تمنعهم من فعل ذلك.
ستكون الآثار «السلبية» للسماح بتدخّل الدين محدودة، ذلك لأن استخدام الدين كشكل من أشكال الحوار له حدوده بسبب طبيعة السياسة. فليس من الحكمة أن تُستخدم حجج لا تكون مقنعة إلا لجزء محدود من الناس. في الوقت نفسه، قد توجد إيجابيات كثيرة، منها أن السماح للدين في السياسة سيكون سببًا في إضعاف صورة الغرب المعادي والمحارب للدين.
[1]*ـ مفكّر دنماركي ـ أستاذ محاضر في جامعة كوبنهاغن، وباحث في معهد السلام في العاصمة الدانماركية، حائز على دكتوراه في السياسة الدولية.
ـ يرتكز هذا البحث على محاضرة ألقيت في جامعة كوبنهاغن في احتفال الجوائز السنوية عام 2004.
[2]نقلاً عن: on the theological origins and character of secular international politics - 2009
ـ العنوان الأصلي للبحث: World conflict over Religion: Seculasrism as a Flawed Solution
ـ ترجمة: طارق عسيلي.
[3] ـ الأمننة موضوع واسع الانتشار في الأدبيات الحديثة. [استدعت نهاية الحرب الباردة نقاشًا واسعًا حول التهديدات الأمنية، فقد فضّل عدد من المفكرين توسيع فكرة الأمن لتشمل قطاعات أخرى (السياسة، الاقتصاد، البيئة...). هذا التوسّع في مفهوم الأمن نجم عنه ما يعرف بالأمننة، وقد اعتبر ويفر الذي يُعدّ من رواد مدرسة كوبنهاغن أن هذا المفهوم أُخِذَ من الأنظمة المصرفية وحُوِّل إلى العلاقات الدولية. (المترجم).
[4]ـ نظرية الأمننة نافعة بشكل خاص للمشروع الحالي لسببين: الأول هي نظرية «منفتحة» بمعنى أنها لا تجرب على أسس نظرية لأنها تقرر ما هو أمني وما ليس بأمني، كما يحصل عادة مع التقليديين (الأمن العسكري للدولة) ونظرية الأمن الحرج (الحاجات الإنسانية)، نظرية الأمننة تعرّف الأمن كشكل، برفع المسائل فوق السياسة العادية إلى دائرة الضرورة والإلحاح. هذا الانفتاح النظري يسمح بالدراسات الاختبارية للمتغيرات في الأمن زمانيًّا ومكانيًّا، وفي هذه الحال لنجعل منها مسألة اختبارية كيف يدخل الدين إلى المشهد الأمني: ما الذي يعتبر مهدّدًا وبماذا؟ والسبب الثاني في اختيار هذه النظرية هو أنها تبدو قادرة على الربط البنّاء بين النظريات الأساسية للأصولية والتطرف الديني وترعى كذلك التعاون على مستويات مختلفة.
[5]ـ من الأمثلة الراهنة على صراع الدين ضد الدين هو التنافس بين الإسلام والمسيحية في الصحراء الأفريقية، والصراع الفلسطيني الإسرائيلي، الذي كان يديره بالأساس الناشطون العلمانيون من الجانبين، لكنه الآن أصبح مواجهة بين الأصوليين من الجانبين (رغم أنه مازال تحولًا جزئيًّا في هذا الاتجاه، لأنه حتى الجماعات الدينية من الطرفين يعرّفون الصراع على أساس الأرض لا الدين).
[6]ـ قدّم عدد من المحلّلين براهين لتجنّب مصطلح «الأصولية» فهناك تضليل في توسعة مصطلح نشأ مع الحركة البروتستانتية في أميركا في بداية القرن العشرين، فالتشابه بين الأديان ليس كبيرًا بما يكفي : إنه أداة سياسية أكثر منه أداة تحليلية، وأكثر الحركات التي تعنون بهذا العنوان لا تستخدم هذا المصطلح. والأكثر أهمية في السياق الراهن أن نلاحظ أن استخدام مصطلح «الأصولية» هو بذاته فعل أمننة كلامي: ولكي تعنون حركة بـالـ «أصولية» يعني القول «إنها نموذج لعوارض معروفة، ونحن نعرف أنها لا يمكن أن تدرج في السياسة العادية يجب أن تستأصل». أشار يوغنسماير إلى سوء استعمال سياسي واسع الانتشار لهذا العنوان من قبل الحكومات لقمع المعارضين والحد من الديموقراطية. مع ذلك فأنا استمر باستخدام المصطلح في الوقت الذي انتقد استخدامه السياسي، لأنه أكثر المصطلحات انتشارًا في الغرب، وهو يساعد على المناقشة المباشرة لتفسير «الظاهرة المعروفة بالأصولية».
[7]ـ الحرب أعلى مراتب العنف، عندما يملي أحد الأطراف القوانين على الآخرين ينشأ فعل منعكس يؤدّي منطقيًّا إلى التطرّف.
[8] ـ وجد استطلاع للرأي أجرته مؤسسة غالوب للاستطلاع العالمي في عام 2005 شاركت فيه 8000 إمرأة في ثمان دول ذات غالبية إسلامية، أن الجواب المتكرر عن سؤال «ما هو الشيء الأقل إعجابًا حول الغرب؟» كان «الفهم العام للفساد الأخلاقي والصور الهوليودية الإباحية التي تقلّل من شأن المرأة». ووفقًا للأكثرية، الوجه الأفضل لمجتمعاتهن كان «الارتباط بالقيم الأخلاقية والروحية».
[9]ـ رغم أن المناقشات ليست جوهرية بذاتها، بمعنى أن للدين قدرات مميزة، فأنا لا استطيع أن أمنع نفسي من استعمال مفهوم الدين كتحديد أو أتقيّد به اسميًّا عندما يسمّي الناشطون الأشياء «دين» طالما أنني أميّز بين الأمن في «الجانب الديني» مقابل الأمن السياسي أو الأمن البيئي، وهذا ما ينبغي أن يحدّد بعض المعايير. وهنا استخدم تعريفًا نسبيًّا أن الدين يشتمل على اعتقاد بكائن فوق طبيعي، وهذا يعني أن «الكلام الديني» يمكن أن يُميّز عن «كلام الهوية» لا أن التعريف استطاع أن يلتقط «ماهية الدين» أو «جوهر الدين».
[10]ـ سياسي مرتين: أولاً، لأن «العلمانية» كملهم عام للأفكار لها مقتضيات بعيدة المدى من خلال مبادئها العامّة المنظِّمة العقلانية/ الخرافة، سياسي/غير سياسي، العام/الشخصي، الدنيوي/الأخروي. ثانيًا، بسبب، كما سأبيّن لاحقًا، أنه لا يوجد شكل واحد قياسي للعلمانية، بل هنالك نسخ متعدّدة، وهكذا يكون خيار العلمانية هو دائمًا خيار نموذج واحد ومحدّد لإقصاء الباقين.