البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

تشارلز تايلور - حكاية الذات، والنشأة، والأطروحة الفلسفية

الباحث :  سيلين سباكتر Céline Spector
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  2
السنة :  السنة الثانية - شتاء 2016 م / 1437 هـ
تاريخ إضافة البحث :  December / 26 / 2015
عدد زيارات البحث :  3391
تحميل  ( 355.218 KB )
تشارلز تايلور*] [1]
حكاية الذات، والنشأة، والأطروحة الفلسفية
سيلين سباكتر Céline Spector [*]
تشارلز تايلور، فيلسوف كندي من مدينة كيبك. وهو الآن من رجال السياسة الأكثر شعبية في كيبك وقد أحرز تقدماً كبيراً في هذا المجال. من أهم إنجازاته الفكرية اكتشافه في العام 1958 لكتابات ماركس (Marx) عن الإنسانية التي تعود للعام 1844. كتب مقالات في صحيفة اليسار الجديد (New Left Review) التابعة لجامعة أوكسفورد (Oxford university) بعد العام 1960، له عشرات الكتب والدراسات في مجال الاجتماع الديني.
في هذه المقالة للباحثة والأستاذة في جامعة بوردو سيلين سباكتر مراجعة إجمالية شاملة لسيرة تايلور الذاتية والعلمية والفلسفية، بالإضافة إلى أهم الأعمال والأطروحات التي قدّمها.
المحرر
لطالما انتقد الفيلسوف تشارلز تايلور في كتاباته مبدأ الفردانية في المجتمعات المعاصرة وانحاز إلى سياسة الإدراك التي تمثّل إحترام فردانية الشخص وانتسابه إلى مجتمع أخلاقي أو سياسي، وإلى إعطاء أهمية زائدة للمعتقدات الدينية.
تشارلز تايلور هو فيلسوف كندي من مدينة كيبيك يُتقن اللّغتين الفرنسية والإنكليزية. وُلِدَ عام 1931 وهو أيضا سياسي ملتزم فقد كان عام 1960 مرشح الحزب الديمقراطي الجديد للانتخابات الفيدرالية، ويُشارك اليوم في الحياة السياسية في كيبيك، وهو من السياسيين الذين يحظون بشعبية كبيرة في كيبيك. يعود تاريخ نضاليته إلى سنوات دراسته. ففي العام 1958، تناول تشارلز تايلور بشغف مخطوطات ماركس الإنسانَوي لِعام 1844 والتي تعرَّف تايلور إليها في باريس. انضمّ تايلور في جامعة أوكسفورد (Oxford university) إلى اليسار الجديد، الذي كان يطرح أفكاره منذ عام 1960 في صحيفة New Left Review، وتخلّى بسرعة عن كل ثوابت الماركسية الأورثوذوكسية. لم يحكُمْ تايلور في كتاباته السياسية لِأيّ من الاتجاهين، الفردانية الليبرالية(l’individualisme libéral) والاقتصادية الماركسية (L’economisme marxien) لأن هذين التيارين يُحرّفان قضايا كبرى تتَّصل بإشباع الحاجات الثقافية والروحية : «إن المجتمع الليبرالي ـ كما كل مجتمع اخرـ لا يقوم فقط بمجرّد تلبية حاجات ومصالح أفراده. وهو يتطلّب أيضاً مجموعة من الاعتقادات التي، إنْ لمْ تكنْ شائعة، فعلى الأقلّ مُشتَرَكة على نطاق واسع، والتي تربط بين بُنيته وممارساته من جهة، وما يعتبره أعضاؤه دلالة نهائية يتمتّع بها». وهكذا، يُفسِّر تايلور اليسارية الثورية التي قادت إلى أحداث أيار 1968 بوصفها احتجاجاً يُدار باسم المبادىء الرومنطيقية. بالنسبة إليه القضية أن ثمة محاولة لإخفاء عيوب الرأسمالية من خلال مُحصِّلة تًشمَل قيمتين جوهريتين للحداثة ألا وهما الحرية المتطرّفة (la liberté radicale) والتعبير الكلّي (L’expression intégrale) عن الذات.
بعد تجربة اليسار الجديد، أخذت نضالية تايلور طابع الدفاع عن الجماعات الثقافية: في أواخر السبعينيات، عاد تايلور من أوكسفورد إلى مونتريال، وهناك نَشِط في الدفاع عن الحكم الذاتي الإقليمي (l’autonomie régionale) وتمثيل الأقليّات (la représentation des minorités) والحقوق اللّغوية ) les droits linguistiques). نادى تايلور بفكرة «الفيدرالية المُجدَّدة» معارضاً بذلك كلاً من أنصار استقلال كيبيك ودعاة الفيدرالية الذين يرفضون الرضوخ للمطالب الهويّاتية. كان تايلور يصرّح أن من واجب الدولة الديمقراطية أن تمنح رعاياها من الأقليات الحقّ في بلورة اختلافاتهم على المستوى العامّ. ولم يتوقّف هذا الالتزام. فبين عامي 2007 و2008، ترأّس تايلور، بالتعاون مع عالم الإجتماع جيرارد بوشارد، لجنة استشارية حول ممارسات التوفيق المرتبطة بالاختلافات الثقافية، والتي كان قد أنشأها رئيس حكومة مقاطعة كيبيك الليبرالي. كان الهدف الأساس من إنشاء هذه اللجنة كشْف ما إذا كانت «التسويات المنطقية” التي ترتكز على أسس ثقافية ودينية، ملائمة لمجتمع تعدّدي وعادل وديموقراطي. وأصدرت اللجنة تقريراً تحت عنوان «زمن المصالحة» (le temps de conciliation) دافعت فيه عن تصوّر منفتح للعلمانية، وعن تعدّد الثقافات والتنوّع في المجتمع، إضافةً إلى دمْج اللاجئين فيه. وأُعيد النظر مؤخّراً في هذه الملاحظات، ما أثار ردود فعل قوية. عارض تايلور رغبة الحكومة بفرض «ميثاق القيم الكيبيكية» الذي ينصّ بشكل خاصّ على منْع ارتداء الحجاب في الوظائف الحكومية، وأشار تايلور ضمن مقابلة أجرتها معه إذاعة «راديو كندا” في آب 2013 إلى أن ذلك هو «عمل إقصائي في منتهى الفظاعة (...) كنّا نتوقّع أن نراه في روسيا في عهد بوتين».
نقد المذهب الطبيعي
يُعَدُّ نقد المذهب الطبيعي في العالم أحد المواضيع التي تكرّرت في مؤلفات تايلور. ومنذ العام 1964، رفض تايلور في أول كتاب له بعنوان The explanation of Behaviour الذي انطلق فيه من أطروحته، رَفَضَ التفسير الإوالي mécaniste لصالح التفسير الغائي للفعل: يجب على العلوم الإنسانية أن تُعزّز التفسير بالأسباب (الأسباب التي يُقدّمها الإنسان لتبرير فعله). ولكن في ظلّ السلوكية وازدهار العلوم الإدراكية، تعاظمت سلطة «العقل المُتحرِّر من الالتزام». ويشدّد تايلور في كتاباته على أن النموذج الحديث للمعرفة قد أُفسِدَ بفعل الديكارتية( cartesianisme) والتجريبية( empirisme)، فهذان التياران الفلسفيان شجّعا على أولية الرؤية الأداتية الصورية formaliste الأحادية للعقل. وإذا لم تُؤخَذ سياقات المعقولية بالحسبان، فإن العقلانية الحديثةle) rationalisme moderne) لا تُقدِّم إلا رؤية واهنة للموضوعية من دون إدخال دور الجسد واللّغة والمجتمع فيه. ولكن في المقابل، تمنح العلوم الإنسانية أهمية كبيرة للطابع الحواري لوجود وحياة الفرد المُجسَّد، وتُناضل بهدف من أجل تأويل الأفعال القصدية بواسطة علامات غير مؤَكَّدة وتعابير ملتبسة. وبينما اعتبرت نظرية المعرفة الوضعية أن الروح مكان للتمثيلات وأن العقل حساب، زعم تايلور الارتباط مع علم تأويل النصوص من جديد، قاصداً إيجاد تصوّر معيّن للرؤية الخاصّة بعلوم الإنسان والتي هي غير قابلة للاختزال إلى علوم الطبيعة.
ترافق هذا الرفض للمذهب الطبيعي مع نقد للفردانية الأخلاقية واللّيبرالية السياسية المنبثقة عن عصر الأنوار. ونشأت الحضارة الصناعية والتكنولوجية مستندةً إلى مبادئ ضارّة: برقطة البُنى الجماعية، واكتشاف الطبيعة، والحياة العامة المتمحورة حول رفاهية الفرد. إن النفعية (بمعناها المُبتَذَل) والليبيرالية تقودان إلى تآكل العلاقات الاجتماعية، وإلى أفول النزعة الوطنية وتآكل المشاركة المدنية، وبذلك هما يُسْهمان في «القلق من الحداثة» (malaise de la modernité).
القلق من الحداثة
كشف تايلور في عدّة مؤتمرات عقدها في العام 1991 عن ثلاثة أنواع من القلق من الحداثة ويأتي أولُها الفردانية. بالطبع إن الأفراد قادرون أكثر على اختيار نمط حياتهم والتصرف وفقا لقناعاتهم أو معتقداتهم، ولكنهم محرومون من “الافاق الأخلاقية” التي تُعطي معنىً لحياتهم الاجتماعية في المجتمعات التقليدية.
يُشدّد تايلور على ملاحظة «فكّ سحر العالم» (désenchantement du monde التي تكرّرت بشكل متواصل منذ عصر نيتشه وفيبر. ويرتبط هذا الأمر بظاهرة أخرى مقلقة وهي أولية العقل الأداتي الذي نختبر بواسطته الوسائل الأكثر فعالية للوصول إلى أهدافنا. وتترافق النزعة التّقنية مع توسّع غير محدود لروح الحساب. وفي النهاية، تُنتج الفردانية وازدهار العقل الأداتي، على المستوى السياسي، نوعاً من الانكماش في الفلك الخاصّ ونوعاً من اللامبالاة المدنية. إن الديمقراطية الصورية تتصالح، كما رأى توكفيل، مع حالة من الاستبداد الناعم والأبوي والبيروقراطي. وهكذا يشرح فقدان المعنى واختفاء النهايات وأفول الحرية السياسية القلق الحِسّي لمجتمعاتنا.
ما هو موقف تايلور من هذا التحليل؟ أمام الانزلاق النرجسي للثقافة المعاصرة، يحاول تايلور في كتابه الرئيس «مصادر الأنا» ( the sources of the self) الذي نشره في العام 1989 إظهار أن الحداثة كانت غنية بفعل عدّة تقاليد محتملة من الواجب البحث عنها. إن فهم الهوية الحديثة يعني تحديد الضغوط المستمرّة في التكوين الفلسفي للذاتية المعاصرة. إن معنى الأنا مرتبط إلى حد كبير بمعنى الخير. ومن المستحيل أن يفهم الإنسان هويّته من دون العودة إلى القواعد الأخلاقية التي تضفي معنى عليه.
مصادر الأنا
يُجري تايلور سلسلة نسب généalogie نقدية للحداثة. ويكشف كتاب مصادر الأنا (les sources du moi) عن وجهين من الفردانية أدّيا إلى نشوء صراع عميق ترَكَ أثراً في المجتمعات الحديثة، وهما المثل الأعلى للاستقلال والاستقلالية «المتحررة من الالتزام» تجاه العالم والاخر من جهة، والاعتراف بالخصوصية والتثمين التعبيري expressiviste لاختلاف الاخر من جهة أخرى. إن التقليد الثاني الذي أهملته القراءات الغالبة لتاريخ الحداثة التي لم تقبل إلا بفردانية واهنة، يسمح بإغناء المثل الأعلى للاستقلالية وقرْنه بالمثل الأعلى للأصالة. ويُعدّ المثل الأعلى للاستقلالية مثلاً أعلى لتحديد الذات والتحرّر من التقاليد والسلطات. ويفترض المثل الأعلى للأصالة أن تُعبِّر أناي الحقيقية عن نفسها في مكان وموقع الامتثالية conformisme الاجتماعية. فكل إنسان له طريقته الخاصة في أن يكون كائناً إنسانياً وفي التعبير عن الحقيقة الداخلية التي يجب عليه أن يكون وفيّا لها. إن دراسة العلاقات بين هذين المفهومين تُؤَثِّر في فهمنا للحداثة.
بإيضاح التجربة الحديثة، يستأنف تايلور إذن العلاقة الوثيقة بين الأنا والخير، فاستقلال الفرد عن أي قيمة موجودة مسْبَقاً هو أمر وهمي. فالأنا التي يصوغ تايلور تاريخها ليست أنا علم الاجتماع، ولا فاعله acteur ؛ وليست الفرد العقلاني للاقتصاد الذي يُنظِّم فعله بحساب استراتيجي. ويقترح كتاب (مصادر الأنا) نظرية معرفية حقيقية للفرد، لأن الأنا ليست موضوعا ولا كائناً، وهي تتألّف من تأويلاتها وتُعرِّف نفسها من خلال سلسلة نسبها في جغرافيا الأوضاع والوظائف الاجتماعية، وفي العلاقات الخاصة وفضاء التفاعلات الأخلاقية والروحية الخاصة بها. وتتضمّن هوية الفرد أوضاعاً تتناسب مع القضايا الدينية والأخلاقية والسياسية.
في هذا الخصوص، تكون نقطة الإنطلاق في كتاب (مصادر الأنا) بسيطة: كيف نفهم أننا نعاني نقصاً في معنى وجوداتنا؟ وهل ينبغي ربْط هذا النقص في الامتلاء بسمات أساسية لوضع الإنسان الحديث، رجلاً وامرأة، الذي منه كانت ذريعة نيتشه المُسَمَّاة «موت الله»؟ هل يجب علينا التذرّع بنقص الخيرات الأخلاقية «التأسيسية» المرتبطة بالأفلاطونية والمسيحية واليهودية؟ إن تايلور مقتنع بذلك. فإذا كانت أزمة المعنى تُؤَسِّس للقلق من الحداثة، فإننا لا نعتقد بما كان لوثر يعتقده، فهو كان يخاف أن يهلك، بينما نحن متأثِّرون بتأرجح وجوداتنا.
إن أُطُر تجربتنا الأخلاقية أصبحت إشكالية. فمن بين قوالبنا matrices التقييمية التي فقدنا وضوحها، يذكر تايلور راموز الشرف code de l’honneur المرتبط بالثقافة البطولية في اليونان القديمة أو الفروسية الإقطاعية. لكن الحداثة في قطيعة مع هذه الأُطُر، فهي تفترض نشأة معنى الداخلانية intériorité وأولوية الحياة العادية أو قيام الرؤية التعبيرية expressiviste للطبيعة. إذا عدنا في التاريخ فإنّ معنى الداخلانية قد ظهر في القرن الثامن عشر على أثر النظريات العواطفية حول المعنى الأخلاقي Shaftesbury, Hutcheson ويعود تاريخ الأهمية المُعطاة لأنشطة الإنتاج والإستهلاك أو المُعطاة للحبّ داخل العائلة، يعود، بشكل مبتَذَل، إلى زمن انحطاط روح الجماعة Ethos الأرستقراطية. أما تثمين التعبير فيرجع تاريخه بشكل أساسي إلى الحقبة الرومنطيقية ونقد العقلانية الصارمة لفلسفة التنوير. لكن هذه المصادر الثلاثة سبَّبت نزاعا حول مفهوم الهوية الحديثة، فالفرد يشعر بالتوتّر إزاء الاستعانة بمصدر إلهي، والتأكيد الذاتي للعقل المُتمتِّع بالسيادة، والاقتراض من الطاقات المُبدِعة للطبيعة. لا يعتقد تايلور بإمكانية القضاء على هذا النزاع. إنما من الأفضل أن نشرح دوافعه كي نفهم الأزمة الهوياتية التي تُؤَثِّر على مجتمعاتنا.
روسو،هيردير وهيجيل (Rousseau، Herder، Hegel)
يفترض هذا العمل التوضيحي حفرية ما للموضوعية. وبينما كان نظام النفس لدى القدماء ناتجاً من حبنا لنظام الأشياء، اعتبر أوغوستان (Augustin) أن الميل الطبيعي لحب الخير يمكن أن يفشل أحيانا ولكن، بسبب الخطيئة الأصلية، نعاني من فساد الإرادة التي لا يمكن إخضاعها إلا بالنعمة، وتلك هي الأطروحة التي تشرع بتشكيل لغة الداخلانية. ومع ذلك، لا يزال كبار مؤرخي نشأة الموضوعية، نذكر منهم أوغوستان ومونتين وديكارت ولوك، في غرفة انتظار الحداثة التي انطلقت في الواقع مع عصر التنوير والنقد التنويري. ويُعَدّ روسو (Rousseau) شخصية بارزة ومفصلية في قضية الاستقلالية ومعرفة الذات، “فهو ممّن أسَّسوا جزءاً كبيراً من الثقافة المعاصرة وجزءاً مماثلاً من فلسفات الاستكشاف، وأيضاً من العقائد التي جعلت من الحرية المُحدّدة ذاتياً مفتاح الفضيلة. كما يُعدّ نقطة انطلاق التحول في الثقافة الحديثة التي تَميل إلى داخلانية أعمق واستقلالية جذرية. فكل التيارات الفلسفية تبدأ منه». ومن جهة، لا يقبل روسو بمفهوم المذهب الطبيعي الذي تبناه فلاسفة التنوير والذي يرى أننا بحاجة، كي نصبح أفضل، إلى ما هو أكثر من مجرد معرفة أو «أنوار».إن تطوّر العقل الحسابي، بنظر روسو، يُشكّل علامة للفساد. ومن جهة أخرى، ليس روسو بدائيا primitiviste بشكل ساذج، فهو يُقيم وزناً لمفهوم الاستقلالية الحديث الذي يعطيه، قبل كانط، الصياغة الأكثر إقناعاً. إن روسو، وهو صاحب كتاب «العقد الإجتماعي» (le contrat social)، يُؤدّي هنا دور الكفيل ويمارس سلطة ذات امتياز، فهو عندما يقوم بتحديث المثل العليا للاستقلالية والكرامة المساوية والأصالة يُفيد كنموذج للنقد الحديث للحداثة.
أولاً، يُعدُّ روسو سلف المثل الأعلى للاستقلال والكرامة المساوية. فعلى المقلب الأول، كان لدى مؤلِّف كتاب «العقد الإجتماعي» (le contrat social) الوعي لإثبات أن المجتمع يجب أن يتأسّس على مبدأ الإرادة الحرّة. إن روسو هو جزء من التقليد الجمهوري ـ تقليد «الإنسانَوية المدنية» التي تُقدِّر المشاركة في النشاطات العامة، وارتباط المصلحة الخاصة الفاضل بالخير المشترك. وعلى المقلب الاخر يسمح كتاب روسو بفحص دينامية المعرفة في المجتمعات الديمقراطية: ففي ظروف معيّنة، يمكن لرغبة التقدير أن تتخلّص من ارتهان الرأي ومن مجتمع الظهور النرجسي. وبإمكان الجماعة الإقرار بقيمة الفضيلة أو الخدمات المُنجَزَة على قاعدة المساواة. وفي النهاية، يبدأ تايلور البحث الحديث عن الأصالة: ففي كتابه لا يرتكز التقييم الأخلاقي على كيان خارجي أو حتى معالٍ (الله، فكرة الخير، المجتمع)، وإنما يرتكز على مصدر داخلي. إن صوت الضمير هو صوت الطبيعة التي تُعبِّر عن نفسها في الإنسان ـ الصوت الذي يوشِك فساد المجتمع دائما على كتمه. وعلى غرار الضمير الذي يُطالِب إيميل Émile به، يستعين تايلور بِ«شعور الوجود» الذي يدلّ على هذا الاتّصال الحميم مع الذات، مصدر الامتلاء والفرح.
يعتبر روسو أشهر ناقدي الحداثة، فهل يمكن أن يكون المؤلف السرّي لهذا المفهوم ؟ ينص في كتابه ويؤكّد على الحرية السياسية لاغيا كل الإختلافات بين أدوار الأقلّيات وفي حقهم بالتعبير، وبذلك لن يعاني المجتمع الذي يرتكز على الإرادة العامة بعد الآن من أي معارضة باسم الحرّية، وبحسب تايلور فإنه اعتبر أن هذا كان من أبشع أنواع الطغيان المتجانس منذ مرحلة النظام الديكتاتوري من هذا القرن. لقد كان التبرير موجودا مسبقا في كتاب هيجيل والمجتمع الحديث (Hegel et la société moderne): إذا كانت المصلحة الخاصة تلغي ترابط المجتمع وتفكّك العالم الحديث فلا يمكن إلغاء الإختلافات باسم الإرادة العامة إلا من خلال نخبة ثورية عنيفة ودكتاتورية. فبهذه الحالة يكون الحل التعدّدي للتجزئة الحديثة هي من أفضل الحلول، وتتمكن بعض المجتمعات عندئذ من تعويض ما قام التطوّر الحديث بإلغائه. لهذا السبب يجب اعتبار النظام الخصوصي لهيردير(Herder) من أهم أسس الحداثة، حيث يشدّد هذا الفيلسوف على حاجة التعبير عن طبيعتنا وأن الأصالة يجب أن تترافق مع مفهوم الثقافة لديه. تنص فلسفة هيردير على ضرورة اكتشاف نمط عيش خالٍ من النظام التوافقي والوفاء لأصولنا الخاصة بنا. إن المسار التعبيري الذي ينص عليه تايلور يتوافق مع الطبيعة أكثر مما تحقّقه الذات في مسيرة اكتشاف الباطن. ولكن وحده نظام هيردير يؤمن بأن الطبيعة هي المصدر المعنوي للإنسان. يترافق وانتقاد السبب الحسابي الذي يعاني منه الإنسان إعادة تقييم المجتمعات الثقافية واللّغوية على حد سواء، الأمر الذي يدعم ويطوّر مبدأ الحكم الذاتي الذي يتبناه روسو. يلعب هيجيل دورا حاسما في مسار تايلور الفكري أكثر من دور روسو وهيردير فيه. يستند الفيلسوف تايلور في أول كتاباته على الإنتقادات التي أدلى بها هيجيل حول الفلاسفة الكبار(Les Lumières) ويركّز خاصة على انتقاد مفهوم الحكم الذاتي الذي تبناه كانت (Kant) كما يلهمه مبدأ الحياة الأخلاقية الذي يتّبعه هيجيل. يجيب تايلور في كتابه مصادر الأنا (Les Sources De Moi) عن أهمية فلسفة هيجيل (Hegel) في التاريخ. هل يترتّب على هذه الفلسفة نتائج إنفعالية عند رفض المساواة والنظام الديموقراطي المتجزئ؟ هل أدى تطوّر السياسة الحديثة إلى إخفاء عيوب هذه السياسة والعفو عنها؟
من وجهة نظر تايلور، هيجيل محقّ في إعطاء الأولية لخصوصية الإنسان المعاصر، ففي المجتمع المتحضر اليوم يكمن الهدف الأساسي من المذهب السياسي في الإنتماء إلى مجتمع يتوافق مع روح الموضوعية الحديث. نحن نشعر بالفخر بالإنتماء إلى مجتمع قد كوّناه بفضل إرادتنا كما يقول روسو ((Rousseau، أو بفضل نشاطنا الإبداعي كما يقول ماركس (Marx). لكن حقيقة التجانس بين الناس يزيد من الشعور بالإغتراب والإستياء من الأقليات ولا تساعد القوانين السياسية في تخطّي هذه المشكلة. وإذا لجأنا إلى النظام اللّيبرالي فسيكون الحل الوحيد هو تطبيق الحرية والعدالة المطلقة، الأمر الذي يعتبره تايلور غير مجدٍ ولا نفه منه. هناك عوامل عديدة تزيد الأمر سوءا كحجم وتعقيد ومستوى الترابط بين المجتمعات الحديثة. إن الحلّ موجود في ما نصّ عليه سابقا توكوفيل (Tocqueville) أنه يجب على أن تتمحور المشاركة المدنية على سياسة لامركزية والتفكير بهذه الإختلافات على نطاق نوع آخر من المجتمعات.
إنتقاد المذهب الذّري (l’atomisme)
يستوحي تايلورمن الأبحاث الفلسفية لأريستوت (Aristote) و فيتجنستاين (Wittgenstein) بغية انتقاد مبدأ الفردية المنهجية والثنائية الديكارتية واللّغة الخاصة وأسطورة الباطن والمذهب الذّري لتحديد نظريات العقد الإجتماعي والعقائد الأخرى التي تتبنى فكرة أن المجتمع مكوّن من مجموعة أشخاص يحدّدون مصيرهم بأنفسهم، وأن الإنسان لا يطوّر قدراته إلاّ من خلال إنخراطه في المجتمع لأنه المكان الوحيد الذي تتوفّر فيه ظروف تطوّر الجانب الفكري والمعنوي عند الإنسان. يحاول تايلور إظهار أن الحقوق الفردية ليست عفوية كما يتوهّم البعض، فالإنسان يملك قدرات خاصة هي التي تحدد أشكال هذه الحقوق فكل ذلك يعتمد على حدس الإنسان الناتج عن احترامنا لنمط عيشنا الذي يتميّز بهذه القدرات الإنسانية. عندما ندرك أن بعض القدرات لها أهمية كبيرة بالنسبة لنا نأبى أن نعترف بأن الإنسان له حقوق، فيتوجّب علينا عندئذ احترام مسار هذه القدرات وعدم تخطّيها، كما يتوجّب علينا تطويرها والعمل بها. ويحاول تايلور إثبات أن الإنسان قادر على احترام العقائد الدينية والمعنوية والوفاء لها.
وجود الحرية لا يعني إنهاء دور الأسس المعنوية والسياسية، أن تكون حرّا يعني أن تكون قادرا على تحمّل المسؤولية بشكل واعٍ والإعتماد على الذات بشكل كامل والتخلّص من كل أنواع الخوف والجهل، فالأسس المعنوية جزء لا يتجزّأ من الحرية ونحن لا نملك الخيار في الإنتماء إلى مجتمع لا مجال في تطوير قدراتنا فيه بل يتحتّم علينا الإنتماء إليه. إن تايلور يؤمن بأن الإنسان الغربي الحرّ تأسس في مجتمع متحضّر كوّنت فيه قيم الحرّية والإعتماد على الذات.
إن المفهوم الصحيح للحرية من وجهة نظر تايلور هو التالي: لا تقتصر الحرية على قدرتنا فقط على القيام بما يحلو لنا في غياب العوائق المادية والقوانين بل تتمثّل بإرادتنا وقدرتنا على معرفة أنفسنا وتخطي العوائق الداخلية كالخوف وفقداننا التحكم بأنفسنا وعدم تمييز الحقيقة عن الوهم، نتكلّم هنا عن الحرية السلبية.
سياسة الإدراك
من وجهة نظر تايلور، يرى أن اللّيبراليين يعتبرون أن الطائفية لها دور كبير في تحديد وتغيير خيارات الإنسان ولا تتدخّل بالعقائد الدينية والقوانين السياسية أو منع أي إنتماء لمجتمع سياسي أو إجتماعي أو معنوي. يتميّز تايلور عن المفكرين الذين يدعمون الطائفية في المجتمع بدفاعه عن مفهومي التعدّدية الثقافية والإدراك، حيث يشدّد على مبدأ الإحترام بين الناس واحترام ثقافة وانتماء الآخر ويرتكز هذين المفهومين على نوعين من السياسة، السياسة الكونية وسياسة الإختلاف. يرتبط موضوع الهوية والإدراك بشكل أساسي بمفهوم الإحترام ويمكننا التأكيد على أن مفهوم الإدراك يتحقّق فقط من خلال القيم الحديثة كالإعتماد على الذات. ويأتي السؤال هنا، هل يجب تأمين فرصة لكل شخص بأن يطوّر هويته باسم العدالة ؟ فهذا النوع من السياسة يحتاج إلى إدراك ومعرفة الحقوق المشتركة بين الأفراد مما يسمح لكل شخص أن يطوّر أو يثبت هويته إذا لزم الأمر.
ما هو دور وتعريف هذا الإدراك الذي يحقّق المساواة ويحفظ الكرامة ؟ ينتقد تايلور التجانس اللّيبرالي للحقوق في مقالٍ نشر له تحت عنوان الطائفية، حيث أكّد على أن ذلك يحدّ من إدراك الهويات الثقافية، كما يدافع عن النظام الذي يشجّع تعدّد الثقافات وتنوّع اللّغات. يمكن أن يخفّف المجتمع الليبرالي من هذا الإختلاف بشرط أن يوضع ملف العدالة في خانة الحقوق الثقافية وأن يؤمن هذا المجتمع بالعدل بين الثقافات، فذلك يمنع زوال الثقافات ويرسّخ أهميتها وعلاقتها بالتاريخ الوطني.
يتطرّق الفيلسوف تايلور في كتابه إلى مواضيع عديدة ويجول في البحث والتعمّق بمفاهيم نادرا ما يتوسّع بها الفلاسفة والكتّاب. تشارلز تايلور الذي يركّز على حماية وصون الأديان ومعتقداتها وبالمقابل الإنخراط في الحداثة واتباع المنطق والإدراك، يقف هنا في مفترق طرق، ما موقفه من مسألة الموت الرحيم وزواج المثليين والإجهاض ؟ هذه المسائل التي تعتمد بشكل كبير على أسس الأديان التي تحلّل ما تحلّله وتحرّم ما تحرّمه، الأمر الذي يتعارض مع مبادئ الذين يتبعون معرفتهم ويتماشون مع الحداثة لكل ما لها من جوانب. يبقى البعض أسرى عقائدهم وثقافاتهم لا يملكون القدرة على تغيير ما يجب تغييره من عقائد أحيانا تكون غير صالحة للمجتمع.
[1]*ـ أستاذة الفلسفة في جامعة بوردو/ فرنسا منذ عام 2002 وعضو في اللّجنة الجامعية في فرنسا. تتمحور معظم كتاباتها حول الفلسفة السياسية المعاصرة.
ـ العنوان الأصلي للنص «Charles Taylor، philosophe de la culture» نشر في المجلّة العالمية «La vie des idées»
ـ ترجمة: رشا مرتضى.
من سيرته الذاتية
تشارلز مارغريف تيلور (بالإنجليزية: Charles Taylor) ولد في 5 نوفمبر 1931، فيلسوف كندي من موريال بالكيبيك. يُعدّ أحد أبرز الفلاسفة المعاصرين في مجال الفلسفة السياسية والفلسفة الأخلاقية والفلسفة الدينية تُرجمت أعماله إلى أكثر من عشرين لغة.
سيرته
أستاذ العلم السياسي والفلسفة في جامعة مكغيل (مونتريال) حيث درَّس منذ 1961 إلى 1997. في عام 2007، عُيِّن رئيسا، بالاشتراك مع عالم الاجتماع جيرار بوشار، في اللجنة الاستشارية حول التوافقات المتعلقة بالاختلافات الثقافية التي سُميَّت لجنة بوشار ـ تيلور.
فلسفته
يقع فكره الفلسفي بين ملتقى عدد من التوجهات والمجالات: فلسفة التحليل، الظاهريات، التأويلِيّات، الفلسفة الأخلاقية، الإنْسِيَّات، الاجتماعيات، الفلسفة السياسية والتاريخ.
يُنظَر إلى تشارلز تيلور باعتباره أحد أبرز مُمثِّلي الجماعانيّة، على الرغم من أنه لم يَتبنّ قط مثل هذا الانتماء، بل إن فكره أشد تنوعا وغنى على نحو يُبعِده عن الانحصار في مدرسة بعينها.
أعماله
اسم الكتاب
التاريخ
الاسم الأصلي للكتاب
شرح السلوك
1964
The Explanation of Behaviour
هيغل
1975
Hegel
هيغل والمجتمع الحديث
1979
Hegel and Modern Society
النظرية الإجتماعية كممارسة
1979
Social Theory as Practice
وكالة الإنسان و اللغة
1985
Human Agency and Language
وكالة الإنسان و اللغة
1985
Philosophy and the Human Sciences
مصادر الأنا: تكوُّن الهوية الحديثة
1989
Sources of the Self: The Making of the Modern Identity
توعك الحداثة
1991
The Malaise of Modernity
التعددية الثقافية : دراسة سياسة الإعتراف
1992
Multiculturalism:Examining the Politics of Recognition
الحجج الفلسفية
1995
Philosophical Arguments
الحرية الحديثة
1999
La Liberté des modernes
أصناف من الدين اليوم
2002
Varieties of Religion Today
التخيلات الإجتماعية الحديثة
2004
Modern Social Imaginaries
أخلاقيات الأصالة
2005
The Ethics of Authenticity
عصر علماني
2007
A Secular Age
العلمانية و حرية الضمير
2010
Laïcité et liberté de conscience