البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

المركز والضواحي - بصدد المطلق الحضاري في التاريخ العلماني الغربي

الباحث :  رضا داوري الأردكاني
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  2
السنة :  السنة الثانية - شتاء 2016 م / 1437 هـ
تاريخ إضافة البحث :  December / 27 / 2015
عدد زيارات البحث :  1079
تحميل  ( 298.175 KB )
المركز والضواحي
بصدد المطلق الحضاري في التاريخ العلماني الغربي
رضا داوري الأردكاني[1][*]
في هذه المحاضرة التي ألقاها المفكر الإيراني الدكتور رضا داوري الأردكاني في مؤتمر المركز والضواحي حول صدام الحضارات، توصيف لأحوال العالمَ المعاصر المشطورَ إلى مركزٍ هو الغرب ـ أوروبا الغربيّة وأميركا الشماليّة ـ وأطرافٍ أو ضواحٍ هي بقيّةُ العالم.
يقارب داوري الخيوط التي تربط المركز بالأطراف، والخلافات التي تحكم تلك العلاقة ومآلاتها. صحيح أنّ العلمانية كمفهوم ومصطلح لن يجدها القارئ على نحو مباشر، في هذا البحث، إلا أنها تبدو حقيقة سارية في مجمل ما يتطرّق إليه من موضوعات متصلة بما يجري في العالم الغربي. إنه يحاذيها ويجادلها ويقاربها باعتبارها معطًى من معطيات المركز، ومتصلة بما يصدر عنها من آثار عميقة على الأطراف.
المحرر
الهدف من اختيار عنوان المركز والضواحي الإشارةُ إلى أوضاع العالمِ المعاصر التاريخيَّةِ والثقافية. هل العالمُ المعاصرُ عالمٌ واحدٌ مركزُه ثابتٌ والمناطقُ الضواحي تابعةٌ لهذا المركز، مستفيدةٌ منه؟ إنّ عبارةَ المركز و الضواحي أو المركز والاطراف مناسِبةٌ لمثل هذا الوضع، لأنّنا إن حسبنا مثلًا العالمَ المعاصرَ مجموعةً من الثقافاتِ المختلفةِ والمتباينة، تفقد عبارة المركز والضواحي معناها. من الواضح أنَّنا نقصدُ حين نقول المركز الغربَ والتاريخَ الغربيّ. هل تقع آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينيَّة في ضواحي الغرب؟ المركز والضواحي مفهومان متلازمان، لا ينفصلان عن بعضهما. إذا وُجدتِ الضواحي يجب أن يكون المركزُ موجودًا، وإذا كان هنالك مركزٌ يجب أن يكون هنالك ضواحٍ. انطلاقًا من هذا الفهم فإنّ العالمَ الحاليَّ هو الغربُ طُرًّا، ولا شيء خارج الغرب، والإختلاف والتفاوت على درجاتٍ من الشدّةِ والضُّعف. إنْ استخدمنا بدلًا من عبارةِ المركز والضواحي عبارةَ المتن والحاشية تتراخى العلاقة إلى حدٍّ ما بين أجزاءِ العالم، على الرَّغم من الإقرار بوحدة العالم، وذلك لأنّ المتن والحاشية غير متلازمين، أو على الأقلّ يمكن أن يكون المتن من غير حواشٍ. إنّما في كلِّ الأحوال الحاشيةُ هي حاشيةُ المتن، وسُمّيتْ كذلك نسبةً إليه و تِبعًا لهُ. إنْ نظرنا إلى العالمِ المعاصرِ نر نوعًا من التماثل والتشابه في أساليب العيش في جميع أنحاء الارض، فنظامُ الحياة وأنماطُ السلوكِ السائدةُ منذ أربعةِ قرونٍ في أوروبا الغربيّة وأميركا الشماليّة باتت معتمدةً إلى حدٍّ ما في جميع انحاءِ الدنيا منهجًا للحياة. أيمكننا انطلاقًا من هذه الملاحظة أنْ نعدّ أوروبا الغربيّة وأميركا الشماليّة المركزَ أو المتنَ وبقيةِ العالَمِ الضواحيَ أو الحواشي؟ إنّ لفظة الحاشية تعني أحيانًا ما هو خارج المتن أوالفرعيّ. إذًا إنْ حسبنا المتن أوروبا الغربيّة وأميركا الشماليّة، ووضعنا بقيّة العالمِ في حاشيتهِ، التفسير الممكن هو أنّ جوهرَ العالَمِ هو المتن نفسهُ وبقيّةَ العالمِ شروحٌ وإحالاتٌ وشواهدُ زائدةٌ على المتن. لكنّ العالمَ غيرَ المتطوّرِ إنّما هو ظلُّ العالَمِ المتطوّرِ أكثر من كونِه توضيحًا أو تفسيرًا لمتنِ هذا العالم، بعبارةٍ أخرى إنّ العالمَ غيرَ المتطوّر قد صُنِعَ من فضلةِ عجنةِ العالمِ المتطوّر، وهَذان العالَمان متشابهان، علمًا أنَّ الشبهَ بينهما شَبَهٌ ظاهريٌّ وعَرَضيٌّ.
لقد عُدَّتِ الحضارةُ الغربيّةُ في المخَّطط الأساسيِّ للتاريخِ الغربيِّ وفي الإيديولوجيّات الحديثة، وحتى في معظم فلسفاتِ التاريخ، وفي بعضِ النظريّات العلميّةِ ( نظريّة تطوّر الأجناس، ونظريّات التطوّر التاريخيّ والإجتماعيّ ) الحضارةَ الأخيرةَ و الحضارةَ المطلقة، ويجب أن تعمَّ العالَمَ كلَّه، وأنْ يدخلَ فيها البشرُ جميعًا. من رؤى القرن الثامن عشر عولمةُ التاريخ الغربيّ، وقد صُدِّقت هذه الرؤيا إلى حدِّ تجاهلِ مخاوفِ بعض بناة الحداثة أمثال «ديدرو» و «دوساد». وفي فلسفة القرن التاسع عشر وآدابه المزيد من الآثار التي تعبّر بوضوح عن الشكّ والتردُّد، لكنّ هذه الآثار غير مرئيّة بوضوح، ويبدو أنَّها لم تترك أثرًا في عجلةِ التاريخ الاوروبيّ، فآذان القرنِ التاسع عشر لم تسمع صوتَ نيتشه، ولم يدرك أحدٌ إلاّ بعد وقتٍ طويلٍ أنَّ نظريّة اللاوعي التي طرحها فرويد لم تكنْ محضَ نظريّةٍ من نظريّات علمِ النفس أو الطبِّ النفسيِّ، وإنما الإعلانُ عن أزمةٍ في وجودِ الإنسان الذي كان قد أخذَ على عاتقهِ مسؤوليَّة صناعةِ التاريخ الحديث. لقد طرح فرويد تساؤلات حول الوجود الفاعل القائم بذاته للعلم والعمل، لكنّ هذه التساؤلات والابحاثَ الأهمَّ والأكثرَ صراحةً التي أُنجزت في النصف الاوّلِ من القرنِ العشرين، على الرَّغم من أنّها شكّكت نوعًا ما في مطلقيَّة الحضارة الغربيّة وديمومتها، لم تَرد فيها أيّ إشارة إلى منافسة الحضارات الأخرى (الماضية) للحضارة الغربيّة، حتى أنّ توينبي و شبينغلِر أيضًا اللذان أعلنا عن إقتراب أجلِ التاريخِ الغربيِّ وموتِهِ، لم يتكلَّما على حضارةٍ أو حضاراتٍ في مواجهةِ الحضارةِ الغربيّة، لم يكن بإمكانهما بحث موضوع المركز والأطراف أو المتن والحاشية، ففي نظرهما لا وجود إلّا لحضارةٍ واحدةٍ حيّةٍ ناشطة، والحضارات الاخرى ميّتةٌ خامدةٌ ساكنة. انطلاقًا من فرضَية السكون والموت هذه يُمكننا الكلام على مُقتَرَح المركز والأطراف. بإمكان العالم الساكن الخامد أن يكون حاشيةً أو أطرافًا أو ضواحيَ للعالم الحيِّ الناشط، وأن يستمدّ منه القوّةَ والحياة، لكنْ حين نولي تواريخَ أخرى غيرَ التاريخِ الغربيِّ أهمّيَّةً، فإنَّ هذه التواريخ ليست حواشيَ المتنِ الغربيِّ أو ضواحيَ المركزِ الغربي، بلْ هي تواريخُ وحضاراتٌ مستقلَّةٌ. متى نقولُ وكيف نقول أنَّ هنالك تاريخًا مستقلًّا وحضارةً تستمدُّ منه الزخمَ والحيويّة؟ وهل يوجد اليوم كما يقول بعضُ الكتّاب السياسيّين ما يُسمّى التاريخَ الصينيَّ أو التاريخَ اليابانيّ أو الروسيّ أو اللاتينيّ أو غيرها؟ للإجابةِ عن هذا السؤال يجب ذكر معيارٍ لوجود تاريخيٍّ ما ولحياةِ ثقافة ما. لا ريبَ في أنَّ الثقافةَ الإسلاميّةّ ثقافةٌ عظيمة، وأنَّ ماضي الصين واليابان ماضٍ بهيٌّ. لكنْ كم طوى تاريخ الصين واليابان من الحقب؟ نقول بصراحةٍ أكبر: ما هو الهدف الذي تريد أن تبلغَه الصينُ واليابان؟ وإلى أين تريدان الوصول ؟ وما هو المآل الذي تبغيانه؟ أتريدان أن تصبحا الصين واليابان؟ وهل الصين الآن غير صينيّة واليابان غير يابانيّة ؟ إنَّهما تريدان منافسة أميركا الشماليّة و أوروبا الغربيّة في تطوير العلم و التقانة، ومضاعفة القوَّة. كما أنَ البلدان غير المتطوّرة تسعى بدورها إلى التطوّر متّخذةً انموذجًا لها وأسوةً البلدانَ الصناعيّةَ المتطوّرة أو السائرة على طريق التطوّر.
لغز التسمية
يمكننا أن نستنتج الآن أنَّ العالمّ كلَّه موحّدُ الهدفِ، وأنَّ العالمَ عالمٌ واحد. الخلاف قائمٌ حول تسمية هذا التاريخ، لماذا نسمّيه التاريخَ الغربيّ ( إنّ تاريخ أيِّ أمةٍ يحدّده المستقبلُ الذي تضعه هذه الأمّةُ نصبَ عينيها. وليكونَ هنالك مستقبل من الضروري تذكّرُ الماضي. لكنَّ ماضي أيّ شعب من الشعوب سواءٌ تُذُكِّرَ أو لم يُتَذَكَّر، لا يدلُّ عَلى طريق المستقبل مَا لم يتجلّ في طريقة حياةِ الناس، وبهذا المعنى هو ليس تاريخَ الأمّة). إنْ لم نعدّ تاريخَ التطوّر والتحديث هو التاريخ الغربيّ، ما هو الاسم الذي نطلقه عليه؟ البشر في أيّ تاريخ يولون لأنفسهم شأنًا ومكانةً، ولديهم ضوابطُ ومعاييرُ ومثلٌ عليا ونماذجُ يحتذونها، ويسعون إلى جعل أقوالهم وأفعالهم مطابقةً لتلك المعايير، ويحاولون الاقتراب من مُثلهم العليا. لم يرد مطلقًا في أيِّ كتاب تاريخيٍّ أنَّ الصينييّن في القرنين الخامس والسادس قبل الميلاد أو الإيرانييّن في ذلك الزمان، كان لديهم برنامج تنمية اقتصاديّة و تقنيّة، وأنّهم كانوا يسخّرون إمكاناتهم وقدراتهم من أجلِ تنفيذِ مثل هذا البرنامج. لقد ذكرتُ الصينَ مثلًا لأنّها بلدٌ شيوعيٌّ، وحافظت على معظم تقاليدها الصينيَّة، وقلَّما قلّدتِ الغربَ السياسيَّ في المظاهر. مع هذا فإنّ ما يسيِّرُ السياسةَ الصينيّةّ أوالثقافة الصينيّة اليوم هو برنامج التنمية. يقولون أن التنمية لا علاقة لها بالغرب، لكنَّ العالم وصل إلى حيثُ يتوجّب عليه أن يطويَ طريقَ التنمية. من الممكن قبول هذه الجملة، لكنْ هنالك نقطتان لا يجب تجاهلُهما، وهما: أولًا: أنْ لا وجودَ في العالم لتواريخَ متعدِّدةٍ، بل تاريخٌ واحدٌ، هو التطوّر التقنيّ، له صورةٌ واحدةٌ في جميع أنحاء العالم على الرَّغم من الفوارق التاريخيَّة والثقافيَّة والتقاليد القوميّة والوطنيّة، وهذه الصورة الواحدة نوعًا ما، تلغي الفوارق الظاهريَّة تدريجيًّا أو تجعلها باهتة. أمّا النقطة الثانية (الأساسيّة أكثر) فهي: أنَّ تاريخ التنمية بدأ بطرح مبادئَ وأفكارٍ خاصّةٍ في أوروبّا الغربيّة، على أساسها استقامتِ السياسة والاقتصادُ وحتى الآداب. لم تكن التنميةُ جموحًا أو رغبةً أو فكرةً سطحيّة راودت شخصًا أو أشخاصًا والآخرون يرونها ويقلِّدونها. لقد أصبحت فكرةُ التنميةِ ممكنةً حين ظهر إنسانٌ جديدٌ، رأى إلى نفسه موجودًا مختلفًا عن البشر السابقين، وأتى بفكر جديدٍ، وبطرحٍ جديدٍ للحياة. لقد وُجد هذا التفكيرُ المُنْشِئُ العلمَ والسياسةَ الجديدين في أوروبا في عصر النهضة، وهذا التطوّر رافقه انتقالُ مركز السلطة السياسيّة إلى أوروبا الغربيّة، التي أصبحتِ المركزَ والعالمُ كلُّه الاطراف والضواحي.
مُقترح المركز والاطراف بناءً على ما ذكرناه معناه أنَّ تاريخ العالمِ المعاصر تاريخٌ غربيّ. الذين تحدَّثوا أيضًا عن تاريخ عالميٍّ، وأسّسوا علمَ التاريخ (حتما التاريخ لم ينوجد حينَ دُوِّن التاريخ في الغرب، والأوْلى أنّه لم ينوجد في الغرب الجديد)، كانوا يقصدون بعبارة «التاريخ العالميّ» التاريخَ الغربيّ، أي التاريخ الذي قرّر فيه الإنسان أن يتحكَّم بكلِّ شيء وأن يُسخّر لنفسه كلَّ شيء. إنَ الكلامَ على ولادة بشرٍ جدد في أوروبا في القرون الأربعة الأخيرة، تختلف نظرتهم إلى العالم وإلى ما فيه عن نظرةِ البشر السابقين، والكلامَ على أنّ العلمَ والتقانة والسياسة والنظام والعقل تختلف كلّها عمّا كانت عليه في العصور السابقة، ليس قضيّة معقّدة. لكنّ هذه القضيّة البسيطة جدًّا لم يدركْها بعض الفضلاء الذين يتعاطون الفكر الفلسفيّ. يقولون مثلًا أنّ تقبّل الغرب لا يحلّ أيّ معضلة. لكنْ إنْ افترضنا أنَّ طرحَ قضيّة ماهيّة الغرب لا يحلّ أيّ مشكلة، فإنَّ تجاهلَ طرح هذه القضيّة يحرمنا إمكانيّة طرح القضايا، أو الأصحّ أنْ نقول أنّ قضيّة عصرنا المهمّة والأساسيّة هي قضيّة الغرب. يُقال أنّ في الغرب الجغرافيّ أمورًا جيّدة وأمورًا سيّئة. في الغرب ولدت الديمقراطيّة وكذلك سيطرتِ الفاشيّة والنازيّة لمدّة وإنْ قصيرة. في الغرب علمٌ وصلاح، وفيه أيضًا ظلمٌ وفساد. أيّ سياسةٍ هي السياسة الغربيّة؟ الديمقراطيّة أم الاشتراكيّة؟ ولماذا يجب أن يُسمّى العلم والتقانة غربيّين؟ يبدو الاعتراض مسوَّغاً على الأقل ظاهرياً بالنسبة إلى الذهن غير الفلسفيّ، و البعيد من الفلسفة. ففي الغرب أي في أوروبا وأميركا الشماليّة مجموعةٌ من الأفكار والأقوال والمعتقدات ومناهج العلم و العمل، وأنماط السلوك، مختلفةٌ ومتناقضة. هل يجب أنْ تُعدَّ هذه المجموعةُ الغربَ، أمْ أنَّ البعضَ منها يُذيِّلُ عنوانَ الغرب؟ هذا السؤال و الأسئلة المشابهة بشكلٍ عام ناجمةٌ عن نظرةٍ وجوديّة. الوجوديّةُ وإن كانت صحيحة وصائبةً في موضعها (في العلم مثلاً)، تصلُ في الفلسفةِ إلى الإضطراب الفكريّ. الغرب ليس مجموعةً واحدة، ولا يجب أيضاً أنْ يُعدَّ شيئاً من ضمن الأشياء الموجودة. يعترضون: إنْ كان من غير الممكن إطلاق اسم الغرب على أيّ شيءٍ من الأشياء الموجودة في الغرب الجغرافيّ، و حتى على مجموع تلك الأشياء، فالغربُ إذاً عدم. مبدئيًّا يجب أن يكون هذا الاستدلال عائدًا إلى أولئك الّذين يعتقدون أنَّ الوجودَ عدمٌ محض، لأنَّ الوجودَ ليس له أيّ مصداق في الخارج، و ليس اسماً لأيِّ شيء. الإنسان في رأيهم فردٌ غير مكلّف، أقواله وأفعاله لا يقيّدها أيّ قيد أو شرط من خارج فرديّته، وفي أيّ مكان وأيّ فرصة الأعمالُ كلّها بالنسبة إليه متماثلة، وبإمكانه أن يفعل ما يريد، وإنْ تكلَّم أحدٌ على الإمكانات والظروف، فهو في رأيهم معادٍ للحريّة وجبريُّ المعتقد، لا سيِّما إنْ سمعوا أنّ للناس دائمًا عالمًا يتحدّد فيه إلى حدٍّ ما الاتجاه العام لأعمالهم وتصرّفاتهم وأقوالهم، يعتمدون هذا القول مستندًا ليقولوا: ألم نقلْ إنّهم جبريّون، ويعدّون ذلك العالمَ هو المحدّد لسلوك الأشخاص و أقوالهم؟ والحجّة التي يوردونها هي: إن كان العالم هو الذي يوجّه أقوال الناس وسلوكهم، وهناك عالمٌ باسم العالم الغربيّ، لماذا لا يوجّه هذا العالم أفعال الغربيين وأقوالَهم، وهم أحرار في التعبير عن الآراء المختلفة، ولديهم مُثُلٌ والكثير من الإبداعات، أمّا الناس الذين لا رأيَ لهم، والحياة التي يَحيَوْنها تقليديّة، فما هو عالمهم وأين؟ وأولئك الذين تحكمهم أنظمةٌ فاسدة ومستبدّة، وأنظمة إداريّة وثقافيّة وتعليميّة مضطربة ومتهالكة وعاجزة وغير منتجة في أيّ عالَمٍ أو عوالمَ يعيشون؟
لقد رسَّم العقلُ المنسجمُ مع كوجيتو ديكارت والعقلانيّةُ التي استوت على عودها بعد ديكارت في القرن التاسع عشر الحدودَ الجغرافيّةَ لرؤية الغرب الحداثويّ وعمله. لو لم يكن هذا الفضاء موجودًا لما توسّع نطاق العلم والتقانة الجديدين. هذا الفضاء محدودٌ أيضًا، وهو كذلك شرط الإمكان بالنسبة إلى العلم والتقانة، بحيث أنَّ المكانَ الخالي من هذا الفضاء لا نموَّ فيه للعلم والتقانة ولا رسوخَ. إنّ العالمَ الغربيَّ هو هذه الظروف والإمكانات. فإنْ نظرتم إلى هذه الظروف والإمكانات على أنها عدم (وهي عدمٌ بتقديرٍ ما) يمكنكم حينئذ حسبان الغرب والعالم الغربيّ عدمًا أيضًا. هذه الظروف والإمكانات ليست متاحة في كلّ الأمكنة بالمقدار نفسه. هل يمكن أن نفترض أنّ العالم الحاليَّ عالمٌ واحدٌ، متاحةٌ فيه الظروف لتحقق العلم والتقانة والسياسة الجديدة، وفي أطرافه وضواحيه الظروفُ والإمكانات غيرُ متاحة كما يجب؟ مصدر هذه المشكلة الاعتقاد بأنّ العالم واحد. لكن من أين وكيف ولماذا صار العالم واحدًا؟ قبل بداية العصر الحديث وحتى القرن التاسع عشر، قلَّما جرى الحديث عن عالم واحد، ولم يُنجَزْ أيّ بحث عن العالَم الذي تشكّلُ أوروبا أو الغرب مدارًا له.
إنْ وُجد اليوم عالمٌ واحدٌ، أو ذُكِر، فإنّه عالمٌ قد توحّدَ حول محور الغرب. قبل أنْ يلتحق العالمُ كلُّه بالتاريخ الغربيّ، ويتبنّى مبادئ التقدّم والحريّة، كانت هناك حضارات مختلفة ذات مبادئ ومثل عليا متفاوتة، وكان لكلِّ عالَم قولُه وسلوكُه، وإنْ قامت بين هذه العوالم علاقةٌ أو صلةٌ ما، لا يتموضع أحدهُا في المركز والآخر(أو الآخرون) في الحاشية. فالعلاقات الثقافيّة التي قامت بين الصين والهند، أو بين الهند والإسلام، والإسلام واليونان، وأخيرًا بين المعارف والعلوم الإسلاميّة وبين فلسفة القرون الوسطى المسيحيّة، كانت صلاتٍ بين ثقافتين متعادلتين إلى حدٍّ ما ومتوازيتين. أنا في هذا البحث لن أتطرّق إلى تلك العلاقات، وماذا أثمرت. لكن بسهولة يمكن القول: إن لم ينجمْ عن تلك الثقافات ثقافةٌ فذّةٌ أخرى، ماذا يمكننا أن نتوقّع من اختلاط الثقافة الغربيّة بالثقافات الأخرى اختلاطًا لم يقتصر على الدرجات والمستويات، ولم يكن حدثًا غير متوقّع، قهريًّا ولاإراديًّا، هل نتوقّع تفتّق يوم مشرقٍ وتاريخ حيًّ وناشطٍ. كذلك فإنّ تبنّيَ طرح المركز والأطراف أو المركز والضواحي لا يحلّ المشكلة، لأنّ التاريخ الغربيَّ لن يحتلَّ المركزَ إلا في حال تفوّق على التواريخ والثقافات الأخرى، وهذه الثقافات بدورها لن ترضى بأن تكون أطرافًا وضواحيَ وحواشيَ إلا حين تبتعد عن جوهرها الأصليّ، وتتخلّى عنه أو تنساه. مع هذا، يُقال في عصرنا كلامٌ آخرُ حول هذا الموضوع، لا يمكن التغاضي عنه، كلامٌ ملازمٌ لنقد الحداثة. فهنالك حاليًّا بصورةٍ عامّةٍ مجموعتان من المفكّرين تعملان على نقد الحداثة. مجموعةٌ تنتقدها علّها تُنقّى وتتخلَّص من عيوبها فتدوم. بين هؤلاء اختلاف أيضاً، فبعضهم يكتفي بالانتقادات السطحيّة السياسيّة، والبعض الآخر لا يستسيغ سيطرة وسائل الإعلام، وسيطرة الثقافة الإعلاميّة. لكنّ الأكثرَ جديّةً في تفكيرهم يقولون إنّ حقيقة الحداثه لم تظهر ولم تتحقق حتى الآن بالكامل. أيْ أنَّ عقل القرن الثامن عشر لم يكن محض عقل آليِّ، وتحويل العقل إلى عقل آليٍّ انحراف. لذا يجب تدارك هذا الانحراف، والاستعداد لاستقبال عقل دقّاتُه صدى الكلام المشترك والتفاهم. هنالك أخيراً مجموعةٌ رابعة ٌهي على الرغم من أنّها غير يائسة من مستقبل الحداثة،لا تصدر عنها أفكارٌ طوباويّة، إنما تصف الحضارة الحديثة على نحوِ يوحي أنّها تريد أن تفسح مجالاً للتعدّديّة في أحاديثنا الدينيّة وفي الإنجيل وفي الشعر الأوروبيّ الحديث، إنّ الخلاص يأتي من حيث أتى الخطر(وقد رُوي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال، يأتي الفرج عند فناء الصبر).
نهاية الميتافيزيقا
لقد وصل علمُ ما بعد الطبيعة الغربيُّ إلى نهايته، وطالتِ العدميّةُ على نحو فاعل كلَّ الأمكنة وكلَّ الأشياء. في هذا العصر فقدت الحقيقةُ صفةَ الثبات والديمومة. في عصرنا الحقيقةُ حادثةُ من الحوادث، وفي هذا الوضع الحقيقةُ ليست في متناول أيّ شخص وأيّ سلطة. هذا الحدث جعل الحجاب الذي كان يستر الثقافات الأخرى أكثرَ رقّةً وشفافيةً، والهِرمَنطيقيا التأويليّة المناسِبة في الغرب لهلاميّة عصر ما بعد الطبيعة وطواعيته ربما أصبحت نوعًا من الذكرى في أطراف هذه الحضارة وحواشيها.إن وافقنا على هذا القول تصبح عبارة المركز والأطراف في غير مكانها أو غير مستساغة، إنما تبقى العلاقه بين المركز والأطراف مبهمة. إذا تذكّرنا خطر الوقوع في فخّ النفسانيّة (بسيكولوجيسم) يمكننا مقارنة الروح المعنويّة للأوروبييّن بالروح المعنويّه لأهل الضواحي والأطراف، لا سيّما إن أخذنا في الحسبان تغيّر هذا الوضع في القرن العشرين لا سيّما في عقوده الأخيرة نسبةً إلى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
لم تكن أوروبا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تعرف أكثر من عالمين وإنسانين العالم والإنسان اللذان يملكان تاريخًا وحضارة، والعالم والإنسان اللذان ينقصهما ذلك، ويجب أن يبلغاه.في ذلك الزمان لم يكن هنالك وجود للمركز والأطراف،في ناحية كان يوجد عقل وصحوة ومعرفة، وفي الناحية الأخرى يوجد جهلٌ وغفلة لدى الإنسان الشرقي والعالم الشرقي، اللذان كانا من متعلّقات فكر الغرب وعمله. لكن في القرن العشرين، لا سيّما في اواسطه تغيّر الوضع إلى حدِّ ما، عانت أوروبا من الفاشيّة والنازيّة والستالينيّة، والحروب المدمّرة. واختبرت كذلك العدميّة التي كان نيتشة ودستويوفسكي قد وصفا بها التاريخ الغربيّ، وما بعد الطبيعة انتهت بالمسار الروحيِّ والمعنويّ والفكريّ. في هذه الأثناء التي كان الغرب قد انصرف فيها عن مطلقيّة تاريخه وحضارته كلّيًّا، أو لم يعد مصّرًّا عليها، تفتّحت براعم مشاعر التعلّق بالثقافة والماضي التاريخيين في العالم القديم. مع هذين الحدثين المتوازيين تغيّرتِ النسبةُ بين العالمين اللذين يُسميّان نامِياً وغيرَ نامٍ أو متقدّمًا ومتخلّفًا، أيْ حين شاعت في كلِّ الأمكنة عاداتُ الغرب وأسلوبُ الحياة الغربيّ، وأصبح الناس في جميع أنحاء الدنيا مستهلكين للبضائع الغربيّة، صار العالم في الظاهر غربيًّا كلّيًّا، وإذا كانت هنالك فوارق ففي درجات التنمية ومراتبها. في هذا العالم الواحد ظاهريًّا يمكن تسويغ تصوّر المركز والأطراف. مع ذلك يجب أن يكون بين المركز والضواحي نسبة ضروريّة وعلاقة ذاتيّة. لكن نحن حتى وإنْ علمنا أنّ المركز هو أوروبا الغربيّة وأميركا الشماليّة وبقيّة مناطق العالم هي الأطراف والضواحي، لا نعلم المركز مركز ماذا، ولا نعلم بماذا تستفيد الأطراف منه. إن كان المركز مركزًا سياسيًّا أو اقتصاديًّا فالفائدة الأكبر التي تصل إلى الضواحي منه هي السيطرة والظلم والسلب والنهب. أمّا إن كان المركز مركزًا علميًّا وفكريًّا فيجب التأمّل في كيفيّة انتشار هذه العلوم والأفكار والآداب من المركز إلى الأطراف. هل بالإمكان القول أنّ عَلاقة المركز بالأطراف ظلمٌ واعتداءٌ في السياسة والاقتصاد، وتربية وهدايةٌ في العلم والفكر؟ هذا الوضع المزدوج ظاهريًّا دفع البعض إلى إنكار وحدة الغرب، رائيًا إليها مجموعةً من الأمور المختلفة والمتباينة. من الطبيعي أن يرفض هؤلاء أيضاً مُقتَرَح المركز والأطراف لأنّ عيونهم ترى بمنظار التعدّديّة. لكنّ انتقال العلم والتفكير والأدب من المركز إلى الأطراف لا يتنافى وسياسةَ الغرب الثقافيّة والعلميّة. أوّلًا لأنّ التفكير غير قابل للتعليم والانتقال، فالعلم على الرَّغم من أنّه يُتعلَّم يبقى في حدودِ المواضيع التي تدرّس ما لم يَستند إلى أسس التفكير. ثانيًّا: يهاجر الدارسون أصحاب المواهب من بلدان الأطراف إلى المركز، وهنالك يبدأون البحث والتحقيق. أما في الفلسفة والأدب فالوضع مختلف نوعًا ما، إذ قلّما تُسمع حكاية أو شكوى عن هجرة الكُّتاب والفلاسفة من الحواشي إلى المركز. لا يعني ذلك أنّ الشعراء والكّتاب والفلاسفة الآسيويّين والأفارقة واللاتين لا يهاجرون إلى أوروبا الغربيّة وأميركا الشماليّة. نحن نعرف اليوم كتّابًا وفلاسفة أسماؤهم آسيويّة وأفريقيّة و إسلاميّة، ويمكن العثور على معالم من الثقافةِ واللغة والأفكار القديمة في آثارهم. لا يجب أن نقارن هؤلاء في انتسابهم إلى الغرب بالعلماء والباحثين، إذ ليس من الضروريّ أن يأنس العلماء أُنساً تامًّا باللغة والثقافة الغربيّتين، لكنَّ الكتّاب والفلاسفة الذين هاجروا إلى الغرب وأنتجوا هنالك آثارًا، واشتُهرت أسماؤهم، تربيتُهم غربيّة، وحتى إذا أوردوا موادَّ فكريّة وشعريّة من لغة الآباء والأجداد في آثارهم، فأسوتهم الفكريّة والفنيّة المفكّرون والمبدعون الغربيّون. هل يجب عدُّ هذا الأمر دليلَ ارتباط أوثق بين المركز والأطراف؟ نعم أو لا؟ إذا كان ذلك الكاتب القادم من جزر المارتينيك ويكتب القصة في فرنسا باللغة الفرنسيّة، أو ذلك المفكّر الفلسطينيّ الأصل، الذي يعيش في أميركا يفكّران بلغتهما الأمّ وكلٌّ منهما له رأيه في ما يتعلّق بقضايا قومه، والأهمّ من كلِّ ذلك، إذا كان إلى حدٍّ ما المظهرَ الأخلاقيَّ والفكريَّ لأمّته، يمكن القول أنّ العلاقة بين المركز والأطراف باتت محكمةً وراسخة. إنّما لا يمكن القول بمجرّد أنْ يصلَ إيرانيٌّ أو مصريّ في أوروبا الغربيّة أو أميركا الشماليّة إلى مقام علميٍّ وثقافيٍّ رفيع،أنّ ذلك دليلٌ على العلاقة الوثيقة التي تربط المركز بالأطراف. من بين المتنوّرين والكتّاب والفلاسفة وعلماء الإجتماع الكبار المعاصرين ذوي الأصول الآسيويّة والأفريقيّة كثيرون حملوا جنسيَّة البلد المضيف، وأكثر من ذلك ارتبطوا بذلك المكان روحيًّا وخلقيًّا. أمّا القول أنّهم يوردون في آثارهم مواضيعَ عن بلادهم وأمّتهم فذلك لا أهميّة له بحدّ ذاته، إنّما يجب النظر بأيِّ عين ومن أيّ زاويةٍ يعالجون تلك المسائل. منذ حوالى المائة عام وعديد من العلماء والباحثين في التاريخ والأدب في البلدان الآسيويّة والأفريقيّة، يتبعون مناهج البحث الاستشراقيّة. كان اتِّباع هذا المنهج دليلًا على العلاقة والنسبة الخاصّة بين العالم الغربيّ والعالم القديم غير المتطوّر والمستعمَرَ. مهما كانت هذه النسبة، لم تكن نسبة بين المركز والأطراف، لأنّ الأطراف ليس لها حيثّيَّة الأطراف إلّا إن سميّناها حواشيَ وأطرافًا قياسًا على أحياء الصفيح العشوائيّة في المدن الكبرى غير المنظّمة في البلدان غير المتطوّرة.
مشكلة المثقف المستغرب
الفرضيّة في مُقْتَرَحِ المركز والأطراف هي (أو يجب أن تكون) أنّ هنالك ذهابًا وإيابًا من المركز إلى الأطراف ومن الأطراف إلى المركز، وأن تستوعبَ الأطراف روحيّةَ نقد الغرب، وأن تنظر من موضع عالميّ، لا يمكن مبدئيًّا إلّا أن يكون غربيًّا إلى الغرب وإلى جميع الحضارات والثقافات، وتكون حصيلة هذه النظرة المهمّة الصعبة المتمثّلة بأن يتبادل مفكرو الأطراف الأفكار والهموم مع المفكرين وأصحاب الرأي الغربيّين، وكذلك إدراك قضايا قومهم ووطنهم. لكن كيف يكون هذا الأمر ممكنًا؟ وهل اتّباع فيلسوف غربيٍّ والنظر من خلال نظّارته إلى قضايا بلدنا مختلف عن اتباع نظرة المستشرق؟ الاختلاف هو في نوع العلاقة وكيفيّتها. إذا كان المثّقف في هذا العصر يكرّر كلام الفيلسوف الغربي تقليدًا، قطعًا هو أدنى قدراً ومكانةً من متتّبع التاريخ والأدب الذي كان منذ ثلاثين سنة يتبع في أبحاثه منهج المستشرقين. إنّما يوجد اليوم في العالم غير المتطوّر تنويريّون يعزفون هم والفلاسفة والمفكّرون الغربيّون اللحنَ عينه، ويقولون الكلامَ نفسَه. والفلسفة المعاصرة اقتربت هي الأخرى إلى حدٍّ ما من التذكرة التاريخيّة، وتحوّلت إلى حيِّزٍ للتأمّل في التاريخ الغربيّ. النقطة الأخرى هي مدى الحدّة الذي بلغته مشكلة التخلّف وعدم النموّ، وإشتداد تيّار عولمة الاقتصاد وتجارب الحياة وجميع شؤونها وأساليبها، والوجود الإنسانيّ. في هذا الوضع لم يعد هنالك معنى لفصل هذا المكان عن ذاك المكان، وانتساب أمّة إلى عصر ما قبل الحداثة، وأخرى إلى ما بعد الحداثة. منذ خمسين عامًا كان المتنوّر فكريًّا في مجتمعنا إذا قال أو كتب شيئًا من الفلسفة الغربيّة، يبقى ما يقوله ويكتبه في حدود المحاضرة الدراسيّة. أمّا اليوم فقضايا الفلسفة المعاصرة تنعكس أيضًا انعكاسًا واسعًا في الصّحف. ربّما لم يكن ما يُكتب حول التقليد والحداثة وما بعدَ الحداثة، وغير ذلك من القضايا الفلسفيّة معمّقًا بمعظمه، لكنّ المهمّ أنّ قضيّة المستقبل قد طُرحت، وكلّ الأقوام والشعوب في العالم مدعوّةٌ للتأمُّل والتفكّر في أوضاعِها. أنا لا أقول أنّ الآذان كلَّها صاغيةٌ لتسمع هذه الدعوة، حتى أنّ كثيرين من الذين يقولون أنّهم قد سمعوا الدّعوة ولبّوا النداء، لا يعرفون من أين جاء النداء، ومن أيَّ اتجاه، وإلامَ يدعوهم. كان الباحث الذي يتبع المنهج الإستشراقيّ، يعتقد أنَّ الجميع يجب أنْ يسيروا في هذا الطريق. بعبارةٍ أخرى، كان يؤمن أنّه يتبع المنهج العلميّ ولم يكن يعدُّ هذا المنهج تابعًا لأيّ ثقافة. حاليًّا تغيّر الوضع لم يعد المنهج البحثي للمستشرق منهجًا علميًّا خالصًا. فقد تنبّه أهل الرأي في جميع أنحاء العالم قليلاً أو كثيرًا إلى أوضاعهم التاريخيّة، وأُخضِعت أصولُ التاريخ الغربيّ ومبادؤه وقيمُه التي كان يُعتقد أنّها مطلقة للتساؤل. لم يعد أفقُ التاريخ الغربيّ واضحًا، فقد حُجب تدريجيّا ويزداد قتامةً. مع ذلك تطوّرت الثقافة الغربيّة بسرعةٍ هائلة، وعيون كلّ أهل الأرض وآذانهم تتابع هذه الثقافة السريعة التطوّر والانتشار. في هذا الوضع بات التحديث أمرًا إلزاميًّا، ولا يمكن غضّ النظر عنه وتجاهله. ولكنّ ذلك لا يعني أنّ الطرق معبّدةٌ وسالكة للّحاق بركب الحداثة والتحديث. المشكلة هي أنّ البشر على الأقلّ في الظروف الراهنة لا سبيل أمامهم سوى سبيل التنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة والتقنيّة، وحين يَلِجُونَهُ يجدون أنّه غير معبّد وغير سالك، وتعوِزُهم الإمكانات الكافية لِإزالة العقبات وتعبيد الطريق. هذه المسألة السهلة ظاهريًّا تُفهم في حال انصبّ التفكير على وضع الغرب والعالم المتخلّف والنسبة بينهما. حاليًّا هنالك فريقان في البلدان غير المتطوّرة يتصدّون للكتابة، فريقٌ معارضٌ للغرب سياسيًّا، وينظر تاليًا إلى الثقافة والحضارة الغربيّتين نظرةً سياسيّة، ويعلن معارضته لها، ولا شأن له في ما يخصّ العلم و التقانة الجديدين من أين أتيا، وكيف حصَّلَ الغرب هذه القوّة الحاليّة. لكنْ يُفهم من فحوى كلامهم أنّ الغرب يجسّد الكذب والخداع والتآمر، وقد سخّر العالم بهذه الوسائل. إفراط هذا الفريق استوجب تفريط الفريق الآخر، الفريق المفرِط آذاه وأغضبه أن يرى بشرًا يقرنون العلم والحريّة والرفاهيّة بالكذب والغشّ والخداع، ويقولون إنها من معطيات الشيطان فتأهَّب للدفاع عن القيم الغربيّة، واصفًا أحيانًا الوضعَ القائمَ في الغرب بأنّه وضعٌ مثاليّ أو قريبٌ من المثال، ويمتدح العلمَ والحريّةَ والعدالة، والبعض من هذا الفريق يتخيّل أنَّ هذا الوضع سيستمرّ إلى ما لا نهاية، وأن العيوبَ والنواقص ستزول. وفي الواقع، يرى أنّ ليبراليّة الديمقراطيّة الغربيّة هي الوضع الدائم للتاريخ. هذا الفريق ينظر أيضًا بمنظار سياسيٍّ إلى العالم وإلى أحواله، وإلى الثقافة والفكر، ولكنْ أيًّا كان الأمر فإنّ هذا الفريق أكثر نجاحًا من الفريق الآخر في عمله، وكلامه أكثر قبولًا. فمن يُنكرْ حريّة البشر وحقوقهم ولا يُقمْ وزنًا لرفاهية الناس وراحتهم، من الطبيعي أن لا يلقى كلامُه آذانًا صاغية. إنّ أحد المبادئ في السياسة وفي مخاطبة الناس بثّ الأمل في نفوس المخاطَبين. ليس المقصود أنّ السياسيّين يخادعون الناس، أو يجب أن يُخادعوا، إنّما هم أنفسهم يجب أن يكون لديهم القليل أو الكثير من الأمل بالمستقبل، وأنّ يضعوا أمام أعين الناس طرحاً واضحاً نسبيّاً عن المستقبل القريب. يتبين أنّ هذا الفريق من السياسيّين يلقى قبولاً أكبر لدى الناس. تُرى مَنْ مِنَ الفريقين على حقّ في هذا النزاع؟ ظاهريًّا هذا السؤال لا معنى له ولا مسوّغ، والبعض ربّما بمجرّد أنْ يسمعَه أو يقرأه سيصرخ قائلاً أنْ لا إنسانَ سليمَ الفطرة يقول إنَّ الاستبدادَ أفضلُ من الديمقراطيَّة، والمرضَ أفضلُ من الصِحَّة، والفقرَ أفضلُ من الغنى، واختلالَ حبلِ الأمنِ أفضلُ من الأمن والأمان. إذًا من أين أتى هذا البحث وما هو مسوّغه؟ فلو أن هنالك طرحًا عن عالمٍ غيرٍ العالمِ الغربيّ أمام أعيننا، ربَّما انتفى هذا النزاع، ولم نكن مجبرين على المقابلة بين الحريّة والاستبداد. لكنْ في العالَمِ الراهن حيث انتشرت القيم الغربيّة قليلاً أو كثيرًا في كلِّ مكان، ويتّسع نطاق انتشارها بواسطة الحروب والقهر، وأفقُ المستقبل كالحٌ ومحجوب، لا يمكن تجاوز هذه المتضادّات، وطالما أنّها موجودة فإنّ نفيَ أحدِها إثباتٌ لضدّه. لكنْ هل من الممكن برفض الديمقراطيّة الخروج من التاريخ الغربيّ؟ بعض المفكرين رأى أنّ تاريخ الحداثة يمكن أنْ يصل إلى نهايته كالتواريخ الماضية (التاريخ اليوناني مثلاً وتاريخ القرون الوسطى)، وأن يبدأ عصرٌ جديد، وعلى هذا الأساس ستنوجد قيم وقواعد ومبادئ وعلاقات غير تلك الموجودة في العالم الراهن، وستكون هي السائدة والديمقراطية التي يعود نسبُها إلى نظام الحداثة، ستكونُ أفضلَ صور الحكم في النظام الجديد. لإثبات هذا القول، لدى أنصار الديمقراطيّة أدلّتُهم، وبإمكانهم أنْ يبيّنوا أنَ هنالك حكومات حتى اليوم، قد داست مبادئ الديمقراطيّة بأقدامها، وحتى إن كان ذلك باسم العدالة، فقد ضاعفتِ الظلمَ في العالم. لكنْ هل ستظلّ عجلة الزمان تدور على هذا المنوال؟ وهل سيبقى نظام الحداثة هو النظام الأبديّ للحياة البشريّة؟ مهما كان الجواب عن هذا السؤال فإن الذين تربّوا على مبادئ الحداثة، وتفكيرُهم محصورٌ داخل حدودها، من الصعب جدّاً أن يتخلّوا عن هذه المبادئ، ويتطلّعوا إلى فضاءٍ آخر. لهذا السبب نرى أشخاصاً ربمّا بحسن نيَّة ينسبون كلّ من لديه تساؤلات ومآخذ حول مبادئ النظام السياسيِّ الغربيِّ إلى الفاشيّة والنازيّة والستالينيّة. ليس من المستبعد كما يبدو، في إطار النظام الفكريّ والثقافيّ والتقنيّ للعالم المعاصر، أن يُتّهم من يفكّر بمبادئ العلم بمعاداة العلم، وأن يُصَنَّفَ من يتجاوز ظاهر الديمقراطيّة إلى باطنها وحقيقتها، في خانة أعداء الحريّة، ولا عجب أنّ هذه العقليّة شائعة في العالم غير المتطوّر. أشرنا من قبل إلى أنّ الفريق الأوّل يمكن أن يكون شديد الإعجاب والتعلّق بأحدث وسائل التقانة، مع ذلك لا ينتقد الغرب نقدًا بنّاءً، بل يركّز أكثر على عيوب الغرب وعلى الحداثة. أمّا كتّاب الفريق الثاني فإنّهم يستسيغون صورةَ الحياة الغربيّة ونظامَها السياسيّ،ويرونها أحياناً مثالاً يُحتذى،وإن عارضوا أحياناً بالعمل السياسيّ القوى الغربيّة،يسمّون البحث في ماهيّة الديمقراطيّة والليبراليّة نقيضا للحريّة وموالاةً للاستبداد والفاشيّة، ويتحدّث أشخاص من الفريق الأوّل أحيانًا عن الحريّة والديمقراطيّة بطريقة معيّنة كأنّما يتحدثون عن جريمة أو فضيحة. في الفريق الثاني أيضاً أشخاص على النقيض من مبدإ الحريّة الذي يحملون لواءه، يذكرون باحتقار حتى أسماء الفلسفات، فالتأويليّة على ألسنتهم تتحوّل إلى مرض خطير أو قذارةٍ أو نجاسة. هذا هو الوجه المشترك بين الفريق الأول والفريق الثاني، فالدعوة إلى التحرّر والحرّيّة بتعصّبٍ لا تتوافق مع الفلسفة أيضاً، والتأويليّة شأنُها شأن أيّ فلسفةٍ أخرى قابلةٌ للنقد، لكنْ من يَرَ أنّ فسادَها وبطلانَها أمرٌ محتوم، ويجب تفنيدُها ورفضها، ليس من أهل الفلسفة، ولا تربطه أيّ علاقة نسب أو قرابة بعالم الحرّيّة، وإنْ تكلّمَ على الحريّة فكلامه ليس نابعاً من القلب، أي أنّ قلبه و لسانَه ليسا على وفاق. لكن يتوجّب علينا أنْ لا نحكم على أيّ بلد من البلدان انطلاقاً من آراء أهل الإفراط أو أهل التفريط فيه. الإشارة إلى هذه النقطة تهدف إلى إفساح المجال أمام سؤال جديد حول النسبة بين الأطراف والمركز. هل فهمُ المركز فهمٌ عميق والأطراف فهمها سطحيٌّ وظاهريٌّ، وإذا عارضتِ المركزَ لا تعرف ماذا تعارض؟ وما هو الأثر الذي تتركه معارضتها؟ يبدو أنّ المجموعات المعارضة والمقاومة لتسلّط القوى الغربيّة غير منتبهة أو غير مهتمّة بمعرفة الطريق التي تنفذ منه القوّة والسيطرةُ لذا لا تفكّر بإقفال هذه الطريق، وربّما ترى أيضاً أنّها غير معنيّة بإقفالها، وقطعاً معارضتُها في بعض الحالات قليلةُ التأثير أو لا تأثيرَ لها .
الاستعلاء بما هو منهج وعقل
انطلاقاً ممّا قلناه، يمكن أن نفترض صورتين مثاليّتين للبشر، إحداهما صورة الغربيين الذي يعدّون مكانتهم و مهمّتهم فتحَ العالم واحتلاله، يعرفون فضلاً عن عناصر قوّتهم مواطنَ ضعفهم إلى حدٍّ ما، وبما أنّهم حتى هذه اللحظات يتطلّعون إلى المستقبل، فهم لا يجهلون المشاكلَ التي تعترض طريقَهم وقتامةَ أفقِ المستقبل. إلى جانب هؤلاء كمٌّ كبير من أهل أوروبا وآسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبيّة، هم على الرّغم من الخلافات السياسيّه في ما بينهم، حتى المعارضون منهم للغرب، عيونُهم مصوّبةٌ على مُنجزات الغرب، ويريدون الوصول إلى حيث وصل هؤلاء عادةً لا يعرفون إمكاناتِهم وقدراتِهم ونقاطَ ضعفهم، ولا الطريق التي يجب أن يسلكوها ليحصلوا على ميزات النموّ والتطوّر. هل يشكّل هؤلاء أجزاء ضواحي الغرب؟ هؤلاء ليسوا بالمستوى نفسه حياتيًّا ومعيشيًّا، ومعتقداتُهم مختلفة، وأنظمة الحكم في بلادهم مختلفةٌ أيضًا، وآراؤهم في ما يتعلّق بالأنظمة السياسيّة القائمة في الغرب متناقضة كما رأينا. إذا نظرنا إلى هذه الضواحي والأطراف نظرةً سياسيّةً سنرى بلادًا ليس بينها أيُّ توافق وانسجام تقريبًا، وإذا كانت في الظاهر مستقلّة سياسيًّا، فإنّ استقلالها لا يظهر كثيرًا في مقاومة المركز والتصدّي لهيمنته، وهو أشدّ بروزًا في خدش وجوه بعضهم البعض. حتمًا المركز أيضًا بالمنظار السياسيّ غير موحّد، لكن حين يحدث ما يمسّ مبادئ العالم الحديث وقواعده وأصوله تتقارب مواقفه. في هذه المواقف لا يُحسب أهل آسيا وأفريقيا من الأطراف، لأن جماعات من أهل المركز ترى أنّ المناطقَ غير الغربيّة مقرُّ الأفكار المخالفة للحضارة الغربيّة، وفيها ينشأ ليس فقط المعارضون للظلم المحيقِ بهم والآتي من الغرب، بل المعادون للحضارة الغربيّة ومبادئ الحريّة وحقوق البشر.
لقد بدأ نقد الحضارة الغربيّة ومبادئ التاريخ الغربيّ في الغرب نفسه، وتعمّق واشتدَّ في أوساط الغربيّين، واهتمَّ مستنيرو البلدان الأخرى بهذه الانتقادات، وربّما جعلها عددٌ منهمٌ مادة الحقد على الغرب. لكنْ أوّلًا عددُ هؤلاء قليل، وثانيًا، هم لم يستمدّوا حقدهم من جذور آبائهم وأجدادهم بل من عدميّة الغرب. حتمًا من هذه الأطراف نفسها ناسٌ كُثُر لا شأنَ لهم بمبادئ الحريّة وحقوق البشر، أو أنّهم لا يولونها أهمّيّةً، لكنْ من الممكن أنْ يقولوا إنّ القوى الغربيّة نفسَها لا تطبّق المبادئ التي تدّعي حمايتها، هؤلاء ليسوا معارضي المبادئ التي اصطُلح على تسميتها غربيّة، حتى وإنْ صُنّفوا في حاشية الغرب أو أطرافه، يمكن أن يجدوا مسوّغًا له.الفريق الأوّل كما أشرنا من قبل هو إن تأمّلنا بدقّة اهتماماته وتجاوزنا أقواله وأفعاله، لا ينتمي إلى التاريخ الغربيّ. هؤلاء ليسوا من أهل الرأي، ولا يقترحون حلولًا لتجاوز المبادئ الغربيّة، كذلك هم لا يتخطّون حدودَ مواجهة الغرب ومقاومته سياسيًّا. ما يميّز هؤلاء من سائر الجماعات السياسيّة المعارضة للهيمنة الغربيّة هو عنفُهم. وإذا كان لديهم فكر أو علم فهم يَقصِرون استخدامه على تدوين برامجهم وسياساتهم العنفيَّة، وتنفيذ أعمال العنف. بعبارة أخرى مخالفتُهم لمبادئ الحضارة الغربية مخالفةٌ سطحيّة، لا تأثير لها، ويمكن أن تكون فقط أثراً من آثار الأزمة أو مَعْلَمًا من معالمها في العصر الحديث. النقطة الأهم أنّ أعمال العنف هذه، تخرج إلى حيّز التنفيذ بالأساليب التي وُضعت في الغرب، وبالأدوات التي صنعها الغرب وفي كلّ الأحوال، حين يستهدف أحدُ أعمال العنف إحدى القوى الغربيّة، لا يمكن أن نسمي ذلك أكثر من عداء ومحاربة لها، ولا شك أنّ الخلاف والصراع والحروب بين القوى السياسيّة الغربيّة والعالم غير المتطوّر، كانت قائمة منذ بداية التاريخ الاستعماريّ ولا تزال قائمةً، إنها حرب المظلوم على الظلم والظالم.
لا يجب هنا أنْ نتحدث عن مستقبل هذا الخلاف، وعمّا سيؤول إليه أمره في المستقبل، وما هي النتائج التي سيتسفِر عنها، لكنْ يجب أن نعلم أنّ كلّ مسألة تُطرح في هذا الباب مناسبةٌ لرأينا في ما يتعلّق بالغرب وبالعالم غير المتطوّر. المتفائل بالغرب يحكم على مستقبل العالم بنظرة تفاؤليّة، ومن يعتقد أنّ قوّة الغرب قد اعتراها الاضطراب والوهن وأنها آيلة إلى الضعف يمكن أن ينظر إلى العالم نظرةّ تشاؤميّة. فضلًا عن ذلك، الفكرةُ الشائعة في العالم غير المتطوّر إلى حدّ ما، لا سيّما بين المتنوّرين المتعلّمين لا تتوافق وفكرةَ وحدةِ العالم، وبناءً عليها كلُّ بلدٍ قائمٌ بذاته، وعلى الجميع أخذ ما هو جيّدٌ ولائقٌ والتخلّي عن العيوب والمساوئ. بالنسبة إلى أصحاب هذا التفكير مفهوم الشرق والغرب لا معنى مثمرًا له. وهؤلاء يَعُدّون تلقائيًّا مُقترَحَ المركز والأطرافِ أيضًا بلا معنى. يمكننا من زاوية معيّنة أنْ نصّنف ضمن هذه الزمرة نفسِها المجموعاتِ السياسيّةَ المعارضةَ لها والمعارضةَ للغرب أيضًا. الآن هنالك مجموعتان لمفهوم الأطراف والمركز لا معنى لهما: مجموعة تعتقد أنّ الغرب يمكنه من خلال الحوار إدخال جميع الشعوب في العالم الغربيّ، ومجموعةٌ أخرى تميل إلى الإعتقاد أنَّ الغرب بإمكانه من خلال الحوار أن يتعلّم الكثير من الثقافات الأخرى، ويجب كذلك على العالم كلّه أن يتعلّم من الغرب. ربما يكون لكلمة الحوار مكان ملائمٌ جدًا في كلام هذه المجموعة، لكنْ من غير المعلوم حقيقةً هو كيف يمكن أنْ يتحقّق هذا الأمر، ومن هم المتنوّرون والمفكّرون الذين يعبّرون عنه. الخلاصة أنّ الأرضيّة الفكريّة والمقْتَرَح المناسبان لعبارة المركز والضواحي هما في ما يلي: نحن نعيش في عالم واحد تحكمه مبادئ وقواعد واحدة، لكنّ علاقة أهل الأرض بهذه المبادئ والقواعد متفاوتة الدرجات، ولم تصبهم آثارها وفوائدها بالمستوى نفسِه. هذا العالم ليس موحَّد النسيج، لكن يجب أن يصبح كذلك. يجب على المركز أن يقبلَ الاختلاف (فهذا الاختلاف موجودٌ في داخله أيضًا، وهو جزء من ماهيّته)، والأطرافُ يجب أنْ تنظرَ إلى المركز وهي مدركةٌ وضعها أطرافًا وضواحيَ، أو بصراحة أكبر نقول إنَّ المتنوّرين والمفكّرين والسياسيين في البلدان الأطراف يجب أن يشكلوا حالةً من التبادل الروحيّ والفكريّ بين المركز والأطراف. هذه طوباويّة أوائل القرن الحادي والعشرين. لقد بدأت الحداثة طوباويًّا، وفي القرن العشرين احتل الفكر غير الطوباويّ مكان الفكر الطوباويّ. هل يعود البشر من جديد إلى مرحلة الطروحات الطوباويّة؟ ما أعرفه أنا هو أنّ مصير العالم كلِّه مرتبطٌ ببعضه، وحتى إن لم نعطِ الغربَ موقع المركز ومكانتَه، لا يمكننا أن ننكر أنّ كلّ ما يحلّ به، وأيّ تغيّر يصيبه سيؤثّر في الأمكنة الأخرى كلِّها. لكنّ خرابه سيكون خرابًا للعالم كلِّه. ليس من الضروريْ أنْ نفكّر بالخراب، الأفضل أن نفكر أنّ مراكز العلم والتفكير والحضارة انتقلت تاريخيًّا طيلة العصور والقرون من مكان إلى آخر ـ علمًا أنّ أيّ مركز حضاريّ طيلة التاريخ لم يحظَ بما يحظى به المركزُ الغربيُّ من قوّةٍ ونفوذٍ. في أوائل القرن العشرين نبّه بعضُ المفكّرين الغربَ، إلى أنّ مركزيته في خطر، ونصحوا أوروبا أن تتّقي هذا الخطر الداهم. اليوم تغيَّرَ الوضع إلى حدًّ ما فما قاله هوسرل في النصف الأوّل من القرن العشرين حول أزمة أوروبا، لا يتكرّر على ألسنة الفلاسفة المعاصرين. لكنْ هنالك سياسات تريد بالعنف والشدّة والرعب أن تحافظ على مركزيّة القوّة في الغرب (الغرب الذي يبدو أنّه يتجزّأ، أو أنّ مركزًا جديدًا يظهر في داخله )، لكنّ المركز مركزُ التفكير، والسياسةُ لا تَخلق تفكيرًا، ولا تستطيع أن تقضيَ على التفكير. يجب أن تُصالح السياسةُ الفكرَ.
[1]* ـ مفكر وفيلسوف من إيران.
ـ نقلاً عن منشورات هرمس، طهران 1390 ش ـ 2011م .
ـ ترجمة وتعريب: أ.د. دلال عبّاس.