البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

أباطيل الدهريين

الباحث :  جمال الدين الأفغاني
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  2
السنة :  السنة الثانية - شتاء 2016 م / 1437 هـ
تاريخ إضافة البحث :  December / 27 / 2015
عدد زيارات البحث :  1560
تحميل  ( 356.875 KB )
أباطيل الدهريين
جمال الدين الأفغاني

النص التالي مأخوذ من كتاب السيد جمال الدين الأفغاني «الرد على الدهريين». وهو مناظرة يجادل فيها التيار الإلحادي الذي شاع في أوروبا خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وامتدت آثاره الفكرية إلى المشرق العربي والإسلامي فضلاً عن مغربه، وكان من نتائجها نشوء تيارات علمانية حاكت الإلحادية الغربية وتماهت معها في كثير من المواضع.
المحرر
هؤلاء جَحَدَة الأُلوهيّة في أيّ أُمّة، وبأيّ لون ظهروا، كانوا يسعون ولا يزالون يسعون لقلع أساس هذا القصر المسدّس الشكل، قصر السعادة الإنسانية، القائم بستّة جدران: ثلاث عقائد، وثلاث خصال[1]، أعاصير أفكارهم تدكدك هذا البناء الرفيع، وتُلقي[2] بهذا النوع الضعيف إلى عراء الشقاء، وتهبط به من عرش المدنيّة الإنسانيّة إلى أرض الوحشيّة الحيوانيّة.
لقد وضعوا مذاهبهم على بطلان الأديان كافّة، وعدّها أوهاماً باطلة، ومجعولات وضعيّة، وبنوا على هذا: ألاّ حقّ لملّة من الملل أن تدّعي لنفسها شرفاً على سائر الملل; اعتماداً على أُصول دينها، بل الأَليقُ بها ـ على رأيهم ـ أن تعتقد أنها ليست أَولى من غيرها بفضيلة، ولا أجدر بمزيّة. ولا يخفى ما يتبع هذا الرأي الفاسد من فتور الهمم، وركود الحركات الإراديّة عن قصد المعالي، كما تقدّم بيانه.
قالوا: إنّ الإنسان في المنزلة كسائر الحيوانات، وليس له من المزايا ما يرتفع به على البهائم، بل هو أخسّ منها خِلْقة، وأدنى فطرة، فسهّلوا بذلك على الناس إتيان القبائح، وهوّنوا عليهم اقتراف المنكرات، ومهّدوا لهم طرق البهيميّة، ورفعوا عنهم معايب العدوان.
ذهبوا إلى أنّه لا حياة للإنسان بعد هذه الحياة، وأنّه لا يختلف عن النباتات الأرضيّة تنبت في الربيع ـ مثلاً ـ وتيبس في الصيف، ثمّ تعود تراباً، والسعيد من يستوفي في هذه الحياة حظوظه من الشهوات البهيميّة.
وبهذا الرأى الفاسد أطلقوا النفوس من قيد التأثّم، ودفعوها إلى أنواع العدوان: من قتل وسلب وهتك عرض، ويسّروا لها الغدر والخيانة، وحملوها على فعل كلّ خبيثة، والوقوع في كلّ رذيلة، وأعرضوا بالعقول عن كسب الكمال البشري، وأعدموها الرغبة في كشف الحقائق، وتعرّف أسرار الطبيعة.
هذا الوباء المهلك، والطاعون المجتاح ـ أعني النيتشريّين ـ لا يُصيب أهل الحياء، لامتناع نفوسهم عن مشاكلة البهائم، وإبائها عن وضع أقدامها في منازل الحيوانيّة المحضة، وأنفتها من الاشتراك في الأموال والأبضاع، وإباحة التناول ممّا يختصّ بالغير منها.
ولهذا عمد هؤلاء المفسدون إلى خَلّة الحياء ليُزيلوها أو يُضعفوها، فقالوا: إنّ الحياء من ضعف النفس ونقصها، فإذا قويت النفوس، وتمّ لها كمالها، لم يغلبها الحياء في عمل ما كائناً ما كان، فمن الواجب الطبيعيّ في زعمهم أن يسعى الإنسان في معالجة هذا الضعف الحياء ليفوز بكمال القوّة قلّة الحياء وبهذه الدسيسة يخلطون بين الإنسان والهَمَل[3] ويمزجونه بالهامجات[4] من النَّعَم، ويوحّدون بين حاله وتصرّفه، وبين حال الدوابّ والأنعام، من إباحة كلّ عمل، والاشتراك في كلّ شهوة، ويهوّنون عليه إتيان ما تأتيه في نزواتها.
ولا يخفى أنّ الأمانة والصدق منشؤهما في النفس الإنسانيّة أمران: الإيمان بيوم الجزاء، وملكة الحياء.
وقد ظهر: أنّ من أُصول مذاهب هذه الطائفة إبطال تلك العقيدة، ومحو هذه الملكة الكريمة، فيكون تأثير آرائهم في إذاعة الخيانة وترويج الكذب، أشدّ من تأثير دعوة داع إلى نفس الخيانة والكذب، فإنّ منشأ الفضيلتين مادام في النفس أثر منه، يبعثها على مقاومة الداعي إلى الرذيلتين، فيضعف أثر دعوته، والمؤمّن بالجزاء، المبرقع بالحياء، إن سقط في الخيانة أو الكذب مرّة، وجد من نفسه زاجراً عنهما مرّة أُخرى، أمّا لو مُحي الإيمان والحياءوهما منشأ الصدق والأمانة من لوح النفس، فلا يبقى منها وازع عن ارتكاب ضدّيهما.
ويزيد في شناعة ما ذهبوا اليه، أنّ في أُصولهم الإباحة والاشتراك المطلقين، فيزعمون أنّ جميع المشتهيات حقّ شائع، والاختصاص بشيء منها يعدّ إغتصاباً، كما سيذكر، فلم يبق للخيانة محلّ، فإنّ الاحتيال لنيل الحقّ لا يعدّ خيانة، ومثلها الكذب، فإنه يكون وسيلة للوصول إلى حقّ مغتصب في زعمهم فلا يعدّ إرتكاباً للقبيح.
لا جَرَمَ[5] أن آراء هذه الطائفة مروِّجة للخيانات، باعثة على افتراء الأكاذيب، حاملة للأنفس على ارتكاب الشرور والرذائل، وإتيان الدنايا والخبائث.
وإنّ أُمّة تفشو فيها هذه الحوالق[6] لجديرة بالفناء، جالية عن باحة البقاء[7] فقد انكشف الخفاء بما بيّنّا عن فساد مشارب هذه الطائفة، وعن وجه سَوقها الأُمم والشعوب إلى مهاوي الهَلَكة والدّمار.
وأقول: إنّها من أشدّ الأعداء للنوع الإنساني كافّة، فإنّ ما هاج في رؤوس أبنائها من «الماليخوليا» يخيّل إليهم أنّ الإصلاح فيما يزعمون، ويصوّر لهم حقيقة النجاح في صور ما يتوهّمون، فيبعثهم هذا الفساد لإيقاد النار في بيت هذا النوع الضعيف ليمحو بذلك رسمه من لوح الوجود، فإنّ من الظاهر عند كلّ ذي إدراك أنّ أفراد هذا النوع يحتاجون في بقائهم إلى عدّة صنائع لو لم تكن لأهلكتهم حوادث الجوّ، وأعوزهم القوت الضروري، والصنائع المحتاج إليها تختلف أصنافها، وتتفاوت درجاتها، فمنها الخسيس، والشريف، ومنها السهل، ومنها الصعب.
وهذه الطائفة النيتشريّة تسعى لتقرير الاشتراك في المشتهيات، ومحو حدود الامتياز، ودرْس[8] رسوم الاختصاص حتى لا يعلو أحد عن أحد، ولا يرتفع شخص عن غيره في شيء ما، ويعيش الناس كافّة على حدّ التساوي لا يتفاوتون في حظوظهم، فإن ظفرت هذه الطائفة بنجاح في سعيها هذا، ولاق[9] هذا الفكر الخبيث بعقول البشر، مالت النفوس إلى الأخذ بالأسهل، فلا تجد من يتجشّم مشاقّ الأعمال الصعبة، ولا من يتعاطى الحِرَف الخسيسة طلباً للمساواة في الرفعة، فإن حصل ذلك، إختلّ نظام المعيشة، وتعطّلت المعاملات، وبطلت المبادلات، وأفضى إلى تدهور هذا النوع في هُوّة الهلاك.
لا تُنتج أحسن من هذه النتيجة. ولو فرضنا (بالماليخوليا) نعم، إنّ أفكار المصابين محالاً، وعاش بنو الإنسان على هذه الطريقة العوجاء، فلا ريب أن تُمحى جميع المحاسن، وضروب الزينة، وفنون الجمال العملي، ولا يكون لبهاء الفكر الإنسانيّ أثر، ويفقد الإنسان كلّ كمال ظاهر أو باطن، صوريّ أو معنويّ، ويعطّل من حَلْي الصنائع، وتغرب عنه أنوار العلم والمعرفة، ويصبح في ظلام جَهْل، وبلاء أزْل[10]، وينقلب كرسيّ مجده، وينثلّ[11] عرش شرفه، ويُصْحِر[12] في بادية الوحشيّة كسائر أنواع الحيوان، ليقضي فيها أجلاً قصيراً مُفعماً بضروب الشقاء، محاطاً بأنواع من المخاوف، محشوّاً بأخلاط من الأوجال والأهوال، فإنّ المبدأ الحقيقي لمزايا الإنسان إنّما هو حبّ الاختصاص، والرغبة في الامتياز، فهما الحاملان على المنافسة، السائقان إلى المباراة والمسابقة، فلو سُلِبَتْهما أفرادُ الإنسان وقفت النفوس عن الحركة إلى معالي الأُمور، وأغمضت العقول عن كشف أسرار الكائنات، واكتناه حقائق الموجودات، وكان الإنسان في معيشته على مثال البهائم البرّيّة إن أمكن له ذلك، وهيهات هيهات.
مسالكهم في طلب غاياتهم
سلكوا مخالج من الطرق لبثّ أوهامهم الفاسدة، فكانوا إذا سكنوا إلى جانب أمن، جهروا بمقاصدهم بصريح المقال، وإذا أزعجتهم سطوة العدل أخذوا طريق الرمز والإشارة، وكنَّوا عمّا يقصدون، ولوّحوا إلى ما يطلبون، ومشوا بين الناس مشية التدليس.
وتارةً كانوا يحملون على أركان القصر المسدّس ليصدعوها بجملتها في آن واحد، وأُخرى كانوا يعمدون إلى بعضها إذا رأوا قوّة المانع دون سائرها، فيجعلون ما قصدوا منها مرمى أنظارهم، ويكدحون لهدمه بما استطاعوا من حول وقوّة، وقد تلجئهم الضرورة إلى البعد عن الأركان الستّة بأسرها، فلا يأتون بما يمسّها مباشرة، ولكنهم يدأبون لإبطال لوازمها، أو ملزوماتها; ليعود ذلك بإبطالها.
وقد يكتفون بإنكار الصانع جلّ شأنه وجحد عقائد الثواب والعقاب، ويجهدون لإفساد عقائد المؤمنين، علماً منهم بأن فساد هاتين العقيدتين الاعتقاد باللّه، والاعتقاد بالثواب والعقاب لا محالة يُفضي إلى مقاصدهم ويؤدّي إلى نتيجة أفكارهم.
وكثيراً مّا سكتوا عن ذكر المبادئ، وسقطوا على ذات المقصد، وهو «الإباحة والاشتراك»، وأخذوا في تحسينه وتزيينه، واستمالة النفوس إليه، وقد يزيدون على الدعوة الإقناعيّة بأي وجوهها عملاً جاهليّاً تأنف منه الطباع، وتأباه شرائع الإنسانية وذلك أن يأخذوا معارضيهم بالغدر والإغتيال، فكثيراً ما فتكوا بآلاف من الأرواح البريئة، وأراقوا سيولاً من الدماء الشريفة، بطرق من الحيل، وضروب من الختل.
ضرر مذاهب المادّيّين
متى ظهر المادّيّون في أُمّة، نفذت وساوسهم في صدور الأشرار من تلك الأُمّة، واستهوت عقول الخبثاء الذين لا يهمّهم إلاّ تحصيل شهواتهم ونيل لذّاتهم من أيّ وجه كان لموافقة هذه الآراء الفاسدة لأهوائهم الخبيثة، فيميلون معهم إلى ترويج المشرب المادّيّ، وإذاعته بين العامة غير ناظرين إلى ما يكون من أثره.
ومن الناس من لا يساهم في آرائهم، ولا يضرب في طرقهم، إلاّ أنّه لا يسلم من مضارّها ومفاسدها، فإنّ الوهن يُلمّ بأركان عقائده، والفساد يسري لأخلاقه من حيث لا يشعر حيث إنّ أغلب الناس مقلّدون في عقائدهم، منقادون للعادة في أخلاقهم، وأقلّ التشكيك، وأدنى الشبهة، يكفي علّة لزعزعة قواعد التقليد وضعضعة قوائم العادة. وإنّ هؤلاء المادّيّين بما يقذفون بين الناس من أباطيلهم يبذرون في النفوس بذور المفاسد، فلا تلبث أن تنمو في تراب الغفلة، فتكون ضريعاً وزقّوماً[13].
ولهذا قد يعمّ الفساد أفراد الأُمة التي تظهر فيها هذه الطائفة، وكلٌّ لا يدري من أيّ باب دمر الفساد على قلبه، فتشيع بينهم الخيانة، والغدر، والكذب والنفاق، ويهتكون حجاب الحياء، وتصدر عنهم شنائع تنكرها الفطرة البشريّة، يأتون ما يأتون من تلك القبائح مجاهرة بلا تحرّج، وكلٌّ منهم وإن كان يدّعي بلسانه أنّه مؤمن بيوم الجزاء، وفي نفسه أنّ ذلك إعتقاده واعتقاد آبائه، إلاّ أنّ عمله عمل من يعتقد ألاّ حياة بعد هذه الحياة لسريان عقائد المادّيّين إلى قلبه، وهو في غفلة عن نفسه، فلهذا تغلب عليهم الأثَرَة، وهي إفراط الشخص في حبّه لنفسه، إلى حدّ أنه لو عرضت في طريق منفعته مضرّة كلّ العالم، لطلب تلك المنفعة وإن حاق الضرر بمن سواه، ومن لوازم هذه الصفة أنّ صاحبها يؤثر منفعته الخاصّة على المنافع العامّة، ويبيع جنسه وأُمّته بأبخس الأثمان، بل لا يزال به الحرص على هذه الحياة الدنيئة يبعث فيه الخوف، ويمكّن منه الجبن، حتى يسقط به في هاوية الذلّ، ويكتفي من الحياة بمدّها وإن كانت مكتنفة بالذلّ، محاطة بالمسكنة، مبطّنة بالعبوديّة، فإذا وصلت الحال في أُمّة إلى أن تكون آحادها على هذه الصفات، تقطّعت فيها روابط الإلتئام، وانعدمت وحدتها الجنسية، وفقدت قوّتها الحافظة، وهوت عروش مجدها، وهجرت الوجود كما هجرها.
الأُمم التي ظهر فيها الدهريّون
اليونان :
شعب «الكريك» ـ وهم اليونانيّون ـ كانوا قوماً قليلي العدد، وبما أُلهموا أُورثوا من العقائد الثلاث، خصوصاً عقيدة أنّ أُمّتهم أشرف الأُمم، وبما أُودعوا من الصفات الثلاث خصوصاً صفة الأنفة والإباء وهي عين الحياء ثبتوا أحقاباً[14] .
في مقاومة الأُمة الفارسيّة، وهي تلك الأُمة العظيمة، التي كانت تمتدّ من نواحي «كشغر» إلى ضواحي «استانبول»، ذلك فوق ما بلغوه من الدرجات العالية في العلوم الرفيعة. وقد حملهم الخوف من الذُّلّ، والأنَفة من العبوديّة، على الثبات في مواقف الأبطال، بل رسخ بهم ذلك ولا رسوخ الجبال حذراً من الوقوع فيما لا يليق بأرباب الشرف، وأبناء المجد، حتّى آل بهم الأمر أن تغلّبوا على تلك الدولة العظيمة «دولة فارس» وهدموا أركانها، ومدّوا أيديهم إلى الهند.
وكانت صفة الامانة قد بلغت من نفوسهم إلى حيث كانوا يرجّحون الموت على الخيانة، كما تراه في قصّة «تيمستوكليس»، وهو قائد يونانيّ نبذه أبناء جِلْدته وطردوه، وأرصدوا له القتل، فاضطرّ إلى الفرار من أيديهم، والتجأ إلى «ارتكزيكسيس»[15] (ملك فارس، فلمّا كانت الحرب بين فارس واليونان، أمره «ارتكزيكسيس»[16] أن يتولّى قيادة جيش لحرب اليونان، فأبى أن يحارب أُمّته، وإن كانت طردته، فلما ألحّ عليه الملك الفارسي ولم يجد محيصاً، تناول السمّ، ومات أَنَفَة من خيانة بلاده.
ظهور أبيقور في اليونان
ظهر أبيقور الدهري وأتباعه الدهريّون في بلاد اليونان، متّسمين بسيماء الحكماء، وأنكروا الأُلوهيّة، وإنكارُها أشدُّ المنكر، ومنبع كلّ وبال وشرّ، كما يأتي بيانه.
ثمّ قالوا: ما بال الإنسان معجب بنفسه، مغرور بشأنه، يظنّ أنّ الكون العظيم إنّما خلق خدمة لوجوده الناقص، ويزعم أنه أشرف المخلوقات، وأنّه العلّة الغائيّة لجميع المكوّنات؟! ما بال هذا الإنسان قاده الحرص بل الجنون والخرق إلى اعتقاد أنّ له عوالم نورانيّة، ومعاهد قدسيّة، وحياة أبديّة، ينقل إليها بعد الرحلة من هذه الدنيا، ويتمتّع فيها بسعادة لا يشوبها شقاء، ولذّة لا يخالطها كدر، ولهذا قيّد نفسه بسلاسل كثيرة من التكاليف، مخالفاً نظام الطبيعة العادل، وسدّ في وجه رغبته أبواب اللذائذ الطبيعيّة، وحرم حسّه كثيراً من الحظوظ الفطريّة، مع أنّه لا يمتاز عن سائر الحيوانات بمزيّة من المزايا في شأن من الشؤون، بل هو أدنى وأسفل من جميعها في جِبِلّته، وأنقص من كلّها في فِطْرته، وما يفتخر به من الصنائع فإنّما أخذه بالتقليد عن سائر الحيوانات، فالنسج مثلاً نقله عن العنكبوت، والبناء استنّ فيه بسُنّة النحل، ورفع القصور وإنشاء الصوامع، أخذ فيه مأخذ النمل الأبيض، وإدّخار الأقوات، حذا فيه حذو جنس النمل، وتعلّم الموسيقى من البلبل... وعلى ذلك بقيّة الصنائع.
فإن كان هذا شأنه من النقص، فليس من اللائق به أن يقذف بنفسه في ورطات المتاعب والمشاقّ عبثاً، ومن الجهل أن يغترّ بهذه الحياة التي لا تمتاز عن حياة سائر الحيوانات، بل ولا جميع النباتات، وليس وراءها حياة أُخرى في عالم آخر، بل أجدر به أن يُلقي ثقل التكاليف عن عاتقه، ويقضي حقّ الطبيعة البدنيّة من حظّ اللذّة، ومتى سنح له عارض رغبة حيوانيّة، وجب عليه تناوله من أيّ وجوهه، وعليه ألاّ ينقاد إلى ما تُخيِّله له أوهام الحلال والحرام، واللائق وغير اللائق...
لبئس ما سوّلت لهم أنفسهم نعوذ باللّه فتلك أُمور وضعيّة في زعمهم تقيّد بها الناس جهلاً، فلا ينبغي لابن الطبيعة أن يجعل لها من نفسه محلاًّ.
ولما امتنعت عليهم نفوس أهل الحياء من الأُمّة، فلم تأخذ منها وساوسهم، وجدوا تلك الصفة الكريمة سدّاً دون طلبتهم، فانصبّوا عليها يقصدون محوها من الأنفس، وأعلنوا أنّ الحياء ضعف في النفس على ما تقدّم وزعموا أنّ من الواجب على طالب الكمال أن يكسر مقاطر[17] العادات، ويحمل نفسه على ارتكاب ما يستنكره الناس حتّى، يعود من يسهل عليه أن يأتي كلّ قبيح بدون انفعال نفسيّ، ولا يجد أدنى خجل في المجاهرة بأيّة هجينة كانت.
ثمّ تقدّم الأبيقوريّون إلى العمل بما يرشدون إليه فهتكوا حجاب الحياء، ومزّقوا ستاره، وأَراقوا ماء الوجه الإنسانيّ المكرّم، فاستحلّوا التناول من مال الناس بغير إذن، وكانوا متى رأوا مائدة اقتحموا عليها، سواء طُلبوا أو لم يُطلبوا، حتّى سمّاهم القوم بالكلاب... فإذا رأوهم رموهم بالعظام المعروفة، ومع ذلك لم تتنازل هذه الكلاب الإنسيّة عن دعوى الحكمة، ولم يردعها رادع الزجر عن شيء من شرورها، وكانت تنبح في الأسواق منادية: المال مشاع بين الكلّ، وتهجم على الناس من كلّ ناحية، وهذا سبب شهرتهم بالكلبيّين.
فلمّا ضربت أفكار الدهريّين في نفوس اليونان، بسعي الأبيقوريّين، ونشبت بعقولهم، سقطت مداركهم إلى حضيض البلاد، وكسد سوق العلم والحكمة، وتبدّل شرف أنفسهم بالذُّلّ واللُّؤم، وتحوّلت أمانتهم إلى الخيانة، وانقلب الوقار والحياء قِحّة وتسفّلاً، واستحالت شجاعتهم إلى الجبن، ومحبّة جنسهم ووطنهم إلى المحبّة الشخصيّة.
وبالجملة: فقد تهدّمت عليهم الأركان الستّة التي كان يقوم عليها بيت سعادتهم، وانتقض أساس إنسانيّتهم، ثمّ انتهى أمرهم بوقوعهم أسرى في أيدي الرومانيّين، وكُبِّلوا في قيود العبوديّة زمناً طويلاً، بعد ما كانوا يُعَدّون حكاماً في الأرض بلا معارض.

الأُمّة الفارسيّة
الأُمّة الفارسيّة بلغت فيها الأُصول الستّة، أعلى مكانة من الكمال أحقاباً طويلة، فكانت لها أُصول السعادة، وموارد النعيم، حتى بلغ اعتقاد الفارسيّين من الشرف لأنفسهم، إلى حدّ أنهم كانوا يزعمون أنّ السعداء من غيرهم إنّما هم الداخلون في عهدهم، المستظلّون بحمايتهم، أو المجاورون لممالكهم.
كان الصدق والأمانة أوّل التعليم الدينيّ عندهم، ووصلوا في التحرّج من الكذب إلى حيث كانوا إذا بلغت الحاجة مبلغها من أحدهم، لا يتقدّم للاقتراض; خوف أن يضطرّه الدَّين إلى الكذب في مواعيد وفائه، فارتفعوا بهذه الخصال إلى درجة من العزّة، وبسطة الملك، يلزم لبيانها كتاب مثل الشاهنامة[18].
قال المؤرخ الفرنسي «فرنسيس لونورمان»: إنّ مملكة فارس على عهد دارا الأكبر: كانت إحدى وعشرين إيالة: واحدة منها تحتوي مصر وسواحل القلزم «البحر الاحمر» وبلوخستان، والسند، وكانوا إذا ألّم الضعف بسلطانهم في زمن من الأزمان، بعثتهم تلك العقائد القويمة والصفات الكريمة على تلافي أمرهم، فخلصوا ممّا ألّم بهم في قليل زمن، ورجعوا إلى مكانتهم الأُولى ومجدهم الأعلى.
مزدك الدهري[19]
ظهر فيهم «مزدك» الدهري على عهد «قباد» وانتحل لنفسه لقب «رافع الجور ودافع الظلم» وبنزعة من نزعاته، قلع أُصول السعادة من أرض الفارسيّين، ونسفها في الهواء وبدّدها في الأجواء، فإنه بدأ تعاليمه بقوله: «جميع القوانين والحدود والآداب ـ التي وضعت بين الناس ـ قاضية بالجور، مقرّرة للظلم، وكلّها مبنيّ على الباطل، وإنّ الشريعة الدهريّة المقدّسة لم تنسخ حتّى الآن، وقد بقيت مصونة في حرزها عند الحيوانات والبهائم..» .
أيّ عقل وأيّ فهم يصل إلى سرّ ما شرّعته «الطبيعة»!؟ وأيّ إدراك يحيط بمثل ما أحاط به، وقد جعلت الطبيعة حقّ المأكل والمشرب والبضاع، مشاعاً بين الآكلين والشاربين والمباضعين بدون أدنى تخصيص، فما الحامل للإنسان على حرمان نفسه من بضاع بنته وأُمه وأُخته، ثمّ تركهن لغيره يتمتّع بهنّ انقياداً لما يخيّله له الوهم، ممّا نسمّيه شريعة وأدبا؟!
وأيّ حقّ يستند إليه من يدّعي ملكية خاصّة في مال يتصرّف فيه دون سواه، مع أنه شائع بينه وبين غيره؟!
وأيّ وجه لمن يحجر على أمرأة دخلت في عقده، ويحظر على الناس نيلها، وقد خُلق الذكر للأُنثى والأُنثى للذكر؟!
وماذا يوجد من العدل في قانون يحكم: بأنّ المال الشائع إذا تناولته يد مغتصب بما يسمّونه بيعاً وشراءً أو إرثاً يكون مختصّاً بذلك المغتصب، ثمّ يحكم على الفقير المحروم إذا احتال لأخذ شيء من حقّه والتمتّع به بأنّه خائن أو غاصب؟!
فإن كان هذا شأن تلك القوانين الجائرة، فعلى الإنسان أن يفكّ أغلالها من عنقه، ويطرح كلّ قيد عقدته القوانين والشرائع والآداب، التي لا واضع لها سوى العقل الإنسانيّ الناقص، وليرجع إلى سُنّة الطبيعة المقدّسة، ويقضي حق شهوته من اللذائذ التي أباحتها له بأيّ الوجوه، ومن أيّة الطرق، ويأخذ في ذلك مأخذ البهائم، وعليه أن يقاوم الغاصبين المتحكّمين في الحقوق قسراً أي المالكين للأموال والأبضاع فيخرجهم عن سوء فعالهم من الغصب والجور أيّ حقّ التملّك!
فلمّا ذاعت هذه النزعات الخبيثة بين الأُمّة الفارسيّة، تهتّك الحياء وفشا الغدر والخيانة، وغلبت الدناءة والنذالة، واستولى حكم الصفات البهيميّة على نفوسهم، وفسدت أخلاقهم، ورذلت طباعهم.
نعم، إنّ «أنو شروان» قتل «مزدك» وجماعة من شيعته، ولكنّه لم يستطع محو هذه الأوهام الفاسدة بعد ما علقت بالعقول، والتبست نفايتها بالأفكار، فكان علّة في ضعفهم، حتى إذا هاجمهم العرب لم تكن إلاّ حملة واحدة فانهزموا، مع أنّ الروم وهم أقران الفارسيّين ثبتوا في مجالدة العرب ومقاتلتهم أزماناً طويلة.

الأُمّة الإسلاميّة
الأُمّة الإسلاميّة جاءتها الشريعة المحمّديّة السماويّة، فأشربت قلوبها تلك العقائد الجليلة، ومكّنت في نفوسها تلك الصفات الفاضلة، وشمل ذلك آحادهم، ورسخت بينهم تلك الأُصول الستّة بدرجة يقصر القلم دون التعبير عنها.
فكان من شأنهم، أن بسطوا سلطانهم على رؤوس الأُمم من جبال الألب إلى جدار الصين في قرن واحد، وحثّوا تراب المذلّة على رؤوس الأكاسرة والقياصرة، مع أنهم لم يكونوا إلاّ شِرْذِمة قليلة العُدّة، نزرة العدد، ولم ينالوا هذه البسطة في الملك والسطوة في السلطان، إلاّ بما حازوا من العقائد الصحيحة والصفات الكريمة، هذا إلى ما جذبه مغناطيس فضائلهم من مائة مليون، دخلوا في دينهم في مدّة قرن واحد من أُمم مختلفة، مع أنّهم كانوا يخيّرونهم بين الإسلام، وشيء زهيد من الجزية لا يثقل على[20] النفوس أداؤه.
هكذا كان حال هذه الأُمّة الشريفة من العزّة ومَنَعة السلطان.
ظهور الباطنيّة في القرن الرابع
فلمّا كان القرن الرابع بعد الهجرة ظهر «الطبيعيّون» بمصر تحت اسم «الباطنيّة وخَزَنة الأسرار الإلهيّة»، وانبثّ دعاتهم في سائر البلاد الاسلاميّة، خصوصاً بلاد إيران.
علم هؤلاء الدهريّون، أنّ نور الشريعة المحمّديّة على صاحبها أفضل الصلاة، وأتمّ التسليمّ قد أنار قلوب المسلمين كافّة، وأنّ علماء الدين الحنيف قائمون على حراسة عقائد المسلمين وأخلاقهم، بكمال علم، وسعة فضل، ودقّة نظر، فلهذا ذهب أولئك المفسدون مذاهب التدليس في نشر آرائهم، وبنوا تعليمهم على أُمور:
أوّلاً: إثارة الشكّ في القلوب، حتّى يتفكّك عقد الإيمان.
ثانياً: الإقبال على الشاكّ وهو في حيرته، ليمنّوه بالنجاة منها، وهدايته إلى اليقين الثابت، فإذا انقاد لهم أخذوا منه مواثيقهم، ثمّ أوصلوه إلى مرشدهم الكامل.
ثالثاً: أوعزوا إلى دعاتهم أن يلبسوا لرؤساء الدين الإسلاميّ لباس الخدعة، وجعلوا من شروط الداعي أن يكون بارعاً في التشكيك، ماهراً في التلبيس، مقتدراً على إشراب القلوب مطالبه.
فإذا سقط الساقط من المغرورين في حبالة مرشدهم الكامل، فأوّل ما يُلقّنه المرشد قوله: إنّ الأعمال الشرعيّة الظاهرة، كالصلاة والصيام ونحوهما، إنّما فُرضت على المحجوبين دون الوصول إلى الحقّ، والحقّ هو المرشد الكامل، فحيث إنكّ وصلت إلى الحقّ، فإيّاك أن تُلقي عن عاتقك ثقل الأعمال البدنيّة، فإذا مضى عليه زمن في عهدهم، صرّحوا له، بأنّ جميع الأعمال الباطنة والظاهرة، وكذلك سائر الحدود والاعتقادات، إنّما أُلزمت فرائضها بالناقصين، المصابين بأمراض من ضعف النفوس ونقص العقول، أمّا وقد صرت كاملاً، فلك الاختيار في مجاوزة كلّ حدّ مضروب، والخروج من أكنان التكاليف إلى باحات الإباحة الواسعة.
ما الحلال؟! وما الحرام؟! ما الامانة؟! وما الخيانة؟! ما الصدق؟! وما الكذب؟! ما هي الفضائل؟! وما هي الرذائل؟!
ألفاظ وضعت لمعان مخيّلة، وما لها من حقيقة واقعيّة في زعم المرشد، فاذا قرّر المرشد أُصول الإباحة في نفوس أتباعه، التمس لهم سبيلاً لإنكار الأُلوهيّة، وتقرير مذهب النيتشريّة «الدهريّين»، فأتى إليهم من باب التنزيه، فقال: اللّه منزّه عن مشابهة المخلوقات، ولو كان، موجوداً لأشبه الموجودات ولو كان معدوماً لأشبه المعدومات، فهو لا موجود ولا معدوم.
يعني أنّه يقرّ بالاسم، ويُنكر المسمّى، مع أنّ شبهته هذه سفسطة بديهيّة البطلان، فإنّ اللّه منزّه عن مشاركة الممكنات في خصائص الإمكان، أمّا في مطلق الوجود فلا مانع من أن يتّفق إطلاق الوصف عليها وعليه، وإن كان وجوده واجباً، ووجودها ممكناً.
وقد جدّت طائفة الباطنيّة في إفساد عقائد المسلمين، زماناً غير قصير أخذاً بالحيلة، ونفاذاً بالخُدْعة، حتّى انكشف أمرهم لعلماء الدين، ورؤساء المسلمين، فانتصبوا لدرء مفاسدهم، وتحويل الناس عن ضلالاتهم، فلمّا رأوا كثرة معارضيهم، شحذوا شفار الغيلة، ففتكوا بكثير من الصالحين، وأراقوا دماء جمٍّ غفير من علماء الأُمّة الإسلاميّة، وأمراء الملّة الحنيفيّة.
وبعض أولئك المفسدين عندما أمكنته الفرصة، ووجد من نفسه ريح القوّة، أظهر مقاصده منبر «الموت» ـ قلعة في خراسان ـ وجهر بآرائه الخبيثة، فقال: على إذا قامت القيامة حُطّت التكاليف عن الأعناق، ورفعت الأحكام الشرعيّة; سواء كانت متعلّقة بالأعمال البدنيّة الظاهرة، أو الملكات النفسيّة الباطنة، والقيامة عبارة عن قيام القائم الحقّ، وأنا القائم الحقّ، فليعمل عامل ما أراد، فلا حرج بعد اليوم، إذ رُفعت التكاليف، وخَلُصت منها الذمم أي أُغلقت أبواب الإنسانيّة، وفتحت أبواب البهيميّة.
وبالجملة: فهؤلاء الدهريّون من أهل التأويل أي «الناتوراليسم» من الأجيال السابقة الإسلاميّة، عملوا على تغيير الأوضاع الإلهيّة بفنون من الحيل، ودعوا كلّ كمال إنسانيّ نقصاً وكلّ فضيلة رذيلة، وخيّلوا للناس صدق ما يزعمون، ثمّ تطاولوا على جانب الأُلوهية، فحلوا عقود الإيمان بها، وبالسفسطة التي سمّوها تنزيهاً، ومحوا هذا الاعتقاد الشريف من لوح القلوب، وفي محوه محو سعادة الإنسان في حياته، وسقوطه في هاوية اليأس والشقاء.
فأفسدوا أخلاق الملّة الإسلاميّة شرقاً وغرباً، وزعزعوا أركان عقائدها، وساعدهم مدّ الزمان على تلويث النفوس بالأخلاق الرديئة وتجريدها من السجايا الكاملة، التي كان عليها أبناء هذه الملّة الشريفة، حتّى تبدّلت شجاعتهم بالجبن وصلابتهم بالخور، وجرأتهم بالخوف، وصدقهم بالكذب، وأمانتهم بالخيانة، ووقع المسخ في هممهم، فبعد أن كان مرماها مصالح الملّة عامّة، صارت قاصرة على المنافع الشخصيّة الخاصّة، وعادت رغباتهم لا تخرج عن الشهوات البهيميّة، وكان من عاقبة ذلك: أنّ جماعة من قزم الإفرنج، صدعوا أطراف البلاد السوريّة، وسفكوا فيها دماء آلاف من أهاليها الأبرياء، وخرّبوا ما أمكنهم أن يخرّبوا، وثبتوا بها نحو مائتي سنة، والمسلمون في عجز عن مدافعتهم، مع أنّ الإفرنج كانوا قبل عروض الوهن لعقائد المسلمين، وطروء الفساد على أخلاقهم في قلق لا يستقرّ لهم أمن على حياتهم وهم في بلادهم خوفاً من عادية المسلمين. وكذلك قام جماعة من أوباش التتر والمغول مع جنكيزخان، واخترقوا بلاد المسلمين، وهدّموا كثيراً من المدن المحمّديّة، وأهدروا دماء ملايين من الناس، ولم تكن للمسلمين قدرة على دفع هذا البلاء عن بلادهم، مع أن مجال خيولهم في بدء الإسلام على قلّة عددهم كان ينتهي إلى أسوار الصين.
وما نزل بالمسلمين شيء من هذه المذلاّت والإهانات، ولا رزئوا بالتخريب في بلادهم، والفناء في أرواحهم، إلاّ بعد ما كلّت بصائرهم ونغلت نيّاتهم، ومازج الدَّغَل قلوبهم، وخربت أماناتهم، وفشا الغشّ والإدهان[21] بينهم، ودار كلّ منهم حول نفسه لا يعرف أُمّة، ولا ينظر إلى ملّة، وأصبحوا بقناة خوّارة، بعد أن كانت قناتهم لا تلين لغامز، إلاّ أنّ بقيّة من تلك الأخلاق المحمّديّة، كانت لم تزل راسخة في نفوس كثير منهم، كامنة في طيّ ضمائرهم، فهي التي أنهضتهم من كبوتهم، وحملتهم على الجدّ في كشف السطوة الغريبة عن بلادهم، فأجلوا الأُمم الافرنجيّة بعد مائتين من السنين، وخلّصوا البلاد السورية من أيديهم، وطوّقوا الجنكيزيين بطوق الإسلام، وألبسوهم تيجان شرفه، ولكنّهم لم يستطيعوا حسم داء الضعف، وإعادة ما كان لهم من الشوكة إلى المقام الأوّل، فإنّ ما كان من شوكة وقوّة إنّما هو أثر العقائد الحقّة، والصفات المحمودة، فلما خالط الفساد هذه وتلك تعسّر عود السهم إلى النزعة.
ولهذا ذهب المؤرّخون إلى أنّ بداية الانحطاط في سلطة المسلمين كانت من حرب الصليب، والأليق أن يقال: إنّ إبتداء ضعف المسلمين كان من يوم ظهور الآراء الباطلة والعقائد النيتشريّة "الدهرية" في صورة الدين، وسريان هذه السموم القاتلة في نفوس أهل الدين الإسلامي.
وليس بخافٍ أنّ فئة ظهرت في الأيّام الأخيرة ببعض البلاد الشرقيّة، وأراقت دماء غزيرة، وفتكت بأرواح عزيزة، تحت اسم لايبعد عن أسماء من تقدّمها لمثل مشربها، وانما التقطت شيئاً من نفايات ما ترك دهريّو «الموت» وطبيعيّو «كردكوه» وتعليمها نموذج تعليم أولئك الباطنيّين، فعلينا أن ننظر ما يكون من آثار بدعها في الأُمّة التي ظهرت بها.

الشعب الفرنسي
الشعب الفرنسي شعب كان قد تفرّد بين الشعوب الأوروبيّة بإحراز النصيب الأوفر من الأُصول الستّة، فرفع منار العلم، وجبر كسر الصناعة في قطعة أوربا بعد الرومانيّين، وصار بذلك مشرقاً للتمدّن في سائر الممالك الغربيّة.
وبما أحرز الفرنسيّون من تلك الأُصول، كانت لهم الكلمة النافذة في دول الغرب إلى القرن الثامن عشر من الميلاد المسيحي، حتّى ظهر فيهم «روسو» و «فولتير» يزعمان حماية العدل، ومغالبة الظلم، والقيام بإنارة الافكار، وهداية العقول، فنبشا قبر أبيقور الكلبي، وأحييا ما بلي من عظام «الناتوراليسم» الدهريين، ونبذا كلّ تكليف ديني، وغرسا بذور الإباحة والاشتراك، وزعما أنّ الآداب الإلهيّة جعليّات خرافيّة، كما زعما أنّ الأديان مخترعات أحدثها نقص العقل الإنساني، وجهر كلاهما بإنكار الاُلوهيّة، ورفع كلّ عقيرته بالتشنيع على الانبياء ـ برّأهم اللّه ممّا قالا ـ وكثيراً ما ألّف «فولتير» من الكتب في تخطئة الأنبياء والسخريّة بهم، والقدح في أنسابهم، وعيب ما جاؤوا به، فأخذت هذه الأباطيل من نفوس الفرنسيّين، ونالت من عقولهم، فنبذوا الديانة العيسويّة، ونفضوا منها أيديهم.
وبعد أن أغلقوا أبوابها، فتحوا على أنفسهم أبواب الشريعة المقدّسة «في زعمهم» شريعة «الطبيعة»، وزاد بهم الهوس في بعض أيّامهم حتى حمل لفيفاً من عامّتهم، أن يتناولوا بنتاً من، ذوات الجمال فيهم، ويحملوها إلى محراب الكنيسة، ففعلوا، ونادى زعيم القوم: أيّها الناس لا يأخذكم الفزع بعد اليوم من هدهدة الرعد، ولا إلتماع البرق، ولا تظنّوا شيئاً من ذلك تهديداً لكم من إله السماء، يرسله عليكم ليعظكم به، ويزعجكم عن مخالفته... كلاّ فهذه كلّها آثار الطبيعة «الناتور»، ولا مؤثّر في الوجود سوى «الناتور»، فحلّوا عن أعناقكم قيود الأوهام، ولا تقيموا لأنفسكم إلهاً من خواطر ظنونكم، فإن كانت العبادة من رغائب شهواتكم، فها هي ذي «مدموازيل» ـ أي العذراء قائمة في المحراب على مثال الدمية، فاسجدوا لها إن شئتم...
والأضاليل التي بثّها هذان الدهريّان «فولتير» و «روسو» هي التي أضرمت نار الثورة الفرنسيّة المشهورة، ثمّ فرّقت بعد ذلك أهواء الأُمّة، وأفسدت أخلاق الكثير من أبنائها، فاختلفت فيها المشارب، وتباينت المذاهب، وأَوْغَلُوا في سبل الخلاف زمناً يتبعه زمن، حتّى تباين صدعهم، وذهب كلُّ فريق يطلب غاية لا يرى وراءها غاية، وليس بينها وبين غايات سائر الفرق مناسبة، وانحصر سعي كلّ قبيل في إلتماس ما يواتي لذّته، ويوافق شهوته، وأعرضوا عن منافعهم العامّة، وأعقب ذلك عروض الخلل لسياستهم الخارجيّة شرقاً وغرباً.
نعم إنّ نابليون الأوّل بذل جهده في إعادة الديانة المسيحيّة إلى ذلك الشعب استدراكاً لشأنه، لكنّه لم يستطع محو آثار تلك الأضاليل، فاستمرّ الاختلاف بالفرنسيّين إلى الحدّ الذي هم عليه اليوم.
هذا الذي جرّ الفرنسيّين للسقوط في عار الهزيمة، بين يدي الألمان، وجلب إليهم من الخسار ما تعسّر عليهم تعويضه في سنين طويلة.
هذه الأباطيل الدهريّة قام عليها مذهب «الكمون» أي الشيوعيّين ونما هذا المذهب بين الفرنسيّين، ولم تكن مضارّ الآخذين به ومفاسدهم في البلاد الفرنسيّة أقلّ من مضارّ الألمان.
ولو لم يتدارك الأمر أرباب العقائد النافعة والسجايا الحسنة، لنسف الشيوعيّون كلّ عمران على أديم فرنسا، ومحوا مجد الأُمّة تنفيذاً لأهوائهم، وجلباً لرغباتهم.

الأُمّة العثمانيّة
الأُمّة العثمانيّة إنّما رقّت[22] حالتها في الأزمنة المتأخّرة بما دبّ في نفوس بعض عظمائها وأمرائها من وساوس الدهريّين، فإنّ القواد الذين اجترحوا إثم الخيانة في الحرب الأخيرة بينها وبين الروسية،كانوا يذهبون مذهب النيتشريّن «الدهريّين»، وبذلك كانوا يعدّون أنفسهم من أرباب الافكار الجديدة، «أبناء العصر الجديد».
زعموا بما كسبوا من أوهام الدهريّين: أنّ الإنسان حيوان كالحيوانات، لا يختلف عنها في أحكامها، وهذه الأخلاق والسجايا التي عدّوها فضائل تخالف بجميعها سنن الطبيعة المطلقة الناتور، وإنما وضعها تحكّم العقل، وزادها تطرّف الفكر.
فعلى من بصر بالحقيقة على زعم أولئك المارقين أن يستنهج كلّ طريق إلى تحصيل شهواته، واستيفاء لذّاته، ولا يأخذ نفسه بالحرمان من ملاذّه، وقوفاً عند خرافات القيود الواهنة، والموضوعات الإنسانيّة الواهية.
وحيث إنّ الفناء حتمٌ على الأحياء، فما هو الشرف والحياء؟! وما هي الأمانة، والصدق؟! وأيّ شيء هو العفّة والاستقامة..؟!
ولهذا خان أولئك الأُمراء ملّتهم مع ما كان لهم من الرتب الجليلة، ورضوا بالدنيّة، واستناموا إلى الخِسّة، ونسفوا بيت الشرف العثماني في تلك الحرب وجلبوا المذلّة على شعوبهم بعرض من الحُطام قليل.
السوسياليست «الاجتماعيّون» والنهيليست «العدميّون» والكمونيست «الشيوعيّون»
هذه الطوائف تتّفق في سلوك هذه الطريقة «الدهريّة»، زيّنوا ظواهرهم بدعوى أنّهم سند الضعفاء، والمطالبون بحقوق المساكين والفقراء، وكلّ طائفة منها، وإن لوّنت وجه مقصدها بما يوهم مخالفته لمقصد الأُخرى، إلاّ أنّ غاية ما يطلبون إنّما هو رفع الامتيازات الإنسانيّة كافّة، وإباحة الكلّ للكلّ، واشتراك الكلّ في الكلّ.
وكم سفكوا من دماء، وكم هدموا من بناء، وكم خرّبوا من عمران، وكم أثاروا من فتن، وكم أنهروا من فساد، كلّ ذلك سعياً في الوصول إلى هذه المطالب الخبيثة، وجميعهم على اتّفاق في أنّ جميع المشتهيات الموجودة على سطح الأرض منحة من الطبيعة وفيض من فيوضها، والأحياء في التمتّع بها سواء، واختصاص فرد من الإنسان بشيء منها دون سائر الأفراد، بدعة في شرع الطبيعة سيّئة، يجب محوها والإراحة منها.
ومن مزاعمهم: أنّ الدين والملك عقبتان عظيمتان، وسدّان منيعان، يعتبرضان بين أبناء الطبيعة، ونشر شريعتها المقدّسة: الإباحة والاشتراك، وليس من مانع أشدّ منهما، فإذن من الواجب على طلاّب الحقّ الطبيعي، أن ينقضوا هذين الأساسين، ويُبيدوا الملوك وروساء الأديان.
ثمّ يعمدون إلى الملاّك وأهل السعة في الرزق، فان دانوا لشرع الطبيعة، فخرجوا عن الاختصاص، فتلك، وإلاّ أخذوا بأعناقهم قتلاً، وبأكظامهم[23] خنقاً; حتّى يعتبر بهم من يكون من أمثالهم، فلا يلوون رؤوسهم كبراً على الشريعة المقدّسة شريعة الطبيعة ولا تَزْورّ أعناقهم عصياناً لأحكامها.
نظر أبناء هذه الطوائف في وجوه الوسائل لبثّ أفكارهم، والإفضاء بما في أوهامهم إلى قلوب العامّة، فلم يجدوا وسيلة أنجح في زرع بذور الفساد في النفوس، من وسيلة التعليم; إما بإنشاء المدارس تحت ستار نشر المعارف، أو بالدخول في سلك المعلّمين في مدارس غيرهم; ليقرّروا أُصولهم في أذهان الاطفال، وهم في طور السذاجة، فتنتقش بها مداركهم بالتدريج.
فمن أُولئك الدهريّين من همّه بناء المدارس، ودعوة الناس إليها، ومنهم متفرّقون في بلاد أوربا، يطلبون وظائف التعليم، وينالون من ذلك طلبتهم، وجميعهم يتعاونون على إذاعة خيالاتهم الباطلة، وبهذا كثرت أحزابهم، ونمت شيعتهم في أقطار الممالك الأُوروبيّة، خصوصاً مملكة الروسية.
لا جرم أنّ هذه الطوائف إذا استفحل أمرها، وقوي ساعدها على المجاهرة بأعمالها، فقد تكون سبباً في انقراض النوع البشري، كما تقدّم ذكره. أعاذنا اللّه من شرور أقوالهم وأعمالهم.

مورمون
هذا النبي الأخير، والرسول الممتاز بالبعثة من قِبَل الناتور «الطبيعة» نشأ في انجلترا، ثمّ هاجر منها إلى أمريكا، وأعلن ما أُلقي إليه بإلهام الطبيعة: من أنّ النعمة العظمى يريد الإباحة والاشتراك إنّما يؤتاها من كان مؤمناً بالطبيعة، وليس لغيره من الكَفَرة بها حقّ التمتّع بتلك النعمة، واجتمع إليه عدد من ضعفة العقول، فألفّ منهم جمعيّتين: أحداهما من المؤمنين، والاُخرى من المؤمنات، وقال: لكلّ مؤمن حقّ التمتّع بكلّ مؤمنة، حتى كانت إذا سُئلت إحدى المؤمنات: زوجة من أنت؟ تجيب: أنّها زوجة جماعة المؤمنين، وإذا سُئل أحد أبنائهنّ: من أنت؟ أجاب: أنه ابن الجمعيّة، إلاّ أنّه إلى الآن لم يصعد لهيب فسادهم من هوّة الويل «هوّة جمعيتهم» .

دهريّون الشرقيّين
أما منكرو الأُلوهية، أعني الدهريّين الذين ظهروا في لباس المهذّبين، ولوّنوا ظواهرهم بصبغ المحبّة الوطنيّة، وزعموا أنفسهم طلاّب خير الأُمّة، فصاروا بذلك شركاء اللِّصّ، ورفقاء القافلة، ثمّ تجلّوا في أعين الأغبياء حَمَلة لأعلام العلم والمعرفة، وبسطوا للخيانة بساطاً جديداً، وتولاّهم الغرور بما حفظوا من كلمات قليلة ناقصة غير تامّة الإفادة، مسروقة من الأوهام المُبْطلين، وفتلوا سبالهم ـ شواربهم ـ كِبْراً وعُلُوّاً، ولقّبوا أنفسهم بالهادين والأدلاّء، وهم في أطباق جهل وأرتاق غباوة، وفي أُهُب جلود من دنس الرذائل، ومسوك جلود من قَذَر الذمائم، فأُولئك قوم قوي فيهم الظنّ، بأنّ العقل وثمرته من المعرفة، ينحصران في تبيّن وجوه الغدر، وتعرّف طرق الاختلاس.
وإنّني لفي خجل من ذكرهم، يدافعني الحياء عن رواية سيرهم، وحكاية أعمالهم، فإنّ مقاصدهم من الدناءة بحيث لا تخرج عن جيوبهم، يسعون في اقتلاع أساس أُمّتهم لشهوة بطونهم، يحدّدون شفارهم لتقطيع روابط الالتئام بين بني جنسهم، لا يبتغون بذلك عوضاً، سوى حشو مِعَدهم، وما أضيق مجال افكارهم، إلى الآن لم يخطُ أحدهم خطوة خارج كرشه، ولم يمدّ واحد منهم رجله لأبعد من فرشه، وليس في وسع القلم أن يتحرّك في هذا المجال الضيّق، غير أنّه يمكن أن يقال: إنّهم «بياجو» لغيرهم من أهل الضلالة ـ أي سيّئو ـ التقليد لهم ـ وما بقي من أوصافهم لا يخفى على فهم القارئين.
[1]ـ هي العقائد والخصال التي تكلّم عنها قبلُ، وأطلق عليها هنا أسم القصر المسدّس الشكل، ونعته بقصر السعادة.
[2]ـ في الأصل: تلفي .
[3]ـ الهَمَل من الإبل: المتروك ليلاً ونهاراً يرعى بلا راع.
[4]ـ المتروكة يموج بعضها في بعض كالغنم بلا راع.
[5]ـ لا محالة ولا بدّ وحقاً.
[6]ـ جمع حالقة: السنة الشديدة التي تحلق كلّ شيء، المنيّة، القول السيّىء، والمعنى الأخير أنسب.
[7]ـ أي خارجة عن ساحة الوجود.
[8]ـ أي محو الاختصاص والفروق بين الأفراد.
[9]ـ لاق بعقول البشر: أي ناسبهم وأعجبهم وأحبّوه ولصق بعقولهم وثبت.
[10]ـ الأزْل بفتح الهمزة وسكون الزاي الضيق والشدّة والحبس، وبكسر الهمزة: الداهية.
[11]ـ يسقط وينهدم.
[12]ـ أصحر: خرج إلى الصحراء.
[13]ـ الضَّريع: يبيس الشِّبْرِق، وهو نبات حجازيّ يؤكل وله شوك وله زهرة حمراء، فإذا يبس سُمّي ضريعاً، والزَّقُِّوم: كلّ طعام يقتل، وهو طعام كريه لأهل النار.
[14]ـ الأحقاب والأحقب جمع حُقُب: ثمانون سنة أو أكثر أو الدهر.
[15]ـ هو من قوّاد اليونان، ولد سنة 311 ق.م، وتُوفّي سنة 123 )ق.م(، هزم أُسطول الفرس في واقعة سلامين سنة 121 ق.م، ثمّ غضب عليه أبناء جِلْدته، ولكنّه لم يَخُنهم،كما ترى.
[16]ـ ارتكزيكسيس، اسم لثلاثة ملوك من ملوك فارس: الأوّل الملقّب بالطويل اليد 123 123 ق.م، والثاني : الملقّب بحسن الذاكرة، 113 132 ق.م، والثالث الملقّب بأوكوس131 112 ق.م الذي اجتاح مصر 113 ق.م.
[17]ـ جمع مقطرة: وهي خشبة فيها خروق بقدر أرجل المحبوسين.
[18]ـ الشاهنامة: هي الملحمة العظمى التي تشتمل على ستّين ألف بيت من الشعر الفارسي، ألّفها الفردوسي، الشاعر الفارسي الذي احتُفل بمرور ألف سنة على مولده في آسيا وآوروبا وأمريكا سنة 1123 من الميلاد.
[19]ـ «مزدك»، ظهر بعد «زرادشت» وكان ذلك في عهد «خسرو قباد» من ملوك فارس، وزعم أنّ اللّه بعثه ليأمر بشيوع النساء والأموال بين الناس كافّة؛ لأنّهم كلّهم أُخوة وأولاد أب واحد، وانقاد «قباد» إلى مذهب هذا المضلّل، وأباح له أن يخلو بالملكة زوجته، إلاّ أنّ أبن «قباد» وهو «كسرى أنو شروان» حسم الأمر بقتل «مزدك» وأصحابه.
[20]ـ في الأصل: عن.
[21]ـ الادهان: هو الاستسلام.
[22]ـ ضعفت
[23]ـ الكَظَم جمعهُ أكظام وكِظام: مخرج النَّفَس.

من سيرته الذاتية:
ولد جمال الدین الأفغاني سنة 1839م / 1254 هـ وهناك خلاف في محل ولادته قيل انه ولد في «أسد آباد» (الايرانية) و قيل أنه ولد في أسعد آباد (الافغانية) وهو ما ترجحه الدراسات الاكاديمية، ووالده السيد صفتر من السادة الحسينية، ويرتقي نسبه إلى عمر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالبg، ومن هنا جاء التعريف عنه بالسيد جمال الدين. يعتبر الأفغاني من أهم الشخصيات الفكرية في العالم الإسلامي وقد ظهر للمرة الأولى شاباً سواحاً يجعل من الشرق كله وطناً له فيزور بلاد العرب و مصر و تركية و يقيم في الأفغان وهند وفارس ويسافر إلى كثير من عواصم أوروبا . كانت لأسرته منزلة عالية في بلاد الأفغان، لنسبها الشريف، ولمقامها الاجتماعي والسياسي إذ كانت لها الإمارة والسيادة على جزء من البلاد الأفغانية، تستقل بالحكم فيه، إلى أن نزع الإمارة منها دوست محمد خان أمير الأفغان وقتئذ، وأمر بنقل والد السيد جمال الدين وبعض أعمامه إلى مدينة كابل، وانتقل الأفغاني بانتقال أبيه إليها، وهو بعد في الثامنة من عمره، فعني أبوه بتربيته وتعليمه، على ما جرت به عادة الأمراء والعلماء في بلاده.

أثره الأدبي و العلمي :
أقام في مصر، وأخذ يبث تعاليمه في نفوس تلاميذه، فظهرت على يده بيئة، استضاءت بأنوار العلم والعرفان.
وبعد احتلال الإنجليز مصر، سُمِحَ للأفغاني بالذهاب إلي أي بلد إختار أوروبا فقصد إليها سنة 1883، وأول مدينة وردها مدينة لندن، وأقام بها أياماً معدودات، ثم انتقل إلي باريس، وكان تلميذه محمد عبده منفياً في بيروت عقب إخماد الثورة، فاستدعاه إلى باريس، فوافاه إليها، وهناك أصدر جريدة (العروة الوثقى)، وقد سميت باسم الجمعية التي أنشأتها، وهي جمعية تألفت لدعوة الأمم الإسلامية إلى الاتحاد والتضامن والأخذ بأسباب الحياة والنهضة.
له أبحاث مع الفيلسوف الفرنسي إرنست رينان Renan الذي قال فيه: «قد خُيل إلي من حرية فكره و نبالة شيمه، وصراحته، وأنا أتحدث إليه، أنني أرى وجهاً لوجه أحد من عرفتُهم من القدماء، و أنني أشهد ابن سينا أو ابن رشد، أو أحد أولئك الملاحدة العظام اللذين ظلوا طيلة خمسة قرون يعملون على تحرير الإنسانية من الأسر.

وفاته:
كانت وفاته صبيحة الثلاثاء 9 مارس سنة 1897م، وما أن بلغ الحكومة العثمانية نعيه حتى أمرت بضبط أوراقه وكل ما كان باقياً عنده، وأمرت بدفنه من غير رعاية أو احتفال في مقبرة المشايخ بالقرب من نشان طاش فدفن كما يدفن أقل الناس شأنا في تركيا وتحت مراقبة الدولة.