البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

العلمانية - ماهيتها ، تعريفاتها ، مقاصدها

الباحث :  كريم عبد الرحمن
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  2
السنة :  السنة الثانية - شتاء 2016 م / 1437 هـ
تاريخ إضافة البحث :  December / 27 / 2015
عدد زيارات البحث :  3262
تحميل  ( 316.614 KB )
العلمانية
ماهيتها ـ تعريفاتها ـ مقاصدها
كريم عبد الرحمن[*]
على الرغم من الكم الهائل من الكتابات حول مصطلح العلمانية، لا يزال الغموض يكتنف هذا المصطلح (لفظاً ومعنى). ولجلاء هذا الغموض، كثيراً ما كانت تجري الدعوة إلى استعادة النص التاريخي الذي يحكي قصة العلمنة من خلال تجاربها. بل غالباً ما عكف الباحثون على تناول هذا الموضوع الحيوي ومراجعته انطلاقاً من التجربة الفرنسية بالذات. وسبب ذلك عائد إلى أن الجغرافيا الحضارية لفرنسا كانت ساحة الاختبار الحية للمفهوم، خصوصاً عندما تم إبعاد الكنيسة عن ممارسة السلطة السياسية والادارية، وبخاصة في مجال التعليم، وبالتالي إعادة كل ما يتعلق بعالم السياسة والاجتماع إلى العالم الدنيوي.
في ما يلي إحاطة إجمالية بالمصطلح والكيفية التي عولج فيها من جانب مفكرين غربيين استناداً إلى اختبارات التاريخ الغربي، وكذلك من جانب مفكرين مشرقيين قرأوا المسار الذي جرى فيه تلقيِّ العلمانية في بلادهم.
المحرر
يعرض المفكر الألماني لاري شاينر ستة تعريفات للعلمانية، هي: أفول الدين، والتناغم مع هذه الدنيا، وتحرر المجتمع من قيود الدين، وتحول المعتقدات والمؤسسات الدينية، وسلخ القدسية عن العالم، والسير من المجتمع القدسي إلى المجتمع العلماني[1]. لكن في ضوء الجذر اللغوي والمسيرة التاريخية للعلمنة، يبدو تعريفها بـ «التناغم مع الدنيا» و«أصالة الشؤون الدنيوية» تعريفاً عاماً ودقيقاً للعلمانية. ذلك أن «التحول إلى الدنيوي» في الأدبيات الفلسفية والعقلانية الغربية يعني التحول إلى الـ «هنا»، وإلى الحال، وإلى الأرضي، أي أنّ الوجود في علم الوجود (الأنطولوجيا) ينحصر في العالم المادي المحسوس، بينما تترك عوالم ما وراء الطبيعة، والآخرة، والله للنسيان. من الناحية الأنثروبولوجية تختزل الأبعاد المعنوية وغير المادية للإنسان إلى مستوياتها الدنيا والمادية، ومن الناحية الإبستيمولوجية لا يقبل سوى العلم الوضعي كمعرفة، ويصار إلى إنكار الدور المعرفي لمصادر أخرى من قبيل الوحي، والعرفان، والفلسفة[2].
العلمنة بهذا المعنى هي في الحقيقة العقلنة نفسها. وهي التي تؤمن بالعقل المكتفي بذاته، وتقصي في جانبها السلبي القدسية عن الحياة. فالعلمنة في الوهلة الأولى تركِّز على دور الإنسان في الوجود واستقلال تفكيره في المجالات التي يستخدم فيها عقله. والأهم من كل شيء دور الإنسان في الوجود بما في ذلك اكتشاف الأهداف الجديرة بالتحقيق في هذا العالم وأساليب هذه الأهداف، بصورة مستقلة عن الدين. لكن عملية العلمنة بهذا المعنى تقف في مواجهة الدين، ذلك أن العلمنة في الأساس بمعنى استقلال العقلانية، تفضي إلى عدم الثقة بالدين وزعزعة القوانين الدينية في الحياة البشرية عن طريق تكريس محورية العقل. وبناء على هذا النوع من الفهم تصبح شرعية القوانين البشرية وكذلك الأخلاق قائمة على العقل وليس على الدين. وحجة أصحاب هذا الرأي تقول: إذا كان الله قد أمرنا في موضع ما بإطاعة القوانين البشرية الوضعية فلأن هذه القوانين متلائمة مع الأخلاق والعقل[3].
أما على مستوى التمييز بين مفاهيم شائعة ومتصلة بعضها ببعض مثل العلمنة والعلمانية والعلماني، فمن الضروري الانتباه ـ كما يقول برايان ويلسون ـ إلى أن مفهوم الأولى يدل على العملية، والثانية على التوقف، والثالثة على البنية، بمعنى أن العلمنة تشير إلى عملية عينية تصبح فيها الأشياء والأمور علمانية، وهي عملية ترتبط بتقليص الأنشطة الدينية والمعتقدات وأساليب التفكير الدينية وبالتالي زوالها، وتتلازم عادة مع سائر عمليات التحول في البُنى الاجتماعية أو تظهر كنتيجة غير إرادية أو غير واعية لتلك العمليات[4].
العلمانية إذن، مفهوم كلي منه تصدر المفاهيم الجزئية المتفرعة عنه. وهي كما يقول الباحث الانكليزي برايان ويلسون شيء فوق الإيديولوجيا، لأنها تدعو إلى رؤية كونية محددة وهي في الآن عينه تعاضد عمليات العلمنة في الواقع الخارجي من خلال توظيفها وتكييفها في إطار خصوصية كل بيئة أو مجتمع. من هنا كانت العلمانية متعارضة مع الدين دوماً، لأن كليهما يطالب بنوع من الإيمان والالتزام والطاعة، ويتنازعان دوماً ومباشرة للسيطرة على أرض واحدة. لا نقاش في أساس النزاع بين الدين والإيديولوجيا العلمانية، بيد أن ثمة نظرتين في إطار هذا النزاع: العلمانية المتطرفة والإلحادية ترفض كافة أشكال الاعتقاد بالأمور الماورائية والأعمال ذات الصلة بها، وتدعم المبادئ غير الدينية والمعارضة للدين باعتبارها ركائز الأخلاق الشخصية والنظام الاجتماعي في مختلف ميادين الحياة الإنسانية، أما العلمانية الاجتماعية وخصوصاً تلك التي تسود الميدان السياسي، فهي تختزل الدين إلى مؤسسة مختصة بالحياة الفردية للإنسان[5] .
في ضوء ذلك يبدو حسب البعض أن المراد من المجتمع العلماني هو المجتمع الذي تكتسب فيه العلمنة حالة واقعية، والنموذج الكامل للمجتمع العلماني هو ذاك المجتمع الحديث القائم حالياً في العالم الغربي، والذي يمكن أن يساعدنا في معرفة خصائص المجتمع العلماني.
إشكالية المصطلح
لم يستوِ تعريف «العلمنة» أو «العلمانية» على خط واحد، محدّدٍ وواضح. وهذا المفهوم، هو كالديمقراطية والعقلانية، والتنوير والحداثة إلخ.. فضلاً عن مفاهيم مشابهة أخرى يبدو ضبطها وتحديدها أمراً متعذراً طالما بقيت في دائرة التجريد. أي بمعزل من تحيُّزها في الزمان وحقول التجربة. إذ أن المفهوم في إطاره النظري المجرد يبقى ماهية بلا هوية. فقط عندما يتحيّز في مجال الإختبار والتجربة يغدو المفهوم قابلاً لإجراءات النقد أو الحكم عليه.
ثمة سبب آخر لاضطراب التعريف، عائد إلى صدوره من منطقة تداول تمازجت فيها الرؤية الابستمولوجية كمجال لـ “قوننة” المفاهيم، بالتجربة الانسانية والسياسية التي أطلقت المفاهيم وتعاملت معها وفقاً لشروطها الزمانية والمكانية الخاصة.
في ما يتصل بالجذور اللغوية والاستعمالات التاريخية فإن العلمانية والعلمنة هما مفردتين متأتيتين من الجذر اللاتيني (Saeculum)، وهو ترجمة للمفردة اليونانية «آيون» أو «آيوناس» بمعنى الأيام أو القرن أو الاهتمام بالحال. ومفردة العلمانية في الكتاب المقدس هي ترجمة لـ «Aion» اليونانية، وقد استخدمها هومر بمعنى طاقة الحياة، والحياة، وطول الزمن. في البداية كان هذا المصطلح يعبّر عن طول عمر الإنسان، أو الجيل، ثم شاع عند أفلاطون ومعاصريه بمعنى العمر الخالد، والخلود، والأزلية، لمفردة (aion)، جذور هندو ـ أوروبية، وهي مشتقة من (ai-o) بمعنى مدة العمر أو قوة الحياة، وفي السنسكريتية نواجه مفردات: (ayn)، (ayuni)، (ayus)، (ayuh)، اللاتينية، وبما أن كلمة «يوم» استخدمت في العربية بمعنى اليوم الواحد، والنهار، والأيام، والدهر، والعصور، والعصر، والعهد، وطول الحياة، والعالم، يمكن القول إن «يوم» له بهذا المعنى نفسه جذور مشتركة مع المصطلح الهند ـ أوروبي.
وهكذا يمكن تفسير العلمنة باعتبارها التطابق مع القرن، والزمن، والأيام، وهذه الدنيا، أو بمعنى التكيّف مع العصر، و «هذا العالمي»، و «الأيّامي» و «الدنيوي»، وأخيراً بمعنى «العالمية» أو «العولمية»[6].
يذهب علماء الاجتماع إلى أن مفهوم العلمانية استخدم تاريخياً على الصعيد التطبيقي ضمن طرق وصُوَرٍ شتى. في هذا المجال يشير باحثون إلى أربع صُوَر على الشكل التالي:
الصورة الأولى: ترك المناصب الكنسية: في نهاية القرن الثالث أطلقت العلمنة على عملية ترك القس مناصبه وأدواره الكنسية، وميله نحو الـ «Soeculom» (القرن، الزمن، الأيام، أو الدنيا)، هنا وكذلك في علم المصطلحات المسيحية يقابل «القرن» كلمة «القاعدة»، الحياة في «القرن» أو في «هذا العالم» تقع على الضد من الحياة في القواعد وحسب القواعد، وهي الحياة الخاصة برجال الدين (Clerc) ثمة نوعان من الحياة، ونوعان من الواجبات والتكاليف، ونوعان من الإنسان المسيحي، من جهة يوجد رجال الدين المبتعدون عن المشاغل الدنيوية والذين يقفون حياتهم كلها لشؤون الكنيسة والرب، ومن جهة ثانية توجد «مخلوقات الله» التي تعيش في «هذا العصر» وتشكل مجتمع المؤمنين، وكما كانت العملية تسمى العلمنة، كان رجال الدين الذين يتخلون عن مناصبهم الكنيسة يسمون رجال دين علمانيين.
الصورة الثانية: جعل أملاك الكنيسة دنيوية: بمعنى لاحق أطلقت العلمنة على عملية نقل ممتلكات الكنيسة ورجال الدين إلى السلطة والدولة، تميّز مفردتا «Sacred»، و»Secular»، على العموم الشؤون الماورائية عن شؤون هذا العالم، ومع أن بعضاً يعتبرون سلب ملكية الكنيسة الجوهر التاريخي والمعنى الأصلي للعلمنة، بيد أن العلمنة في الحقيقة تفتقد جوهراً تاريخياً ومضموناً اقتصادياً واحداً، وتظهر في الأزمنة والأمكنة المختلفة بأزياء وأشكال متنوعة.
الصورة الثالثة: تحرر الإنسان من الدين: العلمنة في الثقافة العقلانية (التنويرية) والحركات السياسية والاجتماعية المناهضة لرجال الدين، تعبّر عن عملية يزاح فيها الدين عن المجالات العامة كالنظام السياسي والاجتماعي والثقافي ليدفع إلى المجال الشخصي للإنسان، ويدير الإنسان مجالاته العامة العامة اعتماداً على عقله بصورة مستقلة عن الدين.
الصورة الرابعة: إعادة التفكير في أسس اللاهوت المسيحي: أدت العلمنة في اللاهوت المسيحي إلى إعادة التفكير والتغيير في الأسس اللاهوتية الخاصة بالعلاقة بين الدين والدنيا. لم تكن المسيحية الأولى دين الدنيا، ولذلك لم تستطع كدين «قدسي» وشامل الاهتمام بالدنيا بنحو مستقل وفي إطار تعاطيها مع الآخرة، وكان من تبعات الافتقار للمساحة الدنيوية وعدم الموازنة الإيجابية بين الدينا والآخرة ظهور «التاريخ القدسي» في الحضارة المسيحية. لكن التكوين العلماني في المسيحية كان بحاجة إلى تحول في الركائز النظرية للاهوت المسيحي، ذلك أن هذا اللاهوت لا يعترف بمكان خارج المساحة «القدسية»، وهو ما دفع الكنيسة المسيحية في القرون المتأخرة إلى أن تقوم بمراجعة فعلية في أسس فهمها وتعيد بذلك قراءة العلاقة بين الدين والدنيا وهو ما أطلق عليه اسم العلمنة. على هذا الأساس ووفق تصور خاطئ للعلمانية، يعتبر بعض المفكرين المسلمين المعاصرين أنّ التحول إلى النزعة الدنيوية في الإسلام سالباً بانتفاء الموضوع، لأن الإسلام بسبب اهتمامه بالدنيا علماني في ذاته[7].
ضبابية المفهوم
سبق وأشرنا إلى أن العلمانية لم تتحول إلى مفهوم يركن إلى قاعدة معرفية موحدة ومتفق عليها في الفكر السياسي الحديث. وهذا يعود إلى كون المصطلح من أكثر المصطلحات غموضاً وإبهاماً بين المفاهيم التي رافقت أزمنة الحداثة في أوروبا والغرب. كان المؤرخ والمفكر المصري الراحل عبد الوهاب المسيري أحد أبرز المفكرين العرب المتأخرين الذين تصدوا لهذه المشكلة المعرفية. حول هذا المشكِل يضع المسيري مجموعة من الأسباب توضح مصدر ضبابية المصطلح[8]:
الأول: إن مصطلح «علمانية» هو مصطلح منقول من المعجم الأجنبي، ومن التشكيل الحضاري الغربي. لذلك فإن دلالته الحقيقية تتحدد بالإشارة إلى هذا المعجم وكذلك إلى هذا التشكيل الحضاري بحيث يكتسب مضمونه الحقيقي منهما.
الثاني: تُوجَد داخل التشكيل الحضاري الغربي عدة تشكيلات فرعية: التشكيل الفرنسي (الكاثوليكي) ـ التشكيل الحضاري الإنجليزي ـ التشكيل الألماني (البروتستانتي) والتشكيل الروسي (الأرثوذكسي)، وقد عرَّف كل تشكيل هذا المصطلح بطريقة مختلفة إلى حدٍّ ما من خلال تجربته الخاصة.
الثالث: خاضت هذه التشكيلات الحضارية تحولات مختلفة، وتزايدت فيها معدلات العلمنة واختلفت المواقف من العلمانية باختلاف المرحلة التاريخية وباختلاف الجماعة التي تقوم بعملية التعريف.
الرابع: مع انتقال المصطلح إلى العالم العربي الإسلامي، فإن المجال الدلالي المضطرب للكلمة ازداد اضطراباً واختلالاً للأسباب التالية:
أ)ـ حينما ينتقل مصطلح مثل «علمانية» من معجم حضاري إلى معجم حضاري آخر وتتم «ترجمة» المصطلح، فإنه يبقى يحمل آثاراً قوية من سياقه الحضاري السابق الذي يظل مرجعية صامتة له.
ب)ـ تجربة العرب والمسلمين مع متتالية العلمنة مختلفة؛ فعمليات العلمنة لم تولد في واقعهم التاريخي والاجتماعي “رغم وجود عناصر علمنة مختلفة فيه” وإنما أتى بها الاستعمار الغربي.
وهكذا أُختُزلت مناقشة المصطلح في العالم العربي إلى مجرد طريقة ترجمته، ولم تَعُد القضية وصف الظاهرة العلمانية وتحليلها وتسميتها حسبما نراها نحن “من خلال تجربتنا وسعادتنا أو شقائنا بها” بل انصب الجهد الفكري والبحثي على مناقشة أحسن الترجمات لكلمة «علمانية» وأقربها إلى المعجم الغربي وأكثرها دقة. وهكذا سقطنا في شرك الموضوعية المتلقية[9].
وهنا يشير المسيري إلى أنّ المعجم العربي يزخر بترجمات مختلفة لكلمة «سكيولار» و«لائيك» مثال ذلك:
1 ـ «العِلْمانية» (بكسر العين) نسبة إلى «العِلْم».
2 ـ «العَلْمانية» (بفتح العين) نسبة إلى «العَلْم» بمعنى «العالم».
3 ـ «الدنيوية» أي الإيمان بأنها هي «الحياة الدنيا» ولا يوجد سواها.
4 ـ «الزمنية» بمعنى أن كل الظواهر مرتبطة بالزمان وبالدنيا ولا علاقة لها بأية ماورائيات.
5 ـ وتُستخدَم أحياناً كلمة «لائيك» (لائيكي ولائيكية)، خصوصا في المغرب ولبنان من دون تغيير[10].
ماهية العلماني.. ماهية العلمانية؟..
في أواخر القرن الثالث الميلادي استخدمت مفردة العلمانية كمصطلح لوصف رجال الدين المعرضين عن العزلة والرهبانية والمقبلين على الحياة الدنيوية. ما استخدم هذا المصطلح في ذلك العصر للتمييز بين «المحاكم العرفية» و«المحاكم الكنيسة».
في بواكير القرن السابع عشر الميلادي كانت مفردة «سكولاريس» secularis شائعة بين الناس وتستخدم للتمييز بين الأمور المقدسة الدينية Scared والأمور العرفية الدنيوية Secular. مفهوم العلماني كان يستخدم للأمور الخاصة بهذا العالم أو غير المقدسة والناسوتية، وكان هذا الاستخدام يلمح إلى القول بتفوّق الأمور والمفاهيم المقدسة أو الدينية.
يطلق العلماني اليوم على الشخص الذي لا يهتم بالشؤون الدينية في تأمين سعادته الدنيوية ويؤمن احتياجاته كلها من العلوم التجريبية ومن عالم المادة ومن العقل الذاتي المحور.
أما العلمانية المستمدة من مفردة العلماني، فقد استخدمت في معان ومجالات متنوعة. هذه اللفظة علامة وعنوان لعدد هائل من الأحداث والآليات والتقاليد والمؤسسة والأقوال والنظريات والايديولوجيات، وهذا التنوع والتعدد أفرز تعاريف مختلفة لهذه المفردة. من جهة، لأن مثل هذه الألفاظ ليست من الأمور الماهوية، لذلك ليس لها تعريف حدي، لأن التعريف الحدي للشيء ممكن عندما نتوفر على جنسه وفصله[11]. كذلك يمكن اعتبار العلمانية نزعة تدعو إلى إقصاء أو عدم الاكتراث للدين وتهميشه عن مختلف مساحات الحياة البشرية. العلمانية بهذا المعنى من خصوصيات الحضارة والثقافة في الفترة الحديثة ومن مكونات الحداثة الغبية، وحسب بعض التعابير فهي الجوهر الرئيسي للحداثة الغربية.
أنصار العلمانية يحاولون عن وعي وإرادة واختيار اقصاء وتخطئة كل أشكال الاعتقاد بالأمور والمفاهيم الماورائية والاستخدامات الخاصة بها، ومناصرة الأصول غير الدينية وبتعبير إيجابي ـ الاصل التجريبية والعقلانية كأساس للأخلاق الشخصية والنظام الاجتماعي ومهما يكن من قول في هذا الشأن فإنّ من النقاط اللافتة في تعريف هذه المفردة هي أن معظم القواميس والموسوعات اعتبرتها نظرية أخلاقية، وقالت في تعريفها: العلمانية نظرية حول أن الأخلاق يجب أن تبتني فقط على أمور ترتبط بسعادة الإنسان في الحياة الدنيا، وترك كل الاعتبارات والملاحظات الأخرى من قبيل الاعتقاد بالله والعالم الآخر. في ضوء هذا التعريف يمكن إعتبار العلمانية نظرية حول الجانب العملي من حياة البشر وتمييزها عن النظريات الفلسفية المحضة. بكلمة ثانية: العلمانية فلسفة حول الحياة وليست نظرية معرفية أو انطولوجية حول حقائق العالم. تأتي هذه الرؤية نتيجة حصر سعادة الإنسان في حدود تدخل العقل والتجارب البشرية، الحؤول دون تدخل الدين في هذا المضمار. وعليه، ينبغي عدم الخلط بين العلمانية والنظريات والمدارس الأخرى المطروحة حاليا في الادبيات الفلسفية والاجتماعية في العالم. العلمانية نظرية عامة حول الأخلاق والسعادة البشريين، لكنها ليست أوامر وتعليمات خاصة لهذا الشأن. بتعبير آخر: ليست العلمانية ايديولوجيا محددة كباقي الايديولوجيات الشائعة، ومع ذلك لها علاقاتها بكل تلك الايديولوجيات. إذا أردنا فحص العلاقة بين العلمانية والايديولوجيات الاخرى مثل الليبرالية والشيوعية، لكانت العلمانية إطاراً معرفياً عاماً، وفي الوقت ذاته إلزامياً يمكن على المستوى العملي الجمع بينه وبين كل هذه المدارس. شعار العلمانية هو: يجب عدم تخصيص مرجعية للدين في تأمين السعادة الدنيوية، والمرجعية المعتبرة الوحيدة لذلك هي العقل البري المستقل (المنقطع عن الوحي) والتجربة. بهذه المرجعية تغدو أي مدرسة عملية ناتجة عن العقل والتجربة مقبولة من وجهة نظر العلمانية، وهذه النقطة تحديداً هي رمز التعددية السائدة في العصر الحديث[12].
تاريخ ظهور نظرية العلمانية
يلاحظ الباحثون إلى أنّ أول من طرح العلمانية كنظرية رسمية هو جورج جي. هاليواك في نحو سنة 1846م في بريطانيا. ومع أن رفض تدخل الدين في مجالات الحياة المختلفة يعود إلى عصر النهضة وعصر التنوير «القرنين الخامس عشر والسادس عشر للميلاد» نتيجة النزاعات التي نشبت بين العلم والدين من جهة وبين العقل والدين من جهة ثانية، فإنّ من المفيد عدم الخلط بين حالة تاريخية حدثت تلقائياً، ونظرية ايديولوجية عرضها عدد من المفكرين كأطروحة بديلة لإدارة حياة البشر وتحقيق سعادة الإنسان.
منذ القرون الوسطى، وفي نهاية هذه القرون على وجه التخصيص، تعالت نداءات تدعو إلى رفض تدخل الدين في ميادين الحياة البشرية المختلفة، وفكر بعض في إحلال العقل الذاتي المحور والعلوم الاجتماعية. بعبارة ثانية: تارة تكون الأخلاق العلمانية ثمرة طبيعية للعلمنة ولها طابع لاإرادي، وتارة تعتبر لازماً حتمياً ضرورياً لعلمنة المجتمعات الدينية على أساس الرؤية العلمانية المفروضة[13].
العلمانية كقراءة مشرقية
مع تدفقات الحداثة بمعارفها ومفاهيمها وتقنياتها على العالمين العربي والاسلامي. انصرف رهطٌ من الباحثين والمفكرين ـ عرب ومسلمين ـ إلى البحث عن إطار معرفي جامع لمصطلح العلمانية. ومع أن كثيرين من المشرقيين اجتهدوا في تأصيل المصطلح إلا أنهم لم يتجاوزوا ما فعله نظراؤهم الغربيون من تأصيلات ظلت مفتوحة على التأويل ولم تبلغ نتائجها الحاسمة.
فلقد أخفق علم الاجتماع الغربي كما مرّ معنا في تطوير نموذج مركب وشامل للعلمانية، الأمر الذي أدى إلى تعدد المصطلحات التي تصف جوانب وتجليات مختلفة للظاهرة نفسها، والافتقار إلى وضوح الرؤية العامة العريضة والعجز عن تحديد البؤرة المحددة.
ثمة من هؤلاء من انصرف إلى تقسيم للمفهوم فأقامه على ناحيتين: الأولى جزئية ويعني بها العلمانية باعتبارها فصل الدين عن الدولة، والثانية شاملة ولا تعني فصل الدين عن الدولة وحسب، وإنما فصل كل القيم الإنسانية والأخلاقية والدينية، لا عن الدولة وحسب وإنما عن الطبيعة وعن حياة الإنسان في جانبيها العام والخاص، بحيث تُنزع القداسة عن العالم ليتحول من بعد ذلك إلى مادة استعمالية يمكن توظيفها لصالح الأقوى[14].
تعني“العلمانية الجزئية” رؤية جزئية للواقع تنطبق على عالم السياسة وربما عالم الاقتصاد، ويعبر عنها كثيراً بمقولة فصل الكنيسة عن الدولة. والكنيسة هنا تعني “المؤسسات الكهنوتية” عموماً، أما الدولة فهي تعني “مؤسسات الدولة المختلفة”. ويوسع البعض هذا التعريف ليعني فصل الدين(والدين وحده) عن الدولة بمعنى الحياة العامة في بعض نواحيها. والعلمانية الجزئية وفق هذا التأويل، توفر حيِّزاً واسعاً للقيم الانسانية والأخلاقية المطلقة، بل وللقيم الدينية ما دامت هذه القيم لا تتدخل في عالم السياسة (بالمعنى المحدد)، أي أنها صيغة لا تسقط في النسبية أو العدمية. وهذه الصيغة هي الشائعة بين عامة الناس في الشرق والغرب، بل وبين الكثير من المفكرين العلمانيين. ويمكن تسميتها “العلمانية الأخلاقية أو الانسانية”، ثم إن هناك بعض المفكرين الاسلاميين لا يرون أن هذه العلمانية الجزئية الأخلاقية تتناقض والمنظومة الدينية الإسلامية، وأنهما يمكنهما التجاور والتعايش.. بل والتكامل)[15].
أما العلمانية الشاملة، أو «العلمانية العدمية» ـ حسب المسيري رـ فهي رؤية شاملة للكون بكل مستوياته ومجالاته، لا تفصل فقط الدين عن الدولة وعن بعض جوانب الحياة العامة، وإنما تفصل كل القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية عن كل جوانب الحياة العامة فى بادئ الأمر ثم عن كل جوانب الحياة الخاصة في نهايتها، إلى أن يتم نزع القداسة تماما عن العالم (الإنسان والطبيعة) والعالم، من منظور العلمانية الشاملة (شأنها فى هذا شأن الحلولية الكمونية المادية)، مكتفٍ بذاته، وهو مرجعية ذاته، عالم متماسك بشكل عضوى، لا تتخلله أية ثغرات ولا يعرف الانقطاع أو الثنائيات، خاضع لقوانين واحدة كامنة فيه، لا تفرق بين الإنسان وغيره من الكائنات. ولذا فهو عالم يتسم بالواحدية المادية الصارمة (وهذه كلها صفات الطبيعة / المادة). والعلمانية الشاملة بطبيعة الحال لا تؤمن بأية مطلقات أو كليات، ولعل المنظومة الداروينية الصراعية هى أكثر المنظومات اقتراباً من نموذج العلمانية الشاملة.
«المطلق» هو المركز الذي يتجاوز كل الأجزاء ولا يتجاوزه شيء، وهو المبدأ الواحد والركيزة أو المرجعية النهائية. والأنساق الفكرية العلمانية الشاملة قد تنكر أية نقطة مرجعية متجاوزة لهذه الدنيا، إلا أنها تستند إلى ركيزة أساسية ومرجعية نهائية كامنة في المادة (الطبيعة أو الإنسان أو التاريخ)، ولذا فهي مرجعية نهائية مادية تشكل مطلق هذا النموذج، فهي من ثم «مطلق علماني». وهذا المطلق يمكن أن يتخذ عدة أسماء ويتبدَّى من خلال عدة أشكال (اليد الخفية وآليات السوق عند آدم سميث ـ وسائل الإنتاج عند ماركس ـ الجنس عند فرويد ـ الروح المطلقة عند هيجل ـ قانون البقاء عند داروين ـ إرادة القوة عند نيتشه ـ التقدم اللانهائي في الحضارة العلمانية ـ عبء الرجل الأبيض في التشكيل الاستعماري الغربي ـ روح التاريخ عند الهيجليين). وكل هذه المفاهيم إن هي إلا تنويعاً سطحياً على مفهوم الطبيعة/المادة.
وقد بدأت المنظومة العلمانية بأن جعلت الإنسان المطلق العلماني. ولكن مركز المطلقية انتقل، وبالتدريج، إلى عالم الأشـياء (الطبيعة/المادة ـ الدولة ـ السـلعة ـ وسـائل الإنتاج... إلـخ). ومن ثم أصبحت كل الأمور، في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير، طبيعية/مادية لا قداسة لها.[16]
ثلاث قراءات سوسيولوجية
ما يلفت إليه كثير من علماء الإجتماع أن السجال حول «العلمنة» أو «العلمانية» في المجتمعات الإسلامية له أفقه وسياقه الخاص وإن تشابه في بعض وجوهه مع السجال الدائر داخل المجتمعات الغربية. في هذا المضمار يجري الحديث عن ثلاث رؤى في قراءة الموضوع هي: القراءة الأدنى، والقراءة الأقصى، والقراءة المعتدلة:
الرؤية الأولى: القراءة الأدنى: العلمانية وفقاً للقراءة الأدنى تحاول تقليص دور الدين وحصره بالمجال الفردي للإنسان وعدم تدخل الدين في الميادين الاجتماعية. وفي قراءة خاصة تطالب بإقصاء الدين عن ساحة السلطة والحكم. طبقاً لهذه الرؤية يحق لكل واحد من أبناء البشر أن يعمل بطريقة دينية تماماً في إطار سلوكه الشخصي، وتنظيم حياته طبقاً لأوامر الدين، اشتهرت هذه الرؤية في الأدبيات السياسية لبلادنا بعبارة «فصل الدين عن السياسة»، وكان لها أنصارها ومعارضوها. وبتسليط الضوء على النظريات الشبيهة للعلمانية نلاحظ أن فصل الدين عن الدولة ورفض مرجعية الدين في إدارة الحياة الاجتماعية هو مضمون النظرية اللائيكية (الدنيوية) المختلفة عن العلمانية[17].
وكما أسلفنا ترمي العلمانية كمدرسة فكرية ـ عملية إلى اقصاء الدين والأمور الماورائية عن كل مستويات العلاقات الفردية والاجتماعية. يحاول هذا المذهب تفريغ كل ميادين الحياة البشرية من المفاهيم المعنوية الماورائية والدينية، وعلى حد تعبير بعض أنصاره: يريد تطهير هذه الميادين الحياتية من السحر، وإخلاءها من الأمور القدسية غير القابلة للنقد. لكن اللائيكية هي التي تدعي فصل الدين (وبطابعه الكنسي) عن الدولة وترفض تدخله في ميدان السياسة.وحينما تكون العلمانية نظرية عامة، أي تختص بعدم تدخل الدين في تأمين السعادة الدنيوية للبشر، بما في ذلك المجال السياسي، فستكون في هذا السياق هي واللائيكية شيئاً واحداً. لكن من حيث المفهوم والمنبت ليست هاتان النظريتان بشيء واحد[18].
الرؤية الثانية: القراءة القصوى للعلمانية: العلمانية في هذه الرؤية تساوي الإلحاد. طبقاً لهذه الرؤية فإنّ أي سلوك أو معتقد له طابع ديني فهو مرفوض ومتروك. يقال أحياناً إنّ العلمانية تستصحب نوعاً من الإلحاد. ويلوح أن هذا الادعاء أيضاً لا يتطابق مع الادعاء الحقيقي للعلمانية في كثير من الحالات. بعبارة ثانية، هناك عدد ملحوظ من أنصار هذه النظرية الذين حاولوا التنظير لها وإضفاء الطابع العملي عليها لا يحملون مثل هذه الرؤية، ولا يرفضون الإلتزام بالمعتقدات الدينية وأداء السلوكيات الدينية التي لا تتعارض مع مرجعية العقل الذاتي المحور والتجارب العلمية.
الرؤية الثالثة: القراءة المعتدلة للعلمانية: طبقاً لهذه القراءة ليس للعلمانية أساساً، وعلى مستوى الادعاء في أقل التقادير، أي تعارض مع الدين، المهم هو رفض المعايير المزدوجة، والمرجعية الدينية والمعتقدات والممارسات الدينية مقبولة طالما لم تتعارض مع مرجعية العقل العلماني وتطابقت معها وتكون محبّذة في بعض الأحيان[19]
تأصيل المفهوم انثروبولوجيّاً
لعل أكثر من ذهب من فلاسفة التاريخ الحديث إلى تأصيل فكرة العلمنة ومقاربتها بعمق وتفصيل هو المفكر الاميركي من أصل أرجنتيني خوسيه كازانوفا في كتابه المعروف: «الأديان العامة في العصر الحديث»[20]. يدعو كازانوفا في مقاربته إلى التمييز بين مفهوم العلمنة من جهة ونظرياتها من جهة أخرى. في ما يتصل بالعلمنة بوصفها مفهوماً يرى أن التمييز بين مفهوم «علماني» أو اشتقاقه «علمنة» من جهة، والنظرية السوسيولوجية للعلمنة نفسها من جهة أخرى، هو تمييز جوهري. ذلك لأن المفهوم نفسه متعدد الأبعاد للغاية، ومتقلب بشكل ساخر في دلالاته الضمنية المتناقضة، وبالتالي، فهو مفهوم مثقل بدلالات متنوعة تراكمت عبر مساره التاريخي.
وللخروج من هذا الغموض والتعقيد يقترح كازانوفا قاعدة نظرية لتأصيل المفهوم تقوم على ملاحظة ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى:
لو عدنا إلى الأصل اللغوي لهذا المفهوم، لوجدنا بحسب منظورية كازانوفا ـ أن الكلمة اللاتينية القروسية saeculum تتضمن ثلاث دلالات لا تتميز الواحدة منها عن الاخرى. (secolo, siglo, siècle). فكلمة siglo، كما وردت في معجم كاسيل للغة الاسبانية، تعني: «قرن، زمن، عالم». غير أن الدلالة الأولى «قرن» دون غيرها من الدلالات الأخرى ظلت متداولة في «الزمن» العلماني المعاصر و«العالم» العلماني المعاصر، بما أن تمييز الزمان والمكان إلى حقيقتين مختلفتين، الاولى مقدسة والثانية دنيوية، أصبح فارغاً حقاً من أي معنى منذ عهد بعيد، حتى في إسبانيا الكاثوليكية.
المرحلة الثانية: وهي ذات صلة بالمرحلة السابقة بالرغم من اختلافها عنها من خلال القوانين الكنيسة، حيث تشير العلمنة إلى ما قد يسمى «فعلاً قانونا» تترتب عليه نتائج قانونية حقيقية بالنسبة إلى الفرد، فالعلمنة تدل على السيرورة الشرعية (القانونية) التي يترك بموجبها الشخص «الديني الدير من اجل العودة إلى «الدنيا» وإغواءاتها، فيصبح بالتالي شخصاً «زمنيا». ومن الناحية القانونية، يمكن للكهنة أن يكونوا «دينيين» و«زمنيين» معاً. والكهنة الذين قرروا الانسحاب من الدنيا (saculum) وتكريس أنفسهم لحياة مثالية شكلوا الأكليروس الديني. أما الكهنة الذين عاشوا في الدنيا فقد شكلوا الاكليروس الدنيوي. وحين يصف ماكس فيبر العلمنة بأنها العملية التي يتحرك بواسطتها مفهوم «الدعوة»، أو ينتقل من النطاق الديني إلى النطاق الدنيوي تعبيراً، وللمرة الأولى في هذا السياق، عن ممارسة الانشطة الزمنية في الدنيا، فهو يلجأ إلى المعنى الشرعي للمفهوم على سبيل المقارنة.
المرحلة الثالثة: وبالاشارة إلى السيرورة التاريخية الفعلية، استعمل مصطلح «علمنة» للمرة الأولى للدلالة على قيام الدولة عادة، وعلى نطاق واسع، بمصادرة الأديرة والأراضي والأوقاف التابعة للكنيسة، واستملاكها عقب الاصلاح البروتستانتي والحروب الدينية التي نجمت عن هذا الاصلاح. ومنذ ذلك الحين، أصبحت العلمنة تعني «الممرّ»، والانتقال، [أو نقل الأشخاص والأشياء والوظائف والمعاني، وهكذا دواليك]، من موقعها التقليدي في النطاق الديني إلى النطاقات الزمنية. وعلى هذا النحو، أصبح من المتعارف عليه الاشارة إلى العلمنة باعتبارها استيلاء المؤسسات الزمنية، قسراً أو بحكم الأمر الواقع، على الوظائف التي كانت المؤسسات الكنسية تسيطر عليها تقليدياً[21].
غير أن النقطة التي تحتاج إلى عناية مضاعفة في سياق رؤية كازانوفا للمراحل الثلاث التي إِبتنى عليها تأصيله للعلمانية، هو الاختبار التاريخي الذي خضع له مفهوم العلمانية. وبهذه الملاحظة يمكن القول أن المراحل المشار إليها لا تجد بياناتها ومصاديقها ما لم تسلِّم بحقيقة أن الواقع التاريخي لأوروبا خلال القرون الوسطى، وفي كثير من جوانبه، كان يقوم فعلياً على نظام تصنيفي يقسِّم الدنيا إلى مملكتين أو نطاقين متباينين: «ديني» و«زمني». والفصل بين هاتين المملكتين ضمن هذا النوع من التقسيم الخاص غير المألوف تاريخياً بين المقدس والدنيوي لم يكن بالتأكيد مطلق التباين كما إعتقد دوركهايم دائماً. فقد شابَهُ الكثير من الغموض والمرونة والخلط، وغالباً الالتباس الصريح بين حدوده الفاصلة. ولعل الأنظمة العسكرية هي مثال واضح على ذلك. أما ما يجب إدراكه فهو ان الثنائية قد تمأسست في أنحاء المجتمع كله بحيث تهيكل الحيز الاجتماعي بحد ذاته بصورة ثنائية[22].
نظرية العلمنة في العلوم الإجتماعية
لعل نظرية العلمنة هي النظرية الوحيدة التي استطاعت الارتقاء إلى وضعية نموذجية حقيقية ضمن العلوم الاجتماعية الحديثة، فبشكل أو بآخر، وربما باستثناء ألكسيس دي توكفيل وفيلفريدو باريتو ووليم جيمس، أجمع كل الآباء المؤسسين لهذه العلوم على مقولة العلمنة: من كارل ماركس إلى جون ستيوارت ميل، ومن أوغوست كونت إلى هربرت سبنسر، ومن إ.ب. تايلور إلى جيمس فريزر، ومن فريدناند تونيس إلى جورج سيمل، ومن اميل دوركهايم إلى ماكس فيبر، ثم ليتواصل الاجماع مع فيلهلم فوندت وسيغموند فرويد، وليستر وارد ووليم ج. سامنر، إلى روبير بارك وجورج هـ. ميد. وفي الواقع، فقد بلغ هذا الاجماع مبلغاً إلى الحد الذي لم تعد تتعرض فيه هذه النظرية للتشكيك، حيث لم تبرز الحاجة على ما يبدو إلى اختبارها لأن الجميع سلموا بها، مما يعني أن هذه النظرية، أو بالأحرى مقولة العلمنة، بالرغم من كونها المقدمة المنطقية غير المعلنة للكثير من نظريات الآباء المؤسسين، لم تخضع إطلاقاً لدراسة رصينة بل ولم يحدث أن صيغت صياغة صريحة ومنهجية.
ونظرية العلمنة، بالمعنى الضيق للكلمة، مجرد نظرية فرعية لنظريات تمايز عامة، إما من النوع التطوري الشامل كما اقترحه دوركهايم أو من النوع المتسم بخصوصيته التاريخية في نظرية التحديث الغربي كما وضعه فيبر. وفي الواقع، تتداخل نظرية العلمنة تداخلاً عضوياً مع كل نظريات العالم الحديث. ومع الإدراك الذاتي للحداثة لا يسع المرء إغفال هذه النظرية ببساطة من دون التشكيك بالنسيج كله، وبالكثير من الإدراك الذاتي للعلوم الاجتماعية.
تتمثَّل المغالطة الأساسية في نظرية العلمنة عند كازانوفا في الالتباس الحاصل بين السيرورات التاريخية للعلمنة نفسها، والنتائج المزعومة التي يفترض بهذه السيرورات ان تمارسها على الدين. وكما ذُكِرَ آنفا، فنواة نظرية العلمنة ومقولتها الاساسية هي مفهمة سيرورة التحديث المجتمعي كسيرورة تمايز وظيفي وتحرر للنطاقات الزمنية ـ وخاصة الدولة، والاقتصاد، والعلم ـ من النطاق الديني وتمايز الدين وتخصصه المتزامنين ضمن نطاقه الديني المستحدث. وغالباً ما ترتبط بهذه المقولة الأساسية التي يمكن أن ندعوها مقولة التمايز، مقولتان فرعيتان تشرحان افتراضاً ما سيؤول إليه الدين جراء سيرورة العلمنة تلك:
المقولة الفرعية الاولى، مقولة أفول الدين، وهي مقولة تفترض أنّ العلمنة سوف تجرُ في أعقابها الانحسار التدريجي للدين، ثم افوله، فاندثاره أخيراً كما تضيف بعض الآراء المتطرفة.
المقولة الفرعية الثانية، وهي مقولة الخصخصة، وهي ترى ان سيرورة العلمنة سوف تؤدي إلى خصخصة الدين، والى تهميشه كما يضيف بعضهم، في العالم الحديث. وليس بوسعنا ان ندرك تعقيد الواقع التاريخي الحديث إدراكاً تاماً إلا اذا فصلنا هاتين المقولتين تحليلياً[23].
هنا يلاحظ كازانوفا ثلاث مراحل تاريخية يمكن مقاربة العلمانية على أساسها[24]:
أولاً: دراسة التحولات التاريخية الحديثة من منظور العلمنة يعني، إلى حد كبير، دراسة الواقع من منظور الدين. أي أن الزمني، بوصفه مفهوماً، لا يتضح إلا بالنسبة إلى نظيره الديني.
ثانياً: إن الادعاء المعلن، أو المضمر بأن الدين ينحسر في العالم الحديث ويستمر في انحساره حتى اندثاره، هو ادعاء يحتاج إلى دراسة معمّقة قبل إصدار الأحكام حول بطلانه أو صوابيته.
ثالثاً: ويتعلق هذا الأمر بما يُسمى «خصخصة المقولة الدينية. وتعني مقولة الخصخصة في منطلقها وسيرورتها الاساسية ـ حسب كازانوفا ـ ان سيرورة العلمنة قد أخذت مجراها إلى حد كبير، وان هذه السيرورة لا عودة عنها على الأرجح، وان نتائجها بالنسبة إلى الدين المسيحي أو أي دين آخر هي تلك التي لخّصها فولفغانغ سلوشتر ضمن مقولتين:
الأولى: في ما يتعلق بالمواقف الفكرية السائدة، تعني العلمانية المكتملة كلياً ان المعتقدات الدينية أصبحت ذاتية جراء ظهور التأويلات البديلة للحياة، ولم يعد بالإمكان مبدئياً إدراج ذلك في نظرة دينية شاملة.
الثانية: في ما يتعلق بالمؤسسات، تعني العلمنة المكتملة كلياً أن الدين المتماسس قد تجرّد من طابعه السياسي جراء تمايز وظيفي للمجتمع، ولم يعد بالإمكان مبدئيا إدراج ذلك من خلال «الدين المتمأسس»[25].
لقد كان لوكمان أول من وضع منهجياً لهاتين المقولتين المترابطتين. في كتاب «الدين غير المرئي»، قام لوكمان بتجذير مقولة العلمنة، فرأى أن المؤسسات الدينية التقليدية أصبحت، على نحو متعاظم، غير ضرورية وهامشية للآلية التي يعمل بها العالم الحديث، وبأن موقع الدين نفسه لم يعد داخل الكنائس[26]. إلى ذلك فقد تراجع البحث في الأزمنة الحديثة عن الخلاص والمغزى الشخصي للوجود لينحصر في النطاق الخاص للذات. ويحاجج لوكمان، مستبقاً التحليلات اللاحقة للنرجسية و «الوعي الديني الجديد»، بأن «التعبير عن الذات» و«تحقيق الذات» أصبحا «الدين غير المرئي» للحداثة.
مهما يكن مآل الاجتهاد لمفهوم العلمنة لغة وإصطلاحاً وتجربة واقعية، يظل هذا المفهوم يحمل قابلية التأويل ما دام لم يستقر على تعريف معجمي محدد وواضح المعالم.

[1]* ـ أكاديمي وباحث في الفلسفة وعلم الاجتماع الغربي ـ الأردن.
ـ لاري شاينر، «مفهوم العلمنة في البحوث التجريبية»، مالكوم هميلتون، علم اجتماع الدين، ص289. راجع أيضاً معجم علم الاجتماع المعاصر (Dictionary of Modern ) للبريطاني توماس هولت.
[2]ـ عادل ضاهر، الأسس الفلسفية للعلمانية، دار الساقي ـ بيروت ـ لندن 1998 ـ بيروت ـ ص 37ـ 38.
[3]ـ أمان الله فصيحي ـ المجتمع العلماني: المكونات والمميزات ـ دراسة ضمن كتاب «العلمانية مذهباً» بإشراف محمد تقي سبحاني ـ ترجمة: حيدر نجف ـ مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي ـ بيروت ـ 2014 ـ ص 21.
[4]ـ برايان ويلسون، «فكرة انفصال الدين عن الدنيا»، ص 126، راجع أمان الله فصيحي ـ مصدر سبق ذكره.
[5]ـ فصيحي نقلاً عن أحمد رضا يزداني ـ مصدر سبقت الإشارة اليه.
[6]ـ للمزيد من التعريف المعجمي بمصطلح العلمانية يمكن العودة إلى الموسوعة الفلسفية الصادرة عن معهد الإنماء العربي ـ بيروت 1984 ـ بإشراف البروفسور الراحل معن زيادة ومشاركة فريق واسع من الباحثين والمفكرين من لبنان والعالم العربي.
[7]ـ فصيحي ـ مصدر سبقت الإشارة إليه ص 25.
[8]ـ عبد الوهاب المسيري ـ العلمانية تحت المجهر ـ دار الفكر المعاصر ـ بيروت ـ دمشق ـ 2000 ـ ص 35.
[9]ـ المصدر نفسه ـ ص 36 ـ 37.
[10]ـ المصدر نفسه ـ ص 36.
[11]ـ محمد سر بخشي العلمانية مذهباً ـ دراسات نقدية في الأسس والمرتكزات ـ الإشراف العلمي: محمد تقي سبحاني ـ إعداد: مهدي أميدي ـ ترجمة حيدر نجف ـ مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي ـ بيروت ـ ط1 ـ 2014 ـ ص 191.
[12]ـ سر بخشي ـ العلمانية مذهباً ـ مصدر سابق ـ ص193.
[13]ـ المصدر نفسه.
[14]ـ عبد الوهاب المسيري ـ العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة ـ الجزء الأول ـ دار الشروق ـ القاهرة ـ 2002 ـ ص 15.
[15]ـ المسيري ـ العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة ـ الجزء الثاني ـ دار الشروق ـ القاهرة ـ 2002 ـ ص 471.
[16]ـ المصدر نفسه ص 473.
[17]ـ محمد سربخشي ـ الأخلاق العلمانية أم العلمانية الأخلاقية ـ دراسة ضمن كتاب «العلمانية مذهباً» دراسات نقدية في الأسس والمرتكزات ـ الإشراف العلمي : محمد تقي سبحاني ـ ترجمة حيدر نجف ـ مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي ـ بيروت ـ 2014 ـ 1990.
[18]ـ وكان عالم الاجتماع الفرنسي جان بول ويلّام ، من أكثر الذين عالجوا قضية العلمانية، ويعتقد ان اللائيكية مصطلح معروف لدى المتكلمين بالفرنسية، بينما مصطلح العلمانية والعلمنة (سكولاريسم وسكولاريزاسيون) معروف أكثر لدى المتكلمين بالانجليزية. وهذا ناجم عن ان قضية فصل الدين عن الدولة في فرنسا طرحت كقضية مهمة ومأزومة، وكانت اللائيبكية حلاً لمعالجة هذه المشكلة. والحال ان الانجليزي لم يواجهوا مثل هذه المشكلة. ومن وجه آخر يعتقد بعض علماء الاجتماع ان عملية مكافحة القدسية في المجتمع وفي كل مجالات الحيا ة البشرية عموماً موجودة في العلمانية وفي الائيكية، والفرق هو انها في أحداهما تحصل بهدوء وبدون اشتباكات وصراعات (العلمانية)، لكنها في الثانية تحصل في غمرة صراعات واشتباكات واحيانا أعمال عنف (اللائيكية). السبب هو انه في البلدان التي يسودها المذهب الكاثوليكي مثل فرنسا، وبسبب إصرار الكنيسة على التدخل في شؤون الحكم والشؤون الدنيوية عموما، كانت الصراعات بين الكنيسة ومعارضيها شديدة، وظهرت العملية على شكل لائيكية. أما في البلدان التي سادها المذهب البروتستانتي مثل بريطانيا وبسبب انفعالية الدين حيال الشؤون الحكومية وعدم الاصرار على تولي المرجعية، فقد سارت عملية مكافحة القدسية بهدوء من دون اشتباكات وأزمات. هذا التفسير ينسجم إلى حد كبير مع ما يشير إليه ويلم. انظر موسوعة بريتانيكا: See:The Encyclopedia Britannica
[19]ـ المصدر نفسه.
[20]ـ خوسيه كازانوفا ـ الأديان العامة في العصر الحديث ـ المنظمة العربية للترجمة ـ توزيع: مركز دراسات الوحدة العربية ـ بيروت 2005 ـ ص 26.
[21]ـ كازانوفا ـ المصدر نفسه ـ ص 34.
[22]ـ المصدر نفسه ـ ص40.
[23]ـ خوسيه كازانوفا ـ مصدر سبق ذكره.
[24]ـ المصدر نفسه ـ ص 37.
[25] schlichter, religion and domination: A Webrian perspective pp. 223 – 254.
[26] – Lukmannm The Invisible Religion The problem of religion in modern New York: Harper and Row 1970 ـ p. 86.