البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

تايلور وماكلور في « العلمانية وحرية الضمير » - كيف ينبغي للدولة أن تتعامل مع القيم ؟

الباحث :  قراءة وتحليل : رشا زين الدين
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  2
السنة :  السنة الثانية - شتاء 2016 م / 1437 هـ
تاريخ إضافة البحث :  December / 27 / 2015
عدد زيارات البحث :  1224
تحميل  ( 376.528 KB )
تايلور وماكلور في «العلمانية وحرية الضمير»
كيف ينبغي للدولة أن تتعامل مع القيم؟
قراءة وتحليل: رشا زين الدين[1]
بعض أهل الاختصاص الذين تابعوا أعمال الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور اعتبروا كتابه المشترك مع عضو الهيئة الخاصة بدراسة التنوع الثقافي والعرقي في مقاطعة كيبك بكندا جوسلين ماكلور، من أبرز الأعمال الجديدة التي صدرت في ميدان الفلسفة السياسية وعلم الإجتماع.
الكتاب هو بعنوان: «العلمانية وحرية الضمير» وصدر في العام 0102 عن «مؤسسة بوريال للنشر» في مدينة مونريال ـ كندا. أما محوره الأساسي فيتركز على حل المشكلة المستعصية بين تنظيم مؤسسات الدولة العلمانية والقيم التي تعبر عنها المؤسسات الدينية. وانطلاقاً من هذا المحور يدعو الكاتبان إلى إعادة نظر جذرية في أسس بناء الدولة العلمانية بنموذجها الغربي. وذلك تبعاً للتحولات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي حصلت في الأزمنة المعاصرة. حيث تشكل عودة الممارسة الدينية إلى المجتمعات الأوروبية ظاهرة تحتاج إلى دراسة عميقة لمعرفة الأسباب الموجبة لها.
الدولة العلمانية المحايدة
الكتاب كما يشير الكاتبان في المقدمة، نتاج معلومات وأحصائيات ميدانية للأحداث والتحولات التي كانت نتيجة مشكلات لم تجد لها الأنظمة الثابتة في أوروبا وأميركا حلولاً ناجعة. ويرى الكاتبان ان هذه المشكلات بحاجة إلى تفكير فلسفي و سياسي من شأنه طرح حلول جديدة لواقع جديد وتطوير نظام الحكم. يترك الكاتبان التعريفات الكلاسيكية المتمثلة بحصر العلمانية في فصل الدولة عن الدين، حيث يتناولان العلمانية كنظام سياسي وقانوني يستند إلى فضاءات من القيم والأهداف والإجراءات بين الدين والدولة. فالوقت حان برأيهما للحديث عن تلك العلاقة التي تفصل وتربط الدين بالدولة بشكل أوضح ومختلف. من جملة تلك النقاط التي يتناولها تايلور و ماكلور، هي الفضاء العام والفضاء الخاص والعمل على ترميم العلاقة بين الدين والفضاء الخاص، أي قطاعات الدولة. لا تعني العلمانية بالنسبة لهما، فصل الدين عن الدولة، بل حياد الدولة «Neutralté de l’État» المتمثل بفهم تنوع قيمي يجمع المواطنين في دائرة واحدة. وهذا لا يعني بطبيعة الحال جعل الدين وقيم الغالبية في المجتمع هوية الدولة و وضع المجموعات الإجتماعية والدينية الأخرى كمواطنين من الدرجة الثانية. فلو حدث مثل هذا الشيء، فقد تختل العدالة الإجتماعية والوحدة السياسية في مجتمع متنوع في الهوية والدين والثقافة، وسيكون عبئه ثقيل على الجميع. وبالتالي على الدولة ليس فقط الحفاظ على الحيادية حيال الدين، بل حماية التنوع الديني والثقافي أيضاً، ذلك أن التنوع الثقافي، حاجة أخلاقية، يمارس من خلالها المواطنون الحياة وفقاً لمعتقداتهم وقيمهم المختلفة.
ان تنوع الأخلاقيات في المجتمع إذ يحتل مساحة مهمة في الفلسفة المعاصرة، يقترب من الفروقات الجوهرية والمعقدة بين المواطنين، مثل التطور العلمي في مجال الجينالوجيا والتعليم الديني في المدارس وتحليل الدولة للاقتصاد...الخ. يعود الكاتبان هنا إلى وجهة نظر فلسفية للمفكر نظرية العدالة الاجتماعية الأميركي جون راولز (1291 ـ 2002)، مفادها ان «التنوع المعقول» إذ يعتمد مصادر عقلانية للاعتراف به حول الوجود وطبيعة التطور الإنساني ومعاني الحياة الناجحة. وهذا المفهوم إذ يستلزم استقلالية الأفراد والأخلاق لإدراك العالم، لا ينمو بحياد الدولة، إذ إن الأفراد والمجتمع في هذه الحالة، بحاجة إلى التنوع وآليات التنمية وحماية حريات التعبير والضمير إذ تلعب الدولة الدور الرئيسي في توفيرها، إنما لا يعني ذلك في جميع الأحوال تدخل الدولة في شؤون المواطنين ومساحات حرياتهم وقيمهم الثقافية والدينية.
وفي معرض الحديث عن العلمانية وحرية الضمير، يرى كل من تايلور وماكلور، بأن حياد الدولة حيال القيم المغايرة والإيمان هو جزء من الأجوبة التي يقتضيها بحثهما. وهذا الحياد واحد من أسس الدولة الليبرالية الديمقراطية بعيداً عن سياسات التضييق على الكرامة وحقوق الإنسان والاستقلال المجتمعي. وتلك قيم تسمح للأفراد بحياة مشتركة من خلال رؤى مختلفة واحترام التنوع، كما انها تجعل منهم مستقلين في قراراتهم، وكل ذلك في إطار «إجماع في التداخل» كما يسميانه..
أما في سياق تبرير دعوتهما آنفة الذكر، فإن المؤلفين يقرران ان على الدولة الحفاظ على الحياد وعدم إعطاء الأولوية لرؤية مثالية من شأنها تغيير حياة الأفراد على حساب قيمهم المختلفة. تالياً، على الدولة الحفاظ على حيادها حيال قناعات وتمسك الأفراد بقيمهم وثقافاتهم المتنوعة، ولا يشمل هذا فقط الحياد الديني، بل أيضاً القناعات الفلسفية والفكرية. أي ان الفلسفة التي تجعلها الدولة أساساً لسياساتها على حساب فلسفة أخرى، لا تختلف عن جعل الـدين مصدراً لتشريعاتها على حساب دين آخر. اقتضاباً. وهكذا يقف كل من تايلور وماكلور، ضد صناعة دين أو فلسفة من الدرجة الثانية، ويعودان في هذا الإطار لتحديد وتوضيح فكرتهما إلى تسمية أو إصطلاح «دين مدني» وهو إصطلاح يرجع أمره للمفكر الفرنسي جاك جاك روسو.
في المجال نفسه يؤكد صاحبا الكتاب على فصل مفهومي العلمانية والمدنية، أي فصل نظام سياسي علماني عن مجتمع مدني. في الحالة الأولى تكون الدولة حيادية تجاه الأديان والفلسفات والأفكار، أما في الحالة الثانية فيمتزج الدور الديني بالممارسات الاجتماعية وحياة الأفراد. إذا كانت العلمانية عملية سياسية وتتجه إيجاباً في مسارها، فإن المدنية هي ظاهرة اجتماعية تجسد رؤى وأساليب حياة الأفراد، أي ان الدولة تتجه نحو العلمانية دون فرضها على المواطنين و رؤاهم وقناعاتهم.
خصوصية التجربة في كندا
حسب رؤية الكاتبين، إذا نظرنا إلى التجربة الكندية في ما يـخص التعددية وحياد الدولة حيال الدين والتعددية الثقافية وحرية الفكر والكلمة والضمير، فإن فصل الدين عن الدولة هو الآلية وليس الهدف. ذاك انها ـ أي العلمانية ـ هي تطور للنظام السياسي وفق الإيمان بالعدالة للجميع، والتقاء الحرية الدينية بحرية الضمير كسند لحياد الدولة تجاه الرؤى المغايرة في مجتمع متعدد. ان اكتمال مشروع فصل الدين عن الدولة، أو حياد هذه الثانية حيال الدين احتل مساحة أكبر من احترام حرية الضمير عند الأفراد في الفكر السياسي، وتركز السجال المجتمعي في آليات تنظيم الدولة العلمانية بدل تلك القيم التي ذكرت..
قصارى القول، إن رؤية القسم الكاثوليكي الكندي، أي مقاطعة كيبيك الفرانكوفونية، قريبة من العلمانية الفرنسية إذ تيهمن فيها آليات تنظيم شؤون الدولة على أهداف وفلسفة العلمانية ذاتها، وذلك من خلال حماية فصل الدولة عن الدين دون التحقق من حضور ميراث مسيحي في نظام عمل الدولة. هناك مناسبات وقيم دينية كثيرة حاضرة ليست في الفضاءات العامة، بل في الفضاءات الخاصة أيضاً، حتى في النظام الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، والأعياد الدينية خير دليل على ذلك.
تايلور وأطروحة العلماني / الديني
لا بد من التنبيه هنا إلى أن من أهم ما يعالجه تايلور في مجمل أعماله حول العلمانية ـ وخصوصاً في هذا الكتاب المشترك مع ماكلور ـ هي مسألة الإرث التاريخي الديني. فهل يجب أن تُنزع من المؤسّسات والأماكن العامة كلّ الآثار الدينية التي تعود بالدرجة الأولى إلى ثقافة الأكثرية التاريخية؟ أفلا يعني نزع الرموز الدينية من الأماكن العامة، بحسب تايلور، نزعاً يعمد إلى محو الماضي وإلى قطع الروابط التاريخية بين الماضي والحاضر ؟ يعتبر تايلور أنّه ينبغي للعلمانيّة أن تميّز بين الأنماط الدينية التي تفعل في المؤسّسات العمومية والإرث التاريخي الذي يطبع بنية المجتمع. فالصليب الذي يوجد في مون رويال (Mont Royal) في مونتريال، على سبيل المثال، لا يعني أنّ مدينة مونتريال تطابق بين توجّهاتها السياسيّة والمعتقد الكاثوليكي، ومن ثمّ لا يفرض ذلك أيّ التزام أخلاقي أو سياسي على غير الكاثوليك. فالصليب هذا لا يعدو كونه يمثّل رمزًا يشهد على حقبة زمنية من تاريخ كيبك. ولذلك لا يجوز افتراض التناقض بين الرموز الدينية في الأماكن العامة وحرص المجتمع على العلمانيّة، ولاسيّما حين تتجلى هذه الرموز كمعلم أثري يذكّر فقط بالماضي، ولا يعبّر البتة عن نيّة المؤسّسات العمومية إلى تطابقها عضويا وهذه الرموز التراثية. (حتى اليوم ما زال الصليب موجودا على سطح كنيسة جامعة السربون المغلقة في باريس، إذ إنّ وجوده لا يعبّر سوى عن كونه رمزا أثريا قديما خاص بحقبة قضت من تاريخ هذه الجامعة وتاريخ فرنسا الكاثوليكي) (سايد مطر ـ روح العلمانية في الديمقراطية الليبرالية ـ قراءة في رؤية شارل تايلور ـ محاضرة في مركز دلتا للأبحاث المعمّقة ـ تاريخ 11ـ 6 ـ 2013).
في مقابل ذلك ثمة من رأى أنّ مطالب التكيّف الدينية تتناقض ومبادئ العدالة الاجتماعية التي تقوم عليها الأنظمة الديمقراطيّة الليبراليّة. ولا يقتصر رفض هذه المطالب على فئة القانونيين والمثقّفين، بل تعدّاه إلى عامة الشعب. ومن الأسباب التي تبرّر رفض مطالب التكيّف أنّ هذه المطالب تخالف المعايير والمؤسّسات العمومية المتعارف عليها في فلسفة العقد الاجتماعي. وهي معايير تعتمد المساواة سبيلا منصفا لاحترام الجميع من دون تمييز. أما مصطلح التكيّف (accommodement) فتراه على «المساواة في الاختلاف. وبواسطة بعض الترتيبات، يقوم التكيّف على معالجة أشكال التمييز الناجمة أحيانا عن تطبيق معيار أو قانون عام هو بالأصل شرعي. ففي بعض الحالات، يؤدي تطبيقُ قانون أو معيار عام إلى ضرر بحق خصوصية شخص أو فئة من الأشخاص لم يكن القانون أو المعيار لينظر في شأنها. ذلك أنّ المجتمع يرمي عادة إلى التشريع خدمةً للأكثرية. وهو ما يعني أنّ القانون ليس أبدا محايدا بالكامل. لذلك، والكلام لتايلور، «يقتضي واجب التكيّف اعتمادَ التمييز، وهو ما يجب أن تحددّه شرعات حقوق الانسان».
بالنسبة إلى تايلور وصاحبه فإن فوائد التكيُّف كثيرة، وأهمها استقامة التعاون الاجتماعي على قاعدة الانصاف ومن ثم تحفيز الاندماج السياسي. ورأس الكلام في ذلك، هو أنّ طرح الاعتراف بالتنوع الثقافي وبمطالب التكيّف التي تتصل به هو طرح يستند إلى العدالة الاجتماعية والقانون العام. كما أن فكرة التعددية الثقافية والاعتراف سياسيا بالاختلافات العرقية والدينية، بالنسبة إلى الفلسفة الأخلاقية، تستمد أصولها القانونية من تأويل الحقوق والحريات الأساسية التي تأبى الارجاع إلى النسبية. فمطالب التكيّف هي إذا مطالب تنبثق من الحق الأساسي (droitfondamental) ولا من التسويات السياسية. ولا تعُدّ المطالب هذه ظرفيّة تستهدف على سبيل المثال عملية الانثقاف، إذ إنها تستمد شرعيتها على وجه الحصر من قوانين الدستور. ولا يختلف منظور الفلسفة السياسية عن المنظور القانوني في التأكيد على أحقية التكيّف وضرورته الانسانية. كما أنّ أمام المعنيين بمطالب التكيّف، بالنسبة إلى تايلور، سبيلان لا ثالث لهما. فإمّا أن يسلك التكيّفُ سبيل القضاء الذي يفرض حكما قهريًّا يُناسب فريقا ويغبن الآخر. وتكون نتيجة ذلك وجود خاسر ورابح. وإمّا أن يستند التكيّف إلى روح عالية من المواطنة المسؤولة التي تقتضي التفاعل والتداول. ويؤيّد تايلور بشدّة هذا النوع من المواطنة التي تتوسّل بحلولً قوامها «تسوية تداولية» (Ajustementconcerté) بين الجهتين المتنازعتين على قاعدة «الصدق والاحترام المتبادل والمُرونة والروح الخلاّق»(المصدر نفسه).
والواضح كما يبدو في الكتاب ان الفيلسوفين يركزان على الوجهة الأخلاقية الناجمة من اصطدام القيم الدينية مع قيم الدولة الليبرالية العلمانية. ويلاحظ الكاتبان في هذا الصدد أن من أبرزِ المشاكلِ التي تعترض موقف الليبرالية السياسية والذاتية هو الاستعمالُ الأداتي لمعتقدات الضمير ولحقّ التكيّف القانوني. فكيف يمكن للدولة أن تقي نفسها من المخاطر الممكنة في استعمال الحرية الدينية على نحو «انتهازي» و«احتيالي»؟ فيمكن لموظف، على سبيل المثال، أن يستعمل حريتَه الدينية على نحو «استراتيجي» للحصول على أيام عطل إضافية مدفوعة الأجر كما المطالبة بترتيب دوام العمل على نحو يفضله ويتناسب ونشاطاتِه الخاصة. فمن الطبيعي أنّ تكاثر المعتقدات والالتزامات الجوهرية التي لا تستند إلى عمارة لاهوتية أو فلسفية شاملة هو ما سيفتح الباب أمام تنامي مطالب التكيّف ومن ثمّ استعمال هذا الحق كوسيلة أداتية لأهداف مشبوهة. لذا يجب على المحاكم ـ كما تقول تايلور وماكلور ـ أن تتهيَّأ أيضاً لمفاعيل التكيّف المحتملة على حقوق الآخرين، وأن تنظر في قدرة المؤسّسة المعنية على تلبية مثل هذه الأهداف وتحقيقها. وهذا ما يحيلنا إلى ما يسمى في لغة المحاكم القانونية «الضغط المفرط» (contraintesexcessives) أو المصلحة التشريعية العليا (intérêtlégislatifprépondérant). وهو ما يعني أنّ المحاكم لا تلزم مؤسّسةً ما بقَبول طلب للتكيّف لا يتوافق وحق الآخر والتشريعات العامة. وبتعبير آخر، والكلام لتايلور، «يُقوّم واجب قبول التكيّف انطلاقا من حمل الأعباء التي يفرضها». وتُرفض مطالبُ التكيّف عندما تمثّل ضغطا مفرِطًا في حال «أ. كانت تعارض على نحو كبير تحقيق أهداف المؤسّسة المعنيّة (التربية والاستشفاء وتقديم الخدمات العامة وجني الارباح...الخ). ب. وفي حال كانت كلفتُها عاليةً ومفرطةً أو تؤثر بشكل جدي على عمل المؤسّسة وسيرها الطبيعي. ج. وفي حال كانت تنتهك حقوق الآخرين وحرياتهم».
فكرة التعالي والمحايثة
على الرغم من التوافق حول الأفكار الرئيسية الواردة في كتاب «العلمانية وحرية الضمير» يذهب تايلور في كتابه «العصر العلماني» مسلكاً مختلفاً نلاحظ ذلك من خلال بحث نظري توثيقي كثيف حول الانتقال من عالم ديني لا مكان فيه لغير الإيمان إلى عالم أصبح فيه الإيمان إمكانية من بين إمكانيات أخرى سمته الأساسية ما يدعوه بالإنسانية «الحصرية».
يرصد تايلور هنا عملية الانتقال من الأنساق التقليدية القائمة على فكرة التعالي بالكشف عن التصورات الكونية والوجودية المعبرة عن العصر الحديث القائم على فكرة المحايثة. وهي التصورات التي تنعكس في علمنة مؤسسات الشأن العام وخصخصة الاعتقاد الديني. بيد أن «تايلور» يرفض نظرية العلمنة كانفصام وتحرر تدريجي من قيود الاعتقاد الديني، بل العلمنة بما هي تحويل وتعديل مطرد للتراث الديني. لا تعني العلمنة بالنسبة له نهاية الإيمان الديني، وإنما فسح المجال لتجارب وخيارات كثيفة ومتنوعة إزاء التجربة الدينية، التي تستند حسب «تايلور» للرغبة البشرية الثابتة في «الرضا»(بمعنى الانشراح والتمام). والرضا هو تلك اللحظات التي من دونها لا تستحق الحياة أن تعاش، وهو شعور يشترك فيه المؤمن وغير المؤمن؛ بيد أنه شعور ديني في عمقه.
تعبر الأطروحات الواردة في الكتاب عن الاتجاهات الجديدة لفلسفة الدين في الغرب، والتي تتمحور حول إشكاليتين رئيستين هما: علاقة العقل بالإيمان بعد انتكاسة وتراجع العقلانيات الوضعية والتاريخانية التي أرادت تقويض الدين معرفياً ونظرياً، ومنزلة الدين في الشأن العام في المجتمعات الراهنة التي أطلق عليها «هابرماس» عبارة «المجتمعات ما بعد العلمانية»، أي تلك التي أعيد فيها طرح مكانة الدين في الشأن العام.
لا ينظر التقليدُ الليبرالي إلى الحقوق والحريات الفردية الأساسية على أنّها مطلقة ولا يمكن المساسُ بها. فالحريةُ الفردية لها حدودٌ، وحدودها هي حرية الآخرين وسير عمل المؤسّسات (العامة والخاصة) المنتظم وحفظ القوانين والمصلحة العامة.
مع ذلك تبقى حركة الجدل مستمرة في هذا الميدان، ومن المحتمل كما تدل الوقائع الراهنة، ان تتصاعد في ظل الاحباطات المتلاحقة التي تتعرض لها المؤسسات العلمانية في خلال مواجهتها لأسئلة ما بعد الحداثة وبخاصة سؤال الإيمان وانتشار التيارات الأصولية المسيحية في الغرب. ناهيك عن الآثار المترتبة على وجود الجاليات المسلمة في أوروبا وأميركا.
الجانب المهم في هذا الكتاب انه يتزامن مع نقاش يملأ قاعات الجامعات ومراكز الدراسات وحتى الإدارات الحكومية في البلدان الأوروبية التي تعاني مشكلة تنظيم العلاقة بين المنظومة العلمانية وصعود التيارات الدينية. بعض المعلقين يقولون ان النقاش الحاصل على هذا النحو لا يقتصر على الجانب الحقوقي والاجتماعي بل يشتمل ايضاً على قضية الديمقراطية وطريقة ادارتها للحريات السياسية ومشاكل تمثيل الأقليات الدينية والعرقية في مجتمعات الحداثة.
[1]ـ باحثة في الفكر الغربي