البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الدين في الفلسفه - قراءة في الرؤية الهيجلية

الباحث :  شريف الدين بن دوبه
اسم المجلة :  الإستغراب
العدد :  3
السنة :  السنة الثانية - ربيع 2016 م / 1437 هـ
تاريخ إضافة البحث :  April / 2 / 2016
عدد زيارات البحث :  2836
تحميل  ( 326.842 KB )
الدين في الفلسفة
قراءة في الرؤية الهيجليَّة
شريف الدين بن دوبه[1][*]
تقدم هذه المقالة تأصيلاً فلسفياً لرؤية الفيلسوف الألماني فريدريك هيغل للدين، كما تبيَّن طائفة من القراءات حول فلسفة الدين الهيغلية والكيفيات التي جرت خلالها مقاربة المسألة الدينية في الغرب سواء على المستوى اللاهوتي، أو فيما يتصل بدور المسيحية في تشكيل العقل الحضاري الأوروبي في العصر الحديث.
يلاحظ كاتب البحث البروفسور شريف الدين بن دوبه وجود ثلاث مسلمات رئيسية تشكل منظومة هيغل الدينية وهي: العقيدة المسيحية بوصفها الحقيقة المطلقة ـ التسليم بموضوعية العوامل التي أدت إلى الانحراف في العقيدة المسيحية ـ وعقيدة الثالوث بما هي حقل للاختلاف حول قواعد الإيمان المسيحي.
المحرر
من الأوّليات المؤلِّفة للبِنية التركيبيَّة لجبِّلة الإنسان بعدَ القابليات الذهنيَّة والنزوع الأخلاقيّ، الحاجةُ إلى الدين. فهي استعداد طبيعيّ في بنية الذات الإنسانيَّة، وحيثيَّة ماهويَّة غير عرضية كحال الجسد، فالجسد كتعيُّن ليس إلَّا أداة وآلة تحقق بها الذات مطالبها وغاياتها الفرديَّة والمتعالية. من النصوص المرسلة في العقيدة الإسلامية التي تدلُّ على أصالة الفطرة التي جُبِلَ عليها الإنسان، قول الرسول محمدs: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه» كما وردت الفطرة كثيراً في القرآن الكريم في عدّة صيغ منها في قوله تعالى: Pﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷO سورة الأنبياء: 56، وقوله تعالى: P ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ O سورة الأنعام: 79، ولم ترد صيغة (الفطرة) أي وزن (فعلة) إلَّا في آية واحدة هي قوله تعالى: P ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ O. سورة الروم: 30 وفي اللغة العربية: «تدلّ صيغة (فِعلة)على المصدر الدال على هيئة الفعل ونوعه، فإذا قلنا جَلسة فهذه تعني الجلوس مرة واحدة ولكن إذا قلنا جِلسة فإنها تعني هيئة الجلوس، وعليه فكلمة (فطرة) تعني تلك الهيئة التي خلق بها الإنسان[2]، ومن بين مضامين الفطرة الحاجة إلى الدين الذي هو الطاعة والجزاء في اللغة، وقد جاء هذان المعنيان في القرآن الكريم كما في قوله تعالى: Pﭞ ﭟ ﭠO أي يوم الجزاء، وكذلك جاءت لفظة الدين متضمّنة لمعنى الطاعة والانقياد، كما في قوله تعالى في حكاية يوسف وأخيه: Pﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ O أي في طاعة الملك وشريعته.
وفي الاصطلاح هو جملة الشرائع التي جاء بها الأنبياء والمرسلين، والديانات التوحيديَّة الكبرى هي اليهوديَّة والمسيحيَّة والإسلام، والبحث النظريّ في العقائد من حيث الحجاج والاحتجاج هو أصل الخلاف بين البشر، ولم تكن يوما الحاجة إلى الدين مسألة خلافيَّة بين البشر، إذ لم يكن الاختلاف حول الأهميَّة التي تحتلها الديانات إلَّا مسألةً ثانويَّةً، وطبيعة العقيدة المسيحيَّة وإشكالاتها العقديَّة طرحت الكثير من المصاعب أمام الفلاسفة الذين ينتمون إلى هذه العقيدة، ولا سيَّما الإشكالات المنطقيَّة، مثل مسألة الألوهية بين الوحدة وبين التثليث وعليه فإن علماء الكلام أو علماء اللاهوت في المسيحيَّة قد انبروا للدفاع عن عقيدتهم بالحجج العقلية.
فريدريك هيجل «1770/1831» أعظم الفلاسفة الذين عرفتهم البشرية، لدرجة اعتبره بعض الباحثين الفلسفة ذاتها بلحمها ودمها، فهو المفكر الوحيد الذي استطاع بعد أرسطو أن يسيطر على العالم بعقله، بالقدر نفسه الذي حاول فيه الاسكندر ونابليون الاستيلاء على العالم بقوتهما العسكريَّة، وقد اختلف الفلاسفة والنقاد حول الأصالة الفلسفيَّة في النسق الهيجلي، فاعتبره بعضهم الفيلسوف الذي جرؤ على وضع الفلسفة فوق مستوى الدين كما قال عنه الفيلسوف الدانماركي « سورين كيركيغارد 1813/1855 Soren Kierkegaard. ولم يجد بعضٌ آخر من الباحثين في فلسفته أكثر من مجرد عالم لاهوتيّ، ومذهبه الفلسفي ليس إلَّا صورة مقنّعة من صور الفلسفة المسيحيَّة، فهو آخر عبقريَّة كما يصفه كروتشه ـ ظهرت في تاريخ الفلسفة.. عبقريَّة ضارعت عبقرية أفلاطون، وأرسطو، وديكارت، وفيكو، وكانط.. ولم تظهر بعده سوى مواهب صغرى، كان أصحابها مجرّد أتباع لم يكن لهم شأن كبير.
تشكِّل الموضوعيَّة المطلب الرئيس في البحث الفلسفيّ، ولتحقيق هذا الغرض ينبغي التسليم بالمبدأ التالي الذي ينّص على أن أصالة الموقف الفلسفيّ لا تلغي المرجعيَّة التاريخيَّة التي يستند عليها ويتأسّس. والملامح العامة للنظريَّة الهيجليِّة في فلسفة الدين لا تخرج عن محاولة التنظير أو التبرير للمعتقد المسيحيّ الذي كان يشكِّل المحيط الثقافيّ للفيلسوف، فمسار العقيدة المسيحيَّة تتعرّض في محيطه التاريخيّ لعدّة أزمات، حيث كانت المسيحيَّة في البداية ديانةَ توحيدٍ تدعو إلى عبادة إله واحد، وتقرر أن المسيحَ إنسان من البشر أرسله الله تعالى بدين جديدٍ وشريعةٍ جديدةٍ كما أرسل رسلاً من قبله..وأمُّهُ صدّيقةٌ من البشر قد كرَّمها الله فنفخ فيها من روحه؛ فحملت المسيح، ولكن لم تمض بضع سنين على رفع المسيح حتى أخذت مظاهر الشرك والزيغ والانحراف تتسرب إلى معتقدات بعض الفرق المسيحيَّة، وافدةً إليها من فلسفات قديمة أحياناً، و من رواسب ديانات ومعتقدات كانت سائدة أحياناً أخرى، فانقسم حينئذ المسيحيّون إلى طائفتين طائفة جنحت إلى الشرك بالله في عقائدها، وطائفة ظلت عقائدها محافظة على التوحيد[3].
بيئة هيغل الدينية
قبل البحث في فلسفة الدين عند هيجل ينبغي الإشارة إلى المدرسة العقديّة التي كان يترعرع فيها الفيلسوف، على قاعة التعدد الذي عرفته الكنيسة المسيحيّة، وهي الكنيسة البروتستانتيَّة التي ظهرت في أوائل القرن السادس عشر، وهي نِحلة الاحتجاج أو الاعتراض، وأطلق على معتنقيها اسم «البروتستانت» أي المحتجون أو المعترضون. وقد دعا إلى ظهور هذه النحلة أمور كثيرة يرجع أهمها إلى مظاهر الفساد التي بدت في كثير من شؤون الكنيسة الكاثوليكيَّة ومناهجها وطقوسها، وما أحدثته من بدع، ومسلك قسيسيها والقوّامين عليها، وإلى تحكّمها في تفسير كل شيء، ومحاولة فرض آرائها على أتباعها جميعاً حتى الآراء التي لا علاقة لها بالدين، كالآراء المتعلقة بظواهر الفلك والطبيعة.
ذلك هو المحيط الثوريّ الذي استمد منه الفيلسوف هيجل نزعته النقديَّة في التعامل مع الدين كجوهر، ومع الكنيسة كتجسد وتمظهر للعبادة.وهذا ما يظهر في النص التالي: «..من السطحيَّة والبلاهة أن نرى في الدين بدعة خادعة، وغالبا ما أسيء استعمال الدين، وهذا إمكان حصيلة الشرط الخارجي والوجود الزمني للدين، ولكن بما أنه دين من المحتمل جدا أن يتراخى هنا وهناك ويجري وراء الانقياد الخارجي، ولكن الدين هو الذي يقف بثبات في وجه الأهداف المحدودة وتعقيداتها مشكِّلا المنطقة التي ترتفع فوقها، وهي منطقة الروح التي هي محراب الحقيقة بالذات[4]».
فاستعمل هيجل أسلوباً كلاميّاً جديداً هو(الجدل الهيجليّ) في الدفاع عن مسائل الكنيسة المسيحيَّة البروتستانتيَّة فدراسته لللاهوت بمعهد توبنجن لمدة خمسة أعوام، وتميّزه كطالب في الكلية البروتستانتيَّة، أهّلاه لمرتبة المتكلم والمدافع عن العقيدة المسيحيَّة، كما كانت تلك الحقبة تمثل اللحظات الثوريَّة في المسار الفكريّ للفيلسوف إذ وقع فيها تحت تأثير جان جاك روسو «Jean Jack Rousseau»، و ايمانويل كانت «Kant» و فيختة «Fichte»، والدليل على ذلك اهتمامه بدراسة كتاب « الدين في حدود العقل» وكتاب «نقد الوحي» ومناقشتهما والاطلاع على فلسفة(مندلسون) الذي انصبّ اهتمامه على دراسة الديانة اليهوديَّة. إنَّ تعدد المراجع الفكريَّة والمشارب الدينيَّة في ثقافة الفيلسوف يعيق الإحاطة بالمفهوم والتصور عنده، وقبل البدء في البعد الكلاميّ في فلسفة الدين الهيجليَّة ينبغي منَّا الإشارة إلى مفهومه المبدئيّ للدين.
إنَّ الدين والفن والفلسفة مفاهيم تتداخل، وتتخارج مع بعضها البعض في لحظات الوعي تارة، وفي حقب التاريخ تارة أخرى، كما أن غموض النصوص الفلسفيَّة وتعدد الأبعاد التي استبطنتها، والخصوصيَّة التي أضفاها هيجل على المصطلحات الفلسفيَّة التي شكَّلت نسقه الفلسفيّ اللغويّ لأنَّ اللغة هي المفتاح الرئيس نحو سبر المواقف، والاصطلاحات الهيجليّة تتميز بدلالات دقيقة، وفهم المصطلح على ضوء فلسفة أخرى يؤدي حتما إلى الانحراف في فهم الفكرة، فتمييزه بين العقل والروح وبين الفهم وبين الذهن من الأوليات.
وعليه نجد اختلاف الفلاسفة في تفسير النظرة الهيجليّة وتأويلها له مايبرِّره، أمَّا الدلالة العامة التي تعبِّر عن التصور الهيجلي للدين هي جعله حالةً للوعي في حركته الواعية، والمتجِّهة نحو معرفة اللامتناهي، يقول هيغل: «الدين هو الوعي الذاتيّ بالروح المطلق، على نحو ما يتصوره أو يتمثّله الروح المتناهي»[5].
فهو معرفة الكائن أو وعيه المتناهي أو الإنسان، وإن كان مصداق الكائنات المتناهية لا يحصر ضمنه الكائن البشري فقط، فهو إدراك شخصي للذات الإنسانيَّة على ضوء تجاربها الشخصيَّة، ومعتقداته الفكريَّة للروح المطلق أو الكائن غير المتناهي، فالدين إذن هو تلك النظرة أو الرؤية الإنسانية للعلة المصدرية للكون، والتخارج الموجودة بين الله والإنسان، وهذا الأخير يدفع إلى البحث عن صيغ وصور التداخل أو البحث عن الاكتمال والسعادة في الكائن المطلق، فالدين كما جاء في كتاب هيجل قراءات في فلسفة الدين هو: «الروح واعياً بجوهره، هو ارتفاع الروح من المتناهي إلى اللامتناهي [6]».
فالدين إذن هو العلاقة التي تجمع بين الوعي الذاتي بالله أو بالروح المطلق أو الكلّي، فالله كما يقول هيجل: «لا يكون هو الله إلا بمقدار ما يعي ذاته بذاته، وفضلا عن هذا فإنَّ معرفته بذاته هي وعيه بها بواسطة الإنسان، ومعرفة الإنسان بالله تتحقق في معرفته بنفسه في الله..» [7].
إنَّ الدين عند هيجل هو علاقة معرفيَّة ووجدانيَّة تجمع بين الخالق والمخلوق، وهي علاقة لا يمكن إلغاؤها أواحتقارها أو التقليل من شأنها، مهما كانت الأشكال التعبيريَّة عن هذه العلاقة الساذجة التي عرفتها البشرية في تاريخها. فالفصل بين العقل الكليّ، وهو الله، وبين العقل الجزئيّ وهو الإنسان قائم بالفعل ويشعر به الوعي ـ كما يبيّن ولتر ستيس ـ وهدف الديانات جميعها هو بالضبط عبور هُوةّ الانفصال هذه، أو التوفيق والمصالحة بين الله والإنسان»[8].
والتسليم بالبعد الانطولوجي لله، يجعل من الكائن الإنسانيّ وجوداً مفتقراً ويعيش حالة الاحتياج إلى الله الواحد والقادر على تلبية الحاجيات الفطريَّة، والنفسيَّة للوجود الإنسانيّ، وإذا كان الدين هو الوعي الذاتي بالمطلق، والقانون الثابت في ماهية الوعي هو الصيرورة الجدليَّة، أو الحركة التي تجد في نقائضها الذاتية أو الموضوعيَّة مادة لتغيرها، لذا يكون الناتج اللازم عن هذه المقدمات هو تطور الدين ذاتياً وموضوعياً، يقول هيغل: «من المؤكد أن الشعوب وضعت في الديانات طريقة تمثلها جوهر العالم، مادة الطبيعة والروح وعلاقة الإنسان بهذا الموضوع، هنا يكون الوجود المطلق موضوعاً لوعي الشعوب، وإذا درسنا على نحو أدق هذه الموضوعية، يكون هذا الموضوع في نظرها هو الآخر، الماوراء البعيد، الخيِّر أو المرعب والمعادي ففي الصلاة والعبادة يستبعد الإنسان هذا التعارض ويرتفع إلى وعي الوحدة مع جوهره، إلى الإحساس بالنعمة الإلهية وثقته فيها»[9].
ولذا يعتقد هيجل أن المسار الدينيّ للوعي مرّ بثلاث مراحل هي الديانة الطبيعيَّة والديانة الفرديَّة الروحيَّة، والديانة المطلقة أو المسيحيَّة.. والديانة الطبيعيَّة وهي الديانة التي تنضوي تحتها «جميع تلك الديانات التي لم تستطع فيها الروح السيطرة بعد على الطبيعة، ولم يعترف بعد بالروح على أنها الكائن الأسمى والمطلق. وحيثما يدرك الله أو المطلق على أنَّه شيء أقلّ من الروح كالجوهر مثلا، أو القوة، فإن المبدأ الروحيّ في جميع الحالات بصفة عامة لا يعترف بأنَّه الخالق أو الحاكم أو المسيطر على الطبيعة..ومثل هذه الديانات تنظر إلى الروح البشريّ على أنه لا يزال داخل سيطرة الطبيعة[10]».
وهذا النموذج الأول البدئي إذا جاز التعبير بدلا عن البدائي الذي اقترن بصورة التخلف الفكريّ في الانتروبولوجيا الغربيّة ـ يكشف عن المستوى الأدنى في إدراك الوعي لذاته، فالشعور بالعجز أو النقص دفعه إلى اعتبار المطلق كائن سالب لحرية الكائن البشري المتناهي وإرادته، وعلى حدّ تعبير زكريا إبراهيم: «الروح الذي لا يبلغ درجة الوعي التام بذاته، أو الذي لا يرى في الوجود الفعليّ صنيعته الخاصة، لابد من أن ينظر إلى نفسه باعتباره واقعة غريبة، وكأنما هو مجرد تمثّل أو تصوير حسي في أبسط صورة هي التي تتخّذ طابع المباشرة الطبيعية، حيث نرى الإنسان ينشد صورة مكافئة لروحه في عالم الطبيعة،وبذلك يعمد إلى تأليه بعض الموضوعات الطبيعية»[11].
ومن أهم الصور التي تعبِّر عن هذه اللحظة الدينيَّة الصور السحريَّة التي يعبر عنها بالديانة المباشرة أو إذا جازت الترجمة الآنية Immédiate Religion ,or Magic التي تعكس سذاجة الوعي الإنسانيّ وأوليته، فهو في هذه المرحلة عاجز عن الإدراك الكلي لله، لأنه لم يدرك بعد العلاقة الثابتة بينه وبين الخالق أو العقل الكلي، بل هو جزء من عالم الأشياء الموجودة في هذا الكون، يقول هيجل الديانة الطبيعية هي اللحظة التي يكون فيها «الروح العالم بالروح إنما هو الوعي بنفسه، ويكون لنفسه على صورة الموضوعي أي إنَّه يكون وهو في ذات الحين الكون لذاته إنه يكون لذاته، وهو وجه الوعي بالذات، ويكون لا محالة بإزاء جانب وعيه أو جانب الارتباط بالذات من جهة ما هي موضوع»[12].
والصورة الثانية للتمظهر الديني هي الديانة الجوهريَّة، أي الديانة التي يمنح فيها الإنسان الله السمة الجوهريَّة، والتعالي عن العرضية، فهو جوهر خالص وصرف، أمَّا الإنسان فهو الكائن المتناهي الذي يبتلعه العدم أمام كلية المطلق، فالإنسان في هذه النماذج فاقد للحرية، وفي الأخير يكون عاجزا عن أداء نشاطات أخلاقيَّة على قاعدة أنَّه عدم أمام المطلق الذي هو الله..
ويقدم لنا هيجل نماذج تعبِّر عن هذه الحقبة التطوريَّة التي عايشها الوعي الذاتي وهي الديانة الصينيَّة، والهندوسيَّة، والبوذيَّة، ويظهر مضمون الديانة الصينيَّة في الاعتقاد بأنَّ الدين هو طاعة الإمبراطور، فهو الإله أو ظل الله في الأرض، وصاحب السلطة المطلقة في الأرض، أمَّا الهندوسيَّة فقد تضمنت حسب زعم قسمٍ من المفكرين جذور التثليث المسيحيّ وهي كلمة (Trimurti) والتي تعني الثالوث الهندوسيّ المقدس وهو (براهما) الذي يقابل الكلي، و(فيشنو) الذي يقابل الجزئي وشيفا (Siva) اللحظة الفرديَّة؛ فالله في الهندوسيَّة جوهر غير متعين مجرد من المضمون. أما في البوذيَّة فهي اعتقاده لحظة النهاية لديانة الجوهر.
أما المراحل التالية فقد عرفت تطوراً فكرياً للاعتقاد الدينيّ حيث أصبح الله يملك بعضاً من التحديدات مثل وصفه بصفة الخير، وهذا ما وجده هيجل في الديانة الزرادشتيَّة «أهورا مازدا ـ أهريمان» والديانة السومريَّة «ادونيس ـ العنقاء» والديانة المصرية «ايزيس ـ اوزيريس»..
واللحظات الكبرى التي عرفت فيها الديانات بعضاً من الاكتمال، أو بالأحرى بلوغ الكمال مع الديانة المسيحيَّة، فالديانة اليهوديَّة أو دين الجلال هو إحدى مظاهر الديانة الفرديَّة الروحيَّة، والسبب هو تحديدها الأساسي لله بأنه شخص[13]. ونلاحظ أنَّ الانتقاء الهيجلي لحركة وتطور الديانات ينم عن رغبته في التأسيس النظريّ والمنطقيّ لصحة العقيدة المسيحيَّة، والدفاع عنها، فالانفصال الذي عايشته المسيحية مع الفلسفة دفع الفيلسوف إلى البحث عن تنظير فلسفيّ لها، في هذا الصدد: يقول: «إذا كانت الديانة المسيحية والفلسفة تعتبران في العالم المسيحي منفصلتين، فإن الأمر خلاف ذلك في التاريخ الشرقيّ القديم حيث اعتبرت أن الديانة والفلسفة لا تقبلان الفصل بينهما حتى وإن كان المضمون يرتدي فيهما شكل الفلسفة»[14].
كما ينبغي الإشارة إلى الكتاب الذي أصدره ايمانويل كانط «1724ـ 1804» E. Kant في تمحيص المعتقد المسيحي و نقده «الدين في حدود العقل» وهو الذي أحدث ضجة كبرى في ألمانيا حتى اضطر «كانط» إلى الاعتذار للسلطات الرسميَّة، والتعهد للملك «فريدريك ويليم» بعدم العودة إلى الكتابة في مسائل الدين[15]. لقد وجدت العقيدة المسيحيَّة نفسها في عصر التنوير في موقف حرج أمام خصومها، وتميَّز هذا العصر بسيادة العقل وتعاليه فوق العقائد، إذ كان كل فرد يفسِّر الدين كما يحلو له، حتى أن العقيدة المسيحيَّة استبدلت بعقيدة العقل، وأن الدين لم يبق سوى دين طبيعي[16].
والأطروحة التي قدّمها كانط كانت في كتابه (الدين في حدود العقل) تبدأ ببيان الأسس التي تقوم عليها العقيدة المسيحيَّة، والتي تمثل قوام كل دين ومرجعيته في اعتبار الله مبدأ وغاية لكل واجباتنا، فهو المشرِّع الواجب احترامه، والحكم بالأخلاقيّة على الأفعال يرجع إلى تحقيق معيار المطابقة القائمة بين الفعل والغايات التي شرعها الله للبشر. فالفعل الخلقي من وجهة النظر الدينيّة هو الفعل الذي يُرضي الله والذي نستطيع بفضله أن ندخل إلى ملكوت الله وعلى هذا الأساس كان ديناً طبيعيّاً قوامه الإرادة الثابتة الساعية لأداء الواجب من أجل الواجب، و«تكمن الصعوبة في تلاقي الدين الطبيعي بالدين التاريخي أو الوضعي كدين الكنائس البروتستانتية. فمسلّمة خلود النفس، والله المحب للعدل مباينة جداً لعقيدة الله المنتقم في البروتستانتية[17] لأن تكوين مجتمع أخلاقيّ يرتضيه الله يقوم على الأسس التي يرتضيها الله ذاته، وليس من طرف البشر[18]».
فالأخلاق في الأطروحة الكانطية هي التي تؤدي إلى الدين وليس العكس، فمرجعية الدين تاريخية ووضعية، قد تؤدي بالضرورة إلى إضفاء الصيغ الشرعية لبعض الممارسات التي لا يقتضيها ولا يرضى بها العقل الخالص، فالدين الذي تؤدي إليه الأخلاق الكانطية ليس هو دين الوحي، وإنما دين العقل المحض الذي لا يلجأ مطلقاً إلى دوافع خارجية أجنبية عنه مثل الخوف والرغبة الذين تتأسس عليهما أخلاقية أديان الوحي.
ثلاث مسلَّمات
ويمكن القول إن الأطروحة الكانطية المتضمنة في كتاب «الدين في حدود العقل» من أهم العوامل التي دفعت الفيلسوف هيجل لكتابة أهم انتاجاته الفلسفية في مجال اللاهوت والتي هي «دين الشعب»، «نقد المسيحيّة الوضعيّة»، «حياة يسوع»، «قراءات في فلسفة الدين» «فيومينولوجيا الروح»، وقد هاجم هيغل النزعة العقليّة الصوريّة التي أغفلت البعد الذاتيّ والعاطفيّ في الذات الإنسانية، فالإنسان ليس كائنا عاقلاً صرفاً، وقد تضمّنت هذه الانتاجات الفكرية فلسفته حول الدين. وهي تقوم على مسلمات رئيسة: الأولى: العقيدة المسيحيَّة هي الحقيقة، وهي الديانة المطلقة، ومضمونها هو الحق المطلق، فمضمونها يتحد مع الفلسفة الهيغليَّة، والمذهب الهيغليّ هو الديانة المسيحيَّة القاصرة على فئة قليلة، وعلى الرغم من أنَّ المضمون واحد فإن الصورة مختلفة، والفلسفة تعرض المضمون المطلق في صورة مطلقة، وهي صورة الفكر الخالص، أمّا المسيحيَّة فهي تعرض المضمون نفسه في صورة حسيَّة أو في فكر حسيّ أعني على هيئة تمثل[19].
ـ المسلمة الثانية، التي تقوم عليها فلسفته في الدين، فهي التسليم بموضوعية العوامل التي ساهمت في انحراف العقيدة المسيحيَّة، فالحركة الجدليَّة للوعي الدينيّ، والمحيط الثقافيّ عموماً، واليهوديّ خصوصاً هو العامل الرئيس في أزمات المسيحيَّة، ونجد في كتابه «حياة يسوع» هذه الحقيقة، فيقول: يظهر الصراع بين الدين الخالص، الذي هو مذهب يسوع، وبين الدين الوضعيّ المتحجر في شكلية صارمة، دين خارجيّ تماما هو الدين اليهوديّ.
وأكَّد السيادة الخلقيَّة للشخص بالنسبة إلى كل ناموس يريد أن يفرض نفسه عليه من الخارج. فكان المسيح الهيغليّ صورة وردة فعل لروح تلك البيئة، وتمرّدا من الطبيعة البشريَّة الحرة، أي في جوهرها ضد الشكلية الصارمة للثيوقراطية اليهودية [20].
فقد كان المسيح الحقيقيّ شخصيّة ثوريّة عملت على الارتقاء بالإنسان من مستوى السامي إلى مستوى الكائن الأسمى أو بلغة سارتر من الوجود في ذاته إلى الوجود لذاته، أو بالمصطلح الهيغليّ من وعي العبد إلى الوعي بالذات الذي هو وعي السيد فقد «كان المسيح أول من ثأر ضد المجتمع في عصره؛ وذلك من أجل تحرير الإنسان، والتبشير بعقيدة ذاتيّة تقوم على الحكمة والحريّة [21].
أمَّا المسلمة الثالثة في فلسفة الدين الهيغليّة فتتعلق بمسألة الثالوث الذي يُعَد من أهم المسائل اللاهوتية في العقيدة المسيحيَّة، إذ عرف الداخل المسيحيّ تصدّعات وانقسامات تجاوزت السبعين بناءاً على النص النبويّ القائل: «افترقت اليهود إلى إحدى وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وافترقت النصارى إلى اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة».
وقد كان الثالوث حقلا للاختلاف، فالكنيسة الأرثوذكسيَّة تعتقد أن «للمسيح طبيعتين، إلهيَّة وإنسانيَّة، متحدتين في شخص واحد، شخص ابن الله المتجسد، وهذا الاتحاد قائم بدون انقسام أو انفصال أو تحول أو اختلال أو اختلاط..فهو إله تام وإنسان تام..»[22].
أما الكنيسة النسطوريَّة فقد اعتقدت أن شخص المسيح من أقنومين أو شخصين احدهما إلهيّ والثاني إنساني وهما غير متلازمين بالضرورة احدهما للآخر، أما موقف « أفتيشي» أو «أوطيخا» فيقِّر بأن الطبيعة الإلهيَّة في المسيح قد ابتلعت الطبيعة الإنسانيَّة فهو طبيعة واحدة هي الطبيعة الإلهيَّة التي ذابت فيها الطبيعة الإنسانيَّة وقد سميت ببدعة الطبيعة الواحدة، ثم طرحت فكرة شخص واحد بمشيئتين..وكثيرة هي الاتجاهات والمذاهب في مسألة التثليث، وقد اختلف علماء اللاهوت المسيحيّون في تأويل رؤية هيجل للإلوهيَّة وتفسيرها.
فإله هيجل لا يمكن أن يكون إله مذهب التأليه المسيحيّ حسب بعضهم خصوصاً عندما أعلن أن النهائي هو لحظة رئيسة في حياة اللانهائي، وان الله لا يكون الله بدون العالم [23].
كما أراد (فريدريك هيغل)أن يوفِّق العلم والإيمان الذي كان (ايمانويل كانط) قبل ذلك يفصل بينهما، حيث وجد هيجل في عقيدة التثليث حسب بعض المفكرين: «اللحظات الثلاث التي يميز بينهما في علم المنطق: الكليّ، الجزئيّ، الافراديّ، فالله هو الأب وهو الكليّ، أي الفكر المحض ونشاطه العلم، والكليّ الإلهيّ يتخذ بنفسه صفة الجزئية وصفة التفارق ويصير من فكرة واحدة أفكارا متعددة، إنَّهُ الإله الابن المنبثق من الأب انبثاقاً سرمديّاً، وأخيراً يعود الله إلى ذاته، ويتعرف إلى موضوعه من حيث مطابقته لذاته، فيبطل التفارق عن طريق المحبة، وعند ذاك يكون الله روحاً مطلقة أو شخصية مطلقة»[24].
إنَّ الثلاثيَّةَ التي حايثت النسق الهيغليّ تؤكّد المحاولات المتعددة التي قام بها الفيلسوف في الدفاع على عقيدة التثليث، فمذهبه كما يقول الأستاذ عبد الرحمن بدوي يتألف من ثلاثة معان رئيسة هي الفكرة والطبيعة والروح[25]، وهي المفاهيم المفتاحية لنسق هيغل.
وقد أقام الفيلسوف حركة الفكرة أيضا على قاعدة ثلاثية وهي تتألف من الوضع «thèse» الذي يمثل الصورة الأوليَّة للوجود، وهي المرحلة التي يكتشف فيها الوعي محدوديته، وعجزه، فيشعر بالاستلاب أو حالة السلب التي يصطلح عليها بالنفي أو «anti thèse»، فالموجود الخالص كما يقول (شبتولين) مماثلا للعدم عند هيغل، فهو ليس جامدا، لا يوجد ازليّاً في نفس الحالة، بل هو يتحول بفعله مع العدم، إلى صيرورة[26]».
فالوجود الإنساني يدرك حالة السلب عند إدراكه للعظمة، والمسيح سلام الله عليه من تجلّيات هذه العظمة، أمَّا لحظة المركب «synthèse» وهي آخر مرحلة من المراحل التي يتشكل فيها الوعي، عندما يدرك وجود المطلق بذاته، والمسيح النموذج الفريد الذي حقق هذا التشكل، والروح المطلق لم يجد أفضل من المسيح للتعين في النهائيّ، وهذا التنظير ليس إلا محاولة من هيغل في تفسير النص الإنجيليّ:»في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله.. والكلمة صار جسداً وحل بيننا، ورأينا مجده كما لوحيد من الآب مملوءا نعمة وحقا [27]».
وخلاصة القول أن الدين في نظر هيغل لا يتأسس على العقل وحده، بل هو شعور ووعي بالذات الفرديَّة وبالروح الموضوعيّ والمطلق، وهذا لا يعني أن الدين حالة شخصيَّة ومسألة فرديَّة لا تمتّ بصلة مع الواقع الموضوعيّ، فالمطلق الذي هو الله يكون مبدأ الحركة ونهايتها، وعليه فالوظيفة الحقيقيَّة من الدين هي تحريك الإرادة، والحث على العمل، أمَّا مهمة المؤمنين في نظره فهي العمل على توسيع الدين بحصصيث يشمل الحياة بأسرها، وبذلك يصل المؤمن إلى إدراك اللامتناهي في عالم المتناهيات، فالدين هو الحياة، والحياة هي الدين.
[1]*ـ باحث وأستاذ مادة الفلسفة الغربية، جامعة سعيدة ـ الجزائر.
[2]ـ مرتضى المطهري، الفطرة، ترجمة جعفر صادق الخليلي، مؤسسة البعثة، بيروت، ط2 ـ 1992 ص: 11
[3]ـ علي عبد الواحد وافي، الأسفار المقدسة في الأديان السابقة للإسلام، دار نهضة مصر للطباعة والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى 1964 ص: 97
[4]ـ هيجل، محاضرات في تاريخ الفلسفة، ترجمة خليل أحمد خليل، المؤسسة العربية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت ط:/1 ـ 1986 ص: 46.
[5]ـ هيجل، فينومينولوجيا الفكر
[6]ـ محمد عثمان الخشت، مدخل إلى فلسفة الدين، دار قباء للطباعة والنشر، القاهرة.2001 ص: 18.
[7]ـ المرجع نفسه ص: 19.
[8]ـ ولتر ستيس، فلسفة الروح، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الثالثة 2005 ص: 179.
[9]ـ هيجل، محاضرات في تاريخ الفلسفة المرجع السابق، ص: 45.
[10]ـ المرجع نفسه، ص: 179.
[11]ـ زكريا إبراهيم، هيجل،مكتبة مصر، القاهرة 1970 ص 412 «د.ط».
[12]ـ هيجل، فينومينولوجيا الروح، ترجمة ناجي العونلي، منشورات مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الأولى 2006 ص:672.
[13]ـ ولتر ستيس، فلسفة الروح، المرجع السابق ص:192.
[14]ـ هيجل، محاضرات في تاريخ الفلسفة، المرجع السابق، ص: 48.
[15]ـ إمام عبد الفتاح إمام، دراسات هيجلية،دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة 1984 ص: 283 د.ط.
[16]ـ يوسف حامد الشين، مبادئ فلسفة هيغل، منشورات جامعة قان يونس، بنغازي الطبعة الأولى 1994 ص: 21
[17]ـ ايميل بريهيه، تاريخ الفلسفة،ج 6 ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة،بيروت، الطبعة الثانية 1993 ص 292
[18]- Kant -la religion dans les limites de la raison.traduction A. Tremesaygues.librairie Félix alcain, paris 1913.p117.
[19]ـ إمام عبد الفتاح إمام، المكتبة الهيغلية، المجلد الثاني، مكتبة مدبولي، القاهرة 1996ص: 681.
[20]ـ هيجل، حياة يسوع، ترجمة جرجي يعقوب، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، ص: 35.
[21]ـ يوسف حامد الشين، المرجع السابق، ص 81.
[22]ـ علي زيعور، اوغسطينوس، دار اقرأ بيروت 1983 ط/1 ص 22
[23]ـ رينيه سرو، هيغل والهيغلية، ترجمة ادونيس العكرة، دار الطليعة بيروت، الطبعة الأولى 1993 ص: 50
[24]ـ المرجع نفسه، 47
[25]ـ عبد الرحمن بدوي، موسوعة الفلسفة، ج: 2 المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت الطبعة الأولى 1984 ص 580
[26]ـ أ. شبتولين، مقولات الجدلية وقوانينها، ترجمة فؤاد أيوب، دار دمشق بيروت الطبعة الأولى 1986 ص: 25
[27]ـ إنجيل يوحنا، العهد الجديد جمعيات الكتاب المقدس بيروت 1964 ص: 145