البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

حقيقة الدين - تأصيل فلسفي، لاهوتي، كلامي

الباحث :  عبد الحسين خسروبناه
اسم المجلة :  الإستغراب
العدد :  3
السنة :  السنة الثانية - ربيع 2016 م / 1437 هـ
تاريخ إضافة البحث :  April / 2 / 2016
عدد زيارات البحث :  2284
تحميل  ( 362.060 KB )
حقيقة الدين
تأصيل فلسفي، لاهوتي، كلامي
عبد الحسين خسروبناه[*]
[1]
هل يجب أن يُعرّف الدين بالتعريف الحقيقي؟ أم يجب أن يُستخدم فيه التعريف اللفظي؟ وبعبارة أخرى: هل ينتمي مفهوم الدين إلى المفاهيم الماهوية التي تنطوي على مفاهيم نوعية وكليات خمس (النوع، والجنس، والفصل، والعرض العامّ، والعرض الخاصّ)، أم أنّ مفهوم الدين ينتمي إلى المفاهيم المنطقية والفلسفية؟
توضيح ذلك: إنّ الفلاسفة وعلماء نظريّة المعرفة قسّموا عموم العلم والمعرفة إلى علم حصولي وعلم حضوري. أمّا العلم الحضوري فهو علم لا تتوسّط فيه الصورة الذهنية في التعلق بذات المعلوم، فيكون الوجود الواقعي المعلوم حاضراً عند المدرِك؛ كما في معرفة الإنسان بذاته، وهو يظهر له بالشهود الباطنيّ. وأمّا العلم الحصوليّ فهو علم تتوسط فيه الصورة الذهنية من أجل الارتباط بالمعلوم. وعليه: فإنّ الصورة الذهنية هي التي تكشف عن المعلوم الخارجيّ.
وقد قسّم علماء المنطق العلم الحصولي إلى تصوّر وتصديق. أمّا التصوّر فهو تلك الصورة الذهنية البسيطة الفاقدة للحكم؛ كمفهوم «غار حراء»، وأمّا التصديق فهو الإذعان بحكم ما، يُثبت نسبة المحمول إلى الموضوع، أو يسلبها عنه. ويتعلّق التصديق دوماً بقضيّة حملية أو شرطية؛ مثل قولك: «الإنسان حيوان ناطق»، أو «إذا طلعت الشمس كان النهار».
وينقسم التصوّر ـ في إحدى تقسيماته ـ إلى كلّيّ وجزئيّ. أمّا الكلّيّ فهو المفهوم الذي من شأنه أن يصدق على كثيرين؛ ولو بالفرض مثل مفهوم «الإنسان» الذي بإمكانه أن يصدق على مليارات من أفراد البشر. وأمّا التصوّر الجزئي فهو تلك الصورة الذهنية التي ليس من شأنها سوى الإشارة إلى موجود واحد؛ كالصورة الذهنية «سقراط».
وتنقسم كلّ من التصورات الكلية والجزئية إلى أقسام أخرى؛ فالتصورات الجزئية تنقسم إلى: حسّيّة، وخيالية، ووهمية. والتصورات الكلية تنقسم إلى: مفاهيم ماهوية (معقولات أولى)، ومفاهيم فلسفية (معقولات ثانية فلسفية)، ومفاهيم منطقية (معقولات ثانية منطقية).
ومفهوم «الدين» من المفاهيم الكلية القابلة للصدق على مصاديق كثيرة، وهنا يجب أن نبحث هل هو مفهوم ماهوي أم فلسفي أم منطقي؟
وقبل البدء في تحديد هوية مفهوم الدين وانطباقه مع أيّ من هذه المفاهيم الكلية الثلاثة، يتوجّب إلقاء نظرة على تعاريف هذه المفاهيم أوّلاً:
1. المفاهيم الماهويّة (المعقولات الأولى): هي مفاهيم ينتزعها ذهن الإنسان من المصاديق الجزئية بشكل تلقائي ومن دون الحاجة إلى أيّ عمليّة أو مقارنة ذهنية؛ مثل: مفهوم «الإنسان» و«البياض»، فبمجرّد إدراك شخصيّ واحد أو أكثر بالحواس الظاهرية أو الشهود الباطني، يتوصّل العقل إلى المفهوم الكليّ. وتمتاز المفاهيم الماهوية بأنها تحكي ماهية الأشياء، فتبيّن حدودها الوجودية، وتضع لكلّ موجود حدّاً هو بمثابة القوالب المفهومية.
2. المفاهيم الفلسفيّة (المعقولات الثانية الفلسفيّة): هي مفاهيم يتطلّب انتزاعها شيء من التأمّل والمقارنة؛ مثل: مفهومي «العلّة» و«المعلول»، حيث يُنتزعان من مقارنة شيئين يتوقّف وجود أحدهما على الآخر، فيُؤخذ المعنى من واقع هذه العلاقة. مثال ذلك: عندما نقارن بين النار وبين الحرارة المتصاعدة منها، ونلاحظ توقّف الحرارة على النار، ينتزع العقل مفهوم «العلّة» من النار، ومفهوم «المعلول» من الحرارة. وإذا لم تكن هناك أيّ مقارنة، لما كانت هذه المفاهيم. ويتميّز هذا اللون من المفاهيم الكلية بعدم وجود مفاهيم أو تصوّرات جزئية توازيها؛ فعلى سبيل المثال: لا يمتلك الذهن صورةً جزئية أو مفهوماً كلّيّاً عن «العلّيّة».
3. المفاهيم المنطقيّة (المعقولات الثانية المنطقيّة): هي مفاهيم تُنتزع من ملاحظة مفاهيم أخرى، والتدقيق في خصائصها. مثال ذلك: أننا حينما نلاحظ مفهوم الإنسان، ونجد أنه قابل للانطباق على مصاديق كثيرة، ننتزع منه مفهوم «الكلي». ولهذا، فإنّ هذه المفاهيم لا تقع إلا صفات لمفاهيم أخرى. وكل المفاهيم الأساسية في علم المنطق هي من هذه الطائفة [2].
وبملاحظة هذه التعاريف، يتّضح أنّ مفهوم الدين ليس من سنخ المفاهيم الماهويّة، ولا الفلسفيّة، ولا المنطقيّة؛ فلا الدين مفهوم يمتلك ماهية وحدّاً وجوديّاً يُعيّن مصاديقه حتّى يكون مفهوماً ماهويّاً، ولا هو مفهوم يتطلّب تأمّلاً ومقارنةً لأمرين حتّى يُنتزع منها مفهوم فلسفيّ، كما أنّه ليس بمفهوم يؤخذ من ملاحظة عدد من المفاهيم.
والسرّ في عدم انتماء هذا المفهوم الكلي إلى أيّ من هذه الأقسام الثلاثة المذكورة للمفاهيم الكلية أنّ المقسم فيها هو الكليات البسيطة؛ في حين أنّ مفهوم الدين مفهوم مركّب اعتباريّ تبلور من عناصر وأجزاء فرعية متعدّدة؛ مثله في ذلك مثل مفاهيم «الفيزياء»، و«علم النفس»، و«الرياضيّات»، و«التاريخ»؛ فمفهوم العلم مركّب اعتباريّ يضعه العلماء وضعاً وجعلاً على مركّب ما مثل: «الفيزياء» و«علم النفس».
ومحصّلة ما تقدّم أنّ مفهوم الدين ليس مفهوماً ماهوياً ينطوي على نوع أو جنس أو فصل أو عرض عامّ أو خاصّ؛ فلا تعريف حقيقيّ له إذن، ولا يصدق في حقّه أيّ من أقسام التعريف الحقيقيّ الأربعة (الحدّ التامّ والناقص، والرسم التامّ والناقص). ولهذا، اضطرّ علماء الدراسات الدينيّة إلى الاكتفاء بتعريفه حسب منهج التعريف اللفظيّ؛ ليستوعب المتلقّي مدلول هذا اللفظ، والمعنى الذي وضع له، والمراد به حين الاستخدام، تحصيناً له من اللبس الذي قد يوقعه فيه الاشتراك اللفظيّ.
وإذا كان موضوع بحثنا هو مصداق معيّن ومحدّد من المصاديق المتعدّدة للدين، فعلينا أن نستعين بالتعريف المصداقيّ: أن نوضح للمتلقّي خصائص ذلك المصداق، وأجزائه، وعناصره، وأركانه، وآثاره؛ ليتميّز عن غيره من المصاديق.
الاتجاهات المتنوّعة في تعريف الدين
التديّن حالة مدهشة ورثها الناس منذ عهد الإنسان البدائيّ في العصور الضاربة في القدم من حياة البشريّة. وهي حالة وُجدت في مختلف الأزمنة، ومستمرّة إلى يومنا هذا، وإذا تفاوتت في شكلها، وتنوّعت فيها الفِرق والمذاهب فإنّ أيّ تغييراً لم يطل مفردة «الدين» بعينها. لكنّنا نتسائل هنا: هل يمكن العثور على معنى ثابت وأساسيّ للدين؟ هل يمكن الوصول إلى معنى مشترك يلتقي فيه دين نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وخاتم النبيين محمد (عليهم أفضل الصلاة والسلام)؛ وهي الأديان الإلهية السماوية، وكذا دين بوذا (483ق.م) وكونفوشيوس (479ق.م) وغيرهما؛ بوصفها أدياناً بشريّةً أرضيّة؟
للإجابة على هذا السؤال، ينبغي لنا أن ندرس معاني «الدين» في المصادر اللغوية والدينيّة كما ستوافيه الأبحاث التالية.
مفردة «الدين» في اللغات المختلفة
تُعدّ مفردة «دين» من المفردات المشتركة بين اللغات الساميّة[3]والإيرانيّة[4].
و«الدين» في اللغة العربيّة والفارسيّة لفظ يُصنَّف على أنّه من «الأضداد»؛ لاشتماله على معان متفاوتة، بل متناقضة أحياناً؛ منها على سبيل المثال: «المذهب» و«المِلّة» و«الشريعة» و«المنهاج» و«القانون»، وكذلك: «الحساب» و«القضاء» و«الجزاء» و«القصاص»، ومعاني: «السلطان» و«الرفعة» و«الشأن»، ومعها أيضاً: «الذلّ» و«الخضوع» و«الانقياد» و«التسليم» و«المقهوريّة» و«المحكوميّة» و«المملوكيّة»، وكذلك: «العبادة» و«الطاعة»، إلى جانب «المعصية»، وغير ذلك .. [5].
وفي اللغة الإنجلزيّة تعادل المفردة «Religion» الدين في العربيّة، وهي تعود إلى الجذر اللاتينيّ «Religio»، وهي مشتقّة من المفردة اللاتينيّة «Religare» التي تعني: «التقريب»، و«الربط».
ويجب التنويه هنا بأنّ التعاريف اللغوية التي تعرضها لنا القواميس والمعاجم العربيّة والفارسية والإنجليزية وغيرها عاجزة عن كشف حقيقة مفهوم «الدين» وماهيّته، ولهذا ينبغي البحث عن المعنى الاصطلاحيّ الماهويّ له.
تعريف الدين عند المفكّرين الغربيين
قدّم المفكّرون الغربيّون ـ بما يعمّ: الفلاسفة منهم، والمتكلّمون، وعلماء النفس والاجتماع، والدراسات الدينيّة ـ حتّى الآن تعاريف معياريّة[6]، وماهويّة وصفيّة[7]، وأخرى وظائفيّة[8]، ناهيك عن التعاريف المركّبة والممزوجة[9] في موضوع «الدين»؛ نشير إليها فيما يلي بإيجاز:
1. التعاريف القيميّة المعياريّة: يرى مؤسّس اللاهوت المعتدل شلايرماخر[10] (1834م) أنّ الدين موضوع للتجربة، وهو إحساسنا بالتعلّق والتبعيّة المطلقة، وأنّ الشعور بالتناهي أمام اللامتناهي هو العنصر المعياريّ المشترك بين جميع الأديان[11]. ويُعرّف تي ميل الدين بأنّه وضع روحانيّ، وحالة فذّة محترمة تُسمّى الخشية[12]. ويُعرّفه وليام جيمس (1910م) بأنّه: الأحاسيس والأفعال والتجربيّات التي يجدها الناس في خلواتهم مع الله[13].
2. التعاريف الماهويّة الوصفيّة: يبحث هذا اللون من التعاريف عن كشف ماهية الدين، ويرى سبنسر[14] (1903م) أنّ الدين هو الاعتراف بحقيقة مفادها أنّ جميع الموجودات تجلّيات لقوّة أسمى من علومنا ومعارفنا[15]. ويُعرّفه بارسونز[16] (1979م) بأنّه مجموعة من المعتقدات والرموز (القيم التي تنشأ منها بشكل مباشر)، وهي تشتمل على التمييز بين الأمر التجريبي، والأمر المتعالي على التجربة، أو الواقع المتعالي. وهنا، تتحلّى الأمور التجريبية بأهمية أقل من الأمور غير التجريبية. والمناقشة التي نوجّهها لهذه التعاريف (المعياريّة والوصفيّة) أنها لا تنطبق على جميع مصاديق الدين في المجتمعات البشرية، أو أنّ بعض المفاهيم المستخدمة فيها مثل: «المعتقدات»، و«الأفعال»، و«الأحاسيس» غامضة، وليس هناك ما يمنع اشتمالها للمدارس الفكريّة غير الدينيّة.
3. التعاريف الوظائفيّة: هذا اللون من التعاريف ليس على نسق موحَّد، والقاسم المشترك بينها هو الحديث عن الوظائف التي يضطلع بها الدين؛ فيشير بعضها إلى الوظائف الفردية أو الاجتماعيّة للدين، ويقدّم البعض الآخر تقريراً عن الوظائف والآثار الإيجابية أو السلبية التي تُنسب للدين. على سبيل المثال: يرى براولي أنّ الدين قبل كلّ شيء هو جُهد يسعى إلى اكتناه الحقيقة الكاملة للخير في جميع أرجاء وجودنا[17]. ويذهب ريناخ[18] (1932م) إلى أنّ الدين مجموعة من الأوامر والنواهي التي تقف مانعاً في وجه الأداء الحرّ لقدراتنا. ويعتقد دوركايم[19] (1917م) أنّ الدين جامع وموحِّد لأتباعه في مجتمع أخلاقيّ واحد[20]. ويقول سنغر: الدين منظومة من المعتقدات والأفعال، يوظّفها بعض الناس لمعالجة القضايا الغائية في حياة البشر[21]. والمناقشة الأهمّ الموجّهة إلى هذا الضرب من التعاريف أنها شاملة لبعض الظواهر غير الدينيّة التي تشترك في الوظائف المذكورة، والتي لا محيص عن عدّها ديناً وفقاً لما تنصّ عليه هذه التعاريف. وعليه: فإنّ السعة غير المبرّرة لدائرة هذه التعاريف من شأنها أن تحدّ من دقّته بشكل كبير؛ فهي تسمح بدخول بعض المنظومات العقائدية والأيدولوجية - مثل: الاشتراكية - إلى داخل نطاق الدين؛ في حين أنها مدارس لا تُخفي عداءها للدين! ووفقاً لهذا التعريف أيضاً سيكون المشجّعون المستميتون لأحد أندية كرة القدم، أو المُعجَبون المغرَمون بأحد المطربين أو الممثّلين أتباعاً لدين معيّن! أضِف إلى ذلك غموض المقصود ﺑ «القضايا الغائية في حياة البشر»؛ ما هي؟ ومن يمكنه تحديدها؟ هل هم المؤمنون، أم علماء النفس والاجتماع، أو غيرهم؟ وهل إنّ أساليب الالتذاذ بالحياة، واجتناب الأذى والألم تُعدّ من القضايا الغائية في حياة البشر؟ كما يتوجّه نقد آخر لهذه التعاريف، يكمن في حكمها المسبق على الدين، ودوره أو تأثيره على المجتمعات؛ حيث يُذكر في قالب التعريف بالدين ما هو الشيء الذي يجب إثباته بنحو تجريبيّ. فعلى سبيل المثال: عندما يُقال: إنّ الدين عامل عالميّ في الحياة الاجتماعيّة؛ لأنه ضروريّ للوحدة الاجتماعيّة، والنهوض بالاستقرار الاجتماعيّ. وقد حاول أنصار هذا التعريف الدفاع عنه في قبال أيّ شاهد يمكن له أن ينقض هذه النظريّة. ولو وضعنا اليد على مجتمع فاقد لأيّ نظام دينيّ، فإنّ أنصار التعريف الوظائفيّ سوف يزعمون أن انعدام ما تعارف الناس على تسميته بالدين لا يُبطل رؤيتهم؛ لأنّ أيّ مجموعة من المعتقدات والقيم التي تعزّز الوحدة والاستقرار في المجتمع هي دين حسب رؤيتهم[22]. والشاهد على ما ذكرنا حديث دوركايم عن الدين وتعريفه المبتني على التفريق بين المقدّس واللامقدّس؛ فهو يقول فيه: منظومة متماسكة من المعتقدات والممارسات المتعلّقة بالأشياء المقدّسة؛ أي: الأمور التي يُتصَوَّر أنها مختلفة عن غيرها، وتُعدّ من الأمور المحرَّمة، وهي معتقدات وممارسات تجمع كلّ العاملين بها في مجتمع أخلاقيّ واحد[23].
4. التعاريف التركيبيّة: تتنوّع هذه الطائفة من التعاريف بشكل كبير، وتنطوي في مضمونها على تعاريف عقائديّة-أخلاقيّة، أو عقائديّة-رمزيّة، أو عقائديّة-آدابيّة، وهكذا... نذكر منها على سبيل المثال: ما ذهب إليه دوبيلاري[24]؛ حيث ارتأى أنّ الدين نظام موحَّد من المعتقدات والآداب المرتبطة بحقيقة سامية ومتعالية على التجربة، هي توحِّد كلّ أتباعها، والمؤمنين بها، لتأسيس مجتمع أخلاقيّ موحَّد[25]. ويرى ماستراو أنّ الدين مركّب من أمور ثلاثة؛ هي: الاعتراف بقدرة (أو قدرات) ليست تحت تصرّفنا، والعلم بخضوعنا ومقهوريّتنا لهذه القدرة (أو القدرات)، وطلب الارتباط بها. ويتحصّل من هذه العناصر الثلاثة ما يلي: الدين إيمان نظريّ بقوّة أو قوى مجرّدة عنّا، ومسيطرة علينا، وينتج عن هذا الإيمان أمور؛ هي: منظومات وقوانين محدّدة، وأفعال معيّنة، وأنظمة خاصّة تربطنا وتصلنا بتلك القوّة (أو القوى) [26]. وإذا ما أمعنّا النظر في هذه التعاريف، لوجدنا أنها تسمح أيضاً بدخول بعض المدارس غير الدينيّة إلى نطاق التعريف، فتشتمل مثلاً الليبرالية والماركسية.
نستنتج مما تقدّم أنّ التعاريف المعيارية والماهوية والوظائفية والتركيبية التي تعرض لها المفكّرون الغربيّون للدين بنظرة علم ـ اجتماعيّة تفتقر للجامعية والمانعية المطلوبة في التعريف؛ فلا ينطبق أيّاً مما ذكر على الأديان الحاضرة في المجتمعات البشرية، بل إنها تنطبق على بعض المدارس الفكرية غير الدينيّة.
ومن هذا المنطلق، تمسّك فيتغنشتاين[27] (1951م) في تعريفه المفاهيميّ عن الدين بنظريّة «التشابه العائليّ»[28]. وعلى أساس من هذه الرؤية، ليس هناك أيّ قاسم مشترك بين المصاديق المتنوّعة للدين. أمّا جيمس[29] (1910م) فقد استنتج من التنوّع الوسيع لمصاديق الدين أنّ هذه المفردة لا تدلّ على مبدأ موحَّد، بل هي اسم يُطلق على مجموعة من الطقوس[30] [31]. هذا، وقد أعرض ماكس فيبر[32] (1920م) في مطلع كتابه حول علم الاجتماع الدينيّ عن تعريف الدين، زاعماً أنّ هذا يجب أن يحدث بعد الفراغ من البحوث والدراسات القارئة للدين[33]. لكنّه لم يبلور نظريّة واضحة في دراساته الاجتماعيّة؛ لأنه لو رام إلى وضع تعريف جامع ومانع يشمل كلّ الأديان الموجودة لتورّط في دوّامة العناصر الغامضة والمجملة في التعريف.
تعريف الدين عند المفكّرين المسلمين
استعرض الحكماء والمتكلّمون والمفسّرون المسلمون تعريفاتهم لحقيقة الدين، بعيداً عن الأساليب الأُحادية المحور، فلم يُعرّفوه بأسلوب أو منحى معرفيّ-عقائديّ، أو بمنحى وجوديّ، أو وظائفيّ، أو ما شاكل ذلك، بل اختاروا منهج التعريف الشامل الجامع. وعلى سبيل المثال:
يقول العلامة الطباطبائيّ (1402ﻫ):
الدين هو مجموعة المعتقدات والقوانين التي تناسبها ممّا له جانب عمليّ في الحياة ([34]).
ويقول العلامة الجواديّ الآمليّ في تعريفه للدين:
إنه مجموعة العقائد والأخلاق والقوانين التي جاءت لإدارة شؤون المجتمع البشريّ، وتربية الإنسان، فإذا كانت حقّةً سُمّي الدين بالدين الحقّ. وعليه: فإنّ الدين الحقّ هو دين نزلت عقائده وقوانينه من الله عَزَّ وَجَلَّ، والدين الباطل هو الذي جاء وُوضع ونُظّم من عند غير الله[35].
ويرى حامد الغار[36] في شرحه عن الدين:
إنّه مجموعة من الأحكام والعقائد التي وضعها الله تَبَارَكَ وَتَعَالىٰ بين يدي الإنسان لهدايته وإيصاله إلى السعادة الدنيوية والأخرويّة... وإنّ الدين والدنيا والحياة أمور مندكّة في بعضها، وقد جاء الدين لإصلاح الحياة، وهدايتنا في بوقتة الدنيا. وإنّ معرفة الأسلوب والنموذج الصحيح للحياة لا يتسنّى من دون الوحي، والعمل بأحكام الدين... الدين شامل للمعارف العقلية، والشهود القلبيّ والعمليّ الشرعيّ[37].
وعن تعريف الدين أيضاً يقول الشيخ العلامة السبحانيّ:
هو ثورة فكرية تقود الإنسان إلى الكمال والترقي في جميع المجالات. وما هذه المجالات إلا أبعاده الأربعة: تقويم الأفكار والعقائد وتهذيبها عن الأوهام والخرافات، وتنميه الأصول الأخلاقية، وتحسين العلاقات الاجتماعيّة، وإلغاء الفوارق العنصريّة والقوميّة[38].
ويقول العلامة الشيخ مصباح اليزديّ:
«الدين» كلمة عربية، ذكرت في اللغة بمعنى: الطاعة والجزاء. وأمّا في الاصطلاح فتعني: الإيمان بخالق الكون والإنسان، وبالتعاليم والأحكام العمليّة الملائمة لهذا الإيمان[39].
التعريف المختار للدين
مكانة البحث عن حقيقة الدين في خضمّ قضايا الدراسات الدينيّة ليست على نحو واحد، أو وتيرة مشابهة؛ فبعضٌ من تلك القضايا تتوقّف بنحو تامّ على تعريف الدين، ومن دون تحديد تعريف دقيق له، والكشف عن هويته وحقيقته، أو ما يقصده الباحث ـ على أقل التقادير ـ لا يمكن تقديم أيّ تفسير، أو تحليل لتلك القضايا. ومن بين الأبحاث والقضايا التي هي على هذا النحو: البحوث المتعلّقة بالعلاقة بين الدين والدنيا، أو الدين والآخرة، أو العلم والدين، أو العقل والدين، وهلمّ جرّاً..
وهناك قضايا أخرى ممّا تتناولها بحوث الدراسات الدينيّة تتميّز بترابطٍ متبادلٍ مع حقيقة الدين. ومثالها: القضايا المرتبطة بحاجة الإنسان للدين وتوقّعاته منه، ونطاق الدين؛ فمن جهة: يتوقّف البحث عنها على تعريف الدين؛ لأنّ الإجابة المنطقية على التساؤل عمّا يتوخّاه الإنسان ويرتقبه من الدين، أو عن نطاق الدين، لا تتأتّى من دون معرفة معنى الدين وحقيقته، ومن جهة أخرى: فإنّ تحديد ماهيّة الدين هي النتيجة والثمرة التي ينتهي إليها هذان البحثان. وبعبارة أخرى: هنالك دور هرمنيوطيقيّ في هذا النوع من القضايا. وبطبيعة الحال، يكفي أن نفرّق ونميّز بين التعريف الإجماليّ والتفصيليّ للدين؛ كي نتفادى التورّط في الدور الفلسفيّ.
هذا، ويمكن استعراض تعريف الدين حسب رؤيتنا من خلال ثلاث زوايا مختلفة؛ هي: المنحى التجريبيّ، والعقليّ، والنقليّ؛ كما يلي:
المنحى التجريبيّ والاجتماعيّ
يعتمد هذا المنحى التجريبيّ أو الاجتماعيّ على دراسة جميع مصاديق الدين؛ بما يعمّ الأديان الإلهية والوضعية؛ التوحيدية وغير التوحيدية؛ السماوية وغير السماوية، ثمّ الخلوص إلى نتيجة هذا البحث والدراسة في صورة تعريف جامع لكلّ الأفراد، ومانع لكلّ الأغيار.
وقد ذهب جمع غفير من المحققين إلى تعسّر الوصول إلى تعريف جامع ومانع يحتوي الأديان الموجودة كافّةً لسببين:
1. إنّ التحوّلات والتغييرات المتلوّنة التي شهدتها الأديان على مرّ التاريخ تسبَّبت في تبلور مِلل ونِحل عديدة ومختلفة. وقد تبنّت هذه الأديان والملل والنحل المتنوّعة معتقدات مختلفة، بل متضادّة، ومتناقضة أيضاً. ولهذا، لا يمكن الوصول إلى تعريف دقيق، تستظلّ بمظلّته جميع المعتقدات الدينيّة إلّا إذا لجأنا إلى مفردات غامضة في التعريف؛ وهذا ـ كما ألمحنا مسبقاً ـ أسلوب خاطئ، ولا ينسجم مع الغرض من التعريف بتاتاً.
2. إنّ تعريف الدين ليس مسألة أوّليّة في سلّم أبحاث الدراسات الدينيّة؛ فإنّ ماهية الدين تنطوي على أسس ومبادئ إبستمولوجية، وأنثروبولوجية، وأنطولوجية، ووظائفية، كما أنّ معطيات علم المناهج لها تأثيرها في تمحيص التعاريف المقدَّمة عن الدين، وترجيح بعضها على الآخر؛ فعلى سبيل المثال: تُقدِّم المناهج النصوصيّة المنتمية للداخل الدينيّ، وعمليّات مراجعة مصادر كلّ دين تعريفاً معيّناً، فيما تخلص المناهج اللانصوصيّة الخارجة عن الأطر الدينيّة ـ كالمنهج الوظائفي مثلاً ـ إلى تعاريف أخرى مختلفة؛ نظراً إلى التنوّع الموجود في مصاديق الأديان.
وفي تقديرنا، يمكن في المنحى التجريبيّ الاجتماعيّ الإشارة إلى ثلاثة قواسم مشتركة، لا ضير في إسنادها إلى جميع الأديان الإلهية والوضعية؛ هي:
1. الإيمان بعالم باطنيّ ملكوتيّ، يُقابل العالم الظاهريّ المُلكيّ.
2. الإيمان بقضية النجاة والفلاح.
1. تقديم منظومة وصفية معيارية لاكتشاف العُلقة بين المُلك والملكوت، والفوز بالنجاة والفلاح.
وإنّ جميع الأديان الإلهية والوضعية تؤمن بأنها تستطيع هداية الإنسان نحو العُلقة بين الظاهر والباطن، أو الملك والملكوت، وكيفية العبور من الظاهر للوصول للباطن في هذا العالم، وكذلك سبل الفوز بالنجاة والفلاح. ولا يخفى أنّ المنحى التجريبيّ ليس من شأنه أن يكشف النقاب عن حقّانيّة هذا المدّعى أو بطلانه، أو أن يميّز بين الدين الحقّ والدين الباطل، وهو يكتفي بتقديم تقرير محايد عنه. ولهذا، فإنّ الوقوف على حقّانية المزاعم الدينيّة أو عدمها أمر مطلوب من المنحى المنطقيّ.
المنحى العقليّ والمنطقيّ
المنحى البحثيّ الثاني الذي يمكن اتّباعه في الكشف عن حقيقة الدين وماهيّته هو المنحى العقلي والمنطقي؛ حيث يقوم هذا الأسلوب البحثيّ بدراسة مدّعيات الأديان، وتمحيصها بعيداً عن ملاحظة ما تطلقه من مزاعم، وذلك من خلال توظيف القواعد المنطقية. ويمكن للأسس الإبستمولوجية والأنثروبولوجية والأنطولوجية والوظائفية أن تمدّ يد العون لتعزيز عمليّة الوصول إلى تعريف منطقي للدين.
ويعتمد المنهج المنطقي في عملياته على توظيف القواعد المنطقية لإثبات وجود إله حكيم مستجمع لجميع الكمالات، ثمّ الحكم بضرورة وجود حياة تعقب الموت على أساس من العدل الإلهيّ والحكمة الربّانيّة، ثم التدليل على الصلة التي تربط المعتقدات والأفعال والسلوكيّات الدنيويّة بالعالم الأخرويّ، وبعبارة أخرى: العلقة بين العالم الظاهر (الملك) والعالم الباطن (الملكوت)، ثمّ تبرهن بعد ذلك على عجز الأدوات والمصادر البشرية الاعتيادية ـ كالعقل والتجربة والشهود ـ عن كشف العلقة بين هذين العالمين (الدنيا والآخرة، أو الظاهر والباطن، أو الملك والملكوت)، وكذلك عجزها عن تأمين السعادة والفلاح للإنسان. ثمّ يستنتج من الحكمة الإلهية ضرورة التمهيد لهداية الشر. ولا تتحقّق هداية الإنسان إلا بعد ظهور الوحي الإلهيّ والدين الحقّ، وصيانتهما من التحريف اللفظيّ والمعنويّ.
أمّا حقيقة الدين في هذه الرؤية فتتحلّى بمبدأ فاعليّ إلهيّ، ومبدأ غائيّ محقِّق للسعادة، ومبدأ مضمونيّ تفسيريّ للعلقة بين الملك والملكوت، وسبل الفوز بالسعادة.
وهذا التعريف لا ينطبق إلا على بعض الأديان، وليس جميعها؛ فالأديان الوضعية البشرية وإن ادّعت أنها تمثّل الظاهر والباطن للعالم وللنجاة والفلاح الإنسانيّ، وينطبق عليها مسمّى «الدين» في المنحى التجريبيّ، لكنّها لا تُعدّ ديناً حقيقيّاً؛ بمعنى أنها عاجزة عن هداية الإنسان أو إسعاده، وغير مؤهّلة لاكتناه العلقة الحقيقية بين ظاهر العالم وباطنه.
المنحى النصوصيّ الدينيّ
المنحى البحثيّ الثالث الذي يمكن توظيفه في معرفة حقيقة الدين هو المنحى النصوصيّ المنتمي للداخل الدينيّ، من خلال مراجعة المصادر الدينيّة. ولا يخفى أنّ مفردة «الدين» قد استخدمتها بعض النصوص الدينيّة؛ مثل: الأبستاق[40]، والتوراة، والقرآن الكريم. ويمكن للبحوث الدلالية الدارسة لهذه المفردة أن تسهم في معرفة حقيقة الدين بشكل مؤثّر.
مفردة الدين في الأبستاق
المقصود بمفردة الدين في الأبستاق لفظة «دَئنا»، أو «Daena». وتعود جذور هذه الكلمة إلى معانٍ مثل: التفكير، والاطلاع، والمعرفة. وتُعدّ الدئنا في الديانة الزرادشتية من الأسس والأصول؛ لأنها القوّة المُدركة التي يتميّز بها الإنسان، وتمنحه القدرة على معرفة الصالح والطالح، والتي تجري على أساسها عمليّات الاختيار والاصطفاء، ومن ثمّ النجاة والخلاص. وقد عزا البعض مفردة الدئنا إلى اللفظة «داي»، أو «Day» التي تعني الإبصار. ولهذا، ذهبوا إلى أنها تعني: «النظر» و«الرؤية»؛ لكن ليس بمعنى الرؤية الاعتيادية، بل الرؤية الدينيّة والشهودية على نحو الحصر؛ أي: الوسيلة التي يجد بها الإنسان الحقيقة الإلهية[41].
مفردة الدين في التوراة
لم تُستخدم مفردة «الدين» في العهد الجديد أو الأناجيل الأربعة، لكنّها ومشتقاتها اللغوية وردت في التوراة بمعنى: «القضاء» و«الجزاء» في هذه الحياة الدنيا؛ وليس القضاء والجزاء في الحياة الأخرى بعد الموت.
ومن نماذج القضاء الإلهيّ في التوراة: قصص طوفان النبيّ نوحj، وخراب قريتي «سدوم»[42] و«عمورة» [43] اللتين ورد ذكرهما في سِفر التكوين، والاسمان «دان Dan» و«دينة Dena» المنسوبان إلى أبناء يعقوبj، ومن المحتمل أنهما مشتقان من مفردة الدين ولهما ارتباط معنوي بالقضاء والجزاء أيضاً.
وقد استخدمت المفردة «دان Dan» في سِفر التكوين أيضاً؛ حيث تقصّ الرواية التوراتية أنّ راحيل زوجة يعقوب كانت عاقراً، في حين كان لأختها ذريّة كثيرة. فدبّت نار الغيرة والحسد في نفسها تجاه أختها، وخاطبت يعقوبَ أن ائتيني بذريّة، وإلا مِتُّ. فزوّجته جاريتها «بِلْهَة» التي حملت من يعقوبَ بغلام، ولدته في حجر راحيل. فقالت راحيل: قد قضى لي الله، وسمع لصوتي، وأعطاني ابناً، ولهذا أسموه دان[44].
ومن هنا، فإنّ مفردة الدين ومشتقّاتها وردت في التوراة بمعنى القضاء والجزاء الدنيويّين، لكنّ هذه الكلمة بعينها جاءت في التلمود[45] بمعنى القضاء والجزاء الأخرويّين.
مفردة الدين في القرآن الكريم
وردت مفردة «الدين» في الكتاب والسنّة بمعانٍ عديدة؛ منها ما يلي:
1. النظام المعرفي والقيميّ عموماً (الحقّ والباطل): كما في قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾[46]، ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ [47]. ﴿َمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾[48].
2. النظام المعرفيّ والقيميّ الإلهيّ الحقّ: كما في قوله تعالى: ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾[49]، ﴿وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾[50]، ﴿ِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾[51]، ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾[52]، ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ ([53])، وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ ([54]).
3. الجزاء والحساب: كما في قوله تعالى: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾([55])، ﴿وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ﴾[56].
4. الشريعة والقانون[57]: كما في قوله تعالى: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾[58]، ﴿فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾[59]؛ وإن كان المعنى الأوّل والثاني محتملٌ أيضاً في هذه الآيات.
5. الطاعة والعبادة والتديّن[60]: كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ﴾[61]، وقد ورد في الحديث الشريف: «الإسلام هو التسليم، والتسليم هو اليقين»[62].
6. الإيمان والعقيدة القلبيّة[63]: كما في قوله تعالى: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [64]، ﴿َمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً﴾ [65].
7. الإسلام: وردت مفردة الدين في القرآن الكريم بمعنى «الإسلام» والرسالة الخاتمة المنزّلة على الرسول الأعظمn في الآية التاسعة عشر من سورة آل عمران[66]، كما وردت بهذا المعنى بكثرة في الأحاديث الشريفة؛ فعلى سبيل المثال: روي عن النبيّn أنه قال: «بُني الإسلام على عشرة أسهم: على شهادة أن لا إله إلا الله وهي الملّة، والصلاة وهي الفريضة، والصوم وهو الجنّة، والزكاة وهي الطهارة، والحجّ وهو الشريعة، والجهاد وهو العزّ، والأمر بالمعروف وهو الوفاء، والنهي عن المنكر وهي المحجّة، والجماعة وهي الألفة، والعصمة وهي الطاعة»([67]). وقد سأل كُميل بن زياد أميرَ المؤمنينj عن قواعد الاسلام ما هي؟ فقال 7: «قواعد الاسلام سبعة: فأولها العقل، وعليه بُني الصبر، والثاني صون العرض وصدق اللهجة، والثالثة تلاوة القرآن على جهته، والرابعة الحبّ في الله والبغض في الله، والخامسة حقّ آل محمّد ومعرفة ولايتهم، والسادسة حقّ الإخوان و المحامات عليهم، والسابعة مجاورة الناس بالحسنى»[68]. وروي عن الإمام الباقرj أنه قال: «بُني الإسلام على خمس: على الصلاة، والزكاة، والصوم، والحجّ، والولاية..»[69].
ويرى بعض الكُتّاب[70] أنّ كلّ مفردة تنطوي على معنى رئيسيّ ومركزيّ واحد تبقى روحه مخيّمة على اللفظ؛ وإن طرأت عليه تطوّرات دلاليّة متعاقبة، مَثَلُه في ذلك مَثَلُ أيّ عنصر من مجموعة عناصر تتألّف منها منظومة حيّة، فعلاقته وصلاته بالعناصر الأخرى لتلك المنظومة في حال تجدّد وتبدّل مستمّرين، ولعلّه في خضمّ تلك التطوّرات والتبدّلات يضطلع بأدوار جديدة لم تكن من ذي قبل؛ كما في الأدوار التي يلعبها الفرد الإنسانيّ في مجتمعه الذي يعيش فيه. فالمنظومة اللغوية لها وضع مشابه لذلك؛ ولو على نحو الموجبة الجزئية. ولو لم نقبل بهذه الرؤية كقاعدة كلّية، فإنّ صدقيّتها في المفردات القرآنية ليست بالأمر البعيد.
ومن هنا، فإنّ وجود عشرات الآيات ومئات الجمل المتنوّعة التي استخدمت فيها مفردة «الدين» من شأنه أن يضعنا في مواجهة مع عشرات المعاني المختلفة لهذه المفردة، لكنّ المعاني المتغيّرة لا تتّصف بالمصداقية والاعتبار إلا إذا أُخذت ضمن تركيبتها اللغويّة التي تتموضع فيها، ولم تتناقض مع المعنى الأساسيّ والمركزيّ.
ولا يخفى أنّ أحد العوامل التي أدّت إلى حدوث اضطرابات كثيرة في المعاني التي تنقلها لنا المعاجم والقواميس اللغويّة هو التركيز المتزايد على حشد مجموعة من المعاني النسبيّة المتنوّعة لمفردة واحدة، بدل السعي في تحديد المعنى الأساسيّ لها. فعلى سبيل المثال: لو راجعنا قاموساً مثل «المنجد في اللغة» لنلحظ فيه معاني مفردة «الدين»، لوجدنا أنه يستعرض تسعةً وعشرين معنى مختلف لها، في حين أنّ كلاً من هذه المعاني لا يمكن الأخذ به كمدلول دقيق ومناسب لهذا اللفظ إلاّ إذا لوحظ في تركيبة ونسيج لغويّ معيّن استُخدم فيه، ولا يتسنّى لهذا المعنى أن يرتبط بلفظ «الدين» خارج هذه الدائرة.
والشواهد القرآنية تشير إلى أنّ المعنى الأساسي والمركزي للدين في جميع الحالات المتغيّرة لهذه الكلمة - سواء وردت في مجالات الآداب أو الشعائر أو السلوكيات أو الحقوق الاجتماعيّة وغيرها، ومن دون ملاحظة التطوّرات الزمانية والمكانية الطارئة عليها - هو دائماً معنى واحد فقط. والمعنى الأساسي هو ذلك الجوهر الباطني الذاتي الفريد الذي لا يتقيّد بالأزمنة والأمكنة والأفراد؛ بخلاف المعنى النسبيّ الذي يتأثّر بكلّ ذلك.
وهنا نقول: إذا أردنا الالتزام بهذا المبدأ، أو حتّى إذا لم نشأ فعل ذلك، واكتفينا بما نستنتجه من مجموع الآيات القرآنية التي وردت في مفردة الدين، فسوف يكون بمقدورنا اكتناه المعنى الحقيقيّ لهذه المفردة في الكتاب والسنة. وحسب تقديرنا، فإنّ حقيقة الدين في النصوص الدينيّة هي: «مجموع الرؤى والمناهج والسلوكيّات التي تبيّن للإنسان طريق السعادة والنجاة».
توضيح ذلك: أنّ الدراسة الدلالية للآيات القرآنية المباركة تهدينا إلى أنّ مفردة «الدين» قد استُخدمت غالباً في معنيين مختلفين أكثر من المعاني الأخرى؛ وهما:
1. معنى «المذهب» و«المِلّة» و«الشريعة» و«القانون» و«الآداب»؛ كما استُخدمت في قوله تعالى: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ [71]، ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾[72]، ﴿وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً﴾[73]، ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ﴾[74]، ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ﴾[75]، وغيرها.
2. معنى «الحساب» و«القضاء» و«الجزاء» و«الثواب» و«العقاب» وما شاكل ذلك؛ ومنه قوله تعالى: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾[76]، ﴿وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ﴾[77]، ﴿الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ﴾[78]، ﴿َرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ﴾[79]، وغيرها.
نعم؛ استخدمت لفظة «الدين» بمعنى «التديّن» في كثير من النصوص الدينيّة، وهو معنى يجب إرجاعه إلى المعنى المرتبط بحقيقة الدين.
وإنّ التأمل الدلالي في هاتين الطائفتين من المعاني يأخذنا إلى منطلق وجذر معنويّ واحد لهذه المفردة في القرآن الكريم، وهو ما يمكن استكشافه من خلال وقوفنا على أصل موضوعيّ قرآني مسبق؛ مفاده: الترابط التكويني بين المعتقدات والأفعال من جهة، والنتائج المترتبة عليها من جهة أخرى؛ وهو ما يمكن استنباطه بشكل واضح وصريح من آيات قرآنية عديدة.
وتلخيصاً لما تقدّم، نستنتج النقاط التالية:
1. المعنى الأساسي هو الروح المعنويّة التي تُخيّم على المفردة في جميع صورها وتقلّباتها الصرفية والنحوية المتنوعة؛ كما في معنى «الحبس» أو «المنع» الذي يخيّم على معاني مفردة «العقل» بجميع مشتقّاتها. وإنّ المفردة الواحدة قد تتعانق في أنسجة لغويّة مختلفة وجملات متعدّدة ضمن ظروف زمانية ومكانية متفاوتة مع شبكة وسيعة من المعاني، لكنّها تحتفظ في جميع أحوالها تلك بمعناها الأساسيّ والمركزيّ. والمعنى الأساسيّ الذي يمثّل القاسم المشترك لمعاني مفردة «الدين» هو تلك الرؤى والمناهج والسلوكيّات التي ستؤول إلى نتائجها فيما بعد.
2. استخدمت مفردة «الدين» في القرآن الكريم بغضّ النظر عن المبدأ المشار إليه آنفاً للدلالة على معنيين رئيسيّين يرتبط أحدهما بدار الدنيا، والآخر بالآخرة. أمّا الذي يخصّ عالم الدنيا فهو السلوك والفعل المستند إلى القانون الإلهي وما جاء به الرسل والقادة الإلهيون؛ وهو المسمّى ﺑ «الدين القيّم»، أو «دين الحق». وأمّا الذي يخصّ عالم الآخرة فهو انتقال المؤمنين والمحسنين إلى الجنّة؛ لينالوا أجورهم في حياةٍ خالدةٍ، وانتقال الكافرين والمسيئين إلى النار والعذاب الأبديّ. ويدلّ هذان المعنيان على أنّ الحياة في الدنيا وفي الآخرة تتحلّى بالقدسيّة، ويشيران أيضاً إلى أنّ التعدّي على حقوق الناس في هذا العالم يستتبعه جزاء أخروي في العالم الآخر. فالدين ـ إذن ـ يمثّل الحقائق التي تبيّن للإنسان النتائج الأخرويّة لمعتقداته وأفعاله وسلوكيّاته في الدنيا؛ فإذا كان الدين منتسباً لله جَلَّ وَعَلا كانت النتائج الأخروية التي يعرضها لعقيدة الإنسان وسلوكه مطابقة للواقع، وجاز لنا الاعتماد إليها، وإلا فلا يمكن الركون إلى أي دين آخر يزعم مقدرته على كشف العلاقة بين الأفعال في الدنيا والمصير الأخرويّ السعيد أو الشقيّ.
3. المصدر الوحيد الذي يمكنه أن يميّز القضيّة الدينيّة عن غيرها من القضايا هو المصدر الذي لا يعجز عن تبيين العلاقة بين الدنيا والآخرة، أو الملك والملكوت بنحو يقيني وقطعيّ. وهذا يعني أنّ المصادر الدينيّة وحدها هي الكفيلة بذلك؛ وعلى صعيد متّصل، يمكن عدّ المتبنّيات والتعاليم العقلية التي تتصف بالشرطين التاليين ضمن مجموعة القضايا الدينيّة أيضاً. والشرطان هما: أوّلاً: أن يكون ذلك في سياق تبيين العلاقة بين الدنيا والآخرة، أو الصلة التي تربط الحياة الدنيوية بالسعادة أو الشقاء في الآخرة، أو قل: الربط بين المُلك والملكوت. وثانياً: أن يُبيَّن مضمون الشرط الأوّل على نحو يورث القطع أو الاطمئنان. ولا تتّصف القضية العقلية بأنها «دينيّة» إلا إذا استوفت هاتين النقطتين. من هنا، فإنّ القضايا المتعلقة بمباحث الإلهيات بالمعنى الأخصّ (بحوث معرفة الله ومعرفة النبيّ والإمام والمعاد العقليّة) يمكن عدّها ضمن القضايا الدينيّة. أمّا القضايا القطعيّة الأخرى كالقضايا الرياضياتية أو الأبحاث المسمّاة بالأمور العامة في الفلسفة فلا تُعدّ من القضايا الدينيّة وفق المعطيات اللغوية والدلالية القرآنية؛ لأنها ليست بصدد بيان المآل الأخرويّ للمعتقدات والأفعال الدنيوية، أو بيان العلقة بين الملك والملكوت. وحاصل ما تقدّم أننا نذهب إلى عدم اقتصار القضايا الدينيّة على النصوص الدينيّة، بل نرى علاوةً على ذلك انضمام القضايا العقلية اليقينية، أو المورثة للاطمئنان إلى حظيرة القضايا الدينيّة، طالما أنها نصّت على العلقة بين الدنيا والآخرة، أو أخذت هذا الترابط من الكتاب والسنّة.
4. الصراط المستقيم في القرآن الكريم هو الدين الإلهي: يقول تعالى: ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾[80]، وقد نقل الإمام الباقرj عن الرسول الأعظمn أنه قال في تفسير هذه الآية: إنّ دين إبراهيمj هو دينيّ[81]. وقال تعالى: ﴿الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ [82].
5. تدلّنا الأبحاث السابقة إلى وجود انسجام وتناغم دلاليّ في موضوع حقيقة الدين بين المنحى التجريبي والعقلي والنقلي. وحقيقة الدين هي التعاليم المبيِّنة للجزاء الأخروي المترتب على الرؤى والمناهج والسلوكيات الدنيوية؛ بما يضمن نجاة الإنسان وسعادته. فإذا كانت التعاليم مستندةً إلى الله جَلَّ وَعَلا كان الدين حقّاً وإلهيّاً، وإلا فهو دين باطل وغير إلهيّ. وإن اشتملت الأديان الباطلة على بعض التعاليم الحقّة فهذا لا يعني أنّ مزيج الحقّ والباطل يمكن له ضمان سعادة الإنسان أو نجاته.
[1]* ـ أستاذ الفلسفة وعلم الكلام في جامعة المعارف ـ قم ـ إيران.
ـ نقله عن الفارسية: محمد حسين الواسطي.
[2]ـ راجع: المنهج الجديد في تعليم الفلسفة، مصباح اليزدي، ج1، الدرس 15.
[3]ـ اللغات الساميّة هي إحدى فروع أسرة اللغات الأفروآسيويّة. وهي فرع استقلّ تدريجياً ليشكل ما يفترضه اللغويّون من لغة سمّوها اللغة السامية الأمّ. وتُنسب هذه اللغة للساميين الذين ينسبون إلى سام بن نوح. يتحدّث باللغات السامية حاليّاً حوالي 467 مليون شخص، ويتركز متحدّثوها حاليّاً في الشرق الأوسط وأفريقيا. أكثر اللغات الساميّة انتشاراً هذه الأيّام هي العربيّة (22 دولة)، والأمهريّة (إثيوبيا)، والتيغرينيّة (إرتريا وإثيوبيا)، ثمّ العبريّة (اليهود).
[4]ـ لاحظ: فرهنگ فارسي، محمّد معين، ج2، مفردة «دين».
[5]ـ هذا، ويحلّل صاحب كتاب «التحقيق في كلمات القرآن الكريم» هذا الجذر اللغويّ بقوله: « الأصل الواحد في هذه المادّة: هوالخضوع والانقياد قبال برنامج أو مقرّرات معيّنه. ويقرب منه: الطاعة والتعبّد والمحكوميّة والمقهوريّة والتسليم في مقابل أمر أو حكم أو قانون أو جزاء. وبهذا الاعتبار، يفسّر اللفظ بما يقرب من مصاديق الأصل؛ من الجزاء والحساب والدين والطاعة والذلّ والعادة والمملوكيّة وغيرها. ولازمٌ أن نتوجّه بأن المعنى الحقيقىّ هو ما قلناه، ولا بدّ من اعتبار القيدين الخضوع وكونه في مقابل برنامج. وأمّا مطلق الانقياد أو الطاعة أو الجزاء أو غيرها: فليس من الأصل. ومن لوازم هذا الأصل وآثاره: ذلّة ما أو العزّة بعد الانقياد، وهكذا حصول التعبّد والمحكوميّة، واجراء الجزاء خيراً أو شرّاً، وتحقّق الطاعة أو المعصية والتثبّت والاعتياد. وهذا المعنى إذا لوحظ من جانب البرنامج: يطلق عليه الحكم والجزاء والحساب والإعطاء وما يقرب منها. وإذا اعتبر من جانب المطاوع والقابل فيستعمل في معاني الطاعة والذلّ والمملوك والدين إذا يأخذه و غيرها».
[6] ـ Normative definition.
[7] ـ Descriptive definition .
[8] ـ Functional definition.
[9] ـ Complex.
[10]ـ فردريش دانيال أرنست شلايرماخر (1834 - 1768) Friedrich Daniel Ernst Schleiermacher : فيلسوف ألمانيّ ومؤسّس اللاهوت البروتستانتيّ الحديث، ذاع صيته بسبب عمله عن أفلاطون، وتجلّى اهتمامه بالمشكلات الهرمنيوطيقية (تأويل النصوص الدينيّة)، ويعدّ مؤسّس الهرمنيوطيقا الحديثة.
[11]ـ الدراسات الدينيّة، ج 1، ص 85 (بالفارسية)؛ العلم والدين، ص 131 (بالفارسية).
[12]ـ العقل والإيمان الدينيّ، مصدر سابق، ص 18.
[13]ـ فلسفة الدين، ص 2.
[14]ـ هربرت سبنسرHerbert Spencer.
[15]ـ المصدر السابق. ص 2. وقد نُقل عنه قوله في تعريف الدين: الاعتقاد بالحضور الفائق لشيء غامض وعصيّ على الفهم. وكذا: الإيمان بقوّة لا يمكن تصوّر ماهيّتها الزمانية ولا المكانية. راجع كتابه: المبادئ الأوليّة First Principles.
[16]ـ تالكوت بارسونز Talcott Parsons.
[17]ـ العقل والإيمان الدينيّ، مصدر سابق، ص 18.
[18]ـ سالومون ريناخ Salomon Reinach : عالم آثار فرنسي..
[19]ـ إميل دوركايم Émile Durkheim : فيلسوف وعالم اجتماع فرنسيّ يهوديّ. يُعدّ أحد مؤسّسي علم الاجتماع الحديث.
[20]ـ وقد نُقل عنه قوله في تعريف الدين: أنه منظومة متماسكة من المعتقدات والممارسات المتعلّقة بالأشياء المقدّسة تضمّ أتباعها في وحدة معنويّة. راجع كتابه: الصور الأوّليّة للحياة الدينيّة Les Formes élémentaires de la vie religieuse..
[21]ـ علم الاجتماع الدينيّ (The Sociology of Religion)، مالكولم هاميلتون، ص 31 [النسخة الفارسيّة].
[22]ـ علم الاجتماع الدينيّ، مصدر سابق، ص 32.
[23]ـ المصدر السابق، ص 22-23.
[24]ـ كارل دوبيلاري Karel Dobbelaere (من مواليد 1933م): عالم اجتماع بلجيكيّ متخصص في الدين. وهو أستاذ فخري في كل من جامعة أنتويرب والجامعة الكاثوليكية في لوفين ببلجيكا. ترأس سابقاً الجمعية الدولية لعلم الاجتماع الدينيّ.
[25]ـ الكتاب وطبع عام 2005، ترجمة: درويش الحلوجي، منشورات المجلس الأعلى للثقافة في مصر.
[26]ـ ماهيّة الدين ومنشأه، فضل الله كمپاني، ص 112-113 (بالفارسيّة).
[27]ـ لودفيغ فيتغنشتاين Ludwig Wittgenstein : فيلسوف وعالم منطق نمساويّ، انقسمت حياته الفلسفيّة إلى فترتين؛ في الأولى: كتب رسالته المشهورة في المنطق «الرسالة» حاصراً وظيفة الفلسفة بتحليل اللغة فقط، ورأى أن هذه اللغة تخضع لجملة من القواعد المنطقية هي بمنزلة «الصياغة المنطقية للغة». وفي الفترة الثانية: بدأ بنقد «الرسالة» وتطويرها إلى «بحوث فلسفية»، وفيها رفض أي أثر للفلسفة في تقديم تفسيرات للعالم وما يدور فيه.
[28] ـ Family resemblance.
[29]ـ ويليام جيمس William James : فيلسوف مثاليّ أمريكيّ من أصل أيرلنديّ. يُعدّ من روّاد علم النفس الحديث. كتب مؤلّفات مؤثّرة في علم النفس الحديث وعلم النفس التربويّ، وعلم النفس الدينيّ، والتصوّف، والفلسفة البراغماتيّة. وقد ذهب في نظريّته عن الدين بأنه تجربة فرديّة، جوهرها العاطفة الدينيّة؛ لا الطقوس، وأنّ الشعور الدينيّ شعور باطنيّ بالمشاركة في موجود أعظم، وهو شعور بالانسجام والسلام، والله موجود؛ لأنّ فرض وجوده نافع.
[30]ـ راجع كتابه: The Varieties of Religious Experience (New York: Collier Books, 1961, P.39.
[31]ـ هذا لا ينسجم مع ما هو معروف عن جيمس الذي ذهب في نظريّته عن الدين بأنه تجربة فرديّة، جوهرها العاطفة الدينيّة؛ لا الطقوس.. ما الحلّ...
[32]ـ ماكسيميليان كارل إميل فيبر Maximilian Carl Emil Weber : عالم اقتصاد وسياسة واجتماع ألمانيّ، يُعدّ من مؤسسي علم الاجتماع الحديث. عمله الأكثر شهرة مؤلفه الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية؛ أسس به لعلم الاجتماع الدينيّ، وأشار فيه إلى أنّ الدين هو عامل غير حصريّ في تطوّر الثقافة في المجتمعات الغربية والشرقيّة.
[33]ـ راجع كتابه: The Sociology of Religion, P.1.
[34]ـ الشيعة في الإسلام، محمد حسين الطباطبائي، ص 3 (النسخة الفارسيّة).
[35]ـ الشريعة في مرآة المعرفة، عبدالله الجوادي الآملي، ص 93-95 (النسخة الفارسيّة).
[36]ـ حامد الغار Hamid Algar (من مواليد 1940م بإنجلترا): بريطانيّ أميركي مختصّ بالدراسات الإسلاميّة والفارسيّة في في كلّيّة دراسات الشرق الأدنى بجامعة كاليفورنيا ببيركلي الأمريكيّة. حاز على شهادة الدكتوراه من جامعة كامبريدج، كان مسيحيّاً، ثمّ أسلم عام 1959م، له عدّة مؤلّفات وترجمات، ونُشرت له أكثر من مئة مقالة في موسوعة إيرانيكا.
[37]ـ مجلة كتاب نقد، العدد 2و3، ص 114 (بالفارسيّة).
[38]ـ الإلهيّات على هُدى الكتاب والسنّة والعقل، جعفر السبحانيّ، بقلم حسن مكّي العامليّ، ج 1، ص ٦.
[39]ـ دروس في العقيدة الإسلاميّة، مصباح اليزديّ، الدرس الأوّل.
[40]ـ الأبستاق أو: الأفيستا كتاب زرادشت (رسول الدين المجوسيّ)، وهو الكتاب المقدّس عند أتباع الديانة الزرادشتيّة (المجوسيّة). وتعني كلمة أفيستا - أو: أوستا - باللغات القديمة: الأساس والبناء القويّ، ولغته هي اللغة الأفستية، ذات الصلات القوية باللغة السنسكريتية الهنديّة القديمة.
[41]ـ لاحظ: الأبستاق، ترجمة وتحقيق: هاشم رضي، ص 115، و 424. (بالفارسيّة)
[42]ـ سَدُوم (بالإنجليزيّة: Sodom): اسم عبريّ يعني الاحتراق أو المحروق؛ وهو اسم قرية لوط 7، خسفها الله تَبَارَكَ وَتَعَالىٰ بسبب ما كان يقترفه أهلها من مفاسد - منها: إتيانهم الذكور من دون النساء - وفق ما ورد في بعض النصوص الدينيّة.
[43]ـ عَمُورَة (أو: غومورا؛ بالإنجليزيّة: Gomorrah): كلمة عبريّة تعني مغمورة؛ وهي اسم قرية أخرى خسفها الله تَبَارَكَ وَتَعَالىٰ بسبب ذنوب أهلها، ورد ذكرها في التوراة.
[44]ـ ونصّ الأقصوصة - حسب ما ورد في سفر التكوين - ما يلي: «فلمّا رأت راحيل أنّها لم تلد ليعقوب، غارت راحيل من أختها، وقالت ليعقوب: “هب لي بنين، وإلاّ فأنا أموت!”. فحمي غضب يعقوب على راحيل وقال: “ألعلّي مكان الله الّذي منع عنك ثمرة البطن؟”. فقالت: “هوذا جاريتي بلهة، ادخل عليها فتلد على ركبتيّ، وأرزق أنا أيضاً منها بنين”. فأعطته بلهة جاريتها زوجةً، فدخل عليها يعقوب، فحبلت بلهة وولدت ليعقوب ابناً، فقالت راحيل: “قد قضى لي الله وسمع أيضاً لصوتي وأعطاني ابناً”. لذلك دعت اسمه داناً». راجع: سِفر التكوين، الباب 30، من رقم 1 إلى 6.
[45]ـ التلمود Talmud : لفظة عبرية تفيد معنى «التعليم»، و«التعلم» والدرس. والمقصود بها التعليم القائم على أساس الشريعة الشفهية. وتطلق هذه المفردة عادة على «مصنّف الأحكام الشرعية أو مجموعة القوانين الفقهية اليهودية»، فهو كناية عن فقه شرعيّ وتفسير كتاب التوراة، ويضمّ مجموعة الكتب والأسفار التي تحوي سجلّ التشريعات والمجادلات والأخبار والقصص والأقوال الحكمية، كذلك الأعمال والآثار التي أنتجتها المدارس الدينيّة اليهودية في فلسطين وبابل خلال الفترة الممتدة من القرن الثالث إلى القرن الخامس للميلاد.
[46]ـ سورة التوبة: 33.
[47]ـ سورة الكافرون: 6.
[48]ـ سورة آل عمران: 85.
[49]ـ سورة يوسف: 40.
[50]ـ سورة يونس: 105.
[51]ـ سورة آل عمران: 19.
[52]ـ سورة آل عمران: 83.
[53]ـ سورة التوبة: 33.
[54]ـ سورة البقرة: 132.
[55]ـ سورة الفاتحة: 4.
[56]ـ سورة الشعراء: 82.
[57]ـ راجع: تفسير الميزان، محمّد حسين الطباطبائي، ج 15، ص 79.
[58]ـ سورة الحج: 78.
[59]ـ سورة يوسف: 76.
[60]ـ راجع: تفسير الميزان، محمّد حسين الطباطبائي، ج 17، ص 233.
[61]ـ سورة الزمر: 2.
[62]ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار: 125.
[63]ـ راجع: تفسير الميزان، محمّد حسين الطباطبائي، ج 9، ص 428.
[64]ـ سورة البقرة: 256.
[65]ـ سورة النساء: 125.
[66]ـ قال تعالى في هذه الآية: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ﴾.
[67]ـ بحار الأنوار، ج 65، ص 375.
[68]ـ بحار الأنوار، ج 65، ص 381.
[69]ـ الكافي، ج 1، ص 18، باب دعائم الإسلام.
[70]ـ لاحظ: الهاجس الأخير، علي طهماسبي، ص 73-95. (بالفارسية)
[71]ـ سورة الكافرون: 6.
[72]ـ سورة المائدة: 3.
[73]ـ سورة النصر: 2.
[74]ـ سورة المائدة: 3.
[75]ـ سورة النساء: 171.
[76]ـ سورة الفاتحة: 4.
[77]ـ سورة الذاريات: 6.
[78]ـ سورة المطففين: 11.
[79]ـ سورة الماعون: 1.
[80]ـ سورة الأنعام: 161.
[81]ـ تفسير نور الثقلين، الشيخ الحويزي، ج 1، 786. [لم أعثر على النصّ بعينه]
[82]ـ سورة إبراهيم: 1.
لا تتمتّع أيّ ظاهرة أو مؤسسة أو نشاط اجتماعيّ وإنسانيّ في تاريخ البشرية بعراقة تاريخية أو تنوّع في الشكل والمضمون كما يتمتع به الدين والتديّن عند الإنسان. فكلّ الأديان تنطوي على معتقدات ومفاهيم وطقوس معيّنة أدّت إلى تنوّع هذه الأديان. ومن هنا، تبلورت فروع علمية متعدّدة في حقل الدراسات الدينيّة ـ منها: علم الاجتماع الدينيّ، وعلم نفس الأديان، وفينومينولوجيا الدين (علم الظواهر) ، وفلسفة الدين، وعلم الكلام، وعلم اللاهوت، وما إلى ذلك - سبرت أغوار الدين ودرسته من زواياه المختلفة، وقامت بتقديم تعريفات له، وأوضحت دوره وآثاره.
تجدر الإشارة هنا إلى أنّ الأبحاث التقليدية لعلم الكلام لم تخصّص باباً أو بحثاً مستقلاً يدرس الدين بوصفه أحد أهمّ الأفعال الإلهية في مسيرة الهداية. وقد اقتصر ذلك على ما ورد من أبحاث الكلام الجديد، وفلسفة الدين.
في هذه الدراسة للباحث الإيراني عبد الحسين خسروبناه رؤية بانورامية لحقيقة الدين من وجهة نظر الفلسفة واللاهوت المسيحي وعلم الكلامي الإسلامي.
المحرر