البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

النزعة الشكية عند بيير بيل - قراءة في فلسفته الدينية

الباحث :  جعفر حسن الشكرجي
اسم المجلة :  الإستغراب
العدد :  3
السنة :  السنة الثانية - ربيع 2016 م / 1437 هـ
تاريخ إضافة البحث :  April / 2 / 2016
عدد زيارات البحث :  2210
تحميل  ( 492.638 KB )
النزعة الشكّية عند بيير بيل
قراءة في فلسفته الدينية [*][1]
[*] جعفر حسن الشكرجي
يتناول هذا الباب من "الشاهد" حياة فيلسوف الدين الفرنسي بيير بيل، وأطروحاته المتعلقة بالمذاهب الفلسفية التي تصدّت لقضية الوجود وثنائية الخير والشر. يليه عرضٌ إلى السيرة العلمية للفيلسوف بيل وتظهير نزعته الشكيّة بالأنظمة الفكريَّة التي عاصرها، ونقوده للممارسات السائدة في زمانه، الأمر الذي سبَّب له الكثير من المتاعب التي طبعت حياته وتركت تأثيراتها البيّنة على منهجه سيرته الشخصيّة...
أهمية الإضاءة على هذه الشخصية الفلسفية أنها تقدّم فيلسوفاً كان لا يزال في الظل بالنسبة إلى القارئ العربي. لذلك تأتي هذه المقالة لتقف عند أهمّ العناصر المكوّنة لأطروحاته الفكرية في مجال الميتافيزيقا وفلسفة الدين. كما تحاول بيان جملة من الخطوط النقدية حيال هذه الأطروحات ولا سيما لجهة نزعته الشكيّة التي حفرت عميقاً في مسار التفكير الفلسفي الغربي وخصوصاً في حقبة التمهيد لعصر التنوير.
المحرر
يُعدُّ الفيلسوف الفرنسي بيير بيل (Pierre Bayle) واحداً من أبرز المفكرين في القرن السابع عشر الميلادي. تميَّز بنزعة شكِّيَّة متطرفة وإتجاه نقديّ لاذع، وأخضع عدداً هائلاً من النظريات الفلسفيَّة واللاهوتيَّة والعلميَّة، القديمة والحديثة للتحليل النقدي، مبيِّناً ما فيها من قصور وتناقض. وقد حاز على العُدة اللازمة لإنجاز هذه المهمة، فعدتُهُ هي مهارة جدليَّة دقيقة وعدد هائل من الحجج الشكيّة ومعرفة واسعة جداً. إنَّ بيل في محاولته تقويض المذاهب جميعا بنزعتِهِ الشَّكِّيّة، لم يكن حريصاً على بناء مذهب جديد، وبذلك أصبحت الفلسفة عنده منهجا شكياً.
ربما يمكن القول أن بيير بيل كان أعظم الشكوكية حدةً في العصر الحديث، إذ طوّر مذهباً شكياً متطرفاً للغاية، يعارض «كل ما قيل وكل ما تم عمله»[2] في المجالات الفلسفية واللاهوتية والعلمية والرياضية والتاريخية، مستخدماً حججاً هائلة لهذا الغرض و مستفيداً من التراث الشكِّي كله، بعد أن نقَّح حججه، لكي تَصدق مباشرة على الفلسفات الجديدة وأنواع النظريات المتنافسة كلَّها. ولقد تميَّز بمهارة جدلية كان يفتقر إليها الشكوكيون الأوائل، واستعمل بشكل خاص نهج أحد أبطاله، وهو روديريجو أرياجا (و هو آخر الفلاسفة المدرسين الأسبان، توفي عام 1667) ومن المحتمل أنَّه تعلمه من اليسوعيين خلال دراسته في مدينة تولوز، يقوم هذا النهج على بيان ضعف كل محاولة عقلية لفهم بعض جوانب التجارة البشرية. إنَّ بيل، مثل (أرياجا) قبله، فهو يُظهر مرة بعد مرة المأزق الفكري الذي يقع فيه الإنسان، إذ تنتهي دائما كل محاولاته العقلية بنظريات حبلى بالتناقض والسخافة[3]. إن الشيء اليقيني الوحيد، بنظر بيل، هو لا شيء يقيني. [4]وفي الحقيقة أنَّه كان يشك كذلك في مذهب الشك.
ففي 2600 صحيفة من الاستنتاج والحجج والبراهين، في قاموسه التاريخي والنقدي، اعترف بيل بضعف العقل، فإن العقل مثل الحواس التي يعتمد عليها، قد يخدعنا، لأنه غالبا ما يتخلله الانفعال والرغبة والهوى. فالعقل والشكُّ هما اللذان يحددان سلوكنا. فالعقل يمكن ان يعلمنا أن نشك ولكنه قليلا ما يحركنا للعمل: «إن أسباب الشك مشكوك فيها هي الأخرى. ومن ثم يجب على الإنسان أن يشك. أية فوضى، و أي عذاب للذهن.. إن عقلنا يؤدي بنا إلى أن نتيه ونهيم على وجوهنا على غير هدى. لأنه حين يكشف عن أكبر قدر من حدة الذهن والدقة، يلقى بنا في الهاوية.. إن العقل أداة هدم، لا أداة بناء» [5].
يصرح بيل مراراً و تكراراً، أن الفعالية الفكرية، أيّاً كانت المشكلة التي يوجه الاهتمام إليها، تقود إلى شكِّية تامة، مادام العقل يؤدي بنا بشكل ثابت إلى الضلال ويجعلنا مرتبكين. وبيل يشبه العقل ببارود مدمر، يبدأ بتدمير الأخطاء، بعد ذلك يدمر الحقائق، ولو ترك وشأنه، لما عرفنا إلى أين يتجه، ولما أمكنه أن يجد نقطة يقف عندها. وعندما يصل بيل، في كل مرة، إلى هذه المرحلة، يصرح بأنه بالنظر لعدم قدرة العقل الوصول إلى أية نتيجة كاملة وملائمة عن أي شيء، فإن الإنسان يجب أن يترك العقل، ويبحث عن مرشد آخر هو الإيمان[6].
وفيما يتصل بالعلاقة بين عالَم العقل وعالَم الوحي، يرى بيل أنَّهما على طرفي نقيض وفي صراع تام؛ لأنّ الأخير يقوم على ادعاءات معارضة للمبادئ التي تبدو واضحة جداً للعقل. ولنأخذ أول التوراة (سفر التكوين)، الذي يقرر أن خلق الكون كان من العدم، بينما العقل يقرر أن كل شيء يتولد عن شيء آخر. ويقول أنّ هناك نوعين من الناس: نوع من الناس دينهم في عقولهم وليس في قلوبهم، ونوع أخر دينهم في قلوبهم وليس في عقولهم. فالنوع الأول مقتنع بصحة الدين، لكن ضمائرهم لا تتأثر بمحبة الله. والنوع الثاني لا يدرك حقيقة الدين حين يبحث عنه بالطرق العقلية، لكنهم حين يصغون فقط لمشاعرهم أو ضميرهم أو تربيتهم، فإنهم يقتنعون بالدين، ويكيفون سيرتهم وفقا له، في داخل حدود الضعف الإنساني. وهذا النوع الأخير من الدين يصبح مشوشا ومعقداً كلما حاول مقتنعه أن يوضحه أو يفهمه. ولكنه إذا كف عن محاولة عقلنته، عندئذ يصير موجهاً هادئاً لحياة ورِعة[7].
لقد أصر بيل، مثل ديكارت، على ضرورة الوضوح (الشروط الصارمة للمعرفة اليقينية) ولكنه، بخلاف ديكارت، انتهى إلى أن العقل غير قادر على الحصول على مثل هذا الوضوح، خاصة فيما يتعلق بالله[8]. بل وجادل بإمكانية أن تكون القضايا واضحة ومتميزة، ومع ذلك يمكن البرهنة على أنها خاطئة[9].
لقد أخضع بيل عدداً هائلاً من أفكار الفلاسفة واللاهوتيين للتحليل النقدي، محاولاً أن يثبت بفطنة حادة وبراعة جدلية أنه ليس لدى أي منهم شرعية تؤهل زعمه امتلاك الحقيقة النهائية، ولذلك شجب وثوقية الفلاسفة، بقدر ما استهجن اعتقادية اللاهوتيين[10].
ففي الميتافيزيقا، استخدم بيل كل مهارته في بيان أن النظريات المتعلقة بالزمان والمكان والمادة والحركة والعلاقة بين النفس والبدن، إذا ما حُللت وجدت أنها متناقضة وغير معقولة، كما قام باعتراضات شكيّة على الأنظمة الفلسفية واللاهوتية، من طاليس، وحتى ديكارت و هوبز وسبينوزا و مالبرانش و ليبنتز ونيوتن وآخرين، مرورا بالفلسفات: الذرية والأفلاطونية و الأرسطية، وانتهى إلى أن النتائج التي تترتب عليها غريبة ولا تصدق[11]. ولهذا كان يتمسك باستمرار بأن الفلسفة لا تحقق المعرفة ولا الاطمئنان، بل التناقض والارتباك والحيرة[12]، وأشار على الفلاسفة ألا يقيموا للفلسفة وزناً كبيراً، لأنها تقود إلى الشك الكلي وتجبر الإنسان أن يقبل بالإيمان الأعمى[13]. إنَّ نقد بيل للمذاهب الفلسفية جعل فولتير ينظم فيه أبيات من الشعر الفرنسي، هذا مؤداها [14]:
بيل، يفوق أنداده علما ودراية. فعزمت على استشارته.
إنَّ علو كعبه في العلم، ورفعة قدره، يأبيان عليه ألاَّ يكون صاحب مذهب خاص به؛ لقد أَجهز على سائر المذاهب، وها هو ذا يحارب نفسه بنفسه.
وأصرَّ بيل على أن العقائد الدينية ليست فقط فوق وما وراء العقل، ولكن أيضاً معارضة له، مؤكدا أنها تتميز بطبيعة لا تقبل كل أنواع الجزم، وأن مثل هذه العقائد يمكن أن يُعتقد بها أو تُقبل على أساس الإيمان[15].
ومع ذلك، ما ادعى بيل قط أنه يسحب على هذا النحو أي سند حقيقي و مكين للدين؛ فما العقل البشري، المعرض دوما للخطأ، بالقياس إلى السلطة الإلهية المعصومة عن الخطأ؟ إن الوساوس والتشكيكات المرتبطة بمسألة العدالة الإلهية جميعها تحذفها السلطة دفعة واحدة: «ذلك هو بلا ريب السبيل الحق إلى محو الشكوك: الله قاله، الله فعله، الله أباحه». وعلى السلطة الإلهية، ولا شيء غير هذه السلطة، ينبغي أن يكون تعويلنا. ويستشهد بيل في معرض التأييد بهذه الرسالة الموجهة من بيرو دابلانكور (كاتب فرنسي، 1606 ـ 1664) لأوليفييه باترو (محام فرنسي، 1604 ـ 1681): «إنَّك تعتقد بخلود النفس لأنَّ عقلك يصور لك الأمر هكذا، وأنا ضد عقلي: فأنا أعتقد أن نفوسنا خالدة، لأنَّ ديننا يأمرني باعتقاد ذلك. أنعم النظر في هذين الشعورين ولسوف تقر في أرجح الظن بأنَّ شعوري أصدق بكثير»[16].
وبناء على ما تقدم، كان من الطبيعي أن يهتم بيل بنقد الخرافات والتحيزات،ومحاربة كل أنواع الدوغماتية، [17]وكذلك التقاليد عندما لا تكون خاضعة لتحليل نقدي[18]. فعندما تولى الفزع أوروبا بأسرها للنجم المذنب الذي كان قد عبر السماء في كانون الأول1680، وفسر الكاثوليك والبروتستانت على حد السواء هذه الظاهرة بأنها نُذر إلهية، واعتقدوا أن الله سيرسل صاعقة من السماء على الأرض الخاطئة الآثمة في أية لحظة، فإنَّنا عندئذ نقدر مدى الشجاعة والحكمة في تعليقات بيل عليه.ففي عمله «خواطر حول مذنب عام 1680» أسس بحثه، الذي نشره عام 1682، على الدراسات الحديثة التي أجراها الفلكيون، ومن ثم أكد لقُرّائه أنّ النجوم المذنبة تتحرك في السماء طبقا لقوانين ثابتة وليس لها علاقة بشقاء البشر وسعادتهم[19].
التسامح:
على الرغم من تعرض بيل وعائلته والمتمسكين بالمذهب البروتستانتي للاضطهادات من قبل السلطات الفرنسية، وفي الوقت الذي كان هناك رجال دين كبار يحاربون التسامح الديني وأي تساهل ليس فقط مع الأديان الأخرى، بل وأيضا مع المذاهب المسيحية الأخرى، أخرج بيل في عام 1686 إحدى الروائع في أدب التسامح الديني، متجاوزاً عن تلك الاضطهادات ومتحدياً الطغاة من الحكام والمتعصبين من رجال الدين.
وكان عنوان هذه الرائعة الأدبية «تعقيب فلسفي على كلام يسوع المسيح:أرغمهم على الدخول»، وكان هؤلاء المتعصبين قد التمسوا سنداً لاجراءاتهم التعسفية في القضية، التي رواها المسيح عن الرجل الذي قال لخادمه حين لم تُلَبَّ دعوته لوليمة كبيرة: أخرج مسرعاً إلى شوارع المدينة وأزقتها، وأدخل الفقراء والمشوهين والعرج والعميان إلى هنا. فقال الخادم: جرى ما أمرت به يا سيدي، وبقيت مقاعد فارغة. فأجابه السيد: أخرج إلى الطرقات والدروب وألزم الناس بالدخول حتى يمتلئ بيتي. (أنجيل لوقا: 14: 15 ـ 23)[20]. ولم يجد بيل مشقة في إيضاح أن هذا الكلام ليس له علاقة بإرغام الناس على إتباع دين أو مذهب واحد، مؤكداً أن لا معنى لإيمان يتم عن طريق القسر والإكراه، داعياً، إلى التسامح ليس فقط مع المذاهب المسيحية الأخرى، بل أيضا مع الأديان الأخرى كالإسلام واليهودية، وحتى مع الملحدين، موسعاً مجال هذا التسامح أبعد مما ذهب إليه الفيلسوف الإنكليزي (جون لوك) في مقالته عن التسامح، التي لم تكن قد نشرت بعد، فقد ألفها عام 1666 ونشرها عام 1689، إذ استثنى من التسامح طائفتين: الكاثوليك والملحدين[21].
وقد برهن بيل في كتابه المشار إليه أعلاه وفي أعماله الأخرى بحجج عقلية عديدة على ضرورة التسامح الديني والمذهبي الكامل. يقول بيل في أحد مؤلفاته: «لا شيء أدعى إلى جعل العالم مسرحاً دامياً للاضطهاد والمذابح ـ من تقرير هذا المبدأ القائل بأن كل المعتقدين بحقيقة دينهم يحق لهم أن يبيدوا سائر الأديان. إن هذا يؤدي إلى إرجاعٍ الجنس البشري إلى الحال نفسها التي يتحدث عنها رجال السياسة، والتي كان فيها كل فرد سيداً وله الحق في كل شيء، ما دامت لديه القوة للاستيلاء عليه. إنّ من الواضح أن الدين الحق، أيا ما كان، لا يحق له أن يدعي أي امتياز يُخَول له العنف مع الديانات الأخرى، ولا يحق له أن يدعي أن الأفعال التي يرتكبها هو بريئة لكنَّها تكون جرائم إذا ارتكبها الآخرون»[22].
إنَّ البشر بصفة عامة في رأي بيير بيل ميالون للاعتقاد بأن هناك فروقاً حيث لا توجد فروق، وأنَّ هناك ارتباطات لا فكاك منها بين مواقف مختلفة حيث لا توجد هذه الارتباطات. وهكذا تعتمد الكثير من الخلافات في استمرارها وقوتها على التحامل والافتقار إلى الحُكم الواضح. فـــ(بيير جوريو ـ وهو لاهوتي أرثودكسي متطرف ـ كان صديقا لبيل ثم أصبح العدو اللدود له فعلى سبيل المثال إذ يسلم بأن معتقداتنا الدينية ترتبط باستعداداتنا الذهنية، كان يفترض فيه أن يستنتج من ذلك منطقياً التسامح، على اعتبار أن الأذواق والمشارب لا تتحمل النقاش، ومع ذلك تراه أكثر أهل الأرض تعصباً وبعداً عن التسامح[23].
واستخدم بيل نزعته الشكَّيَّة لتبرير التسامح الكامل. فإذا كانت النظريات المتعلقة بالطبيعة النهائية للحقيقة كلها موضع تساؤل فليس هناك أي مبرر لاضطهاد إنسان لقبوله برأي دون آخر؛ ولذلك يقبل الناس هذا الرأي وليس ذاك على أساس ما يجبرهم ضميرهم للاعتقاد به، مادام الاعتقاد الصادق لا يمكن تمييزه عن الاعتقاد الخاطئ، وبالتالي ليس ثمة مسوغ لاضطهاد الناس على معتقداتهم[24].؛ لذا يدعو بيل إلى ترك كل إنسان لضميره، فهو المرجع الوحيد الذي ينبغي الرجوع إليه، وهذا معناه أنه ليس من حق أحد أن يرغم ضمير غيره على أية عقيدة؛ ومن هنا كانت ضرورة التسامح التام الشامل[25].
ويضيف بيل إلى هذا الدليل الشكّيّ دليلا أخلاقياً، إذ يرى أنه، ما من قوة، مهما بلغت، استطاعتها أن تعدل معتقد إنسان، بل كل ما تستطيع فعله هو أن تجعل من ذلك الإنسان مُرائي، ومن الخطأ فرض هذا الرياء على الناس. والحالة الوحيدة التي يجوز فيها قمع مذهب ما عندما يشكل هذا المذهب خطراً على الأمن العام. إنّ أكبر خطر في أي دين هو ألا يكون متسامحاً. ومن واجب الدولة أن تسمح بكل شيء إلاّ بعدم التسامح[26].
ومن ناحية أخرى يؤكِّد بيل أنّه إذا كانت حقائق الدين تخصُّ دائرة ما هو غير عقليّ، كما بين ذلك في الفقرة السابقة، فليس ثمة داع للخوض في جدل وخلافات لاهوتية، وينبغي أن يحل التسامح محل الخلافات [27].
الدين والأخلاق:
لقد صدم بيل المعاصرين له حين أكَّد على أن مجتمعاً من الملحدين قد يكون أفضل خُلُقاً من مجتمع من المسيحيين[28]. وهو يقصد بذلك أنه ليس ثمة علاقة ضرورية بين المعتقدات الدينية ـ والأفكار بصفة عامة ـ وبين السلوك الأخلاقي. فقد تلحظ أحياناً الأخلاق الصالحة لدى الملحدين، في حين لا يستبعد أن يكون المؤمنون من المجرمين.
ويوافق بيل على ما يذهب إليه الفيلسوف الإيطاليّ بيترو بومبونتزي (1462 ـ 1524)، عندما لاحظ «أنَّ عدداً كبيراً من المحتالين والآثمين الفاسقين يعتقدون بخلود النفس وإنّ كثرة من القديسين والأبرار لا يعتقدون به»[29]. كما لاحظ بيل نفسه «إن الصدوقيين (فرقة يهودية) الذين كانوا ينكرون خلود النفس، أكثر استقامة من الفريسيين (فرقة يهودية أخرى) الذين كانوا يتبجحون بمراعاة شريعة الله»[30]. ولابد، كما يؤكد بيل، أن تكون معرفة المرء بالناس ضعيفة حتى يعتقد أن «فساد الأخلاق ينبع من كونهم يشكّون أو يجهلون بوجود حياة أخرى بعد الحياة الدنيا»[31]. وينبع هذا الوهم من الاعتقاد بأنّ الناس يسلكون دوما وفق مبادئهم، مما يوحي بأنَّه من الممكن قلبيا على أن الإيمان بالآخرة سيكون بمثابة كابح خلقي: فلا شيء أندر وأبعد احتمالاً، على العكس من ذلك، من التلاحم بين آراءنا وممارستنا[32].
ومن ناحية أخرى يشير بيل إلى أنّ المثيولوجية اليونانية كانت سخيفة ولا أخلاقية، غير أن الشعب اليوناني عاش مع ذلك حياة أخلاقية سامية[33]. وعلى الرغم من أنّ بيل كان معجباً بحياة سبينوزا (1632 ـ 1677)، فإنّه كان يمقت مذهبه الفلسفي، لقد رأى في سبينوزا تأييدا لأطروحته بأن الإلحاد يمكن أن يتواجد مع تفوق أخلاقي عال. إن الكل يتفق، كما كتب بيل، بأن سبينوزا كان اجتماعياً وأنِيساً و ودوداً ورجلا طيباً بكل معنى الكلمة، غير أنه يعتقد أن فلسفته في وجود فرضية سخيفة وشاذة إلى أبعد حد يمكن تصوره، وتناقض معظم مفاهيم العقل الواضحة؛ ولذلك يرفضها بوصفها تأملا فلسفياً خطيراً تجعل الأخلاق خالية من المغزى. علما أن شهرة سبينوزا المبكرة قامت تقريباً على المقالة التي كتبها عنه في قاموسه التأريخي و النقدي، ولبعض الوقت كان البيان الوحيد الذي يمكن الحصول عليه عن نظام سبينوزا الفلسفي[34].
ويشير بيل من ناحية أخرى، إلى أنّه يعرف حالات لا تحصى عن أشخاصٍ يعدّون من أبطال الإيمان المسيحي واليهودي، كانت سيرهم في غاية السوء، مما يبين أنهم كانوا متأثرين بعوامل لا دينية. وقد كتب بيل مقالات عن انحرافات جنسية لمؤمنين ومتعصبين ومصلحين وباباوات[35].
والذي يريد بيل الوصول إليه هو أنّ السلوك الأخلاقي للناس ليس نتيجة معتقداتهم، ولكن بالأحرى نتيجة عوامل لاعقلية، مثل التربية والعادات والعواطف واللطف الإلهي[36]. لذلك يخطئ في نظره، من يعتقد أن الحوافز الدينية هي حوافزنا الوحيدة إلى العمل، فهناك حوافز كثيرة تكون أقوى بكثير من الحوافز الدينية في كثير من الأحيان، وقادرة على أن تؤدي بصاحبها إلى أفعال فاضلة[37].
مشكلة الشر:
يكرر بيير بيل في قاموسه التاريخي والنقدي تساؤل الفيلسوف اليوناني (أبيقور) (341 ـ 270 ق.م) المتعلق بمشكلة الشر. يقول أبيقور: «إنّ الله إمّا أن يكون راغباً في أن يزيل الشر ولكنه غير قادر، أو هو قادر ولكنه غير راغب، أو هو غير قادر ولا راغب، أو هو قادر وراغب. فإذا كان الفرض الأول فيجب أن يكون عاجزاً، وهذا لا يمكن أن يصدق على اللّه. وإذا كان الفرض الثاني، فإن اللّه يجب أن يكون حسوداً، وهذا أيضا يناقض طبيعته. أمَّا الفرض الثالث الذي يؤكد أنه يجب أن يكون حسوداً وعاجزاً، فإنّه في هذه الحالة لا يمكن أن يكون إلها. أمَّا الفرض الأخير فهو الوحيد الذي يتفق مع مفاهيم الله. إذن من أين يأتي الشر؟»[38].
ليس من الصعب أن ندرك أن ما يريده بيل من إيراده لهذا النص المشهور لأبيقور هو أن يستنتج استحالة التوفيق بين وجود الشر وبين وجود كائن لا متناهي الخير ولا متناهي القدرة، فإمَّا يحد من خيرتيه، إذا كان سمح بالشر الذي كان في استطاعته أن يمنعه، وإمَّا يحد من قدرته، إذا كان أراد أن يمنع الشر ولم يستطع. والحل الذي سبق أن قدمه القديس أوغسطين في القرن الخامس الميلادي، الذي يؤكّد على أن الشر عدم الخير في موجود هو خير بما هو وجود، فلم يقتنع به بيل، لمناقضته للواقع الذي يزخر بالمآسي والجرائم[39]. أمَّا القول بأن الله يسمح بالخطيئة إظهاراً لحكمته، كما يذهب إلى ذلك معاصره (ليبنتز)، فإنه يعدل إلى القول بأنه أشبه بـ «عاهل يدع الفتنة يعظُم شأنها ويتسع نطاقها ليفخر بعدئذ بقمعها»[40].
لقد جادل بيل بقوة بعدم وجود حل عقلي، ومن ثم فلسفي، يمكن الدفاع عنه لمشكلة الشر فقال: «إذا كان الإنسان مخلوقاً من أصل طيب غاية الطيبة، بالغ القداسة، قديراً غاية القدرة، فهل يمكن أن يتعرض للأمراض، للحر والبرد، للجوع والعطش، للألم والحزن؟وهل يمكن أن يكون لديه مثل هذه النزعات السيئة الكثيرة؟وهل للقداسة الكاملة أن تنتج مخلوقاً مجرماً؟وهل لهذا الخير التام أن ينجب مخلوقا تَعِساً»؟[41] لذلك رأى بيل أن المانويَّة وحدها، القائلة بوجود إلهين بنظريتها، أحدهما يأتي منه الخير، والآخر يأتي منه الشر؛ لذا تبدو هي المؤهلة لحل المشكلة، لميزتها بتبرئة الله من جميع أشكال اللوم، رغم أنها فلسفياً فرضية غير معقولة، كما يقول بيل، فعقلنا يجد نفسه في أعجب موقع وأغربه: «فمن لم يعجب ومن يرثي لمصير عقلنا؟ فهؤلاء المانويون، بفرضيتهم السخيفة والمتناقضة، يفسرون التجارب على نحو أحسن بمائة مرة مما يفعل أصحاب العقيدة القويمة بفرضهم الصحيح كل الصحة، الضروري كل الضرورة، الحق كل الحقيقة عن مبدأ أول لا متناهي في الخير والقدرة الكلية». إنّها لسخرية مقنعة، وإنّما محققة[42].
وينتهي بيل من ذلك إلى القول: إنّ العقل البشري ضعيف للغاية لهذه المهمة، وإنّ الحل الوحيد لهذه المشكلة هو خضوع العقل للعقيدة المسيحية؛ أي الخضوع فقط لسلاح الوحي الإلهي. ويعرض أطروحته الأساسية بوضوح: نحن يجب أن نختار إمّا الفلسفة (أي العقل) أو الإنجيل، أيَّ الأثنين نختار، يجب أن نترك الآخر[43]. وبيل في هذه المسألة يعارض رأي ليبنتز بأنّه يمكن التوفيق بين العقل والدين، أو بين الشر الدنيوي والطيبة والقوة الإلهيتين.
وعندما ذكر ليبنتز المتفائل أنّ الشر لا يمكن أن يبدو إلا ضئيلاً إلى حد العدم بالمقارنة مع الخير، فإنّه كان في ذهنه نظرة بيل التشاؤمية من الطبيعة الإنسانية، الذي كثيراً ما كان يصرح بأنّ الجنس البشري شرير وبائس، وأن كل إنسان يعرف هذه الحقيقة[44]. علما أن كتاب ليبنتز «العدالة الإلهية Theodicy» الذي نشر عام 1710، هو إلى حد كبير محاولة لتفنيد آراء بيير بيل في المانوية ومشكلة الشر.
الخاتمة:
لاقى قاموس بيل التاريخي والنقدي نجاحاً منقطع النظير، لروحه وغنى معلوماته؛ إذ يذكر أنّ الطبعة الأصلية لهذا القاموس، وعددها ألف نسخة قد بيعت عن آخرها في أربعة أشهر. وأعيد طبعه عدة مرات، وما أن وافى عام 1750 حتى كان قد طبع منه تسع مرات باللغة الفرنسية، وثلاث مرات بالإنكليزية، ومرة بالألمانية. وعلى مدى عشر سنوات من وفاة بيل كان الطلاب يقفون صفوفا في مكتبة مازاران في باريس حتى يأتي دورهم في قراءة القاموس. واقتنى فريدرك الأكبر (1712 ـ 1786) ملك روسيا، أربع مجموعات منه في مكتبته، وأشرف على إصدار طبعة رخيصة موجزة منه ليجذب عددا أكبر من القراء[45]. وأمر الرئيس الأمريكي توماس جفرسون (1743 ـ 1826) أن يكون قاموس بيل أحد مائة كتاب أساسي ليبدأ بها تأسيس مكتبة الكونغرس[46].
ومارس بيير بيل تأثيرا هائلا على فلاسفة القرن الثامن عشر. ففي فرنسا كان فطام فلاسفة عصر التنوير على قاموسه. فقد اعترف(ديدرو) بفضل بيل عليه وحياه بأنّه «أعظم شارح مهيب لمذهب الشك في العصور القديمة والحديثة معاً»[47]. وأطلق فولتير على قاموسه الفلسفي بأنّه ترديد لقاموس بيل، وعدّه «أعظم أستاذ في فنِّ الجدل»[48]. كما أثر على عدد من الفلاسفة الإنكليز كان من أبرزهم باركلي وهيوم. وكان لبيل بعض التأثير على التنوير الألماني[49]. ونظر لودفيج فيورباخ في القرن التاسع عشر إلى بيل على أنه أهم شخصية بارزة ساهمت في بزوغ الفكر الحديث، وخصص مجلداً كاملا له[50].
ولعل من المفيد أن نختم هذا البحث بالملاحظات الآتية:
1 ـ لقد قوض بيير بيل العالم العقلي القديم، لكنَّه لم يكن حريصاً على بناء عالم جديد؛ لاعتقاده أن العقل مؤهل للكشف عن الأخطاء على نحو أفضل من اكتشاف الحقائق الإيجابية.
2 ـ أثار بيل الكثير من المشكلات، وكان على الفلاسفة اللاحقين فحصها ومحاولة وضع الحلول المناسبة لها.
3 ـ زود بيل الفلاسفة في القرن الثامن عشر بذخيرة من الحجج للهجوم على المذاهب الإيديولوجية واللاهوتية المعاصرة لهم والانطلاق نحو عصر العقل.
4 ـ ضَعُفَ تأثير بيل تدريجياً لسببين: الأول: أنّ فلاسفة عصر التنوير تمثلوا جزءاً مهمّاً من أفكاره، والثاني: أنَّ الأطروحات الأساسية التي كافح لإقرارها، مثل التسامح وحرية الاعتقاد والتعددية، قد ترسَّخت وأصبحت من الحقائق الثابتة في الضمير الأوروبي وإن كانت محل نقاش.
5 ـ على الرغم من تعرض بيل لأنواع مختلفة من الاضطهاد، وأتهم بالإلحاد والهرطقة، إلَّا أنه لم يتنازل عن أفكاره طوال حياته. لقد كان مستعداً لمناقشتها، ولكن دون التنازل عنها، إذا كان ضميره مقتنعاً بها أو كانت تقوم على حقائق لا يمكن دحضها.
بيير بيل
سيرة ذاتية فلسفية
بيير بيل (Pierre Bayle) فيلسوف وناقد فرنسي، ولد في 18 تشرين الثاني 1647 في كارلا ـ لو ـ كومت (سميّث فيما بعد كارلا ـ بيل تكريما له) وهي قرية فرنسية قرب الحدود الأسبانية. بعد إكمال دراسته الابتدائية، تولى والده تعليمه، ثم أرسله في 1669 إلى الأكاديمية البروتستانتية في بويلوران، غير أنه أصيب بخيبة أمل من هذه الأكاديمية، لما رأى نفسه أكبر سناً وذكاءً بكثير من بقية الطلبة، فتركها بعد ثلاثة أشهر ليدخل الكلية اليسوعيَّة في مدينة تولوز. وبعد أن درس الكتب التي كانت محل نقاش وسمع حجج بعض الأساتذة، تحول إلى الكاثوليكيَّة، وجعلته بعد فحص آخر أن يرجع إلى (الكالفينية) وهي تيار بروتستانتي يعود في اعتقاده إلى مؤسسه اللاهوتي الفرنسي جون كالفن. بعد سبعة عشر شهراً، ولكنه بات الآن مرتداً، وهو الشخص الذي عاد إلى الهرطقة بعد أن تخلى عنها، لذلك أصبح عرضة لملاحقة الكنيسة الكاثوليكيَّة له، ففر إلى جنيف، حيث أنهي دراساته الفلسفية واللاهوتية. وفي 1674، عاد إلى فرنسا باسم مستعار، وأصبح معلماً خصوصياً في مدينة روان، وأقام لفترة من الزمن في باريس قبل أن يستقر أخيراً في سودان، حيث عهد إليه بكرسي الفلسفة في الأكاديمية البروتستانتية في 1675. وبعد أن أغلقت هذه الأكاديمية في 1681، وجد له ملجأ في روتردام بهولندا، والتحق بوظيفة أستاذ للتاريخ والفلسفة في «المدرسة الكبيرة»، أكاديمية البلديّة. وكان من أوائل المفكرين الذين اتخذوا من الجمهوريَّة الهولنديَّة في ذاك الزمن قلعة للفكر الحر. وفي العام التالي 1682 أصدر أول عمل هام له هو «خواطر حول مذنب عام 1680»، غفلاً من أسم المؤلف، وفيه هاجم بلا هوادة الأفكار المسبقة التي تعزو إلى المذنبات بعض التأثير على مجرى أحداث الأرض، كما هاجم فيه الخرافات والتعصب، وقد تعرض على هذه الأفكار إلى حملة استنكار عامة، وقد تفاقمت حدة الانتقادات التي استهدفته مع صدور كتابه: «نقد تاريخ الكالفنية للأب ميمبروغ 1682»، الذي هاجم فيه بلذع أعداء حركة الإصلاح البروتستانتي. ونجح اليسوعيون في أن ينتزعوا من الملك أمرا بإحراق هذا الكتاب في باريس، وردَّ بيل عن هذا الإجراء بإصداره: «فرنسا الكاثوليكية للغاية في عهد لويس الأكبر 1685».
وكان بيل، بالإضافة إلى هذه المؤلَّفات،، التي أوحت بها الأحداث، يحلم بتأسيس مجلة تزوِّد قراءها بكل التطورات الهامة في الأدب والعلوم والفلسفة والبحوث والكشوف والتاريخ الرسمي. و ظهر فعلاً العدد الأول منها باسم «أخبار جمهورية الأدب» في مائة وأربع صفحات في أمستردام في آذار 1684، وكان بيل يكتب محتويات المجلة شهراً بعد شهر لمدة ثلاثة أعوام.
وسرعان ما أصبح استعراضه للكتب ذخيرة قوية في دنيا الأدب. وقد صدرت المجلة غفلا من اسم المؤلف،وفي 1685 جمع أطراف شجاعته وأعلن أنه هو المؤلف , وبعد ذلك بعامين تدهورت صحته فترك تحرير المجلة لآخرين غيره. إنّ تقييماته النقدية في هذه المجلة جعلته سريعا شخصيةً رئيسةً في عالم الثقافة، وأصبح على اتصال مع القيادات الفكرية العلمية في عصره من بينهم: أنطوان أرنولد وروبرت
بويل ولوك ومالبرانش. وفي تلك الأثناء وقع ثلاثة من أسرة بيل فريسة اضطهاد القوات الفرنسية. وكنتيجة مباشرة أو غير مباشرة لعنف القوات الفرنسية واضطهادها للبروتستانت، ماتت أمُّه في 1681، ومات أبوه في 1685، وفي العام نفسه سجن أخوه ثم قضى نحبه نتيجة للتعذيب والقسوة. وبعد ذلك بستة أيام ألغى مرسوم نانت، الذي كان قد منح به الفرنسيين البروتستانت قدراً كبيراً من الحرية الدينية. فصعق بيل لهذه التطورات، ولم يكن له من سلاح غير قلمه , فأصدر، متحدياً الطغاة المستبدين، إحدى الروائع في أدب التسامح الديني، وكان عنوانها: «تعقيب فلسفي على كلام يسوع المسيح: أرغمهم على الدخول» نشرت في أربعة مجلدات بين 1686 ـ 1688، صاغ بيل في هذا العمل المبادئ العامة للتسامح، ومطالبا بانّ تترك للمرء حرية اعتناق الدين الذي يبدو في نظره هو الدين الحق ـ وهذه الفكرة أثارت في حينها موجه عارمة من السخط و الغضب في صفوف البروتستانتيين بالذات، فحرم من كرسيِّه كأستاذ للفلسفة في المدرسة الكبيرة في روتردام عام 1693، لكنَّه لم ينفعل أكثر مما ينبغي لهذا الإجراء. فقد كان يعيش أصلاً حياة تقشف، وتراءى له أنّه يستطيع أن يعيش من وراء قلمه؛ فقرر بعد ذلك أن لا يتزوج و يرفض أي طلب بالتدريس، كي يعيش منعزلاً، مكرساً نفسه للبحث عن الحقيقة و للدعوة للتسامح الشامل.
وفي تلك المدة، على وجه التحديد، استهل العمل الذي كان قد نضج في ذهنه مع الزمن وهو «القاموس التاريخي والنقدي» الذي نشر في مجلدين ضخمين «2600 صفحة» في روتردام بين 1695 ـ 1697. ولم يكن في الحقيقة معجم مفردات، بل دراسة نقدية للأشخاص والأماكن والآراء، في التاريخ والجغرافية وعلم الأساطير واللاهوت والأخلاق والأدب والفلسفة. وبهذا القاموس توَّج حياته الفكرية والأدبية فعلاً، وقد لاقى نجاحاً منقطع النظير، لكنَّه تعرّض لنقد وشجب من كلٍ من الكنيسة البروتستانتية الفرنسية والكنيسة الكاثوليكية الفرنسية، فقد منعت الأخيرة الكتاب، بينما طلبت الأولى من بيل أن ينقح أو يوضِّح بعض المسائل الواردة في القاموس، وهذا ما قام به فعلا ًفي الطبعة الثانية التي ظهرت في 1702. وبعد هذا الجـهد الضــخم استمر بيل يعيش في روتردام، منقطعاً للتــأليف والمجـــادلات المختلفة، ومدافعاً عن بعض ادعاءاته الواردة في القاموس، ومحارباً خصومه الذين كانوا يتزايدون بمرور الزمن.
وقد وافته المنيّة في 28 ديسمبر 1706، وهو منهمكٌ بإكمال عمله الأخير «أحاديث بين ماكسيم وثيمست»، الذي نشر بعد وفاته في روتردام عام 1707.
[1]*ـ باحث في الفلسفة الغربية، وأستاذ بكلية الآداب في جامعة بابل ـ العراق.
[2]- Popkin ,Richard H.,Skepticlsm , Article in: «The Encyclopedia of Philosophy» , Macmillan , New York , 1967 , vol. 7 , P.454.
[3]-Popkin , R.H. , Pierre Bayle , Article in: «The Encyclopedia of philosophy» , vol.1 , P, 259.
[4]- Doyle John P. ,Pierre Bayle Article in: «Lexicon Universal Encyclopedia» , Lexicon Publications , New York , 1997 , vol.3 , P.133.
[5]ـ ول وايريل ديورانت، قصة الحضارة: عصر لويس الرابع عشر، ترجمة: محمد علي أبو دره، دار الجيل، بيروت، ب ت، الجزء الرابع من المجلد الثامن 34، صـ93
[6]-Popkin , Pierre Bayle , P.260.
[7]-Ibid: , 260.
[8]- Antognazza , Maria Rose , Arguments for the Exitence of God: The continental European Debate , Article in: «The Cambridge History of Eighteenth-Century Philosophy» , Vol. 2 , Cambridge 2007 , p.732.
[9]- Popkin , Skepticism , P.455.
[10]ـ انظر المصدرين الآتيين:
أ ـ دليل أكسفورد للفلسفة، ترجمة: نجيب الحصادي، المكتب الوطني للبحث والتطوير،ليبيا، ب ت، الجزء الأول، صـ193.
ب ـ أميل برهييه، تاريخ الفلسفة: الجزء الرابع: القرن السابع عشر، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، 1983، صـ355.
[11]-Popkin , Pierre Bayle , P.259.
[12]-Cummins , Phillip D. , Pierre Bayle , Article in «The Cambridge Dictionary of Philosophy», Cambridge , 2006 , P.75.
[13]- The New Encyclopedia Britannica , Micropeadia , The University of Chicago , 1977 , Vol. 1 , P. 892.
[14]ـ جان فال، الفلسفة الفرنسية من ديكارت إلى سارتر، ترجمة: الأب مارون خوري، عويدات، بيروت، 1988، ص33.
[15]- Popkin , R.H. ,Fideism , Article in: «The Encyclopedia of Philosophy» Vol. 3 , P.201.
[16]ـ برهييه، المصدر نفسه، ص 361.
[17]- Malherbe , M. , Reason , Article in:«The Cambridge History Of Eighteen-Century Philosophy», Vol. 1 , P.327.
[18]- See: Boas , G. , French Philosophy , Article in: «The Encyclopedia of Philosophy» , Vol.3 , P.343.
[19]ـ ديورانت، المصدر نفسه، صـ85.
[20]ـ الكتاب المقدس، دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط، لبنان، 1996.
[21]ـ د.عبد الرحمن بدوي، موسوعة الفلسفة، منشورات ذوي القربى، قم، 1385 (تقويم فارسي)، الجزء الثالث، صـ59-60 يراجع أيضا: ديورانت، المصدر نفسه، ص87 ـ 88.
[22]ـ بدوي، المصدر نفسه، الجزء الأول، ص59 ـ 60.
[23]ـ برهييه، المصدر نفسه، صـ360.
[24]- Phopkin , Skepticism , P.455.
[25]ـ بدوي، المصدر نفسه، الجزء الأول، صـ401.
[26]ـ جون هرمان راندال، تكوين العقل الحديث، ترجمة: د. جورج طعمة، دار الثقافة، بيروت، ب ت، صـ539.
[27]ـ فريدرك كوبلستون، تأريخ الفلسفة، المجلد السادس:الفلسفة الحديثة: من عصر التنوير في فرنسا حتى كانط، ترجمة: حبيب الشاروني ومحمود سيد أحمد، المركز القوي للترجمة، القاهرة، 2010، صـ27.
[28]- Popkin , R.H. , Skepticism , Article in: «The Cambridge History of Eighteenth-Century Philosophy» Vol.1 , P.428.
[29]ـ برهييه، صـ359.
[30]ـ المصدر نفسه، صـ360.
[31]ـ نفس المصدر والصفحة.
[32]ـ نفس المصدر والصفحة.
[33]- Popkin , Bayle , P.259.
[34]- Barnard , F.M. , Spinozism , Article in: «The Encyclopedia of Philosophy» Vol.7 , P.541 See also: Zurbuchen , S. , Religion and Society , Article in: «The Cambridge History of Eighteenth ـ Century Philosophy» , Vol. 2 , pp. 791 - 792.
[35]- Popkin , Bayle , P.259.
[36]- Ibid. , P.259.
[37]ـ برهييه، ص 360.
[38]- Fonnesu , L. , The Problem of Theodicy , Article in «The Cambridge History of Eighteen ـ Century Philosophy» , Vol. 2 ,p.750.
[39]ـ Ibid. , P.751. للمزيد من المعلومات حول مشكلة الشر عند القديس أوغسطين يراجع للباحث
«مشكلة الشر في الفلسفة المسيحية» بحث في مجلة «دراسات الأديان» بيت الحكمة، بغداد، العدد 21، 2011، ص37 ـ 40
[40]ـ برهييه، ص358 ـ 359. للمزيد من المعلومات حول مشكلة الشر عن ليبنتز يراجع للباحث «التفائل والتشاؤم عند فلاسفة عصر التنوير» بحث في مجلة «لارك»، كلية الآداب، جامعة واسط، العدد 5، 2011، ص ـ58 ـ 60. وللباحث أيضا مقالة حول مشكلة الشر في جريدة «الزمان» اللندنية، طبعة العراق، بعنوان: «الثيودسا أو مشكلة الشر» العدد 4411، 27 / 1 / 2013، ص ـ11.
[41]ـ ديورانت، صـ91.
[42]ـ برهييه، ص ـ359.
[43]- Fonnesu , Op. Cit. , P.751 >
[44]- Ibid. , P.752.
[45]ـ ديورانت، ص95
[46]- Popkin ,Bayle , P.259.
[47]ـ ديورانت، ص95
[48]ـ نفس المصدر والصفحة.
[49]ـ كوبلستون، المصدر نفسه، ص28.
[50]- Popkin , Bayle , P.259.