البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الحداثة والأديان - أوليفييه آبل- جان بوبيرو - مارسيل غوشيه - وأوليفييه مونغان

الباحث :  أدار الحلقة : بيير أوليفييه مونتيل
اسم المجلة :  الإستغراب
العدد :  3
السنة :  السنة الثانية - ربيع 2016 م / 1437 هـ
تاريخ إضافة البحث :  April / 2 / 2016
عدد زيارات البحث :  1148
تحميل  ( 271.740 KB )
الحداثة والأديان
أوليفييه آبل ــ جان بوبيرو ــ مارسيل غوشيه ــ وأوليفييه مونغان[1]
أدار الحلقة: بيير أوليفييه مونتيل
إلى أي حدّ لا يزال الدين حاضراً في الحداثة؟ إذا استطعنا اعتبار أن فهْم رهانات العالم المعاصر يقوم على التفسير والقراءة كما نفعل حيال نصّ يقرأ عصرنا، فما هي آثار المعرفة الدينية التي لا تزال اليوم حاضرة في قلب المجتمع العلماني الغربي؟وبشكل تناظري، هل مثل هذه الآثار لا تزال موجودة في نفس «القارىء» الذي يهتمّ بِـ «هذا النص» الذي يُمثِّله عصرُنا؟
سؤال من وجهين مُوَجَّه إلى العصر العلماني الذي ينقضي غالباً وبدا كما لو أنّه قد خَرَجَ من الدين. وإذا كان الأمر صحيحاً فما معنى الخروج من الدين.. وهل يتَّسم «القارىء» في هذه النقطة بالتجرّد، وإلى أي درجة يمكن القول أن المواطن الأوروربي قد تحرَّر من الاعتقادات الدينية؟
سيكون هذا عموماً نقطة انطلاق الحوار المشترك حول الحداثة والأديان والذي أداره بيير مونتيل مع أربعة من الفلاسفة وعلماء الاجتماع الفرنسيين هم: أوليفييه آبل وجان بوبيرو ومارسيل غوشيه وأوليفييه مونغان. المحرر
ما المقصود بالحداثة؟وماذا يُمكن أن نُدرِج تحت هذا العنوان؟ ثم إلى أي حدّ يوجد «خروج من الدين»؟وهل أن مسألة الديني في الحداثة تقترب كثيراً في النهاية من تاريخ منصرم، وإشكالية تَمَّ تجاوزها؟ولكن بِمَ يجب أن نُفكِّر في ما يتعلّق بـ «عودة الديني؟» هل التناوب بين «الخروج» و«العودة» هو التناوب الجيّد؟ هل توجد خيارات أخرى بإمكاننا تفضيلها عليه واستبدالها به؟
أيُّ مكانة يمكن أن تكون للديني وسط نقاشٍ يجري داخل مجتمع عَلماني؟وهل ثمّة خطر عودة إلى ظلامية ما يُريد شيء ما، له طابع الديني، تثبيتها من جديد داخل معتقدات الملاحظين نفسها؟هل يتوافق ذلك مع نقاش جامعي، جمهوري، عَلماني، عقلاني،...إلخ؟
ربّما نستطيع إجراء النقاش باستبعاد النقاش الزائف وإعادة صياغته، والذي يضع «عودة الدينيّ» في مقابل ملاحظة «خروج الدينيّ» التي تحدّث عنها مارسيل غوشيه، وذلك من أجل الإقرار بما سمّاه أوليفييه مونغان «أسس الحداثة».
مارسيل غوشيه: أودّ فقط إيراد توضيح أوّلي، وهو أنني لم أقل أننا خرجنا من الدين، وإنما قلت، وهذا يختلف، أننا في طور الخروج من الدين. وهناك كل الأسباب للتفكير بأن ذلك يهدف إلى الاستمرار.
في العالم الذي نعيش فيه ما زلنا نلاحظ اليوم وجود تحرّكات ذات مغزىً كبير ترتبط بتحول الديني والعلاقة به. فضلاً عن ذلك، فإن هذا العالم مُخْتَرق بقوة من قبل الدين إلى حدود تلك المظاهر الأكثر دنيويّة (Seculiers) يوجد نوع من علاقة تكوين (Relation de genése) بين العالم المسيحي في كلّيته، والعالم الحديث. فمن خلال سلسلة من الانشقاقات، منها الإصلاح، استطعنا الدخول من جانب الحداثة، بالنظر إلى المسألة الخاصّة جداً حول العلاقة بين البروتستانية والحداثة.
لكن الحديث عن حركة خروج من الدين تفترض وجود الدين في العالم الذي خرج من الدين. ولإزالة الالتباس ينبغي تمييز الدين، بالصورة التي يجب فهمُه فيها، كمفهوم يراد منه أن يشمل ما نفهمه تحت هذا العنوان في ماضي الحضارات. إذ تبدو لي هذه الكلمة مُبرّرة بعكس نقدٍ هو اليوم منتشر بشكل كافٍ والذي تبعاً له قد لا يكون هناك أي شيء كَـ «الدين». إننا نُبدِّل كلمة «دين» بكلمة «أيديولوجيا»، لكننا نقول «أيديولوجيات دينية» لكي نُميّزها عن بقية الأيديولوجيات. ولا أرى أين هو المَكسَب المفهومي! فهذا نقاش واسع حول العلوم الاجتماعية المعاصرة.
لنفهم الدين يجب علينا عدم اختزاله إلى مجرّد واقع إيديولوجي وبالذات في ما يتعلَّق بالبُنية الفوقية للأفكار. فالدين، في مفهومه التاريخي الأساس، هو أكثر من مجرّد فعل إيماني. إنه نمط معيّن لتنظيم المجتمع. وهذا يتناسب مع أحد أشكال المجتمع حيث يُشكِّل الاعتقاد الديني محور نظام كامل ـ وبالأخصّ النظام السياسي ـ والذي يُدير شؤون الناس كافّة. ومنذ القرن السادس عشر، يُعدّ تاريخ الخروج من الدين، بالنسبة للبروتستانتية والكاثوليكية، تاريخ التحوّلات التي طرأت على الإيمان الديني. ذلك هو مجرّد تأسيس لبعض المفاهيم التي ينحصر دورها باجتناب الالتباسات.
بيير أوليفييه مونتيل: في نفس سياق الانشغال، يبدو هذا التحليل مُطابقاً لِمفهوم «الأسّ الديني للحداثة» الذي تحدّثتَ عنه.
أوليفييه مونغان: أعتقد أن حوارنا يُفضي إلى أسئلة من نوع مختلف جداً. لم يَعدْ بمقدورنا اليوم امتلاك رؤية بسيطة للحوار حول الدين. ففي حين أننا عِشنا طويلاً بصيغةٍ هي أضيق بكثير ممّا كان يمكن للحداثة أن تكون عليه في علاقتها مع الدين، فإننا نلاحظ أن تلك الرؤية للأمور باتت قابلة للنقاش فيها منذ بضع سنين.
يجب طرْح السـؤال كما فعل مارسيل غوشيه في الكتاب الجماعي (النعمة والفوضى) La grâce et le désordre وفي كتابه الأخير (الدين في الديمقراطية). في الواقع، ثمّة نواة أنتروبولوجية تتعلّق بالإنسانية التي تدعم، بطريقةٍ ما، الظاهرة الدينية. إنّ هذا الدين، أي العلاقة بين المرئي وغير المرئي، يأخذ أشكالاً متعدّدة جدّاً. من بين هذه الأشكال ذلك الشكل الذي يترافق مع النسب اليهودي ـ المسيحي. هل هذه النواة الأنتروبولوجية ما تزال بحاجة إلى الديانات التوحيدية الكبرى لكي تتجلّى، في حين أن الإنبعاث الجديد للديني يطال أدياناً غير توحيدية ومعها المذاهب الروحية الشرقية؟ إذا كان مارسيل غوشيه قد أقنعني بأن اليهودية ـ المسيحية هي دين الخروج من الدين بالمعنى الذي ذُكِر، فإن القضية التي تطرح نفسها، ربما بالنسبة للكاثوليكية أكثر مما هو بالنسبة لدين أقلّوي في فرنسا مثل البروتستانتية، هذه القضية هي دور التوحيد الذي قدّمت الكاثوليكية نفسَها لزمن طويل على أنها المُمثِّل الرئيس له. واليوم، تَطرح هذه القضية نفسَها على ثلاثة صُعُد:الديمقراطية والحداثة والدين. إن مشكلة الديمقراطية ليست بنظر البعض تحطيم قوة الدين، وإنما عدم القدرة على هيكلة الرابط الاجتماعي من خلال القيَم التي كانت تُشكِّل أُسّ الحداثة: قيم دينية تأثّرت باليهودية ـ المسيحية، والتي يُفتَرَض بها ريّ الرابط الاجتماعي في مجتمع على طريق الفردية individualisation. إننا نسمع كثيراً هذا الخطاب، ونُؤَيِّد الحداثة والديمقراطية، ولكن يجب أن تترك القيم، التي حملتها اليهودية ـ المسيحية عبر التاريخ، بصماتها في هذه الديمقراطية التي أصبحت فردانية تدريجيّاً وبشكل متصاعد. ولكن اليوم أُفسِدَ هذا التأكيد عبر إضفاء صبغة تعدّدية قوية جدّاً على الظاهرة الدينية، والتي تتخطّى الكاثوليكية ومعها أيضاً الأديان التوحيدية بالرغم من الدور المتفوّق للإسلام.
إن كبار التوحيديين، وبالتالي الأديان التي تحظى حتى الآن بالأكثرية ـ بالتأكيد أنا أُذكِّر بالكاثوليكية في فرنسا ـ تتزعزع أكثر فأكثر لأنها تخوض منافسات شَرِسة. وهذه هي المشكلة المطروحة اليوم. فنحن نلحظ وجود نوع من إعادة التركيب الجمعية وغير المتجانسة للفضاء الديني.
إن دمقرطة الأخلاق تُسْهم في هذه الظاهرة، وكل القضية تكمن في رؤية ما هي نتائج تلك الدمقرطة. أعتقد أن الأديان التوحيدية الكبرى ساهمت في التمييز بين السياسي وما لا يتعلّق به (ممّا يَحيل إلى موضوع المدينتين). ولكن، يوجد اليوم نوع من الدين يُخِلّ ويخلط بشكل فعلي الحدود بين الحقل السياسي والحقل الديني. وقد تحدّث مارسيل غوشيه عن ذلك في نهاية كتابه الأخير، ورأى أن الدولة تلتزم بسياسة «اعتراف» ذات طابع جديد.
عندما تزداد الدولة حياداً على نحوِ غريب، فإنها تَميل إلى الإستجابة لطلب ديني كان خاصّاً، ولكنه يَميل بشكل متزايد إلى أن يصبح عامّاً. إن قضية الديني تطرح نفسها من جديد بطريقة بالغة الأهمية ولكن بتشكيل مختلف كليّاً.
على مسافة من الفردانية الديمقراطية لمجتمعاتنا الأوروبية، يجب أن نُعاين الحداثة «غير الديمقراطية» ومستقبل الأديان الأخرى في المناطق الأخرى من العالم. بإمكاننا أن نتساءل عمّا إذا كانت إعادة تنظيم العالم بواسطة السوق لا تترافق بشكل فعلي مع الانضمام إلى أديان ذات طبيعة اجتماعية جداً ومباشرة جدّاً والتي جاءت للإجابة على مشاكل الفرد. بناءً على هذه المقاربة، أدعوكم إلى قراءة الكتاب الأخير لِـ«شيفا نيبول» Shiva NAIPAUL بعنوان (حتى نهاية الإيمان) (Jusqu’au bout de la foi). يتناول هذا الكتاب دول أندونيسيا وماليزيا وباكستان وإيران. ويدرس الكاتب فيه أصحاب الرساميل ورجال الأعمال، مُحاوِلاً فهم السبب الكامن وراء انتقال الناس فجأة إلى الدين. لسنا هنا في معرِض نقاش حول نقل القيم، فالقضية تكمن في معرفة سبب انضمام الناس إلى نمط ديني في أوضاع غالباً ما تكون متقلّبة. ومن أجل أفضل إدارة للحوار، أودّ تمييز ما يتولّد من الدين في المجتمعات الديمقراطية الفردانية كما وصفها مارسيل غوشيه، وفي المجتمعات التي تعتبر نفسها غالباً ما بعد ديمقراطية post-démocratiques بالمعنى الذي نُحاول فيه مصالحة السوق مع الجماعوية communautarisme.
بيير أوليفييه مونتيل: سيد جان بوبيرو، لقد شعرتَ بالفضول مرّات عدّة، كيف تُحدّد نفسك وسط هذا النقاش؟
جان بوبيرو: نقاشُنا يدور حول الدين والحداثة. أَوَدُّ الانطلاق من الحداثة لِأَصِلَ إلى موضوع الدين. أريد، قبل كل شيء، أن أُعبّر عن تأييدي للآراء التي طُرِحَت. هناك خروج اجتماعي من الدين. عند هذا المستوى أُوافق مارسيل غوشيه. ولكن ذلك لا يعني أن الدين انتهى! فنحن قد خرجنا من الدين في القرن التاسع عشر برؤية وضعية ودينامية للعلم. ذلك العلم الذي كان قادراً على النهوض بأعباء الرابط الاجتماعي بشكل جديد. لقد جعل أمل القرن العشرين من العلم سلطة حرّة. إن الأمر الذي كُنّا نلوم الدين عليه في النهاية، بالمعنى الذي قَبِلَه مارسيل غوشيه، هو أن الدين كان يعمل على تنظيم وهيكلة معتقدات المجتمع. وانطلاقاًَ من الدين تكَوَّنَ عدد من الاعتراضات للمجتمع. لقد كان هناك حتماً استعانة بتعالٍ ما وسلطة بشرية مُكَلَّفة بسنّ هذا التعالي بطرائق مختلفة.
ضمن بروتستانتية تحتفظ بسلطة أخلاقية معينة، حتى وإن كانت تجعلها نسبية (Relativiser)، كان هناك دائما هذا النظام وهذا الصراع الدائر بين السلطة والحرية. وكان العلم يبدو وكأنه يقوم بمصالحتهما فيكون بذلك رابطاً اجتماعيّاً وديمقراطيّاً. ربما كان هناك أمر ما يفرض نفسه بواسطة سلطة معينة على العالم بأكمله من دون أن يَعوق حرية الفرد. غير أن مشكلة الحداثة اليوم، التي ندعوها ما بعد الحداثة أو ما فوق الحداثة، وبإمكاني القول «حداثة متأخّرة» كي أُلَمِّح إلى «العصور القديمة المتأخِّرة» عند بيتر براون، هذه المشكلة تتمثَّل بخروجنا من الرابط الاجتماعي. فنحن لا نخرج من العلم بوصفه تقنية فعالة، وإنما نخرج من الاعتقاد بأن العلم سيتمكن من التوفيق بين السلطة والحرية كرابط اجتماعي. حينئذ تستريح مشكلة الرمزي.
اشتقاقيّاً، كان الرمز عبارة عن عَصَوَيْن (مثنى عصا) وكانت كل قبيلة تَصِل طرف عصاها، فإذا تشابكت العِصِيّ تحالفت القبائل في ما بينها وباتت قادرة على العيش بسلام. أما إذا لم تتشابك العِصيّ فهذا يعني النزاع والحرب. ثمّة انطباع بأننا في مجتمع يمنح الوظيفيّ تميُّزاً. ولإكمال الاستعارة، ادّعينا أن «النتوءات» التي في طرف العصا لم تكن وظيفية. فقمنا عندئذٍ بنجْر العصا كي تُصبحَ أكثر وظيفية وأكثر فعالية. هذه هي استعارة فقدان معنى الرمزي! ما أدعوه «رمزي» هو نفسه ما يدعوه أوليفييه مونغان بِ «العلاقة بين المرئي وغير المرئي». في علم الرموز توجَد حقيقة مرئية، ولكنها ليست تلك الحقيقة التي تُعطي معنىً. المُهم هو المعنى الذي نُعطيه لهذه الحقيقة المرئية. فلو أن هناك ألف عصا، لِماذا نُقرِّب تلك أكثر من غيرها؟لقد فقدنا ذلك. إن هذا النظام يصف لنا على ما يبدو النزاعات التي تحدث في كل الجهات. ولكنه يَظهر عاجزاً عن إخبارنا بأسبابها. وهذا فقط لأن العصا كانت قد نُجِرَت.
سنجد بالتالي ظواهر تُوصَف بأنها «دينية» أو غير «دينية». وأظنّ أن المستقبل سيختار! في كل زمن هناك حالة من التردّد حول عدد من الظواهر. ففي القرن التاسع عشر كُنّا نستطيع الحديث عن الدين السان سيموني، أما الآن فلا أعرف إذا كان بمقدورنا أن نُسميه ديناً. والعكس بالعكس، فكان يُقال إن المنهجويّة méthodisme دين زائف، بينما سيقول كل العالم، اليوم، أنها كانت ديناً. هذه هي ظواهر جَيَشان الرمزي، سواء أكان دينيا أم لا.
عند هذا المستوى توجَد مماثلات صادمة ومعها الطريقة التي أُعيدَ بها ابتداع الطقوس. تلك هي الحالة مثلاً خلال مباريات كأس العالم لكرة القدم حيث أُعيدَ خلْق طقوس فانية ترتبط بهذا الحدث. لقد ذُهِلْتُ عندما رأيتُ جيلاً من الشباب يستولي على الأعلام الفرنسية ويتنزّه بها. إذ أنّ ذلك لم يكن لِيخطرَ أبداً على ذهن الجيل الذي أنتمي إليه. لكنه يُعَدّ أيضاً طريقة لخلْق العلاقة الاجتماعية؛ وليس وسيلة للعودة إلى قومية من نوع معادٍ لِـ «دريفوس» anti-dreyfusard. إننا نَشْهد جَيَشان محاولات إعادة تشكيل العلاقة الاجتماعية.
فوسْط الفوضى، وما دمْنا لن نَصِلَ إلى تحليل عدد من الأحداث المعاصرة انطلاقا من إعادة إخراج الرمزي، أعتقد أننا لن نفهم بعض الظواهر، سواء أكانت دينية أم لا. إذ بإمكاننا تسميتها بألف اسم من أسماء العصافير والمتشدّدين والأصوليين. يمكننا أيضاً وصْمها بالعار. لكنّ هذا قطعاً لا يُجدي نفعاً لأننا لا نسعى إلى فهْم معناها العميق. يمكننا بالطبع صَوْغ كل الأحكام القيمية التي نريدها. ولكن، ثمّة دارة قصيرة Court - Circuit، فنحن حالياً نعمل على إبراز الحكم القيمي وهذا يمنعنا من الفهم. إننا، مقارنةً بالمجتمع الذي ساد في نهاية القرن التاسع عشر، في موقف جهل أكبر بكثير إزاء العلم. وربما يُعدّ هذا مشكلة كبيرة للحداثة!
بيير أوليفييه مونتيل: هل بإمكاني أن أَعرِضَ على أوليفييه آبيل قلْب موضوع النقاش؟ أي أن أطرح السؤال ليس من وجهة نظر المجتمع الذي نُعاينه بل من جهة المُعايِن. هل إن هذه الآثار، التي هي اليوم مُبَعثرة أو مُخَفَّفة جدّاً، لا تَحرِم الفيلسوف وعالم الإناسة من نقاط الاستدلال التي بإمكانها هدايته في قراءته الخاصة للعالم المعاصر؟
أوليفييه آبيل: يحتاج الفيلسوف دائماً إلى حصّة من الحُلم وأخرى من الأسطورة. ولمّا كان أفلاطون يَخلط في حواراته بين الأساطير التي يُعيد طرحها وتفسيرها مرّة بعد مرّة، فهذا يُعدّ جُزءاً من الفلسفة لا أَرغبُ بوضعه جانباً. ربما عِشنا حداثة مُرَكَّبة بهدوء ضمنَ عقلانية مُكتفية بذاتها ونوع من القطيعة. كنّا نعتقد أننا قادِرون على ادخار حصّة العقيدة التي نحتاج إليها. لا يمكننا دائماً البقاء يقِظين.
لقد رأيت ذلك، اليوم، بشيء من الصعوبة. فبعد الاستماع إلى حديث جان بوبيرو عن «هؤلاء الشجعان الصغار الذين يرفعون الأعلام» فيعثرون بذلك على المعنى الرمزي، يجب عليَّ القول أن ذلك يُقلقني قليلاً في الوقت ذاته. قال أوليفييه مونغان أن الكاثوليكية كانت مُشَوَّشة جدّاً، ولكن البروتستانتية هي أيضاً كذلك. كانت البروتستانتية الفرنسية الحديثة تَربطها علاقة وثيقة بهذه الحداثة، وبعصر العقل لدينٍ ما «ضمن حدود العقل البسيط» كما كان كانط يقول. دين معقول، ليبرالي، مُهذَّب، يُعلّمنا كيفية الارتقاء نحو الاستقلالية. وكان كالفن يقول: لم يتغذّوا من حليب جيّد، هؤلاء الأولاد الذين نعتبر أنه يجب دائماً تغذيتهم بالحليب والذين لا يستطيعون تناول اللحوم والنبيذ؛ يجب أن يكبروا جيّداً ويصبحوا مستقلّين وراشدين.
مقارنةً بذلك، أُفقِدَت البروتستانتية توازنها لأنها ارتبطت بهذه الحداثة. فهي تُقِرّ بأهمية الأكثرية والاستقلالية. إن حصّة الطفولة تلك ربما طردتها البروتستانتية بقليل من السهولة ونُحاول بجدّ استعادتها من غير أن نقيس كلّ الارتجاج الذي يُسبّبه ذلك لنا جميعاً.
كنت مذهولا جدّاً بمساهمة مارسيل غوشيه في كتابه (النعمة والفوضى). لقد قال أن «الشعور الديني اليوم هو شعور من يَدين للماضي ولِأولئك الذين سبقونا». أعتقد أن ذلك بالغ الأهمية لقياس مدى تنوّع صور الديني التي قد تكون صور الدَّين. يجب الهروب من الحاضر المُرعب، والخروج بالتالي من هذا الزمن عبر الاستعانة بزمن اخر. نحتاج إلى عملية «تفكيك»، مراجعة سوابق مريض، بهدف الوصول إلى شيء آخر. إن مجمل الفكر المعاصر مُخصّص لهذه الحركة النَسَبية، وذلك من أجل فهْم ما يجري علينا ومحاولة التخلّص منه. من هنا تأتي أهمية إشكالية المغفرة.
كيف السبيل إلى الخروج ـ بصورة أخرى ـ مما كان حُلُماً، طوباوية (utopie) تقدُّم هي في طور الانقلاب إلى كابوس؟ومع ذلك فإني أعتقد أنه ثمّة أحياناً في الأديان شيء ما ليس من قبيل مجرّد الدَّين للقدماء. في الواقع هناك أيضا مكان يجب توفيره لأولئك الذين يولَدون. إن معنى الولادة، أو بتعبير أدقّ إمكانية إعادة بدء كل شيء سَوِيّاً، يوجدان في الكثير من الصور الدينية. وربما هناك نقاش مُحتمل بين صورتين دينيتين. فقد قال أوليفييه مونغان في مداخلته أننا نشهد التعارض بين صورة تقدّمية للرجاء، كإرنست بلوش الذي يكتسي الرجاء والوعد صفة الأهمية بالنسبة إليه، بينما المسؤولية والدَّيْن تُجاه الماضي هما اللذان يَحظَيان اليوم بالأهمية.
بيير أوليفييه مونتيل: على امتداد محاورات كتاب (النعمة والفوضى) ربما عثرْتُ على نقطة خلافية محتملة بين آراء كل من جان بوبيرو ومارسيل غوشيه في ما يرتبط بالعلاقات بين البروتستانتية التاريخية والحداثة. بهذا السؤال التالي: إلى أي حدّ يُظهر تاريخ البروتستانتية شكلاً مُعَيّناً من المُجاملة إزاء موضوعه؟وبشكل خاصّ، هل كان مُصلِحو القرن السادس عشر حداثيين بمقدار ما ننزع إلى التفكير بذلك اليوم؟هل أنتم فعلاً على خلاف حول هذه النقطة؟
جان بوبيرو: لا أعلم ما إذا كنّا على خلاف. فلكلٍّ منّا بلا شكّ خطّ يُسطِّره. يمكننا إذن أن نُقارِن الخطوط ببعضها البعض. بالطبع لم يكن همّ المصلحين أن يكونوا حداثيين. إنما كان همّهم تنقية المسيحية، والعودة إلى نقاء الأصول. وأرى أن ذلك أمر مهمّ في تاريخ الأديان، وتاريخ الأديان التوحيدية في الغرب بكل الأحوال.
لقد تمثّل ادّعاء المسيحية الأصلية بإضافة العهد الجديد إلى التوراة اليهودية التي أصبحت «العهد القديم». ثم قام ادّعاء الكنيسة على إضافة التقليد إلى إنجيل آباء الكنيسة. أما ادّعاء الإسلام فَتَمَثَّلَ بإضافة الوحي القرآني إلى الكتب السماوية السابقة.
مع الإصلاح نجد أنفسنا في حركة معاكسة فنحن نريد التنقية. والبروتستانتية لن تنتهيَ منها. سيكون هناك دائما دعوة للعودة إلى الإصلاح وإلى إصلاح الإصلاح أو إيقاظه من غفلته. هذه هي سيرورة الطهريين والحركة التّقَوية الذين يعتبرون أننا لم نَقُمْ بما يكفي من الإصلاح.
إن المنعطف الديني ليس متواطئاً univoque بالضرورة بالنسبة إلى الحداثة، ويمكن أن تترتّب عليه نتائج عدّة. فهو يُميّز الحركة البروتستانتية من بعض الحركات الأخرى. لقد كان هناك عدّة حركات أخرى أرادت التنقية. لكنها لم تُحقّق على الأرجح النجاح التاريخي نفسه!
وجدتْ البروتستانتية نفسَها إذن وسْط تناقضات هائلة. فمنذ نجاحنا، نعيش على الدوام وسْط تناقضات بين إرادة الأصول والاستقرار في مسؤوليات الإدارة. إنّ ما كان مُهمّا في إرادة العودة إلى الأصول، كان مُعَوّضاً بواسطة ما يمكننا تسميته «طوباوية نكوصية» utopie retrogressive. هذا هو نقيض الحداثة. لقد كانت هذه التنقية منزوعة القداسة على نطاق واسع. وكان هناك نوع من المفارقة في النتائج، شيء ما أسهم في ظهور éclosion الحداثة. فالتنقية كانت تُعاش كشكل من نزع القداسة. وهذا كان يذهب بعيداً لأننا كُنّا نتساءل مثلاً عمّا إذا كان عيد الميلاد شكلاً من الصنمية. بإمكاننا اليوم أن نطرح هذا السؤال على أنفسنا!
لقد كان هناك إذن نزع قداسة نسبي، إنه تعارض مُبهَم. وكان يُنظَر إلى نهاية الأزمان نظرةً ما قبل ألفية (Pré - illénariste) أي أن كل شيء يجري على نحو سيء. فهناك كوارث تتلوها كوارث. والمُخلّص سيعود عندما تبلغ الكارثة حدّها الأقصى. واستُبدِلَ بهذا الطهريون الإنكليز في القرن السابع عشر، وما بعد الألفيين post-millénaristes، أي مجتمع كان حقيقةً مسيحياً في روح الزمن، وكان يَسعى إلى تجسيد الإنجيل أكثر فأكثر، مُهيِّئاً بذلك المملكة والعودة. لقد كان الإسهام في مفهوم التقدّم رفيقاً رمزيّاً كبيراً للحداثة. وهذا المفهوم أراه ينبُتُ في الثورات الإنكليزية في القرن السابع عشر، وبالأخصّ في الثورة الإنكليزية الأولى التي قلّل علم التاريخ الرسمي Historiographie من قيمتها، نظراً لأنها لم تُحقّق النجاح على الصعيد السياسي. لكن ثقافياً، شكّلت تلك الثورة غَلَياناً فيه ما يكفي من الغرابة خصوصاً في وقتٍ لم تَعُدْ الرقابة تعمل فيه. ففي هذه النقطة أرى إسهامات البروتستانتية في الحداثة.
وما هو مستغرب اليوم هو أنّ تقرير كينيث ستار Kenneth Starr الذي كشف كلّ التفاصيل عن الحياة الجنسيّة لـ: بيل كلينتون Bill Clinton هو تقرير قابل للتصديق. لأننا منذ 25 عاماً بالطبع هذا يتعلّق بالبلدان ـ اعتدنا على السوق الإباحية واعتدنا أيضاً على إبراز الجنس! فمنذ ثلاثين عاماً كان من غير الممكن ـ ثقافيا ـ الإفصاح عن علاقة مماثِلة في جريدة لوموند (Le Monde) إذ أن هوبرت بوف ميري Hubert Beuve-Méry ما كان لِيقبَلَ بذلك! نرى بالتالي الطرفين اللذين يتلامسان: الطرف الطهري لـِ«كينيث ستار» والسوق الإباحية. ولكن ما هي أولى الدول التي حرّرت السوق الإباحية؟ إنها الدول الاسكندينافية ذات الثقافة البروتستانتية. إننا نرى في المفارقات الحالية للحداثة المتأخّرة ردّة الفعل المُسَمّاة «طهرية»، والتي هي ذات نسق أخلاقي وضدّ الحداثة، كما هو الأمر مع كينيث ستار التي هي ردّة فعل صادرة عن بروتستانتية معينة. وبالعكس، فإن واقع أنه لم يَعُدْ هناك ما يعجز عنه الوصف على صعيد الألفة، وأن الجنس ـ ثقافيّاً ـ هو موضوع الخطاب أو الصورة العامّة، كان يُؤخذ أيضاً بعين الاعتبار من قِبل البروتستانتية. هناك إذن علاقة مستمرّة ذات طابع جَدَلي بين البروتستانتية والحداثة.
مارسيل غوشيه: بالتأكيد هناك إسهامات للبروتستانتية في الحداثة. وقد أَشَرْتُ إليها منذ قليل. ولا أنوي إنكارَها لِلحظة. واكتفيتُ بتجريم الصورة المدرسية المبتذلة وقد أصبحت كلّية الوجود! وباعتقادي أننا نُعلِّم ذلك لتلامذة المدارس، وفي الجامعة بكل الأحوال. إن طلّابنا مقتنعون جميعاً، من دون أن يعرفوا فعلاً على أي شيء يمكن أن يقوم ذلك، مقتنعون بأن البروتستانتية هي في أصل الحداثة.
لقد أصبح ذلك في فرنسا صورة مبتذلة للكتاب التعليمي، ويرتبط بسلطة بالغة الغرابة لا بأس بتناقضها لِنصٍّ لمْ يُقرَأ كثيراً بالرغم من شهرته وهو كتاب (الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية) L’éthique protestante et l’esprit du capitalisme لـ «ماكس فيبر». إن لهذه الصورة المبتذلة أسباباً قويّة لوجودها في فرنسا ومن المهمّ قياسُها. ويبقى لنا أن نصنع تاريخها. فهي نَشَأَتْ ـ أظنّ في القرن التاسع عشر ـ واعتمدت بصورةٍ رئيسية في عهد الجمهورية الثالثة، وكان لها هدف سياسي يمكن فهْمُه بسهولة من خلال التحالف القائم بين الإصلاحيّين الفرنسيين والجمهورية في وجه الحزب الكاثوليكي في ذلك الوقت. وقد قدّم ماكس فيبر نسخةً ألمانية لهذه الصورة، مازجاً فيها الألوان بطريقة مغايرة في العقد الأول من القرن العشرين.
يمكننا تسميته «حزب» لأن الكنيسة كانت القوة الرئيسة في المعارضة السياسية. لقد كانت كنيسة ملتزمة، ومتأثرة بالبابوية المتطرّفة، في نوع من إعادة التعريف المعادية للحداثة بشكل صريح. ولأننا وقفنا في وجه المعادين للحداثة، استطعنا أن نضع تعريفاً لِهوية الجمهورية والحداثة، وصار تماهي الإصلاحات مع الجمهورية تماهياً مع مصدر الحداثة، على أساس حداثة مُحَوَّلة إلى مبدأ حرية المعتقد، ما يُعَدّ ضيِّقاً بعض الشيء كتعريف ولا يتلاءم مع الحركة الابتدائية للإصلاح، حتى وإن كان المكوّن الفردي للإيمان ـ من دون جدال في ذلك ـ في صميم عملية العودة إلى المسيحية الحقيقية للأصول التي استرشد بها لوثر ثم كالفن والآخرون. لقد كان هدفي إذن شديد الوضوح.
أظن أن هذا النوع من الوقائع يستدعي، من الناحية الدينية، تاريخاً نقديّاً يُضطلع به، وهو أمر ليست الأديان عموماً على استعداد لإنجازه. إن الكنيسة الكاثوليكية تقدّم نفسها اليوم، من خلال أصواتها الأكثر تحمُّلاً للمسؤولية، على أنها أمّ حقوق الإنسان. أظنّ أنه علينا تذكير أنفسنا بأنه طوال أكثر من قرن وصولاً إلى الخمسينيات، كانت العقيدة الرسمية للكنيسة الكاثوليكية تُدين الأساس الفلسفي لحقوق الإنسان! ليس على البروتستانتيين إلاّ أن يربحوا، وهم على مسافة محكومة أكثر مع حقيقة تاريخهم.

[1]ـ العنوان الأصلي للنص:
Modernité et religion. Débat entre Olivier Abel, Jean Baubérot, Marcel Gauchet et Olivier Mongin
ـ Autres Temps. Cahiers d,ethique sociale et politique /Year 1999 / Voume 62 / Issue 1/ PP. 51 - 60: نقلاً عن تعريب: عماد أيوب. مراجعة: محمد سليم