البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

المهندس الأعظم وغائية العالم

الباحث :  والتر ستيس
اسم المجلة :  الإستغراب
العدد :  3
السنة :  السنة الثانية - ربيع 2016 م / 1437 هـ
تاريخ إضافة البحث :  April / 2 / 2016
عدد زيارات البحث :  1294
تحميل  ( 282.453 KB )
المهندس الأعظم وغائية العالم[1]
والتر ستيس[*]
كان نيوتن مسيحياً خاشعاً للغاية، يأخذ اللاهوت مأخذ الجد أكثر من العلم. ولا بد أنه كان سيصاب بالهلع لو أنه تصوّر أنّ ما قام به طوال حياته سوف يقوض أركان الإيمان الديني. فقد كان رأيه الخاص هو أنّ ما قام به ستكون له نتيجة مضادة تماماً، بل إنّه افترض أن نظامه عن الميكانيكا السماوية سوف يزودنا ببرهان على وجود الله.
وكان من الواضح بالنسبة إليه أن المادة الميتة لا يمكن أن تقوم هي نفسها بهذه الحسابات. وعلة هذا النظام السماوي لا يمكن أن تكون «عمياء» أو «عفوية»، بل لا بد أن تكون عقلاً، وأكثر من ذلك «عقل غاية في البراعة في الميكانيكا والهندسة» ومثل هذا العقل المسيطر سيطرة شاملة لا يمكن أن يكون شيئاً سوى الله وجوهر البرهان هو أن الطبيعة تكشف عن نماذج من التوافق بين الوسائل والغايات، أو بعبارة أخرى تكشف عن تخطيط، وذلك يعني أن هناك من يُخطِّط. والغاية في النموذج الذي قدّمه «نيوتن» هو التوازن الذي يسري في النظام الشمسي. والوسيلة هي توافق سرعة الكواكب ومسافاتها بعضها مع بعض. ولقد قدم المفكرون، بمن فيهم نيوتن نفسه، أمثلة أخرى كثيرة على هذا النظام الظاهر في الكون.
لماذا أنتجت الثورة العلمية عصر الشك في الوقت الذي لا يوجد مبرر منطقي لذلك؟
الحل يكمن في الأسباب السيكولوجية العميقة التي تعمل بداخلنا. وهذا الموضوع، بالطبع، بالغ التعقيد، ومن مجموعة خيوط أفكار البشر لا نستطيع في هذه الحالة أن نأمل في أكثر من جذب بعض الخيوط التي تكون أشد وضوحاً.
أولاً وقبل كل شيء فقد أحدث علم نيوتن في أذهان الناس حساً متنامياً أو شعوراً بأبعاد الله، وأي ديانة حية تقتضي وجود إله قريب منا، وموجود حولنا في العالم الآن. ولقد كان هذا الحضور القريب في عصور الخرافة يُحْدثه الإيمان بمعجزات الله التي تعمل في حياتنا على نحو مباشر بإرسال صواعق من السماء تدمر أعداءنا، وبإرسال الطعام لنا عن طريق الغربان لو كنا جائعين، أو بإرسال المن من السماء لنأكل. وهذه الأمور بالطبع، لا تحدث لكلّ إنسان، وإنما هي تحدث لأولئك الرجال الذين يتبعون، عن وعي، أوامر الله، أكثر من غيرهم. يكفي ذلك، البيان أن الله قريب منا جداً، وأنه يساعد باستمرار أولئك الذين يحبونه والذين يحبهم. وهو يعمل في العالم طوال الوقت. إنه عصر لم يعد فيه أمل للإيمان بالتدخلات الإلهية في عمل الطبيعة. إن الدين الحي يقتضي، على الأقل، الشعور بوجود إله لا يزال يعمل داخلياً في قلوب الناس عندما يُصلون مثلاً. ولقد قيل: إن الله لم يعد يتدخل الآن في عمل العالم الفيزيقي. لكنّه لا يزال يتدخل في الأعمال السيكولوجية للعالم الداخلي لعقول الناس. وإذا لم يعد يرسل طعاماً مادياً عن طريق الغربان، فهو يرسل لنا غذاءً روحياً عن طريق المقدسات وبواسطة النعم الإلهية والدين ـ بطريقة أو بأخرى، إذا لم يكن مجرد تجريدات عقلية، يقتضي الشعور بإله قريب منا ويؤثر في حياتنا.
غير أن علم نيوتن انتهى بتجفيف منابع الدين بأن دفع الله إلى الخلف في زمن بداية العالم، وسواء أكانت هذه البداية تحسب بألوف أو ملايين السنين، فذلك لا أهمية له. عندما خلق الله العالم، وعندما فعل ذلك فإنه خلق أيضاً قوانين الطبيعة، مثل قانون الحركة وقانون الجاذبية، وهي القوانين التي يسير عليها العالم. وكان الله هو «العلة الأولى» للعالم، لكنه بعد أن خلقه، وتولى القانون الطبيعي، الذي كان قد خلقه أيضاً، مهمة تسيير العالم، فلم يعد الله يفعل شيئاً بعد خلق الكون، بل ترك لقوانين الحركة وقانون الجاذبية عمل كل شيء. إن الله يشبه صانع الساعة الذي صنع الساعة ذات مرة وملأها، ثم تركها تعمل وفق آلية داخلية. ولا يختلف الله عن الآلة البشرية إلا في أنه خلق الحركة الدائمة للآلة التي تعمل بنفسها إلى الأبد دون أي تدخل من جانبه. أليس ذلك هو ما يتضمنه بالضبط القانون الأول للحركة عند جاليليو؟
وهكذا نجد أن الله قد «أصبح بعيداً ومنذ مدة طويلة» منذ بداية خلق الأشياء فلم يعد يؤثر فيها الآن، كما أنه يبعد تماماً عن الأحداث الفعلية في حياتنا اليومية.
غير أن هذه الصورة المتخيلة لله أصبحت عندئذٍ مجرد إيمان عقلي. وربما أصبحت مجرد «فرض» لتفسير أصل العالم، لكن لا أهمية لها في شئون حياتنا اليومية. هذا هو ما أصبحه الله فعلاً عن الطبيعيين المؤلهة في القرن الثامن عشر[2]. وتلك نتيجة ترتبت على العلم عند «نيوتن» ـ ولا تزال هذه النتيجة بالطبع موجودة في عصرنا ـ ولقد خفف منها جزئياً مواصلة الإيمان بأن الله لا يزال يعمل في عالمنا السيكولوجي الداخلي. ولسنا بحاجة الآن إلى التعليق على الفكرة الواضحة التي تفرض نفسها هنا ـ وهي أن جهلنا النسبي بعمل العالم الداخلي هو الذي يسمح لنا أن نواصل الافتراض بأنه لا يحكمه القانون وأن التدخلات الإلهية لا زالت ممكنة. والحقيقة التاريخية هي أن الشعور بالقرب من الله، وبأنه حولنا، قد دمره ـ مرة واحدة وإلى الأبد ـ علم نيوتن وأنه ارتحل عن العقل الحديث بصفة عامة، رغم أنه لا يزال موجوداً، بغير شك، عند أفراد البشر.
وهناك دليل على أن نيوتن نفسه كان قلقاً بصدد هذه الأفكار. فالله ـ بالطبع خلق العالم. لكن ما الذي تُرك له ليعمله في هذا العالم الآن؟وأجاب نيوتن، بخُلفٍ، لا يزال الله قبل كل شيء وظيفة التدخل بين الحين والحين لتصحيح مسارات الكواكب المتحركة أو التي «تشذ» عن طريقها وإعادتها إلى محورها الصحيح عندما تقوم بهذا الانحراف.
في مجلة «ريدز ديجست» عدد يناير 1949 ظهر مقال عنوانه «الله والشعب الأميركي» وفيه يسجل استفتاء الأمة الكبيرة حول الدين، فالمحرر سأل الناس عن مدى إيمانهم بوجود الله، فأجاب 95 % منهم بأنهم يؤمنون بوجوده. ثم سألهم مدى اعتبار الدين مؤدياً إلى إقامة حياة فاضلة، فأجاب 25 % منهم فقط بأنهم يعتبرون الدين أحد العناصر التي يضعونها في أذهانهم. وسألهم عما إذا كان الدين مؤثراً بأية طريقة في السياسة أو شئونهم وأعمالهم فأجاب 54 % منهم بالنفي. وعندما حلل دكتور «جرينبرج» هذا الاستفتاء لاحظ أن «الشعب لا يجعل الله مرتبطاً على نحو مباشر بسلوكهم».
فلماذا نجدهم من ناحية يؤيدون الإيمان التقليدي في وجود الله، نراهم من ناحية أخرى أن لا علاقة له بالأحداث الفعلية التي تقع في حياتهم اليومية، وأنها كلها يمكن تفسيرها تفسيراً تاماً عن طريق « الأسباب الطبيعية» ـ بما في ذلك بالطبع أفعالهم الخاصة؟ إن الإيمان بأن جميع الأحداث ترجع إلى الأسباب الطبيعية، وأن الله لا علاقة له بها ـ سواء اعترفنا بذلك أم لم نعترف وأنكرناه بلساننا ـ هو ببساطة جزء مما يسلم به العقل الحديث، فهو جزء من الصورة المخيلة عن العالم، وجزء من التراث الذي ندين به للعلم في القرن السابع عشر. لقد اعتدنا أن نقول أنه على حين أن فترة العصر الوسيط هي عصر الإيمان، وأن عصرنا ليس كذلك. ولا شك أن 95 % من الناس تقول إنهم يؤمنون بالله. لكن ذلك ليس دليلاً على إيمانهم بالدين، فمثل هذا الإيمان بالله هو مجرد تجريد عقلي، لا يؤثر في سلوك الناس. أو أنه صيغة تقليدية لفظية عقيمة اعتاد الناس على ترديدها. لأنهم لا يفكرون وكسالى في تغيير عاداتهم. إن الإله الموجود الذي لا يفعل شيئاً للعالم، ولا يؤثر أدنى تأثير في أحداثه، هو ببساطة إله لا أهمية له. وبالطبع لا يقول الناس شيئاً كهذا الذي أقوله وحتى لا يفكروا به في أنفسهم. غير أن صورة العالم الحديث لم يأخذ بها عن وعي سوى قلة من المثقفين. وإن كانت مع ذلك تشكل خلفية الحياة الحديثة بطريقة لا شعورية. ونحن نرى الآن أننا عندما نتحدث عن العلم عند «نيوتن» على أنه قوض ودمر الإيمان بالله، فإن ذلك لا يعني أنه أدى إلى أن يقول الناس «لا يوجد إله»، لكنهم يسيرون في حياتهم كما لو أنهم كانوا يؤكدون ذلك. وذلك أيضاً هو مغزى أعمال «لا بلاس» التي عرضنا لها في الفصل السابق. لقد دفع «نيوتن» الله إلى الخلف إلى بداية خلق النظام الشمسي، أما «لا بلاس» فقد دفع به إلى بداية السديم، وليس يهم تحديد الوقت الذي كان فيه ذلك. وهكذا نستطيع أن نتخيل أنه قد تم إبعاده أبعد وأبعد. ويمكن أن نرى الآن أيضاً إلى أي حد يكون جواب «لا بلاس» لا أهمية له عند المؤمن ـ وهو الجواب الذي أجاب فيه عن سؤال نابليون يقول: أن كل ما فعله هو أنه دفع بضرورة وجود الخالق خطوة إلى الوراء في الزمان، لأن ضرورة التسليم بوجود الله كعلة أولى للكون لا أهمية له، ولا شك أنها لا أهمية لها للكون، لكنها هامة من الناحية السيكولوجية، لأنها تزيد زيادة هائلة الشعور بابتعاد الله. فلو كان الله قد خلق الشمس، والقمر، والأرض والإنسان الذي يسكن الأرض.. ربما منذ ستة آلاف سنة مضت كما يقول سفر التكوين، فإن الفترة التي انقضت منذ أن فعل الله شيئاً ما هي بغير شك فترة طويلة جداً، لكنها لا تزال داخل الحقبة الإنسانية مما تسجله الوثائق البشرية، فذاكرة البشر يمكن أن تعود بمعنى ما إلى ذلك الزمان. والقول بأن الله شخصياً، وعلى نحو مباشر، خلق جدنا آدم يعني أنه كان مهتماً بالإنسان، وذلك يعطينا ومضة من الدفء حتى بالنسبة لعلاقاتنا الشخصية به. وربما نجد أن هذا الإله رغم أنه لا يعمل الآن، فإنه لا يزال ينظر إلينا، ويفكر فينا. لكن لو كان الجنس البشري ليس سوى نتاج لمجموعة من القوانين الطبيعية منذ بضعة ملايين من السنين خلت، عندئذ فحتى إذا كان الله قد خلق القوانين الطبيعية، فما الذي يكونه الإنسان بالنسبة إلى الله، أو الله بالنسبة للإنسان؟ولو أننا دفعنا بالله إلى الخلف، دهوراً فلكية، إلى بداية السديم الذي تطور إلى النظام الشمسي، فإن الثغرات الزمنية المرعبة التي انقضت منذ أن تجلى الله في العالم تصيب عقولنا بالفتور وقلوبنا بالتخدير. وهذه السلسلة من الأفكار ليست منطقية بالطبع. غير أن المنطق لا علاقة به بالتفكير البشري.
عناية الله بالعالم
لقد كانت الأهمية المتخيلة لسديم «لابلاس». وكان لاكتشافه القائل بأن الكواكب تصحح انحرافاتها بنفسها وهي لا تتراكم، تأثير مماثل بالطبع. لقد اعتقد «نيوتن» أن الله لا يزال، بعد ذلك كله، يعمل في العالم ويصحح انحرافات الكواكب. لكن «لابلاس» بيّن أنها تصحح نفسها بنفسها، وعلى ذلك فحتى التصحيح الضئيل الذي تركه «نيوتن» لفعل الله في العالم قد استُبعد وحلّت محله قوانين الطبيعة. ومن هنا كانت ملا حظة «لا بلاس» أنه ليس ثمة حاجة إلى أن يفترض وجود الله.
لقد تحدثنا عن الإحساس بابتعاد الله بوصفه الأثر السيكولوجي الأول لعلم الطبيعة عند «نيوتن» الذي مال إلى تحطيم قوة الدين في أذهان الناس. والأثر الثاني الذي سوف نتحدث عنه الآن ربما لا يكون سوى طريقة أخرى في التعبير عن الشيء نفسه، لقد تمّ في كل مكان إحلال القوانين الطبيعية للظواهر محل العلل التي تفوق الطبيعة التي آمن بها الناس من قبل. ومنذ القرن السابع عشر أصبحت قاعدة راسخة من قواعد العلم ألّا يُسمح بأية أساليب تفوق الطبيعة لتفسير ظواهر الكون. فحتى لو بدت الظواهر الطبيعية بغير تفسير، فلا ينبغي أن يُسمح أبداً بتفسيرها كحالة من حالات الفعل الإلهي، بل إن ذلك ليس اكتشافاً خاصاً لأي علم جزئي، مثل افتراض كوبرنيكس، ونظرية التطور لدارون. أو الاكتشاف الجيولوجي للعمر الهائل للأرض. بل كان ذلك الافتراض الأساسي للعلم ككل. ووجهة النظر العلمية العامة هذه عن العالم، وليس أي اكتشاف جزئي، هي التي كانت تعمل لتدمير الدين.
ولا شك أنه كان في عصور ما قبل العلم، إيمان بالنظام العام للطبيعة، وتكرار دورة الأحداث طبقاً لسيطرة القانون. فالشمس تشرق كل يوم بانتظام، وتعود الفصول كل عام بانتظام. لكن داخل هذه الدورات العامة، كان لا يزال هناك مكان فسيح، تُرك للتدخل الإلهي في التفصيلات الجزئية. ومن ثمَّ كان هناك إمكان للمعجزات وكانت تناسب تماماً الصورة العامة للكون التي كانت في سماتها العامة منظمة ومرتبة. والفكر الذي ظهر في العالم مع ميلاد العلم الجديد في القرن السابع عشر، والذي أصبح جزءاً من صورة العالم عن العقل الحديث هو أن كل ذرة صغيرة من الأحداث التي تقع في الكون، تحكمها تماماً قوانين صارمة لا تتغير من قوانين الطبيعة ـ فلو أن حبة من حبات الرمل، أو جزئياً صغيراً من هذه الحبة، تحرك واحد على ألف من المليمتر، فإن هذه الحركة هي نتيجة يمكن التنبؤ بها لأسباب طبيعية موجودة سلفاً. ولقد أصبح هذا الافتراض الأساسي للعلم، منذ القرن السابع عشر، جزءاً من عقل الإنسان الحديث غير الواعي، الذي يفسح أي مجال لتدخل الفعل الإلهي في العالم. ولم تتغير هذه الصورة على أي نحو بالاكتشاف الحديث القائل بأن الألكترونات (الكهارب) وغيرها من الجزئيات الأساسية للمادة تسودها «اللا حتمية» في حركاتها. فقد ظهرت في المقام الأول عادة ذهنية لا يمكن أن تهتز بسهولة بما فعله بعض علماء الطبيعة، فجأة، من تصريحات جديدة. وبغض النظر عن ذلك فلا جدال أنه سيكون من الخلل المحال أن تذهب إلى اللا حتمية التي هي خاصية الألكترون تعني العودة إلى الإيمان بقوى تفوق الطبيعية، أو أن القفزات غير المنتظمة التي لا يمكن حسابها التي تقوم بها الإلكترونات هي حالات من التدخل الإلهي. فإما أن تكون هناك أسباب طبيعية للحركات التي لم تُكتشف حتى الآن، أو أن علماء الطبيعة يعتقدون ـ فيما يبدو ـ أنه ليس ثمة أسباب على الإطلاق، ولو صحّ الافتراض الأخير كان معناه أن القوانين السببية لا تعمل في اضمحلال أجزاء الطبيعة. لكن الطبيعة تظل هي الطبيعة، ولا تصبح «ما فوق الطبيعة» لانعدام وجود السبب. وسوف يكون من التفكير « غير العلمي» أن نعزو حركات الالكترونات إلى الأفعال المباشرة لله، لأنها في الوقت الحالي لا تفسير لها. وذلك يشبه القول بأنه لما كان أصل الأشعة الكونية مجهولاً، فلا بد أن تكون مرسلة من عند الله.
فإذا سلّم إنسان ما بالقاعدة العلمية التي تقول أنّ لك حادثة في الطبيعة سبباً طبيعياً، فلا يزال من الممكن، بالطبع، أن نقول أنّ الله في البداية هو العلّة الأولى. لكن ذلك يؤدي إلى تصور إله ـ ما دام لا يعمل شيئاً في الطبيعة الآن ـ ليس له أهمية علمية في حياتنا.
لكن المرء يستطيع بقليل من البراعة المنطقية أن يتفادى هذه النتيجة. إذ يستطيع المرء أن يفترض أن الله يعمل طوال الوقت، لكنه لا يعمل إلا من خلال، وبواسطة، القوانين. إن قوة الجاذبية لا تعمل بذاتها، بل إنّ الله هو الذي يعمل، في كل لحظة، من خلال هذه القوة. وتلك هي الحال مع جميع قوانين الطبيعة الأخرى. وإذا لم يكن الله يعمل عملاً متواصلاً في الطبيعة، فسوف تتوقف الجاذبية وغيرها من قوى الطبيعة عن العمل، بل سوف تنهار الطبيعة نفسها. فالله لا يزال يخلق الطبيعة، ويعيد خلقها من جديد على نحو متواصل. والواقع أن هذا الفرض فَرَضَ نفسه على فئة قليلة من الفلاسفة، لكن يظل بغير أهمية عند جماهير البشر الذين استمروا يشعرون أن الله لم يعمل إلا في البداية فحسب.
لا ينبغي بالطبع أن تظن أن هذه الأفكار والمشكلات كانت واضحة في أذهان جماهير الناس، صحيح أن المثقفين قد أدركوها، وكان تأثيرها من خلال قنوات ملتوية، تسربت إلى الجماهير، فتصور العالم الذي تحكمه تماماً قوى الطبيعة شكلّ في أذهانهم خلفية غامضة مفترضة عن غير وعي، وشعوراً غريزياً، أكثر من أن يستنتجوا، أن هذا التصور يستبعد ما فوق الطبيعة.
ميكانيكا السماء
ومن المهم أن نلاحظ أن تأثير الصورة الجديدة عن العالم قد ازداد بالتدريج منذ عصر «نيوتن». ونحن نرى ذلك لو أننا نظرنا إلى «نيوتن» نفسه ثم «باركلي» بعد ذلك في القرن الثامن عشر، وهو الفيلسوف الذي توسط بين عصر «نيوتن» وعصره. ثم أخيراً في عصرنا الحالي. فبغض النظر عن واقعة أن «نيوتن» هو مؤسس النظر ة الحديثة عن العالم. فما كان في ذهنه كان ضعيفاً نسبياً، وهذا واضح من طريقة تعامله مع مشكلة انحرافات حركات الكواكب. وتصور العالم الذي تحكمه تماماً القوانين الطبيعية، لا يسمح بأية تدخلات عفوية للقوى الإلهية ـ ذلك كان الأساس لعلم «نيوتن» الجديد. غير أن ميكانيكا السماء عنده ما كانت لتعمل، لو لم يفترض أن الكواكب تتحرك بتأثير الجاذبية وحدها. لم تكن لتعمل لو لم تكن هناك تدخلات غير متوقعة من الله في اللحظة المناسبة. ورغم ذلك فقد كان على استعداد للتسليم بأي استثناء في مسألة انحرافات الكواكب.
ولقد أدخل «باركلي» في فلسفته، في القرن الثامن عشر، فكرة الأطراد التام في نظام الطبيعة، رغم أنه قَبِل الاعتقاد الشائع في المعجزات. ولم تلعب فكرة نيوتن عن الاستثناءات في نظام الطبيعة أي دور في مذهبه. ويمكن أن يقال إلى هذا الحدّ، أنه قد تمسّك بصورة العالم الجديدة أكثر من «نيوتن»، وعلى الرغم من ذلك فقد أدخل فكرة الله بطريقة مثيرة تتسم بها شخصيته، ليسد الثغرة التي كان لا بد أن تكون موجودة في فلسفته لو لم يفعل ذلك. لقد كان باركلي صاحب نظرية مثالية شهيرة لا يمكن للأشياء المادية أن توجد، وفقاً لهذه النظرية، إلا عندما يدرك وجودها عقل ما، فوجودها يعتمد على كونها مدركة، وليس الشيء المادي سوى مجموعة من الخصائص أو الكيفيات كاللون، والصلابة، والليونة، والحرارة، والبرودة، والخشونة، والنعومة، والرائحة، والمذاق، والصوت.. إلخ. فلا شيء آخر في الموضوع المادي يجاوز هذه الخصائص أو الكيفيات. ولو أنك قلت أنّ هناك شيئاً آخر فعليك أن تذكره، وحاول أن تجرب. خذ أي شيء مادي تشاء وليكن هذه القطعة من الورق، تجد أنها بيضاء، ناعمة، لينة، باردة، مستطيلة الشكل... إلخ وتلك هي خصائصها أو كيفياتها، فهل يمكن لك أن تعثر فيها على شيء آخر؟في استطاعتك أن تقطعها قطعاً صغيرة أو إلى ذرات، إذا شئت، وتقول أنها تتألف من ذرات. غير أن الذرات نفسها لن تكون شيئاً مجموعة من الخصائص أو الكيفيات، الصلابة، والثقل، والاستدارة.. الخ. غير أن هذه الكيفيات التي تتألف منها جميعاً الأشياء المادية لن تكون شيئاً آخر، عندما تريد فحصها، سوى مجموعة من الاحساسات، فصلابة الشيء تُدرك لو ضغطنا عليه بالأصبع، أو بأي جزء آخر من الجسم. أيمكن أن تكون هذه الصلابة شيئاً آخر غير إحساس الأصبع أو أي جزء من الجسم؟!. وهذا الإحساس إذا قلنا بمعنى ما أنه في موضع من أصبعنا، فهو بمعنى آخر في ذهنا، أو في وعينا. ذلك لأن الإحساس لم يكن ليوجد لو لم نكن على وعي به. والرجل الذي يفقد معه الإحساسات. ونفس الشيء يصدق على الحرارة والبرودة، فما هي الحرارة إن لم تكن الإحساس الذي تشعر به عندما نقترب من النار؟وقل نفس الشيء في اللون فهو إحساس بصري تدركه العين بغير شكل. لكنه لا يمكن إلا في ذهن ما يكون على وعي به. وهكذا فإن جميع الكيفيات هي إحساسات لا يمكن لها أن توجد إلا في ذهن ما، عندما يُدركها هذا الذهن. ومن ثم فالشيء المادي، طالما أنه لا يتألف إلا من هذه الكيفيات، وما دامت هذه الكيفيات هي إحساسات في الذهن، فهو لا يمكن أن يوجد إلا إذا أدركه ذهن ما، والعالم كله لا يعتمد إلا على الأذهان، وما لدى هذه الأذهان من إحساسات.
لكن يبدو أننا نلتقي هنا بمشكلة واضحة: فلو أن قطعة الورق لا توجد إلا عندما تكون مدركة، فماذا يحدث عندما لا يدركها أحد؟إنني وأنا أكتب هذه الصفحات لم يكن في الغرفة سواي، وأنا في هذه اللحظة أدرك الورقة. وهي بالتالي توجد كمجموعة من الإحساسات في ذهني، لكن ماذا يحدث لها عندما أدير ظهري ولا أعود أنظر إليها؟أو ماذا يحدث لها عندما أخرج من الغرفة وأترك الورقة فيها؟ هل لا بد، بناء على نظرية باركلي، أن تكف عن الوجود، لأنني لم أعد أدركها...؟إنني، بالطبع، عندما أستدير عائداً إلى الغرفة مرة أخرى أراها من جديد. هل ينبغي عليّ أن أفترض أنه بعد توقفها عن الوجود عندما أكف عن إدراكها، فهي تعود إلى الوجود عندما أدركها من جديد؟ألا ينتج ذلك كله من نظرية «باركلي» التي تقول فيها أن وجود الأشياء البادية يعتمد على كونها مدركة، ومن ثم فهي لا توجد إلا عندما تكون مدركة؟ثم أليس من الواضح أن هذه النتائج خلل محال؟!
غير أن باركلي كان جاهزاً، فهو لم يقل أبداً أن وجود الشيء يعتمد على إدراكنا، بل قال إن وجوده يعتمد على كونه مدركاً من ذهن ما وبالتالي فعندما أنظر إلى الورقة فإنها توجد كمجموعة من الإحساسات في ذهني. وعندما تنظر أنت إليها، فإنها تظل موجودة، حتى لو أدرت أنا ظهري، لأنها موجودة كإحساسات في ذهنك. لكن ماذا يحدث لها عندما لا يكون ذهن بشري يدركها؟ يتساءل باركلي: ألا يمكن أن يكون هناك موجود في الكون أو عقل أو ذهن لا ينام أبداً، ولا يدير ظهره للأشياء، موجود يكون عليماً بكل شيء، ويكون على وعي دائم بكل شيء أي يكون هو ذهن الله؟إن الأشياء المادية عندئذٍ لن تكف عن الوجود عندما تتوقف الموجودات البشرية عن إدراكها، لأنها ستواصل الوجود كأفكار أو إحساسات في ذهن الله. وهكذا نجد أن باركلي، على الرغم من أنه لم يدخل الله في خارطة العالم لتفسير أي حركات منحرفة للكواكب، بل أدخله لتفسير استمرار وجود الأشياء المادية عندما لا يدركها البشر. وليس ثمة مبرر لافتراض أن قُراءه في القرن الثامن عشر ـ سواء ممن كانوا يقبلون فلسفته المثالية أم لا ـ رأوا أن هناك شيئاً خطأ في الطريقة التي أدخل بها الله في مذهبه. وهكذا فإن استبعاد تصور قُوى فوق الطبيعة من عالم يُحكم تماماً بواسطة القوانين الطبيعة لم تسيطر تماماً على عقلية هذا العصر. فنحن نرى في باركلي محطة في منتصف الطريق بيننا وبين نيوتن.
ولو أننا نظرنا، أخيراً، إلى عصرنا الراهن نلاحظ أمرين:
الأول: أن طريقة «نيوتن» في تفسير انحرافات الكواكب روعت تماماً حتى أعظم العلماء تديناً في عصرنا الراهن. والمعتقد العلمي الذي يقول: أن أية ظاهرة مهما تبدو غامضة، لا ينبغي تفسيرها عن طريق أسباب فوق الطبيعة. قد تجمدت في فكرة «المطلق» منذ عصر نيوتن. فلا ينبغي أن يكون هناك استثناء للقانون العلمي في أي مكان. وأصبح من الإجراءات المقررة في العلم أن أية ظاهرة نعجز الآن عن تفسيرها بالقوانين الطبيعية، فلا بد أن هذه القوانين تظل مع ذلك موجودة وينبغي البحث عنها. وحتى إذا وجدنا ظاهرة يُعتقد أنها بغير سبب معين، مثل حركات الالكترون اللا حتمية. فلا تقول عندئذ إن الله كان سببها، وإنما نقول بالأحرى أن قانون السببية لا ينطبق على عالم ما تحت الذرة.
الثاني: إن استبعاد الله كمبدأ فلسفي من التفسير قد تجمد بدوره منذ عصر باركلي فلا ينبغي للفيلسوف أن يدخل في فلسفته فكرة « الإله الذي يخرج من الإله Deux Ex Machina [3]. فإذا كانت هناك ثغرة في مذهب فلسفي، فلا ينبغي أن يملأها بالإقحام «التعسفي» لفكرة الله ـ ولم لا..؟ المبرر الوحيد الذي يمكن تقديمه، هو أن نفرض، مسايرين نموذج العلم، أن الكون كله لا بد من تفسيره عن طريق الأسباب الطبيعية وحدها، وأنه من غير المشروع إقحام أي تصور يفوق الطبيعة.
ويمكن أن نقدم جانباً مثيراً من الدليل على أن هذه الفكرة لم تقتصر على الفلاسفة المحترفين أو غيرهم من المثقفين، بل تجاوزت لتسيطر على عقول الأشخاص غير المتعلمين. وأي إنسان كانت لديه الخبرة في تقديم فلسفة باركلي لجمع غفير من الفرنسيين أو إلى الطلاب في مرحلة الدراسة الجامعية الذين يتلقون أول مقرر لهم في الفلسفة، يعلم أنه عندما يقال لهم كيف أن باركلي أجاب عن الاعتراض الذي وجهه إلى فلسفته والذي يقول أن قطعة الورق، بناء على نظريته، لا بد أن نكفَّ عن الوجود عندما نتوقف عن إدراكها ـ هو الثورة الغريزيّة فهم ينظرون إلى واقعة أنه لم يستطع تفسير ذلك بدون إقحام فكرة الله ليستمر الكون في الوجود ـ على أنها نقطة ضعف واضحة في مذهبه. ويقولون أن فلسفته بهذه الطريقة لا بد أن تطرح أرضاً ما لم «يسندها» شيء ما.
لكن ما الخطأ في وجود الله كفرض؟ تعتمد الإجراءات العلمية، ببساطة، على فرض الفروض، (التي كثيراً ما لا يوجد دليل مباشر على صحتها) لكي «تسند» نظام الفكر الذي يطوره العلم. فلو أن علماء الطبيعة وجدوا أن الالكترونات والبرتونات غير كافية لتفسير الظواهر التي نشاهدها، فإنهم يسدون الثغرة بافتراضات جديدة مثل البريتون والنيترون.. إلخ. فإذا أمكن أن نقول أن «باركلي» بحث عن «وجود الله» وأقحمه لكي يشكل مذهبه، لكان من الممكن عندئذٍ أن نقول أيضاً عن علماء القرن التاسع عشر أنهم «بحثوا عن الأثير في الفضاء»، وأن العلماء في يومنا الراهن «بحثوا عن النيترون والميسون» للسبب نفسه لكي تعمل أنظمتهم ولا يمكن أن يقال أنّ هناك فرقاً أو اختلافاً لأن لدى العلماء دليلاً مستقلاً على وجود الكيانات التي يفترضونها. لأن الأمر، ببساطة، ليس كذلك، لأنه مثلاً، لا يوجد دليل على وجود الموجات من أي نوع في الفضاء ما عدا أن افتراض وجودها يساعد في تفسير الوقائع التي نشاهدها عن الضوء، والحرارة.. إلخ. لكن لا أحد شاهد الموجات ذاتها، لكن الناس لاحظوا فحسب آثار الموجات المفترض أنها الأسباب. فما هو الفرق إذن بين الموجات كافتراض وبين وجود الله كافتراض..؟. لا يوجد أي فرق من وجهة النظر المنطقية. ولو أن أحد الفرضين قُبل من الناحية المنطقية فلا بد أن يقبل الآخر. فلماذا إذن يعترض الطلاب ـ ولماذا يعترض العقل الحديث عموماً ـ على الأجراء الذي قام به «باركلي»، فلماذا نلطخ سمعة باركلي بعابرة مثل «يبحث عن» أو يجر إلى و«يسند» والإله الذي يخرج من الآلة؟لأنه على الرغم من أن فكرته لا تتعارض مع مبدأ من مبادئ المنطق، فإنها تتعارض مع القاعدة العلمية التي تقول أنه لا بد من تفسير جميع الوقائع عن طريق الأسباب الطبيعية، كما أن وجود الله لم يدخل كتفسير لأي شيء والطلاب المبتدئين، بالطبع، لم يناقشوا الموضوع، ولو سألتهم لماذا تثورون ضد افتراض باركلي تجد أنهم لا يعرفون السبب لكنهم ببساطة يشعرون أنه من الممكن الاعتراض عليه، ويدل ذلك على صور العالم كما يراها العلم نفذت وتغلغلت في أذهانهم، وأصبحت الحليفة اللاواعية، فهي لم تعد نظرية مجردة محض عند المثقفين، بل غاصت إلى أعماق الشخصية البشرية.
لقد درسنا حتى الآن الآثار المترتبة على الثورة العلمية على فكرة وجود الله. وهي أول فكرة من أفكار ثلاث رأينا أنها أجزاء جوهرية لوجهة النظر عن العالم فيما قبل ظهور العلم. والفكرة الثانية التي ستعرض لها الآن هي الطابع الغائي للعالم.
فما هو أثر ظهور العلم على القول بأن في العالم خطة أو غرضاً؟من المُسلَّم به أن التقليل من الإيمان بالله، يصاحبه التقليل من الإيمان بغرضية العالم. لأن الفكرتين، بالطبع، ترتبطان ارتباطاً وثيقاً. فالوجود الإلهي والغرض الإلهي، فيما يبدو، يتضمن كل منهما الآخر. ومع ذلك فهما فكرتان متمايزتان ومن الأفضل أن يظلا متمايزتين. ومن الممكن تماماً ـ كما سبق أن رأينا ـ الإيمان، ولو بطريقة غامضة، بوجود غرض في الطبيعة دون أن يكون لهذا الإيمان أي مضموم تأليهي.
ولقد رأينا أن الإيمان بغرضية العالم، كان جزءاً من التراث العقلي للعالم الغربي لألفين من السنين، منذ عصر سقراط حتى القرن السابع عشر، فما الذي حدث له نتيجة لميلاد الروح العلمية؟
المقارنة بين النظام الشمسي عند نيوتن وبين الساعة هي مقارنة واضحة، فالمهم في الساعة أنها عندما تملأ تعمل بنفسها، لأنها مزودة بقوتها الخاصة الموجودة في النابض (الزنبرك)، والنابض الذي يدير حركة النظام الشمسي هو قوة الجاذبية. والكواكب تشبه العجلة أيضاً، والنظام الشمسي لا يشبه الساعة فحسب، بل هما شيء واحد، فهو يحافظ تماماً على الزمن.
وهكذا تظهر فكرة «نيوتن» القائلة بأن « العالم آلة». ولقد انتشرت هذه الفكرة في أوروبا انتشار النار في الهشيم، لا فقط أن العالم ككل آلة، بل إن كل شيء فيه هو أيضاً آلي. فقارن «هوبز» بين الجسم البشري وبين الآلة؟، وكتب يقول: «ماذا يكون القلب سوى نابض (زنبرك) والأعصاب سوى مجموعة من الأوتار، والمفاصل سوى مجموعة من العجلات التي تعطي الحركة للجسم كله؟. لقد عاش «هوبز» قبل أن يكتشف «نيوتن» قانون الجاذبية، لكن وجهة النظر الآلية عن العالم كانت جاهزة، بالفعل، في الجو الثقافي. ولم يكن على الساعة الشمسية عند نيوتن سوى تثبيتها. ولقد كتب هيوم في القرن الثامن عشر يقول: «انظر إلى العالم من حولك، وسوف تكتشف أنه ليس شيئاً سوى أنه آلة عظيمة تنقسم إلى عدد لا نهاية له من الآلات الفرعية الصغيرة».
والآن لو أن كل شيء في العالم آلة، عندئذٍ يكون ما يحدث فيه يمكن تفسيره بطريقة آلية، ومن ثم يُستبعدُ التفسير الغائي أو يصبح، على الأقل، غير ضروري. ولقد سبق أن بينت أن التفسير الآلي لا يستبعد، في الواقع، الغائية. فتسلق الرجل للجبل تسببه التيارات العصبية والتقلصات العضلية، لا يجعل القول بأنه يتسلق الجبل بغرض رؤية المنظر من القمة ـ غير صحيح. والقول بأن حركات الساعة يمكن كلها أن تفسر عن طريق النابض (الزنبرك) ـ لا يغير من واقعة أن الساعة موجودة بغرض أن تنبئنا بالوقت. وبنفس الطريقة يمكن أن يكون العالم آلة، لكن لا ينتج من ذلك أنه بلا غرض.
ومعنى ذلك أن القفز من التصور الآلي للطبيعة الذي قدَّمه العلم، إلى وجهة نظر عن العالم تقول أنه بلا غرض ليس انتقالاً منطقياً. لكنه يعني كذلك أنه أياً ما كان العلم الآتي فإنه لا ينتج عنه إنكار غرضية العالم، فليس ثمة علاقة منطقية بين العلم ومشكلة الغائية. ومع ذلك فقد قام العقل الحديث بقفزة غير منطقية، إحدى سماتها الاعتقاد القاطع بانعدام الغرضية في الأشياء. وسوف أقدم دليلاً على ذلك بعد لحظات. لكن دعنا أولاً نتدبر كيف أن نشأة العلم، بعملية إيحاء سيكولوجي وليس عن طريق المنطق، يمكن أن تؤدي إلى هذه النتيجة.
التفسير العلمي والتفسير الآلي هما شيء واحد، فالواقعة تفسر، علمياً، إذا ما قدمنا أسبابها. ويمكن أن نقول الشيء نفسه إذا قلنا إنها تفسر إذا بينا أنها حالة جزئية خاصة لمبدأ أو قانون عام. وهكذا يكون العالم آلياً كله، ولم يتغير شيء من ذلك نتيجة للتقدم العلمي الحديث. لأن أي تفسير آلي أعني أنه يتم من منظور الأسباب والقوانين، وليس من منظور الغرضية. فعلم الطبيعة الحديث لا يُفسر الأحداث عن طريق الأغراض. وعندئذٍ في استطاعتنا أن نرى في الحال إحدى سمات الفكر التي أدت إلى ذبول فكرة الغائية عند العقل الحديث. فأي تفسير، لكي يكون علمياً، لا بد أن يكون آلياً، لأن علم القرن السابع عشر، كما رأينا، استبعد الغائية وقرر ألا يُدخل في نطاق العلم إلا السببية وحدها. ومن ثم أصبح التفسير الغائي تفسيراً «غير علمي». ومن الواضح عبثية هذا الخط من التفكير وخُلفُه. فلماذا ينبغي علينا أن نفترض أن العلم يملك مفتاح كل شيء؟ ألا يعني ذلك أن العلم هو «الوثن» الذي يعبده العالم الحديث بطريقة عمياء تنطوي على حشد من الثغرات «غير العلمية»؟. وربما قال المرء أن هذا هو السبب العام للسمعة السيئة التي أحاطت بالغائية. لكن هناك أسباباً جزئية لا بد أن نلفت إليها الانتباه.
الأهمية العظمى التي أضفاها العلم في القرن السابع عشر على مفهوم الآلية، دفعت ببساطة، مفهوم الغائية خارج عقول الناس، مما أدى إلى طمسها أو نسيانها. والنجاح الهائل الذي حققه علم «نيوتن» أصاب الرجل الغربي بالدوار. لقد كان الناس طوال العصر الوسيط يتحدثون عن الأغراض فقدموا تفسيرات غائية لكسوف الشمس وخسوف القمر، وللزلازل والبراكين، وقوس قزح، ولم يأخذوا بالتفسير العلمي في أي مكان. فالعلم في العصر الوسيط كان راكداً، أو لم يكن له وجود من الناحية العلمية. ولم تكن هناك لمدة ألف سنة أي مكتشفات علمية، ذات أهمية لماذا؟لأن الناس بحثوا عن أغراض الله في الأشياء بدلاً من أن يبحثوا عن أسبابها. ثم جاء علم جديد بتفسيراته الآلية، فأصبح كل شيء واضحاً ومضيئاً. وقفزت المعرفة إلى الأمام خطوات، وأصبح النجاح المطبق الذي حققه التفسير الآلي منذ عصر «نيوتن» حتى عصرنا الراهن مذهلاً ومثيراً. لماذا؟لأن العلماء كفوا عن التفكير في الأغراض وركزوا جهودهم في البحث عن الأسباب. ألا يرجع التقدم الحديث كله إلى هذه الواقعة وحدها؟هل يكون أي عجب، عندئذٍ، في أن يهجر العالم الغائية.
هناك نقطة أخرى تستحق التنويه. فنحن نجد أن التفسير الآلي لظاهرة ما هو تفسير تام أو كامل. إنه لا يبدو كما لو كانت الآلية تنتشر جزئياً في العالم، لكن هناك ثغرات لا بد أن تملأ بالغائية ـ تلك صورة مرفوضة، لأنه لا توجد ثغرات. فحركات الكواكب، مثلاً تفسر تفسيراً تاماً بالجاذبية وقوانين الحركة. والتنبؤ بأي كسوف للشمس، لا يحتاج فيه المرء لمعرفة أغراض الكسوف في خطة الطبيعة ـ لو كانت مثل هذه الخطة. والواقع أنه لا فائدة من معرفة الغرض، فالتنبؤ بظاهرة ما لا يحتاج فيه المرء إلا لمعرفة أسبابها فحسب ولا شيء غيرها. لكن لو أن التفسيرات الآلية بهذه الطريقة تفسيرات تامة وكاملة، فما هي الضرورة أو الفائدة من البحث عن نوع آخر من التفسيرات؟وهكذا كان من الطبيعي أن تنزاح التفسيرات الغائية، إنْ وجدت إلى الخلف وتنسى. ولو أن ذلك كان يصدق على الأحداث الجزئية مثل كسوف أو خسوف القمر، التي يتألف منها العالم، ألا يصدق على العالم ككل؟وتوقفت فكرة غرضية العمل عن العلم في عصر تسيطر عليه الروح العلمية.
تلك هي إذن فيما يبدو الانتقالات السيكولوجية الأساسية التي أدت بالعقل الحديث إلى نسيان فكرة غرضية العالم. وهكذا بدأت صورة العالم القديمة المتخيَّلة لعالم تحكمه الأغراض الإلهية تتوارى ليحل محلها بالتدريج صورة متخيلة لعالم بلا أغراض.
لكن هل حدث ذلك حقاً..؟وهل ينكر العقل الحديث أي خطة أو غرض في الأشياء؟ومَنْ الذي ينكر ذلك؟
هناك بالطبع كثير من المثقفين الذين أنكروها أو حتى إذا ما ضُغط عليهم أخذوا على الأقل بالموقف اللا أدري بخصوصها. فبرتراندرسل، مثلاً، بعد أن قدم روايته للعلم كتب في فقرة شهيرة يقول: «هي ايجاز العالم الذي يقدمه العلم لكي نؤمن به، وهو عالم يخلو من الأغراض، عالم لا معنى له». [4] غير أن السؤال العام هو: إلى أي حد تسرب هذا التصور لعالم بلا أغراض من المثقفين إلى جماهير الناس البسطاء.؟يصعب أن نجد دليلاً إيجابياً على ذلك نظراً لطبيعة الموضوع هناك فئة قليلة من الناس، بالطبع، قالت بعبارات واضحة مثل: « العالم لا غرض له» كما أنهم لم يقولوا عبارة مثل «ليس يوجد إله» ولم يجر أي استفتاء على ما أعلم، يسأل الناس «أهي تؤمن بأن للعالم غرضاً». ولو أجرى مثل هذا الاستفتاء، لكانت النتيجة غريبة لو أن 95 % على الأقل لم يجيبوا بنعم. فلا شك أن أفكاراً غامضة عن غرضية الأشياء انسابت في ذهن كل فرد، تقريباً على مر العصور. فلن تجد سوى قلة من الأفراد لم يجلسوا، يوماً، تحت ضوء النجوم في الليل وتساءلوا: ما هو الغرض من كل هذه المحاور التي تدور. ومن هنا فإن فكرة غرضية العالم لم تُقتلع تماماً من الذهن البشري. لكن ما مدى تأثيرها...؟
أعتقد أن تيار الأدب والفن الذي يمكن أن يعكس بصفة عامة وجهة نظر العصر قد حملّت بالإحساس بعبث الأشياء وانعدام معناها. وإذا كان العالم ككل بلا معنى ولا غرض، فسوف تكون كذلك أيضاً الحياة البشرية. ويبدو أن القول بأن الحياة البشرية بلا معنى هو الرسالة الرئيسية التي قام بها معظم الأدب الحديث. وهنا نجد تعارضاً بين الحاضر والماضي. فقد كانت الحياة البشرية عند أصحاب المسرحيات العظيمة تبدو دائماً في كل العصور مأساة. لكن هناك نمطاً ـ حتى لو كان نمط المصير ـ يمكن تتبعه فيها. ثم تُرك للمنطقّ الحديث أن يكتشف ما في الحياة من لا معنى بالمعنى الحرفي: ألا يروي الطابع الغريب للموسيقى الحديثة نفس القصة؟هل بعيد الاحتمال للغاية أن نقول أن الموسيقى القديمة التي كانت أكثر انسجاماً وتناغماً تعكس فكرة عالم منسجم ومتناغم بإطاعته لخطة إلهية، في حين أن تيار الموسيقى الحالي بأنغامها المتنافرة المتضاربة توحي بأن الأشياء جميعاً والحياة كلها بغير معنى.؟.
بالطبع هناك تفسيرات أخرى يمكن أن تقدَّم لتفسير هذه الوقائع، فحربان عالميتان تسببتا في انتشار اليأس وكشفتا الظلال، ولهذا السبب وحده بدا نظام الأشياء بغير معنى أمام كثير من الناس. ولا يمكن أن نشك في صحة هذا التشخيص، ومع ذلك فلا أستطيع أن أعتقد أنه لا يوجد سبب أعمق إلى جانبه. ولقد وجدته في الصورة العلمية الآلية للعالم. فلا شك أن فكرة انعدام الغرضية في العالم أثرت في الفلاسفة قبل الحرب العالمية الأولى وأرجو أن تطالع ملاحظة برتراندرسل التي اقتبسناها فيما سبق، وقد طبع كتابه لأول مرة عام 1903.
لقد اتَّسم العالم الحديث بالكثير من الظلام، والحيرة، وفقدان القداسة، وربما أيضاً بزيادة هائلة في عدد المرضى العصبيين، والانهيارات العصبية في عصرنا وفي استطاعتنا أن نتعقب ذلك عائدين إلى فقدان الإيمان بوجود أية غاية أو خطة لمسار العالم الذي كان إحدى النتائج الكبرى لعمل مجموعة من الرجال الأتقياء الورعين من مؤسسي العلم الحديث. وقد يحتج رجال العلم من أصحاب الحساسية قائلين: ليس العلم بل سوء الفهم للعلم هو الذي كان مصدر تكوين وجهة النظر الحديثة. وهذا صحيح تماماً. لقد كافحنا وجاهدنا لنؤكد أن النتائج التي استخلصها الناس من العلم لا تنتج عنه بالضرورة بأي منطق سليم. أما القول بأن أولئك الذين استخلصوا هذه النتائج كانوا هم أنفسهم علماء فهو قول لا أهمية له. فمن السذاجة أن نتساءل: كانت غلطة من؟فنحن لسنا معنيين لا بإلقاء اللوم على العلم، ولا إعفائه من اللوم. ولكننا نهتم فحسب بمحاولة وصف ما حدث.
[1]*ـ فيلسوف أخلاق أميركي.
ـ النصّ مستل من كتاب « الدين والعقل الحديث» لـ والتر ستيس.
ترجمة وتعليق وتقديم أ.د. إمام عبد الفتاح إمام ـ دار التنوير ـ بيروت ـ ط3 ـ 2009
[2]ـ الطبيعيون المؤلهة هم المفكرون والفلاسفة الذين آمنوا بالله، وأنكروا الرسل وذهبوا إلى أن «دور العقل الطبيعي» قادر على الوصول إلى الله بدون الأديان ومنهم لوك وفولتير ورسو وغيرهم.
[3]ـ فكرة سادت في المسرح اليوناني القديم عندما يتأزم الموقف عندئذٍ يهبط تمثال صغير بحبل على المسرح لحل الموقف، وأصبحت تطلق على أي مبدأ «لا مادي» يُقحم لحل مشكلة مستعصية حلاً غير معقول ولا منطقي (المترجم).
[4]ـ (عبادة رجل حر)، في كتابه (التصوف والمنطق) لونجمان نيويورك (المؤلف).