البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الأخلاق الكانطية منقودة من الشرق (مثالية توفيق الطويل المعدلة أنموذجا)

الباحث :  غيضان السيد علي
اسم المجلة :  الإستغراب
العدد :  4
السنة :  السنة الثانية - صيف 2016 م / 1437 هـ
تاريخ إضافة البحث :  July / 12 / 2016
عدد زيارات البحث :  2818
تحميل  ( 263.709 KB )
الأخلاق الكانطيّة منقودة من الشرق
مِثَاليّة توفيق الطويل المُعَدَّلة أنموذجاً
غيضان السيد علي[1][*]
هيمنت فلسفة كانط الأخلاقية على الفكر الأخلاقي الغربي والعالمي بصورة لافتة جداً للنظر وملأت الفضاء الفلسفي منذ كانط وحتى يومنا الراهن..حتى لقد قيل أنك في الفلسفة (اليوم) إما أن تكون مع كانط أو ضده، ولا يمكن أن تكون شيئاً ثالثاً. فقد مكَّنت تلك الفلسفة لكرامة الإنسان وحريته وكفلت له استقلال شخصيته واحترام إرادته، وفي ظل هذه النزعة اتجه التشريع عند الكثيرين إلى إشاعة المساواة في الحقوق والواجبات بين الأفراد أو الأمم بعضها والبعض الآخر، وهي إذ جعلت الأخلاق غاية في ذاتها فقد رفضت بهذا جميع المذاهب التي أقامت غاية الأخلاقية خارجها.
هذا البحث يعرض إلى نقد الغلو الكانطي من منظور المثالية المُعَدَّلة عند المفكر العربي توفيق الطويل، وهي الرؤية التي بيَّنت المآخذ التي يجب تصحيحها أو تعديلها في المثالية الكانطية المتزمتة.
المحرر
شكّلت نظرية كانط الأخلاقية المثالية، التي كانت امتداداً لنظريته الأنطولوجية والأبستمولوجية؛ حيثإنّه قد حاول في كتابه “نقد العقل الخالص” أن يظهر قوانين العلم ب أنّها قوانين مفروضة من جانب العقل على موضوعات الإدراك الحسي، ويمكن معرفة هذه القوانين بصورة يقينية خلال التأمل في بنية المعرفة الأولية، وقد طبق كانط هذا التحليل نفسه في كتابه "نقد العقل العملي" في مجال الأخلاق، واضعاً بذلك نوعاً من الأخلاق على القوانين الأولية التي ينتظم بها الفعل عن طريق العقل العملي[2].
وقد تعرضت هذه النظرية الأخلاقية لحملة انتقادات دارت معظمها حول نظريته عن الواجب، وهي نظرية رآها النقاد صورية متطرفة موغلة في التزمت والتشدد، مستبعدة الميول والوجدان، مهملة للتجربة الإنسانية كما يحياها الناس في واقعهم، فكيف يمكن لنظرية أخلاقية أن تستبعد ميول الإنسان وعواطفه مع أن التجربة تعلمنا أن السلوك الذي ينبع من الوجدان كثيراً ما يكون أنبل من سلوك يصدر عن العقل، وكيف لمذهب أخلاقي ألا يبيح أية استثناءات من القاعدة الأخلاقية، مع أننا نعرف بالواقع والتجربة أن ليس ثمة قاعدة أخلاقية بلغت من القداسة حداً يمنع من أن نستثنى فيها بعض الحالات، بل إنّ الكثير من الأفعال الإنسانية في حياتنا العادية تعتبر صواباً أو خيراً لمجرد أنّها استثناءات من القاعدة[3]. ومن ثم وقعت في مرمى النقد والتعديل عند الدكتور توفيق الطويل.
مثالية توفيق الطويل المعدلة كنقد وتعديل للأخلاق الكانطية
تعد الأخلاق المثالية الكانطية الأم الشرعية للمثالية المعدلة، وإن ارتبطت الأخيرة بوشائج قربى مع المؤثرات الأرسطية والإسلامية أو غيرها من المؤثرات التي ستجيء لاحقاً، إلاّ أن الأثر الكانطي لهو في الحقيقة أخص المؤثرات وأقواها وأكثرها حضوراً؛ حيث جاءت المثالية المعدلة في الأساس لتتفادى أوجه النقص والقصور التي وقعت فيها أمها المتزمتة، فيقول الطويل: “إنا مع تقديرنا البالغ لمذاهب التجريبيين والوضعيين وأمثالهم[4] ندين بالولاء لنوع جديد من المثالية الأخلاقية المعدلة التي برئت من التزمت المقيت، وتحررت من قيود النزعة الصورية التي شابت المثالية الكانطية المتطرفة”[5] ويصف الطويل مثالية كانط بعدة صفات؛ كأن يصفها بـ “المثالية بمعناها الضيق فيقول: “والمثالية في معناها الضيق، الاتجاه الذي يجعل الأخلاقية غاية في ذاتها فيرفض القول ب أنّها تهدف إلى إسعاد الفرد ـ كما ذهب قدماء اليونان ومن أخذ برأيهم ـ أو منفعة المجموع كما قال أتباع المذهب النفعي، أو تحقيق الكمال، كما قال دعاة التطور وغيرهم من مفكري الأخلاق، أو غير هذا من غايات تقوم خارج الأخلاقية، فالأخلاقية تهدف إلى غاية موضعية يتوخاها الإنسان بما هو إنسان، ومن ثم كانت قيمتها مطلقة، ليست نسبية وإلا استحال قيام مبدأ أسمي للأخلاقية، وبهذا تصبح غاية قصوى للواجب بالذات”[6].
ثم يقرر الطويل بأنّ المثالية قد بلغت ذروتها بمعناها الضيق في فلسفة كانط؛ حيث أوجب على الإنسان أن يؤدي الواجب لذاته بباعث من تقديره العقلي لمبدأ الواجب، ومن غير اعتبار لما يترتب على تأديته من نتائج وآثار، ومن غير أن تتدخل عواطفه أو ميوله[7] أي أن الأخلاق عنده كما عند غيره من المثاليين علماً معيارياً وليس وضعياً، فعالم الأخلاق يدرس ما ينبغي أن يكون عليه سلوك الإنسان، ولا يقف عند وصف هذا السلوك وتقريره كما يفعل عالم النفس وعالم الاجتماع كل منهما في نطاق دراساته ومناهجها.
حيث أنكر كانط ربط الأخلاقية بنتائج الأفعال، من لذات وآلام ومنافع ومضار وجعل قيمة الأفعال قائمة في باطنها وليس في الغايات التي تقوم خارجها، ومن أجل هذا كان مذهبه نظرية في الواجب لا نظرية في الخير (الذي يصيب صاحبه أو غيره من الناس) وقد توصل إلى فكرته بالقول بأنّ الخيرية صفة الإرادة وحدها فلا شيء غير الإرادة يمكن أن يكون خيراً بالذات والإرادة الخيرة لا تحركها رغبات أو غايات، ولا عواطف ولا شهوات،لأن الأفعال التي تصدر عن هذه البواعث تكون قيمتها مشروطة مرهونة بتحقيق هذه الغايات وإشباع تلك الشهوات، وإذا اختفت الميول انعدمت قيمة الأفعال، ومن ثم أراد كانط أن يحرر السلوك الأخلاقي من قيود هذه الميول والأهواء حتى تكون قيمته باطنية مطلقة، وبهذا تستبعد اللذة والمنفعة والسعادة غاية قصوى لأفعال الإنسان الإرادية، فالباعث على فعل الواجب لا يقوم قط على الرغبة في تحقيق غاية، إنّ الباعث يقوم في الإرادة نفسها ويجب أن يكون صورياً لا يستفتي الواقع ولا يستمد من التجربة، ومن ثم كان عاماً مطلقاً وتيسر للإنسان أن يجعل قاعدة تصرفه قانوناً في كل زمان ومكان[8].
وقد هيمنت فلسفة كانط الأخلاقية على الفكر الأخلاقي بصورة لافتة جداً للنظر، فانعكس تأثيرها قوياً في الفضاء الفلسفي منذ كانط وحتى يومنا الراهن. إلاّ إنها عانت من وجود الكثير من جوانب التطرف والقصور؛ بحيث إنها لم تكن لتمكِّن الإنسان العادي من تدبير شؤون حياته اليومية وغيرها من جوانب القصور، وهو الأمر الذي حاول أن يرصده توفيق الطويل، الذي رأى أنَّ مظاهر الغلو والتطرف والضعف والنقص بادية في نظرية كانط الأخلاقية، وتجلي هذا الضعف والقصور فيما يلي:
1 - النزعة الصورية Formalism
إن المبدأ الصوري في المنطق هو مبدأ التناسق أو توافق التفكير مع نفسه، وهو يساعد الإنسان على عدم الوقوع في الخطأ صورياً، بمعنى أن تكون نتائج التفكير فيه على اتساق مع مقدماتها دون اهتمام بمدى مطابقة النتائج للواقع. ومبدأ كانط الذي يتمثل في الأمر المطلق لا يساعدنا على استخلاص واجباتنا في الحياة العملية، حقيقة أن الوعد الكاذب إذا عُمم قانوناً أنعدم الوعد وافتقد مدلوله وبذلك يتناقض مع نفسه، ولكن أي تناقض هناك في أن تريد أن يكف كل إنسان عن إعطاء وعد لأحد؟ ويعمم هذا من غير تناقض؟ وحقيقة إنّ تعميم الامتناع عن مساعدة المصاب ينتهي بصاحبه إلى فقدان الأمل في مساعدة الغير له عند الحاجة، فتناقض الإرادة نفسها بذلك، ولكن أي تناقض في أن تريد أن يكف كل إنسان عن مساعدة غيره[9].
كما أن مبدأ كانط الصوري ـ من وجهة نظر الطويل ـ يزودنا بقاعدة سلبية مأمونة للسلوك، بمعنى إننا إذا لم نستطع أن نريد لكل إنسان في ظروفنا أن يتصرف كما نتصرف، كنا على يقين بخطأ سلوكنا أخلاقياً، ولكننا لا نستطيع أن نستخلص من مبدئه قاعدة إيجابية فنهتدي بها – لا فيما يجب الإمساك عن فعله – بل فيما ينبغي فعله[10].
كما تعرضت نزعة كانط الصورية المتطرفة إلى سيل من حملات النقاد من الباحثين والتي استهدفت قوله بأنّ بيت القصيد في أية فلسفة عملية ليس هو أن نشرح أسباب ما يحدث بالفعل، بل أن نبسط القوانين التي تحدد ما ينبغي أن يحدث، حتى ولو لم يحدث هذا الذي نحدده يوماً ما على الإطلاق. “بل إنّ الفلسفة التي تقوم بخلط المبادئ الخالصة بالمبادئ التجريبية لا تستحق أن تسمى فلسفة (لأن الفلسفة تتميز عن المعرفة العقلية الشائعة ب أنّها تعرض ما تتصوره هذه مختلطاً على هيئة علم مستقل بذاته) ولا تستحق حتى أن تسمى فلسفة أخلاقية، لأنها بهذا الخلط إنما تفسد نقاء الأخلاق وتتعارض مع الهدف الذي تسعى إلى تحقيقه»[11].
ويعترض شوبنهاور على هذه الصورية فيقول:إنّه من يدرينا أن هناك بالفعل قوانين لابدّ لنا من أن نخضع لها كل أفعالنا؟ بل من يدرينا أن ما لم يحدث في يوم ما من الأيام لابدّ من أن يحدث، أو هو بالضرورة مما ينبغي حتماً أن يكون؟ أليس من واجب عالم الأخلاق أن يفسر معطيات التجربة بحيث يتناول ما هو كائن أو ما قد كان محاولاً العمل على فهمه حق الفهم بدلاً من الاقتصار على التشريع ووضع الأوامر وصياغة القواعد، بل إنّ كانط ليفترض منذ البداية أن هناك قوانين أخلاقية خالصة، دون أن يضطلع بأي بحث تمهيدي يبرر لنا فيه هذه القضية التي تحتمل المناقشة، ولكن أليس من حقنا أن نفحص مفهوم “القانون نفسه؟ ويعترض أيضاً شوبنهاور على اعتبار كانط لمفهوم الواجب على أنّه مفهوم فلسفي أو أخلاقي فيقول: “وحتى لو سلمنا بأنّ الواجب مفهوم أخلاقي صرف، فإنّ قول كانط بضرورة الخضوع للقانون احتراماً للقانون إنما هو قول غير معقول، لأن العقل يلزمنا دائماً بالبحث عن “الحيثيات” التي تسوغ للقانون أن يأمرنا[12].
إذن يعيب توفيق الطويل على كانط تلك الصورية التي وقع فيها ظناً منه في أنّه بوسعه أن يؤسس الأخلاق على أسس صورية أولية سابقة على التجربة، معتقداً بأنّ القانون الأخلاقي لا ينصب على مادة الأفعال، بل على صورتها فقط. ومن هنا عمل الطويل على تفادي هذه النزعة الصورية في مثاليته المعدلة. التي رأي فيها أن مجال علم الأخلاق هو المجال الخاص “بالشعور الخلقي” ذلك الشعور الذي يجتمع فيه الهوى مع المثل الأعلى وتتصارع فيها الرغبة والغريزة مع العقل وينشب صراع بين ما أرغب فيه وبين ما ينبغي عليَّ أن أفعله.
2 - التزمت أو التشدد Regorism or stringency
إن مبدأ كانط يصور قانوناً أخلاقياً أشد وأعلى مما يتطلب الحس الخلقي عند رجل فاضل، وهذا التزمت يبدو على صور شتى:
(أ) استبعاد العواطف والميول والدين والقانون الوضعي
ينبع السلوك الخلقي عند كانط من العقل الخلقي وحده بعيداً عن العواطف والميول والدين والقانون الوضعي؛ إذ أن السلوك لكي يكون متمشياً مع القانون الأخلاقي. لا يكفي فيه أن يكون مشروعاً في تعاليم الدين أو مقبولاً عن الرأي أو معفي من عقوبة القانون الوضعي، فإنّ الامتناع عن اقتراف الآثام مع وجود ما يغري بها، يتنافي مع الأخلاقية متى كان بوازع من خشية الله واتقاء لعذاب الجحيم أو خوفاً من عقاب ينزله القانون الوضعي أو ينذر به العرف الاجتماعي أو حتى متى جاء تفادياً لوخزات الضمير!إنّه لا يكون أخلاقياً إلاّ متى صدر عن تقدير عقلي لمبدأ الواجب، أي نابعاً من العقل الخلقي وحده، مع أن السلوك ـ كما يرى الطويل ـ الذي ينبع من الوجدان كثيراً ما يكون أنبل وأسمى عن ذلك الذي يصدر عن العقل، وقد تهكم الشاعر شيللر على ذلك، إذ يجب أن لا يصدر الفعل الأخلاقي عن باعث من الميل أو العاطفة، وهذا نفسه تشدد لا مبرر له؛ إذ كثيراً ما يصدر فعل الخير عن عاطفة نبيلة كمحبة البشر، بل تضيف إلى هذا أن الخير كثيراً ما يؤدي بوازع من طاعة الله ومرضاته، وهنا تظهر شخصية الطويل الذي يقدر دور الإيمان كباعث في السلوك الأخلاقي.
(ب) منع الاستثناء من القاعدة
جعل كانط المبادئ الأخلاقية مطلقة غير قابلة للاستثناء، وهنا يتعرض الطويل على منع الاستثناء فيقول: “ إننا نعرف بالحس الخلقي أن ليس ثمة قاعدة أخلاقية بلغت من القداسة حداً يمنع من أن نستثنى منها بعض الحالات”[13]، بل ويستشهد بتأكيد جاكوبي Jacobi في حملته على كانط، والتي جاهر فيها بأنّ القانون قد وضع من أجل الإنسان، وليس الإنسان هو الذي خلق من أجل القانون، ومن أجل هذا كان من الضلال أن يطيع الإنسان القانون طاعة عمياء، وعليه أن يستفتى قلبه، وألا يأذن لهذه الفلسفة الترنسندنتالية الصورية أن تنتزعه من صدره، وإن قيل إنّ جاكوبي بهذا يحاول أن يقتلع تزمتاً ليغرس مكانه تزمتاً مضاداً[14].
ويستطرد الطويل في شرحه لنقد هذا الأمر المطلق الكانطي الذي لا يبيح الاستثناء حيث يرى أن المبادئ الخلقية قد وضعت من أجل الإنسان، ولذلك فلابد أن تكون قابلة للكسر، فالقواعد كلها قابلة للاستثناء، مادام هذا لصالح الإنسان العام، وعلى ذلك تكسر المبادئ الخلقية ـ إبان الحروب خاصة ـ لمنع مزيداً من الشرور بل أن المبادئ تتصارع في غير الحروب مع بعضها البعض، كالصراع الذي يقوم بين المبدأ الذي يوجب الامتناع عن الكذب، والمبدأ الذي يوجب الكذب إنقاذاً لحياة إنسان يسأل عن مجرم يريد الفتك به، أو إشفاقاً على مريض بالقلب من خبر قاس قد يقضي عليه، وعندما يتصارع قانونان، يتعذر الفصل بينهما الإ على أساس النتائج، التي تترتب على كل منهما، بل إنّ الدبلوماسي ـ مثلاً ـ يتعين عليه أن يكذب متى ترتب على كذبه منع حرب عالمية ثالثة، فلا خير إذن من الناحية الأخلاقية من الإقدام على شر من أجل منع شروراً أكبر وأعظم، وإن وجب أن نحذر من تحقيق غاية طيبة بوسائل شريرة، فالغاية تبرر الوسيلة، ذاك المبدأ المكيافيللي الشهير، مبدأ أخلاقي هش عند الطويل بل هو مبدأ يجعلنا “نقف على أرض زلقة يتعذر الاستقرار عليها” حسب قول الطويل نفسه[15].
ويرى الباحث أن تحريم الاستثناء من القاعدة الخلقية كان من أهم الأسباب التي جعلت الطويل يهتم بتعديل تلك المثالية المتزمتة إلى المثالية المعدلة، التي ترى أن الكثير من الأفعال الإنسانية تعتبر صواباً أو خيراً لمجرد أنّها استثناءات من القاعدة العامة، فالاستشهاد في سبيل الوطن، أو من أجل فكرة أو مبدأ، خير لكن تعميمه مستحيل، إذ لو عممنا الاستشهاد من أجل الوطن فجعلناه قانوناً للناس جميعاً، ما بقى في الدنيا وطن يمكن الاستشهاد في سبيله، وعندما يكون من الخير لإنسان أن يوهب حياته من أجل قضية كبيرة يكون مرد الخيرية في فعله إلى أننا نفترض أن أحداً غيره لا يسد فراغه ولا يقوى على تأدية مهمته[16]. ومن أجل هذا رأي الطويل أن بارودي Parody كان صادقاً حين قال إنّ الفدائي في العادة فرد واحد، وأن مما يتعارض مع منطق العقل أن يكون جميع الناس فدائيين، بل لا يجوز أن يقذف عشرون بأنفسهم وراء خط القتال لكي يستعيدوا جريحاً، فيسلمون أنفسهم بذلك لهلاك محقق، ولكن العقل يقضي بأنّ يكون الجميع مستعدين للفداء والتضحية، وإن كان فرد واحد هو الذي يقوم بالعمل الذي يجمع إخوانه على أنّه واجب، كما أن الأعزب لا يستطيع أن يعمم تصرفه وإلا انقرض الجنس البشري، وإلى جانب هذا يكون كل من تحاشي الزواج لصالح الذرية مخطئاً في نظر كانط، مع أن من واجب بعض المرضى أن يمتنعوا عن الزواج من أجل ذريتهم، والأمثلة في ذلك أكثر من أن تحصى[17].
ويعترض الطويل على تفسير كانط للواجب بأنه الأمر المطلق، معضداً رأيه برأي “وليم ديفيد روس W. D. Ross” الذي يرفض التسليم بوحدة الإلزام ويقول مجموعة من الأوامر والالتزامات قد يناقض بعضها البعض، وتكون – مع ذلك – خيّرة في نفس الوقت، فالإلزام الذي يقضي بإتباع الصدق قد يتنافي مع إلزام آخر يوجب خدمة الوطن ويبيح للأسير أن يكذب على آسره عند الضرورة. وهنا يظهر تهافت الأمر المطلق عند كانط فالكذب عند كانط لا يمكن تعميمه، ولكن كيف تقضي الأخلاقية بأنّ يصدق الأسير مع أعدائه حين يطلبون إليه أن يفشي لهم أسرار معركته الحربية؟ وهنا يتساءل الطويل أمن أجل شكلية الأمر الكانطي المطلق يصبح الأسير في هذه الحالة ملزماً أخلاقياً بتحطيم وطنه كله؟! ومن هنا نراه يقول : “إن الأصح عندنا هو ما ذهب إليه “جيمس مل G. Mill” حين أباح كسر القاعدة الخلقية بشرط أن يكون في الإمكان تعميم كسرها في كل ظرف مشابه، وعندئذٍ نتبين أن كسرها لا يكون من أجل نزوة أو شهوة أو مصلحة”[18].
إذن يجوز عند الطويل كسر القاعدة الخلقية وعصيانها من أجل قاعدة أسمى بشرط ألا يكون الوازع على كسرها وعصيانها مصلحة شخصية أو نزوة أو هوى طارئ[19].

ج- الفصل بين العقل والحساسية
ناهض الطويل في مذهبه الأخلاقي الغلو والتطرف في كل مظاهره وألوانه، ولما كان استبعاد الميل أو الوجدان في كل صورة كباعث على الواجب تطرف من قبل كانط، وأن إلحاحه في رد الأخلاقية إلى العقل وحده يظهره مناهضاً للحساسية ومطالباً بمجاهدة نوازعها والعمل على إماتة شهواتها، ومن ثم تم وضعه من قبل بعض النقاد في زمرة الكلبية والرواقية ونساك المسيحية وزهادها، ومن هنا نتبين أن كانط قد فصل بين العقل والحساسية، وتحيز للأول وتطرف في إعلاء شأنه، ومن هنا استحق نقد الطويل الذي عمل على تعديل مثاليته المتزمتة المتطرفة فرأى أن المثالية الأخلاقية الصحيحة لا تستقيم ما لم تظل شخصية الإنسان سليمة متكاملة Integrated وهذا يتعارض مع الفصل الكامل بين شطريها من عقل وحساسية، فالقانون الأخلاقي يتمشى مع منطق العقل لا محالة، ولكن هذا لا يعني قط أنّه لا يستمد إلاّ من العقل،إنّه مساير للعقل بالقياس إلى الغاية التي نتوخاها من وراء سلوكنا، وهو إنّ طالبنا بالحد من جموح الحس وتنظيم مطالبه، لا يقتضينا محاربته ولا إغفال نوازعه[20].
والجدير بالذكر أنّه مع إلحاح كانط في إكبار العقل وتقديس أوامره ذهب بعض نقاده إلى أن الواجب في فلسفته أمر مطلق لا يحتمل تفسيراً عقلياً ولا تبريراً نظرياً، ومن ثم قالوا أنّه بهذا لا يكون صادراً عن العقل، وأن أخلاقه العقلية تتسم بالطابع اللاعقلي![21] ويرى الباحث أن لهذا الرأي وجاهته خاصة أن مصادرات العقل العملي عند كانط والمتمثلة في وجود الله، وحرية الإرادة، وخلود النفس مجرد فروض لم يقم عليها دليل عقلي.
ومن أجل هذا قام الطويل بالتعديل والتقويم لهذه المثالية المتزمتة والصورية المتطرفة. وخاصة إذا أضفنا إلى ما تقدم أن كانط كان قد حرص على استقلال الإنسان واستقلال إرادته عن كل سلطة، وأقام الأخلاق بعيدة عن وحي الدين ورفض رد الواجب إلى الله، الأمر الذي جعل من الطبيعي أن يضيق به رجال اللاهوت، وقد قيل إنّ إيمان كانط كان مثاراً للظنون والريب[22].
معالم المثالية المعدلة كمنظور أخلاقي شرقي
وبناءً على ما تقدم فإنّ المثالية المعدلة قد جاءت منددة بالتزمت التي اتسمت به المثالية الكانطية، ورأت أنّه إذا كان من الحكمة ألا تستغني عن قيم أثبتت التجربة الطويلة صوابها، فإنّ علينا أن نعرف أن معاني القيم وغايات الإنسان ترتبط بروح العصر ومن هنا مسَّت الحاجة إلى تغيير مضمونها أو تعديل محتواها حتى تلائم روح العصر المتطور دوماً، وحيث أن الفيلسوف المثالي أصبح يستكين إلى مقعد مريح يطمئن إليه، ثم يأخذ في إصدار أحكام قاطعة في كبرياء عن الواجب، ذاك المبدأ الإنساني الذي يلتقي على طريقة كل الناس في كل زمان ومكان، مع أن كل إنسان لا يشغل باله قط إلاّ إشباع مطالبة الشخصية ورعاية مصالحه الذاتية، ومن هنا بدت معالم المثالية المعدلة كتعديل وتطوير للمثالية التقليدية المتزمتة، فتمثلت في تحقيق الذات بإشباع جميع قواها الحيوية في غير جور على قيم المجتمع أو استخفاف بمعايره، فالإنسان يبدو ـ في المثالية المعدلة ـ كلاً متكاملاً يجمع بين الحس والعقل في غير تصارع ينتهي بالقضاء على أحدهما، ويتمثل الإنسان فرداً في أسرة، ومواطناً في أمة، وعضواً في مجتمع إنساني، وبهذا يتصل كمال الفرد بكمال المجموع الذي ينتمي إليه، فيختفي النزاع التقليدي بين الأثرة والإيثار، ويذوب توكيد الذات ونكرانها، ويظل الإنسان خلال هذا محتفظاً بفرديته واستقلال شخصيته، برغم ولائه للمجموع الذي ينتمي إليه، ومثل هذه المثالية تتيسر في النظام الديمقراطي الصحيح، وهي تتكفل بتكامل الطبيعة البشرية وبها تصبح الأخلاقية مطلباً ميسور المنال، وليست عبئاً ثقيلاً لا يقوى على حمله إلاّ الأبطال[23].
ومن ثم يمكن القول بأنّ توفيق الطويل ينظر إلى الإنسان من خلال مثاليته المعدلة على أنّه ليس حساً خالصاً ولا عقلاً محضاً، ولكنه يجمع بينهما ولا تستقيم حياته الصحيحة بدونهما معاً، وتكامل النفس يقتضي الإبقاء على قوى الإنسان حسية كانت أو عقلية مع تمكين هذه القوى من أن تؤدي وظيفتها الطبيعية بتوجيه العقل، والموقف الخلقي يقوم على أن الطبيعة البشرية تجمع فعلاً بين نزعات الأثرة والإيثار، ومن الخطأ أن تقوم الأخلاق على الأنانية الموغلة وحدها أو الغيرية الطاغية وحدها، فإنّ نهضة الأمم وتقدم الحضارات مرجعه إلى مسعى قوم كانوا وهم في غمرة سعيهم الحثيث من أجل مصالحهم الشخصية يعملون عن وعي لترقية مصالح المجموع، ومن ثم كان الأقرب إلى الصواب أن نجمع بين هذين الاتجاهين المتطرفين، وبذلك تصبح الأخلاق علماً نظرياً عملياً معاً، أي تصبح دراسة عقلية تهدف إلى فهم طبيعة المثل العليا التي تستغل في حياتنا الدنيا، كما تصبح علم وفن، إذ أن مبادئ الأخلاق لا تحقق غايتها على الوجه الأكمل في مجال الحياة العملية ما لم تسبقها دارسة نظرية تقوم على التعليل والبرهان حتى يتسنى للإنسان أن يعرف الغاية القصوى من وجوده فيتيسر له أن يتصرف في ضوء معرفته ولا تكون حياته مجرد تقليد ومحاكاة تهبط به إلى مرتبة القردة[24].
فتتضح بذلك معالم مثاليته المعدلة؛ حيث يقر بأنه مع تقديره البالغ لمذاهب التجريبيين والوضعيين وأمثالهم يدين بالولاء لنوع جديد من المثالية الأخلاقية المعدلة التي برئت من التزمت المقيت، وتحررت من قيود النزعة الصورية التي شابت المثالية الكانطية المتطرفة، فتمثلت في تحقيق الذات بإشباع جميع قواها الحيوية بغير جور على قيم المجتمع أو استخفاف بمعايره، فالإنسان في هذه المثالية يبدو كلاً متكاملاً يجمع بين العقل والحس دون تصارع ينتهي بالقضاء على أحدهما[25].
إذن فهي مثالية تساير الطبيعة بخلاف المثالية الكانطية المتطرفة التي تتطلب ملاكاً أو كائناً غير بشرياً، فلا هي تتطلب الحيوانية الخالصة ولا الروحية الخالصة ولكنها وسطاً بينهما. فهي في مسايرتها للطبيعة البشرية تجمع بين رعاية الذات بكل ما تقتضيه من أنانية، وبين الاهتمام بمصالح الغير بكل ما تستلزمه من غيرية وإيثار، من هنا كان من الضلال أن ننجرف بالطبيعة البشرية عن جبلتها، فتقتصر أهدافنا على ما يحقق مصالحنا ويشبع رغباتنا وأهواءنا أو ننزع إلى وقف جهودنا وحياتنا على خدمة الآخرين إلى حد التضحية بمصالحنا الشخصية، فالأخلاقية التي تساير الطبيعة البشرية تقتضي التوفيق بين هاتين النزعتين المتضادتين[26].
ومن هنا كان التزام الطويل بموقف الوسط في الأخلاق والتماسه للسعادة في الفضيلة، والمتعة في الواجب، فكان للحواس دورها وللعقل دوره، تلك تشتهي وهذا ينظم لها طريقة الإشباع، فلا تطغى سعادة الفرد على سعادة المجموع[27].فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي لا يقنع بالواقع، ويتطلع إلى ما ينبغي أن يكون، يضيق بالسلوك الذي تسوقه إليه الشهوات والعواطف، ويكبر الذي يجري بمقتضى الواجب، وبذلك كان من الحق أن يقال أن الإنسان لا يكون إنساناً مميزاً من سائر الكائنات بغير مثل أعلى يدين له بالولاء وتتحقق السعادة في حياة راضية مطمئنة تتحقق فيها مطالب الروح وتجاب فيها مطالب الحياة المادية في غير تهور ولا إسراف، ويقوم فيها العقل بتوجيه الإنسان في تصرفاته والعمل على تحقيق مطامحه في الوقت نفسه الذي يحد فيه من شهواته ويضبط جموح أهوائه ونزواته، ويقترن هذا كله بتصفية النفس من عبودية الرغبات الجامحة وتخليصها من الأحقاد والضغائن وصنوف الجشع والطمع ونحوه، مما يثير القلق ويورث الهم والشقاء وبهذا تتحقق طمأنينة النفس دون جور على مطامع الإنسان في هذه الحياة الصاخبة.
[1]*ـ باحث وأستاذ الفلسفة الحديثة بكلية الآداب ـ جامعة بني سويف، جمهورية مصر العربية.
[2]- محمد مهران : تطور الفكر الأخلاقي في الفلسفة الغربية، القاهرة، دار قباء، 1998، ص155.
[3]- محمد مهران : المرجع السابق، ص172.
[4]- ليس معنى انضمام توفيق الطويل إلى معسكر المثاليين أنّه هاجم المذاهب التجريبية والوضعية على طول الخط، فهو مع اعترافه بعجز المذهب المادي في إعطائنا تفسير معقول ومقبول للوجود والمعرفة والأخلاق، إلاّ أنّه مع ذلك يؤمن بأنّ هذا المذهب المادي يرشدنا إلى الكشف عن كثير من الحقائق وإليه يرجع الفضل في فهم العلاقة الوثيقة بين المخ والنفس، كما أنّه يبدو أقرب إلى الصواب من مذاهب المثاليين في تفسير المعرفة الإنسانية، ولا يمكن الاستغناء عن التجربة في كسب المعرفة عامة، والمعرفة الخلقية بوجه خاص، إذ أن المعرفة بغير التجربة الحسية مستحيلة ولا تكتمل ولا تستوفي شرطها العلمي أو النفسي إلاّ بوجود العقل، هذا بالإضافة إلى أن دراسات التجريبيين والوضعيين ومن إليهم من الواقعيين قد ساهمت في الكشف عن كنوز الحقائق المجهولة في ماضي حياتنا الخلقية وفي حاضرنا. والجدير بالذكر هنا أن الطويل كان لا يؤمن أيضاً بالمذاهب المثالية الخالصة روحيّة كانت أو عقليّة على طول الخط، ولكن يؤمن بمثالية معدلة عملت على عبور الهوة السحيقة بين التجريبيين والمثاليين. ونظرت إلى ضرورة تحقيق الذات بكل قواها الحيوية حسية كانت أو عقلية روحية، بعيداً عن شطط المعسكرين المتطرفين ومن شابههم.
[5]-توفيق الطويل: فلسفة الأخلاق، ص 40.
[6]- المصدر السابق، من 400.
[7]-المصدر السابق، ص 401.
[8]- المصدر السابق، ص 407.
[9]-توفيق الطويل: فلسفة الأخلاق، ص 443.
[10]-المصدر السابق، ص 443.

[11]- Kant، Fundamental Principles of the Metaphysic of Morals، P. 254.
[12]- زكريا إبراهيم: كانت أو المشكلة النقدية، مكتبة مصر، ط2، القاهرة 1972، ص 192.

[13]-توفيق الطويل: فلسفة الأخلاق، ص 444.
[14]- المصدر السابق، ص 444 - 445.
[15]- المصدر السابق، ص 445.
[16]- المصدر السابق، ص 445 - 446.
[17]- المصدر السابق، ص 447. وأيضاً؛ بارودي: المشكلة الأخلاقية والفكر المعاصر، ترجمة محمد غلاب، مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة الثانية.د.ت. ص 344 – 345.
[18]- توفيق الطويل: فلسفة الأخلاق، ص 446.
[19]-المصدر السابق، ص 447.
[20]- المصدر السابق، ص 448.
[21]- المصدر السابق، ص 448.
[22]- وتظل هذه الظنون وتلك الريب قائمة عند الباحث، خاصة أن كانط لم يقدم دليلاً نظرياً واحداً على وجود الله بل رفضها جميعاً ورفض الأديان السماوية واعتبرها عائقاً بل وسبباً في عدم تحقيق السلام العالمي، ورفض أيضاً الصلاة وكافة الشعائر والطقوس الدينية مما يجعل الباحث يتعجب من هؤلاء الذين يصفون كانط بالمؤمن القانت!! أو حتى فقط بالمؤمن.
[23]- توفيق الطويل: فلسفة الأخلاق، ص 40.
[24]- زينب عفيفي: المثالية المعدلة في فلسفة الدكتور توفيق الطويل الخلقية، مقالة في نقد الفكر الأخلاقي بالكتاب التذكاري “الدكتور توفيق الطويل مفكراً عربياً ورائداً للفلسفة الخلقية – بحوث عنه ودراسات مهداه “ المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1995، ص 87.
[25]- توفيق الطويل: فلسفة الأخلاق، ص 40.
[26]- فيصل بدير عون: أخلاق البصيرة العقلية عند الطويل، ص 115.
[27]- زكي نجيب محمود: من زاوية فلسفية، دار الشروق، الطبعة الرابعة، القاهرة، 1993، ص 27