الباحث : جوازيا رويس - Josiah Royce
اسم المجلة : الإستغراب
العدد : 4
السنة : السنة الثانية - صيف 2016 م / 1437 هـ
تاريخ إضافة البحث : July / 13 / 2016
عدد زيارات البحث : 1151
جوازيا رويس محاضراً في أخلاقيات الولاء
تمهيد الطريق إلى الخير الأعلى [1][*]
النص التالي لفيلسوف الأخلاق الأميركي جوازيا رويس مختارٌ من إحدى محاضراته التي ألقاها على طلابه في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر: وهي من دون أدنى ريب شكلت إلى جانب سلسلة من مؤلّفاته، الهندسة الإجمالية لنظريته الأخلاقية، وخصوصاً تلك التي تناول فيها قضية الولاء والانتماء في حياة الإنسان الحديث، ودورها في الثورات الاجتماعية الكبرى التي حدثت في أوروبا وأميركا الشمالية ابتداء من القرن الخامس عشر الميلادي.
في هذه المحاضرة التي ألقاها في جامعة كاليفورنيا بالولايات المتحدة يدخل رويس في تحديد رؤيته الأخلاقية في إطار أطروحته الشهيرة التي صدرت تحت عنوان "فلسفة الولاء".
المحرر
يعني الولاء التفاني الإرادي والمستمر من فرد ما، تجاه قضية معينة. ونعرِّف القضية بأنّها شيء يوحّد كثيراً من الحيوات الإنسانية في حياة واحدة. فلقد قصدت فلسفتنا عن الولاء أن تكون فلسفة علمية، واستخدمنا تعريفاً، لمساعدتنا على كشف غاية الحياة، والخير الأعلى الذي تستطيع الكائنات الإنسانية تحقيقه لنفسها. ووجدنا، بالفعل، أن الخير، يبدو متناقضاً، فلقد كان خيراً، يتم من خلاله التضحية. ثم طورنا المفهوم، إلى الولاء للولاء. فبمثل هذا التعريف، وبتحديد القضية، التي تستحق كل ولاءات الناس، نستطيع توحيد وتبسيط القانون الأخلاقي التقليدي، وتحقيق كل المطالب العادلة لأخلاق فردية عاقلة، ونترك لكل إنسان حقه وواجبه. نستطيع كذلك وضع المثل الأعلى لانسجام كل القضايا الإنسانية في قضية واحدة. وبناء على هذا، نستطيع أيضاً، وضع نظرية في الضمير... نظرية ترى الضمير بوصفه سلطة عقلية وعامة وكليّة، وفي الوقت نفسه بوصفه، فعلاً فردياً في التعبير عن حياة كل إنسان. وهكذا يظلُّ ضمير كل فرد، خاصاً به، وعمله، بلا شك، توجيه هذا الفرد، لكي يجد مكانه المتفرِّد في النظام الأخلاقي الكلي.
الولاء في مقام التعريف
تبين النتائج، أن من خصائص الولاء، أن يخدمنا في تفسير خيريَّته الحقيقية. سوف يكتشف الإنسان بالفعل، وفي حدود خدمته الشخصية الخاصة، أن الولاء يشكل قدره الأخلاقي وبدونه لن ينعم بالسلام. وبمجرد امتلاك الولاء لقدراته الفعَّالة، قد يشعر بأنه قد حلَّ لنفسه، مشكلته الشخصية المتعلقة بوجوده وبالغاية من حياته. ولكن بالرغم من هذا، يظهر الولاء في الحياة الفردية، في صورة غامضة إلى حد كبير. إنّه يقول للإنسان “إن خيرك الحقيقي، لا يمكن أن تحصل عليه، أو يتحقق، في ظل خبرتك الإنسانية الحاضرة، تحققاً كاملاً. وأفضل ما يمكن أن تحصل عليه.يكمن في الاستسلام الذاتي، وفي يقينك الذاتي، بأنّ القضية التي سلمت لها نفسك، قضية خيِّرة بالفعل. ولكن إذا كانت قضيتك بالفعل، قضية موجودة وواقعية، وخيرها لا يستطيع فرد واحد، أو حتى مجموعة من الأفراد تحقيقه، فإنّّ هذا الخير الخاص بالقضيّة، يعد أساساً خيراً روحانياً، حتى وإن كان إنساني التجسّد. وذلك لأنّه ينتمي لكل الحياة الإنسانيّة التي تتعالى على كل حياة فردية وتسمو فوقها.
من الواضح أن هذا الحديث الغامض عن الولاء، لا يتضمن فكراً أخلاقياً فقط، وإنما يتضمن جانباً ميتافيزيقياً أيضاً. والواقع أن الاعتبارات العملية البحتة والدراسة لحاجتنا الإنسانية، والبحث عن الحياة العملية المثالية، كلها تؤدي بنا حتماً، إلى مجال ليس بالقطع قاصراً على عالم الأنشطة الأخلاقية. وهذا المجال إما أن يكون مجرد وهم من الأوهام أو الكيانات الروحية الكائنة في مستوى أعلى من مستوى خبرتنا الإنسانية الفردية الحاضرة.
بدأنا في محاضرات سابقة في دراسة هذا العالم الأكبر من الوحدات الروحية، التي لا بد أن تكون واقعية، إنّ كان ولاؤنا لا يقوم على الوهم. وقد حاولنا وضع نظرية عامة في الحقيقة، توضح لنا أن الوحدات الروحية هي وجود واقعي، ويتم افتراض وجودها بصورة مسبقة قبل كل محاولة نقوم بها لتعريف وتحديد الحقيقة. لذلك تحولت نظريتنا الأخلاقية إلى مذهب فلسفي عام، وظهر لنا الولاء ليس بوصفه مجرد مرشد في الحياة، وإنما بوصفه كشفاً عن علاقتنا بالعالم. ولهذا الاعتبار وجدنا أنفسنا ملزمين، بتعريفه بما هو عالم أبدى ووحدة شاملة لكل حياة روحية.
والآن، وفي ضوء هذه الفلسفة التي تشكَّلت، أقترح تعريفاً جديداً للولاء، وأستطيع القول بأنّه قد نتج من دراستنا السابقة كلها: إنّ الولاء هو الإرادة، أو الرغبة في إظهار الأبدي، قدر الإمكان، أي الوحدة الواعية الشاملة والمطلقة للحياة، في صورة أفعال، يقوم بها إنسان، أو ذات فردية. إذا فضَّلت أن تنظر إلى الموضوع من جهة ذات إنسانية فردية. وكنت مصراً، على النظر للعالم، كما نعرفه ونجده في خبراتنا الفردية العادية، واعتبرت المذهب الميتافيزيقي، الذي عرضته، مجرد نظرية مثالية للحياة، وليست فلسفة عقلية قابلة للبرهان، فإنّي لا زلت قادراً، على التمسك بتعريفي للولاء، باستعارة عبارة مشهورة، من عبارات الصديق والزميل العزيز، الذي عارضته واختلفت معه في المحاضرة السابقة. وأستطيع إعادة عرض تعريفي الجديد للولاء، بعبارات بسيطة ومباشرة: "الولاء هو إرادة الاعتقاد في شيء أبدي والتعبير عن هذا الاعتقاد في الحياة العملية لكائن إنساني".
أقول، إنّ هذا تعريفي الجديد للولاء في صورته الميتافيزيقية، فدعوني أزيده إيضاحاً وأبين بنوع من التفصيل، كيف جاء نتيجة مباشرة لبحثنا.
الآن وبغض النظر عما يقال عن المعجزات، والكشوف الصوفية، فمن الطبيعي أن تهتم فلسفتنا عن الولاء، بتوضيح الطريق للعالم الروحي. ويبدو لي، أن هناك بالفعل عالماً روحياً حقيقياً، وأن هناك وسيلة للبحث، يمكن أن تقودنا من مثل هذا الإيمان العملي في العالم الأعلى، الذي يجسده الولاء في أفعاله، إلى حدس عقلي بالتكوين العام لهذا العالم الأعلى، ولا أقول أنّه يجب التسليم بآرائي حول هذا الموضوع من دون مناقشة، ولا أدعي قدرتي على رؤية ما لا يستطيع رفاقي رؤيته، أو أحظى بصلة خاصة بعالم علوي، أستمد منه الإلهام والأسرار. ولكن أسألكم بوصفكم، أناساً مثقفين أن تبحثوا في حياتكم العادية، وبوصفكم كائنات عاقلة، عن الأساس والحقيقة، التي تتطلب هذه الحياة وجودها.
إن ما عرضته في ختام محاضرتي السابقة، كان عبارة عن رؤية للأشياء، التي قد تتضمنها حسب وجهة نظري، أي محاولة للتعبير، بطريقة للتعبير، بطريقة عاقلة، عن أين نكون في عالمنا.
وأعتقد أن علينا أن نعترف، بأنّ حياتنا اليومية تعتمد على الاعتقاد بموجودات، ووقائع، نؤمن بصحتها، بالرغم من وجودها خارج مجال خبراتنا الفردية العادية، مثلها مثل أي عالم روحي فنعيش بالاعتقاد في وجود عقولنا وعقولنا وعقول الآخرين، ونعتبرها وقائع حقيقة. ونقبل تقارير ووثائق وأدلة أخرى عن الحوادث والوقائع الماضية والحاضرة، ونفعل كل ذلك ونحن على يقين ب أنّها كلها لا يمكن البرهنة عليها، والتحقق منها في خبرة أي إنسان. والتفسير التقليدي، لمثل كل هذه المعتقدات هو أنّها قد فرضت علينا، من واقع، يكون – كما يقول الناس- مستقلاً تماماً عن معرفتنا، ويوجد مستقلاً بذاته عن خبرتنا،ولذلك ربما تكون طبيعته مختلفة تماماً، عن أي أفكار إنسانية أو أي اهتمامات وانفعالات نشعر بها.
الولاء في الفلسفة البراغماتية
الفلسفة الحديثة: الفلسفة التي تعد البراجماتية مجرد حدث عابر في تاريخها قد اهتمت بتحليل أساس معرفتنا وبدراسة الغاية التي تقصد معتقداتنا الإنسانية والأفكار تحقيقها وعلمتنا استحالة التعامل مع وجود أو واقع، يكون مستقلاً تاماً. وأعتقد أن البراجماتية الحديثة، وكما أفهمها، تتفق معي في الرأي، اتفاقاً تاماً. فلا نستطيع التعامل مع عالم، لا يتصل مباشرة بخبرتنا. وإنما المسألة على العكس، فلقد عرفنا بوجود العالم الواقعي من خبرتنا، وتم تعريفه وتحديده بأفكارنا، ويعد موضوع كل أفعالنا العملية. في نفس الوقت، الإعلان عن وجود أي شيء واقعي، يعني الحكم بأنّ مكانه في عالم الخبرة، سواء كانت خبرة إنسانيّة أو أشمل من خبرة الإنسان. إنّ الحكم بوجود أي شيء كواقعة أو بواقعية وجوده، يعني الحكم بأنّ عبارة ما، تقولها أنت وأنا، أو أي كائن، في مجموعة من الأفكار المعقولة، تعد عبادة صادقة وصحيحة. ولا تعد مصداقية العبارات أو حقيقتها، حقيقة ميتة، ولا يوجد شيء مستقل تماماً عن الأفكار والخبرة، وإنما هو ببساطة، الإشباع الناجح لمطلب معين – مطلب تستطيع التعبير عنه في صورة عبارة ما أو حكم معين والذي يتحقق فقط، عندما يكون هناك جزء من خبرة معاشة، يحوي ما يقابل هذا المطلب. وفي نفس الوقت، كل قضية، أو عبارة، أو حكم، يستطيع الفرد إصداره، يعد فعلاً، وكل فعل عقلي يتضمن في الحقيقة حكماً بواقعة معينة. فإذا قال الإبن “سوف أنهض، وأذهب إلى والدي”، فإنّه نتيجة لذلك، يؤكد صحة شيء ما، عن نفسه، ووالده، وبيت أبيه، وإذا قال رائد فضاء أو كيميائي، أو عالم إحصاء، أو رجل أعمال “بأن هذه أو هذه واقعة”، فإنّه كنتيجة لذلك يقوم بفعل ما – فعل له معنى في الذهن،ويجسد هدفاً حياً، ثم يعلن بعد ذلك، بأنّ محتوى الخبرة، يمكن أن يجعل هذا الفعل، معقولاً، وناجحاً، وجديراً بأنّ يقبله أي إنسان.
لذلك، لا يعتبر العالم الواقعي، شيئاً مستقلاً عنا.إنّه عالم مادته – محتوياته – من طبيعة الخبرة، وبنائه يناسب، ويصحح ويحقق الضمان لتحقيق أفعالنا الإيجابية، وتكون كل طبيعته كما لو كانت قابلة للتعبير عنها وتفسيرها، بالأفكار، والقضايا، والمعاني العقلية، بينما في المقابل، يعطي لأفكارنا الجزئية، ولحياتنا الواعية، المعاني المترابطة والوحدة الفكرية، وأينما كان لدي أهداف ثم فشلت في تحقيقها فذاك بسبب عدم معرفتي الطريق الصحيح، للتعبير عن علاقتي بالواقع،. من جهة أخرى وبالتحديد كلّما أدركت جانباً من الواقع، أكون قد أنجزت هدفاً من أهدافي، وحققت غاية من الغايات التي أسعى إليها.
إذن لا توجد حقيقة نظرية فقط، ولا يوجد واقع خارجي، غريب في طبيعته عن الخبرة وكل من يحيا بالفعل، كل الحياة الواعية كما ينبغي أن تكون الحياة، وبغاية عاقلة محددة، فمن الواضح أن مثل هذا الكائن يفوق الإنسان من حيث درجة الوعي، ولا يعرف العالم الواقعي. فكل من يكون واعياً، بكل محتوى الخبرة، يمتلك كل الواقع ويعد كل بحث عن الواقع ببساطة، عبارة عن محاولة لاكتشاف البنية الكلية للخبرة، التي تكون خبرتنا الإنسانية، جزءاً منها.
بمعنى آخر عندما أفكِّر في كل العالم الوقائع ـ العالم الواقعي ـ فأنا أفكر حتماً في شيء، هو عالمي الخاص، وبالتحديد، طالما أن هذا العالم، يكون موضوعاً، لأي فكرة معقولة من أفكاري. ولكن عند تشكيل فكرة ما، عن عالمي من الوقائع، لا يعني، وكنتيجة لذلك، أن أعطي لنفسي الحق، في هذه اللحظة، في أن أستخرج من الوعي الداخلي، الواقعي، أفكِّر بالفعل، وأكون مفكراً في كل نسق الخبرة الذي ترتبط به خبرتي والذي أحتل فيه، أنا بوصفي فرداً، مكاني المحدود والضيِّق. ولكن الآن، وفي هذه اللحظة، لا أمتلك أو أعرف هذا الكل. إذ يجب أن أعمل وأبذل الجهد للحصول عليه، ويجب أن أنتظره، وأكون مخلصاً، وجاهلاً به. باعتباري مخلوقاً حياًّ، أحيا الزمان لحظة بلحظة، يجب أن أنتظر، بالفعل، الخبرة القادمة. ويجب أن أعتمد قدر إمكاني، على ذاكرتي المعرَّضة للخطأ عند محاولة اكتشاف خبرتي الماضية. ولا توجد وسيلة لدي، أستطيع أن أتحقق بها من خبرتك، إلاّ باستخدام الاختبارات التي تعد أيضاً معرضة لقدر أكبر من الأخطاء التي نستخدمها جميعاً في حياتنا الاجتماعية. أحتاج لمناهج علوم الخبرة، لدراسة أي وقائع، قد تقع في مجالها وأستخدم هذه النجاحات اللحظية العملية التي تؤكد عليها البراجماتية، كلّما أحاول الحصول على، تحقق محسوس واقعي لآرائي. وهكذا يكون موقفي هو موقف صائب، مثل موقف أي إنسان، أو أي طالب علم، أو أي إنسان جاهل أو متعلم. فأنا إنسان فان ومعرَّض للخطأ، أحاول أن أجد طريقي، قدر إمكاني، وسط أحراش وأدغال الخبرة.
إذن ومجرد كشفي حقيقة العالم، أصبح أنا نفسي، وبوصفي حياة جزئية واعية ضمن محتوى المجمل الواعي لخبرة العالم، وفي وحدة ذاتية واعية مع هذا الوعي العالمي، وأحقق النجاح وأكشف الحقيقة من خلال هذه الوحدة.
لقد تعرفنا على هذه النظرية الخاصة بالحقيقة، في بداية مناقشتنا عملية بحتة، وربما ظهرت النظرية بالغة التجريد وجافة، بهذه الصورة عرفناها بها، سبب حاجتنا لمعرفة معنى الحقيقة، ولأننا نريد أن نعرف، ما إذا كان أصحاب الولاء محقيّن افتراضهم، بأنّ قضاياهم الشخصية، وقضية القضايا، وبالأخص قضية الولاء الكلي، لهم أساس حقيقي. فلقد وجدنا أن الولاء، عبارة عن خدمة عملية لموضوعات مجاوزة لحياتنا. لأن قضايانا تتعالى على الظهور في حياة الأفراد الجزئية. وإن كانت القضية، قضية حية، فإنّ كل حياة أخلاقية واعية، حتى حياتنا الإنسانية المتواضعة.. تتحد مع الحياة الواعية المجاوزة لحياتنا، التي نحن في الحقيقة جزء منها، وفي هذه الوحدة طالما كنا نخدم قضيتنا بإخلاص، نكسب ونحقق النجاح هذا النجاح الذي لا يستطيع أي خبرة من خبراتنا الإنسانية، أو فرح لحظي نشعر به، أو حزن لخسارة أو هزيمة شخصية، إلاّ أن يوضحه أو يلقي الضوء عليه إلى حد ما، أو تحويله إلى مثل أعلى.
لقد تساءلنا، أيعد الإيمان الذي يكنّه أصحاب الولاء لقضاياهم مجرد نوع من خلع الصفات البشرية على الطبيعة؟ لقد أعطت لنا نظريتنا في الحقيقة، إجابة عامة لهذا السؤال العملي الملح والهام. يحاول أصحاب الولاء في الروح. ولكن إذا ما انتبهوا فقط لطبيعة الحقيقة المعقولة أو العقلية، يكتشفون، أن حياة لهم ولا يستطيعون الحياة إلاّ في الروح، وأنهم يحيون في هذه الحقيقة كمجرد لحظات جزئية عابرة لحياة واعية، كمجرد سلسلة من الحالات العقلية العشوائية، وحتى إنّ لم يكونوا من أصحاب الولاء. لأن كل حياة، مهما كانت جزئية وجاهلة تكون إما عبارة عن، سعي دون وعي لوحدة عاقلة، مع الحياة الكلية، التي تكون جزءاً منها، أو أنّها تكون مثل حياة أصحاب الولاء، محاولة متعمدة وإرادية، للتعبير عن هذا السعي في شكل خدمة لقضية مجاوزة لحياتنا. وكل الولاءات الناقصة وكل خدمة لقضية ناقصة أو شريرة، ما هو إلاّ صورة جزئية لخدمة القضية الكلي. ولكن خدمة الولاء الكلي، يعني رؤية كل مصالح واهتمامات كل الحيوات الواعية كما لو كانت واحدة، لكي يتحقق ذلك يتم النظر لكل هذه الحيوات، مكونة لوحدة واحدة، كتلك التي تتطلبها نظريتنا في الحقيقة، وفي نفس الوقت، طالما أن السعي للحقيقة يعد، في حد ذاته نشاطاً عملياً، فإنّ ما قد عرضناه، في نظريتنا عن الحقيقة يكون على ولاء، لأنّه يحدد حياته، تبعاً لحياة أخرى تتعالى على حياته وتتجاوزها. يكون على ولاء للولاء، لأن أي حقيقة تحاول كشفها، وكانت حقيقة صحيحة، فإنّها صحيحة لكل فرد، ولذلك تستحق الاعتراف بها من كل من يحيا حياة الولاء. إذن، يعتبر كل أصحاب الولاء من الباحثين عن الحقيقة، وكل الباحثين عن الحقيقة، من أصحاب الولاء، وكلهم يسعون إلى وحدة الحياة. وتشمل هذه الوحدة كل الناس، ولكنها وحدة روحية شاملة.
الدين بوصفه قيمة أخلاقية عليا
لذلك تقابل نظرتنا للحقيقة، حاجة أخلاقية ومنطقية. فالعالم الواقعي، يعد بالتحديد العالم الذي يشعر فيه أصحاب الولاء بالألفة. ولا يعتبر ولاؤهم مجرد خلع لصفات بشرية على الطبيعة. وقضاياهم وقائع حقيقية في العالم. ويمتلك العالم ككل، هذه الوحدة التي يسعى إليها الولاء للتعبير عن خدمته الحياة كلها.
ولكن يبقى سؤال أخير، أليس هذا العالم الواقعي، الذي يعترف كل أصحاب الولاء بوحدته الحقيقية، في كل أفعالهم، وتفترض كل عملية بحث عن الحقيقة وحدته، بصورة مسبقة، هو الذي يعترف به الدين أيضاً؟ وإن كان الأمر هكذا، فما هي علاقة الولاء بالدين.
إن المادة الضرورية لإجابة هذا السؤال، باتت في متناولنا، ولقد كنا نعدها بغية تحقيق هذا الغرض، وحتى الإجابة بسيطة وواضحة، عندما نحتاج إليها.
لقد عرفنا الولاء، بأنه إرادة أو رغبة في إظهار الأبدي في أفعال النفوس الفردية ومن خلالها، وعرفنا الدين.. في أعلى صوره التاريخية (والتي تهمنا هنا فقط).. بأنه التعبير عن كل من الأبدي، وروح الولاء من خلال العاطفة، ونشاط مناسب للخيال.
كان الدين دائماً، وفي أي صورة له، عبارة عن محاولة لتفسير عالم مجاوز لعالمنا الإنساني ومحاولة للاستفادة منه. ولا يهمنا هنا عرض تاريخ الصورة البدائية والبسيطة للدين، وعلاقة الأخلاق بالدين في الحياة البدائية للإنسانية ويكفي القول بأنّ في التاريخ، هناك دائماً نوع من التوتر بين اهتمامات الدين واهتمامات الأخلاق. لأن القوى العليا، قد بدت للإنسان دائماً، إما لا أخلاقية أو فاسدة. وما زال هذا التوتر قائماً لدى العديد من الناس في يومنا. والواقع أن أعظم وأصعب انجازات العقل الإنساني لا يمكن في قدرته على التوفيق بين الدين والعلم. وإنما في التوفيق بين الدين والأخلاق وكل من لديه فكرة بسيطة عن تاريخ البشرية يستطيع أن يدرك الصعوبات التي أشير إليها. فكان إدراك العالم المجاوز لحياتنا، يتم دائماً بصورة، تخالف الصورة التي يتطلبها الولاء. إنّ كل من يقرأ الكلمات المسجلة، لكاتب بات اليوم منسياً، ويعيد قراءة الوصية العظمية والمخلصة للنبي “عاموس” يستطيع أن يكتشف بنفسه، كيف تمت المواجهة الشجاعة، لإشكالية إدراك العالم العلوي، بوصفه خيراً وإنه الأصوب، من قبل واحد من أوائل الذين نظروا للعلاقة بين الدين والأخلاق وبنظرة لا تقل أهمية، عن تلك التي قد تعلمناها من أفضل المدرسين، ويستطيع أن يدرك القارئ أيضاً كيف كانت صعوبة مهمة النبي، وعندما تنذكّر أيضاً مدى عظمة مؤسس البوذية، وبالرغم من المحاولات الفكرية العميقة لأصحاب الفكر الهندوسي لم يكن هناك حل أو طريقة للتوفيق بين الدين والأخلاق، إلاّ بجذبهما نحو شواطئ محيط الزمان الغامض واللانهائي، ثم إغراقهما في أعماقه (وهو عمل يعتبره بوذا لخلاص العالم) فإنّنا نحصل على نظرة أخرى لطبيعة المشكلة. عندما نتذكر القديس بولس، وبعد صراعه وعزلته الروحية الطويلة، قد حاول في تعاليمه التوفيق بين الأخلاق والدين، وبوضع تأويل للمسيحية، أدى إلى وجود نوع من الجدل اللاهوتي، جعل العالم المسيحي يدخل في الكثير من الصراعات، فإنّنا نشعر مرة أخرى، بخطورة المسألة. ولكن من الواضح طبعاً أن برة الإنسان المتحضرة، قد ساعدته بصورة تدريجية، على التوفيق بين الحياة الأخلاقية والحياة الدينية. وطالما أن هذا التوفيق، تدعمه نظريتنا عن تكوين العالم الواقعي، فإنّنا مستعدون الآن لعمل مراجعة مختصرة للموقف كله.
دائماً ما يقول الناس، إنّ الأخلاق شيء منفصل عن الدين. وأحياناً يقول الناس ذلك من أجل حماية الدين، فيرون أن الأخلاق، يمكن أن تجعل منك، في أفضل الأحوال، كائناً أو مواطناً مقبولاً، بينما الدين، هكذا يقول هؤلاء الناس، هو وحده الوحيد القادر، على تحقيق التوافق بينك وبين العالم المجاوز لعالمنا الإنساني، الذي يعد وجوده وتأييد عنصراً ضرورياً للحياة الإنسانية، ولكن أحياناً يحدث نفس الشيء من أجل حماية الأخلاق وتتم المطالبة بضرورة فصلها عن الدين. فيقول البعض من الناس، طالما، أن الدين عبارة عن مجموعة من المعتقدات المشكوك فيها، والخرافات، وعواطف سامية ويحتاج أصدقاؤك السعادة التي تستطيع توفيرها لهم، والأخلاق التقليدية، في مجموعها شيء جيد وخير. لذلك، يقولون، تعلم فعل الخير والصواب، واترك الدين للعقول الخيالية، التي تحب الاعتقادات. معلناً التمسك بما هو إنساني، ودع كل ما هو مجاوز لحياتنا الإنسانية.
ولأن فلسفتنا عن الولاء، تهدف إلى شيء أكبر وأكثر ثراء من مجرد تحقيق السعادة الإنسانية لبعض الأفراد، فإنّها علمتنا أنّه لا وجود لمثل هذا الخط الفاصل بينا الإنساني وما يبدو مجاوزاً مثلما كانت تدعي هذه المحاولات، للفصل بين مجالات الدين ومجالات الأخلاق. فأصحاب الولاء يخدمون شيئاً أكثر من الحياة الفردية. وحتى “نيتشه” بالرغم من أنّه من أنصار الفردية والأخلاق الطبيعية، ويوضح نظرنا فلقد بدأ الجزء الأخير من تعاليمه، مؤكد على القول “بأن الله قد مات”، وإن كان من الممكن النظر لذلك على أنّه هجوم على التوحيد، بالتالي يعتبر نيتشه من الوثنيين ومن أنصار التعدد)، ثم أضاف ملاحظته المشهورة بأنّ في حالة وجود أي آلهة، فإنّه استنتج أنّه لا يتحمل، ألا يكون هو نفسه واحداً منها، وبذلك انتهى إلى “عدم وجود الآلهة”. ولئن بدا ذلك أنّه يترك الإنسان يفعل ما يشاء، إلاّ أن “نيتشه” لم يترك الأمر هكذا، ووضع في الحال، نظاماً دينياً، يتعلق بعبادة الكائن المستقبلي المثالي، المسمى بالإنسان الخارق أو “السوبر مان” والذي يعد إلهاً مثل آلهة الأولمب، أو الآلهة التي تسكن السماء. وإذا كان مبدأ التكرار الأبدي الذي قال به نيتشه مبدأ صحيح فإنّ “السوبر مان” لا ينتمي للمستقبل المثالي فقط، وإنما كان موجوداً منذ آلاف السنين من قبل.
وإذا كانت فلسفتنا عن الولاء فلسفة صحيحة، فإنّ نيتشه لم يكن مخطئاً في قوله “بالسوبر مان”. فالسوبر مان موجود بالفعل بيننا. وليس للحياة معنى بدونه. ولكن لا يحتاج وجوده للسحر، وليس موضوعاً للخرافة. وإذا كنا نرغب التوفيق بين الدين والأخلاق، فإنّ من الأفضل أن نبدأ، كما قد بدأ “عاموس” بتعريف وإدراك لمعنى “الخيرية” بطريقة معقولة، بعيدة عن الخرافات، مع اعتراف بوجود عالم مجاوز لعالمنا. أو ما يفوق البشرية. وبعد ذلك، فتستطيع تعريف وتقدير وإدراك لمعنى الخيرية بطريقة معقولة، بعيدة عن الخرافات، مع اعتراف بوجود عالم مجاوز لعالمنا أو ما يفوق البشرية. وبعد ذلك، فتستطيع تعريف وتقدير وإدراك معنى الدين، الذي تكمن جذوره في طبيعتنا الإنسانية، وبوصفه متمماً لأخلاقيتنا.
الولاء عبارة عن خدمة لقضية. ولكن، كما لاحظت، أننا لا نستطيع الانتظار حتى بوضوح لنا الناس أو فرد ما، خيرية القضية، ومدى الخير فيها وصلاحيتها قبل قيامنا بخدمتها. فمن الناحية العلمية، دائماً ما نعرف خيرية القضية، من خلال فعل الخدمة ذاته وأثناء خدمتها. ولذلك يبدأ الولاء لدينا جميعاً، في صورة أولية. ففي البداية تحظى قضية معينة بإعجابنا، ولكن لا نعرف سبب هذا الإعجاب معرفة واضحة. ثم نهب حياتنا طواعية. وهنا نبدأ حياتنا الحقيقية. قد تكون القضية فاسدة بالفعل. ولكن في أسوء الحالات، تمثل بداية الطريق نحو القضية الحقيقية. إذ تركنا ولاءنا يتطور ويتحول لخدمة القضية الكليّة. لذلك أود بدء مناقشة الأساس الذي يمكن أن تقوم عليه نظريتي في الولاء والذي تعمدت تأجيل مناقشة هذا الأساس الميتافيزيقي إلى نهاية المحاضرات. فالواقع أن نظرة الشباب للعالم الواقعي، وتصوراتهم عنه، قبل الشروع في الولاء لقضية ما، تعد نظرة ناقصة. فأصحاب الولاء، يجسدون الأبدي في أفعالهم، ولا يدركون في الحقيقة أنهم يفعلون ذلك. ولا يعلمون، إلاّ أنهم قد كرَّسوا حياتهم، واستسلموا لقضيتهم. إذن أولى فوائد الولاء تكمن في المسألة التي أكدنا عليها في محاضراتنا الأولى. فإنّ شعر بالولاء في أعماقك توحدت حياتك، وحصلت على شيء لا يمكن الحصول عليه بأي وسيلة أخرى.. أي ذاتك بوصفها تحيا حياة ترتبط بخطة معينة، وضميرك بعد أن حدّده مثلك الأعلى، وقضيتك بوصفها هدفك الشخصي للحياة.
فكل فرد يجب عليه خدمة القضية الكلية بطريقته الفردية الخاصة. لأن ذلك، وكما سبق أن رأينا، ما يتطلبه الولاء، وما يعنيه حقاً، خاصة عندما يدرك الولاء حقيقته. ولكن كل من يخدم القضية، حتماً يشعر باليأس من تحقيقها، في عالم خبرتنا الحسّية المتواضع لأن قضيته تحمل من الخيرية ما يفوق قدرة عالمنا الزمني عن التعبير عنها. وربما هذا ما كان يقصده اللاهوت التقليدي، عندما، أطلق عليك وعليّ ونحن في حالتنا الطبيعية التي نحياها، اسم الكائنات الضائعة. إنّ ولاءنا العميق يكمن في تكريس أنفسنا لقضايا، تبدو ميؤساً منها من وجهة نظرنا الإنسانية المتواضعة. من الممكن طبعاً أن يعبِّر المرء، عن هذا، بالقول بأنّ القضايا الحقة، تكون كائنة بالفعل في عالم أعلى، وطبيعتنا الإنسانية هي التي فقدت طريقها. والحقيقة أن كلتا الوجهتين من النظر لهذه الحالة، تعبر أن الحقيقة فالولاء يعني تحول طبيعتنا وتطور في حياتها.
جدلية الولاء والخسران
إذن القضايا التي يجب علينا خدمتها، قضايا خاسرة ميؤس منها، ولكن كما رأينا في المحاضرة السادسة، أن الولاء للقضية الخاسرة، يصاحبه دائماً الحزن والخيال، أو التخيّل، وبالتالي يعتبران، الآن، مصدر كل الصور العليا للدين الأخلاقي الحقيقي، وإن شككت في هذه الحقيقة، عليك أن تقرأ النصوص أو كتب أي دين أخلاقي من الأديان الكبرى. واٍسأل سفر المزامير من التوراة والترتيلات والكتب الأخلاقية التقليدية، أو المصلّين في الكنيسة، إنّ مثل هذا الدين، يفسر لنا العالم المجاوز لعالمنا في صور، يخترعها لنا، التشوق والبحث والحزن والتخيل، ولكن في صيغة تهدف إلى تحقيق مطالب ولائنا الأعلى. لأن ولاءنا يكون لوحدة الحياة التي يتعلم وعينا الأخلاقي العميق الاعتقاد فيها، والتي تمتلك كل العالم الواقعي، وتشكّل قضيته كل القضايا. فعندما نخدم الولاء الكلي، نخدم وحدة الحياة.
ولكن هذه الوحدة الحقة لحياة العالم، تكون قريبة جداً منا، وفي نفس الوقت بعيدة عنا جداً. لأننا نحيا فيها، ونستمد وجودها منها، ومعه كل قيمة بدونها نكون مثلنا مثل النهر الذي ينساب في الصحراء، سريعاً ما يجف. وبالاتحاد بها، نحصل على قيمتنا الفردية وأهميتها في الكل، للكل. ولكن نكون أيضاً بعيدين عنها، لأن خبرتنا الإنسانية، تلقى لنا مجرد لمحات جزئية بسيطة، عن تفاصيل علاقتنا بنشاطها ولكي نشعر بعلاقتنا بها، وبحيوية وقيمة هذه العلاقات، علينا أن نجعلها قريبة من مشاعرنا ومن خيالاتنا. فنشعر بمعاني عزلة حياتنا التي نحياها، بمجرد قيامنا بذلك. ولكن، لمّا كنا لا نعرف تفاصيل عالمنا، إلاّ من خلال العلوم التجريبية، وفي هذه العلوم لا تعطي لنا نظرة عامة لوحدة الحياة وإنّما مجرد مادة وموضوعات لحياة عقلية، فإنّنا نترك بالفعل خيالنا، ونطلق له العنان، لكي يطفئ حزننا، ويساعد في التدريب على الولاء.
إن العلم، لا يستطيع أن يدلنا على تفاصيل نظام أو نسق الوقائع الذي ترتبط به حياتنا بالأبدي، فنستطيع أن نعرف أننا على صلة بالأبدي، ولكن علومنا، لا توضح لنا هذه الصلة.
لذلك يكون المحتوى الفعلي للأديان، حقيقة مطلقة. وهي حقيقة تتكون وتتشكل من الوقائع التالية: الأولى الوحدة الفعلية وخيرية حياة العالم والثانية اقترابها الحقيقي والخفي من حياتنا، وإن كنا نجهل ذلك، والثالثة ثراؤها واكتمالها من حيث المعنى، بالرغم من عدم خبرتنا بها، والرابعة اهتمامها بمصيرنا الشخصي، بوصفها كائنات أخلاقية، والأخيرة، التيقن من أننا، ومن خلال ولائنا الإنساني الفعلي، نصبح مثل قوى تقابل الإرادة الحقّة للعالم، وجهاً لوجه، وإنسان يتحدث مع صديقه. فإذا اعترفنا بهذه الوقائع بات لدينا ما يسمّى بعقيدة الدين المطلق.
طبعاً ربما نتساءل ما إذا كانت نظريتنا في الحقيقة، وكما عرضناها، توفر الضمان الكافي لصحة هذه القناعات الدينية، وأجيبك على الفور ب أنّها تحقق مثل هذا الضمان. إنّ الرموز التي تعبِّر عن هذه الحقائق أوالقناعات، والتي يعبّر عنها دين أو آخر، تكون كلها بالفعل إلى كل أنواع الحوادث التاريخية، وإلى الدور الذي تلعبه خيالات الناس، أو القائمون على خدمة الدين. ولكن القول بأنّ علاقاتنا بحياة العالم، علاقات يتم إدراكها من قبل كيان مجاوز للإنسان، ولكنه يمثِّل حياة واعية شخصية، ترتبط به حياتنا الشخصية ذاتها، ولا تكون أكثر ثراء من حياتنا فقط، وإنما أكثر وجوداً وواقعية وأرقى وعياً من حياتنا. يبدو لي أمراً حتمياً، ونتيجة منطقية لنظريتي في الحقيقة.
وأخيراً ولكي نوجز رأينا في علاقة الولاء بالدين. نجد أن هناك شيئين، على الأقل ينتميان لحياة العالم، إذا كانت نظريتي في الحقيقة نظرية صحيحة. الأول: أنّها حياة ترتبط وتتحدد تبعاً لاحتياجاتنا الخاصة، والثاني أنّها تحوي خبراتنا وتكملها. لذلك، وفي جميع الأحوال، تكون حياة حية أساسية وواقعية موجودة مثل حياتنا، وكل ما نحتاجه، تعرفه وتشعر به. فإذا ما سألت عن سبب وصفي لها، ب أنّها حياة خيرة فعليك أن تعود على الحجج التي استخدمتها البراجماتية الحديثة، والتي سبق عرضها. فهذه الحجج توفر الضمان الكافي لصحة وصفي لها بالخيرية فلا يمكن أن تكون الحقيقة مجرد حقيقة نظرية فقط. والحق هو ما يحقق نجاح فكرة معينة. ومرة أخرى كل من يخفق في تحقيق النجاح أو يواجهه شر، أو يشعر بعدم الرضا، يكون حتماً، ساعياً ومحدوداً لوقائع بعيدة عنه وليست في متناوله، وبالتالي لا يكون مدركاً لها إدراكاً كاملاً. ولذلك العارف “لكل” الحقائق يكون بالضرورة قادراً على تحقيق كل الغايات العقلية. ولكن، إذا ما سألت عن لماذا تسمح حياة العالم، وبوجود الشر، أو النقص أو المحدودية، أجيب على الفور، بأنّ المجال لا يسمح بمناقشة عامة ومستفيضة لمسألة الشر، وأحيلك إلى كتاباتي السابقة فيها. ولكن على العموم هذا التساؤل يعد تساؤلاً له قيمته، بالنسبة للطرح الذي نقول به الآن. والواقع أن نظريتنا في الشر، ليست مجرد نوع من التفاؤل الساذج، ولكنها نظرة مؤسسة على أهم وأعمق خبرة أخلاقية مؤلمة للجنس البشري. إنّ أصحاب الولاء، هم وحدهم، الذين يعرفون خيرية المعاناة، والجهل، والشعور بالنقص والخسارة والهزيمة... وهذا هو الخير الحقيقي للولاء، طالما تم النظر للقضية ذاتها، على أنّها كل حي. إنّ تحقيق السلام الروحي، ليس أمراً سهلاً، ولا نستطيع الحصول عليه، إلاّ من خلال الشعور باليأس والمعاناة والخسارة والجهد والعمل. ولكن عندما نشعر بقيمة القضية التي تم تعقيلها. قد تم تأكيدها ، من خلال الحزن، فإنّنا ندرك أن الشرك يكون له على الأقل مكانه في نظام مثالي. فكيف يكون العالم بدون ولاء، وكيف يكون الولاء بدون محنة ومعاناة؟ وعندما نتذكر أن تبعاً لهذه الوجهة من النظر، تكون كل أحزاننا أحزان “وعي العالم” نفسه وطالما أن حياة العالم يتم التعبير عنها في حياتنا، فقد نشعر بأنّ حياة الولاء، بكل أحزانها، ومعاناتها، ربما تمثِّل الأساس الضروري، للحصول على هذا الانتصار الروحي، الذي يجب أن ندركه، بوصفه متحققاً من وجود “روح العالم”.
إن نظريتنا، ترى من كان على ولاء، يقوم بفعل فريد في هذا الكل من الحياة، والذي أطلقنا عليه تعبيراً أو اسم الأبدي لأنّه ببساطة عبارة عن النظرة المجملة لكل مجموع مراحل الحياة الماضية والحاضرة والمستقبلية، فإنّ لم أنجز الفعل الذي يتوجب عليّ فعله، لشعرت حياة العالم بنقص هذا الفعل. وكل إنسان منّا، يحق له مثل هذا القول. إنّ الأساس الذي أقمنا عليه نظريتنا في الحقيقة، والتي أقمناها على الأفعال، والأفكار، والحاجات المعلية لكل فرد منا، يعطي لكل فرد مكانه الفريد في نظام العالم.. والفعل الذي لا يمكن لغيره أن يقوم به والإرادة التي لا تخص، ولا تعبّر عنه “إن إرادتنا هي القدرة على تحقيق ذاتنا”. فوحدة العالم ليست محيطاً، نشعر فيه بالضياع، وإنما حياة تحتاج لوحدة كل حياتنا، وتعبيرها عن حياة واحدة، لقد حدد لنا الولاء هذه الوحدة، بوصفها وحدة حية ووحدة إيجابية. وحصلنا عليها من فهمنا الحقيقي لولائنا. ولا تتصف هذه الوحدة بالأبدية، إلاّ إذا شملت كل زمان، وكل تغيير وكل حياة وكل منّا. ولذلك عندما نصل إلى مثل هذه النظرة وطالما أنّها تشبع، مطالب الولاء، فإنّ ولاءنا يظل ذا قيمة، ومفيداً لنا عملياً وخدمة حقيقية للقضية، إنّ هذا الكل “لحياة العالم” لا يقترح علينا نوعاً من الراحة الخلقية،إنّه بالتحديد، عبارة عن حياة كلية من المساعي المثالية التي نحتل فيها، مكاننا بوصفنا نفوساً فردية، ولا يمكن أن نكون نفوساً حقاً، إلاّ إذا سعينا لإنجاز دورنا في هذا الكل.. وهكذا، وفقط تنظر فلسفتنا للولاء إلى العالم.
ولذلك وبالتحديد طالما أن الدين، يحاول إدراك العالم بوصفه حياة شخصية واعية لمعنى روحي مجاوز للإنسان، وبوصفه حياة، تتصل اتصالاً وثيقاً بحياتنا، فإنّه يكون صادقاً أبدياً. وكون أن هذه الحقيقة أبدية بالفعل وأن ولاءنا يجعلنا ندخل في علاقات شخصية مع حياة العالم الشخصية التي تقدِّر كلّ فعل من أفعال ولأننا ونحتاج في نفس الوقت لهذا الفعل، فكل ذلك يعد أمراً، معقولاً وصحيحاً. وهذا بالفعل ما يوضحه الدين توضيحاً صحيحاً.
[1]ـ العنوان الأصلي المستل منه هذا البحث:
The philosophy of Layalty - By: Josiah Royce- The Macmillance- New York 1930.
ـ عرَّب النص وأعده للنشر: جهاد زيدان.