البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

موسى وهبه راوياً هجرته إلى الفلسفة

الباحث :  أعد الحوار: خضر إبراهيم
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  5
السنة :  السنة الثانية - خريف 2016 م / 1438 هـ
تاريخ إضافة البحث :  November / 1 / 2016
عدد زيارات البحث :  1137
تحميل  ( 496.610 KB )
لم تأتِ قصته مع الفلسفة على نصاب المصادفة. كل شيء منها كان يمكث لديه بانتظار لحظة الظهور. حتى إذا تمت له دواعي القدر استطاب الإقامة في أرجائها لينصرف إليها جلّ المواقيت.

لا تُطلب الفلسفة عند موسى وهبه إلا لتعثر على أجوبة عن تلك الأسئلة التي تقلق راحة العقل. هو الفيلسوف الزاهد الذي لم يشأ من الفلسفة بعدما امتلأ بها، إلا أن يقتطف ما لم يكن  منها بحسبان. ما استساغ تكرار ما قيل من تفلسف الماضي والحاضر، وما يتوقع أن يقال على النشأة إياها في المقبل. لقد مضى في هجرته نحو القول الفلسفي ليكون له منه باب ضوء،  إلا أنه  دعا إلى الصبر لكي يولد المفهوم على أتمّه، حتى لا تشوب ولادته شائبة.

همّه التمهيد لقول الفلسفة بالعربية، وحين تسائله عن صلته بفيلسوف الحضور مارتن هايدغر الذي عرفه وعرّفه للطلبة والباحثين، يُشير إلى أن مسعاه هو تقديم هذا الفيلسوف ليكون مقروءاً بمنطق العرب ولغتهم.

معه كان هذا الحوار.   

  المحرر

--------------------------

الاستغراب:  حكايتك مع الفلسفة أشبه برحلة صداقة مديدة وشاقة وحميمة؛ هل لك أن تضعنا في مبتدإ الحكاية وما أنت فيه الآن، ولو على نحو الاقتضاب؟

موسى وهبه: جئتُ إلى الفلسفة بدفعٍ ظرفيٍّ منعني من متابعة شغفي بالرياضيات والكيمياء، لكنّي بقيتُ فيها واستطبتُ الإقامة بدفع ذهني: كان ما يُثار فيها من أسئلة، وما يندُر من أجوبة دعوة صريحة إلى المكوث في الأرجاء. وها أنا ذا ماكثٌ حيث يطيب المكوث والصبرُ على الأفهوم، أحاول التمهيد لقول الفلسفة بالعربية عسى أن يفتح القول بها أبواباً ما زالت مغلقة.

الاستغراب: لكأنك تريد بذلك الإشارة إلى تعثِرُّ جَرَيان الفلسفة في فضاء اللغة العربية.. لو كان ذلك هو المقصود، فإلى أي درجة يحملك تفاؤلك على فتح باب ما لولادة قول فلسفي جديد بالعربية المعاصرة؟

موسى وهبه: ليس التعثُّر، إن وُجِد، عائداً إلى اللغة نفسها، بل إلى من يباشر التفلسف بها بأهداف لا تتصل بالفلسفة كما أفهمها، أي توسل الفلسفة بهدف النهضة أو مباهاة الأمم مثلاً. الفلسفة تُطلب للبحث عن أجوبة عن الأسئلة التي تقلق راحة العقل. ومطلبي هو فتح آفاق جديدة للتفلسف بلغة لم تستنفد بعد إمكاناتها، كما هو الحال، على ما يبدو لي، في لغات الفلسفة المعاصرة.

ليست الفلسفة إخباراً

الاستغراب: قرأناك شارحاً أو مترجماً لمؤسِّسين من رواد الحداثة مثل هيوم، كانط، هيغل وهايدغر، كيف تعاملت مع هؤلاء، فضلاً عن غيرهم ممن حملك التدريس الجامعي على تقديمهم إلى طلاب الفلسفة؟

موسى وهبه: التعليم في الجامعة تعلّم أيضاً. فالجامعة، بصحيح المعنى، هي المكان الذي تدخله لتتعلم، وتبقى فيه لتتعلم، لأن التعلم لا نهاية له، على عكس المعاهد العليا حيث تتعلّم لتتخرّج بعد ذلك وتعمل؛ ليس بوسع السلطات القصيرة النّفَس أن تتحمّل عبء الجامعة لذا تجهد في تحويلها إلى معهد عال. وعليه، كان تعليمي للفلسفة في الجامعة تعلّماً وتمرّناً على التفلسف في الوقت نفسه، وأردتُ لهذا التمرّن أن يكون بالعربية، لا بلغة من لغات الحواضر الفلسفية؛ لأنّ على التفلسف في بيروت أن يكون تفلسفًا في حاضرة، على ما أرى، وليس في ريف من أرياف الحواضر الأخرى.

على تعليم الفلسفة في بيروت أن يتمّ بالعربيّة إذًا، لكنّ تعليم الفلسفة ليس إخبارًا يُخبر ولا حكايةً تُروى، بل هو نصوص تُستقرأ إن لم أقل تُعاقَر. وندرة هذه النصوص بالعربية وعدم جودتها غالبًا كانا يدفعانني إلى القيام بترجمة بعض النصوص الرئيسة، وكنت أرى إلى ترجمتي بوصفها تمريناً على قول الفلسفة بالعربية. وكان على هذا التمرين أن يجري على نصوص غير مألوفة بعد: لم أترجم شيئًا عن الفلسفة اليونانية ولا حتى عن ديكارت؛ لقد سبق أن تمرّست العربية بمثل هذه النصوص، وأنا اخترت النصوص التي تشتغل بمصطلحات جديدة.

الاستغراب: كل هذا يدخل في شغفك بضرورة تلبية الجواب عن سؤال جوهري طرحته على نفسك، وهو إمكان التفلسف بمنطق العربية. كيف تعاين تداعيات هذا السؤال، وأي منهج تعتمده للوفاء بالجواب عنه؟

موسى وهبه: سبق أن قلتُ إنّ العربية، على ما يبدو لي، لم تستنفد كل إمكاناتها من حيث المعاني الممكنة، وإنّها قد تصلح لتنطق بفلسفة ملائمة لعصرنا المأزوم عليه؛ وكلّ ما يمكننا   هو أن نتابع التمرّن على قول الفلسفة بالعربية عبر الترجمة والشرح والاشتقاق المتيسّر، بانتظار الفيلسوف المحتمل.

الجدل أداة تسلّط لا أداة معرفة

الاستغراب: ليس لنا أن ننسى ما كتبته ذات يوم في هجاء هيغل. كان ذلك في مفتتح العدد الأول والأخير من فصلية «فلسفة» لما  أقمت حواراً افتراضياً بين الرجلين تحت عنوان: «مديح المثنى.. أو كانط ضد هيغل». من يقرأ النص يجدك مع كانط بلا شروط، وضد هيغل كما لو كان خَصْمَا لك بلا هوادة. ما هذه القسوة على هيغل، والى أي سبب تعود.. حتى ليكاد يمضي بنا الانطباع إلى أن اللعبة الفلسفية التي أدَّاها أودت بالعقل الغربي إلى سوء الخاتمة؟

موسى وهبه: لم يكن ذلك هجاء، فليس الهجاء بضاعة فلسفية؛ كنتُ في الواقع أتابع التمرّن، قلتُ «ألعب كنط ضدّ هيغل» لأرى ماذا ينتج لو أُعطيَ كنط الكلام ليدافع عن نفسه. أضف أنني لا أستسيغُ نقد الثنائيّة المعمّم لصالح الوحدة الجدليّة، وأحسبُ أن الجدل أداة تسلّط لا أداة معرفة. لعلّه يمكن قراءة هيغل قراءة أخرى غير تلك الشائعة والتي بُنيَ عليها في السياسة والفلسفة والاجتماع. لستُ إذًا خصمًا لهيغل، بل أراني أفكّر بطريقة مختلفة عن الطريقة التي تقرأ هيغل على نحو معيّن بات شائعاً. وإذا كان ثمة من خصومة فكرية فهي مع المفكّرين بالعربية الذين يتغرغرون بنقد الحداثة، أو يظنّون أنهم ينافحون ضدّ الهيمنة الغربية، وهم في الواقع يرددون ما ينتجه هذا «الغرب» نفسه وكنت قد قلت من زمان: «كمن يحتمي في حضن أبيه من ضرب أبيه».

الاستغراب: ما زلنا نتوقع أن توضح لنا دلالة عنوان مقالتك «مديح المثنى».. لقد ذكرت من قليل أنك لا تستسيغ نقد الثنائية لصالح الوحدة الجدلية، لأن الجدل كما تصرِّح هو أداة تسلط لا أداة معرفة، هل هذا يعني أنك وجدت ضالَّتك في فضاء المثنى؟ وإذا كان هذا هو ما تقصد، فما الذي تعنيه بالمثنى؟

موسى وهبه: اللجوء إلى المثنى تعبير عن الضيق بالجدل الهيغلي، وتجريب ممكن لمنظورية مختلفة تخرج العقل أخيراً من تعوّده وحدة الضدّين وانتساخهما في ثالث من ثمَّ. بل تجريب قد يحلّ كل تلك الجدالات المعاصرة حول إمكان الخروج من الأنا وحديّة إلى البَيْذويّة. ولعل هذا التجريب ممكن اليوم بالعربية بوصفها اللغة الما تزال حية، والحاملة لصيغة المثنى بل تلك التي تُعنى بالمثنى عناية فريدة منذ "قفا نبكِ". وتعطيه علامة الألف والنون التي يمكن إدخالها على أيّ إسم بحيث يعلو على الصرف ويصير علماً، أو يعامل معاملة المفرد فيحتفظ بألفه ونونه، إلا في حالات استثنائية مثل إيّان مثنى إيّ في إيّاك أعني وإيّاه أستعين إلخ.. ويصاغ على فِعلان وفُعلان والصفة منه فَعلان: مثال الميزان بكفتين والعرضان أو الطولان (الطول والعرض) والثعبان (الذكر والأنثى) والإنسان (أيضاً للمرأة وللرجل).

الاستغراب: رأى البعض أن وقوفك على أعمال هايدغر أخذ منحى خاصاً من اهتماماتك سواء على مستوى الترجمة، أم بما يتصل بالمكانة التي تتصدرها فلسفته  في المشروع الفلسفي الغربي.. ما الذي حملك على ذلك، هل اهتمامك به عائد إلى استشعار ما، بهوىً مشرقي لديه.. أو باستقراء خفيٍّ لروح الشرق وقد اتخذ إليها مسرباً من غير إعلان؟

موسى وهبه: بداية أوضح أنّ الشرق يبدأ من الهند وشرقًا، وأنّ العرب غربٌ بالمعنى الفلسفي، حيث أرى أنّ ما يعيّن الغرب فلسفياً هو واحديّة الحقيقة والسعي إلى نشرها (التوسعية)، وتسخير الطبيعة لصالح الإنسان. وصحيح أنّه يمكن أن نستشفّ عند هايدغر الثاني «هوى» شرقياً من حيث نقده للتكنولوجيا، إلا أنه يظلّ الابن الوفيّ للقرن العشرين الأوروبي، قرن نبذ الميتافيزيقا والتبرؤ منها بأيّ ثمن، القرن الذي وصفتُه ذات مرة بالقول إنّه «قرن بلا روح». هذا لا يعني أنّي أخاصم هايدغر أو أنصره، بل أنّني أسعى إلى أن أفكّر بطريقة أخرى، طريقة تعيد الاعتبار إلى الميتافيزيقا، وتعيد كرامة الإنسان المسلوبة منه، وبخاصة مع إعلان موته وموت الذات المريد الحر الواعي، ورفع هذا الإعلان راية فلسفية تظلّل فلاسفة «عصر الريبة» ومن لحق بهم من مفكّرينا الميامين.

لكن هذا الاختلاف في طريقة التفكير لا يعني مقاطعة نصّه، بل على العكس، السعي إلى جعله مقروءًا بالعربية بالتمرّن على قوله، ومحاولة فهمه وتفكير مقولاته بدفعها إلى حدودها القصوى. والانشغال بذلك يتّخذ ولا بدّ حيّزاً ملحوظاً بالنظر إلى صعوبة مصطلحاته وجدّتها.

الاستغراب: نعود إلى عنايتك بالجانب المتصل بالتلقي العربي لفكر هايدغر. هل فُهِمَ الرجل عربياً كما ينبغي، خصوصاً أنه كان مفرط الحساسية حيال قرائه وشارحيه من غير الألمان لا سيما الفرنسيين الذين قذفهم بالجهل لأنهم لم يفقهوه، أو لأنهم ما استطاعوا ذلك؟ كيف بدا لك المشهد الهايدغري عند العرب المعاصرين، وما ملاحظاتك عليه؟

موسى وهبه: حين تمارس التفلسف حبًّا بالتفلسف تقوم بمحاولات ما، لكنّك تقوم بغيرها حين تمارسه لأجل غاية أخرى: بهدف النهضة مثلاً، أو بهدف المباهاة شخصية كانت أم لغوية، أو تلبية مأجورة لدوائر لا تملك ناصية فيها. مباشرة هايدغر بالعربية عرفت كلّ هذه مجتمعةً؛ في الغالب لم تكن حبًّا بالتفلسف، وهي، باستثناء قلّة قليلة، جاءت كارثية  من حيث لم تكن جديرة بالمباهاة وإن كانت جديرة بالأجر المسخ، بسبب من قلق العبارة، واضطراب المصطلح على ما هو مبيّن ومفصّل إلى حدّ ما في بحثي الموسوم «هايدغر بالعربية». عرب العصر لم تستطع أن تجعل هايدغر نصاً مستساغاً وذا تأثير مبين في التفكير بالعربية اليوم. لكنّ ذلك ينطبق على معظم الفلاسفة المعاصرين بسبب من غياب استراتيجيا تنشغل بمسألة: «كيف يمكن قول الفلسفة بالعربية اليوم؟» استراتيجيا تتصدى لمهمّتين: استيضاح معنى الفلسفة، وإخراج المؤلفات الكاملة لأشهر فلاسفة العصر بدءاً.

العناية بالمصطلح الهايدغري

الاستغراب: قد يكون هايدغر أكثر فلاسفة الغرب المحدثين استدعاءً للتأويل. لعل ما يسمى فرادة المصطلح الهايدغري المثقل بغموضه وضبابيته هو ما ولّد مثل هذا الانطباع، ما الذي تراه من هذا الوجه؟

موسى وهبه: يدخل هايدغر حلبة الجدال الفلسفي في «آخر الأزمنة» إن صحّت التورية، يأتي بعد نيتشه وهوسٰرل، من جهة في عالم ماركس، على حدّ تعبيره، ومن جهة أخرى في زمن النيوكانطية  والوضعية المنطقية، وهو بدأ الظهور على المسرح الفلسفي كمتابع لهوسٰرل ومعدّل للفيمياء التي أسسها هذا الأخير. في كتابه الرئيس الأوّل «الكون والزمان» كانت مركزية الإنسان ما زالت منطلقاً لاستدراك ما فات ولتأسيس أنطولوجيا أساسية (اسم الميتافيزيقا «الحركي» لعبور «حواجز» كلّ أصناف الوضعيين) يمكن أن تعيّن جواباً عن «السؤال عن معنى الكون».

لكن هايدغر سيعدّل  مساره (سيسلك دروباً أخرى)، سيسحب الاهتمام بالأنطولوجيا نهائياً، وسينسحب الـ«دازاين» من مركز الحلبة تدريجاً إلى أن يختفي نهائياً؛ ويصير «السؤال عن معنى الكون» مجرّد «سؤال الكون»، إلى أن يرتفع السؤال جملة ويصبح المطلوب الإصغاء إلى نداء الكون. فمن الطبيعي، والحالة هذه، أن يتعقّد المصطلح ويضطرب إن لم ننتبه إلى اختلاف الدروب.

ليس المصطلح الهايدغري أكثر «غموضاً وضبابيّة» من مصطلحات سواه، إلا أنه أكثر جدّةً وأغرب وقعًا على الأذن الفلسفيّة الكلاسيكيّة. وذلك لأن هايدغر ينهل من عالم المعيش والحياة اليومية، ولا يتوانى عن دفع كلمات عادية إلى مستوى المصطلح، ونقد مصطلحات قائمة، والتشكيك بأهليّتها استناداً إلى الأصل اليوناني، ويظهر شغفاً خاصّاً بتحويل الفعل والظرف إلى مصادر نوعيّة، مثل الـ «كان» = الكون، الـ «حلم» = الحلم، الـ «فكّر» = التفكير الخ...  

الاستغراب: «الدازاين» في تعريفه وفهمه، مصطلح يشهد على غموض ورمزية النص الهايدغري، قيل فيه ما لا حصر له من التعريفات. إلا أنه ظل مصطلحاً إشكالياً عند المهتمين بهايدغر، حتى لدى أقربهم إليه. كيف تناهى إليك هذا المصطلح وكيف فهمته؟

موسى وهبه: «الدازاين» ليس من اختراع هايدغر، وهو يرد عند سابقيه بمعنى وجود في مقابل ليْس أو لا وجود (المقولة الثانية من مقولات الجهة عند كانط)، وبمعنى الوجود الماهوي بخلاف الوجود الحسي (الوجود في الأذهان بخلاف الوجود في الأعيان، على ما تقول العرب) في منطق هيغل؛ لكن هايدغر يحمّله شحنة معان أخرى، ويخصّه بالوجود الإنساني في حين يشتقّ له ميزات جديدة من الوجود بلفظه اللاتيني: آكزِسْتنسْ (existence). والواقع أنّ اللفظ الألماني Dasein مصدر صناعيّ من أداة الإشارة Da (بمعنى ههنا وهذا)عبر إضافة الملحق sein (وهو فعل «كان»، أما مصدره النوعي كون فيكتب بحرف التاج (das Sein). ولما لم يكن بوسع اللغة الفرنسيّة اشتقاق مصدر صناعي من أداة الإشارة كان أن ترجم  اللفظ الهايدغري بـ l’être-là، وبدأت مأساة الترجمة إلى العربية استناداً إلى ما فهم من اللفظ الفرنسي: الكائن- هنا الذي كان يمكن أن يقرأ le fait d’être-là. وكنت مذ تنبهت إلى ذلك عمدت إلى صياغة المصدر الصناعي من هوذا فقلت هوذيّة للوجود الإنساني، وهوذا للإنسان، رغبة مني في إظهار صلة القربى مع الآية: «هوذا ابني الحبيب الذي به سررت» للإشارة إلى ماضي هايدغر الكاثوليكي وشغله على دنس سكوت. لكنّي في النهاية أحسب أن هٰذيّة  تؤدي المطلوب بإزاء دازاين وبخاصة أن هٰذيّة مصطلح عربي انتقل إلى اللاتينية بصورة heacceitas.

لا مناص من الميتافيزيقا

الاستغراب:  ما قيل عن عسر فهم المصطلح الهايدغري لا يعود فقط ـ كما يبدو لنا ـ إلى جرأة هايدغر في الحفر داخل عالم المفاهيم، بل أيضاً إلى غموض الغاية من مشروعه الفلسفي ككل... بكلمات منك: ما الذي أراده هايدغر لو اتفقنا مع من يزعم أن ميتافيزيقا الحداثة وصلت على يديه إلى خواتيمها غير السعيدة؟

موسى وهبه: ما أراده هايدغر قد تبدل تبعاً للدرب التي قطعها، فهو نفسه يتحدّث عن انعطاف في تفكيره يتوافق مع مرحلة صلته الغامضة بالنازيّة، ويتبدل أيضاً بعد سقوط النازية، حيث يبرز نقده للأنسيّة وإعلانه نهاية الميتافيزيقا أي نهاية عصر «نسيان الكون، ونسيان هذا النسيان» بسبب من انحجاب الكون في عصرها، وانتهاء الفلسفة ومن بعدها بوار التفكير والدخول في عصر الإصغاء لـ«نداء الكون».أما عسر المصطلح فيعود جزئياً إلى تعدد الدروب التي سلك، وتعقّد الأسلوب، لكنّه يعود كليّاً إلى قلة صبر المترجمين على المكوث في الأفهوم.

الاستغراب: دعنا  الآن نمر على بعض أحوالنا: لقد شكلت مقولة «نحن والغرب» قضية محورية في صياغة اتجاهات التفكير في العالمين العربي والإسلامي في الحقبة المعاصرة، ما الذي تقولونه حيال هذه الثنائية الملتبسة، والمثيرة للإشكال والمساجلة في الوقت عينه؟

موسى وهبه: دعني أذكّر بدءًا بمعنى الغرب الوارد أعلاه. وأقول إنّ ثمة التباساً كبيراً جرّاء ما يسميه ابن خلدون: تقليد المغلوب للغالب، التقليد الذي صار مهزأة نتيجة لعدم أخذ فارق التوقيت بعين الاعتبار. وآخر فصوله نقد «الغرب» بمقولات ينقد  فيها «الغرب» ماضيه، ماضي الحداثة التي يسعى «الشرق» إلى أن يتمثلها. خذ مثلاً، المهندس المعماري المتخصص في بلاد الضباب حين يعود ويطلق في بلاد الشمس ناطحات سحاب من حديد وزجاج؛ هذا ما أسميه مهزأة: معظم نقاد الغرب يقومون بما يقوم به هذا المهندس المعماري.

الاستغراب: هل سيأتي على العالم العربي ذلك اليوم الذي يتمحور فيه النقاش بين نخبه حول ضرورة العثور على منطقة معرفية وسطى تنهي حالة الفصام التفكيري التي طال أمدها في مجتمعاتنا؟...مرجع سؤالي  جدل يأخذ مداه راهناً في الغرب حول ما يسمونه عالم ما بعد العلمانية. من سمات هذا العالم الافتراضي أنه لا يعني إزالة العلمانية مثلما لا يعني الاستمرار في استبعاد الدين من المجال العام، وإنما في التوليف بين الأمرين.. كيف تعلّق؟

موسى وهبه: لستُ ضارب ودع لأتوقّع ماذا سيحصل في العالم العربي أو العالم الهندي. وأحسب أنّ أيّ تغيير أو انتقال جدّي من حال إلى حال رهن بتغيير طريقة التفكير أي بالفلسفة التي يبادرها فيلسوف ما بلغة العالم المطلوب الانتقال فيه من حال إلى حال، فيلسوف يأتي لا أحد يعرف كيف ولا متى.

وبانتظار ذلك، فإنّ ما أودّ التركيز عليه هو أنّ المجتمعات في هذين العالمين مجتمعات متنوّعة عرقيّاً وطائفيّاً، وأيّ نسيان لذلك الأمر يوصل إلى الاستبداد مثلما يوصل إليه إهمال مشاعر المواطنين وعلاقتهم بالمقدّس. مؤخّراً، يجري الكلام على الدولة المدنية كبديل من الدولة العلمانية، فيا حبّذا لو كان ذلك ممكناً بدلاً مما هو قائم، لكن ما تزال فكرة الدولة المدنية ضبابيّة، وبحاجة إلى تفصيل خصوصاً موقفها من التنوّع العرقي والطائفي ومن علاقة المواطنين بالمقدّس، وبكلمة موقفها من شرعة حقوق الإنسان والمواطن.

إن شرعة حقوق الإنسان والمواطن التي أقرّتها الأمم المتحدة إثر انتهاء الحرب العالمية الثانية هي الخطّ الأحمر الذي أرتضيه في السياسة، وأرفض تخطّيه تحت أيّ ذريعة. ولا يضير ذلك أنّ بعض القوى العالمية طالما ارتكبت، باسم الدفاع عن هذه الشرعة، معاصي سياسية مُدانة ومًستهجَنة، مثلما لا يضير الإيمان الديني أن ترتكب قوى التكفير والإرهاب اليوم معاصي دينية مُدانة ومًستهجَنة باسم الدفاع عن الدين.

الكوجيتو المنشود

الاستغراب: من سؤالك الذي تطرحه على نفسك في غير مناسبة وموضع: أي ميتافيزيقا لهذا العصر؟ يبدو لنا وكأنك تريد موضعة الميتافيزيقا على نشأة أخرى.. ما الميتافيزيقا التي تستجيب برأيك لأسئلة النهائيات في مستهل القرن الحادي والعشرين، وما طبيعتها؟..

موسى وهبه: أودّ بداية أن أوضح أن ما أسميه ميتافيزيقا هو مجموع الآراء والفروض والمزاعم المتعلّقة بما يتخطى التجربة (بما وراء الطبيعة). وعليه، ثمة ميتافيزيقا معلنة عند معظم الفلاسفة وهي تلك التي جرى نقدها من قبل المعادين المعلنين لها، وثمة ميتافيزيقا مضمرة أو غير واعية عند جميع الفلاسفة بلا استثناء، مثلما ورثنا عن اليونان: ـ لا يدرك الشبيه إلا الشبيه؛ ـ كلّ ما يبدأ ينتهي الخ... أو ما تبني عليه الأمپيرية: ـ العقل صفحة بيضاء؛   الثقة بالقوانين العامّة مجرّد تعوّد ذهني الخ... أو مضمر هيغل: ـ ليس هناك سوى المثال والطبيعة مجرد تمظهر له والتاريخ مجرى هذا التمظهر الخ... أو معلن هايدغر نفسه: ـ الكون ينكشف وينحجب؛ ـ اللغة بيت الكون، في ملجإ البيت يكنّ الإنسان الخ...

لا مفرّ إذن للعقل المفكّر من الميتافيزيقا،: من طرح فروض تتخطى حدود التجربة وتشكل خلفية يستند إليها في إدامة النظر، واتساق العمل، وتهذيب الذوق، وأخيراً في إعطاء معنى للسعي البشري.

 الاستغراب: اسمح لنا بهذا السؤال الأخير: لو كنت تبحث عن «كوجيتو« ينظّم مسعاك إلى القول الفلسفي بالعربية، ووجدته، فما هي ملامحه بعد كل المجهودات التي بذلتها، وإلى أي حد سيسهم مثل هذا «الكوجيتو« في تحويل فَرَضية «إمكان القول الفلسفي العربي» إلى فعل سارٍ في الزمان والمكان العربيين؟

موسى وهبه: لست في وارد البحث عن «كوجيتو« ما. وما لديّ الآن لا يرقى إلى مستوى السستام بل يتلخص في مزعمين:

أنطولوجيّاً، أزعم أن بنية الكائن هي المثنى بدءًا من الكائن البشري (بعينين ومنخرين ورئتين الخ...) وصولاً إلى كلّ كائن قائم بما فيه كائن الفيزياء الكوانتية.

أبيستميًّا، أزعم أن جهلنا يتزايد بتزايد علمنا، حيث أن ما يُعلم لا يتناهى، وحيث أنّ الجهل يشبه الظلمة المحيطة بدائرة نور العلم.

الاستغراب: جزيل الامتنان.



---------------------



من سيرته الذاتية

الشهادة: دكتوراه الدولة في الآداب، السوربون 1974 بدرجة مشرّف جدّاً.

اللقب الجامعي: أستاذ في الفلسفة.

الخبرة التدريسية: 38 عاماً من التدريس الجامعي والإشراف على رسائل جامعية.

مجال التدريس والبحث: الفلسفة الحديثة والمعاصرة، والفلسفة العامة.

ـ له عشرات المؤلفات والأبحاث والمحاضرات والتعليقات الفلسفية.

ـ أبحاثه المنشورة تتوزع على محاور خمسة:

1ـ في الفلسفة الحديثة والمعاصرة.

2ـ في الحاجة إلى ميتافيزيقا لعصرنا.

3ـ في نقد الحاجة إلى السياسة.

4ـ البعد الفلسفي بالعربي اليوم.

5ـ مجموعة نثرية في الحبّ والحياة والترحال وسكنى المدينة والأدب الفلسفي.

ترجم بخاصة: نقد العقل المحض لكانط، ومبحث في الفاهمة البشرية لـ هيوم، ومباحث منطقية لـ هوسرل. وترجم بالاشتراك: الدين والدولة عند ابن خلدون لـ جورج لابيكا، وما وراء الخير والشرّ، تباشير فلسفة للمستقبل لـ نيتشه. وترجمة لم تنشر بعد: الجملة واللاتناهي، لـ ليفيناس.

ـ شارك في مؤتمرات فلسفية عدة في لبنان وتونس والكويت واسطنبول وبغداد والجزائر.

ـ من مؤسسي "الهيئة العربية لحقوق الإنسان" (1983).

ـ أسّس ورأس تحرير "نهار الكتب".

ـ من مؤسسي "اللقاء الفلسفي" ومجلّة "فلسفة".

محورا تفكيره الفلسفي:

ـ إمكان التفلسف بالعربية اليوم.

ـ أيّ ميتافيزيقا لهذا العصر؟