البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

هل كان هايدغر صوفياً؟

الباحث :  جيف غيلفورد
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  5
السنة :  السنة الثانية - خريف 2016 م / 1438 هـ
تاريخ إضافة البحث :  November / 1 / 2016
عدد زيارات البحث :  1390
تحميل  ( 290.929 KB )
يظهر مما تذهب إليه هذه المقالة أن الفكر الصوفي والفكر الهايدغري يسعيان نحو هدف واحد، وإن بتسميات مختلفة. ما يدعو إلى مثل هذه النتيجة، أن طريقة هايدغر في السعي للوصول إلى غايته مبنية على الأسس نفسها التي يعتمدها الصوفيون من كل تراث. وهذا يعني منطقياً أن هايدغر كان صوفياً!!.

ذاك ما وصل إليه كاتب المقال من خلال اكتشاف نقاط التشابه، بل التماهي بين المنظومتين. ومهما يكن من أمر، فليس لنا إلا أن نقرأ ما ذهب إليه لنتبيّن مُدَّعاه..

المحرر

--------------------

تهدف فلسفة هايدغر إلى إرشاد القارئ  إلى تجربة الكينونة. لأن الكينونة لا تفهم بوصفها شيئاً، بل بوصفها ما «يتسامى» فوق الأشياء، الذي يكون الحديث عنه والتفكير فيه بطريقة تقليدية مستحيلاً. هذا الهدف شبيه بشكل لافت بعدد من أهداف التقاليد الصوفيه الأكثر شهرة في العالم، وهو يثير السؤال التالي: هل كان هايدغر صوفياً؟ سأحاول في هذه العجالة الإجابة عن هذا السؤال من خلال مقارنة الطرق التي يعتقد هايدغر فيها أن تجربة الكينونة يمكن أن تتماهى مع الطرق التي اتبعها الصوفيون من ثقافات مختلفة ليصلوا إلى تجربة المتعالي. بعد تبيان الشبه الكبير بين طرق هايدغر وطرق الصوفيين، سأصل إلى نتيجة أن هايدغر صوفي، وأن التجربة التي يأمل أن يساعد الناس في بلوغها هي ربما التجربة نفسها التي كافح المتصوفة تراثياً لبلوغها. 

«يوجد تفكير أكثر دقة من التفكير النظري» كما يقول مارتن هايدغر.

«التاو بعيد وليس بعيداً. كيف أعرف هذا؟ أنظر في داخلي.» لاو تسو.

يعترف الجميع، أن فهم الغاية من أبحاث هايدغر الفلسفية ليس أمراً سهلاً. فعندما يطرح علينا سؤاله، «ما معنى الكينونة؟» يبتسم عدد منا لسؤال بهذا المستوى من السذاجة. «الكينونة واضحة»، نضحك، وربما نشير إلى صخرة من أجل إثبات فكرتنا. لكن تلك الصخرة بالنسبة لهايدغر، وبالفعل أي شيء آخر، ليست الكينونة، هي كينونة. الكينونة ليست شيئاً، بل هي ما «يتسامى» فوق الأشياء، «التعالي الخالص والبسيط» (Letter on Humanism،251). من دون الكينونة، لا شيء يمكن أن يكون. لكن عندما لا يكون واقع الكينونة شيئاً، ولا موضوعاً، يصبح الحديث عنها صعباً، لأن بنية اللغة تلزم ما نتحدث عنه مهما كان أن يكون في حالة من الموضوعية. ففي عبارة، «البيت ليس أحمرَ» يبدو البيت كشيئ يفتقر إلى الحُمْرة. وعلى نحو مشابه، في عبارة «الكينونة ليست شيئاً»، تبدو الكينونة كموضوع يفتقر إلى صفة الشيئية. لكن هذا إساءة فهم، وعلينا أن نتعلم التفكير بطريقة مغايرة إذا أردنا فهم وتجربة الكينونة. باختصار، هذا هو الهدف الرئيسي لفلسفة هايدغر: فهو يأمل في إرشاد من سيستمعون إليه إلى صيغة جديدة من التفكير والحديث، يُفكَّر فيها بـالكينونة بشكل كامل ويُتحدّث عنها بوضوح، وبالتالي تُختبر بشكل صحيح. يقتضي هذا الهدف نقداً للميتافيزيقا، التي يتحدّث عن إساءة لفهمها في الغرب، حيث فُهمت أنها الفكر ذاته منذ زمن أفلاطون، والتي يعلن أنها يمكن أن تتعامل مع الكينونات فقط وليس البتة مع الكينونة. يقترح طريقة مختلفة لمقاربة الكينونة كبديل للتفكير الميتافيزيقي. لكن هايدغر ليس أول من يتخلّى عن المشروع الميتافيزيقي لمتابعة حقيقة أساسية بوسائل بديلة. في الواقع هذه المتابعة كانت موجودة منذ على الأقل وجود الميتافيزيقا ذاتها، وكانت تسمى تصوّفاً.

يرفض الصوفيون، مثل هايدغر، التفكير الميتافيزيقي كوسيلة للسلوك إلى المطلق، ويبحثون عن طرق مختلفة يمكن أن يسلكوها.

سوف أبين أن التآلف بين فلسفة هايدغر والفكر الصوفي عميق جداً وتام، بحيث يمكن للمرء وسم فلسفة هايدغر بالفلسفة الصوفية. ففي قلوب الصوفيين وفلسفة هايدغر معرفة مباشرة بالحقيقة المطلقة كهدف نهائي، لكن بما أن كينونة هايدغر ومطلق الصوفيين متعاليان ويفوقان الوصف، وكذلك يستحيل التعبير عنهما باللغة العادية، لا يمكن إجراء مقارنة مباشرة بين هذين الهدفين. سوف أستعيض عن ذلك  بمقارنة الطرق التي يدّعي هايدغر والصوفيون أن المطلق يمكن أن يُدرَك ويُقارَب من خلالها. لأن هناك عدداً كبيراً من التشابهات الدقيقة بين طرق هايدغر وطرق الصوفيين، سأصل إلى نتيجة أن فلسفة هايدغر هي  في الحقيقة تصوّف، ومن المعقول التفكير أن تجربة الكينونة التي يسعى هايدغر لإرشادنا إليها، هي أساساً تجربة المطلق نفْسُها الذي يكافح الصوفيون من كل الثقافات بجد للوصول إليه.

قبل البدء بالمقارنة، علينا أن نقف لحظة لتوضيح ماذا نعني بكلمة تصوّف. عادة في دائرة الفلسفة تستعمل الكلمة كإهانة لنظام قدّر له أن يكون غامضاً ووجدانياً أكثر مما ينبغي. في هذه الورقة لا أقصد أي ازدراء من هذا النوع، وبالفعل، عندما يحصل نظام على اسم الصوفية، وإذا أردنا أن نعتبره شيئاً فإننا نعتبره شرفاً. فهذا الاسم قد يدل على مشاركة هذا النظام في واحد من أقدم أنظمة الفكر الإنساني العقلي والروحي وأكثرها وقاراً. ربما يكون هايدغر نفسه قد رفض أن يُطْلَق عليه لقبُ صوفي، لكنه بالتأكيد لم يكن معادياً للتسمية، لأنه هو ذات مرة قال إن «كل العمق والدقة الفكرية موجود في التصوف الحقيقي العظيم.» (Caputo،6).

ويبقى السؤال، ما هو التصوف؟ لاشك، أنه سينتج من خلال تعريف موجز لهذه الظاهرة الغنية والمتعددة الثقافات تعميم مبالغ فيه، لكن لسوء الحظ تتطلّب حدود هذه الورقة أن نطرق الموضوع بايجاز، وبالتالي، أعرض التعريف الذي طرحته خبيرة بارزة في الموضوع، أفلين أندرهل Evelyn Underhill، التي تقول إن «ما يسمّيه العالم «تصوّفاً» هو علم المطلقات... علم الحق الواضح بذاته، الذي لا يمكن «التفكير فيه بالعقل»...» الصوفي هو من يتوق إلى معرفة من الدرجة الأولى بما هو مطلق، لكنه يدرك أن المطلق قد لا يمكن معرفته من خلال استخدام العقل فقط. فالمتصوّفة لا يرون في التفكير العقلي، كقاعدة عامة، دليلاً كافياً إلى الروح، ولذلك يستعملون أنواعاً أخرى من النشاط العقلي لكي يقاربوا المطلق المحيّر. لكل ثقافة نصيبها من التصوّف، ورغم اختلاف الأسماء التي أطلقت على المطلق والطرق التي يُسلك إليه من خلالها، يبقى جوهر كل ثقافة متوافقاً مع تعريف أندرهل. يبحث فيدنت يوغيس عن الموكشا (إدراك اتحاد الأتمن بالبراهمن) من خلال ممارسات تأملية وزهدية؛ وتسعى بوذية الزن إلى الوصول إلى ساتوري (الوعي الكوني) من خلال تأمل صارم تزول من خلاله ثنائية التفكير كلياً وإرادياً من ذهن السالك؛ يسعى الصوفيون إلى تجربة «انتقال الروح» (تجربة مباشرة للمقدّس) من خلال العيش  بعزلة، ومن خلال الفقر والتقوى، التي يقصد منها  (تحرّر) القلب من كل ما هو غير الله» (James،455)؛ ويسعى القديسون الكاثوليك، إلى اتحاد الروح بالله من خلال الصلاة، والتأمل والصوم. هذه فقط عيّنة قليلة من فروع التصوّف الأكثر شهرة، ولكن يمكن للَّائحة أن تطول بشكل غير محدد. السؤال الآن، هل يسعى الهايدغريون إلى خوض تجربة حقيقة الكينونة من خلال «التفكير التأملي» والانفكاك عن عالم الأشياء، والتمايز عن الإنسان، ويشاركون أيضاً في التقليد الصوفي؟ (Discourse on Thinking،46). المقارنة الأكثر تفصيلاً بين الهايدغرية والفكر الصوفي قد تجيب عن سؤالنا.

أول شبَه قوي موجود بين الطلب الصوفي للمطلق والطلب الهايدغري للـكينونة هو أنه حتى قبل الوصول إلى فهم حقيقي للمتعالي وتجربته، يمكن استشعاره بطريقة أولية وجزئية. إن «التذوّق» الأولي للمتعالي هو الذي يحفّز البحث اللاحق والحماسي وأحياناً المدهش عن الإدراك الكلي له. يوجد في التراث الصوفي وفي الفكر الهايدغري مستويان من هذه التجارب الأولية للمطلق، أقلهما هي تجربة لطيفة لكن تختبر بشكل عام، وأعظمهما، يتغيّر من خلالها فهم الشخص الكلي للعالم، وتشتعل رغبة جامحة حتى لتجربة أكثر كمالاً.

تسمّي أفلين أندهرل في دراستها العامة للتصوف «القدرة على فهم الحقيقة المتعالية» قدرة كامنة في داخل الجنس البشري. وتقول «قلّة من الناس يمرّون في الحياة من دون معرفة معنى التأثر بالشعور الصوفي» (Underhill،73). قد يكون مشهد الشمس من قمم جبال بعيدة، أو صوت سمفونية معانقة حبيب مفقود من فترة طويلة، أو مشهد فقير متألم، سبباً لهذا «الشعور المتعالي الذي يتدفّق من جزء آخر من النفس ويهمس للفهم والحواس بأنهم غافلون عن شيْءٍ ما». هذا الشعور مألوف لكثيرين، لكن ما يميّز الصوفيّين عن العامة هو الانسجام الاستثنائي معه. أما بالنسبة للشخص العادي فيمكن لهذا الشعور أن يكون تثقيفياً لفترة قصيرة، ويبقى في أحسن الأحوال تتمّة لحياة قائمة في صميم العالم الطبيعي. من جهة أخرى، بالنسبة للصوفي، تكون تجربة هذا الشعور مكثفة جداً بحيث إنه عندما يحصل يبدأ بإعادة تنظيم كاملة لرؤيته العالمية وإعادة توجيه لأولوياته حول الحقيقة المتعالية التي تكشفها له التجربة. تدعو أندرهل هذه التجربة التبصّرية صحوة، وتقول: هذا هو تقريباً دائما الباعث للسفر الصوفي من «الجسد المادي...إلى الأمور الروحية». وتصفها بالطريقة التالية:

تشتمل الصحوة عادة على إدراك مفاجئ متبصّر لحقيقة العالم العظيمة والبديعة ـ أو أحياناً لوجهها الآخر، الأسس الإلهي في قلب الأشياء ـ التي لم تفهم من قبل. بقدر معرفتي بمصادر اللغة، لا يوجد كلمات يمكن أن تصف هذا الإدراك[2]. عالم المدركات الماضية في واقعه لا يمكن أن يكون إلا ضبابياً في أحسن الأحوال، غيّر الوعي إيقاعه فجاة وانبثق وجه آخر من وجوه الوعي، وانقشع الضباب وكشف المعالم الواضحة للتلال الخالدة.

يلقي هذا الاقتباس الضوء على ثلاثة أوجه أساسية لتجربة الصحوة: إنها مفاجئة وقوية؛ تؤدي إلى ترك العلائق الدنيوية؛ وتثير قوة دفع شديدة نحو معرفة إضافية بما تم كشفه في التجربة. يهمنا أن نتذكر أنه بينما توصف تجربة اليقظة بأنها محرِّرة وتثير شعوراً بالسعادة، يمكن أن تكون أيضاً إدراكً مخيفاً ومحزناً. هاك مثلان، واحد مفرح، وواحد محزن، سوف يساعدان في تصوير هذه الظاهرة. الأول هو تجربة راهب غير مشهور اسمه الأخ لورانس، الذي أخبر أنه في شبابه، عندما كان «ينظر إلى شجرة تتعرى من أوراقها وكان يتأمل في كيفية تجدد الأوراق خلال فترة قصيرة... انكشفت له عنائيّة الله وقدرته التي من حينها لم تُمح أبداً من نفسه» وأن «هذه المكاشفة فصلته بشكل كامل عن الدنيا...» (10-191). الثاني هو ما حصل مع القديسة كاترينا الجينوية، التي تميزت «إلهاماتها الداخلية» بـ... «حزنها وقلقها، وتمزيق الأنسجة الصلبة للأنا I-hood والكشف الحي للفقر المتناهي للذات.» تصف كاترينا بذاتها هذه التجربة بـ «جرح الحب الذي لا يحد». مثل إضافي عن تجربة الصحوة من مصدر غير غربي هو البوذا، الذي بعد أن رأى التجليات الأرضية للعمر والمرض والموت، أدرك الطبيعة الفانية للملذات الدنيوية فتخلى عن حياته المترفة كأمير ليمارس التصوف في غابات الهند. تبين هذه الأمثلة الثلاثة أن تجربة الصحوة تحصل فجأة، ويمكن أن تكون مفرحة أو مزعجة، وتبعد المرء عن الملذات المادية والدنيوية وتدفع باتجاه الفعل الروحي.           

 كما أن هايدغر أيضاً يصف مستويين للتجربة التي يمكن أن تتجلى فيها الكينونة والتي يمكن أن تعتبر شبيهة بتجارب الصحوة التي وصفتها أندرهل. يقول من التجارب العامة الأخرى الأقل شأناً أن «الفهم العادي والمبهم للكينونة هو واقع» ويعرّف الكينونة هناك[3] Da-sein بأنها الكينونة ذات «العلاقة بمسألة الكينونة ذاتها» (being and time,5). يقول في مكان آخر، العناية التي هي خاصية أساسية للدازاين، لا تميل إلى أي مكان غير «في اتجاه إرجاع الإنسان إلى ماهيته» وهذه الماهية تدعى «ملازمة الانجذاب لحقيقة الكينونة» (letter on Humanism،245) إذاً، بالنسبة لهايدغر، لكل إنسان فهم فطري للكينونة وحافز لتجربة حقيقة الكينونة، أي لوعي «التعالي خالصاً وبسيطاً» (letter on Humanism،251)  وهذا يشبه إلى حد كبير ملاحظة أندرهل أن للإنسانية انجذاباً فطريّاً نحو المطلق.

يتحدث هايدغر أيضاً عن نموذج أعظم من التجربة الأولية المتعالية، يسميها «القلق الأساسي» الذي «يكشف عن اللاّشيء» الكامن «في داخل» كل كينونات العالم الداخلي (What is Metaphysics،103).. هذا النوع من التجربة يمكن أن يعتبر مماثلاً إلى حد كبير لتجربة الصحوة كما وصفتها أندرهل ويمكن اعتباره مثالاً عليها. القلق الأساسي مثل الصحوات، هو مفاجئ ويحصل من غير توقع، وهذا ما يسبب انسحاباً من الشؤون الدنيوية وينتج عادة خلال الترتيبات البعيدة الأمد لأنشطة الشخص تجاه الأهداف المتعالية. يقول هايدغر إن  القلق الأساسي «يمكن أن يستيقظ في الوجود في أي لحظة ولا يحتاج إلى أي حدث غير اعتيادي لإيقاظه». خلال هذه التجربة «تصبح الكينونات بكاملها غير ضرورية»، «تنزلق» و«الدازاين الخالص هو كل ما هنالك»[4]. وخلال هذا النوع من التجربة هناك فقط الكينونة ـ هناك. وبالتحديد خلال هذا الحصول المفاجئ والمقلق، عندما تنزلق الكينونة، يستفيق الدازاين إلى فهم جديد للحقيقة وما هو كامن بين جنباتها. «في الليل الصافي للاشيئ القلق» للمرة الأولى يختبر الدازاين الكينونات كما هي واقعاً، كأشياء متمايزة عن اللاشيئية التي شهدها للتو. إضافة إلى أنها تكشف للدازاين أنه بذاته ليس مجرّد كينونة، بل هو بدل ذلك تعالي كينونات وهو بهذا «كينونة ثابتة في اللاشيئية»، أو كما يعبّر عنه هايدغر في كتابات لاحقة، «بروز في فضاء الكينونة» (What
 is Metaphysics،105 Letter on Humanism،2480.)وهكذا فقط من خلال القلق الأساسي يمكن للإنسان أن يدرك الكينونة للمرة الأولى، يدرك وقوعه في شرك بين الكينونات المتعددة و«نسيانه للكينونة»، وبعدها يشرع بعلاقة «أصلية» بالكينونة ذاتها. من كل هذا يجب أن يكون واضحاً أن ما يسميه هايدغر «القلق الأصلي» يمكن تسميته بدقة تجربة صحوة كما تصفها أندرهل: إنها تجربة مفاجئة وشديدة؛ تكشف اللاحقيقة النسبية لكينونات العالم؛ وتفتح المرء على الحقيقة المتعالية، وعادة تحث المرء على محاولة وصل نفسه بهذه الحقيقة بشكل كامل.

هذا ما يوصلنا إلى النقطة التالية من المماثلة بين الهايدغرية والفكر الصوفي. يفهم في نمطي التفكير أن الحقيقة المتعالية التي تكشف عنها الصحوة لا يمكن بلوغها عبر وسائل التفكير العقلي الميتافيزيقي، لأنها تتجاوز كل مفهوم عقلي قد يسعى هذا النوع من التفكير لحبسه في الداخل. تقول أندرهل: لا يجد الصوفيون طريقتهم في المنطق، بل في الحياة: في وجود «الحق» القابل للاكتشاف، هو بريق كينونة حقيقية في قلب السالك، الذي يمكنه في تلك التجربة التي تفوق كل وصف والتي يسمونها بـ «فعل الاتحاد» أن يصهر نفسه ويفهم حقيقة الموضوع الذي يسعى إليه... في التصوف حيث حب الحقيقة الذي اعتبرناه بداية كل الفلسفة يترك الدائرة العقلية ويتبنى الوجه الثابت للعشق الشخصي، حيث يخمّن الفيلسوف ويناقش، وينظر الصوفي ويعايش...من هنا، فيما يبقى مطلق الميتافيزيقي رسماً بيانياً ـ غير شخصي وبعيد المنال ـ فإن مطلق الصوفي محبوب، وحقيقي يمكن الوصول إليه (mysticism،24).

وفي كلام شبيه، يناشد الفلاسفة نيابة عن جميع الصوفيين، يقول كوفتري باتمور Covetry Patmore:

دع ثقتك العميقة والمنافية للعقل بالحواس، ولغتها الحرفية، التي يمكن أن تخبرنا عن الواقع لكن لا يمكن أن تبلغ الشخصية. فلو علمتك الفلسفة شيئاً فإنها علمتك طول قيدها واستحالة الوصول إلى الأرض الخصبة، التي لا ريب أنها بديعة، التي تكمن وراءها. أثار المثاليون واحداً تلو الآخر، أن من يتلوُّون على حبل المشنقة، أعلنوا للعالم حرية مقاربتهم؛ فقط من أجل الرجوع أخيراً إلى عالم الأحاسيس... تقول لك الفلسفة أنها ليست مؤسسة على شيء أفضل من الحواس والمفاهيم التراثية. هي بالتأكيد ناقصة، وربما كانت وهماً؛ في كل الأحوال لا تلامس أساس الأشياء (Mysticism،24 – 25).

يمكن اعتبار المتصوفة من أي تراث متوافقين مع الاقتباسين السابقين، وهم يعترفون بعجز التفكير المفهومي في إيصال الفرد للاتصال مع المطلق. يقول الكاتب الصوفي الغزالي:

  وعلمت أن طريقتهم إنما تتم بعلم وعمل، وكان حاصل علمهم قطع عقبات النفس، والتنزّه عن أخلاقها المذمومة، وصفاتها الخبيثة، حتى يتوصل بها إلى تخلية القلب عن غير الله عز وجل وتحليته بذكر الله عز وجل.. وأن العقل طور من أطوار الآدمي يحصل فيه عين يبصر بها أنواعاً من المعقولات، الحواس معزولة عنها، فالنبوة أيضاً عبارة عن طور يحصل فيه عين لها نور يظهر من نورها الغيب وأمور لا يدركها العقل (The Variety of Religious Experiences،439-441).

يوافق الفيلسوف الأفلاطوني المحدث أفلوطين على هذا قائلاً: «في رؤية الله من يرى ليس عقلنا، بل شيئاً سابقاً لعقلنا ويفوقه» كما يقول القديس يوحنا الصليب:  «نحن نتلقى المعرفة الصوفية بالله غير مكتسِية لأي نوع من الصور، ولا لأي نوع من التمثلات الحسية، التي يستفيد منها ذهننا في ظروف أخرى». وكما يقول لاو تسو: «التاو لا يدرك فهو لا يتعلق بالأفكار» و«تعاليمي يسهل فهمها...لكن عقلك لن يستوعبها أبداً» (Tao Te Ching،21,70)[5]. يمكن أن تطول هذه اللائحة على نحو غير محدد، لأن الصوفيين مجمعون في موقفهم المعارض لأن يكون العقل طريقاً يمكن أن يوصل إلى قمة الجبل المقدس.

في موقف شبيه، وصل هايدغر إلى حد التنديد بالفكر الميتافيزيقي والتمثلي باعتباره عاجزاً كلياً عن الوصول بالإنسان إلى تجربة الكينونة. وربما كان هذا الموقف ملحوظا بوضوح في إدانة هايدغر في أعماله اللاحقة لباكورة كتبه الكينونة والزمن، الذي سعى من خلاله إلى إرشاد قرائه لفهم الكينونة. في هذا الكتاب، سعى هايدغر ليبقى ضمن مجال «لغة الميتافيزيقا»، لكي «يجعل محاولة التفكير ممكنة الإدراك وفي الوقت نفسه مفهومة من الفلسفة الموجودة...» (letter on Humanism،246،263). لكنه يعترف أن هذه اللغة «تدحض ذاتها»، وتفشل لأنها «لا تفكر بحقيقة الكينونة، كما أنها تفشل في إدراك أن هنالك تفكيراً أكثر صرامة من التفكير المفهومي». ويعترف في أعماله اللاحقة بعدم كفاية التفكير الفلسفي حيث يقول: «الفلسفة...تتّبع دوماً سبيل التمثلات الميتافيزيقية؛ تفكر من الكينونات وصولاً إلى الكينونة» وهذا «يعني أن حقيقة الكينونة... تبقى خافية على الميتافيزيقا» وهذا الإدراك بدوره يجعله يستنتج أنه «لكي تتعلّم كيف تختبر ال... ماهية للتفكير على نحو محض...علينا أن نحرر أنفسنا من التأويل التقني للتفكير». ما هو النوع الجدي الذي ينبغي أن يُستَبدل بالتفكير التقني لكي يمكن التفكير بحقيقة الكينونة؟ هذا ما سنناقشه في الفقرات اللاحقة، ولكن ما ينبغي لحاظه الآن أن التجربة المتعالية التي يبحث عنها هايدغر لإرشادنا إلى ما لا يفهم بالتفكير العقلي، يشبه تماماً المطلق الصوفي الذي لا يمكن إدراكه.

والآن يبرز السؤال التالي: كيف يمكن للمرء أن يسعى للبحث والوصول إلى المتعالي إذا لم يكن عن طريق البحث الفلسفي التقليدي؟ يقترح هايدغر والمتصوفة كلاهما إجابات متشابهة عن هذا السؤال: الدخول في حالة تأملية ذهنية تسكت فيها الأحكام المنطقية الثنائية والاعتناء بالانفتاح على المتعالي. تسمّي أندرهل هذه الحالة «تأملاً»، وتعنونها بـ «التعلّم الذي وصفه التراث على الدوام للصوفيين...» (mysticism،302).

تصف الأمر بـ «تقبّلية وضيعة، ونظرة ثابتة ودائمة تضيع وتذوب فيها المشاعر والإرادة والفكر... (يحصل فيها) انهيار للنفس السطحية وتلك المستويات الأعمق للشخصية حيث يتم لقاء الإله ومعرفته «في لا شيئيتنا»...»[6]. إن انكشاف المطلق من خلال هذه الحال من التقبّلية هو مركزي في كل التقاليد الصوفية. تتحدث القديسة تريزا عن حالة مكاشفة قائلة «في يوم ما، عندما كنت في صلاة حصل لي إدراك في لحظة بيّن لي كيف أن الله محيط بكل شيْء..» (Variety of Religious Experince,48). ويعترف يوحنا قلب الصليب على نحو شبيه «إن ساعة تأمل علمته أكثر عن الأمور السماوية من كل تعاليم الأساتذة...». ويصف الغزالي حالة مشابهة بقوله: « وبالجُملةِ ماذا يقولُ القائلون في طريقَةٍ أَوَّلُ شُروطِها تَطهيرُ القلبِ بالكُلِّيَّة عَمّا سِوى اللهِ.. ومِفتاحُها الجَاري مِنْها مَجْرَى التحريمِ في الصلاة.. اسْتِغْراقُ القَلْبِ بالكُلِّيَةِ بذكرِ اللهِ وآخرُها الفَناءُ بالكُلِّيَةِ التامَّةِ في اللهِ؟». وهناك حالة أخرى شبيهة وصفها بوضوح لاو تسو عندما سئل: «عندما تنتزع عقلك عن ضلاله، وتعتصم بالوحدة الأصيلة...هل بمقدورك الرجوع من عقلك وبالتالي تفهم كل شيء»، وثانية عندما سئل: «هل لديك صبر أن تنتظر حتى يرسب الوحل ويصفو الماء».(Tao Te Ching،10,15) في كل هذه الأمثلة المختلفة حول التأمل، تختفي عمليات الذهن العادي، من أجل خلق انفتاح على الحقيقة الأعظم التي لا يستطيع العقل العادي إدراكها.

يوصي هايدغر من يريد اختبار الكينونة بالنوع نفسه من التمرين العقلي، الذي يسميه أحياناً التفكير التأملي، بخلاف التفكير الاحتسابي. حيث إن التفكير الاحتسابي «يحسب الاحتمالات الجديدة والواعدة... يسابق من احتمال إلى آخر... ولا يتوقف أبداً، ولا يسيطر على نفسه»، التفكير التأملي، «يتامل بالمعنى الذي يسيطر على كل ما هو كائن» (Discourse on Thinking،46). يقول: إن هذا الشكل من التفكير لا يحتاج أن يكون «محلّقاً»، لكن يمكن أن يتشكل ببساطة في «الركون إلى ما هو كامن بالقرب منا والتأمل بما هو أقرب...». ويقول هايدغر في مكان آخر عن هذا النوع من التفكير الذي يسمح بالدخول إلى حقيقة الكينونة، ذلك «لأن هناك شيئاً بسيطاً لا بد من التفكير فيه، هذا التفكير يبدو أنه صعب للفكر التمثلي الذي تحول إلى فلسفة، لكن هذه الصعوبة ليست مسألة تساهل، إنها نوع خاص من العمق ومن بناء المفاهيم المعقدة؛ بل إنها مستترة في الرجوع الذي يدع التفكير يدخل في الاستفهام الذي يحصل من خلال التجربة...» (letter on Humanism،255). في عمل آخر يصف هايدغر نوع التفكير الذي يسمح لوحده بالوصول إلى الكينونة، كنوع من انتظار مسلوب الإرادة، أو كما يقول، نوع من «الانعتاق»، ويقول إنه فقط من خلال هذا النوع من التفكير يمكن للمطلق أن يُختبر.[7] (Discourse on Thought،62،66). يجب أن يكون واضحاً من هذه التوصيفات القليلة أن نوع التفكير الذي يقترح هايدغر أن يكون الوسيلة التي يمكن اختبار الكينونة من خلالها شديدة الشبه بالطريقة الصوفية التأملية.

دعنا الآن نُعِدِ النظر بما تمّ تأسيسه. يوجد ثلاثة أوجه من التصوف هي، صحوة مفاجئة إلى المتعالي تتساقط فيها الكينونات الدنيوية، الاعتراف بأن الفكر المنطقي غير قادر على إحداث تجربة تامّة للمتعالي، ووصفة نموذج النشاط الذهني اللامفهومي، التي تشدد على التقبلية، كوسيلة يمكن الوصول إلى المتعالي من خلالها. يمكن اعتبار فكر هايدغر شديد الشبه بالفكر الصوفي في النقاط الثلاثة جميعها: فهو يتحدّث عن القلق الأصلي بوصفه التجربة التي ينكشف الدازاين من خلالها على نفسه في التعالي؛ وهو يدين الفكر الميتافيزيقي التمثلي الذي لا يقدر إلا على التفكير بالكينونات، لا بالكينونة، وهو يقترح انفتاحاً تأملياً كوسيلة يمكن من خلالها اختبار الكينونة. من هذه التشابهات الشديدة يمكن أن نستنتج أن التجارب المتعالية، التي يسعى الصوفيون وهايدغر إلى مقاربتها، ربما كانت متماهية. رغم أن هناك فروقات سطحية بين فكر هايدغر والأشكال المختلفة للتصوف، هناك فروقات شبيهة بين كل الأشكال الأخرى من التصوف كذلك.[8] ورغم أن ساتوري الزن والاتحاد الصوفي المسيحي قد وصفت بعبارات مختلفة كلياً، تبقى الوسائل التي يتم الوصول من خلالها هي نفسها، وبناء على ذلك، يمكن أن نستنتج أن هذه التجارب هي ذات تساوٍ جوهري كذلك. لقد بيّنت أن الطريقة التي يسعى هايدغر من خلالها إلى تجربة حقيقة الكينونة هي في جوهرها الطريقة نفسها التي يسعى الصوفيون من خلالها لاختبار المطلق، وعليه فإنّنا محقون في الاستنتاج أن التجربتين تتشابهان إلى حد كبير، بل قد تكونان شيئاً واحداً.      

[1]*ـ باحث في فلسفة الدين، أستاذ في جامعة ولاية كارولينا الشمالية، أميركا.

ـ العنوان الأصلي للمقالة: ?was Heidegger a Mystic

نقلاً عن: موقع جامعة كارولينا ـ ويلمنغتون.

UNCW - University of North Carolina Wilmington www.uncw - edu

Explorations Volume 6/2011 The Tournal of undergraduate Research and creative archvies.

ـ تعريب: ط. ع ـ مراجعة د. جاد مقدسي.

[2]-  قلق هايدغر هو أيضاً ظاهرة تحصل خارج إطار اللغة. فهو يقول ان: «القلق يسلب منا الكلام لأن الكينونات ككل تنزلق، بحيث لا يبقى سوى اللاشيء متراكماً حولنا، ففي وجه القلق كل اشتقاقات «كون» تصمت». (What is Metaphysics? 103.)

[3]-  الدازاين مصطلح مهم ولكنه مربك في فلسفة هايدغر. وهو يترجم حرفيا ب الكينونة-هنا أو الكينونة-هناك، وهو يعتقد أن الدازاين هو جوهر الإنسان. ما هو خاص في الإنسان أنه قادر على الكينونة هنا، في وضع، في علاقته بأشياء أخرى. وهو يعتقد أيضاً أن الديزاين على علاقة بالكينونة ذاتها، لكن هذه العلاقة مستورة عادة بالنموذج اليومي للعلاقة بأشياء العالم.

[4]-  هناك تجربة شبيهة بتجربة القديسة كاترينا، هي تجربة القلق الخالص «الأناوية» حيث يقول هايدغر: «نحن ننزلق من ذواتنا. لكن في القعر ليس كأنما «أنت» أو «أنا» من يشعر بالقلق؛ بل هو كذلك بالنسبة لـ «أحد» ما.  (What is Metaphysics? 103)

[5]-  هنالك مقطع آخر ملائم: «فوق ليس مشرقاً / تحت ليس مظلماً / يعود إلى عالم اللاّشيء/  صورة من دون صورة / لطيف لا يناله إدراك / اقترب منه ولكن ليس هناك بداية / اتبعه ولكن لا يوجد نهاية / لا تستطيع معرفته لكنك تستطيع أن تكون هو / اعرف فقط من أين أتيت / هذا هو جوهر الحكمة. (Tao Te Ching 14). يجب معرفة أن هايدغر كان مهتماً إلى حد كبير بالطاوية حتى أنه في لحظة حاول ترجمتها إلى الألمانية، لكنه تخلى عن المشروع بعد أن أكمل أول ثمانية فصول. وهذا ما يوضح التآلف الكبير بين تفكير هايدغر في المراحل الأخيرة والطاوية.

[6]- وجه آخر من وجوه التأمل تحدثت عنه أندرهل وهو يحتاج إلى تمرين. «في مراحله الأولى» تقول: «التأمل إرادي، صعب وبحاجة إلى مجهود». ويقول هايدغر ما يشبه ذلك عن التفكير التأملي: «لا يحصل بذاته كما يحصل عادة في التفكير الاحتسابي. أحياناً يحتاج إلى مجهود كبير. يتطلب كثيراً من التمرين» (Discource on Thought،47)

[7]- في فكر هايدغر المتأخر يبدو أن عبارة "that which regions"  قد حلت محل فكرة "clearing of being" لكن العبارتين تؤدّيان الوظيفة نفسها.  فهما تؤديان إلى المعنى القديم نفسه «تجربة الكينونة».

[8]- توجد نقطة اختلاف بين هايدغر والصوفيين تستحق مزيداً من الدراسة هي أنه في حين يؤكّد جميع الصوفيين أن المطلق يفوق الوصف، نرى أن أحد أهداف هايدغر الرئيسية هو التعبير عن حقيقة الكينونة من خلال اللغة. لكن هل هذا يعني أن هدف هايدغر يختلف عن هدف الصوفيين؟ ممكن، لكنني اعتقد أنه مجرد تفكير في واقع أن هايدغر يسعى لإعادة بناء اللغة بحيث تستطيع أن تعبّر عن حقيقة الكينونة، وهذه مهمة بسيطة لم يفكر أي صوفي أن يقوم بها. أما في ما يتعلق باللغة العادية فهما متفقان أن الكلام بها لا يمكن بأي حال أن يعبّر عن المطلق.