البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

نظرية الوجود بين الوجودية وأصالة الوجود

الباحث :  حميد رضا آية اللهي
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  5
السنة :  السنة الثانية - خريف 2016 م / 1438 هـ
تاريخ إضافة البحث :  November / 1 / 2016
عدد زيارات البحث :  3854
تحميل  ( 432.224 KB )
مع الفلسفة الوجوديّة تحوّل الاهتمام من نظريّة المعرفة والبحث الفلسفي المعرفيّ، إلى الاهتمام بحاقّ الوجود؛ أي الاهتمام بالوجود ذاته. وقد أدّى هذا التحوّل إلى دخول الفلسفة الغربيّة في مسار مختلفٍ وترك بصماتٍ عظيمة الأثر على هذه الفلسفة. كما إن الفلسفة الإسلامية طرأ عليها أمرٌ مشابهٌ مع التحوّل الذي أحدثته مدرسة الحكمة المتعالية؛ حيث   مركز الاهتمام إلى الوجود بعد ما كان الهمّ الفلسفيّ همًّا ماهويًّا يحصر اهتمامه بالتفسير الماهويّ للوجود. وتكمن أهميّة هذا التحوّل في الأثر الذي تركه على مسائل الفلسفة كلّها. ويبدو في النظرة الأوليّة أنّ المسارين متشابهين، بل ربّما يحسب الناظر أنّ ثمة مسارًا واحدًا اعتُمد في الفلسفتين، ينبغي أن يؤدّي إلى نتائج مشتركة بينهما. وفي هذه المقالة بحثُ مسهبٌ عن مفهوم الوجود عند المدرستين بغاية المقارنة بينهما، لاكتشاف نقاط الالتقاء ونقاط الافتراق بينهما يجري ذلك على صعيد المفهوم، وكذلك على مستوى خلفيات التحوّل، فضلاً عن النتائج التي أفضى إليها هذا التحوّل.  

المحرر

-----------------

ثمّة وجوه تشابه كثيرة واتحاد مشهود في عددٍ من المسائل والعناوين التي يتعرّض لها الفلاسفة في دراساتهم وأبحاثهم الفلسفيّة، ما يدعونا إلى الإحساس الأوليّ بأنّ هذه الأبحاث ما هي سوى آراء وأجوبة مختلفة عن سؤالٍ واحدٍ؛ ولكن على الرغم من هذا الفهم الأوّلي فإنّ الواقع يختلف عمّا يبدو عليه لأوّل وهلةٍ، ويكشف التأمّل والتدقيق عن معنًى آخر لهذا التشابه. وهذا الاختلاف بين سطح المسائل وقعرها يثير صعوباتٍ جمّةً لمن يرغب في المقارنة بين مدرستين فلسفيّتين في ما يرتبط بمفهوم واحدٍ. وفي ما يأتي نكتفي ببعض الملاحظات الموجزة ونطوي كشحًا عن التفصيل والخوض في غمار بيان تعقيدات مثل هذه المقارنة.

الخلفية التاريخيّة لتشكّل المفهوم الواحد: إنّ كثيرًا من المفاهيم المطروحة على بساط البحث في نظامٍ فلسفيٍّ، تحمل على عاتقها أعباء وتبعات ظروف تاريخيّة وثقافية أدّت إلى ظهورها، الأمر الذي لا يمكن تجاهله بسهولة. وتقبع إلى جانب المفهوم مجموعة من العناصر والمفاهيم المؤثّرة في بيانه وتوضيحه. ولهذه الخصوصية أثرٌ مهمٌّ في المقارنة بين المفاهيم الفلسفية التي تنتمي إلى مدرستين مختلفتين. ومفهوم الوجود واحدٌ من هذه المفاهيم التي طُرِحت في الغرب في سياق تاريخيٍّ يجعل النظر إليه وحده من دون الظروف التي أحاطت بولادته وتشكّله أمرًا غيرَ علميٍّ، وذلك أنّه وُلِد في بيئة معرفيّةٍ خاصّة مشحونة بعدد من النظريات الإنسانوية ومسكونة بهواجس ثنائية الذات ـ والموضوع (subject- object). وأما في بيئة الفلسفة الإسلامية فقد عولج هذا المفهوم في ظلّ النظرة الماهوية وتحت تأثير نظريات وحدة الوجود. وبالتالي لا بدّ من لحاظ هاتين البيئتين الفكريّتين عند إرادة المقارنة بين مفهوم الوجود في الوجودية وهذا المفهوم عينه في إطار نظرية أصالة الوجود.

الأرضية الثقافية للمفهوم الواحد: إنّ المؤشّرات والشواخص الثقافية في مجتمع من المجتمعات تؤدّي دورًا هامًّا في إضفاء المعنى على المفاهيم التي تتداول فيها. وعلى حدّ تعبير فيتغنشتاين: إنّ صور الحياة هي التي تعطي لمفهوم من مفاهيمها معناه المحدّد. واختلاف «الألعاب اللغوية» يفضي إلى اختلاف في قواعد إضفاء المعنى. وبالتالي فإنّ اختلاف الظروف الثقافية تؤدّي إلى اختلاف معنى المفهوم الواحد ودلالاته. وكثيرًا ما  تُستخدم عبارة فلسفيّة في بيئتين ثقافيّتين تضفي كلّ واحدةٍ منهما على هذه العبارة معنًى مختلفًا، يجعلنا نكتشف أنّ هذا التشابه الظاهريَ ما هو إلا من باب الاشتراك اللفظي (أي الاشتراك في الاسم والاختلاف في المعنى). وعلى ضوء هذه الإشارة لا يصحّ لأحدٍ أن يدّعي أنّه يفهم معنى الإنسان في الثقافة الغربية، من دون أن يلحظ مفهوم التجسّد والخطيئة الأولى. ولا ننكر أنّ عددًا كبيرًا من المفكّرين الغربيّين لم تکن  لديهم ميولٌ دينيّةٌ ولكنّ المعنى الذي يقصدونه من مفهوم «إنسان» مستخدمٌ في البيئة الثقافية المسيحيّة التي يمثل التجسّد والخطيئة الأولى مفاهيمَ مركزيّة فيها، وهذا يختلف عن المعنى الذي يدلّ عليه مفهوم «إنسان» في البيئة الإسلامية التي تنطلق من مبدإ أنّ الإنسان خليفةُ الله. فما لم تُعرف البيئة والأرضية الثقافية والاجتماعية لا يمكن التعرّف إلى المفاهيم المستخدمة في ذلك المجتمع.

غايات البحث الفلسفيّ في المفهوم الواحد: قد يُحلّل المفهوم الفلسفيّ الواحد في الفلسفات المختلفة من أجل غايات تختلف من فلسفة إلى أخرى، وتترك هذه الغاية أثرها على المعنى الذي يكتسبه هذا المفهوم في مسيرة استعماله ومعالجته. فالمفهوم الذي يُحلّل في فلسفةٍ في سياق التعرّف إلى أفضل الوسائل لتسلّط الإنسان على الطبيعة واستخدام التقانة، يصعب أن يتّحد في مداليله مع المفهوم الذي يُعالج في فلسفة أخرى بهدف شرح العلاقة بين الإنسان والعالم لتأمين اتّحاد شاملٍ معه. فغاية التحليل الفلسفيّ هي التي تسهم في تبيين المفهوم وإضفاء المعنى عليه. وبعبارة عامّة إنّ هواجس الفيلسوف تؤثّر في تشكّل المفاهيم التي يتعاطاها، وهي التي تصوغ رؤيته واتّجاهه الفلسفيّ. واختلاف المجتمعات في هذه الهواجس ينتقل إلى اختلاف المفاهيم في معانيها ودلالاتها حتّى لو اتحدت قبل الاشتغال الفلسفي عليها.

ما تقدّم أعلاه هو بعض الملاحظات التي ينبغي أن لا يغفل عنها من يريد المقارنة بين المفاهيم الفلسفية التي تنتمي إلى مدرستين مختلفتين. وهذه الملاحظات وغيرها ممّا له صلة بمجال التفسير والهرمينوطيقا تزيد صعوبة المقارنة الفلسفية؛ بل تجعل بعض الفلاسفة والباحثين في الفلسفة يشكّكون في إمكان المقارنة بين المدارس الفلسفيّة. ولسنا نبتغي في هذه الدراسة استعراض الآراء المطروحة في هذا المجال ولا النظر في حججها وأدلّتها لاختيار الصحيح منها وطرح الفاسد، وإنّما نكتفي بالانطلاق من مصادرة مفادها أنّ هذه الملاحظات، على الرغم من وجاهتها وتأثيرها، إلا أنّ ملاحظتها والالتفات إليها يساعدان في عقد مقارنة ناجحة بين مدرستين فلسفيّتين. وإنّنا ندّعي أنّ الملاحظات المذكورة آنفًا إذا كانت توجب استحالة التفاهم، فإنّها من دون شكٍّ سوف تقف سدًّا دون فهم الأفكار من خارج البيئة الثقافية التي طُرِحت فيها، والحال أنّ المصادرة الأولية هي إمكان الحوار بين البشر وقدرتهم على نقل الأفكار من بيئة إلى بيئة ثانية.

وننطلق في دراستنا هذه من إمكان المقارنة بين الفلسفات على الرغم من الملاحظات الجادّة المذكورة، بل نرى أنّ تبادل الأفكار أمرٌ ضروريٌّ للإنسانية. هذا وإنّ الانطلاق في المقارنة من النظرة السطحية التي تحكم باتّحاد المفاهيم لن يوصل إلّا إلى نتائج سطحية وساذجة. ومن هنا، لا بدّ من الالتفات، خلال المقارنة إلى الظروف الثقافية والأرضية الفكريّة التي وُلِد فيها المفهوم، كما إلى الغايات التي من أجلها جُعِل تحت مجهر البحث والنظر الفلسفيّ.

منهج مقارنة الوجود بين الوجودية والصدرائية

وبناءً على ما تقدّم ينبغي قبل الشروع في المقارنة بين مفهوم الوجود في كلٍّ من الوجودية والصدرائية، ملاحظة ظروف تشكّل هذا المفهوم في فضاءي الفكر الغربي والإسلاميّ، لتُكتشف على ضوء ذلك وجوه التشابه والاختلاف. ولا يخفى على القارئ الخبير عدم اتًساع صدر هذه المقالة لبيان محوريّة الوجود في السياقين الغربي والإسلاميّ؛ ولأجل هذا سوف نكتفي بالحدّ الأدنى الذي يحقّق لنا غرضنا في المقارنة. ومن هنا سوف نبدأ بالحديث عن الخلفية التي أدّت إلى أن يكتسب الوجود أهميّته في الفكر الوجوديّ ثمّ بعد ذلك نعمد إلى بيان المقصود من هذا المفهوم، وشرح عناصره الأصيلة. ومن ثم  نفعل الشيء نفسه في المدرسة الصدرائية، لننتقل بعد ذلك إلى المقارنة.

الاهتمام بالوجود، والتحوّل الأساس في مسار الفلسفة الغربية الحديثة

انطلق ديكارت الذي يعدّ أبا الفلسفة الأوروبية الحديثة، من الكوجيتو المعروف وبنى فلسفته عليه. وقد انتهى التحليل الفلسفي المبنيّ على الكوجيتو إلى ثنائية تقضي بالتمایز  بين الذات والموضوع (subject- object)، وكأنّ الذات صارت محور الوجود. وما يكتسب أهميّته هنا هو الإنسان بوصفه فاعل المعرفة، والعالم ليس سوى ما يبدو لـ»الأنا» الديكارتية العارفة.

و«الأنا» الديكارتية هي «الأنا» المفكّرة فحسب، وبتعبير ديكارت «أنا أفكر إذًا أنا موجود». ومن هنا يعدّ ديكارت فاتح عهد الذاتيّة الحديثة في الفلسفة الغربية. ومن هنا أيضًا استطاع ديكارت تحويل البحث الفلسفي إلى المعرفة. وتحوّل العالم إلى موضوع يقع في مقابل الذات الديكارتية. ولم يعد العالم عند ديكارت سوى انعكاس لتجلّيات الذهن البشريّ، والضمان الوحيد لصحّة هذا الانعكاس هو الرهان على صدق الله.

«الذهن بالنسة إلى ديكارت هو مرآة الطبيعة. فهو يعرض صور الأشياء الموجودة في الخارج على ذاته مقرونةً بالزمان والمكان. وعلى الرغم من هذا فإنّ المكان الواقعيّ للعالم مستقلٌّ عن تجلّيه، ووجودُه المدرَكُ. كما أنّ كل مخلوق متعلّقٌ ومتوقِّفٌ في وجوده على وجود الله»[2].

وقد ترك هذا الفهم الديكارتي أثره على الفلاسفة الذين أتوا بعد ديكارت وصار «العالم بالنسبة إلى الفلاسفة اللاحقين مجموعة من الأشياء المواجهة للإنسان؛ أي مجموعة من الأمور الواقعيّة»[3]. والإنسان بهذا اللحاظ يجلس في مواجهة العالم ويسعى إلى فهمه وحسب. وللذات الديكارتية  مهمّات عدّة، هي: معرفة الذات أو النفس، ومعرفة العالم أو الجسم، ومعرفة الله. ومن هذه الزاوية يكون الهمّ الأساس للذات هو همٌّ معرفيٌّ. ومن هنا، فإنّ الذات الديكارتية هي الإنسان من حيث إنّه مشغولٌ بالمعرفة.

وقد اشتغل الفلاسفة اللاحقون بالمسائل التي أثارها ديكارت. ويشترك في هذا الأمر الفلاسفة العقليّون من أمثال مالبرانش واسبينوزا وليبنتز، مع الفلاسفة التجريبيّين من أمثال باركلي وجون لوك وهيوم. فهؤلاء جميعًا كانت الأسئلة الديكارتية والقضايا التي طرحها شغلهم الأثير.

وقد أفضى تلاقي النزعة التجريبيّة بالنزعة العقلانيّة عند كانط إلى بلوغ البحث في نظريّة المعرفة أوجَهُ وتجلّى هذا الأمر في كتاب «نقد العقل المحض» الذي حاول كانط من خلاله وضع أطر منظّمةٍ للمعرفة الإنسانيّة وتبيين حدودها وشروطها، وقد بدا عند كانط أن ليس للإنسان في هذه الحياة مهمّة أخرى غير المعرفة. وهكذا اختُزِلت الفلسفة في نظرية المعرفة، ولم يعد للفلسفة من همٍّ سوى اكتشاف كيفية التعرّف إلى العالم والأشياء، وما بقي من المجالات لم تعد تسمح العلوم للفلسفة بالخوض فيها. ويمكن القول إنّ كانط أوصل الذاتيّة إلى أبعد مدياتها، ولم يعد الله هو الضامن الأساس للمعرفة، وتحوّل العالم إلى صورة من صور الذهن البشريّ.

«...لا مجال للحديث عن المكان والأشياء الممتدة وغيرها إلا مع الالتفات إلى نظرة الإنسان. وإذا نحّينا الظروف الداخلية للذات التي يُمكن شهود العالم الخارجيّ تحتها... لا يبقى للمكان شيء آخر يتمثّل فيه. لا مكانَ في العالم الخارجيّ يمكنه أن يتجلّى بغضّ النظر عن فاعل المعرفة. وإنّ إدراك وجود المكان لا يمكن تحقّقه إلا من وجهة نظر الإنسان. وهكذا وفي ضوء هذه الرؤية أتى هايدغر ليتبنّى أنّ العالم ومكانه ما هو إلا تمثّلٌ وتصوّر. وعلى يد كانط وثورته الكوبرنيكية في عالم الفلسفة بدأت تغلب النظرة الصورية إلى العالم؛ المشروع الذي وصل إلى ذروته على يد العلم الحديث»[4] وقد كان حاصل الجهد الفكريّ لكانط هو أن يوضح أنّ المعرفة الإنسانية ليست «هي معرفة الشيء في ذاته» أو «النومن»؛ بل على المعرفة الإنسانيّة أن تبقى في إطار الظواهر والعالم التجريبيّ أو «الفنومن» كي يبقى الذهن البشريّ بعيدًا عن التورّط في المغالطات.

وقد وصلت الفلسفة الغربية بعد كانط مع ظهور فلاسفة من أمثال: فيخته، وشلينج، وهيجل إلى وادي المثاليّة، وقد كان هذا بمعنًى من المعاني نتيجة منطقية للإعلاء من شأن الذاتية في المرحلة الحديثة من تاريخ الفلسفة. ووصلت المثالية إلى أقصى مداها على يد هيجل حيث تصبح المعرفة البشريّة شاملة لكلّ شيء وقادرة على التفسير المفهوميّ للعالم ككلّ وللتاريخ.

«يتحدّث هيجل عن استيفاء الموجودات حظّها من الوجود عندما تأتي إلى الذهن وتأخذ مكانها بين الأفكار... ويُسمي وجودًا الموجودات تأخذ شكل الأفكار»[5]. إذًا بالنسبة إلى هيجل لا أهمية للأشياء والموجودات إلا عندما تتحوّل إلى أفكار في ذهن الإنسان. والفارق الأساس بين هيجل وكانط أنّ الأول ألقى جانبًا «النومن» التي أعلن كانط العجز عن معرفتها، ولم يبقَ في الميدان سوى التصوّرات والأفكار.

ومن أهمّ ثمار هذه التيّارات النظرة الكليّة إلى الإنسان. فالأنا الديكارتية هي الأنا الإنسانيّة بشكلٍ عامٍّ وليس الأنا الجزئيّة بهواجسها الوجودية، فالإنسان هو الذي يواجه العالم ويريد أن يتعرّف إليه. وعند كانط أيضًا الإنسان بما هو إنسانٌ يجب عليه أن يتعرّف إلى ظروف معرفته ويعيّن حدودها. والأنا الهيجليّة استحالت إلى عضوٍ وجزءٍ من كلّ هو التاريخ والدولة، وظيفتُها معرفة الأفكار.

ظهور الاعتقاد بالوجود في مقابل التيّارات الكليّة والذاتية

في مقابل ما تقدّم الحديث عنه من تيّارات فكرية وفلسفيّة ظهر في الساحة الفكريّة الغربية فيلسوف هو كيركيجارد. وقد أودت به حياته الشخصية وطريقة تربيته وتأمّلاته الدينية إلى الاعتقاد بأنّ التراث الفلسفيّ (ومن ذلك فلسفة هيجل) كان يسعى إلى تفسير الوجود والعالم بطريقة انتزاعيّة وعامّة شاملة، وقد أدّى هذا النزوع الفلسفيّ إلى تجاهل الفرد ونحوِ وجوده.

ويرى كيركيجارد أنّ مبدأ الديالكتيك الهيجلي عاجزٌ عن تعيين معنى الوجود. ومن هنا، كان هيجل مضطرًّا إلى تحويل الوجود إلى أمرٍ انتزاعيٍّ كي يمكن جعله في قالب السير الديالكتيكيّ والتاريخيّ. وقد اعترض على فلسفة هيجل بسبب كليّانيّاتها وما فيها من دعوى الواقعيّة الخارجية، ولم يوافق هيجل على قبول أنّ الشيء يحمل نقيضه وعدّ ذلك مخالفًا لمبادئ العقل البشريّ. وهو يؤكّد تقدّم أو أولويّة الوجود على الماهيّة، ويبدو أنّه أوّل من أعطى الوجود (إكزيستنس = existence) معنًى وجوديًّا (اكزيستنسيالستيًّا= existentialist). ويمكن تصنيفه في خانة اللاعقلانيّين حيث إنّه يرى استحالة معرفة الله والوجود بواسطة التفكير العقلانيّ.

وتجدر الإشارة في هذا الإطار إلى هامان (j. g. Hamann 1730-1788) الذي أثّر في كيركيجارد، والذي يرى أنّ الوجود لا يمكن تأويله بالفكر، ويقول في مقابل تيار محوريّة الذات: «أنّا أفكر أقلّ إذًا أنا موجود أكثر»[6]. ويرى كيركيجارد أنّ بين الوجود الذاتي الذي نسمّيه وجودًا بشيءٍ من التسامح، وبين الوجود الذاتي الذي ينطبق على الحياة الشخصية المقرونة بمخاطرة الإحساس بالمسؤولية الأبدية والإرادة[7].

ويبدو لنا أنّ كيركيجارد أخذ على عاقته عددًا من المهام، هي: إعطاء الجزئية والفردية الإنسانية أهميّتها التي تستحقّ، والمهمّة الثانية هي الانتصار على نظرية المعرفة التي تنطلق من مصادرة التمايز بين الذات- والموضوع، وأخيرًا وبهدف تحقيق هاتين المهمّتين ابتكر مفهومين مفتاحيّين هما: القلق[8] والحرية أو الاختيار. فعلى ضوء مفهوم القلق ينتفي التقابل بين الذات والموضوع، وذلك لأنّ القلق ليس له متعلَّقٌ وجوديٌّ. فالذات القلِقة لا تواجه سوى ذاتها. ووجود الذات يظهر في حالة القلق الذي يصيبنا ويدعونا إلى العمل، والحرية أو الاختيار هو المفهوم المقابل للتيّارات الجماعية التي تتضمّن شكلًا من أشكال الجبر الذي نشاهده في فلسفة هيجل وماركس؛ وذلك لأنّ الذات باختيارها وإرادتها تحول دون اضمحلال وجودها في الإرادة الجمعية، وبالاختيار والحرية تحقّق الذات ذاتيّتها. بل إنّه يعترض على التعبير عن هذه الفكرة بالقول إنّ الإنسان موجود قلِقٌ/هلوعٌ أو مختارٌ؛ لأنّه يرى أنّ في هذا التعبير نقضًا للغرض من حيث إنّه يستبطن نظرةً كليّة شموليّة إلى الإنسان.

«جعل كيركيجارد من الفرد المقولة الأساس في فلسفته، وقد أكّد هو ومن تبعه من الفلاسفة الوجوديين أنّ الإنسان عندما يعمد إلى الاختيار يكون قد جعل الوجود نصب عينيه، وأخذ على عاتقه مسؤوليّة غير قابلة للانتقال. ولا شك في أنّ هؤلاء الفلاسفة لفتوا نظرنا إلى أمرٍ على درجة عالية من الأهميّة، وهو أنّ كلّ شخصٍ عليه أن يتّخذ القرار المناسب لوجوده وأن يتحمّل مسؤولية هذا القرار»[9].

ويعادي كيركيجارد التفكير المفهوميّ أيضًا، وهو التفكير الذي يحاول أن يفسّر ويبيّن العالم كلّه من الجماد إلى النبات والحيوان وصولًا إلى الإنسان والله بواسطة المفاهيم والتفسير العقليّ. «ويرى كيركيجارد أنّ جمع المفاهيم الانتزاعية على أساس المبادئ العقليّة... بهدف بناء نظام فكريّ لتفسير العالم والإنسان، ومبدأ هذين الأمرين وأساسهما، جهدٌ وهميٌّ ومثير للسخرية... فليس الإنسان هو الذي يضع الحقيقة ولا يمكنه أن يكون كذلك. فالحقيقة هي التي تحيط بالإنسان وهو محاطٌ بها»[10]. بل إنّ كيركيجارد يرى أنّ كلّ فلسفة تتضمّن شيئًا من المثاليّة في ثناياها؛ وذلك لأنّها تشتغل على المفاهيم الماهويّة. وهو يعتقد عدم إمكان إثبات وجود الله بواسطة العقل والتفكير العلانيّ، ومحاولة إثبات وجوده عن طريق العقل دليلٌ على عدم الإيمان به. فالإنسان المؤمن بوجود الله لا يحتاج إلى إثبات وجوده بواسطة العقل والدليل العقليّ.

وقد ربط كيركيجارد بين نظريته عن القلق، نظريّة في وحدة الإنسان الفرد وعزلته عزلة كاملة في مواجهة الإله، وبين نظريّته حول ما يسمّيه المصير التراجيدي والمأساويّ للإنسان. وهو يرى أنّ اللحظة هي تركيبٌ يجمع بين الزمان والخلود[11].

وعلى الرغم من أنّ هوسرل حاول بظواهريّته الوصول إلى ماهيّات الأشياء، ولا يمكن وضعه في خانة الوجوديّين والفلسفة الوجودية، على الرغم من ذلك، فإنّ نظريّاته وأفكاره يمكن عدّها محاولة للخروج من دائرة نظريّة المعرفة الغربيّة وثنائيّة الذات والموضوع، الأمر الذي يصلح قالبًا ينسجم مع الفكر الوجوديّ، فهوسرل لا يرى وجود ثنائيّة وتعدّدًا بين الوعي ومتعلّق الوعي، بل إنّ الوعي دائمًا مربوط بشيء أي هو دائمًا «وعيٌ بـ» أو «علمٌ بـ». ففي فلسفة هايدغر نجد الشيء نفسه وهو حيثية الالتفات والانتباه وذلك أنّ في كل فعلِ معرفةٍ أمرًا آخر وهو الغرض والغاية وهدف المعرفة... ولكن مع فارقٍ بينهما وهو أنّ هايدغر يقدّم أمرًا آخر لا نجده في فلسفة هوسرل، وهو أنّ المعرفة انكشاف ورفع للحجاب»[12].

وهنا تترك المعرفة المفاهيمية محلّها لتجربة الإنسان الحيّة للأشياء. فالمعرفة الواقعيّة ممكنة عن طريق وصف أنواع التجارب الإنسانيّة. وقد استطاع هايدغر بطرحه مفهوم «عيش العالم»، استطاع اختراق الفالق الكبير بين الإنسان والعالم وهو الفالق الناجم عن ثنائيّة الذات والموضوع الديكارتية. فلم يعد الإنسان موجودًا في مقابل العالم؛ بل هو إنسان يعيش العالم وهو على الدوام مشغولٌ بتجربته. وقد مهّد هذا الأمر السبيل لهايدغر ليطرح مفهوم «الوجود في العالم» لاحقًا. ويمكن كذلك أن يُقال إنّ برغسون بدوره مدّ يد العون للوجودية بطرحه تصوّره الخاصّ عن الزمان.

ويبدو لنا أنّ هايدغر هو حاصل هذا المسار الفلسفيّ الغربيّ ونتاجُه. وهو بدوره غادر التفسير المفهوميّ للعالم وأعلن الفراق مع أدوات كانط وهيجل. وقد حاول هايدغر بحث وتحليل العلاقة بين االوجود والإنسان الذي يستخدم مصطلح «دازاين» (Dasein) الذي يعادل إلى حدٍّ مّا معنى الوجود الخاصّ بالإنسان، وهو ينتهي من هذا التحليل إلى علاقة ونسبة خاصّة بين الوجود والموجودات. ومن هنا، فإنّ معرفة الوجود أو فلنقُل علم الوجود لم يعد علمًا مفهوميًّا يمكن تحصيل المعرفة به عن طريق العلم الحصوليّ. فعندما يوصف الإنسان بـ«دازاين» أو على حدّ تعبير هايدغر نفسه أيضًا بـ»الوجود ـ في ـ العالم»، فإنّ القضية تتجاوز قضية الموضوع (subject) أو فاعل المعرفة[13].

ويرى هايدغر أنّ الشيء الوحيد الذي لم ينل حظّه من التفكير فيه هو الوجود وهو الشيء الذي ليس له إلا الحضور والظهور[14]. وبناء على هذا التقويم يرى أنّ تاريخ الفلسفة هو تاريخ الغفلة عن الوجود. وقد اهتمّ بأفكار الفلاسفة السابقين للميتافيزيقا اليونانية من جهة أنّهم كانوا متحرّرين من قيد التشييء (Self-objectification) والنظرة الما بعد طبيعيّة. وخلاصة القول في هذا المجال أنّ هايدغر يرى أنّ الوجود حتّى في حالة ظهوره وحضوره وانفتاحه يكون في خفاءٍ أيضًا، وهذا ما يدعوه إلى وصف الوجود بأنّه لغزٌ. ولأجل هذا أيضًا يحكم باستحالة القبض على تعريفٍ ثابتٍ ومستقرٍّ له.

وإذا كانت الفترة الحديثة من تاريخ الفلسفة التي افتتحها ديكارت تقومُ على ثنائية الذات- الموضوع، فإنّ هذه الثنائية صارت عند هايدغر أثرًا بعد عين. فلم يعد الإنسان معه مجرّد فاعلٍ وظيفته المعرفة؛ بل صار الإنسان يرى نفسه أنّه سابقٌ على المعرفة وواجدٌ للمعرفة، وصارت حياته حراكًا مستمرًّا وعملًا، وهو يحقّق ذاته بأعماله. ومن جهة أخرى لم يعد العالم مجرّد موضوع ومتعلّقٍ للمعرفة، بل صار وصفه الأساس هو الانفتاح والحضور والظهور. فليس ثمّة إنسان واحد وعالمٌ واحد، بل إنسان في العالم. ومن هنا كان أهمّ سمة من السمات الوجودية للإنسان هي «الوجود –في- العالم». وسائر الموجودات غير الإنسان موجودة أمّا الإنسان فله وحده الانوجاد؛ وذلك لأنّه يعي وجوده ويشعر بالمسؤولية عن هذا الانوجاد وهذه الكينونة...

«إنّ الميتافيزيقا لا تطرح السؤال بصدد حقيقة الوجود نفسه؛ لهذا السبب فهي لا تتساءل أبدًا عن الكيفية التي من خلالها تنتمي ماهية الإنسان إلى حقيقة الوجود، فهذا السؤال ليس فقط لم تطرحه الميتافيزيقا بعد، وإنما ليس في متناولها كميتافيزيقا. إن الوجود ينتظر دائمًا من الإنسان أن يتذكّره باعتباره ما هو جدير بأن يفكر فيه. بالنظر إلى هذا التحديد الماهوي للإنسان، سواء حدّدنا عقلانية الحيوان أو عقل الكائن الحي كـ»ملكة مبادئ» أو كـ»ملكة مقولات» أو بأي كيفية أخرى، فإن ماهية العقل تتأسس دائمًا وفي كل جوانبها على ما يلي: بالنسبة لكل إدراك للموجود وفهم له في كينونته، يكون الوجود نفسه قد أضيء مسبقا وحصل في حقيقته»[15].

وإنّ من أهمّ خصائص الدازاين بنيته الزمانيّة. والزمان بحسب هذه الرؤية أفقٌ للفهم، ويكتسب معناه من القلق الوجودي المستمرّ. وبهذا القلق ينال الدازاين تماميّته في الساحات الزمانية الثلاثة أي الماضي والحال والمستقبل. وبناء على هذا التصوّر لم يعد صحيحًا كلام أرسطو عن الزمان الذي هو مجموعة من الآنات، ولا الحكم على الزمان كما هو متعارفٌ بين عامّة الناس، أي الحكم بأنّه موضوع يمكن نيله والقبض عليه أو يمكن أن يفوتنا ونخسره[16]. وعلى ضوء هذا، يمكن القول إنّ الإنسان بقراراته التي يتّخذها يجعل الأشياء زمانيّة.

«متبصّرًا منشغلًا متوقّعًا لإمكانية الإبصار، يمنح الدازاين الوقت لنفسه، وقد جعل عمل يومه منطلقًا لفهم نفسه، بالقول «عندئذٍ، يطلع النهار». إنّ «عندئذٍ» التي تشغله تستمدّ توقيتها ممّا يقع، ضمن مركّبٍ وظيفيٍّ داخل العالم المحيط قريب منّا، مع مجيء النور: مع طلوع الشمس، عندئذٍ، حين تطلع، يحين الوقت كي....فالدازاين إذًا يوقّت الوقت الذي ينبغي أن يأخذه لنفسه، انطلاقًا من الأمر الذي، في أفق أنّه متروكٌ للعالم، يعرض له بوصفه شيئًا له معه، بالنسبة إلى مستطاع كينونته  ـ في ـ العالم المتبصّر رابطة وظيفيّة مخصوصة. إنّ الانشغال يستعمل «الكينونة ـ تحت ـ اليد» التي للشمس، وهي تجود ضياءً ودفءًا. وشأن الشمس أن تضبط مواقيت الزمان الذي يفسّر في الانشغال. وانطلاقًا من هذا التوقيت ينشأ مقياس الزمان «الأكثر طبيعيّة» النهار»[17].

والوجود من حيث إنّه وجودٌ لا يمكن إثباته بالبرهان، والاستنتاج حوله محالٌ؛ وذلك لأنّه سعيٌ لاستخراجه من أمرٍ آخر. والخيار الوحيد المتاح هو الإشارة إليه. وهو يمكنه فقط إظهار نفسه. وهذا ما يجعل تحليل الدازاين في الحقيقة نوعًا من الظاهراتيّة[18].

ويعتقد هايدغر بأنّ في مقدور الإنسان إدراك الوجود المطلق بواسطة إدراك العدم المطلق وليس العدم النسبيّ. والعدم المطلق يكون حيث لا شيء سوى الظلمة المحضة؛ أي حيث لا شيء. وعلى حدّ تعبيره هو نفسه حفرة العدم أو بئر العدم. وعندما يقف الإنسان أمام هذا البئر تستولي عليه الوحشة والتهيّب ثمّ تنتابه الحيرة من الوجود وإذ ذاك يتذوّقه. وهناك يُلقى جانبًا القالب المفهوميّ وتتحقّق تجربتي أنا للوجود. وهنا تتحوّل لغة هايدغر إلى لغة شعريّة. وبهذا النمط من الفكر لم يعد الإنسان الكليّ مطروحًا في فكر هايدغر؛ بل المطروح هو وجود الأنا والذات، والمقصود تلك الأنا المشغولة باختيار إمكانيّاتها. وهذا شكلٌ من أشكال التعميق للفلسفة؛ وذلك أنّ الفلسفة التي كانت بحثًا عن الموجود تحوّلت مع هايدغر إلى بحثٍ عن الوجود.

التفكير الوجوديّ في الفكر الصدرائي

لقد أحدث ملّا صدرا بنظريّته في أصالة الوجود انقلابًا في الفكر الفلسفيّ؛ ولكن في فضاءٍ ثقافيّ وفكريٍّ مختلفٍ عمّا عرضناه في ما تقدّم عند هايدغر. وقد تمثّل ملّا صدرا بصورة جميلة ما وصل إليه من آثار اليونانيين القدماء ولا سيّما أفلاطون وأرسطو، واستطاع أيضًا هضم ما قدّمه الفارابي وابن سينا وشيخ الإشراق السهروردي وغيرهم من تفسير أو من إبداع، واستوعب أيضًا ما أدركه العارفون العظام بوحي من أذواقهم وقوة عرفانهم، ثم شيّد أساسًا جديدًا على قواعد وأصول متينة البناء لا يتطرق إليها الخلل، وأخرج مسائل الفلسفة بشكلٍ رياضيٍّ بواسطة البرهان والاستدلال، بحيث تُستنبط وتُستخرج إحداها من الأخرى، وبهذا أخرج الفلسفة من التبعثر والتشتت في طرق الاستدلال[19].

"وإنّ فلسفة ملّا صدرا على الرغم من جدّتها وحداثتها، فإنّها حاصل جهود ثمانية قرون من البحث الفلسفي لباحثين عظام كان لكلِّ واحدٍ سهمٌ في دفع الفلسفة إلى الأمام"[20]. وفلسفة صدر المتألّهين تُعدّ كما فلسفة هايدغر تحوّلًا في النظرة وزاوية الرؤية. والمقصود من هذا الوصف هو أنّه كما هايدغر أعرض عن النظر المفهوميّ والماهويّ الذي كان سائدًا بين الفلاسفة السابقين، واعتمد النظرة الوجودية الحضوريّة محلّ تلك النظرة السابقة.

كانت المسائل الفلسفيّة حتى عهد ملّا صدرا تُعالج وفق قوالب مفهوميّة، وبنظرة مقوليّة موروثة من أرسطو وغيره من فلاسفة اليونان. وحتّى عندما كان يُبحث عن الوجود كانت هذه النظرة هي الحاكمة ما أدّى في كثيرٍ من الحالات إلى إقصاء الوجود إلى حاشية الفلسفة. ثمّ أتى ملّا صدرا فجعل الوجود محور البحث الفلسفيّ، وسعى بإظهاره الحقيقة الوجوديّة للعالم، إلى معالجة سائر القضايا الفلسفيّة بنظرة وجوديّة في فضاء مختلف إلى درجةٍ كبيرةٍ عمّا كان الحال عليه قبله. وبهذا الاختلاف الأساسيّ وببركة المعرفة العميقة بالتراث العرفانيّ تلوّن البحث الفلسفيّ بلونٍ مختلفٍ، واستطاع خرق أكثر من حصار كحصار نظرية المعرفة الغربية وغيرها. وذلك لأنّ الماهيّة من وجهة نظره "أمرٌ غير متعيّن ومبهم؛ بل لا واقعيّة له. ولا يمكن النظر إلى الماهيّات بعيدًا عن الوجود... ومن جهة أخرى الوجود هو المتعيّن والمتشخّص والنورانيّ والواقعيّ، وهو أيضًا الذي يخرِج الماهية من العدم ويعيّن حدودها، ويميّزها عن سائر الماهيّات[21].

وقد استطاعت نظريّة أصالة الوجود إدخال تحوّلٍ كبيرٍ على القالب الأرسطي للفلسفة الإسلاميّة التقليديّة، وذلك أنّها حوّلت موضوع ما بعد الطبيعة من "الموجود" إلى "الوجود"، وقد أضافت إلى الفلسفة عمقًا يسمح برؤية الأمر الإلهيّ (الوجود) وشهوده في جميع الأشياء. أضف إلى هذا أنّ ملّا صدرا بنظريّته هذه استطاع وصل حلقات السطوح المختلفة للوجود إحداها بالأخرى. الأمر الذي أفضى إلى تبيين مختلف لنظريّة وحدة الوجود المتعالية التي تُعدّ أوج ما وصل إليه العرفان في الدائرة الإسلامية[22].

فالمحور الأساس لـ"ما بعد الطبيعة" هو الوجود[23]. والوجود، بحسبه، واقعٌ خارجيٌّ (عينيّ) ومنشأ كل قدرة وفعليّة، ولأجل هذا هو أصيلٌ، أمّا الماهية فهي حدّ الوجود، أي ينتزعها الذهن. والوجود أوضح الأشياء بخلاف الماهية؛ ولأجل هذا لا يمكن تعريفه لأنّ التعريف ينبغي أن يكون أوضح من المعرَّف ولا شيء أعرف من الوجود ولا أظهر منه. وبعبارة أخرى: التعريف الحدّي هو تعريف بالجنس والفصل، ولا جنس للوجود ولا فصل له. وأما تعريفه بشرح اسمه فهو خيارٌ غير صائب، لأنّ من الخطإ الظنّ بأنّ شيئًا له من الوضوح ما ليس للوجود حتّى يُستعان به في تعريفه[24].

نعم إنّ صدر المتألّهين هو أوّل من طرح مسألة أصالة الوجود بصراحة، وجعلها محلًّا للبحث والنقاش الفلسفيّ، وحشد لها الأدلّة والبراهين العقلية التي تثبتها. ويقصد ملّا صدرا من الأصالة عندما تنسب إلى الوجود أنّه الواقع الخارجيّ العينيّ هو المصداق الذاتيّ لمفهوم الوجود الذهنيّ، وأما الماهية فهي أمرٌ انتزاعيٌّ ينتزع من حدود الوجود، ويحمل عليها الوجود بالعرض. ويكرّر في أكثر من كتابٍ له الحديث عن هذا الموضوع ويسرد براهينه المثبتة له، ومن ذلك عرضه ثمانية أدلّة لإثبات هذه النظرية في كتاب "المشاعر" وثلاثة أدلّة على الأقلّ في كتابه "الأسفار"[25].

ومن الأفكار المرتبطة ببحث الوجود التي تخدم غرضنا في هذه المقالة، نظريّته التي طرحها عن التشكيك في الوجود (تفاوت المراتب في الشدّة والضعف)، وهو ما عبّر عنه بعبارة: "الوحدة في الكثرة والكثرة في الوحدة". ويحاول في هذه النظرية توضيح سلسلة الموجودات بمراتبها كافّةً. فهو يرى أنّ مفهوم الوجود من المفاهيم المشكّكة وليس من المفاهيم المتواطئة مثل مفهوم الجسم. ويعني هذا أنّ الأشياء لا تتّصف بالموجودية بالتساوي، بل من الأشياء ما هو متقدّمٌ في الرتبة أو الشدّة على غيره. فلا يُقاس صدق الوجود على الله على صدقه على سائر الموجودات؛ حيث إنّ الوجود الإلهيّ لا حدّ له ولا مقدار، بخلاف سائر الموجودات ذات الوجود المحدود. ويميّز ملّا صدرا وغيره من أتباع مدرسة الحكمة المتعالية بين ما يسمّونه "التشكيك العامّي" وهو ما أشرنا إليه، وبين ما يطلقون عليه "التشكيك الخاصّيّ" وهو عندما يكون ما به الاختلاف هو عين ما به الاشتراك[26]. وبناء على هذا الموقف الفلسفيّ يرى صدرا أنّ من أهمّ صفات الوجود "الوحدة في عين الكثرة والكثرة في عين الوحدة"، فالحقيقة المشتركة بين جميع الموجودات هي الوجود، وسبب الاختلاف المشهود بينها هو تفاوت مراتبها ومستويات صدق الوجود عليها، وينتج عن هذا أنّ الماهيّات ليست أمرًا عبثيًّا وإنما لها منشأٌ واقعيٌّ هو تفاوت المراتب والدرجات المشار إليه.

والوجود ليس واحدًا محضًا عند صدرا، وهذه هي نقطة الاختلاف بينه وبين بعض العرفاء الذين تبنّوا نظرية وحدة الوجود المطلقة، ولكن في الوقت عينه هذه الوجودات الكثيرة لا يُباين أحدها الآخر كما هو معروفٌ في المدرسة المشائيّة. بل الموجودات هي مراتب لحقيقة واحدة مشتركة. وهذه الحقيقة المشتركة هي منشأ الاختلاف والتمايز أيضًا. ومن هنا، أطلق عبارته الأثيرة "ما به الاشتراك" هو عين "ما به الامتياز". والمشترك هو الوجود ونقطة الاختلاف هو شدّة هذا الوجود وضفعه؛ ولا يمكن تصوّر الشدّة والضعف إلا مع الحديث عن مراتب لحقيقة واحدة[27].

والنقطة الأساس التي لا بدّ من الالتفات إليها عند الحديث عن ملّا صدرا هي أنّ أصالة الوجود والتشكيك فيه، لا ينبغي أن تُفسّر بطريقة مفهوميّة ومقولية أو ماهويّة؛ بل يحتاج التعاطي معها، فهمًا وشرحًا وتوضيحًا، يحتاج إلى أدواتٍ من خارج إطار العقل الماهويّ والمفهوميّ. بل لا بدّ من التعامل مع هذه القواعد والمبادئ الصدرائية بطريقة حضورية شهوديّة ثمّ بعد الحضور والشهود يأتي دور المفاهيم والمقولات المفاهيمية للتوضيح والشرح. نعم، إنّ ملا صدرا أنجز في الفلسفة الإسلاميّة ما أنجزه هايدغر في الفلسفة الغربية، وذلك أنّه حوّل مسار الفلسفة إلى غير الوجهة التي كانت تسير فيها، فالفلسفة الإسلامية قبل صدرا كانت فلسفة مسكونة بالبحث عن الماهيّات ومحكومة للعقل الماهويّ، وأما منه فصاعدًا فقد صار الحاكم هو الوجود. فهذه جهة الاشتراك بين الفيلسوفين، ولكنّ كلّ واحدٍ منهما فعل ما فعل في بيئة ثقافية خاصّة، وفضاء فكريٍّ مختلفٍ. ومن أبرز النتائج التي تترتّب على نظرية أصالة الوجود الانتهاء إلى أنّ الوجود المستقلّ والغنيّ هو وجود الله تعالى، وأما سائر الموجودات فهي فقيرة ومحتاجة[28].

"وللوجود كثرة في نفسه؛ ولكن فيه جهةُ وحدةٍ ترجع إليها هذه الكثرة، فتكون حقيقة الوجود كثيرة في عين أنها واحدة، وواحدة في عين أنها كثيرة. وبتعبير آخر حقيقة مشكّكة ذات مراتب مختلفة يعود ما به الامتياز في كل مرتبة إلى ما به الاشتراك... والحق أنها حقيقة واحدة في عين أنّها كثيرة لأنّا ننتزع من جميع مراتبها ومصاديقها مفهوم الوجود العام الواحد البديهي ومن الممتنع انتزاع مفهوم واحد من مصاديق كثيرة بما هي كثيرة غير راجعة إلى وحدة ما... وهي حقيقة مشككة ذات مراتب مختلفة تشبه مراتب النور التي تختلف شدّة وضعفًا ولكنّها تشترك في شيء واحدٍ هو النورية.... ثمّ إنّ بين مراتب الوجود إطلاقًا وتقييدًا بقياس بعضها إلى بعض لمكان ما فيها من الاختلاف بالشدة والضعف... وذلك أنّا إذا فرضنا مرتبتين من الوجود ضعيفة وشديدة وقِسنا إحداهما إلى الأخرى فمن شأن المرتبة الضعيفة أنها لا تشتمل على بعض ما للمرتبة الشديدة من الكمال؛ لكن ليس شيء من الكمال الذي في المرتبة الضعيفة إلا والمرتبة الشديدة واجدة له. فالمرتبة الضعيفة كالمؤلفة من وجدان وفقدان فذاتها مقيدة بعدم بعض ما في المرتبة الشديدة من الكمال وإن شئت فقل محدودة وأما المرتبة الشديدة فذاتها مطلقة غير محدودة بالنسبة إلى المرتبة الضعيفة..."[29].

وكأنّ البحث عن الوجود يضطرّ الفيلسوف إلى ذكر العدم والالتفات إليه بالبحث؛ لأنّه نقيضه وحيث لا وجود ثمّة عدمٌ، والعدم لا حقيقة له في فلسفة صدرا وغيره وما هو إلا اعتبارٌ ذهنيٌّ. ويرى صدرا أنّ من الأمور المعلومة بالبداهة أنّ العدم في نفسه ليس إلا أمرًا بسيطًا ساذجًا متّحد المعنى ليس فيه اختلافٌ ولا تمايز ولا تحصّل أو تحقّقٌ، إلا من جهة إضافته إلى أمرٍ وجوديٍّ، ولكن عندما يتصوّر العقل أشياء متمايزة في ذواتها أو عوارضها كالعلّة والمعلول ويضيف مفهوم العدم إليها يولد مفهوم هو عدم العلّة ويقابله مفهوم آخر يتميّز عنه هو عدم المعلول[30]. فالعدم واحدٌ لا تمايز ولا اختلاف فيه ولا يصحّ تقسيمه في ذاته إلى أقسام، وإنّما يحصل التمايز والاختلاف والتقسيم فيه عندما يُضاف العدم إلى شيء وجوديّ أو مفترض الوجود، فيقال عدمُ هذا وعدمُ ذاك. ومن هنا لا يمكن تعريفه، ولا مصداق له حتّى يُستعان بمصاديقه لتعريفه[31].

وخلاصة القول في نظرية ملّا صدرا هي: "1) مراتب الوجود ليست ثابتةً ولا معيّنة؛ بل هي تسير نحو الأعلى بناء على الحركة الجوهرية؛ 2) والوجود هو المبدأ الأول والوحيد، وهو على اتّحاده ذو مراتب تختلف شدّة وضعفًا؛ 3) وهذه الحركة الصعودية هي حركة تشمل العالم كلّه، وتختم بالإنسان الكامل الذي تجلّت فيه الصفات الإلهيّة بأعلى درجات تجلّيها؛ 4) المرحلة الأعلى من مراتب الوجود تشتمل على كلّ كمالات المرحلة الأدنى؛ 5) الشيء كلّما كان حظّه من الوجود أكبر؛ كان أكثر واقعيّة وانضمامية وجزئيّة وإيجابًا. ونظرية التشكيك هذه تقضي بأنّ الوجود في حالة توسّع دائم، وتمثّل هذه النقطة مركز الثقل في فلسفة الحكمة المتعالية"[32].

الوجودُ مقارنًا: الصدرائية والوجودية

بعد العرض المتقدّم البيئة الفكريّة التي طُرِحت فيها النقاشات الفلسفية المرتبطة بالوجود آن لنا أن نبسط القول في نقاط الاشتراك والاختلاف بين المدرستين. ونحن نعي صعوبة تقديم تعريف جامعٍ للمدرسة الوجوديّة، ولكن على الرغم من ذلك يمكن ذكر مجموعة من العناصر المشتركة التي تسمح لنا بالمقارنة مع الصدرائية على أساسها.

1) التحوّل البنيويّ

أشرنا مرارًا إلى أنّ التحوّل الذي أحدثته المدرستان في الفكر الفلسفيّ أدّى إلى تغيير المسار الفلسفيّ المعهود قبلهما. فقد وقف هايدغر في مواجهة التقليد الفلسفيّ الموروث في أبحاث ما بعد الطبيعة ونظرية المعرفة، وعمد إلى نقد المبادئ  والقواعد الأساسيّة التي ينطلق منها البحث الفلسفي في هذين الميدانين. وقد فعل صدر المتألّهين الأمر عينه؛ حيث حوّل الفلسفة من الابتناء على أصالة الماهية إلى البناء على أصالة الوجود. «فالوجودية ردّة فعل على الفلسفة الرسميّة الأوروبية التي كانت تتبنّى أصالة الماهية بدءًا من أفلاطون وانتهاءً بهيجل. وقد سبق ملّا صدرا الوجودية الحديثة بسنوات عندما تبنّى نظرية أصالة الوجود وحوّل وجهة الفلسفة المدرسية الماهوية في اتّجاه آخر»[33].

2) تجاوز العقل المقولي الأرسطي

كلُّ واحدٍ من الفيلسوفين المبحوث عنهما، ألقى جانبًا وتجاوز العقل المفهوميّ والنظرة المقوليّة الماهوية إلى الأشياء. وغادر أحدهما العقل الكانطي (هايدغر) والآخر العقل المشائيّ (ملّا صدرا)، واستبدلاهما بـ»تجربة الوجود». وإدراك الوجود عند كلٍّ منهما يبدأ بتجربة حيّة حضوريّة وشهوديّة، ولا تتوقّف على توسيط المفاهيم. «وعلى الرغم من عدم دقّة وصف التحوّل الفكريّ الذي أصاب ملّا صدرا بأنّه تجربة دينيّة، غير أنّه من الدقيق وصفه بأنّه تجربة وجوديّة. ومن هذه الجهة يستدعي إلى أذهاننا الفلاسفة الوجوديّين (ومنهم هايدغر) حيث إنّ هؤلاء جميعًا لم يوسّطوا التأمل العقليّ في بحثهم عن الوجود؛ بل وسّطوا التجربة الوجوديّة الحيّة التي كشفت لهم الوجود... فالوجوديّون لا يفكّرون نظريًّا في باب الوجود على نحوٍ كلّيٍّ، أي لا يبحثون عن ذات الوجود بما هو مفهومٌ»[34]. ومهما يكن من أمرِ الاختلاف بين الفيلسوفين، فإنّهما يشتركان في موقفهما من الاستدلال العقليّ المفهوميّ ويريان أنّه أضعف من التجربة الحضورية الوجوديّة.

الوجوديّون ومنهم هايدغر يعارضون العقل النظاميّ البنائيّ والقوالبيّ. «وأكثر الفلاسفة الوجوديّين الحديثين يعتقدون بأنّ الواقع المسمّى بالوجود (existence) وهو الوجود الإنسانيّ الخاصّ لا يمكن وصفه وتحليله بالطريقة الفلسفية النظريّة؛ ولأجل هذا عمد عددٌ منهم إلى معالجة قضاياه بواسطة المسرحية والقصّة والرواية»[35]. وأمّا ملّا صدرا فلا يعارض هذا العقل ولا يرفضه. ولهذا نرى أنّه يطرح الميتافيزيقا والعقل جنبًا إلى جنبٍ، على الرغم من أنّ المسائل العقلية التي يطرحها ذات لونٍ متميّزٍ، وعلى الرغم من أنّ العقلانيّة التي يشتغل عليها وبها هي عقلانيّة شهودية وغير ماهويّة. ومن هنا نجد أنّ ملا صدرا يستند إلى العقل ويستدلّ به: «ولا ينفي العقلَ ودورَه بشكلٍ كاملٍ. بل يعترف له بدورٍ في معرفة الحقيقة يكمّله اليقين الشهوديّ»[36]. وبكلمة موجزة ينحّي الفلاسفة الوجوديّون العقل جانبًا وأمّا ملّا صدرا فإنّه يسلّم له بدورٍ مهمٍّ حتّى لو لم يراهن عليه  وحده.

ومن الصحيح أنّ هايدغر وصدرا كلاهما لهما من العقل موقفٌ، ولكن يختلف موقفُ أحدهما عن الآخر في تفاصيل عدّة. فصدرا يُقبل على الشهود للتعرّف إلى الوجود، غير أنّه نمطٌ من الشهود لا يقيل العقل عن دوره ولا يتنافى معه بل يكمّله ويجبر ما به من نقصٍ. وعليه لا يمكن تصنيف موقفه من العقل في دائرة الخصام والمعاندة، ويترك للعقل الاستدلاليّ محلًّا مقبولًا في فكره وسلوكه الفلسفيّ. ولكنّ ما يتبنّاه هايدغر من مواقف من العقل يكشف عن رفضه للعقل الماهويّ وتسريته هذا الرفض إلى العقل الاستدلاليّ. ويستخدم الوجوديّون عبارات شتّى تكشف عن رفضهم القوالب المعرفيّة الموروثة في الفلسفة الغربيّة، في أبحاثهم حول الإنسان ومن هذه العبارات: «القلق»، «الاضطراب»، «الاختيار المصيريّ»، «الموت»، «العبث»، «الاغتراب»، وتُستخدم هذه الكلمات والعبارات لوصف حالات الإنسان الوجوديّة. وأهمّ ما يحاول الوجوديّون الفرار منه هو ثنائية الذات- والموضوع التي حكمت العقل الغربيّ فترة طويلة من الزمان. يقول بوخنسكي في وصفه لرؤية الوجوديّين: «إنّ جميع الوجوديّين يرفضون التمييز بين الذهن والعيان/ ما هو في الذهن وما هو خارجه، ويرون أنّ هذا التمييز لا طائل من ورائه ولا جدوى من المعرفة الفلسفيّة المستندة إلى هذا التمييز. ويرون أنّ المعرفة الحقيقة لا تولد من العقل أو الفهم؛ بل تولد من التجربة الحيّة المعيشة. ولكنّ هذا الاختبار الحيّ أو التجربة، هو قبل أيّ شيء نتيجة القلق الذي يكتشف الإنسان من خلاله أنّه محكومٌ عليه بالفناء، وأنّه محكومٌ عليه بالموت أو الإلقاء»[37].

وأمّا ملا صدرا فإنّه يستفيد في دراسته لأفكار الفلاسفة المتقدّمين من مقولات الفلسفة ومفاهيمها؛ ولكنّه بعد أن يبيّن مكامن النقص والخلل فيها، يطرح تصوّره الوجوديّ ونظرته إلى الفلسفة. وهذا الذي أعطى المفاهيم الفلسفية التي يستخدمها في مناقشاته الفلسفية معنًى آخر غير الذي كان لها في الفلسفة الموروثة.

3) تعريف الوجود

الوجود شيء لا يقبل التعريف بحسب الفلسفة الوجوديّة؛ لأنّ التعريف يتوقّف على استخدام المفاهيم، بينما لا ينتمي الوجود إلى عالم المفاهيم، ولا يمكن معرفته بالعلم الحصوليّ وبواسطة التعريف المفهوميّ. وما يُعرف بهذه الطريقة ويعرّف هو الموجود وليس الوجود. وعليه لا بدّ من نيله لا معرفته وتعريفه. «ومن هنا يبدأ الوجوديّون عادةً من اختبار أو تجربة «وجوديّة» يصعب تحديدها بدقّة وهي تختلف من أحدهم إلى الآخر في تفاصيلها وكيفية عيشها. فهي تتجلّى عند ياسبرز بوعي الإنسان بـ«هشاشة الوجود»، ويعبّر عنها هايدغر بـ«السير الوئيد نحو الموت»، ويصفها سارتر بـ«الشعور بالغثيان». ولا يخفي الوجوديّون أنّ فلسفتهم تبدأ من هذه التجارب. ولهذا غلب على الفلسفات الوجوديّة طابع التجربة الشخصيّة، ولم يسلم من هذه السمة حتّى هايدغر»[38]. ويصرّح هذا الأخير بأنّنا نعيش في غفلة تامّةٍ عن الوجود، وليس في وسعنا سوى الاقتراب منه.

ويعتقد ملّا صدرا من جهته بعدم إمكان تعريف الوجود. فالوجود عنده من أشدّ الواقعيّات بداهةً، كما هو من أوضح المفاهيم أيضًا. «الوجود مفهومه من أعرف الأشياء». وهو أعرق المفاهيم أصالة؛ إذ بواسطته نفهم غيره من المفاهيم، أضف إلى ذلك أنّ واقع الوجود هو أقلّ الواقعيّات حاجةً إلى الوسائط في ميدان التجربة، ويعني بالتجربة هنا تجربة معرفتنا بالعالم الخارجي. فالمعرفة بالوجود وإدراكه أمرٌ مباشر لا يحتاج إلى الوسائط؛ بل لا يمكن أن يحصل بالتحليل الذهنيّ. والوجود المحض لا يتحقق بصورة الشيء الماديّ الخارجي ليمكن توسيط هذا الماديّ الخارجيّ في إدراك الوجود، ولا يتبدّل إلى مفهوم متناهٍ في الذهن ليوضع على مشرحةِ التعريف المنطقيّ. نعم يمكن أن يُبدَّل هذا الإدراك الشهوديّ المباشر إلى تصوّر مفهوميّ أو إدراك ذهنيٍّ.

المعرفة العميقة بحقيقة الوجود وواقعه تختلف عن المعرفة بمفهوم الوجود الذهنيّ، وبحسب تعبير المدرسة الوجودية الحديثة «معرفة ذات الوجود» من أشكل الشاكلات؛ لأنّ هذه المعرفة تتوقّف على استعدادٍ خاصٍّ لا يتوفّر عند جميع الناس. غير أنّ هذه المعرفة ممكنة ومتاحة لأهل التأمّل ومثل هؤلاء يمكنهم اكتشاف هذا السرّ العميق[39].

يميّز كلا التيّارين الفلسفيين بين الوجود والموجود. وبعبارة أخرى: كلا التيّارين يفصل مفهوم الوجود عن حقيقة الوجود، ويعتقدان أنّ حقيقة الوجود لا تُنال من طريق البحث المفهوميّ. ولكن ثمّة اختلاف يقارن هذا الاتفاق؛ وذلك أنّ ملّا صدرا يحدّثنا عن مفهوم الوجود ويرى أنّه بديهيّ، ويستفيد لتوضيح هذه الرؤية من الأبحاث المنطقية والعقلانيّة. وهو يرى أنّ الوجود أرفع من جميع المقولات المنطقية كالجنس والنوع والفصل، ولأجل هذا يمتنع تعريفه، وما لا تعريف منطقيّ له لا يمكن إقامة البرهان عليه. وليس للوجود علّة ولا مادّة ولا مكان؛ بل هو علّة جميع العلل، وصورة كلّ صورة وهو الواقع النهائيّ لكلّ شيء[40]. وهذا التحليل الصدرائيّ لتعذّر تعريف الوجود هو تحليل منطقيّ.

وأمّا تحليل الوجوديّين لهذه المسألة فهو تحليل ظواهريّ. والظواهرية عند هايدغر ليست فلسفةً، أي علمًا قائمًا بذاته، وليست علمًا بين سائر العلوم، وليست مقدّمة علميّة تمهّد لبناء التعاليم الفلسفيّة المرغوب فيها (الأخلاق والمنطق، وما شابههما)؛ بل الظواهريّة عنده منهجٌ للتفلسف. وعليه، يتّضح أنّ هايدغر يختلف عن هوسرل الذي كان يبتغي استقلال الظواهريّة وجعلها مستقلّةً عن التسلّط الفلسفيّ عليها، فهايدغر يميل إلى إثبات أنّ الظواهريّة هي نهج صريح وجذريّ أكثر من تصوّر الفلسفة علمًا. وعليه، فهو يرسم الخطوط الأصليّة للمسائل البنيويّة من دون إدخال أيّ تعريف جزميّ (هوسرليّ) للظواهريّة. 

4) الاختلاف بين الوجود والإگزيستانس

الموضوع الأساس الأثير بالدرس عند «الإگزیستانسياليّين» (existentialists) هو «الإكزيستانس» (existence). ولا بدّ من الاعتراف بصعوبة تحديد المعنى المقصود من هذا المصطلح عندهم. ولكن يُستفاد منهم أنّ البحث هنا عن نحوِ الوجود الإنسانيّ وكيفيّته. ولذلك قلّما يستخدمُ هايدغر هذه كلمة «إنسان» للتعبير عن المعنى الذي تدلّ عليه هذه الكلمة؛ وإنّما يعبّر عنه بمصطلحات عدّة منها «دازاين»، أو «الموجود هناك»، «إگزيستانس»، «الأنا»، «الموجود نفسه»، على أيّ حال هذا الإنسان بتسمياته المتعدّدة هو وحده الذي عنده إگزيستانس. والأدقّ أن لا نقول عنده بل هو إگزيستانسُ ذاته. وإذا كان ثمّة ماهيّة للإنسان فهي ماهيّة وجوده ونتيجة وجوده الخاصّ.

وعليه، فإنّ الوجوديّة الغربيّة تدور حول الإنسان، وهو محورها الذي تدور رحاها حوله. وتعريف الوجوديّة بأنّها الاعتقاد بأصالة الوجود الخاصّ بالإنسان، دليلٌ على هذا المدّعى. والتبرير الوجوديّ لهذا الاهتمام الخاصّ بالإنسان فلسفيًّا هو أنّ التساؤل عن الوجود طُرِح لأوّل مرّة مع الإنسان. «لأنّ الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يتساءل عن الوجود على نحو العموم، ومن أجل هذا فإنّ وجوده إگزيستانسیيل (أي وجوديّ)، وله صلة بالكينونة والوجودُ ومنسوبٌ إليه أو العكس. وهذا الوجود الخاصّ بالإنسان هو وحده دون سائر الحيوانات عنده استعداد السؤال. والقدرة على السؤال في الواقع تحليلٌ مسبقٌ لشروط إمكان الإدراك لوجود الإنسان الذي هو وجودٌ خاصٌّ في العالم»[41].

بينما يرى صدرا أنّ الأصالة التي يؤمن بها هي من نصيب مطلق الوجود وهي حقيقة الوجود وليس مفهومه، وهذه الحقيقة تمتدّ من الوجود الإلهيّ المحض إلى الوجود المادّيّ الزائل. وهذا الوجود المحض يظهر ذاته بخلق مراتب الوجود. وبناءً عليه، فإنّ الماهيّة لا تظهر إلّا في الذهن وليس لها محلّ في عالم الخارج. ويراها الذهن طبيعة ثانية تبعًا لارتباطها بالوجود في عالم الذهن، وأمّا الطبيعة الأساس فهي الوجود لا الماهيّة. وكلّما اكتمل الوجود ضعُفت الماهيّة، ومن هنا ليس لله ماهيّة. فهو وجود محضٌ، قطعيٌّ، متعيّنٌ وواقعيٌّ؛ والماهيّة مبهمة ومظلمة، سلبيّة، غير متعيّنة، وغير واقعيّة. ومن هنا، لم تكن الماهيّات شيئًا في حدّ ذاتها، ووجودها المفترض يتوقّف على الارتباط بوجودٍ واقعيٍّ تلحق به، وهذا الوجود بدوره متوقّف ومرتبطٌ بالوجود المطلق أي الله تعالى[42].

وبناءً على ما تقدّم يتبيّن أنّ مراد الوجوديّين من مصطلح (Existence)  هو وجود الإنسان وكيفيّة وجوده في العالم. وأمّا عند ملّا صدرا فإنّ حقيقة الوجود تتّسع لجميع المراتب على الرغم من أنّ المراتب الدنيا متعلّقة بما علاها من المراتب، لكن نظريّة الاشتراك المعنويّ لمفهوم الوجود تجعله شاملًا لجميع المراتب. وهذا بخلاف الوجوديّين الذي لا يستخدمون مصطلح (Existence) عند الحديث عن الله أو وصفه، بل يخرجونه من دائرة هذا المصطلح. فهمّهم الأساس هو دراسة وضعيّة الإنسان ولا مجال عندهم للحديث عن واقعٍ مطلقٍ. ومن هنا لا نجد أنّ هايدغر يستخدم مفهوم الوجود إلّا مع الإنسان فسائر الأشياء كائنة فحسب، والكائن الموجود الوحيد هو الإنسان. وأمّا في فلسفة ملّا صدرا فالحديث عن مطلق الوجود. والأصيل هو الوجود المطلق، بمعنى أنّ حقيقة الوجود متقدّمة على الماهيّة بشكل كلّيّ. ففي عالم الواقع الخارجيّ لا شيء سوى الوجود، وما الماهيّات سوى حدٍّ للوجود في الذهن.

فالحقيقة هي الوجود الذي لا يقبل التعريف، وكنهه في غاية الخفاء على الرغم من أنّ مفهومه من أعرف الأشياء وأوضح الأمور. وبحسب هايدغر نحن لا نعرف الوجود بادئ ذي بدء، ولكن سرعان ما نكتشف أنّ بين الموجودات التي نتعرّف إليها صنفان متمايزان. صنفٌ ليس له نسبة إلى ذاته، وليس له بالقياس إلى نفسه حالة أو وضع أو رؤية محدّدة، ولا يمكن أن يكون لهذا الصنف مثل هذه النسبة، ومن أمثلة هذا الصنف ومصاديقه الحجر والشجر، بل الموجوادت الأخرى كلّها سوى الإنسان. وهذا الصنف من الموجودات كائنات فحسب. والصنف الآخر هو الموجود الذي له نظرة إلى ذاته وصلة بأقرانه ونظرائه، بل له نسبة وصلة بسائر الموجودات، وله منهم وبالنسبة إليهم وضع أو حالة أو رؤية... فالإنسان موجود ولكن ينبغي أن يكون أكثر ممّا هو عليه[43]. ومن هنا، يرى هايدغر أنّ مدخل نيل حقيقة الوجود يُبحث عنه في الموجودات، ويختار الإنسان لهذه المهمّة؛ فلا معنى للوجود إلّا عند من يتساءل عن وجوده ويخضعه للفحص والتحليل.

5) تقدّم الوجود على الماهيّة

تفتح لنا المطالب المتقدّمة الباب على مبحث من مهمّات المباحث في المقارنة بين من نحن بصدد المقارنة بينهم: فالوجود متقدّم على الماهيّة في المدرستين وهو ما تؤكّده المدرستان. ويكمن الفرق في أنّ الوجوديّين يرون أنّ الوجود الإنسانيّ الخاصّ مقدّم على ماهيّته، بينما يحكم ملّا صدرا بتقدّم حقيقة الوجود على الماهيّة. وهذا يقتضيه اعتقاد ملّا صدرا بأن لا شيء في الخارج سوى الوجود وبطن الخارج ممتلئة بالوجود على الرغم من تعدّد مراتبه. وما الماهيّة إلّا نتيجة من نتائج التحليل الذهنيّ، حيث يفكّك الذهن بين وجود وماهيّة. وهذا هو الفرق، فالماهيّة مجرّد تحليل وافتراض ذهنيّ عند ملّا صدرا وأمّا عند الوجوديّة فإنّ الوجود هو الذي يصنع الماهيّة. «إنّ هذه الوضعيّات الهشّة وغير الثابتة ناشئة من أنّ وجوده الخاصّ متقدّم على ماهيّته. أي إنّ الإنسان ليس متعيّنًا في حدود خاصّة؛ بل بناءً على القيم التي يختارها، يدفع نحو العمل وتحقّق وجود ذاته، الأمر أو الأمور التي تصنع ماهيّته»[44].

وهنا أيضًا يتبيّن مدى الاهتمام الذي أوْلَتْه المدرستان بقضيّة الماهيّة وحدود المقصود منها. وعلى الرغم من اشتراكهما في وضع الماهيّة في الرتبة الثانية بالقياس إلى الوجود، فإنّهم يختلفون في الماهيّة. عند الوجوديّين هي ماهيّة الأفراد والجزئيّات، وليس في فلسفتهم محلّ للماهيّة الكلّيّة. عندهم لكلّ وجود إنسانيّ خاصّ ماهيّته، ولا تكون منحصرة بالضرورة به وحده. أمّا الماهيّة الصدرائيّة فهي كلّيّة، لأنّها تنتزع من الأفراد جميعًا وتنطبق عليهم جميعًا أيضًا، دون أن يعطيها هذا الانطباق حظًّا من الواقعيّة المستقلّة. وإذا أردنا أن نطلق عليها وصفًا فهو شبه الواقعيّة[45].

6) إدراك حقيقة الوجود

وتشترك المدرستان في الموقف من صعوبة إدراك الوجود وصعوبة الإحاطة به، وقد تقدّمت الإشارة إلى أنّ ملّا صدرا يرى انحصار معرفة الوجود بأهل التأمّل. وأحد الأسباب التي تسهم في تعقيد المعرفة بالوجود هي سيادة النظرالمفهوميّة والمعرفيّة على الفهم والإدراك. ويدخل هايدغر إلى ميدان البحث عن مواجهة الوجود ولمسه، وهنا يطرح مفاهيم (حفرة العدم/ بئر العدم)، والاضطراب وما سوى ذلك... وهو يرى أنّ التجربة الحقيقيّة للوجود عند الإنسان تتحقّق عندما يجد الإنسان نفسه في مواقع من هذا القبيل. ومن هنا يمكن أن نقول ولو بشيء من التسامح في التعبير... أيضًا عند هايدغر شيء ممّا يعبّر عنه بـ»السلوك لنيل حقيقة الوجود وإدراكها». ولا نجد عند ملّا صدرا أكثر من التوقّف عند هذه القضيّة والحكم بصعوبة نيل الوجود وإدراكه. ولا يقترح طريقة محدّدة لاكتشاف كنهه والاعتراف بخفائه وغموضه. وثمّة من يرى أنّ المعرفة بالوجود في فلسفة هايدغر تعتمد على الأمور السلبيّة مثل: العدم، الاضطراب، الموت، وما شابه. «وأمّا ملّا صدرا فإنّه يقترح طريقًا أخر غير ذلك كلّه... فهو يرى أنّ الوجود هو سرّ الفعل الإلهيّ وتجلّي الوجود المحض وعلامة وأثر من آثاره؛ ذلك الأمر الذي يؤدّي إلى مغادرة المخلوقات محيط العدم وتحلّيها بحلية التحقّق والوجود»[46].  هذا ولكن يمكن التعليق على هذه الفكرة بأنّها أقرب ما تكون إلى العرفان وأكثر انسجامًا مع مسيرة أهل الذوق وسيرهم وسلوكهم.

«وفي الغرب يُستفاد من الظواهريّة لمعرفة الوجود. الظواهريّة نظريّة في المعرفة، ومعرفة محدّدة للمعرفة. ولا تقترح الصدرائيّة نظريّةً معرفيّةً لمعرفة الوجود بطريقة إيجابيّة. وعليه، يمكن القول إنّ إدراك الوجود في الفلسفة الإسلاميّة بعيدٌ عن شائبة النظرة المعرفيّة المفهوميّة. وهذا يعطيه حدًّا أعلى من التمحّض والصرافة»[47].

7) التمايز بين الوجود والموجود

يميّز ملّا صدرا من جهةٍ بين الوجود والموجود، ومن جهة أخرى يحكم بالاتّحاد بينهما. وتوضيح هذا أنّ الصورة الوصفية للوجود التي هي عبارة عن ما هو موجود تختلف عن الصورة الفعلية للوجود التي هي تعبير آخر عن التوفّر على الوجود. وإذا أردنا متابعة هذا البحث في قالب التقليد الأرسطي ينبغي القول إنّ ما هو مركز الاهتمام عند أرسطو هو الموجود، والموجود في هذا التقليد هو الماهية التي لها تحقّق في عالم الخارج. وأمّا ملّا صدرا وبناءً على نظريّة أصالة الوجود وبعد الخروج من القول بأصالة الماهية، فقد أسّس بنيانَ ما بعد الطبيعة على أن تكون الغاية والمطلوب الأساس في هذا العلم تحليل الوجود في ذاته. وذلك كما كرّرنا غير مرّة لأنّ الماهية ما هي إلا حدّ الوجود فحسب. وهي في الواقع تكتسب اعتبارها من الوجود وتبعًا له. ومن هنا، تحوّلت فكرة أصالة الوجود إلى ركنٍ مهمٍّ في الميتافيزيقا الصدرائية، وهي فكرة شيّد صدرا بنيانها على أساس الكشف والشهود، وحاول إقامة البراهين المنطقية عليها لجعلها منطلقًا ومقدّمة لإثبات مسائل أخرى في تعاليمه الفلسفية. وهذه الفكرة هي التي حوّلت موضوع ما بعد الطبيعة من أن يكون الموجود (ens) إلى أن يكون الوجود (esse) وقد أدّى هذا التحوّل إلى تغيير القالب الأرسطي للفلسفة الإسلامية الموروثة، وضخّ فيها شهودًا جديدًا لأعمق نظم للواقع بحيث صار يُرى كلّ شيءٍ فيها بما هو حضور أو شهودٌ للوجود نفسه، أو للأمر الإلهيّ في الأشياء[48].

يقول ملّا صدرا في أسفاره الأربعة: «لمّا كانت حقيقة كلّ شيءٍ خصوصية وجوده التي يثبت له، فالوجود أولى من ذلك الشيء بأن يكون ذا حقيقة. كما أنّ البياض هو أولى بكونه أبيض... فالوجود بذاته موجود وسائر الأشياء غير الوجود ليست بذواتها موجودة؛ بل بالوجود العارض لها، وبالحقيقة أنّ الوجود هو الموجود بذاته»[49].

ويتّفق هايدغر مع ملّا صدرا في مبدإ التمييز بين الوجود (الكينونة) والموجود (الكائن) ويجعل محور الميتافيزيقا السؤال عن الوجود. وهو بتكراره سؤال ليبنتز الأثير: «لم كان وجود (شيء مّا) ولم يكن بالأحرى العدم؟»، أو: «لماذا يوجد هناك شيء بدلًا من اللاشيء؟»، وهو بتكراره هذا السؤال يجعل موضوع الفلسفة الأوّل والأساس فهم حقيقة الوجود. وهو يرى أنّ النظر في التقليد الفلسفيّ الغربي الذي ابتدأ بأفلاطون وأرسطو واستمرّ بعدهما مئات السنين، يكشف عن أنّ مركز الاهتمام في هذا الموروث الفلسفيّ هو الموجود وأما الوجود نفسه فقد ظلّ مغفولًا عنه. وربّما يصدق الحكم على الفلسفة الغربية بأنّها نسيت الوجود، وتركته في المساحة المظلمة وقد بقي ما يقرب من ألفي سنة على هذا الحال. والوجود يتوقّع من الإنسان أن يتذكّره لما فيه من مصلحة له بالدرجة الأولى[50].

ويصف هايدغر الرؤية الغربية التقليدية التي كانت حاكمة على الميتافيزيقا بأنها نظرة موجودية (ontic) وهي نظرة أدّت إلى خلوّ كلمة الوجود من المعنى وتحويل معناها إلى نسيٍ منسيٍّ. وقد جعل هذا الخلل الفلاسفة ينظرون إلى الموجودات بدل أن يتأمّلوا وجودها. وهذه النظرة الموجوديّة أغرقت الفلسفة والعلوم التابعة لها أو المبنيّة عليها في التفاصيل التي تعيق عن فهم الوجود نفسه، وتعلّق معرفته على معرفة خصوصيّات الموجودات. ويرى هايدغر أنّ هذه الرؤية تتضمّن عدّ الوجود شرطًا متقدّمًا على التجربة المعرفية، ويتعاملون معه على أنّه شيء معروف يُنطلق منه في المسار العلميّ والمعرفيّ، على أمل أن يثبت المعنى المفترض مسبقًا في نهاية المطاف. وهم يعلنون أنّ فهمنا للوجود متوقّفٌ على دركنا للموجودات. وفي النتيجة لا يقدر هؤلاء على إثبات صحّة الحكم بأنّ معنى الوجود هو ما يُخلص إليه من المعنى الذي يتعيّن عبر الموجودات. وصحيح أنّ الوجود أخيرًا هو وجود الموجودات، ولكنّه أمرٌ مختلفٌ عن الموجودات ولا يمكن بيانه وتفسيره بصفات الموجودات وخصائصها ومشخّصاتها[51]. ويطرح هايدغر في مقابل النظرة الموجوديّة (ontic) نظرة وجوديّة أساسيّة يأمل من ورائها كشف الحجاب عن الوجود.

8) مفهوم الاختيار

يرى فلاسفة الوجود (existence) أنّ الإنسان يقع دائمًا بين مجموعة من الإمكانات. والعالم قبل التفات الإنسان إليه، هو في معرض إمكانٍ خاصٍّ. وبناء عليه، الإمكان الخاصّ هو خصوصيّات الأشياء وحوادث العالم. والإنسان على الدوام يصنع إمكاناته ويحقّقها وفق اختياراته وقيمه وذلك بحريّته. وهذه الأحوال المتبدّلة تربط بين الإنسان وبين الرهبة والقلق، هذه الرهبة التي تجعل الإنسان يلتفت إلى عدم ثبات حالاته وعدم استقرارها[52]. وأمّا ملّا صدرا فإنّه يبرّر خصوصيّات الأشياء وحوادث العالم بما يسمّيه «الإمكان الفقري». وهنا لا محلّ للبحث عن الحريّة والإمكان الخاصّ.

وطريقة تقريب الوجود في فلسفة هايدغر؛ بل في الفلسفة أو الفلسفات الوجوديّة تتمّ من خلال الحديث عن لمس الاختيار عند الإنسان، أمّا عند ملّا صدرا فيتمّ ذلك عن طريق المعقولات الفلسفية الثانية. والاختيار والحريّة من المفاهيم المفتاحية والمحوريّة في الفلسفات الوجوديّة ومن دونهما لا يمكن فهم الوجود الإنسانيّ.

«وهذا المضمون بارزٌ في فلسفة كيركيجارد إلى درجة كبيرة، فهو لا يكاد يميّز بين الانوجاد وبين الاختيار ويعبّر عن المفهومين بطريقة تشعر بالترادف بينهما... وسارتر مصرٌّ على الربط بين المفهومين إلى حدٍّ قريبٍ من الحدّ الذي يراه كيركيجارد. فلا يقبل أنّ الإنسان يوجد أوّلًا ثمّ يكون مختارًا؛ بل معنى الإنسان عنده أن يكون مختارًا من قبل»[53].

والأمر نفسه نراه عند هايدغر تقريبًا. فالإنسان يحدّد إمكاناته باختياره، وباختياره بين الإمكانات المتعدّدة يحقّق وجوده؛ ولأجل هذا فالإنسان من دون حريّة واختيار لا ينوجد بل يكون. وعليه فإنّ الوجود الإنسانيّ لا يمكن فهمه إلا بتجربة الاختيار. «ولأجل هذا يربط هايدغر بين الانوجاد وبين الحريّة (الاختيار). ويرى عدم إمكان درس المفهوم الأوّل مع غضّ النظر عن الثاني... وعندما يتحدّث عن الحريّة يقصد المعنى الوجوديّ للحريّة: أي الحريّة التي بها يبحث الإنسان عن وجوده»[54].

وفي مقابل هذا الكلام الوجوديّ يعالج ملّا صدرا مسألة الوجود بطريقة مختلفة لا تستند إلى مفهوم الحريّة وتجربة اختيار الوجود كما تعبّر الوجودية؛ بل هو يرى أنّ الإنسان يدرك الوجود بواسطة المعقولات الثانية الفلسفية. ومعنى ذلك أنّ الوجود عنده شيء «نفسُ أمريٍّ» يدركه الإنسان بالتجربة ثمّ يحوّله إلى مفهوم قابل للتعميم على سائر الموجودات.

9) العدم

العدم عند الوجوديّين هو من أجل الوصول إلى الوجود. فالعدم عندهم يستوعب الوجود كلّه. ولفهم الوجود على حقيقته لا بدّ من الذهاب إلى حدّ العدم. فالوجود يأتي من بطن العدم، ومن أجل هذا فإنّ العدم والوجود متداخلان. مثلا يطرح هايدغر في كتابه «الكينونة والزمان» الغفلة التامّة عن الوجود. فهو يرى أنّ الإنسان يغفل عن وجوده؛ لأنّه ينظر دائمًا إلى الموجود. وللوصول إلى حقيقة الوجود لا بدّ من الخروج من النظرة الموجودانية والتعالي عنها، للوصول إلى معرفة حقيقة الوجود. وهذا التعالي يتحقّق على أساس الرهبة والحيرة. فالحالة الأولى التي يشعر بها الإنسان هي الرهبة، ففي مثل هذه الحالة يخرج الإنسان من الغفلة عن وجوده، وبعد ذلك يقع في الحيرة وبعدها يبدأ التفكير الفلسفيّ. وهاتان الحالتان بينهما تشابهٌ والفرق بينهما هو في أنّ العدم هو سبب الرهبة، والوجود هو أساس الحيرة... وبناء عليه، الهيبة وحدها هي التي تجعل الإنسان يخرج من إسار الموجودات... وعندما ينكشف لنا فقر الموجودات نستيقظ ونغرق في الحيرة، وبسبب هذه الحيرة وحدها؛ أي انكشاف العدم ينطلق لساننا بالسؤال «لماذا»[55].

وفي المقابل لا يرى ملّا صدرا للعدم أيّ حظٍّ من الوجود، من حيث إنّه عدمٌ. ولكنّه يتساءل عن الأسباب التي تجعل الذهن البشريّ قادرًا على التساؤل حول العدم وإطلاق بعض الأحكام عليه وصياغة المفاهيم منه. ويجيب أنّ الذهن قادرٌ على صياغة المفاهيم والتصوّرات، فهو قادر على تصوّر عدم نفسه، كما على تصوّر العدم المطلق. وبعبارة أخرى: العدم عند ملّا صدرا هو اختراعٌ بشريّ، لا واقع له ولا ثبوت. والوجود عنده يكتشف من طريق الوجود، والعدم أيضًا يكتشف بواسطة الوجود.

وقد طُرحت في الفلسفة ثلاثة أجوبة عن السؤال عن العدم ووجوده، هي: العدم لا وجود له مطلقًا، العدم الكلّي المطلق لا وجود له، العدم موجودٌ مطلقًا. وقد اختار بارمنيدس الاحتمال الأوّل. وتبنّي ديمقريطس الاحتمال الثاني وسمّى الخلأ بالعدم الذي يمكن أن يكون موجودًا. وأفلاطون يقبل العدم الذي يعبّر عنه بالغيرية. فهو يرى أنّ كلّ نفيٍ تعيّنٌ؛ وذلك لأنّ تعيّن المعنى أو المثال يتوقّف على قولِ إنّه ليس المعنى أو المثال الفلانيّ. وعليه فإنّ اللاوجود موجودٌ بخلاف رأي بارمنيدس. واللاوجود النسبي واحد من المقولات الأساسية للفكر، وليست الحاجة إليه لحركة الفكر ونشاط الذهن وواقعيّة الواقع، بأقلّ من الحاجة إلى الوجود. وأرسطو يقبل اللا وجود النسبيّ ويرى أنّه الوجود بالقوّة. وهذا هو الاحتمال الثالث من الاحتمالات التي ذكرناها أعلاه. وأما هيغل فإنّه يرى أنّ تصوّر الوجود ينتهي إلى تصوّر العدم. وتصوّر الوجود وتصور العدم وهما من شرائط حصول الصيرورة وليسا موجودان.

وقد سعى هايدغر لإعطاء العدم واقعيّة. وهو يصرّح بأنّه عندما نتحدّث عن العدم فإنّنا في الواقع نتحدّث عن الوجود؛ وذلك لأنّ الوجود يستعصي على التصوّر والتعريف. وبالتالي فما نراه في العدم هو الوجود. ويعطي هايدغر للعدم كثيرًا من الصفات الإيجابية؛ ولكنّه يرى أنّنا عندما نريد تعريفه فإنّنا لا نقول شيئًا أو نلغي وجوده[56].

ويرى هايدغر «أنّ الوجود يخرج من بطن العدم، والوجود والعدم عنده شيء واحد. والإنسان لا يقدر على الغوص في داخل طبيعته الذاتية، ولا يتمكّن من طرح أسئلة ميتافيزيقية، إلا إذا كانت عنده القدرة على مواجهة العدم»[57]. وعلى أيّ حال فإنّ قضية العدم من القضايا القديمة المطروحة على مائدة البحث الفلسفي. وقد اختلفت الآراء في ما يرتبط بالمسائل التي تدور حول العدم. ومضافًا إلى ما أشرنا إليه آنفًا، يصرّ بارمنيدس أنّ الإنسان لا يمكن أن يعرف ما لا وجود له. وغورغياس يصرح بأنّه لو كان العدم غير موجود فإنّ الوجود أيضًا لن يكون موجودًا. ويتحدّث أفلاطون عن ما يبدو شيئًا ولكنّه ليس بشيء. وأرسطو يحمل أحكامًا شتّى على العدم ويصفه بأوصاف عدّة، وبالتالي يرى ضرورة الحديث عنه.  وهايدغر يرى الترابط بين تساؤل الإنسان عن وجود الأشياء بدل أن تكون معدومة؟ وبين ضرورة الحديث عن العدم. إذا قلنا إنّ العدمَ موجودٌ فكيف يمكن أن يكون الشيء الموجود معدومًا؟ وإذا قلنا إنّ العدم لا وجود له، فكيف يمكن الحديث عنه؟ «ومن هنا، يقول هايدغر إنّ  الشيء الذي ينعدم هو من الأول لم يكن. وهذه هي الطريقة الوحيدة  التي تسمح لنا بالحديث عن العدم... وإذا لم يكن العدم مطروحًا فالوجود نفسه لن يُنبَس ببنت شفة عنه. عدم الوجود في مرتبة الوجود ومقامه. ووجود الإنسان مرتبط بالكينونة لأنّه أخرج نفسه من دائرة العدم»[58].

ويرى هايدغر أنّ العدم من أقدم المسائل الفلسفية، ويعتقد أنّ بارمنيدس في محاورة «ما الميتافيزيقا؟» يشير إلى هذا الأمر حين يقرّر أنّنا لا نفهم معنى الشيء الذي لا وجود له. كما يرى أنّ العدم أوسع بكثير من نفي الوجود، ويقول: «أنا أدّعي أنّ العدم مقدّمٌ على النفي واللا»[59]. «الدازاين هو الموجود الذي يجد طريقه إلى العدم»[60].

وفي مقابل هذه الأهمية التي تُعطى للعدم نجد أنّ فلسفة ملّا صدرا لا تعيره مثل هذا الاهتمام. بل إنّ ملا صدرا يبتعد عن البحث عن العدم بمقدار ما يصرّ هايدغر على البحث فيه، ويكتفي بنفي الوجود عنه، ولا يمنحه سوى مقام نفي الوجود وسلبه. وهو يعالج قضية العدم في الفصل الخامس من المرحلة الثانية من السفر الأول ويقول إنّ العدم مفهومٌ ليس له نصيبٌ من التحصّل والوجود، ويقرّر أنّ الشيء الذي هو في نفس الأمر والواقع عدمٌ لا وجود له: «فالعدم ليس إلا عدمٌ واحدٌ لا تحصّل له أصلًا، وليس في نفس الأمر شيءٌ هو عدمٌ»[61].

وبالمقارنة بين المدرستين نجد أنّ الفرق بين المدرستين في ما يرتبط ببحث العدم يمكن تلخيصه بالنقاط الآتية:

أ- العدم عند ملّا صدرا عدمٌ نسبيٌّ وليس عدمًا محضًا، بل هو عدمُ شيء خاصٍّ. وأما العدم المطلق فلا يمكن الإخبار عنه. وأما هايدغر فإنّ العدم عنده مطلقٌ ومحضٌ.

ب- العدم عند ملّا صدرا بالنسبة إلى الوجود ثانويٌّ وفرعيٌّ؛ بينما العدم الهايدغريّ أساسيٌ يكاد يضاهي الوجود في أهميّته. ولعلّه يمكن القول إنّ العدم والوجود متضايفان عند الوجوديّين، ومتناقضان عند مدرسة الشيرازي.

ج- العدم عند ملّا صدرا هو مجرد عملٍ ذهنيّ منطقيّ ينتج عن النفي. وأما عند هايدغر فهو بمعنى واقعية النفي وليس مجرّد عملٍ ذهنيٍّ. والاختلاف بين الأشخاص، والنفور، والألم الناجم عن الرفض، صورٌ من العدم أشدّ من مجرّد النفي الذهنيّ أو التكذيب.

هـ- العدم عند ملّا صدرا يُدرك بواسطة العقل النظريّ والمفهوميّ، بينما في فلسفة هايدغر يُدرك عن طريق التجربة الإنسانيّة له.

9) مراتب الوجود

من أهمّ الأفكار التي يطرحها صدر الدين الشيرازي نظريّته في مراتب الوجود والتشكيك في صدق مفهوم الوجود على هذه المراتب. وهذه الفكرة ليست مطروحة في الفلسفات الوجودية الحديثة. والعنصر الآخر في هذا المجال هو الحركة الجوهرية. فملّا صدرا كما هو معروفٌ في فلسفته يرى أنّ الوجود مفهوم واحدٌ بسيطٌ؛ ولكنّه في الوقت نفسه يصدق على مصاديقه بالتفاوت وهو ما يعبّر عنه بالتشكيك. والمقصود أنّ الوجود هو منشأ الوحدة والاشتراك بين الأشياء الموجودة في العالم، وهو في الوقت عينه منشأ الاختلاف والتغاير. ولا يعني هذا الكلام سوى أنّ الوجود أمرٌ يقبل الشدّة والضعف. وبعبارة أخرى: أعلى مرتبة من مراتب الوجود وأشدّها هي الوجود الإلهيّ وسائر المراتب هي ما دونه من المراتب ذات الوجود الضعيف إلى أن يصل الأمر إلى أضعف المراتب الملاصقة للعدم وهي مرتبة الماهية.

وأما هايدغر فإنّه يرى أنّ وجود الوجود ليس هو الله وليس أساس العالم، وليس هو أيّ موجود آخر، وبهذا المعنى يُسمّى «ليس»[62].

10) معنى الأصالة والإمكان

ممّا يلفت النظر ويستدعي المقارنة بين المدرستين الفلسفيّتين اشتراكهما في مفهومي الأصالة والإمكان. ولكن هذا الاشتراك مقصورٌ على الاشتراك اللفظي فحسب. فالإمكان في فلسفة هايدغر لا يعني سوى الاختيار المتاح للدازاين، وبين الاختيار والزمان ترابطٌ وثيقٌ. أمّا الإمكان في مدرسة الحكمة المتعالية فهو يرتبط إلى درجة كبيرة بالإمكان الفقريّ، وحاجة موجودات العالم إلى واجب الوجود.

والكلام نفسه يُقال عن الأصالة فهذا المفهوم مرتبطٌ في فلسفة هايدغر بالدازاين وخياراته. فالدازاين الأصيل له صلة بتاريخه وماضيه، ويفهم ما يمليه عليه التراث وهو بصير به، ما يسمح له باتّخاذ علاقات جديدة بهذا التراث. وأما في فلسفة ملّا صدرا فالأصالة حكم أو صفة من صفات الوجود في مقابل الاعتباريّة التي هي صفة من صفات الماهية وحكمٌ من أحكامها. وتعني الأصالة عنده ترتّب الأثر والتحقّق في متن الواقع.

11) الله والإلهيّات

لا تلازم في الوجوديّة بين الفلسفة بما هي علمٌ للوجود وبين الإلهيّات. وأما الصدرائيّة فهي تنطلق من أنّ الفلسفة هي بالدرجة الأولى معرفة الوجود الإلهيّ. «الوجود بما هو واقعٌ وليس بما هو مفهومٌ هو ذات الواقع أو الحقيقة النهائيّة. وهذا الواقع النهائي والحقيقة المطلقة هو «الله»، وذاته لا يعلمها سواه؛ لأنّه في ذاته مطلق وغير مشروط ومتعالٍ»[63].

بينما يرى هايدغر أنّ الإلهيات بنسبتها كلّ شيء إلى الله تسدّ باب التساؤل حول الوجود. وعنده أنّ الفكر الإلهيّ يجعل الوجود لغزًا لا أمل بحلّه. وأما ملّا صدرا فيرى أنّ الله هو مبدأ العالم وغايته. وكل ما في العالم يسير نحوه. وجهة هذه الحركة الوجودية واحدةٌ وتختم بالإنسان الكامل الذي تتجلّى فيه الصفات الإلهية[64].

13) الزمان

والزمان أيضًا من الموضوعات التي طُرحت في المدرستين مع مستوًى عالٍ من الاختلاف. وقد أشرنا من قبلُ إلى أنّ هايدغر يرى أنّ الزمان هو الوجود والوجود هو الزمان. ولأجل هذا أعطى الزمان والزمانية قسطًا مهمًّا من تفلسفه.

ومن جهته ملّا صدرا خصّ الزمان بالبحث في كتبه وآثاره، وذكر له أحكامًا وكانت له منه مواقف، أهمّها ثلاثة، هي:

1- الزمان مقدار الحركة الوضعيّة للفلك الأقصى من جهة التقدّم والتأخّر. وقد عرض هذا الرأي في شرح الهداية الأثيرية وشرح حكمة الإشراق وهو الرأي المعروف الذي تتبنّاه الفلسفة المشائية.

2- الزمان مقدار الحركة الجوهرية للفلك من جهة التقدّم والتأخّر. وهذا الرأي عرضه في أكثر من موضع من كتبه مثل: تعليقة على الإلهيات، والشواهد الربوبية، ورسالة الحدوث.

3- الزمان مقدار الوجود الطبيعيّ المتجدّد بنفسه. وما يمكن عدّه الرأي الأساس لملّا صدرا هو هذا الرأي، وقد عرضه في الأسفار على وجه الخصوص[65]. وفي سياق توضيحه لإشكالية الربط بين الواجب والزمان يقول: «...فالزمان بهويّته الاتصالية التي هي أفق التجدد والتقضي وعرش الحوادث والتغاير شأن واحدٌ من شؤون العلّة الأولى ومرتبة ضعيفة من مراتب نزول الوجود، فيكون أضعف الممكنات وجودًا وأخسّ المعلومات رتبةً»[66].

وعلى الرغم من وجود بعض التشابه في بحث الزمان بين المدرستين غير أنّ هذا التشابه السطحيّ يخفي تحته اختلافًا أهمّه أن هايدغر يربط الزمان بالدازاين ولا يعمّم هذا الربط إلى سائر الكائنات بخلاف ملّا صدرا، والأمر الثاني هو أنّ فهم حقيقة الزمان تختلف بين المدرستين.

المصادر والمراجع:

أحمدي، بابك (1381 أ هـ.ش.) هایدگر وپرسش بنیادین، طهران: نشر مركز.

أحمدي، بابك (1381 ب هـ.ش.) هایدگر وتاريخ هستی، طهران: نشر مركز.

بوخنسكي اينوسنتيوس، (1383 هـ.ش.) فلسفه معاصر اروپایی، الترجمة الفارسية: شرف الدين خراساني، طهران: انتشارات علمي وفرهنگی.

بيمل، والتر، بررسى روشنگرانه انديشه های هايدگر، الترجمة الفارسية: بيژن عبد الكريمی، طهران: انتشارات سروش.

پروتی، جیمز (1379 هـ.ش.) پرسش از خدا در تفکر مارتین هایدگر، الترجمة الفارسية: محمد رضا جوزی، طهران: نشر ساقی.

حاجي سبزواري (1416هـ.ق.) شرح منظومه، تصحيح وتعليق آية الله حسن زاده آملی، قم: نشر ناب.

دارتیگ، آندره (1373 هـ.ش.) پدیدار شناسی چیست؟، الترجمة الفارسية: محمود نوالی، طهران: سمت (سازمان مطالعه وتدوين كتب علوم انسانى دانشكاه ها).

سارتر، جان بول، هستی ونيستی، الترجمة الفارسية: عنايت الله شكيبا پور، طهران: شهريار.

سبزواري، ملا هادي (1366هـ.ش.) شرح غرر الفرائد يا منظومه حكمت، قسمت امور عامه وجوهر وعرض، به اهتمام مهدي محقق وتوشيهيكو ايزوتسو، طهران: مؤسسه انتشارات وچاپ دانشگاه طهران.

سيد، عطيه (1380 هـ.ش.) «صدرا واكزيستانسياليزم»، در مجموعه مقالات همايش جهانى حكيم ملا صدرا، اول خرداد 1378هـ.ش.، (جلد 4)، طهران: بنياد حكمت اسلامى صدرا.

صدر الدين شيرازي، محمد إبراهيم (1366 هـ.ش.) كتاب المشاعر، به همت بديع الملك ميرزا عماد الدولة، طهران: كتابخانه طهوری.

صدر الدين شيرازي، محمد إبراهيم (1366 هـ.ش.) الشواهد الربوبية: الترجمة الفارسية جواد مصلح، طهران: انتشارات سروش.

صدر الدين شيرازي، محمد إبراهيم (1981 م.) الأسفار الأربعة، ج 1، بيروت: دار إحياء التراث العربي.

طباطبائي، سيد محمد حسين (1370 هـ.ش.) نهاية الحكمة، الترجمة الفارسية: مهدي تديّن، طهران: مركز نشر دانشگاهی.

طباطبائي، سيد محمد حسين (لا تا) اصول فلسفه وروش رياليسم، مقدمه وپاورقی مرتضى مطهري، قم: دفتر انتشارات اسلامی.

العطاس، سيد محمد نقيب (1375 هـ.ش.) مراتب ودرجات وجود، الترجمة الفارسية: سيد جلال الدين مجتبوي، طهران: انتشارات مؤسسه مطالعات اسلامى دانشگاه طهران.

قاضي، نبي بخش (1380 هـ.ش.)، «فلسفه وجود ملا صدرا وفلسفه وجود هايدكر»، در مجموعه مقالات همايش جهانى حكيم ملا صدرا، اول خرداد 1378هـ.ش.، (جلد 4)، طهران: بنياد حكمت اسلامى صدرا.

كيركيگارد، سورن (1380 هـ.ش.) ترس ولرز، الترجمة الفارسية: عبد الكريم رشيديان، طهران: نشر مركز.

كوروز، موريس (1379 هـ.ش.) فلسفه هايدگر، الترجمة الفارسية: محمود نوالي، طهران: انتشارات حكمت.

مستعان، مهتاب (1374 هـ.ش.) كی یرکیگور متفکر عارف پیشه، طهران: نشر روايت.

مصلح، علي أصغر (1378 هـ.ش.) «مسئله زمان از نظر ملا صدرا وقيصری»، در مجموعه مقالات همايش جهانى حكيم ملا صدرا، اول خرداد 1378هـ.ش.، (جلد 4)، طهران: بنياد حكمت اسلامى صدرا.

مطهري، مرتضى (1373 هـ.ش.) شرح مبسوط منظومه، طهران: انتشارات حكمت.

مطهري، مرتضى (1373 هـ.ش.) مجموعه آثار، جلد ششم، اصول فلسفه وروش رئاليسم، انتشارات صدرا، طهران، چاپ دوم.

مطهری، مرتضی (1370 هـ.ش.) درسهای الهیات شفا، طهران: حکمت.

مک کواری، جان (1377 هـ.ش.) فلسفه وجودی، الترجمه الفارسیة: محمد سعيد حنائي كاشاني، طهران: انتشارات هرمس.

مک کواری، جان (1376 هـ.ش.) مارتين هایدگر، طهران: انتشارات گروس.

نصر، سید حسین (1382 هـ.ش.) صدر المتألهین وحکمت متعالیه او، الترجمة الفارسية: حسين نوالي، محمود، طهران: دفتر پژوهش ونشر سهروردی.

نوالي، محمود (1374 هـ. ش.) فلسفه هاى اگزیستانس واگزیستانسیالیسم تطبیقی، تبریز: انتشارات دانشگاه تبریز.

نوالي، محمود (1380 هـ.ش.) «مقدمات وجود شناسى ىر ملا صدرا وهايدگر"، در مجموعة مقالات همايش جهانى حكيم ملا صدرا، اول خرداد 1378هـ.ش.، (جلد 4)، طهران: بنياد حكمت اسلامى صدرا.

وال، ژان (1345 هـ.ش.) اندیشه هستی، الترجمة الفارسية: باقر پرهام، طهران: انتشارات طهوري.

وال، ژان (1380 هـ.ش.) بحث در ما بعد الطبیعه، الترجمة الفارسية، يحيى مهدوي وهمكاران، طهران: انتشارات خوارزمي.

وحيد الرحمان، أ. ن. م. (1378 هـ.ش.)، «پژوهش تطبیقی درباره تمایز ماهیت- وجود در فلسفه ملا صدرا واگزیستانسیالیسم جدید غرب"، در مجموعه مقالات همايش جهانى حكيم ملا صدرا، اول خرداد 1378هـ.ش.، (جلد 3)، طهران: بنياد حكمت اسلامى صدرا.

ورنو، روژه ووال، ژان (1372 هـ.ش.)، پدیدار شناسی وفلسفه های هست بودن، الترجمة الفارسية: يحيى مهدوي، طهران: شركت سهامى انتشارات خوارزمى.

هایدگر، مارتین (1379 هـ.ش.)، "نیچه در مقام تفکر میتافیزیک"، الترجمة الفارسية: أصغر تفنکسازی، در نیست انگاری اروپایی، آبادان: نشر پرسش.

هایدگر، مارتین (1380 هـ.ش.)، درآمد وجود وزمان، الترجمة الفارسية: منوچهر اسدی، آبادان: نشر پرسش.

هایدگر، مارتین (1381 هـ.ش.)، "نامه درباره انسانگرایی"، الترجمة الفارسية: عبد الكريم رشيديان، در لارنس كهون (ويراستار) از مدرنيسم تا پست مدرنیسم، طهران: نشر نی.

Cooper, D. E., (2005). Existentialism. London: Blackwell.

Dastur, Fracoise, (1996). “The ekstatico-horizonal constitution of temporality” in Critical Heidegger (158-167). London and New York: Routledge.

Fazl-ur-Rahman, (1975). The Philosophy of Mulla Sadra. Albani: State University of New York Press. 

Heidegger, Martin. (1998). Pathmarks. Edited by W. McNeil. Cambridge: Cambridge University Press.

  Heidegger, Martin. (1987). An Introduction to Metaphysics. Translated by Ralph Manheim. Yale University Press, Inc.

Heidegger, Martin. (1993). “Letter on Humanism,” in Basic Writings of Martin Heidegger. Edited by Farrell Krell. London. 

Heidegger, Martin. (1962). Being and Time. Translated by John Macquerrie and Edward Robinson. New York: Harper and Row Publishers.

Hodge (1995). Heidegger and Ethics. London: Routledge.

Mulhall, Stephen. (1996). Heidegger and Being and Time. London and New York: Routledge.

Mulhall, Stephen. (1996). Routledge Philosophy Guidebook to Heidegger and Being and Time. London and New York: Routledge.

Sheehan, Thomas. (1992). “Time and Being,” in Martin Heidegger, A Critical Assessment (pp. 29-67). Edited by Christopher Macann. London and New York: Routledge.

Wallraff, Cahrles. (1970). Karl Jaspers: An Introduction to his Philosophy. Princeton: Princeton University Press.   

Wright, Kathleen. (1990). “The Work of Art in the Age of Technology” in Martin Heidegger, A critical Assessment. Edited by Christopher Macann.London and New York: Routledge.   

[1]*ـ  مفكر من إيران وأستاذ الفلسفات المقارنة في جامعة العلّامة الطباطبائي، طهران.

[2]- Wright, 1996, p.  254

[3]ـ  أحمدي، 1381 هـ.ش.، ب، ص 283

[4]- wright, 1996, P. 254

[5]ـ أحمدي، 1381 هـ.ش.، ب، ص 213.

[6]ـ  وال، 1380، ص 161-163.

[7]- cooper, 1995, P. 3.

[8]ـ  يستخدم بعض المترجمين العرب كلمة هلع للتعبير عن هذا المفهوم، وهو مفهوم ليس بعيدًا عن المعنى الذي يستخدمه الكاتب باللغة الفارسية؛ ولكن لمّا كانت كلمة «قلق» أكثر استخدامًا وتداولًا في ترجمات كيركيجارد رجّحتها على الكلمة الأولى. (المترجم).

[9]ـ  مك كواري، 1377هـ.ش.، ص 100.

[10]ـ  مستعان، 1374هـ.ش.، ص 71.

[11]ـ  بوخنسكي، 1383هـ.ش.، ص 126.

[12]ـ  وال، 1380هـ.ش.، ص 595.

[13]-  Heidegger, 1962, PP. 20- 33.

[14]- Heidegger, 1987, P. 98.

[15]- Heidegger, 1993, P. 401.

[16]- Mulhall, 1996, P. 182.

[17]-  Heidegger, 1962, P. 465.

وحرصًا منّا على دقّة المصطلحات والعبارات استفدنا في هذا المورد وفي موارد أخرى استفدنا من الترجمة العربية لأعمال هايدغر، حيث وسعنا ذلك واستطعنا العثور على المعادل في الترجمات العربية. انظر في ما يرتبط بهذا المورد: مارتن هايدغر، الكينونة والزمان، ترجمة: فتحي المسكيني، دار الكتاب الجديد المتّحدة، بيروت،  2012، ص 704.

[18]ـ  ورنو وال، 1372 هـ.ش.، ص 220.

[19]-  مطهري، 1373 هـ.ش.، ص 30.

[20]-  المصدر نفسه، ص 30-31.

[21]-  قاضي، 1380 هـ.ش.، ص 223.

[22]-  نصر، 1382 هـ.ش.، ص 181-182.

[23]-  صدر المتألهين، 1981م.، ج 1، ص 23.

[24]-  المصدر نفسه، ص 25؛ وصدر المتألّهين،  1363 هـ.ش.، ص 7.

[25]-  صدر المتألّهين، 1981م.، ص 38؛ و1363 هـ.ش.، ص 10.

[26]-  صدر المتألّهين، 1981 م.، ص 35؛ و1363هـ.ش.، ص 8.

[27]-  صدر المتألهين، 1981م.، ص 71.

[28]-  صدر المتألهين، 1981م.، ص 47.

[29]-  الطباطبائي، 1370هـ.ش.، ص 24 و 26.

[30]-  صدر المتألّهين، 1981م.، ج 1، ص 348.

[31]-  المصدر نفسه، ص 350.

[32]- Fazl-ur-Rehman, 1975, P. 267.

[33]-  سيّد، 1380هـ.ش.، ص 148.

[34]-  سيد، 1380 هـ.ش.، ص 148

[35]-  المصدر نفسه، ص 156.

[36]-  المصدر نفسه.

[37]-  بوخنسكي، 1383 هـ.ش.، ص 128

[38]-  بوخنسكي، 1383هـ.ش.، ص 127.

[39]-  مطهري، 1367 هـ.ش.، ص 19-30.

[40]-  صدر المتألهين، 1981م.، ج 1، ص 20-22.

[41]-  نوالي، 1374 هـ.ش.، ص 335.

[42]-  صدر المتألّهين، 1981م.، ج 1، ص 49.

[43]-  بيمل، 1381 هـ.ش.، ص 52 و53.

[44]-  نوالي، 1374 هـ.ش.، ص 46 و47.

[45]-  وحيد الرحمن، 1378 هـ.ش.، ص 141.

[46]-  المصدر نفسه، ص 156.

[47]-  نوالي، 1380 هـ.ش.، ص 181.

[48]-  نصر، 1382 هـ.ش.، ص 181.

[49]-  ملّا صدرا، الأسفار الأربعة، ج 2، ص 12.

[50]-  ورنو ووال، 1372 هـ.ش.، ص 218.

[51]-  أحمدي، 1381 هـ.ش.، ص 223.

[52]-  نوالي، 1374 هـ.ش.، ص 40.

[53]-  مك كواري، 1377 هـ.ش.، ص 179.

[54]-  أحمدي، 1381 هـ.ش. أ، ص 547.

[55]-  پرونی، 1379، ص 32-35.

[56]-  وال، 1380 هـ.ش.، ص 167.

[57]-  سيد، 1380 هـ.ش.، ص 152.

[58]-  أحمدي، 1381 ب. هـ.ش.، ص 138.

[59]-  Heidegger, 1998, P.84.

[60]- Ibid, P. 96.

[61]-  صدر المتألهين، 1981م.، ص 350.

[62]-  ورنو ووال، 1372 هـ.ش.، ص 233-234.

[63]-  العطاس، 1375 هـ.ش.، ص 22.

[64]-  وحيد الرحمان، 1380 هـ.ش.، ص 123.

[65]-  مصلح، 1378 هـ.ش.، ص 468.

[66]-  صدر المتألهين، 1981 م.، ص 381-382.