البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

سؤال ماهية الوجود وجوهره

الباحث :  مارتن هايدغر
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  5
السنة :  السنة الثانية - خريف 2016 م / 1438 هـ
تاريخ إضافة البحث :  November / 1 / 2016
عدد زيارات البحث :  1619
تحميل  ( 312.494 KB )
هذا النص المستعاد هو أحد أبرز النصوص في كتاب مارتن هايدغر "مدخل إلى الميتافيزيقا". وهو جزء من الفصل الثالث من الكتاب المشار إليه، أما عن مكانة هذا المقتطف في جملة أعمال هايدغر الفلسفية فتعود إلى تضمُّنه العناية بالسؤال الجوهري كمحور لمجمل منظومته الفلسفية، وهو الذي يدور حول سؤال ماهية الوجود وجوهره.

نشير إلى أننا نستعيد هذا النص من الكتاب الذي صدر حديثاً عن دار الفارابي في بيروت وقام بنقله من الألمانية إلى العربية الدكتور عماد نبيل.

المحرر

-----------------

في الواقع، لقد أخذنا على عاتقنا مهمة دراسة كلمة "الوجود" وتفاصيلها، ببساطة، من أجل أن نفهم جيداً الحقيقة المطروحة على بساط البحث بخصوصها، ومن أجل أن نحدد أيضاً مكانتها المناسبة. بالتأكيد، نحن لا نقصد، هنا، أن نقبل تلك الحقيقة المتعلقة بتلك الكلمة على نحوٍ أعمى أو نقبل  الكلام فيها على عواهنه، كما لو أننا نقبل بحقيقة أن هنالك كلاباً وقططاً موجودة من حولنا في هذا العالم. هذا في الواقع ما ننوي القيام به على الرغم من حجم المخاطرة التي تنتظرنا، وعلى الرغم من أن هذا الهدف ومحاولة إنجازه ربما يعطي انطباعاً حاداً عن حالة العناد الصلب التي تتملكنا، ويقدم نفسه على أنه ليس أكثر من سذاجة  بائسة من وجهة نظر الآخرينٍ تتعامل مع ما ليس له صلة بالموضوع وغير واقعي وتضعه في حقل ما هو واقعي وتربك نفسها وتسقط، بالتالي، في شرك عملية تحليل الكلمات العقيمة ليس إلا. هنا، نحن نرغب وبقوة في أن نلقي الضوء على هذه الحقيقة مهما كانت جسامة المهمة والصعوبات التي تنتظرنا. فنتاج جهودنا ينصب على تأكيد الحقيقة التالية وتوضيحها:

طبقاً لعملية تطورها، فإن اللغة تشكل حتما صيغة المصدر لكلمة "الوجود"، على سبيل المثال: "أن يوجد" أو "أن يقدم نفسه"، ولكن مع مرور الزمن أصبحت اللغة، نتيجة لذلك، تنتج معنى ضعيفاً متبلداً وغامضاً لتلك الكلمة. هذا الأمر يحدث، في الواقع، هكذا ليكون على تلك الشاكلة وبهذه الصورة فحسب. فبدلاً من الحصول على توضيح لهذه الحقيقة، أي حقيقة الوجود، التي نحن في أمس الحاجة إلى توضيحها، نقوم فقط بطرح حقيقة أو واقعة أخرى، تناسب وتلائم تاريخ اللغة، تقع إما إلى جانبها أو خلفها.

وإذا حاولنا، الآن، أن نبدأ مع تلك الحقائق التي تعود إلى حقل تاريخ اللغة وبدأنا نتساءل لماذا هي كذلك، حينئذ فإن أساس التفسير الذي ربما نظل نبحث عنه ونقتبسه سوف لن يصبح أكثر وضوحاً كما نعتقد، بل سيصبح، بالأحرى، أكثر غموضاً وقتامة. علاوة على ذلك، فإن حقيقة أن الأشياء تقف كما هي هناك وتعمل وتترجم إمكاناتها كما هي مع كلمة "الوجود" تجعل منها تتحجر في قوالب واقعيتها العنيدة الصلبة. ولكن هذا الأمر حدث منذ زمن طويل. إن هؤلاء الذين يتبعون المنهج المعتاد في الفلسفة هم في الواقع يستحضرون بقوة مثل تلك الحقيقة أعلاه حينما يقولون منذ البداية: إن كلمة "الوجود" هي أكثر الكلمات خواء وفراغاً ولكن هي أيضاً مع ذلك ذات معنى شامل. وما يتم الاعتقاد والتسليم فيه بالعلاقة مع تلك الكلمة (كلمة الوجود)، بناء على ذلك، هو أنها ليست أكثر من مفهوم عام عالٍ، أي أنها جنس. لكن الواحد يظل بالكاد يكتشف مفهوم "الوجود في العموم" "ens inn genere" كما طرحته الأنطولوجيا القديمة؛ مع ذلك، وفي نهاية المطاف، لا يوجد المزيد من السعي والجهد الدؤوب والبحث الجاد في هذا الاتجاه عن معنى الوجود في تلك الأنطولوجيا. إن محاولة ربط السؤال الحاسم للميتافيزيقا مع هذه الكلمة الخاوية والفارغة للوجود يعني ببساطة وضع كل شيء في حالة فوضى وغموض وارتباك. هنا في الحقيقة لا توجد إلا امكانية واحدة من أجل أن نميز وندرك خواء هذه الكلمة وفراغها وتركها من ثم إلى ذلك الحال. وهذا الأمر ربما يبدو هو الذي ينبغي أن نقوم به الآن مع ضمير واضح ومرتاح، بل أكثر من ذلك بما أن الحقيقة، المتعلقة بكلمة الوجود، قد تم توضيحها وحسم أمرها تاريخياً بوساطة حقل تاريخ اللغة.

دعنا  نبتعد الآن عن البحث في مسألة المخطط الفارغ لكلمة "الوجود". ولكن أين علينا أن نذهب إذا تركنا هذا الأمر؟ الجواب عن هذا السؤال لا يمكن له أن يكون صعباً. في الغالب، نحن نتساءَل: لماذا توقفنا كثيراً، وتحديداً في سرد هذا الحجم من التفاصيل، عند كلمة "الوجود"؟. دعنا نشغل أنفسنا الآن مع دقائق وخصوصيات الحقول المختلفة للموجود بذاته. لأنه في ما يتعلق بمسألة المباشرة بهذه المهمة نحن، ببساطة، نمتلك كل مقومات الأشياء المساعدة وضروبها في حوزتنا. نقصد بهذه الأشياء هنا، الأشياء الملموسة مباشرة بالنسبة إلينا، كل الأشياء التي هي باستمرار في متناول أيدينا، على سبيل المثال: الآلات، والعربات أو المركبات...الخ. وإذا كانت هذه الأشياء تصطدم بنا يومياً كأشياء مألوفة لنا، وأنها ليست مَصُوغَةً بشكل كافٍ كي تعبر بحق عن حقل "الميتافيزيقا"، فإننا سوف نقيد أنفسنا فقط في حقل الطبيعة الذي يحيط بنا، على سبيل المثال: في الأرض المترامية الأطراف، في البحر، في الجبال، في الأنهار والغابات وكل الأشياء الموجودة فيها، من أشجار، وطيور، وحشرات، وحشائش وصخور. وإذا أردنا أن ننظر إلى موجود أكبر وأكثر إثارة لنا، سنعثر على الأرض التي هي قريبة منا جدا وفي متناول أيدينا. والموجود الذي يوجد على هذا النحو، في الواقع، بطريقة مماثلة إلى أقرب قمة أو ذروة جبل هو القمر الذي يرتفع مرة أخرى ليلقي بضوئه على الأرض، أو أي كوكب آخر. إن الموجود، علاوة على ذلك، هو ذاك الجمع المحتشد من الناس في الشوارع المشغولة والناشطة والضاجّة دائما بالحركة. الموجود هو نحن أنفسنا. الموجود هو ايبانيون. الموجود هو المقطوعات الموسيقية المختلفة للموسيقار باخ. الموجود هو كاتدرائية ستراسبورغ. الموجود هو ترانيم هولدرلين الشعرية. الموجود هو المجرمون. الموجود هو المجانين الذين يقطنون في مأوى المجانين.

في الواقع، إن الموجودات في كل مكان تمثل حالة رضى واطمئنان في قلوبنا كونها تحيط بنا من كل جانب. ولكن من أين لنا أن نعرف بأن كل واحد من هذه الأشياء التي نستشهد بها وندرجها في عداد بياناتنا مع الكثير من الضمانات هو يمثل حقاً الموجود؟ هذا السؤال الأخير يبدو لنا أنه مناف للعقل ومحض سخف، لأن كل موجود عادي يمكن له أن يُقيم ويؤسس بطريقة لا يشوبها الخطأ حقيقة أنه موجود في هذا العالم. نعم هذا الأمر صحيح ومن الممكن التأكد من ذلك بلا عناء.[بل حتى ليس من الضرورة، بالنسبة إلينا، أن نستخدم مثل تلك الكلمات الغريبة عن لغتنا اليومية المتداولة، "كالموجود" و"الموجودات"]. وفي الواقع لا نستطيع أن نستوعب أن نفهم في هذه اللحظة محاولة أن نشك بوجود كل تلك الأشياء التي تحيط بنا، وأن نقيم شكوكنا فقط على أساس ملاحظات علمية مفترضة، أي، أن ما نجربه من تلك الموجودات هو فقط محض نتاج أحاسيسنا فحسب وأننا لا يمكن مطلقاً أن نهرب من سلطة أجسادنا، التي تبقى مرتبطة بكل الأشياء التي قمنا بتسميتها. وفي واقع الأمر، نود أن نطرح بعضاً من الملاحظات مقدماً بشأن هذا الموضوع وهي: إن مثل تلك الاعتبارات والملاحظات العلمية المفترضة، التي يشعر الناس من خلالها أنهم متفوقون وواثقون، هي ليست كذلك تماما وبالضبط.

في غضون ذلك، ينبغي لنا ببساطة أن ندع الموجود يوجد ويكون، بما أنه يحيط بنا ويهاجمنا، وبما أنه يلهمنا وينفخ فينا الحياة أو يغمنا معاً، في حياتنا اليومية المتداولة وكذلك الأمر في الساعات واللحظات العظيمة، ينبغي لنا أن ندع الموجود يكون ويوجد، تماماً كما هوالحال. ولكن إذا كان لنا أن نحمل أنفسنا، وبالتالي، في مسار وجودنا التاريخي ـ هناك ـ [في ـ العالم]، بدون روح البحث المتأني، كما لو أننا نأخذه على أنه أمر مسلم به؛ وإذا كنا في كل حالة ندع الموجود أن يكون موجوداً كما هو، حينئذ ينبغي لنا أن ندرك جيداً معنى كل من كلمة "يوجد أو يكون" ومعنى كلمة "الوجود".

ولكن كيف يتسنى لنا أن نحدد بدقة ما إذا كان الموجود، والمفترض أن يكون في مكان ما وزمان ما، هوموجود أو غير موجود في الواقع، إذا لم نميز في المقدمة وسلفاً بين مفهومي الوجود والعدم؟ وكيف يتسنى لنا أن نجري هذا التمييز والاختلاف الحاسم ما لم نعرف وبشكل محدد سلفاً معنى الأساس الذي نجري عليه عملية التمييز: أعني التمييز بين مفهومي العدم والوجود. كيف يمكن لأي ولكل موجود أن يكون موجوداً ومفهوماً بالنسبة إلينا ما لم نفهم سلفا مفهوم كل من الوجود والعدم؟

ولكن الأمر الذي لا يطاوله الشك هنا هو أن الموجودات دائما تصطدم بنا ونلتقي بها على طول الخط في حياتنا. فنحن نعمل على التمييز والتفريق بين وجودها على هذه الشاكلة ووجودها على الشاكلة الأخرى، ونشكل ونطلق، من ثم، الأحكام في ما يتعلق بالوجود والعدم. حينذاك يصبح أمراً سطحياً الكلام، وحتى من الخطإ القول: إن هذه الكلمة [أي كلمة الوجود] هي كلمة فارغة وغامضة وغير محددة، كما كنا نردد سابقاً.

إن مثل تلك الاعتبارات تضعنا فعلاً في موقف متناقض إلى أبعد الحدود. ففي البداية، كنا قد قررنا وجهة النظر التي تقول: إن كلمة"الوجود" لا تخبرنا شيئاً محدداً. ونحن لم نقرر هذا الامر في المقدمة؛ لا، فلقد عثرنا عليها، وما زلنا نعثر على الحقيقة التي تقوم بوضوح: إن "الوجود" هو عبارة عن معنى غامض وغير محدد. ولكن من جانب آخر، فإن البحث والاستقصاء، والذي فقط شرعنا في إنجازه للتو، يقنعنا أن نقوم فعلاً وبوضوح بمحاولة التمييز بين "الوجود" و"العدم".

فإذا أردنا أن نكيف أنفسنا ونجعلها تتوافق مع هذا الوضع، ينبغي علينا أن نضع في الحسبان الأمر اللاحق: ربما قد يكون أمر مشكوك فيه ما إذا كان الموجود الفردي، الموجود في مكان ما وزمان ما، موجوداً أو غير موجود بالفعل. ربما يمكن لنا أن نرتكب خطأ بهذا الخصوص، على سبيل المثال: ربما نتساءل ما إذا كانت هذه النافذة هناك، والتي بالرغم من كل شيء هي موجودة، هي مغلقة اوغير مغلقة. مع ذلك، حتى وإن كان هذا الشك ربما يطرح نفسه بقوة، فإن التمييز المحدد والواضح بين "الوجود" و"العدم" ينبغي أن يكون دائماً حاضراً في أذهاننا. ففي تلك الحالة فقط نحن لا نلقي بظلال الشك على حقيقة أن "الوجود" هو حقاً أمر مختلف تماماً عن "العدم".

وهكذا، فإن كلمة "الوجود" هي كلمة عي محددة وغامضة ومجهولة في ما يتعلق بمعناها وما زلنا بحاجة إلى أن نفهمها بشكل قاطع لا مراء فيه حتى وإن قمنا بتمييزها عن العدم. صحيح أن كلمة الوجود تبدو لنا، وهذا الأمر مُبرهن عليه، غامضة وغير محددة المعنى تماماً، ولكنها مع ذلك وفي الوقت ذاته محددة جدا وبقوة. وانطلاقاً من وجهة نظر المنطق المعتادة فإننا هنا في تناقض واضح وصار. [فنحن نعرف] أن الشيء الذي يناقض نفسه لا يمكن أن يكون أو يوجد . على سبيل المثال: لا يوجد شيء على هيئة دائرة مربعة. ولكن مع ذلك بين أيدينا هذا التناقض التالي: وجود محدد، وغير محدد كلياَ في آن واحد. فإذا انحدرنا إلى مستوى نخدع فيه أنفسنا، وإذا كنا نمتلك برهة من الزمن نخصصها لأنفسنا وسط كل نشاطات اليوم المزدحمة وأقسامه، فإننا سوف نجد أنفسنا نقف وسط هذا التناقض الصارخ بوضوح. "وقوفنا" هذا هو، بالأحرى، أكثر حقيقة وصدقاً وواقعية من أي شيء آخر يمكن أن نطلق عليه أنه شيء واقعي؛ إنه أكثر حقيقة وصدقاً وواقعية من حقيقة الكلاب والقطط ومن السيارات الجرائد والموجودة حولنا.

وعلى نحو مفاجئ، فإن حقيقة أن كلمة الوجود هي كلمة فارغة بالنسبة إلينا تأخذ الآن شكلاً وطريقاً مختلفاً تماماً. فنحن بدأ الشك يساورنا في أن تلك الكلمة ربما لا تكون كما يبدو للوهلة الأولى بأنها مجرد كلمة فارغة وخاوية كما تم ادعاء ذلك [في الصفحات السابقة]. فإذا فكرنا بعمق وعن كثب في طبيعة هذه الكلمة، فسنجد أنها في نهاية المطاف ستتحول إلى حقيقة، على الرغم من ضبابية معناها وعموميته، وأننا بلا شك نقصد بها شيئاً محدداً ومعيناً. هذا الوضوح، في الواقع، هو محدد جداً ولا نظير له، وخصوصا في ما يتعلق بنوعه إلى درجة أنه ينبغي أن نقول مجبرين الأمر التالي:

إن الوجود الذي يخص أو يعود إلى كل موجود أيَّاً كان، والذي بالتالي يكون منثوراً بين كل تلك الأشياء التي هي مألوفة وحاضرة بالنسبة إلينا، وهو شيء أكثر فرادة وخصوصية من كل الأشياء الأخرى المثور فيها.

علاوة على ذلك، إن أي موجود، حتى وإن كان فريداً في نوعه، يمكن أن تتم مقارنته أنطولوجياً مع الموجودات الأخرى.فتحديد هويته يزداد وينمو ويترسخ من خلال تلك المقارنات. ولذلك، وبمقتضى تلك المقارنات سيكون هذا الشيء أيضاً، غير محدد وغير معروف سلفاً في الكثير من النواحي الأخرى. لكن "الوجود" مع ذلك، لا يمكن مقارنته بأي شيء آخر. وعلى [النقيض] من الوجود، فإن الشيء الوحيد الأخير المتبقي لدينا [والذي يمكن مقارنته به] هو"العدم". وهنا ينبغي أن لا يفوتنا القول أنه لا يمكن إجراء المقارنة بين الاثنين [الوجود والعدم]. وإذا سلمنا بأن "الوجود"، بالتالي، يمثل أكثر الأشياء فرادة في نوعه وأنه لا نظير له ولا يمكن مقارنته بأي شيء آخر، فإن كلمة "الوجود" حينئذ سوف لن تكون كلمة فارغة وخاوية، وهي، في الحقيقة، ينبغي القول: ليست كلمة فارغة وخاوية إطلاقاً. وربما نقنع نفسنا بيسر بهذا الأمر عن طريق إجراء عملية المقارنة مع ذلك. فحينما ندرك كلمة "الوجود" إما عن طريق سماعها كوحدة صوتية أو لفظية أو نراها كعلامة مكتوبة، فهي على الفور تمنح نفسها امتيازاً على أنها حقاً شيء آخر مختلف عن تعاقب الأصوات والحروف في أي كلمة، وحتى في كلمة "التعويذة". وهذه الأخيرة هي أيضاً تعاقب من الأصوات، لكننا نقول على الفور أنها خالية من المعنى وأمر فارغ وأخرق، على الرغم من أنها تملك معناها كصيغة سحرية. وبشكل مماثل، فإن كلمة "الوجود"، المكتوبة والمرئية، تختلف في الحال عن كلمة "Kzomil".

فهذه الكلمة الأخيرة هي أيضاً، سياق وتعاقب من الحروف، ولكن في العلاقة مع هذا التعاقب أو السياق لا يمكننا أن نفكر بأي شيء ذي معنى ومدلول في ما يتعلق بها. لكن، في الحقيقة، ينبغي القول أنه لا يوجد إطلاقا ما يُسمَّى بكلمة فارغة؛، ففي الغالب قد تتهالك الكلمة وتتهرّأ،، لكنها مع ذلك تبقى ممتلئة بالمعنى والدلالة. إن الاسم "وجود" يظل يحتفظ بقوته الوصفية العامة. إن القول اللاحق: "بعيداً عن هذه الكلمة الفارغة "الوجود" ينبغي لنا أن نذهب إلى الموجودات الفردية الشخصية"، يبرهن على أنه ليس قولاً متسرعاً فقط، ولكنه أيضاً نصيحة أو مشورة مشكوك فيها جداً ولا ينبغي الأخذ بها. دعنا نفكر مرة أخرى في مجمل الموضوع هذا من خلال مساعدة الأمثلة، وأن نكون متأكدين، بأن يكون حال تلك الأمثلة حال كل الأمثلة التي نستعيرها حينما نتعامل مع هذا السؤال، أي لا يمكن لها مطلقاً أن توضح الموضوع كله في نطاقه الكامل، وبناءً على ذلك، ينبغي أن تُؤخذ أو يُتَعامَل معها بمقدار معين من التحفظ.

وعن طريق إيراد المثال، نريد أن نستبدل صيغة المفهوم العام والكلي"للوجود" مع المفهوم العام والكلي "للشجرة". فإذا أردنا الآن أن نحدد ما هي بالضبط ماهية الشجرة وجوهرها، علينا أن نبتعد عن المفهوم العام للأنواع الخاصة الفردية لشجرة وعن العينات الخاصة لهذه الأنواع. هذا المنهج هو منه واضح ـ بذاته لدرجة أننا، تقريبا على ما أعتقد، نتردد كثيراً في ذكره. لكن الأمر ليس بهذه البساطة التي يوحي بها كل ذلك. الآن، كيف لنا أن نعثر على الأشجار الفردية المهمة بحد ذاتها، أي كأشجار؛ كيف ينبغي لنا أن نكون قادرين حتى على البحث عن الشجرة، ما لم تتألق وتلمع الصورة والفكرة المتمثلة للشجرة ـ أي تصور الشجرة) بشكل عام أمامنا؟ فإذا كان هذا التصور العام "للشجرة" غير محدد تماماً وضبابياً بحيث أنه لا يعطينا أي إشارة معينة للبحث والعثور على الشجرة، فإننا ربما نجيء تماماً بالسيارات والأرانب، كموجوداتنا الشخصية المحددة الفردية، كأمثلة للشجرة. مع ذلك، ربما يكون من الصواب القول أنه من أجل أن نعين ماهية "الشجرة" وجوهرها بكل معنى الكلمة وفي كل جانب من الجوانب، ينبغي علينا أولاً، أن نمر من خلال الموجود الفردي الشخصي، فإنه يبقى على الأقل صحيحاً على حد سواء أن مسألة توضيح الماهية وثرائها هو أمر ممكن وفق الأساس الجذري، والذي من خلاله نقدم ونعرف الماهية العامة أو الكلية "للشجرة"، والتي في هذه الحالة تعني بدورها أيضاً ماهية "النبات"، والتي بدورها تعني أيضا ماهية "الأشياء الحية" و"الحياة". فما لم تتم قيادتنا بواسطة مؤشر المعرفة المتطورة "للشجرة"، والتي تتحدد بشكل واضح من داخل أساسها الجوهري، فإننا يمكن أن نستعرض ونلقي نظرة على الآلاف والآلاف من الأشجار ـ عبثاً ـ ينبغي أن لا نرى الشجرة [بذاتها] بسبب الأشجار.

الآن، وبدقة أكثر، في ما يتعلق بمصطلح "الوجود"، المرء ربما يطرح الحجة اللاحقة": بما أن الوجود يمثل أكثر المفاهيم عمومية وشمولاً، فإن تصورنا وفهمنا له لا يمكن أن يكون في أي حال من الأحوال أعلى مما هو عليه بالنسبة إلينا. ففي التعامل مع هذا المفهوم، باعتباره المفهوم الأسمى والأكثر عمومية بالإشارة إلى ما يُصنف وإلى ما ينضوي أو يندرج "تحته"، فإنه ليس فقط من المستحسن أن نمسك بهذا التأويل بقوة ولكن أيضاً، ينبغي أن نعتبره بمثابة الأمثل الوحيد الذي من خلاله يمكن لنا إيقاع الهزيمة بمسألة فراغه وخوائه.

ومما يلفت النظر حقاً أن هذه الحجة كما يبدو ليست على صواب. هنا، دعنا نُورِدْ سببين لتبرير ذلك:

(1) إنها وبشكل عام تنفتح على السؤال اللاحق وهو ما إذا كانت عمومية الوجود وكليته هي ذاتها عمومية الجنس وكليته. لكن أرسطو، مع ذلك، قد ألقى بظلال الشك بقوة على هذه النقطة تحديداً. نتيجة لذلك، فإنه لا يزال موضع الشك ما إذا كان الوجود الفردي الشخصي يمكن اعتباره، أي وقت آخر مضى، مثالاً للوجود، على الشاكلة نفسها التي نعتبر فيها، على سبيل المثال: شجرة البلوط مثالاً "للشجرة بحد ذتها".

(2) إن كلمة "وجود" هي، في الواقع، عبارة عن اسم كلي، وإنها على ما يبدو تظهر ككلمة من بين العديد من الكلمات الأخرى. ولكن هذا الظهور يبدو أنه مخادع ومضلل. في الحقيقة، إن الاسم من جهة، وما يُسمّيه هذا الاسم من جهة أخرى، كلاهما أمر فريد من نوعه ولا نظير له في عالم اللغة. ولهذا السبب تحديداً، فإن أي عملية توضيح عن طريق إيراد الأمثلة بهذا الصدد هي محض تشويه وتحريف: لأن كل مثال في هذه الحالة تحديداً لا يبرهن إيراده على الكثير بل بالأحرى، على القليل والقليل جداً. ولقد أشرنا أعلاه إلى مسألة أننا ينبغي أن نعرف مقدماً ماذا تعني "الشجرة"؟ من أجل أن نكون قادرين حقاً على البحث والعثور من ثم على الأشياء الفردية الشخصية المحددة: نوع الشجرة والأشجار الفردية المشخصة. فهذا الأمر يبقى الأكثر صحة والأصدق بالنسبة إلى الوجود. هنا، إن النقطة ذات الأهمية الكبرى التي لا تقارن هي ضرورة أن نفهم كلمة "الوجود" سلفاً ومسبقاً. إذن، لا ينبغي، وبسبب "عمومية وكلية" الوجود بالعلاقة مع كل الموجودات، أن نعجل في الابتعاد عنه، ونذهب بدلاً من ذلك نحو طريق الموجود الفردي الشخصي؛ لا، بل إن ما ينبغي حقاً أن يحدث هو العكس، ذلك أننا ينبغي أن نواظب ونثابر في العمل مع "الوجود" ونعمل على إثارة وتبيان أصالة وفرادة وتميز هذا الاسم وما الذي يُسميه ويطرحه لمستويات وآفاق المعرفة.

وعلى الضد من الحقيقة التي تقول بأن معنى كلمة "الوجود" يظل ضبابياً غير محدد ومعين لنا، فإن حقيقة أننا نفهم "الوجود" ونميزه مع درجة من اليقين ونفرقه عن "العدم"، هي ليست فقط حقيقة أخرى، أوحقيقة ثانية؛ بل هما في الواقع [أي الوجود والعدم] كلاهما يعودان إلى بعضهما البعض، بمعنى أنهما حقيقة واحدة. في هذه الأثناء، فإن هذه الحقيقة الواحدة الأخيرة فقدت تماماً صفة الحقيقة بالنسبة إلينا. فنحن لا نعثر عليها أيضاً، معطاة بين العديد من الوقائع الأخرى. بدلاً من ذلك، بدأنا نلقي بظلال الشك على بعض من العمليات والتي هي في الواقع في حالة عمل مستمر داخل ما نعتبره حتى هذه اللحظة، مجرد حقيقة أو واقعة ثابتة. وطبيعة هذه العمليات تستثني الوجود من "الحالات والحوادث" الأخرى.

ولكن، قبل أن نستأنف محاولتنا للعثور على ما هو نوع وطبيعة العملية التي هي في حالة حركة وفعالية في هذه الواقعة، دعنا نَقُمْ بآخر محاولة ونعتبرها مجرد شيء مألوف ومحايد. دعنا نعتبرْ أن هذه الواقعة أو الحقيقة [المتعلقة بالوجود] غير موجودة. دعنا نفترضْ أنّ هذا المعنى غير المحدد للوجود أنه لا يوجد وأننا أيضا لا نفهم ما الذي يعنيه هذا المعنى. فماذا بعد هذا؟ هل سيكون اسم الوجود ليس أقل أو أكثر من أي اسم وفعل آخر من أسماء وأفعال لغتنا؟ الجواب: لا، سوف لن تكون هناك لغة بالمرة اذا افترضنا أنه لا يوجد معنى للوجود. سوف لا يوجد موجود واحد بحد ذاته يفتح ويفض نفسه ويتجلى من خلال الكلمات، لأنه لم يعد من الممكن ذكره والحديث عنه أو التعبير عنه بكلمات في ظل افتراض عدم وجود معنى للوجود. لأن الحديث عن الموجود بحد ذاته يتضمن أن تفهم هذا الموضوع سلفاً ومسبقاً كموجود، أي، أن تفهم وجوده. وعلى افتراض أننا لم نفهم الوجود تماماً، وعلى افتراض أن كلمة "الوجود" لا تمتلك حتى معناها الضبابي الذي تم ذكره أعلاه، فإنه سوف لن تكون هناك كلمة واحدة في لغتنا فنحن من أنفسنا سوف لن نكون متحدثين أو متكلمين ملقاً وسوف لن نكون مشابهين لما نحن الآن عليه تماماً وبكل معنى الكلمة. إن المرء يقول "نعم" و"لا" فقط لأنه في أعماق ماهيته وجوهره هو إنسان متكلم، إنه متكلم لانه يتحرك في سياق معنى الوجود. هذه هي ميزته واختلافه عن الآخرين. وهي في الوقت ذاته تمثل عبثه الطائل الذي يرزح تحته. إن هذه الميزة أعلاه [كونه متكلماً] تميزه عن باقي  الموجودات كالأحجار، والنبات، والحيوانات، ولكن أيضا عن الآلهة. وحتى لو كنَّا نمتلك آلافاً من العيون وآلافا من الآذان، وآلافاً من الأيدي والعديد من الحواس والأعضاء الأخرى، وإن ماهيتنا لا تتضمن بين طياتها قوة اللغة القائمة أصلاً على معنى الوجود، فإن كل الموجودات سوف تغلق أبوابها بوجهنا، وإن الموجود الذي هو نحن سيكون ليس أقل من الموجود الذي هو ليس نحن.

إن المراجعة وإعادة النظر في كل ما قمنا بمناقشته حتى هذه اللحظة يكشف لنا أنه من خلال طرح فهم الوجود وتثبيته كواقعة (والتي ما زالت بدون اسم حتى الآن) والتسليم من جانب آخر بهذا الافتراض، أعني، أن الوجود بالنسبة إلينا هوعبارة عن كلمة فارغة ذات معنى ضبابي وغامض، فإننا بذلك نحط ونقلل من قيمته ونجرده من مرتبته المناسبة. لأن وجودنا ـ هناك [في ـ العالم]، هوفي الواقع يمثل محاولتنا لفهم هذا الوجود وأنه، حتى وإن كان هذا الاخير غير محدد، فإنه يظل يمتلك أعلى مرتبة، بما أنه في تلك المحاولة فحسب يتم الكشف عن القوة التي ترتكز عليها المكانية الأساسية لوجودنا ـ هناك ـ [في ـ العالم]. إن هذه الواقع أوالحقيقة هي ليست واقعة موجودة فحسب بين الوقائع والحقائق الاخرى، بل إنها تمثل شيئا ما ينبغي في الواقع أن يتلائم وينسجم فقط مع المكانة الأعلى مرتبة، وتزودنا أيضا بحقيقة أن وجحونا ـ هناك [في ـ العالم]، والذي هو دائما وجود تاريخي هناك، لا يبقى أمراً محايداً وغير متكثرث بما يحصل حوله. ولكن حتى وان كان وجودنا ـ هناك ـ [في ـ العالم] ينبغي له أن يبقى بالنسبة إلينا موجوداً محايداً وغير مبالٍ، فإنه ينبغي علينا أن نفهم "الوجود". فبدون هذا الفهم سوف لن نكون حتى قادرين أن نقول لا لوجودنا ـ هناك [في ـ العالم] أو لا نكترث.

فقط من خلال تقويم تفوق هذا الفهم "للوجود" وأسبقيته نستطيع فعلاً أن نستوعبه حقاً ونفهمه في مرتبته الحقيقية. ولكن، في أي طريقة من الطرق، وبأي معنى من المعاني، يمكن لنا أن ندرك جيداً هذه المكانة أو المنزلة للوجود، ونحافظ عليها في نبلها؟ لا يمكن أن نقرر الجواب هنا على هذا السؤال بطريقة إعتباطيّة.

وبما أن عملية فهم "الوجود" تبقى، أولاً وقبل كل شيء، ذات معنى غامض وملتبس، ولكنها تبقى في الوقت ذاته معينة ومحددة؛ وبما أنّ عملية فهم الوجود، في منزلته ومكانته، وفقاً لذلك  تظل أمراً غامضاً ومرتبكاً ومخفياً، فإنه ينبغي، أولاً، أن يتم توضيحه وحل إشكالاته وإخراجه من خفائه وتكتمه، أي إيصاله إلى حالة الانفراد التي تسمح بالظهور. هذه المهمة يمكن إنجازها بنجاح فقط إذا أجرينا تحقيقنا حول عملية فهم الوجود هذه بذاتها، والتي قبلنا في البداية أنها مجرد واقعة ـ أي إذا وضعنا ذلك في صيغة سؤال.

إن عملية التساؤل عن الوجود بحد ذاتها هنا، هي حقاً عملية أصيلة وموثوق بها، وهي بالإضافة إلى ذلك تمثل الطريقة الوحيدة التي نقوم وندرك بها إدراكاً كاملاً ما الذي يجعل"الوجود"، ومن خلال مرتبته ومكانته العليا، يمسك ويقبض بإحكام على وجودنا بقوة من خلال سلطته المعرفية. وبالتالي، فإنه لا يوجد سؤال أجدر منه أن يطرح على بساط البحث وأكثر استحقاقاً من سؤال فهمنا للوجود، بالطبع ما لم يكون سؤال "الوجود ذاته". فكلما كان سؤالنا أكثر أصالة وموثوقية، كلما كنا نُقيم، على الفور وبشكل مباشر، وأكبر في وسط أكثر الأسئلة القابلة للنقاش وعرضة للشك، أعني هنا، أن الحال أو الظرف الذي من خلاله نفهم فيه الوجود، هو تماماً غير محدد ولكنه في الوقت ذاته يمتلك تحديدا عالياً.

فنحن نفهم كلمة "الوجود" ومعها نفهم كل تصريفاتها، على الرغم من أن هذا الفهم يبدو وكأنه أمر غير محدد. أما في ما يتعلق بسؤال: ماذا نفهم بالضبط من الوجود؟ أوفي ما يتعلق أيضاً، ببعض ملامح الطريق الذي ينفتح ويتبدى لنا بذاته من خلال ها الفهم فإننا نقول: إنه، بلا ريب، يمتلك معنى. فبقدر ما يفهم وبأي طريقة كانت، فإن الوجود يظل يمتلك معنى. فأن تحاول أن تجرب وتفهم "الوجود" باعتباره أكثر المشكلات أهمية  واستحقاقاً وأن تستقصي وتبحث خصيصاً عن الوجود، يعني، بالتالي، لا شيء أكثر من عملية البحث عن "معنى الوجود".

في كتاب «الوجود والزمان» يتم طرح وإثارة سؤال «معنى الوجود وتطويره كسؤال يطرح ولأول مرة في تاريخ الفلسفة. وكذلك تم ـ في تفاصيل دقيقة أيضا ـ  ذكر وتوضيح ما المقصود تحديداً بالمعنى هنا ـ أقصد كشف الوجود وفضه ـ  وليس فقط كشف الموجود بحد ذاته وفضه).

ولكن لماذا لم نُسَمِّ ما ذكرناه للتوّ بالواقعيّة؟ لماذا كان هذا المصطلح، مصطلح الوجود، مفصّلاً منذ البداية بالنسبة إلينا؟ الجواب هو: لأن هذا الظرف أو الحال، الذي نفهم من خلاله الوجود، لا يحدث فقط هكذا كما تحدث الظروف والحالات الأخرى في حياتنا، على سبيل المثال: حال أننا نمتلك فصوص الآذان بهذا الشكل أوبذلك الشكل. وبالإضافة إلى فصوص الآذان تلك، توجد أيضاً هناك بعض من الأسس والبنى الأخرى نحن نفهم «الوجود» ليس فقط على أنه شيء حقيقي وواقعي، ولكن أيضاً على أنه شيء ضروري. بدون هذا الكشف والافتضاض للوجود فإننا سوف لن نكون قادرين على حيازة صفة «الجنس البشري». وللتأكّد من ذلك، ليس من الضروري لغاية أنه يجب أن نكون كذلك. لأنه، هناك إمكانية صرفة أن الإنسان ربما لن يحوز على صفة الجنس البشري إطلاقاً في تاريخه. فبعد كل شيء كان هنالك زمن في الماضي لم يكن فيه الإنسان حائزاً على صفة الجنس البشري. ولكن بالمعنى الدقيق للكلمة لا يمكننا قول الأمر التالي: إنه كان هنالك زمن في الماضي حينما لم يكن الإنسان حائزاً فيه على صفة الجنس البشري. لأن في كل الأزمان كان الإنسان إنساناً وحائزاً على صفة الجنس البشري، فالإنسان كان إنساناً، وهو الآن إنسان، وسيظل إنساناً، لأن بُعْدَ الزمان ببساطة لا ينتج نفسه إلا بقدر وجود شرط الإنسان مقدماً. فلم يكن هناك وجود للزمان حينما لم يكن الإنسان موجوداً بعد، ليس بسبب أن الإنسان كان موجوداً منذ الأزل وسوف يظل خالداً إلى الأبد، ولكن لأن الزمان ليس أمراً أزلياً وأنه يشكل ويصنع ذاته فقط من خلال وجود الإنسان، فقط من خلال وجود الإنسان كوجود ـ تاريخ-هناك ـ [في ـ العالم]. ولكن مع ذلك يبقى الشرط الضروري لوجوده ـ هناك ـ [في ـ العالم] هو أن يفهم الوجود. فبقدر أهمية هذا الفهم وضرورته، يصبح الإنسان كائناً تاريخياً حقيقياً.

وبناءً على ذلك، نحن نفهم الوجود ليس فقط وكما يبدو للوهلة الأولى، بصيغة المعنى الغامض والمبهم والملتبس للكلمة الضبابية. لا، إن التحديد والسياق الذي نفهم من خلاله المعنى الغامض والمبهم للوجود يمكن تعيينه بشكل لا لبس فيه، ليس بمعنى تحديده بعد الواقعة، ولكن تشخيصه كتعيين غير معروف لنا فحسب، يحكمنا بقوة من خارج أسوار أساسات وجودنا الحقيقية. ومن أجل أن نظهر هذا الأمر ونبيّنه، سوف نبدأ مرة أخرى من دائرة كلمة «الوجود». هنا، مع ذلك، ينبغي أو تجدر الإشارة، تماشياً مع السؤال الميتافيزيقي الأساسي الذي طرحناه في البداية، أن نأخذ هذه الكلمة بمعناها الواسع الفضفاض؛ بعبارة أخرى، أن نعثر على حدها فقط في اللاشيء أو العدم. فكل شيء هو ليس ببساطة لا شيئاً في معناه، وهو في الحقيقة، موجود كباقي الموجودات الأخرى، وبالنسبة إلينا فإنه حتى اللاشيء أوالعدم «يعود» بمجمله إلى حقل الوجود.

في المناقشة الحالية اتخذنا بالفعل خطوة حاسمة. ففي هذه المحاضرة [أوهذا الكتاب دعنا نَقُلْ]: كل شيء يعتمد حقاً على مثل هكذا نوع من الخطوات. إن الأسئلة المتفرّقة والمتباعدة التي تطرح علينا في هذا الكتاب من هنا وهناك بيّنت لي مراراً وتكراراً أن معظم الناس تصغي بالعادة إلى الاتجاه الخاطئ [ في ما يتعلق بقضية سؤال الوجود] وأصبحت، من ثم نتيجة لذلك، مرتبكة وواقعة في شرك التفاصيل الكثيرة والمملة. إن الأمر الواضح جداً والذي يؤخذ بعين الاعتبار دائماً، في ما يتعلق بالمحاضرات التي تلقى في مجالات العلوم الخاصة كافة، هو مسألة «السياق». ولكن بالنسبة إلى العلوم المختلفة فإن «السياق» يتعين مضمونه بشكل مباشر بواسطة سلطة الموضوع، الذي هو دائماً حاضر وموجود بطريقة ما بالنسبة إلى العلوم بأنواعها. أمّا بالنسبة إلى الفلسفة، من جهة أخرى، فإن الموضوع ليس حاضراً إطلاقاً؛ علاوة على ذلك، إن الفلسفة لا تمتلك موضوعاً تبدأ منه. بعبارة أخرى، إنها فقط «عملية» ينبغي لها في كل الأزمان أن تنجز وظيفة الوجود ـ في حالة تجلّيه وتبدّيه وتمظهره الملائم – ثانية ومرة أخرى ومن جديد. فقط من خلال هذه «العملية» ووسطها يمكن للحقيقة الفلسفية أن تكشف عن نفسها وتتبدى للعيان. لهذا السبب تحديداً، يصبح من الضرورة على القارئ هنا أن يتخذ خطوات مختلفة جادة في تتبع سير هذه «العملية» مع هذا الكتاب وبعد الانتهاء من قراءته أيضاً، من أجل فهم سؤال الوجود.

ما هي الخطوة التي ينبغي علينا أن نتخذها تحديداً؟ ما هي الخطوة التي ينبغي علينا أن نأخذها مراراً وتكراراً؟

أولاً، لقد اعتبرنا، بالفعل، الفرضية اللاحقة كحقيقة: إن كلمة «الوجود» لها معنى غامض ومبهم وملتبس؛ وهي تقريباً، على ما أعتقد، كلمة فارغة. فالمناقشة الأكثر دقة حول تلك الحقيقية يمكن أن تبوح بالتالي: هذا الغموض أو الالتباس، الذي يلف كلمة الوجود، يمكن أن يعثر على توضيحه: (1) في الصفة الضبابية وغير الواضحة التي تمتلكها صيغة المصدر لكلمة الوجود، (2) وكذلك في صيغة الخليط الذي تدخل فيه ويتضمن كل جذور المعاني الثلاثة الأصلية المتعلّقة بتلك الكلمة.

وبالتالي، فإننا نحدد الحقيقة التي من شأنها أن توضح، كنقطة انطلاق راسخة غير مهتزّة، كل تراث التساؤل الميتافيزيقي عن «الوجود». إنها تبدأ رحلتها من حقل «الموجود» وهي تتوجه نحوه بقوة. بعبارة أخرى، إنها لا تبدأ من حقل «الوجود»، ولا تدخل أيضاً في مناقشة الطبيعة المشكوك فيها وغير القابلة للتساؤل لعمليّة تجلّيه وظهوره للعيان. وبما أن معنى «الوجود» ومفهموهه يمتلكان كلاهما عمومية وكلية عالية، فإن الميتافيزيقا «كعلم الطبيعة» لا يمكن لها أن تذهب بعيداً أو أعلى في مسعاها كي تحددهما وتعرفهما عن كثب. فليس لها، إذن، إلا طريقة واحدة باقية تسلكها، وهي الحركة من حقل الكلي إلى حقل الموجود الفردي الشخصي. وبهذه الطريقة، تعمل الميتافيزيقا، بشكل صائب، على مَلْءِ فراغ مفهوم الوجود، أعني تملؤه مع الموجودات الفردية. ولكن اتباع النصيحة التي تقول: «بعيداً عن مفهوم الوجود، ينبغي الذهاب إلى الموجودات الفردية الشخصية»، يبيّن لنا أن الميتافيزيقا بهذه الفعلة تسخر وتهزأ من نفسها من دون أن تعلم أو تعي ذلك لأن الكلام عن «الموجود الفردي الشخصي» يمكن له فقط أن يكشف لنا عن ذاته ويتجلّى للعيان على هذا النحو من حيث إننا مسبقاً نفهم «الوجود» في ماهيته.

لقد تم إلقاء بعض الضوء على هذا الماهية. ولكن لم يتم حتى الآن وضعها ورسم حدودها وأسوارها في منطقة الاستجواب.

الآن، دعنا نتذكَّرِ السؤال الذي طرحناه منذ البداية: هل «الوجود» هو مجرد كلمة فارغة؟ أم هل أن الوجود والتساؤل عن سؤال الوجود كلاهما النقطة الأساسية وصلب الموضوع بالنسبة إلى كل التاريخ الروحي للغرب؟

هل الوجود يمثل مجرد آخر مسحة غائمة من الواقع المتبخّر والمتلاشي؛ هل هو فقط بالنسبة إلينا موقف يمكن أن ندعه يتبخّر ويتلاشى في لامبالاة كاملة؟

وهكذا من ثم، في طرح مثل هذا الاستفسار، نأخذ خطوة حاسمة وفاصلة إلى الأمام، بمعنى، أن ننطلق من الحقيقة المحايدة، من اللَّامعنى المفترض لكلمة «الوجود» إلى ظاهرة الإشكالية الأسمى، وهي: أن «الوجود» يكشف بالضرورة عن نفسه ويتجلّى للعيان من خلال فهمنا له.

إن الواقعة التي تبدو صريحة وراسخة والتي تم الوثوق بها والاعتماد عليها بواسطة مبحث الميتافيزيقا عن الوجود، هي في الحقيقة واقعة مهتزّة. وحتى الآن، في محاولة بحثنا واستقصائنا عن الوجود، نسعى جادين، في المقام الأول، للقبض على الكلمة والإمساك بها طبقاً لصورتها ومعناها. الآن فحسب، أصبح واضحاً أن سؤال الوجود ليس مسألة نحوية أو مسألة إيتمولوجية. وإذا كنا بالرغم من ذلك نعمل مرة أخرى على أن نأخذ اللغة كنقطة انطلاق لبحثنا، فإن مكانة خاصة ينبغي، هنا وبشكلٍ عام، أن تُعْطَى لنوعية وطبيعة العلاقة بين الوجود واللغة.

فاللغة على نحو عادي، أي الكلمة بصيغة أدق، تعتبر بمثابة صيغة للتعبير عن التجربة، فهي تنبع وتستقيظ في أعقاب التجربة وحدوثها. فمن حيث إن الأشياء والحوادث تتم مواجهتها في تلك التجارب، فإن اللغة، هي في الواقع، تعبير، ونسخ أو تقليد كما كانت للموجود المجرب هناك. فكلمة «الساعة»، على سبيل المثال: تسمح في معناها بثلاثة اختلافات وتميزات معروفة؛ ويمكن اعتبارها وفهمها على النحو التالي: (1) في ما يتعلق بالصيغة المسموعة والمرئية لكلمة الساعة؛ (2) في ما يتعلق بمعنى ما نقدمه في العلاقة معها؛ (3) في ما يتعلق بالشيء الذي تعبر عنه: هذه الساعة، الساعة المفردة الخصوصية؛ تعبر، هنا، على أن النقطة الأولى «في ما يتعلق بالصيغة المسموعة والمرئية للكلمة» هي، في الحقيقة، إشارة أوعلامة إلى النقطة الثانية «في ما يتعلق بمعنى ما نقدمه في العلاقة معها»؛ وأن النقطة الثانية «في ما يتعلق بمعنى ما نقدمه في العلاقة معها» هي إشارة إلى النقطة الثالثة «في ما يتعلق بالشيء الذي تعبر عنه».

وبالتالي، ربما يفترض أن نقوم بالشيء ذاته مع كلمة «الوجود»، أي، نقوم بالتمييز بين صورة، وشكل، ومعنى الكلمة، والشيء. ونحن ندرك بيسر أنه طالما نسهب التفكير في صورة أو شكل الكلمة ومعناها فإننا لم نأت بعد أو ندخل إلى حقل «الشيء»، لم نأت إلى نقطة ـ إذا جاز التعبير ـ سؤالنا عن الوجود. فإذا كنا نتوقع أو نأمل، أن ندرك ونفهم بدقة ماهية الشيء وجوهره، وهنا نقصد ماهية الوجود وجوهره، فقط من خلال مناقشة تفاصيل وطبيعة الكلمة ومعناها، فإننا من الواضح سنرتكب أو نقترف بالضرورة خطأً فادحاً. ونحن على الأرجح بالكاد سوف نسقط في هكذا خطأٍ، لأنه، إذا حدث وسقطنا في مثل هذا الخطأ، سيكون حالنا بالضبط مثل أوشبيه بمحاولة الاستقصاء والتحقيق في ظاهرة الحركة في الأثير، في المادة، وتحديداً العملية الذرية بواسطة الدراسات النحوية فحسب لكلمة «الذرة» و«الأثير» بدلاً من إجراء التجارب الفيزيائية العملية.

وبالتالي، وبغض النظر عما إذا كانت كلمة «الوجود» تمتلك معنى محدداً أو غير محدد، أو تمتلك الاثنين معاً بالحال، فإننا ينبغي، وفي ما وراء حدود عامل المغزى والمعنى، أن نأتي إلى الشيء بذاته. ولكن هل «الوجود» هو الشيء نفسه كما هوالحال في الساعات، والبيوت، أم هو أي موجود يكون؟ ونحن قد التقينا أو واجهنا، بالفعل، الظرف المزعج المتعلق بمسألة أن الوجود هو ليس موجوداً أو ليس موجوداً مكوّناً للموجود. فوجود البناية هناك هو ليس شيئاً آخر من النوع نفسه كما هو وجود السقف والقبو. لاشيء إطلاقاً يتطابق، هنا، مع كلمة «الوجود» ومعناها.

ولكن، من هذا الأمر لا نستطيع أن نستنتج أن «الوجود» يتكون فقط من الكلمة ومعناها. إن معنى الكلمة لا يشكل، كمعنى، ماهية الوجود وجوهره. فإذا افترضنا أنه يؤدي تلك الوظيفة، فإن هذا يعني أن وجود الموجود، لبنايتنا على سبيل المثال، يتشكل في معنى الكلمة. وسيكون من السخف الواضح أن نفترض أي شيء من هذا القبيل. لا؛ في كلمة «الوجود»، وفي معناها، نحن نمر بالكلمة والمعنى والغاية في الوجود ذاته، ما عدا أن الوجود هو ليس الشيْءَ، لأننا نقصد بالشيء هو ذلك الموجود بأي شكل من الأشكال [الحسية].

وسيتنتج من ذلك، في ما يتعلق بكلمة «الوجود» وتصريفاتها وكل الكلمات الأخرى التي تقع ضمن مجالها، أن الكلمة والمعنى كلاهما يعتمدان بشدة على ما المقصود وما المعنى في هذه الكلمة «الوجود» أكثر بكثير مما هوالحال في ما يتعلق بالكلمات الأخرى. ولكن العكس صحيح أيضاً. إن الوجود بذاته يعتمد على الكلمة بمعنى مختلف وجوهري تماماً عن أي موجود.

في كل واحدة من تصريفاتها فإن كلمة «الوجود» تحمل علاقة مختلفة بالأساس مع الوجود بذاته عن علاقة كل أسماء وأفعال اللغة نحو الموجود، ذلك الذي يتم التعبير عنه من خلالها.

ومن هذا ربما يمكن الاستنتاج بأن الاعتبارات الأخيرة في ما يتعلق بكلمة «الوجود» هي ذات أهمية أكبر بكثير من الملاحظات الأخرى حول الكلمات وحول استخداماتها اللغوية في العلاقة مع الأشياء من أي نوع على الإطلاق. ولكن بالرغم من ذلك فإننا نمتلك هنا علاقة خاصة وأساسية بين الكلمة، والمعنى والوجود، والتي فيها، إذا جاز التعبير، يكون الشيء مفقوداً، وينبغي علينا أن لا نفترض أنه سيكون من الممكن لنا أن ننخل ونعزل ماهية الوجود بذاته وجوهره عن وصف معنى الكلمة.

ويعد أن تم اعتبار الظاهرة الخاصة وهي أن سؤال الوجود يبقى مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً مع سؤال الكلمة [أي اللغة]، يمكن أن نستأنف طريق تساؤلنا مرة أخرى. ينبغي أن نبين أن عملية فهمنا للوجود لها تحديدها وتعيينها في ذاتها، بمعنى أنها ترسم بواسطة الوجود بذاته. والآن، حينما نبدأ من المقال حول الوجود، لأننا بمعنى مؤكد نحن دائماً وبشكل أساسي نُجبر أويُفرض علينا أن نأخذ هذ الأمر على أنه نقطة بداية لنا، فإنه ينبغي أن نُحاوِل الأخذ بعين الاعتبار أن الوجود بحد ذاته هو الذي يتحدث عن المقال. فنحن نختار نوع المقال البسيط والمألوف والمهمل تقريبا حين يتم تلفظ الوجود في صيغة وصورة الكلمة والتي يكون استخدامها متكرراً ومألوفاً جدا إلى درجة أننا من النادر ملاحظته.

نحن نقول، على سبيل المثال: «الله موجود أو يكون أو هو موجود». و«الأرض موجودة أو تكون هي موجودة». و«المحاضرة تكون أو توجد في قاعة المحاضرات». و«الرجل هو من مدينة سوابيا أو هو أصلاً من مدينة سوابيا». و«القدح يكون أو يوجد من الفضة أو هو من الفضة». و«الفلاح يوجد أو يكون في الحقل أو هو موجود في الحقل». ونقول «هذا هو كتابي أو هو كتابي». و«اللون الأحمر هو جانب البوابة أوهو يوجد على البوابة». و«هنالك توجد مجاعة في روسيا أومجاعة توجد أوتكون في روسيا». و«العدو في حالة تراجع أوهو في حالة تراجع وتقهقر». و«حشرة  أوقملة النبات توجد وتكون في حقل الكرم أو هي في حقل الكرم». ونقول «الكلب يوجد في الحديقة أو هي في الحديقة». ونقول «فوق كل القمم توحد وتكون الراحة أو هي هناك». ونقول «هو الموت، أي أنه يكون أو يوجد في حالة خضوع واستسلام للموت».

في كل مثال من تلك الأمثلة أعلاه فإن كلمة «يكون، يوجد، هو وهي، والتي تعبر عن الوجود» تعني شيئاً مختلفاً تماماً الواحد عن الآخر. انطلاقاً من هذه الحقيقة يجوز لنا أن نقنع أنفسنا بسهولة خصوصاً، إذا أخذنا هذا القول أو التعبير «يكون، يوجد، هو وهي» كما يحدث أو يجري بالفعل، بأنه يتحدث في كل حالة من الحالات أعلاه انطلاقاً من وضع محدد، وغرض محدد، وطابع محدد، وأنه ليس مجرد جملة أومثال قديم بال في النحو.

على سبيل المثال: إن قول: إن «الله موجود أو يكون أوهو موجود»، تعني، أنه فعلاً حاضر. وإن قول: «الأرض موجودة أو تكون أو هي موجودة»، تعني، أننا نجرب وجودها ونعتقد أنها توجد هناك بشكل دائم؛ وقول إن «المحاضرة تكون أوتوجد في قاعة المحاضرات»، أي، أنها تعقد أوتحدث أوتجري وقائعها هناك في قاعة المحاضرات. وقول إن (الرجل هومن مدينة سوابيا أوهوأصلاً من مدينة سوابيا»، أعني، أنه قادم من هناك. وقول إن «القدح يكون أويوجد من الفضة أوهومن الفضة»، أعني، أنه مصنوع من الفضة. وقول إن «الفلاح يوجد أويكون في الحقول أوهوموجود في الحقل»، أعني، أنه قد ذهب إلى الحقل وأنه باق هناك. وقول «هذا هوكتابي»، أعني، هذا الكتاب يعود لي. وقول إن «اللون الأحمر هوجانب البوابة أوهويوجد على البوابة»، أعني أنه يوجد ويكون للبوابة. وقول إن «الكلب يوجد في الحديقة أوهي في الحديقة»، أعني، أنه يجري في الحديقة. والقول الشعري «فوق كل القمم توجد وتكون الراحة أوهي هناك»، أي، فوق كل تلك القمم يوجد ويكون السكون والسلام. أخيراً، هل أن كلمة «يكون، يوجد» تلك التي وردت في هذه المقطع الشعري الأخير تعني أن السكون والسلام يقعان هناك، حاضر، يحدث، يبقى؟ من الواضح أنه لا واحداً من تلك المعاني الذي ذكرناها سوف يتناسب مع المعنى المقصود في المقطوعة الشعرية. ولكنه يعني فحسب المعنى البسيط الذي يتبادر إلى الأذهان حينما يتم ذكر كلمات «هو، يكون، يوجد». أم هل أن هذا المقطع الشعري يعني: فوق كل القمم يسود السلام، كما يسود الهدوء في صف الدراسة؟ لا، إن هذا المعنى هوالآخر لا يتناسب مع المعنى المراد أيضاً. أوربما يعني فوق كل تلك القمم تكمن الراحة والسكون أو تسود؟ هذا المعنى ربما يكون أفضل، ولكنه أيضاً يفتقد إلى العلامة الدالة. إن كلمة «تكون أو توجد في المقطع الشعري» فوق كل القمم تكون «الراحة» لا تمكن إعادة صياغتها ولكنها فقط كلمة ترسل بين البعض من الخطوط التي كتبها الشاعر غوتيه بقلم الرصاص على إطار شباك الكوخ الضخم قرب مدينة أيلمانو(هنا بالإشارة إلى رسالة غوتيه إلى زيلتر في الرابع من كانون الأول/ ديسمبر عام 1831). والغريب كيف لنا أن نتردد في محاولة إعادة صياغتها حيث في النهاية نتركها تماماً كما هي، ليس لأن عملية فهمها معقّدة وصعبة جداً ولكن لأن هذا الخط الذي كتبه غوتيه، والذي وردت فيه كلمة «تكون أوتوجد»، يتحدث بلغة بسيطة وواضحة جدا، حتى بلغة أكثر بساطة وفرادة من حالات كثيرة يورد فيها تعبير «يكون» أو«يوجد» أقصد تلك التعبيرات التي تُركت غير ملاحظة في أطراف أحاديثنا اليومية.

بغض النظر عن الطريقة التي نترجم بها هذه الأمثلة التي ذكرناها أعلاه، فإنها كلها، وبدون استثناء، تظهر أمراً واحداً بوضوح: إنه من خلال مجال ووسط كلمة «يكون» أو«يوجد» يكشف ويفض ويتبدى «الوجود» بذاته لنا في أشكال وطرق متنوعة. مرة أخرى، إن التأكيد الذي يقول: إن الوجود عبارة عن كلمة فارغة وخالية، والذي يبدو للوهلة الأولى معقولاً، والذي يظهر نفسه على أنه مقنع أكثر من أي وقت مضى، هو بالأحرى غير صحيح.

ولكن، ربما يمكن هنا القول وينبغي التسليم بأن كلمة «يكون أو يوجد»، يراد بها أو تعبر عن العديد من الطرق المختلفة. إن هذا التنوّع لا ينبثق من كلمة «يكون أو يوجد» بذاتها، ولكن على الأصح من المضمون المتنوع للتعبيرات، بمعنى أن كل واحد منها يطبق على موجود مختلف عن الآخر، على سبيل المثال: الله، الأرض، الفلاح، الكتاب، المجاعة، السلام على القمم. هذا فقط لأن كلمة «يكون أو يوجد» تبقى جوهرياً غير محددة ومعينة وخالية من المعنى ويمكن لها أن توجد جاهزة ومستعدة إلى مثل تلك الاستخدامات المتنوعة، يمكن لها أن تحقق وتنفذ وتعين ذاتها بحسب ما تقتضيه الظروف وتتطلبه. إن هذا التنوع للمعاني المحددة والمعرفة، الذي يتم اقتباسه أعلاه يبرهن على العكس من كل ما تم عرضه. إنه يقدم أوضح برهان ودليل وهو: أنه من أجل أن يكون أمراً ممكن التحديد والتعريف فإن «الوجود» ينبغي أن يكون غير محدد وغير معرف أومتعذّراً تحديده أومتعذّراً الجزم فيه.

ما الذي ينبغي أن نقوله للرد على مثل هذا الإشكال؟ هنا نقترب، تحديداً، من منطقة أومجال السؤال الحاسم والفاصل والمفحم: هل أن كلمة «يكون أويوجد» أصبحت متعددة ومتنوعة على أساس قوة المضمون الذي تُحدثه من خلال وسط الجمل المتنوعة ومجالها، أعني، بمقتضى الحقول والمجالات المتعلقة بالأمر الذي تتحدث وتتكلم عنه أيْ أنها تعني، أن «الوجود» يغطي ويخبّئ على الأصح في ذاته التعددية والكثرة، والتي ميزة تركيزها العالي (Faltung lit الانطواء والثني في مقابل الفض والانكشاف)، تمكننا من صناعة موجودات متعددة تكون في متناولنا كأدوات ويمكن الوصول إلى كل واحد منها كما هو في الواقع؟ في الوقت الحاضر، سوف أرمي بهذا السؤال بعيداً. فنحن مازلنا غير مجهزين بالعدة المفهومية المناسبة من أجل أن نقوم بخطوة تطوير هذا السؤال ومناقشته ونقله إلى مستوى أبعد وإضافي. مع ذلك، الأمر الذي لا يمكن أن نرمي ونقذف به بعيداً أو نتجاهله ـ وهذه هي النقطة الوحيدة التي نحاول أن نؤكدها في الوقت الحاضر ـ هوأن كلمة «يكون أو يوجد» في مقالنا عن الوجود تظهر وتبيّن التنوع الغني للمعاني المتعددة الذي تحتويه. ففي كل واحد من تلك المعاني نحن نذكر كلمة «يكون أويوجد» بدون ـ إما قبل أو بعد ذلك ـ أن نطبق تأويلاً خاصاً، في الواقع، لكلمة «يكون أويوجد» بعيداً عن التفكير في الوجود. إن كلمة «يكون أو يوجد» يُقْصَد بها الآن شيءٌ ما وبعد برهة شيءٌ ما آخر، إنّها ببساطة تتدفق كلما تحدثنا وتكلمنا. ولكن التنوع والتعدد في معانيها ليس تنوعاً أو تعدداً تعسفياً واعتباطياً. دعنا الآن على الأقل نُقْنِعْ أنفسنا بهذا.

نحن نتجوّل الآن بين حقول كل المعاني المتنوعة التي قمنا بتأويلها عن طريق إعادة الصيغ. كلمة «الوجود»، التي تُلفظ ويتم التعبير عنها من خلال كلمة «يكون ويوجد»، تعني المعاني اللاحقة: «موجود حقاً»، «يوجد هنالك يشكل دائم»، «يحدث أو يقع أو يجري»، «يأتي أو ينحدر من»، «يخص أو يعود إلى»، «مصنوع من»، «يبقى، يخضع أو يستسلم إلى»، «يقف إلى أجل»، «يدخل عليها»، «يظهر للعيان». إن الأمر سيبقى صعباً ربما إن لم يكن مستحيلاً – لأنه وبالخلاف مع ماهية الوجود وجوهره – أن نختار معنى مشتركاً كمفهوم عام وشامل تحت ظلّه وسقفه تنطوي وتنضم كل أنواع وأنماط كلمة «يكون ويوجد» أعلاه ويتم تصنيفها وترتيبها كأنواع. ولكن سمة واحدة محددة، مع ذلك، تبقى حاضرة تعبر عن نفسها من خلال كل تلك المعاني. إنها توجه وتقود تأملاتنا في «الوجود» إلى أفق محدد وواضح، فيه ومن خلاله يتشكل الفهم ويصنع ماهيته. [بعبارة أخرى] إن تحديد معنى «الوجود» يبقى حاضراً ضمن ومن خلال حقل الحقيقة الفعلية الواقعية وأفق الحضور، من خلال الدوام والبقاء، من خلال الثبات والاستمرار والحدوث.

كل هذا يشير إلى الاتجاه الذي نصطدم به حينما نحاول أو نصف التجربة والتأويل الإغريقي للوجود. فإذا احتفظنا في واستبقينا التأويل المألوف للوجود، فإن كلمة «الوجود» حينئذ تأخذ معناها من وحدة وتحديد الأفق الذي يقود ويوجه الفهم لدينا. بإيجاز: نحن نفهم النعت اللفظي لكلمة الوجود «sein» من خلال صيغة المصدر ووسطه، والذي بدوره يرتبط بكلمة «يكون أو يوجد» وتنوعها وتعدديتها التي نحاول وصفها. إن صيغة الفعل الخصوصية والمحددة «يكون أو يوجد»، الشخص الثالث المفرد لصيغة الحاضر، لها هنا مكانة بارزة. فنحن نفهم «الوجود» ليس من خلال العلاقة من صيغ «thou art» «أنت»، «أنا»، أو«سيكونون»، على الرغم من أن كل تلك الصيغ تمثل، بقدر ما «يكون أو يوجد»، وهي في الواقع تصريفات لفظية إلى صيغة «أن تكون». علاوة على ذلك، صيغة «أن تكون» تمثل بالنسبة إلينا صيغة المصدر إلى «يكون ويوجد». وإلزاماً لنا، كما لو أنه لا شيءَ آخر تقريباً يمكن أن نقوم به، أن نقوم بتوضيح المصدر «أن تكون» لأنفسنا من خلال صيغة «يكون ويوجد».

وفقاً لذلك، فإن «الوجود» الذي يمتلك المعنى المحدَّد والمُعبَّر عنه أعلاه، والذي يشير تحديداً إلى نظرة الإغريق إلى ماهية الوجود وجوهره، هو إذن، ليس فقط شيئاً سقط علينا عرضاً أوبالصدفة من مكان ما ولكنه يهيمن على وجودنا-التاريخي ـ هناك ـ [في ـ العالم] منذ القدم. وبضربة واحدة، فإن بحثنا عن تعريف وتحديد معنى كلمة «الوجود» يصبح بوضوح على تلك الشاكلة، أعني، التفكير والتأمل في مصادر تاريخنا الخفي والمختبئ. إن سؤال: «كيف يقف الموجود مع الوجود» ينبغي أن يبقى بذاته يتحرك ضمن سياق تاريخ الوجود إذا كان، بدوره، يفض ويكشف ويحافظ على أهميته التاريخية من خلال وسطه. وفي ملاحقته، نحن، بدورنا، ينبغي علينا أن نقبض وبقوة على مقال الوجود.

[1]*ـ مارتن هايدغر ـ مدخل إلى الميتافيزيقا ـ نقله إلى العربية: د. عماد نبيل ـ دار الفارابي ـ بيروت ـ الطبعة الأولى ـ 2015.