البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الإيديولوجيا كما يراها مؤسسها ( فلسفة من أجل الجمهورية )

الباحث :  ليليان موري Lilian Mory
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  6
السنة :  السنة الثانية - شتاء 2017 م / 1438 هـ
تاريخ إضافة البحث :  February / 6 / 2017
عدد زيارات البحث :  1515
تحميل  ( 255.493 KB )
في 20 حزيران سنة 1796، قرأ واضع مصطلح الإيديولوجيا دستوت دو ترايسي Destut de Tracy أمام طلاب «العلوم الأخلاقية والسياسية» في المعهد الوطني في فرنسا خطاباً تحت عنوان «بحث في القدرة علىى التفكير» Mémoire sur la faculté de penser.
الباحثة الفرنسية ليليان موري اعتمدت مقطعين من نصّ الخطاب المشار إليه، لتبني عليها مقالتها. في هذين المقطعين يقدم ترايسي من خلالهما مشروعاً لفلسفة جديدة تقوم على اعتبار الإيديولوجيا «علم» الإنسان، و«علم» المجتمع في الوقت عينه. وأما العنوان الذي وضعته الكاتبة لتقرأ هذه الفلسفة فهو «الإيديولوجيا..فلسفة من أجل الجمهورية».
المحرر
-------------------------------------

بين إيدينا هنا ولادة كلمة جديدة، ستأخذ بشكل سريع للغاية، معنىً مُختلفاً عن المعنى الذي محَضَها إياه مُخترعها. وبذلك سوف تنتقل من المعنى المُوجِب إلى المعنى السالب. إن مُصَنّف «بحث في القدرة على التفكير» يندرج تماماً في إعادة تنظيم مُؤسّسية للتعليم العامّ في فرنسا. وهي إعادة تنظيم ناتِجة عن الثورة التي يُفتَرض بها مُواصلة العمل على مستوىً فكري وبالتالي إتمامه. ذلك هو الرابط الوثيق بين الأحداث السياسية والمُؤسّسات التي نَجمت عنها، وهو الأمر الذي يمنح مشروع ترايسي كل قيمته.
لكن أليسَ مُفيداً ابتداءً، أن نُقدّم باختصار للكاتب ونبذة عن المعهد الوطني الذي أُسِّس بفعل الاتفاقية وبموجب قانون 3 برومير سنة 4، أي في 25 تشرين الأول عام 1785.
دستوت دو ترايسي (1754-1836)، هو من ذرّية إخوة آل ستوت Stut الأربعة الذين جاؤوا من قبرص إلى فرنسا خلال حرب المئة عام، حيث انضمّ إلى السلك العسكري. لكن يُعتقَد أن الحِسّ الفلسفي قد فَتَنَه لأنه بعد ذهابه إلى فوج ستراسبورغ، حجَّ إلى فرناي Ferney لتبليغ التحيّة لِمن يُمثّل القرن الثامن عشر، وهو الشاعر فولتير.
اختار دو ترايسي، النائب النبيل عن مدينة بوربون إبان زمن الهيئات العامّة ةtats généraux في أيار 1789، أفكار الثورة وجاهر بالدفاع عنها في وجه انتقادات الفيلسوف الإيرلندي إدموند بورك Edmund Burke (1729-1797)، وذلك في «رسالة» عامّة (1790). نجد في الرسالة تقريظاً لكتاب مونتسكيو (روح الشرائع) الذي قال ترايسي عنه: «لم يبقَ على أعزائي الفرنسيين إلا أن يضعوا قوانين حكيمة بحماية الآداب، ومن خلال تأسيس تربية عامّة جيّدة (1)».
بالتأكيد، إن هذه المهمّة هي التي أَعدَّ لها ترايسي عملَه، و«البحث» هو المَعلَم الأول لها.
إن ترايسي مدين بنشأته الفلسفية للثورة، ولكن للجانب المُظلم منها. سُجِن بوصفه ارِستقراطياً وحُكِم عليه بالموت، إلّا أنه نجا من ذلك بفضل الانضباط وموت روبسبير Robespierre. وكي لا يُضيع وقتَه عَكَفَ على دراسة عمل دليله الفكري الفيلسوف كونديّاك Condillac. بذلك نحن نقرأ في مقدّمة «بحثه»:
لقد عَرَضَ كونديّاك Condillac في كتابه الرائع (بحْث في الأحاسيس) Traité des sensations 3) عدداً كبيراً من آثار الإحساس في الإدراك، مع تحليل دقيق وواضح لا يبقى معه أي أمر مُريب حول أصل أفكارنا. إن هذا المُؤلّف يبدو لي، من خلال هذه العلاقة، مُتقَناً بحيث إنّه نال كل ما يتمنّاه، ويمكن القول إن تمثال كونديّاك يُعلّم الناس كيف يتغيّرون داخلياً من خلال أحاسيسهم. هذه هي النقطة الأولى المُوضَحة.
لكن ما دامت أحاسيسنا وأفكارنا التي تنتج منها ليست، كما برهَنَ كونديّاك، سوى تغيّرات داخلية في كينونتنا، وما دامت أنها بحدّ ذاتها لا تشتمل على أي شيء يُحدّد لنا مصدرها، كيف نتعلّم إرجاعها إلى الكائنات التي هي أسبابها المُوجبة؟ كيف نكتسب المعرفة بهذه الكائنات؟ تلك واقعة ثانية تحتاج إلى الشرح. ولذا أنوي تناول هذه المسألة لأنني ما زلت أعتقد بأنها لم تُعالَج، ولأن حلّها ضروري من أجل إكمال تحليل الإدراك. يسرّني الإضاءة على هذه النقطة الهامّة.
وعلى هذا النحو، يُكمل «بحث في القدرة على التفكير» نظريته في تحوّل الأحاسيس إلى أفكار، انطلاقاً من فلسفة كونديّاك، ولا سيّما (بحث في الأحاسيس)، لكنّه يربط الأحاسيس بعدة أشياء مُتنوّعة أدّت إلى ظهور تلك الأحاسيس وشكّلت بالتالي «الأسباب المُوجِبة» لها.
بين الكلمات والأحاسيس
لنلتفت الآن إلى الحضور الذي يُخاطبه ترايسي Tracy، أي الصف الثاني في المعهد.
إن المعهد الوطني للعلوم والفنون (3)، مثله مثل المدارس الرئيسية التي سنتناولها في ما بعد، موجود منذ صدور قانون 3 برومير سنة رابعة، والذي يُنظّم التعليم العام في الجمهورية (دونو Daunou هو مُقرّر المعهد). حلَّ المعهد محلّ الأكاديميات الملكية القديمة وهو مُعَدّ: «أولاً، لإتقان العلوم والفنون بواسطة الأبحاث المُتواصِلة ونشْر الاكتشافات والمُراسلة مع العلماء والأجانب؛ ثانياً، لمُتابعة الأبحاث العلمية والأدبية، وفقاً لقوانين وقرارات مجلس الإدارة التنفيذي، التي تَهدف إلى المنفعة العامّة ومجْد الجمهورية».
لتلبية هذا الهدف بشكل تامّ، يُقسَم المعهد إلى ثلاثة صفوف تتضمّن فروعاً عدّة. الصف الأول هو صف «علوم الفيزياء والرياضيات» ويتضمّن عشرة فروع، بدءاً بالرياضيات وصولاً إلى «الاقتصاد الريفي والبيطري». الصف الثالث هو صف «الأدب والفنون الجميلة»، ويتضمّن ثمانية فروع أولها فرع «القواعد».
هنا تحديداً يُعبّر ترايسي عن أسفه في الفصل الأول من الجزء الثاني من كتابه:
ثمّة دليل على أنكم تُريدون البحث في هذه القدرات نفسها من خلال كل الجوانب، وهو أنكم ألّفتم الفرع الأول من المُحلّلين والنفسانيين. لا شكّ في أنّ عليكم أن تتحسّروا لعدم رؤية النحويين قربهم: لأن تشكيل الأفكار يتوقّف على تشكيل الكلمات، كما سنرى في التَتِمّة.
وفعلاً، فإن الصف الثاني، صفّ «العلوم الأخلاقية والسياسية» المَقسوم إلى ستة فروع، أولها فرع «تحليل الأحاسيس والأفكار»، يتضمّن طبيباً عالِماً بالفسلجة physiologist : إنه كاباني Cabanis (1757-1808). وقرأ كاباني في الفرع، في السنة ذاتها، بحثاً طويلاً يتمحور حول «العلاقات بين المادّي وبين المعنوي عند الإنسان»، حيث يقول التالي:
من خلال اجتماع كل المواهب وكل الأبحاث، يمكن اعتبار المعهد موسوعة حقيقية حيّة؛ وفي حال تلقّى إعانة من خلال تأثير الحكومة الجمهورية، يمكنه بلا شكّ أن يصبح بسهولة مسكناً أبدياً مَليئاً بالنور والحرية (4).
إن العلم الذي يشغلنا جديد بحيث إنّه ليس له اسم. لا شكّ في أن الفرع الأول من هذا الصف أُفرِدَ بشكل خاصّ لِتطور العلم؛ وهذا الفرع يُدعى فرع تحليل الأحاسيس والأفكار. لكن هذه الكناية ليست اسماً البتّة؛ إضافة إلى ذلك، هي تُشير إلى العمل الذي ينبغي الاشتغال عليه، لا العلم الذي يجب أن ينتج من هذا العمل [...] لأن كل علم هو نتاج تحليل موضوع ما، لا التحليل ذاته. بالتالي، إن نتاج تحليل الأحاسيس والأفكار لم يُسَمَّ.
في شتاء عام 1795 حَدَثَت في باريس تجربة تربوية هي، بالرغم من طبعِها الزائل، تبقى غريبة، بحيث نشعر بآثارها حتى أيامنا هذه. إنها «دار المعلّمين سنة ثالثة» التي نظّمها لاكانال Lakanal، مُقرّر المشروع.
لا تُخاطب دروس «الدار» الطلاب الشباب الجَهَلة، بل الطلّاب الراشدين المُثقّفين. والهدف ليس تعليمهم مادّة، بل، الأسلوب الأفضل لتعليم المادّة. ونقرأ في تقرير لاكانال:
في هذه الدور، ليست العلوم إذاً هي التي سنعلّمها، بل فنّ تعليمها؛ عند التخرّج، الطلّاب ليسوا مُثقّفين وحسب، بل هم قادرون على التعليم (5).
وشارك في هذه المُؤسّسة شخصيات نافذة، مثل لاغرانج Lagrange ولابلاس Laplace ومونج Monge في الرياضيات، برتولي Bertholet في الكيمياء، إضافة إلى فولني Volney في التاريخ. وعُيّنَ برناردان دو سان-بيير أستاذ كرسيّ الأخلاق، ومن حسن الصدف أن تمثاله يُقابل مُدرّج حديقة النباتات، حيث تنعقد حلقات الدرس.
غارا Garat هو الشخص الذي كُلّفَ بإعطاء درس الفلسفة، وإليكم الكيفية التي يشرح بها العنوان الذي أعطاه للدرس: «تحليل الإدراك».
اعتمدْتُ تسمية لوك Locke الذي عنْوَنَ كتابه: دراسة في الإدراك البشري. لا شكّ في أن هذه الكلمات، دراسة في الإدراك وتحليل الإدراك، تُشكّل جملة، بدلاً مِن مجرّد اسم لشيء. إنها تُشير إلى عمل شيء، بدلاً من الشيء نفسه. هذه ليست تسمية، ولكن هذه الكلمات تعني بوضوح وباختصار شديد ما ينويه المرء: إنه الجزء الأساسي(6).
«غارا» Garat هو صحافيّ قبل الثورة ـ كان مُحرّراً في مجلّة (عُطارد فرنسا) Mercure de France. أصبح نائباً عن بلاد الباسك التي هي مسقط رأسه. شَغَلَ منصب وزير العدل ثم الداخلية بين تشرين الأول 1792 وآب 1793 أبلغ لويس السادس عشر بقرار إعدامه في كانون الثاني 1793.
بعد ثرميدور (تموز 1794)، أعطى دروساً في تحليل الإدراك في دار المعلمين. في سنة 1795 عيّنه مجلس الإدارة عضواً في المعهد (الصف الثالث ثم الصف الثاني). ثم عيّنه بونابرت عضواً في مجلس الشيوخ، ثم حصل على لقب «كونت الأمبراطورية».
في سنة 1830، بعد شطب اسمه من المعهد إثر إعادة الملكية، عاد غارا إلى أكاديمية العلوم الأخلاقية والسياسية مع لويس ـ فيليب. ولقد رفض غارا Garat، استناداً إلى البراهين ذاتها التي استند إليها ترايسي، مصطلحي «ميتافيزيقا» و«علم النفس». لكنه، كما علمنا، وافق على الكناية التي رفضها ترايسي بشدّة. وخَتَمَ ترايسي:
أُفضّل إذاً، كثيراً، تبنّي اسم إيديولوجيا، أو علم الأفكار.
هذه هي مزايا اللفظة الجديدة بحسب مُخترعها:
إن كلمة إيديولوجيا كلمة حكيمة للغاية، لأنها لا تفترض شيئاً مشكوكاً فيه أو مجهولاً؛ هي لا تُذكّر بأي فكرة عن السبب. لذلك فمعناها واضح جدّاً للجميع، إذا لم نأخذ بعين الاعتبار سوى معنى الكلمة الفرنسية فكرة؛ لأن كلاً منّا يعرف ما يعنيه بفكرة، وإن كان القليل من الناس يعرف ما تعنيه.
هذا صحيح على نحو دقيق في هذه الفرضية؛ لأن إيديولوجيا هي الترجمة الأدبية لعلم الأفكار.
[...] ولهذه الكلمة مَزِيّة أخرى: فعندما تُعطي اسم إيديولوجيا للعلم الذي ينتج من تحليل الأحاسيس، فإنك تُشير في الوقت عينه إلى الهدف والوسيلة؛ وإذا اختلفت عقيدتك عن عقيدة الفلاسفة الآخرين الذين يُلقّنون العلم نفسه، فسبب ذلك قدّمناه سلفاً، وهو أنك لا تبحث عن معرفة الإنسان إلا في تحليل قدراته؛ إنك ترضى بتجاهل كل ما لا يكتشفه التحليل.
إن كلمة إيديولوجيا التي اخترعها ترايسي تملك كل أنواع الميزات. مثلاً، يتحاشى غارا كلمة «فكر» التي انتقدها ترايسي في بعض الأسطر من الفصل نفسه:
إن كلمة فكر صُنِعت على نحو سيّئ، وأيضاً معظم الكلمات التي نستخدمها؛ وهي تأتي من فعل (وَزَنَ) أو (قارن): والحال أن (قارن) يعني أدرك علاقةً ما. لكن العلاقة ليست سوى أحد الأحاسيس التي قد نتعرّض لها، وهي ليست الإحساس الأول. إن إدراك الأحاسيس والذكريات والرغبات، كلها تُعدّ آثاراً لقدرتنا على التفكير: لذلك أودّ أن أُطلِقَ عليها اسماً أكثر عمومية هو «إدراكية حسّية» Perceptivité أو القدرة على الإدراك؛ لكنني لا أجرؤ على رفض كلمة فكر. يجب أن يمتلك المرء سلطة كبيرة لتغيير كلمات علم من العلوم. لكن هناك المزيد.
علم ما وراء الفكر
إذا كان ترايسي يرفض كناية «غارا» Garat ـ «تحليل الإدراك» ـ فإن هدفه، بخلاف الدرس الذي ألقاه الأخير (غارا) في دار المعلمين، أشمل. فهو لا يقتصر على دراسة الإدراك، بل يفحص «آثاره». وتمتدّ هذه الآثار إلى ما وراء «الفكر» البسيط الذي ليس سوى نقطة انطلاقها:
...[ من دون شكّ، لا أحد سينكر أن المعرفة الناتجة من توالد أفكارنا هي أساس فنّ إبلاغ هذه الأفكار، القواعد؛ بل هي فنّ ترتيب هذه الأفكار نفسها وتفجيرها لتنبثق منها حقائق جديدة المنطق؛ كما أن هذه المعرفة هي أساس فنّ تعليم ونشر الحقائق المُكتسبة، التلقين؛ وأساس تكوين عادات البشر، التربية؛ أساس أهمّ فنّ في تثمين رغباتنا وضبطها أيضاً، الأخلاق؛ وأخيراً أساس أكبر هذه الفنون التي يجب أن تتعاون كلها من أجل نجاحه، إنه فن ضبط المجتمع بطريقة يجد فيها الإنسان المزيد من المعونة، وقدراً أقل من الإزعاج من قبل أشباهه.
هذا هو السبب الذي جعل ترايسي يباشر العمل ويُحقّق هذا البرنامج. ولعل «البحث» الذي قدّمه في المعهد هو جزء منه، بعد أن رسم تصميماً للخطّة.
بدأ ترايسي بتأليف كتاب تربوي في ثلاثة مُجلّدات، خُصِّصَ ليكون «في متناول المدارس الرئيسية». قامت دار المعلّمين، من حيث المبدأ، بإعداد الأساتذة لهذه الدور، التي أُنشِئت لتحلَّ محل المعاهد اليسوعية القديمة.
يتضمّن المُجلّد الأول، الذي ظهر في عام 1801، (عناصر الإيديولوجيا ) أو (إيديولوجيا بالمعنى الحقيقي لكلمة إيديولوجيا). في حين يأسف الكاتب شديد الأسف بسبب إلغاء المدارس الرئيسية، أو بشكل أدقّ، بسبب الاستعاضة عنها بالمعاهد النابليونية، استُكمِلت الطبعة التالية من الكتاب نفسه ﺑـ «خُلاصة»، أي مُلخّص الكتاب. والجملة الأولى من الخُلاصة: « الإيديولوجيا جزء من علم الحيوان».
في أيامنا، يُعدّ هذا التأكيد المُدهش مُهمّاً، لأن ترايسي يُشدّد كثيراً على أن عمله ناقص، بقدر ما يرتبط ارتباطاً وثيقاً بعمل زميله وصديقه «كاباني» Cabanis. إذ أنّ ترايسي نفسه يدرس كيفية ارتباط الأحاسيس والأفكار بالأشياء الخارجية وكيف تسمح هذه المعرفة بتحديد تلك الأحاسيس والأفكار. وإذاً، فمن خلال تماثل بسيط، نكتسب حدود الجسم أو معرفة الأنا.
بيد أن كل هذا لا يُخبِر شيئاً عما يجري داخل الجسم، بما كان يُسمّى في ذلك الوقت «مركز الاحتساسات في الدماغ» sensorium. والحال أنه، وقد رأينا ذلك، ما دامت المعرفة المُتولّدة من الإدراك مادّية، فمن غير الممكن اختزال الجانب المادّي من الفكر، لفهم طبيعته. بالتالي، فإن « الإيديولوجيا » التي هي فلسفة، هي «علم» كذلك.
المُجلّد الثاني هو «قواعد»، والثالث الذي أهداه ترايسي إلى كاباني Cabanis هو «المنطق».
في وقتٍ لاحق، وتحديداً في سنة 1817 نَشَرَ ترايسي «بحث في الإرادة وآثارها» (8) الذي هو، في آنٍ واحد، بحث أخلاقي واقتصادي سياسي. وهنا على العكس، يُخاطب ترايسي رجال الفعل (hommes d’action)، وبينما امتلك بعض الصدى في فرنسا، حيث أدّت إعادة المَلَكية إلى حرمانه من منفعتها، فقد كان له صدى في الولايات المتحدة.
كان ترايسي يتبادل الرسائل مع الرئيس الثالث للولايات المتحدة توماس جيفرسون، حيث تعرّف ترايسي إليه عندما كان الأخير سفيراً للولايات المتحدة في فرنسا بين عامي 1785 و1789. استطاع جيفرسون تنظيم جامعة فيرجينيا عبر الاستعانة بكتابات ترايسي.
وهكذا، نجد أن ترايسي لبّى بشكل تامّ البرنامج الذي كان قد حدّده لنفسه. الأمر الذي لا يمنع أن تُختزل مكانته في تاريخ الفلسفة، حتى في تاريخ الأفكار. هل السبب يكمن في صعوبة تصنيف عمل ترايسي، الذي هو فلسفة وعلم في آن؟ أم السبب، ـ وهذا مُتوافق، كما يقترح بيير ماشيري Pierre Macherey، هو أن الإيديولوجيا في الأصل «استبقت دلالتها الحاضرة»؟
في سنة 1970، ظهر في العدد 151 من مجلّة (الفكر) مقال لويس ألتوسير Louis Althusser بعنوان « الإيديولوجيا والأجهزة الإيديولوجية للدولة»(9). مما جاء فيه:
إننا نعلم أن عبارة «إيديولوجيا» اختُلِقَت على يد كاباني وترايسي وأصدقائهما الذين أسندوا إليها موضوع النظرية (الجينية) للأفكار. بعد مرور خمسين سنة، استعاد ماركس المصطلح وأعطاه معنىً مُختلفاً. الإيديولوجيا، إذاً، هي نسق الأفكار، والتمثيلات التي تُسيطر على ذهن إنسان أو مجموعة. إن الصراع الإيديولوجي الذي يخوضه ماركس في مقالاته في مجلّة (Gazette rhénane) لا بدّ من أن يضعه في مقابل هذه الحقيقة، وأن يُجبره على تدقيق النظر في إدراكاته الحدسية الأولى.
الواقع أن قراءة «بحث في الإرادة وآثارها» قادت ماركس وإنجلز Engels إلى أن يُعبّروا في كتابهما ( الإيديولوجيا الألمانية)(10) عن التالي:
إن السيد ترايسي يجتهد في إثبات أن الملكية والفردية individualité والشخصية مُطابِقة، وأنه في الأنا هناك أيضاً ما يخصّني (le mien)، ويرى فيها أساساً طبيعياً للملكية الخاصّة.
ونقرأ في صفحات لاحقة من الكتاب:
عندما يقول البرجوازي قليل النظر للشيوعيين: عندما تُلغي الملكية، أي وجودي بوصفي رأسمالياً، ومالكاً عقاريّاً، وصناعياً، ووجودك بوصفك عاملاً، فإنك تُلغي فرديتي وفرديتك؛ وعندما تمنعني من استغلالك، فإنك تمنعني من أن أعيش كفرد [...]، يجب على الأقلّ أن يعترف المرء بصراحة وسفاهة هذه التصريحات. بالنسبة إلى البرجوازي، الأمر هو على هذا النحو: هو لا يعتقد نفسه فرداً إلا بمقدار ما هو برجوازي.
إننا نعلم ذلك: كل عمل ماركس هو صراع ضدّ الرأسمالية، وطبعاً، ضدّ البرجوازية. والحال أن موقف ترايسي مُختلف تماماً بل مُناقِض. فهو يضع حدّاً للنظام القديم Ancien Régime، وبالتالي يُؤسّس مُجتمعاً برجوازياً مُستقرّاً وسعيداً. وعلى هذا النحو، يمكن القول ان المقصود ﺑ « الإيديولوجيا »، في أصلها، هو هذا المعنى بالذات، لكن مفهومنا لهذه الصورة للمجتمع تغيّر بوضوح.
لعلّ هذا هو السبب الذي دَفَعَ ألتوسير في إحدى صفحات مقاله إلى إعلان أن: « الإيديولوجيا ليس لها تاريخ». وكتب: من الواضح أنه ينبغي الانخراط في نظريةٍ للإيديولوجيات [...]. سنرى عندئذ أن نظرية الإيديولوجيات تستند في نهاية المطاف إلى تاريخ التشكيلات الاجتماعية، وبالتالي إلى أنماط الإنتاج التي يجري التوفيق بينها داخل التشكيلات الاجتماعية، وإلى صراعات الطبقات التي تنمو داخلها. في هذا المعنى، من الواضح أنه لا يمكن تناول نظرية الإيديولوجيات عموماً، لأن للإيديولوجيات تاريخاً، وهو الذي يقع تعيينه طبعاً بالدرجة الأخيرة خارج الإيديولوجيات وحدها، مع ارتباطه بها.
في المقابل، إذا استطعت تقديم مشروع نظرية للإيديولوجيا عموماً، وإذا كانت هذه النظرية أحد العناصر التي تتوقّف عليها نظريات الإيديولوجيات، فهذا يعني مُقترحاً مُغايِراً في الظاهر، الذي سأُعبّر عنه بالجملة التالية: الإيديولوجيا ليس لها تاريخ.
لنتوقف هنا عند هذه الدقّة الفلسفية، لأنها تتخطّى كثيراً مسار كلامنا. لكن ثمّة شيء أكيد: إن هذه الكلمة التي اخترعها ترايسي والتي بدت له بسيطة وخالية من أي التباس هي في الواقع موضوع يحتاج للتفكير ومن المُستبعد الخروج منه اليوم.
الهوامش
(1)ـ Destut de Tracy, "M. de Tracy à M. Burke", in Philosophie, France, 19e siècle, Paris, LGF, 1994.
(2)ـCondillac, Traité des sensations (1754), Paris, "corpus", Fayard, 1984.
(3)ـBacsko, B. Une Education pour la démocratie, Textes et Projets de l'époque révolutionnaire, Paris, Garnier, 1982
(4)ـCabanis, P.-J.-G, Rapports du physique et du moral de l'homme, Paris – Genève, Slatkine, 1980.
(5)ـOp. cit., p. 471
(6)ـCentenaire de l'ةcole normale de l'an 3, Paris, Hachette, 1895 (cité par Pierre Macherey, "L'Idéologie avant l'idéologie", in L'Institution de la raison, Paris, Vrin/EHESS, 1992, p. 41-49
(7)ـةléments d'Idéologie, première partie, Idéologie proprement dite (réimpression de la troisième édition de 1817), Paris, Vrin, 1970; ةléments d'Idéologie, seconde partie, Grammaire, (réimpression de la seconde édition de 1817), Paris, Vrin, 1970. لا توجَد طبعة جديدة لكتاب (المنطق).
(8)ـTraité de la volonté et de ses effets, Corpus, Paris, Fayard, 1994
(9)ـAlthusser, L. "Idéologie et appareils idéologiques d'ةtat" (Notes pour une recherche), Paris, Ed. Sociales, 1976, p. 81-137 (La Pensée, n 151, juin 1970)
(10)ـMarx, K., Engels, F., L'Idéologie allemande, Ed. Sociales, Paris, 1976, p. 224.

--------------------------------------------
[1]*- باحثة وعضو فخري في المركز الوطني للأبحاث العلمية (CNRS) فرنسا Centre National de Recherche Scientifique.
ـ مصدر المقال: www.bibnum.education.fr\sites\dfaut\destutt-de-tracy-analys.dpf
- العنوان الأصلي للمقال: Une philosophie pour la république
- تعريب: عماد أيوب. ـ