البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

نقد الأسس المعرفية للإيديولوجيا الغربية ( عبد الوهاب المسيري ومنى أبو الفضل نموذجان )

الباحث :  د. حسان عبد الله حسان
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  6
السنة :  السنة الثانية - شتاء 2017 م / 1438 هـ
تاريخ إضافة البحث :  February / 6 / 2017
عدد زيارات البحث :  3036
تحميل  ( 355.847 KB )
تتناول هذه المقالة للباحث والأكاديمي المصري حسان عبد الله حسان نقداً عربياً للأسس المعرفية للمنظومة الإيديولوجية في الغرب، وقد عاد الباحث لإنجاز مسعاه إلى ما قدمه مفكران عربيان في هذا المجال وهما: عبد الوهاب المسيري[2] (1938-2008م) ومنى أبو الفضل[3] (1945-2008م)..

نشير إلى أن هذه المقالة تعتمد على منهجية التحليل المعرفي الذي يتضمن وجهين لمقاربة النموذج الإيديولوجي الغربي وهما: التفكيك والتركيب للمضمون المعرفي للنص الذي تجري معالجته بحثياً، ثم إعادة بناء ما جرى تفكيكه من أجل إدراك أهم الجوانب النقدية للإيديولوجيا الغربية من منظور هذين المفكرين.

المحرر


اتصل المسلمون بالغرب في العصور الإسلامية الباكرة، فعرفوا حضارته واستوعبوها، دون أن يتأثروا بها في تصوراتهم ورؤاهم الأساسية، وذلك بفضل القوة النفسية من ناحية، وامتلاك القدرة المعرفية والمنهجية المستمدة من الرؤية الكلية المستقلة والمتفردة والتصور الحضاري الشامل من ناحية أخرى. ثم تجاوز المسلمون حضارة الغرب، وأسسوا حضارة عرفت في التاريخ الإسلامي ونسبت إلى عقيدتهم ودينهم وهي “الحضارة الإسلامية”.

ثم كان اللقاء الثاني على “خوف من الغرب وفكره وعمله”، والذي تزامن مع التراجع الحضاري للعقل المسلم وإصابته بالجمود والذبول الفكري، وفقدانه لقوته النفسية وقدراته المعرفية والمنهجية الذاتية الدافعة ـ والذي تجاوز في خطورته فقدان مؤسسة الخلافة ذاتها ـ هذا مع بروز التفوق الغربي في مجال العلوم والاكتشافات العلمية، أو ما يمكن أن نسميه بـ”الأرصدة المادية للحضارة”، وتزامن ذلك ـ أيضاً ـ بالاحتلال الغربي العسكري للعالم الإسلامي المفكك سياسيّاً وفكريّاً، فكان “الاستدراج” الفكري والثقافي أداة الغالب، والاستتباع حيلة المغلوب وحالته.

بيانية العقل المسلم والغرب

تحرك العقل المسلم إزاء هذا الاتصال الثاني بالغرب حركتان: الأولى، حركة الخائف والمتوجس من “الانصهار” و”الذوبان” في نهر التفوق الغربي، وسارت هذه الحركة في مسارين أساسيين، الأول: تمثل في اتجاه التعبئة والتحذير للعقل المسلم من “الاستلاب” و“الغزو الفكري والثقافي” و”التغريب” كما عند رشيد رضا ومحب الدين الخطيب ومصطفى صبري وجلال آل أحمد والمسار الثاني: تبني دعوة “المقاومة” و”استعادة الهوية” في مقابل “الآخر” فظهرت في صورة ردود تحمل عناوين “الإسلام والمدنية”،”الدين والعلم” كما عند محمد عبده ومصطفى الغلاييني وأحمد عزت باشا أو في دعوات تجديدية كما عند محمد إقبال، أما الحركة الثانية للعقل المسلم، فهي حركة يبدو فيها طابع “التسليم” بتفوق الحضارة الغربية وتفوق حضارته ونهضته، وسارت هذه الحركة ـ أيضاً ـ في مسارين: الأول، حاول التوفيق بين عناصر الذات الأصيلة وما أنتجه الفكر الغربي من نظريات واكتشافات تحت عنوان “التوفيق” بين منجزات هذه الحضارة وبين المبادئ الإسلامية كما عند الطهطاوي، أما المسار الثاني: اتخذ من منهجية “النقل والاقتباس” طريقاً لاستعادة الدور والمكانة، وهو ما عرف بمسار “التغريب” ويظهر جلياً عند طه حسين وإسماعيل مظهر ونامق كمال ومدحت باشا ورضا خان.

وفي النصف الثاني من القرن العشرين ظهر مسار آخر في تناول وقراءة الفكر الغربي، يقوم على الانطلاق من الذات، ومن استحضار القوة الدافعة الوجدانية، مع امتلاك المنهجية المعرفية الذاتية، وذلك بهدف تحقيق الاستيعاب القائم على التبصر والبصيرة الحضارية. ومن الذين أسسوا لهذه “المدرسة الحضارية” مرتضى مطهري ومحمد حسين الطباطبائي في “أسس الفلسفة والمذهب الواقعي”، ومحمد باقر الصدر في “فلسفتنا” و”الأسس المنطقية للاستقراء”، وعلي شريعتي في “العودة إلى الذات”، وعلي عزت بيجوفيتش في “الإسلام بين الشرق والغرب”، ومراد هو فمان في “الإسلام كبديل”، وإسماعيل الفاروقي وزملاؤه في مشروع “إسلامية المعرفة”، وغيرهم ممن ساهموا في تأسيس قراءة معاصرة للفكر الغربي لا تقوم على “الخوف” أو “التعبئة” أو “الاستلاب” أو “التلفيق”، بل تقوم على تأسيس منظور حضاري قائم على الانفتاح على الآخر واستيعابه، انطلاقاً من الثوابت الحضارية التي قامت عليها الشخصية المسلمة، واستهدافاً لاستعادة الدور والمكانة وفقاً لهذه الثوابت الحضارية.

نتناول في ما يلي نموذجين من هذا المسار الفكري الذي لم يخضع للاستلاب أو الخوف، وإنما انطلق من امتلاء بالطاقة الحضارية الواعية في النظر المنهجي للإيديولوجيا الغربية والفكر الغربي، وهما المفكران: عبد الوهاب المسيري، ومنى أبو الفضل.

محاور نقد الأسس المعرفية للإيديولوجيا الغربية من منظور المسيري ومنى أبو الفضل:

أولاً: المدخل المنهجي لنقد الإيديولوجيا الغربية:

انشغل المسيري بالبحث في النماذج وأسسها المعرفية، وقدرتها على التشغيل والتفسير، ومثلت الظاهرة الإنسانية، والإنسان معيارية التمايز بين النماذج المعرفية وإدراك ما بينها من اختلافات، أو ما تتضمنه هي ذاتها من تناقضات تفسيرية. وقد أولى النموذج المعرفي الغربي بالبحث والنقد الداخلي [في بنائه المعرفي] والخارجي [في تداعياته وتحيزاته وقدرته التفسيرية للظاهرة الإنسانية]. والعنوان النقدي الأكبر عنده في ما يتعلق بالإيديولوجيا الغربية هو الإخفاق في تفسير الظاهرة الإنسانية وفي ما يلي سوف نتناول أهم جوانب ذلك النقد.

أما منى أبو الفضل فقد انشغلت بمشروع “الأنساق المتقابلة” الذي يقوم على الإدراك المعرفي لجوانب تلك الأنساق المتقابلة ومكوناتها الحضارية “فالنسق القياسي هو مثل تصور تجريدي ونموذج تحليلي تُستنبط خصائصه من واقع التقاليد الحضارية والخبرة التاريخية للكيان الاجتماعي الحضاري”[4]، وهي ترى أن هناك نمطين أو نسقين في مجال النظرية الاجتماعية، هذان النمطان هما: النموذج الثقافي الوسطي أو التوحيدي (Medium culture type)، ولكنه نموذج مضمر نظراً لتراجع حضارته ومجتمعاته عن العمل الحضاري، والنمط الثاني: النموذج الثقافي المتأرجح أو المتذبذب أو الأنسوي الطبائعي، وهو الذي ينطلق وهو النموذج الذي أبدعته الإيديولوجيا الغربية الحديثة، وهو السائد والمهيمن لأن حضارته فاعلة حضوريّاً ـ بشتى الصور ـ في الواقع المعاصر.

المدخل المنهجي الذي يقدمه المسيري لنقد الإيديولوجيا الغربية هو البحث في أساسها المعرفي الذي يتجلى في النموذج المعرفي الذي انبثق عن تلك المنهجية. يحدد المسيري أولاً المقصود بالنموذج المعرفي ضمن إطار اصطلاحي لبحث النماذج المعرفية وأنماطها في تفسير الظاهرة الإنسانية فالنموذج المعرفي هو صورة عقلية للعالم تشكل ما يمكن تسميته “خريطة معرفية” ينظر الإنسان من خلالها إلى الواقع، والنموذج لا يوجد جاهزاً في الواقع فهو نتيجة عملية تجريد عقلية مركبة (تفكيك وتركيب) إذ يقوم العقل بجمع بعض السمات من الواقع فيستبعد بعضها ويُبقي بعضهم الآخر، ثم يقوم بترتيبها بحسب أهميتها ويركبها... وتسمى هذه النماذج “نماذج إدراكية” لأن الإنسان يدرك الواقع من خلالها، وتسمى أيضاً “نماذج معرفية”، أي إنّها عادة ما تحتوي على بعد معرفي (كلي ونهائي). والنماذج (أو الخرائط) الإدراكية والمعرفية تولد إدراكاً مختلفاً من شخص لآخر ومن حضارة لأخرى للظاهرةِ نفسها.

ويشير المسيري إلى نتيجة مهمة بشأن النماذج المعرفية وقراراتها الحضارية والمعرفية، وهي أن هذه النماذج ليست محايدة وليست مطلقة، وبالطبع ليست صالحة لكل المجتمعات أو كل مكان، لأن هذه النماذج تحمل بذورها الجينية التحيزية لارتباط تصوراتها ومفاهيمها بالبيئة الحضارية وسياقاتها التاريخية والاجتماعية التي نشأت فيها، وهو في ذلك يطرح تلك المقولة المعرفية التي تحكم عمل النماذج وتشغيلها في تفسير الظواهر الاجتماعية والإنسانية: “لكل نموذج بُعده المعرفي، أي إنّ خلف كل نموذج معاييره الداخلية التي تتكون من معتقدات وفروض ومُسَلَّمات وإجابات وأسئلة كلية ونهائية تشكل جذوره الكامنة وأسسه العميقة وتزوده ببعده الغائي، وهي جوهر النموذج والقيمة الحاكمة التي تحدد: النموذج وضوابط السلوك، وحلال النموذج وحرامه، وما هو مطلق وما هو نسبي من منظوره، أي مسلمات النموذج الكلية أو مرجعيته التي تجيب عن الأسئلة الكلية والنهائية”[5].

كما يؤكد المسيري ـ أيضاً ـ في تعريفه للنموذج فكرة “المرجعية” التي يستمد منها النموذج مكوناته الكلية وقيمه الحاكمة، وهي فكرة تجمع التاريخ والجغرافيا والثقافة والعقائد بدورها، فالنموذج المعرفي وفقاً لهذا المدخل الاصطلاحي المنهجي يتحيز وفقاً لمرجعيته التي ينطلق منها. وبصفة عامة يقسّم المرجعيات إلى نوعين: المرجعية النهائية (الكامنة) والمرجعية النهائية (المتجاورة)، ويضع جميع النماذج بين هاتين المرجعيتين، المرجعية الأولى: تنظر إلى العالم باعتبار أنه يحوي داخله ما يكفي لتفسيره دون حاجة إلى اللجوء إلى أي شيء خارج النظام الطبيعي، وهذه هي المرجعيات المادية...، أما المرجعية الثانية “المتجاوزة”: فهي نقطة خارج عالم الطبيعة متجاوزة لها، وهذه هي المرجعيات التوحيدية التي تؤمن بالإله الواحد المنزه.

والنموذج المادي الغربي ينتمي في مرجعيته إلى النوع الأول “المرجعية الكامنة”: فهو نموذج عقلاني مادي ينطلق من رؤية مادية نفعية، قام بهَزْم العالم واقتسامه وبتدويل نموذجه وفرضه على الكثير من المجتمعات، إما من خلال القمع والإغواء أو من خلال خاصية الانتشار.

يصف المسيري النموذج المعرفي الغربي الحديث في سبعة مرتكزات معرفية، تمثل كلٌّ منها مكوناً جوهرياً لهذا النموذج إما معبراً عن سياق تاريخي حضاري، أو مؤسساً لأداة تفسيرية للظاهرة الإنسانية. ونحاول إجمال هذه المرتكزات المعرفية لهذا النموذج ـ كما طرحت ـ في ما يلي[6]:

مركز الكون كامن وليس متجاوزاً: في المنظومة المعرفية الغربية المادية الحديثة مركز الكون كامن فيه وليس متجاوزاً له، وهذا يعني أن الإله غير موجود ولا علاقة له بالمنظومات المعرفية والأخلاقية والدلالية والجمالية، فالعالم يوجد داخله ما يكفي لتفسيره، وجميع هذه المنظومات يجري تأسيسها وتطويرها بالعودة إلى هذا العالم وهذا الزمان وحسب.

العالم نسق كلي: وهو مادي متماسك وفي حالة حركة دائمة مستمرة، والعالم مكون من ذرات تائهة (حسب الرؤية الآلية للكون) أو كيان عضوي مصمت متماسك (حسب الرؤية العضوية) أو خليط بينهما. والعالم يتسم بالسببية الصلبة الكاملة، بمعنى أن لكل شيء سبباً ماديّاً وأن (أ) ستؤدي حتماً إلى (ب) دائماً وأبداً ـ إن تكررت الظروفُ نفسها.

الاندماج بين الإنسان والطبيعة: في هذا العالم المادي الذي لا يقبل الثغرات، لا يوجد فارق كبير أو جوهري بين الإنسان والطبيعة، فالإنسان إن كان كياناً مختلفاً عن الطبيعة فإنه سيشكل ثغرة وانقطاعاً في النظام الطبيعي المادي المستمر المتماسك المطرد الذي لا يقبل عدم الاستمرار.

العالم كله متصل واحد: حلقاته متشابكة متلاحمة ولا توجد فيه ثغرات أو فراغات، يسير نحو التوازن والحركة المطردة، يخضع لمنطق تطوري. فالكائنات كلها في حالة تطور دائم وتقدم مستمر لا تراجع فيه، ولذا فكل الكائنات قابلة للتحول والتغير (فكل شيء في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير جوهر واحد المادة).

نفي (تفرد) فرادة الظاهرة الإنسانية: الظاهرة الإنسانية ليست فريدة ولا هي بمستعصية على التفسير. قد تختلف الظواهر الإنسانية في درجة تركيبها عن الظواهر الطبيعية، ولكنها في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير يمكن ردها إلى القوانينِ الماديةِ نفسِها التي تحكم الطبيعة والتي تتجاوز كل الغائيات والأغراض (الدينية والدنيوية).

“الإنسان الطبيعي”: وهذا المرتكز يرد الإنسان إلى النظام الطبيعي المادي الذي يصبح جزءاً لا يتجزأ منه، فالإنسان وفقاً للنموذج الغربي ـ كائن طبيعي (مادي) موجود في كليته داخل النظام الطبيعي (المادي) يعيش في الطبيعة وبها ومنها وعليها، ولا وجود له خارجها. جزء لا يتجزأ منها، يسري عليه ما يسري على الكائنات الأخرى. والإنسان وفقاً لهذا المرتكز أهدافه مدمجة في الطبيعة وليست له أهداف مستقلة عنها أو فوقها بحسب القانون الطبيعي الذي يسري على كل الكائنات. والذي يفسر الإنسان في ضوئه من خلال القوانين الطبيعية.

إن الحضارة الحديثة تدور حول هذا “الإنسان الطبيعي” الذي يدور حول جسده في إطار المنفعة واللذة. وفي مرحلة التقشف والثنائية الصلبة والتراكم الرأسمالي والإمبريالي ظهر الإنسان الاقتصادي الباحث عن المنفعة المادية والذي سيحقق سعادته من خلال التراكم، والذي يرشد حياته في الإطار المادي، ثم يبطش بالآخرين من خلال منظومته الإمبريالية. ولذلك فهو إنسان يستخدم حواسه الخمس، جسده هو أساس رؤيته للكون، وإن كان هناك أولوية لشيء فهو لجهازه الهضمي وربما عضلاته.

ولكن في مرحلة السيولة الشاملة والاستهلاك، لم تعد المنفعة هي المعيار الأساسي، وإنما اللذة. وظهر الإنسان الجسماني والجسدي والجنسي الذي يعيش في جسده، وهو مجموعة من الأعضاء والأعصاب والانفعالات القوية المباشرة ولكنها جميعاً موجهة نحو تحقيق اللذة، ولذا فبدلاً من الجسد، أصبح الجنس هو أساس رؤية الإنسان للكون[7].

إعلان “نهاية الإنسان” والانتصار للطبيعة: فالمنظومة المعرفية الغربية بدأت بسحب الأشياء (الطبيعية) من عالم الإنسان ووضعتها في عالم الأشياء الذي له قوانينه الخاصة. ثم سحبت الإنسان نفسه من عالم الإنسان ووضعته في عالم الأشياء حيث أُخضِع لقوانينها، أي القانون الطبيعي، أي إن المنظومة الغربية المادية الحديثة بدأت بإعلان موت الإله باسم مركزية الإنسان، وانتهت بإعلان موت الإنسان باسم الطبيعة والأشياء والحقيقة المادية. وهذه هي الواحدية المادية: بمعنى أن تصبح كل المخلوقات خاضعة تماماً للقانون المادي الصارم نفسهِ، وأن يسود منطق الأشياء على الأشياء وعلى الإنسان. وكما يؤكد المسيري فهذا المنطق “هو حجر الزاوية في المشروع المعرفي الغربي: ثمة قانون واحد وثقافة واحدة وإنسانية واحدة (تكتسب وحدتها من كونها جزءاً من النظام الطبيعي)[8].

ولعل “العولمة” أحد تجليات تلك الواحدية الغربية، العولمة والعلمانية الشاملة مثل (النازية، الماركسية، الليبرالية، والصهيونية) والتي تكمن وراء ما يسمى “التطور أحادي الخط”. ويبين المسيري في تحليل العولمة كأحد تجليات الرؤية المادية الغربية كيف أنها استمرار لتلك الرؤية وتحقيق لنموذجها المادي، فالعولمة تقوم على عمليتين أساسيتين هما: التوظيف والتنميط، الأولى: تعني توظيف كل الواقع المادي والإنساني، والثاني: يعني تنميط كل مجالات الحياة حسب الرؤية المادية الواحدية بهدف إعادة صياغة الإنسان في كل المجتمعات وكل الثقافات على نمط واحد هو النمط “المادي الأحادي”.

والعولمة بذلك تهدف إلى “محو ذاكرة الشعوب التاريخية ومحو وعي الإنسان بذاته بصفته كياناً مستقلاً عن عالم الطبيعة والمادة، ويبدوأن العالم الغربي قد تبنى مفهوم العولمة ومقولات النظام العالمي الجديد حتى يصرف الناس عن الجهاد وحتى لا يتنبه الناس لاستغلاليته وسطوته وهيمنته، وهذا يعود إلى أن العالم الغربي بدأ يفقد مركزيته وثقته في نفسه، كما أن أجياله الجديدة ترفض الدخول في معارك عسكرية بسبب تراجع النزعة الجهادية لديهم وتوجههم الحاد نحو اللذة. كما أن العالم الغربي بعد المواجهة مع الشعوب المستضعفة في فيتنام وفي فلسطين، جنوب لبنان، أدرك أن المواجهة العسكرية مع شعوب العالم الثالث باهظة التكاليف، ولذا وجد أنه من الضروري الالتفاف واللجوء إلى الإغواء بدلاً من القمع فطور منظومة النظام العالمي الجديد والعولمة[9].

أما منى أبو الفضل فتؤكد أن نقد النظرية الاجتماعية المعاصرة وإعادة تركيبها يقتضيان مقاربة واستطلاع نماذج ثقافية أخرى من أجل فهم أوجه الاختلاف بين النظرية الاجتماعية التي تستند إلى النموذج الوسطى التوحيدي، والنظرية الاجتماعية السائدة [التي تنتمي إلى الإيديولوجية الغربية]. وهذا العمل النقدي يقتضي: تحديد المقولات والافتراضات والممارسات الأساسية للنظرية الاجتماعية المعاصرة كما هي في الأوساط العلمية المتقدمة، ثم النظر في كيفية ممارستها في المستويات المختلفة من البحث، وفي تأثيرها في مختلف النشاطات العلمية والفكرية المعنية بدراسة الإنسان والظاهرة الاجتماعية، حيث إن الرؤية الكلية السائدة في المجتمع في لحظة معينة تسري في صميم المفاهيم والافتراضات المكونة للنظرية الاجتماعية، وتعمل على بناء التخصصات وتشكيلها في ضوئها[10].

وهذا يعني أن عناصر النظرية الاجتماعية هي عناصر ثقافية بالأساس، أو نتاج لها، والثقافة ذات خصوصية مجتمعية وحضارية غير قابلة للتدويل إلا في ضوء ما يكون من تقارب في الرؤى والتصورات الكلية والمفاهيم. إلا أن ذلك لم يحدث في ما يتعلق بالإيديولوجيا الغربية المعاصرة التي انتهت إلى الانحياز إلى نموذج أحادي وفرضته على كل النماذج الأخرى، وأعلنت بدورها الإمبريالي موت كل النماذج المخالفة في التكوين والأصول والرؤى.

وتحلل منى أبو الفضل أبرز معالم النسق الغربي وكيفية تكوينه وأهم مفاهيمه، من خلال الوعي بمراحل تكوُّنه وصياغته النهائية في العصر الحديث، كما تحلل سياقات النشأة المعرفية والاجتماعية والعلمية للحضارة الغربية وإيديولوجيتها الحاكمة، والتي بدأت بالتخلص من النفوذ الكنسي ثم إلى التخلص من الآخر كله والانتفاع به إلى أقصى ما يمكن استغلاله، ثم تبلور أهم المفاهيم التي أُسِّست في هذا السياق الحضاري والإيديولوجي، وأهم الأدوات والوسائل المستخدمة لتحقيق هيمنة وإكراهات الأيدلوجية الغربية، وهذا التحليل الخطي يوضح خريطة الحضارة الغربية وإيديولوجيتها الحاكمة كما يلي:[11].

1- إن التقدم العلمي قد استخدم بداية في القضاء على”الكهنوت والنفوذ الكنسي” الذي كان يدافع عن وجهات نظر “أرسطية” أعطاها صفة كنسية، ثم استخدم المنهج العلمي بصورته هذه في فرض المذهب الوضعي العقلاني في الفكر والفلسفة في مقابل المنهج اللاهوتي الديني. كما وصل إلى المذهبية الوضعية المنطقية (positivism) عند إحدى مراحل تطوره ومنها جاءت المذهبية الطبيعية (Dialectic Materialism) عند مرحلة أخرى أعلى من العلمنة.

2- إن الفكر الغربي قد استخدم التكنولوجيا ومعطيات التقدم العلمي الصناعي كافة في مرحلة الثورة الصناعية؛ من أجل إحداث التكديس والتراكم الرأسمالي، وتحقيق فائض الإنتاج، وضحَّى في سبيل ذلك بالكثير من المقومات الإنسانية الأساسية، والأخلاقيات والمثل المتعلقة بكرامة الآدمي وحريته، من الاتجار بالعبيد وتوريدهم كسلعة إنتاجية إلى البلاد المكتشفة ـ أميركا ـ.

3- استطاعت التكنولوجيا الغربية بعد فرض السيطرة الغربية على العالم وإخضاع سائر الأمم والشعوب خارج المنظومة الغربية لها، وبعد أن تمكنت من استنزاف ثروات هذه المستعمرات، وظفت نفسها من أجل تحقيق الرفاهية المطلقة للإنسان الغربي وحده على حساب باقي بني الإنسان من كل شعوب العالم. وعمدت إلى تقديم التسهيلات الحضارية المادية له، ثم استخدمت التكنولوجيا المتطورة والأقمار الصناعية، من أجل دعم سيطرته على الكون ـ الطبيعة الذي ينتمي إلى خارج المنظومة الغربية.

4- إن المفاهيم المعرفية الغربية المتمحورة حول ذاتها في إطار “المادية” و”عمليات الترشيد” و”العلمية” و”العقلية” والتوجهات “الوصولية” و”النفعية” وحركات التنافس والاستغلال كانت هي الباعث المحرك في استخدام العلم والتكنولوجيا، ذلك الاستخدام الاستغلالي الاستعماري، الذي صار قادراً على مسخ الإنسان وتشويهه واغتياله.

5- إن النظر إلى عالم ما بعد الحداثة Post-Modernism يجعلنا نتيقّن أنّ ثنائية جديدة ستقوم في هذا العالم ما بين القيم المادية النفعية ومفاهيم الوصولية والمصلحة والاستغلال تلك التي تمثلها الخلفية الفكرية الوضعية للحضارة الغربية والتي تنطلق من “لاهوت الأرض” ومن انعكاسات الفكرة العلمانية اللادينية في النظر إلى الحياة والكون والإنسان.

ثانياً- الرؤية المعرفية والأخلاقية للنموذج المعرفي الغربي

ـيقدم المسيري بعد تحليله للمرتكزات المعرفية للنموذج المادي الغربي رؤية معرفية ورؤية أخلاقية جرى سفيها تحديد أهم الأولويات المعرفية والأخلاقية للمنظومة الغربية المادية الحديثة. وتتشكل هذه الرؤية من جانبين الأول: يتصل بالبعد المعرفي الذي ترتب على الحفر في هذا النموذج المادي وإيديولوجيته المادية ليحدد فيها طبيعة العقل، الفكر، واكتساب المعرفة، واليقين، والجانب الثاني: هو الرؤية الأخلاقية والذي يتعلق بمكانة البعد الأخلاقي في هذا النموذج المادي، والقيم والمعايير الحاكمة وطبيعتها.

وفي ما يتعلق بالرؤية المعرفية في النموذج الغربي يرى المسيري أن عقل الإنسان ـ في هذا النموذج ـ جزء لا يتجزأ من الطبيعة والمادة، وهو قادر على تسجيلها وتلقيها بشكل موضوعي وبكفاءة وحياد، ولكنه غير قادر على تجاوزها أو الاستقلال عنها، ويسميه “العقل المادي”، وهذا العقل: قادر على تسجيل الجوانب العامة والمشتركة فالجوانب العامة هي الجوانب الطبيعية المادية وهي وحدها التي تساعده على التوصل إلى قانون عام، والحقائق في طبيعتها عقلية وحسية، لذا فإنها قابلة لأن تعرف وأن تقاس في جميع جوانبها، والموجود هو ما نحسه ونتعقله، وما وراء ذلك فأوهام، والمعرفة حسية وحسب.

العقل المادي إذاً في النموذج الغربي قادر على شيء واحد هو رصد الواقع كما هو وإعادة صياغة الإنسان وبيئته المادية والاجتماعية بما يتفق مع القوانين الطبيعية العامة التي أدركها الإنسان من خلال دراسته لعالم الطبيعة والأشياء[12].

وفي ما يتعلق بالجانب الثاني في المنظومة الغربية المادية، الجانب الأخلاقي نلاحظ غياب المقدسات والغائيات التي يمكن للأخلاق أن تستمد منها معيار صوابها وخطئها ومعايير الأحكام القيمية للسلوك الإنساني الراشد، فالمنظومة المادية الغربية: لا تعرف المقدسات أو المطلقات أو الغائيات، وهدف الإنسان من الكون هو عملية التراكم والتحكم وحسب، والقوانين الأخلاقية لا وجود لها إذ لا يوجد سوى المنفعة واللذة وتعظيم الإنتاج بهدف تعظيم الاستهلاك.

ووفقاً لهذه الرؤية نجد أنه من الصعب قيام أيّ معيارية أخلاقية في هذه المنظومة المعرفية المادية لأن الواقع لا اتجاه له -في إيديولوجيا ما بعد الحداثة الغربية ـ ولأنه لا ثبات في الكون، ولأن الحقائق منفصلة عن القيمة، ولأن كل الأمور متساوية بسبب كل هذا “لا يمكن قيام أيّ معيارية أخلاقية، ولا يمكن تأسيس نظم أخلاقية عامة وإنما يمكن تأسيس اتفاقات محدودة الشرعية لا تتحدد في ضوء منظومة أخلاقية كلية وإنما في ضوء الوظيفة والنتيجة. كل ما يمكن التوصل إليه هو أخلاقيات برغماتية تأخذ شكل فلسفة القوة والهيمنة (للأقوياء) وفلسفة الإذعان والتكيف (للضعفاء)، إذا لا توجد معايير متجاوزة للإنسان، ولا يوجد وسيلة لتعريف الظلم والعدل”[13].

ـإن هذه المنظومة وضعت الإنسان في مركز الكون (نظرياً) ولكن هذا الإنسان لا تحده حدود ولا تقيده قيود ولا يرتبط بأي قيم (باستثناء سلم القيم والمعايير الذي يقرره هو ). ومن ثم أصبح الصراع قانون الحياة الأوحد وأصبحت القوة الآلية الأساسية وربما الوحيدة لحسم كل الخلافات والإشكاليات والتناقضات. ولا شك في أن الشواهد المعاصرة تؤكد ذلك المعنى، فانتشار الحروب في العالم الآن مركزها المصدر والمخطط هو الغرب لإفناء طاقات الأمم وسهولة السيطرة على مواردها وإضعافها. وبدلاً من أن يصبح العالم مادة استعمالية لكل الجنس البشري، أصبح العالم ومعظم البشرية مادة استعمالية للجنس الأبيض (صاحب القوة). وبدلاً من أن يقف الإنسان في مركز الكون وقف الإنسان الأبيض فيه ومارس إحساساً بهذه المركزية وضرورة المحافظة عليها وفرضها على الآخرين (وهذا أمر متوقع تماماً في غياب المطلقات الأخلاقية[14].

وترى منى أبو الفضل أن فكرة الصراع مثلت قلب النموذج الغربي معرفياً وأخلاقياً، هذه الفكرة التي مثلتها الداروينية في صورتها الاجتماعية عند الغرب، حيث حاولت الأيدلوجية الغربية نقل قانون الداروينية من الطبيعي إلى الاجتماعي.

إن مصطلح [ الداروينية الاجتماعية] قد استخدم منذ أوائل القرن العشرين لوصف نوع من الفكر الاجتماعي (في تفسير) حركة التاريخ الإنساني، كان يزعم أنه يطبق على المجتمع وعلى حركته التاريخية، المبادئ (أو القوانين) نفسها التي صاغها عالم البيولوجيا البريطاني تشارلز داروين في كتابيه: “حول أصل الأنواع من خلال الانتخاب الطبيعي”، ومن قبله “بقاء الأجناس الملائمة في الصراع من أجل الحياة” (1859م). وقال هؤلاء ما دام هذا القانون الذي صاغوه بكلمتي: البقاء للأصلح، هو الذي يحكم العلاقة بين الكائنات الحية في الطبيعة (ومنها الإنسان) فإنه قانون يصلح لتفسير العلاقات الإنسانية “داخل المجتمعات” خاصة بين الطبقات والفئات والأفراد، وأنه يصلح ـ أيضاً ـ لتفسير العلاقات بين المجتمعات والدول. وبذلك كانت الداروينية الاجتماعية (والتاريخية) أحد التبريرات الإيديولوجيا القوية التي بررت سياسات الصراع الاجتماعي والقهر الاجتماعي لطبقات بعينها أو أجناس أو طوائف على أساس أنها “لا تصلح للبقاء”. كما كانت الداروينية الاجتماعية أحد التبريرات القوية للفكر الاستعماري المبتذل في القرنين التاسع عشر والعشرين[15].

وتبين منى أبو الفضل أن النسق الدارويني الذي يؤصل لفكرة الصراع الإنساني بل الكوني هو المدخل المعرفي للخطابالإيديولوجي الغربي في النظرية الاجتماعية وهو ما من شأنه أن يصيب تلك النظرية بالاضطراب في ما يتعلق بالقياس إلى الفطرة الإنسانية التي تسعى إلى الانسجام والتعايش الاجتماعي وتُعلي من قيم الوئام والانسجام البشري واللحمة والوحدة "فالنسق الدارويني نسق تطوري مفعم بأخلاقية الصراع وشريعة القوة والغلبة بوصفه مدخلاً مناسباً للخطاب المعرفي الحديث الذي شكل بنية النظرية الاجتماعية أمر يختلف تماماً عن تحديد مصادر هذا النسق وتفرعاته التي تتخطى هذه النظرية الاجتماعية عينها، إن ذلك من شأنه أن يظهر التوترات المتأصلة في الثقافة المتذبذبة [ثقافة النموذج المعرفي الغربي] هذه التوترات التي تَحُد من إمكانيات تصحيح الخلل الملازم لها، والذي يتعزز ويتفاقم ويترسخ في ممارسة النظرية الاجتماعية”[16].

إن الشفرة التطورية [التي ثبتتها الداروينية] مدخل جيد للوصول إلى العقل الحديث وإنجازاته سواء في علوم الحياة أو في العلوم الاجتماعية، ومبدأ الحياة فيه هو الصراع والسيطرة من أجل البقاء. هذا هو المفهوم الذي شكل جوهر النظرية الاجتماعية المعاصرة... وعلى نقيض التصورات الشائعة، لم يكن الفكر الدارويني هو المنشئ للحقبة الداروينية، بل تشير الشواهد المتوافرة إلى أن هذا كان مجرد تحصيل حاصل وتتويجاً لتيار كان قد أخذ مجراه بالفعل. وبتوفير الشواهد التجريبية (empirical) التي احتاج إليها من العلوم الطبيعية، زود الكشف الدارويني التيارات الفكرية التي كانت موجودة بالشرعية المطلوبة وبالمادة التي كانت تحت تصرفها. هذا ويمكن تتبع جذور هذا النزاع الاصطراعي في أعماق وتجاويف التقاليد التاريخية في الغرب سواء نظر إلى هذه التقاليد من خلال نسبتها إلى النزعة الإنسوية (الليبرالية) أو النزعة الإنسوية الدينية[17].

ولقد بلغت هذه الداروينية الاجتماعية ذروتها في الصيغة الماركسية للنظرية الاجتماعية، حيث إن الصراع الطبقي هو العامل المجسد للمادية التاريخية الجدلية، وهو بذلك المحرض على التغيير الاجتماعي والسبيل لخلاص الإنسانية المغتربة عن ذاتها... إن هذه الشرعة الأخلاقية تتخلل التيار السائد في العلوم الاجتماعية وتبقى الدعامة الأساسية للنظرية الاجتماعية، حيث تصبح عقيدة الهيمنة هي العقيدة الممجدة تحت معايير وتسميات مختلفة، وتُمارس هذه العقيدة وإضفاء الشرعية عليها تبعاً لذلك. ومن ثم تصبح النظرية الاجتماعية نفسها [المهيمنة] المفسر والشارح الماكر وبذلك فالمجراف لن يدعى مجرافاً، بل تبتدع عقيدة الهيمنة هذه ما يشاء من أسماء لتزييف الواقع وتلبيسه[18].

تؤكد منى أبو الفضل أيضاً ـ أن اعتبار الصراع قاعدة للنظام الاجتماعي وللتاريخ عموماً يحمل في طياته بذور عقيدة التدمير الذاتي التي تعمم على النظرية والاجتماعية المعاصرة، وجرى تعزيز ذلك بنسق من المفاهيم تُفرض على النحوالتعسفي ذاته فتقيد البحث ونطاق التركيز.كذلك فإن ثنائية استقطابية ترتكز عليها “ديناميات” الصراع والمواجهة تتمكن من قلب النظرية الاجتماعية الغربية وفي مقدمة هذه الثنائيات ثنائية: القيمة والحقيقة، والواقع والمثال، والمادي والروحي، والمقدس والمبتذل، والنظرية والممارسة، والفلسفة والعلم، والعقل والوحي، وربما كانت ثنائية الذات والموضوع أهم من هذا كله.

وقد تطورت فكرة الثنائيات وعبرت تخصصات اجتماعية وفلسفية مختلفة، ففي الفلسفة ظهرت ثنائيات أخرى مشهورة: أخلاقية تميز بين تقرير الحقائق وبين الأحكام الأخلاقية، أو القيمية، وتفسيرية تكتفي بتفسير ظواهر العالم كله، تفسيراً ثنائياً، ومعرفية تتحدث عن ثنائية وسائل المعرفة وموضوع المعرفة وفي علم النفس التحليلي أيضاً قامت ثنائية الوعي واللاوعي من ناحية وثنائية الوعي والجسد من ناحية أخرى، وفي علم الاجتماع...قامت ثنائيات كثيرة أشهرها: ثنائية الفرد والجماعة، وثنائية السلطة الدنيوية والسلطة الدينية، وثنائية الواقع المؤقت والظواهر المستمرة والأبدية. وفي علم التاريخ.. كانت أشهر الثنائيات: ثنائية المؤقت والدائم، وثنائية الأساس المادي والأساس المعنوي للتطور، وثنائية تأثير الفرد وتأثير الظروف، وثنائية الجغرافيا “المكان” والتاريخ “الزمان الإنسان” أي الثقافة والحضارة[19].

ثالثاًـ تحيزات النموذج المعرفي المادي

من الأفكار النقدية الأساسية التي ابتكرها المسيري لنقض الإيديولوجيا الغربية من جوهرها فكرة “التحيز”، فالفكرة الغربية بالأساس متحيزة النشأة والمقصد، كما أنها متحيزة في داخلها معرفيا لمفاهيم على حساب مفاهيم، وتصورات على حساب تصورات، ولمبادئ على حساب مبادئ، ويبدو تحيزها في مركزية المادية في نموذجها المعرفي، وتصفية ثنائية الإنسان والخالق وهاتان الفكرتان هما مبعث تحيزات هذا النموذج، الذي انطلق من “المادية الواحدية” رؤية وقانوناً مفسراً لكل الظواهر وحاكماً عليها. ويرصد المسيري أهم تحيزات النموذج المعرفي الغربي في ما يلي[20]:

التحيُّز للطبيعي والمادي على حساب الإنساني وغير المادي وهو تحيز ضد الطبيعة البشرية لمصلحة الطبيعة المادية.. وانطلق من هذا التحيُّز فكرة وحدة [أوواحدية] العلوم وهي المنهجية التي يجري عن طريقها فرض الواحدية المادية على الكون، وفرض منطق الأشياء على الإنسان وحوسلة العالم بأسره واختزاله إلى بعد طبيعي مادي واحد يسري عليه القانون أو القوانين العامة للمادة.

التحيز للعام على حساب الخاص. والافتراض السائد أنه كلما جُرِّدت الظواهر من خصوصيتها وارتفع المستوى التعميمي، ازدادت علمية ودقة [بحسب المنظومة المعرفية الغربية] ويجب أن يستمر تجريد الظواهر من خصوصيتها (الإنسانية والغائية).

التحيز للمحسوس والمحدود وما يقاس والكمي على حساب غير المحسوس واللا محدود وما لا يقاس والكيفي. وترتب على ذلك أن العلم الغربي قد حصر دراسة الظواهر في العالم المحسوس وحده، ولذا تعرضت كل الملامح اللامحددة والمركبة والكيفية (في ظل هذه النماذج التحليلية) المادية إلى التجاهل.

التحيز للبسيط والواحدي والمتجانس على حساب المركب والتعددي وغير المتجانس... وترتب على ذلك تفسير السلوك الإنساني من خلال نماذج بسيطة.

الواحدية السببية: إن ظاهرة الواحدية السببية المرتبطة تمام الارتباط بوحدة العلوم والواحدية المادية، نتجت من خلال هذا التحيُّز الذي ينطوي على وجود تفسير واحد للكون ورفض أي تفسيرات أخرى، بل معاداتها. هذه الواحدية السببية النابعة من الواحدية المادية تنطوي على رفض عميق للآخر المختلف، فوجود الآخر يعني وجود نماذج مختلفة وقوانين مختلفة للبشر.

التحيز للموضوعي على حساب الذاتي، والالتزام بالموضوعية في هذا السياق يعني أن يتجرد الباحث من خصوصيته ومن التزامه الخلقي ومن عواطفه وحواسه وكليته الإنسانية، ويحول عقله صفحة بيضاء... وبذلك تتحول الظاهرة موضوع الدراسة إلى مجرد شيء. وهذه الموضوعية تمتد لتشمل الظاهرة الإنسانية، بحيث يصبح الإنسان موضوعاً لا يختلف عن الموضوع الطبيعي، يوصف ويرصد من الخارج مع إهمال الجوانب والدوافع الداخلية[21].

رابعاً: التبسيط والاختزال

المدخل النقدي الآخر للنظرية الاجتماعية المعاصرة ـ الذي قدمته منى أبو الفضل ـ هو مدخل التبسيط والاختزال حيث أسفر منطق الثنائيات عن ميل جارف للتبسيط والاختزال (Reductionism) وهو ما يوضح مسار النظرية الاجتماعية. إن انتصار الوضعية قد جرى عبر تبسيط لرؤية حصر الكون في العالم المحسوس، وقلص الحياة إلى مجرد تصور (بيولوجي).

ومن أعراض منطق المسخ والتبسيط هو “الإفراط”، وهذا الإفراط هو نفسه أحد أعراض غياب المعايير والضوابط والافتقار للاعتدال، وهي أعراض ملازمة لثقافة التأرجح [النموذج المعرفي الغربي] ويتجلى ذلك في أحد أعراضه في السهولة التي يمارس بها التقليد العلمي الغربي عملية تصنيف الحقب الزمنية lk الدينية إلى العقلانية ثم العلمية. وبالسهولة نفسها تجري عملية الانتقال في الثقافة المتأرجحة من الأمام إلى الخلف ومن الخلف إلى الأمام على طول متصل ثقافي[22].

خامساً: خصائص النموذج المعرفي الغربي

يبين المسيري أن النموذج المادي “نموذج معادٍ للإنسان” لأنه يضمر نزعات عدمية معادية للإنسان، فهو مشروع يصفي ظاهرة الإنسان كظاهرة متميزة في الكون “إن المشروع الغربي كافر بالمعنى العميق للكلمة، فهو ليس كافراً بالإله وحسب وإنما هو كافر بالإنسان أيضاً إذ يعلن موت الإله ثم موت الإنسان باعتباره كائنا متميزاً عن الطبيعة، ثم ينتهي به الأمر أن ينزع القداسة عن كل شيء وينكر المعنى”[23].

ويؤكد ـ أيضاً ـ “استحالة المشروع المعرفي الحضاري الغربي”، وهذه الاستحالة تبدو من الناحيتين المعرفية والعلمية. فمن الناحية المعرفية يفترض هذا النموذج بساطة العقل وبساطة واقع الإنسان (الطبيعي والاجتماعي) وبساطة الدال اللغوي وبساطة المدلول الإنساني وبساطة العلاقة بينهما. وهو يفترض بيقين كامل متعصب أن رقعة المجهول ستتناقص بالتدرّج وستتزايد رقعة المعلوم، وأن المجهول سيُعرف، وأن تحكم الإنسان في الواقع سيصبح كاملاً، وهو افتراض أقل ما يوصف به أنه طفولي وسخيف، أما من الناحية العملية فالمشروع الحضاري الغربي المبني على التنمية والتحكم في المصادر وتعظيم الإنتاج والاستهلاك والتقدم المستمر اللانهائي قد ارتطم بحائط كوني صلب. فإذا كان الإنسان الغربي الذي لا يشكل سوى نسبة ضئيلة من سكان الكرة الأرضية (20 %) يستهلك ما يزيد على (80 %) من مواردها الطبيعية (ويبلغ حجم ما استهلكه الأميركيون في السنوات المئة الماضية ما يساوي كل ما استهلكه الجنس البشري عبر تاريخه. فإن هذا يعني أن النمط الغربي في التنمية وتحقيق السعادة (أو اللذة) للأفراد لا يمكن محاكاته[24].

ويشير تقرير التنمية البشرية لعام 1999م الصادر عن الأمم المتحدة كشف النقاب عن أن متوسط الدخل لدى سكان العالم في الدول الأكثر ثراء يزيد 74 % ضعفاً عن معدل الدخل في البلدان الأكثر فقراً... وفي أواخر التسعينيات من القرن الماضي كان 20 % من سكان العالم يمثلون 86 % من الاستهلاك الكلي، و82 % من أسواق التصدير، ويستخدمون 74 % من خطوط الهاتف في العالم[25].

ويضيف المسيري ـ أيضاً ـ أن من علامات استحالة المشروع الحضاري الغربي ما أسماه بتكاثر المدارس الفلسفية وإسهال المصطلحات الذي أصيبت به الحضارة الغربية حتى إنّها تطالعنا يوميّاً بمصطلحات جديدة يقدمها أصحابها على أنها أكثر دقة وعمومية واقتراباً من الحقيقة ثم تسقط وتموت لتحل محلها مصطلحات جديدة يلهث وراءها مفكرونا متصورين أنها ستقدم لهم إجابة عن أسئلتهم وحلاً لمشاكلهم، مع أن هذه المصطلحات ليست في واقع الأمر سوى تعبير عن الداء والمرض الغربي مرض البحث عن المستحيل[26].

قدمت ـ أيضاً ـ الإيديولوجيا المادية الغربية “نماذجية الانحراف” التي تعد جوهراً أساسياً في النموذج وتالياً ضروريّاً لمقدماته السابقة، ويوضح المسيري أنه من أهم آليات تجاوز الحيز في اكتشاف “نماذجية” الظواهر الانحرافية التي تعبر عن شيء أساسي في الحضارة الغربية (لضيق نموذجها الكامن) لا مجرد استثناء أو انحراف... فهل يمكن فصل المعدلات المتصاعدة للفردية عن التوجه الاستهلاكي الحاد في المجتمع الغربي الحديث؟ هل يمكن فصل كليهما عن التجربة الإمبريالية لرجل الغرب الشره حين حول العالم بأسره إلى مادة استعمالية يمكن استهلاكها؟ وهل يمكن فصل الرخاء والرفاهية والتنمية المتصاعدة في العالم الغربي عن عملية النهب الكبرى و(اقتسام العالم) التي قامت بها الإمبريالية الغربية، التي ليس لها نظير في التاريخ من ناحية اتساع المجال والمنهجية؟ إن مجمل ما نهبته إنجلترا من الهند وحدها يفوق بمراحل ما قامت بإنتاجه إبان الثورة الصناعية”[27].

ليست الإمبريالية أحد تجليات أو تمظهرات الإيديولوجيا الغربية، بل هي ـ على حد وصف المسيري جوهر الرؤية الغربية الحديثة، وأكثرها تصديقاً لمقولاته الأساسية في العالم أو (العلمانية الشاملة)، ويرى أن الاستراتيجية الغربية الإمبريالية سعى من خلالها الغرب إلى صيغة تمكنه من الدخول في علاقة لا تتسم بالندية مع بقية العالم، وتهدف إلى تحويل العالم كله إلى مجرد مادة استعمالية توظف لمصلحة الأقوى أو الغرب ويتحول العالم إلى مجرد أسواق للسلع الغربية ومصدر للمواد الخام الرخيصة والعمالة الرخيصة، هذه الاستراتيجية هي التي حقق الغرب من خلالها تراكمه المادي، ومن ثم لا يمكن إغفالها حين تدرس أي ظاهرة غربية حديثة. لا بد من استرجاع الإمبريالية لا على أنها مجرد ظاهرة سياسية وإنما على أنها مقولة تحليلية لمعظم الظواهر الغربية في القرن التاسع عشر[28].

لقد انتهت الإيديولوجية الغربية بعد إنهاء صراعاتها الداخلية الاجتماعية والثقافية إلى تأسيس نموذج إرشادي للعالم تفرد في مضامينه المعرفية التي شكلتها سياقاته المعرفية والاجتماعية وألغى في تلك المضامين أي أشكال معرفية أخرى واعتبر هذا النموذج هو النهائي للمجتمعات البشرية، فهذا النموذج الغربي “استبعد فيه كل الأشكال التي لم تخضع لمعاييره الصارمة. وهكذا ترك لكل تخصص في علم الاجتماع خيار وحيد: إما تبني هذا المنظور المعرفي وإمّا الاندثار. وهذا النموذج المثالي هو ـ بطبيعة الحال ـ النموذج التجريبي العلمي. وقد أدى النجاح الهائل للعلم في العصر الحديث إلى دفع هذا المنظور في المعرفة إلى مرتبة عالية بين جميع أشكال المعرفة الأخرى التي سرعان ما نظر إليها على أنها بالية، فهي ليست أكثر [في نظر هذا النموذج] من أطلال تنتمي إلى ما قبل العلم. ومن هنا اضطر الإنسان في دراسته لعالمه الاجتماعي إلى تبني هذا النموذج التجريبي قاعدة له”[29].

ينفى المسيري أن يكون الإنسان الغربي حقق تقدمه ومعدلاته الاستهلاكية من خلال “التراكم” الإمبريالي. لقد أوهمونا ـ كما يقول المسيري ـ بأنهم أسسوا البنية التحتية في مجتمعاتهم الديمقراطية من خلال جهدهم ومن خلال نجاحهم في ترشيد عمليات الإنتاج وتنظيم إدارة المشروعات، وأن هذا هو ما أدى إلى التقدم المتواصل في مجتمعاتهم من خلال الجهد الشخصي والتراكمي الداخلي وهذا غير صحيح.

لقد كان الاستعمار هو أداة الإيديولوجيا الغربية في التنمية وتحقيق رفاه ورخاء المجتمع الغربي “فالاستعمار هو تحقيق النموذج الغربي، فالإنسان الذي يسيطر على الطبيعة ويسخرها، وليس عنده معايير يعيش عليها وكل شيء بالنسبة إليه نسبي، هو نفسه الإنسان الإمبريالي الذي يسخر آسيا وأفريقيا وشعوبها ومواردها لمصلحته، وتحويل كل شيء إلى وسيلة أو “الحوسلة”[30].

هذه الحضارة الغربية أيضاً هي إحدى ثمرات التطور الحضاري الغربي، ولكنها حضارة معادية للإنسان بما في ذلك الإنسان الغربي نفسه. وهي حضارة لا تهاجم رؤية معينة ولا ديناً معيناً ولا منظومة قيمية معينة، وإنما تهاجم فكرة الرؤية والدين والقيمة. فهي تذهب إلى أن العالم تعددي بشكل مفرط لأنه لا مركز له ولا مطلقات فيه، كل الأمور فيه متساوية، ومن ثم كل الأمور نسبية، وهي حضارة تهاجم المقولات القبلية priori التي كانت تضمن وجود الإنسان كائناً مستقلاً عن الطبيعة (المادة)، لأن المقولات القبلية حتى لو وجدت في عقل الإنسان فإنها تفترض انفصاله عن عالم الطبيعة (المادة)، هذه الحضارة ـأيضاً تدعي أنها تجاوزت الفلسفة والميتافيزيقيا، فهي حضارة إما مؤسسة على الحقائق العلمية والتجارب العلمية، أو لا تحتاج إلى أساس أصلاً؛ لأن الأساس يفترض المركز[31].

سادساً ــ إخفاق النموذج المادي في تفسير ظاهرة الإنسان

اتفق كلٌّ من المسيري ومنى أبو الفضل على نتيجة معرفية في ما يتعلق بموقف النموذج المعرفي المادي من الظاهرة الإنسانية، وهو أخطر ما نتج من النموذج الغربي المادي وهذه النتيجة هي: إخفاقه في تفسير الظاهرة الإنسانية. إن مسلمات هذا النموذج من ناحية ومنطلقاته المادية الواحدية وتصوره الاختزالي لظاهرة الإنسان، ومحاولة دمج الإنسان بالعالم الطبيعي تصوراً ومعياراً وقانوناً حاكماً، جعل هذا النموذج يقع بالضرورة في هذا الإخفاق.

ويحدد المسيري جوانب إخفاق النموذج الغربي في عدة محاور أساسية، تقوم على منطلق معرفي أساسي هو “أن الإنسان ظاهرة تتجاوز حدود الواحدية المادية” أما المحور الأول فيقوم على مقوله “أن عقل الإنسان له مقدرات تتحدى النموذج التفسيري المادي”[32]، وهذا ما جاء على لسان فلاسفة وعلماء نفس غربيين، فتشومسكي ينكر تماماً أن عقل الإنسان مجرد صفحة بيضاء [كما يقول الماديون]، وإنما هو عقل نشيط يحوي أفكاراً كامنة فطرية، ونجده ـ أيضاً ـ يتحدث عن معجزة اللغة باعتبارها ظاهرة لا يمكن تفسيرها في إطار مادي وإنما لا بُدَّ من تفسيرها في إطار نموذج توليدي يفترض كمون المقدرة اللغوية عند الطفل، وما يقدمه جان بياجيه في المنظومة المعرفية وتطورها عند الإنسان...كل ذلك يزيد الاعتماد على النماذج التوليدية مقابل النماذج التراكمية وهو دليل على تراجع النموذج المادي.

والمحور الثاني في إخفاق النموذج المادي في تفسير ظاهرة الإنسان، يعتمد على نقض مقولة الماديين “أن الفكر من صور المادة وأثر من آثارها”[33]، ويطرح ـ المسيري ـ هنا عدة تساؤلات لم يُجب عنها هذا النموذج وهي: لماذا يأخذ الفكر هذه الصورة بالذات؟ ولماذا تختلف أفكار شخص عن أفكار شخص آخر يعيش في الظروف نفسها؟ وهل الأفكار عصارات وأنزيمات تتحرك أم هي شيء آخر؟ وما علاقة المؤثر المادي بالاستجابة الفكرية والعاطفية؟

والمحور الثالث يقوم على إثبات مقولة “حس الإنسان الخلقي والديني، والجمالي، وقلقه، وتساؤله عن الأسئلة النهائية الكبرى”[34] فهذا ما لا يمكن إخضاعه للتفسير المادي، ولا يمكن للقانون المادي أن يفسره، وكما ينتهي النموذج المادي بإنكار الفكر، وإنكار الكل، فهو ينكر الحس الخلقي والجمالي ويسقط الأسئلة النهائية.

والمحور النقدي الرابع يعتمد مقولة “إخفاق المادية في تفسير إصرار الإنسان على البحث عن معنى للكون ومركزاً له”[35]، وتزداد قضية البحث عن معنى مع ازدياد إشباع الجانب المادي في الإنسان، فكأن إنسانية الإنسان لصيقة بشيء آخر غير مادي.

أما المحور النقدي الخامس فيرى أن “المادية أخفقت في رسم صورة حقيقية للإنسان”[36]، فالفلسفات المادية إما أنها ترسم صورة واحدية للإنسان وإمّا باعتباره شخصية صراعية أو دموية قادرة على خرق كل الحدود وعلى إعلاء إرادتها وتوظيف قوانين الحركة لحسابها، أو باعتباره شخصية قادرة على التكيف مع الواقع والخضوع للقوانين، وهذه صورة ساذجة للإنسان، لأنها تفشل في رصد تلك الجوانب النبيلة في الإنسان مثل مقدرته على التضحية بنفسه من أجل وطنه أو من أجل أمه وأبيه، ومقدرته على ضبط النفس من أجل مثل عليا.

كذلك “إخفاق القانون المادي في تفسير ظاهرة الإنسان” وذلك لأنه لو استطاع ذلك القانون المادي تفسير الظاهرة الطبيعية بردها إلى عناصرها (الطبيعية المادية) الأولية فلا يمكنه رد الإنسان إلى قانون عام ولا يمكن فهم كل جوانبه ولا تفسيره كاملاً، ولا يمكن رصده بطريقة نمطية اختزالية، بل لا بُدَّ أن يظل باب الاجتهاد مفتوحاً بالنسبة له: إن عالم الإنسان عالم مركب، محفوف بالأسرار، أما عالم الطبيعة (الأشياء والمادة) فهو عالم أحادي بسيط إذا ما قيس بعالم الإنسان[37].

والإنسان ـ أيضاً ـ لأنه ليس ظاهرة طبيعية / مادية بسيطة، لا يدرك واقعه بشكل حسيٍّ ماديٍّ مباشر، إلا في حالات نادرة تتسم بالبساطة، كأن تلسع يده سيجارة أو يدخل في عينيه جسم صلب. فهو ليس مجموعة من الخلايا والأعصاب والرغبات والدوافع المادية التي يمكن أن يرد لها في كليتها كما (يزعم الماديون)، وسلوكه ليس مجرد أفعال وردود أفعال مشروطة، تتحكم فيها قوانين الميكانيكا أو البيولوجيا (كما يرى السلوكيون) فعقله ليس مجرد صفحة بيضاء أو مخ طبيعي/مادي تتراكم عليه المعطيات المادية بل عقل يُبقي ويستبعد ويهمش ويركز، وهو مُستَقَر كثير من الخبرات والمنظومات الأخلاقية والرمزية، ومستودع كثير من الذكريات والصور المخزونة في الوعي واللاوعي، ولذا فهو عقل مبدع له مقدرة توليدية”[38].

تشير منى أبو الفضل إلى أن أبرز نتائج الحداثة ـ في ما يتعلق بالإنسان ـ هو التحول بمسألة القوامة والمسؤولية عن الحياة والموت من الإله إلى الإنسان. وارتبطت عملية التحول هذه بتوجهات متضاربة شتى لتأليه الإنسان تارة، وتأليه الطبيعة تارة أخرى. فكانت الصدارة مرة للنزعة الإنسانية، وأخرى للنزعة الطبيعية.

وارتبطت محصلة ذلك التضارب بفهم الأسانيد المطروحة في الأغلب الأعم. فحيثما كانت الغلبة للنزعة المادية وهي الأكثر شيوعا، كانت الطبيعة تقزم في بعدها المادي، ويُختزَل الإنسان نفسه في بعده الجسدي، ولا يغدو هناك مبرر عقلي يذكر للقول بأولوية ذلك الكائن الحي بتركيبه الكيميائي. ويصير علم الإنسان ـ على أحسن الفروض- علما سلوكيا، حيث لا مسوغ يذكر في عالم الصيغ الهندسية المتاحة، لعدم إخضاع سلوكه وردود فعله النفسية، بوصفه كائنا بيولوجيا، لقواعد المعمل والمصحة النفسية.

ووصل الأمر حد اعتقاد بعضهم أنه قد يمكن مع تقدم العلم، تفكيك الإنسان ووضع كل جزء منه تحت المجهر، شأنه شأن كل الأشياء الطبيعية الأخرى، واستيعابه في العقل والجسد الحَمْعِيين اللّذين يتشكل منهما المجتمع، الذي يمكن تصوره هو الآخر على نحو آلي وعضوي. فهو بصرف النظر عن اقتراب معالجته، موضوع لهندسة جماهيرية، قوامها: التلاعب به والتحكم فيه، سواء في كليته، أو في مكوناته. ومع تفكيك الإنسان واستيعابه في كيان جمعي مجرد على هذا النحو، يصير المجتمع كأنّه مقبرة للإنسانية، وتتلاشى فرصة استعادة أي شيء له جوهر في الطبيعة[39].

خاتمة

أخْفَقَ النموذج المعرفي الغربي في تفسير الظاهرة الإنسانية، وهو أخْفَقَ بالأساس في تصور الإنسان وأبعاده الحقيقية، حيث جرى اختزاله في بعدٍ واحد مادي النزعة نفعي القيم والأخلاق، ومن ثم اقتربت الأدوات البحثية الغربية من التعامل الإنساني منها إلى التعامل مع الطبيعي المادي، ومع حالات التبسيط والاختزال والنظرة الأحادية المادية، ونفي النماذج المقابلة من ناحية وفرض تصورات ومفاهيم الإيديولوجيا الغربية بالقوة تارة والإغراء تارة أخرى، شُوِّه الإنسان بين رؤى مادية وطبيعية، مع غياب صورته الحقيقيّة في هذه الخريطة المعرفية الغربية التي ابتدعتها الحضارة الغربية الحديثة التي تشكلت مفاهيمها الأولى والأساسية من مبدأين أساسيين هما: المرتكز المادي، ومرتكز الإقصاء والنفي: نفي الدين كلية، إقصاء الآخر المعرفي وغير الغربي. الأمر الذي انتهى بهذه المنظومة المعرفية إلى إعلان نهاية الإنسان القيمي والأخلاقي والديني والمعنوي والانتصار للإنسان الطبيعي والمادي والنفعي وغير الأخلاقي وغير الديني.

---------------------------------

د. حسان عبد الله حسان : باحث وأكاديمي ـ جامعة دمياط ـ جمهورية مصر العربية.

[2]ـ عبد الوهاب المسيري (1938-2008م) مفكر عربي إسلامي ومن أهم أعماله موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية: نموذج تفسيري جديد (ثمانية مجلدات) وكتاب رحلتي الفكرية: سيرة غير ذاتية غير موضوعية - في البذور والجذور والثمار. وللدكتور المسيري مؤلفات أخرى في موضوعات شتى من أهمها: العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة (جزآن)، إشكالية التحيز: رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد (سبعة أجزاء). كما أن له مؤلفات أخرى في الحضارة الغربية والحضارة الأميركية مثل: الفردوس الأرضي، والفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، و الحداثة وما بعد الحداثة، و دراسات معرفية في الحداثة الغربية.

[3]ـ منى أبو الفضل مفكرة عربية إسلامية حصلت على الدكتوراه من جامعة لندن 1977م، وأسهمت في تأسيس مدرسة المنظور الحضاري في مجال العلوم السياسية، من أهم أعمالها “ الأمة القطب”،” المدخل المنهاجي لدراسة النظم السياسية العربية”، “نحومنهاجية للتعامل مع مصادر التنظير الإسلامي بين المقدمات والمقومات”، كما أسست جمعية المرأة والحضارة والتي أصدرت دورية تحمل الاسم نفسه، صدر منها ثلاثة أعداد، كما نشرت عددا من البحوث الفكرية المهمة حول النظرية الاجتماعية في المجلة الأميركية للعلوم الاجتماعية باللغة الانجليزية American Journal of Islamic Social Sciences ـ AJIS.

[4]ـ منى أبو الفضل: المدخل المنهاجي لدراسة النظم السياسية العربية، القاهرة، دار السلام للنشر والتوزيع، 2013م، ص117.

[5]ـ عبد الوهاب المسيري: العالم من منظور غربي، القاهرة، دار الهلال، 2000م، ص21.

[6]ـ عبد الوهاب المسيري: العالم من منظور غربي، مرجع سابق، ص124 ـ 125.

[7]ـ عبد الوهاب المسيري: الحداثة وما بعد الحداثة، حوارات لقرن جديد، دمشق، دار القلم، 2003م، ص37 - 38.

[8]ـ عبد الوهاب المسيري: العالم من منظور غربي، مرجع سابق، ص127.

[9]ـ عبد الوهاب المسيري: العلمانية والحداثة والعولمة، تحرير: سوزان حرفي، دمشق، دار الفكر، 2009م، ص297.

[10]ـ منى أبو الفضل: “النظرية الاجتماعية المعاصرة: نحو طرح توحيدي في أصول التنظير ودواعي البديل”، ترجمة: عارف عطاوي، بيروت، إسلامية المعرفة، السنة الثانية، العدد السادس، سبتمبر 1996م، ص78.

[11]ـ منى أبو الفضل، طه جابر العلواني: مفاهيم محورية في المنهج والمنهجية، القاهرة، دار السلام، 2009م، ص35 - 36.

[12]ـ عبد الوهاب المسيري: العالم من منظور غربي،مرجع سابق، ص129.

[13]ـ عبد الوهاب المسيري: الحداثة وما بعد الحداثة، مرجع سابق، ص94.

[14]ـ عبد الوهاب المسيري: العالم من منظور غربي، مرجع سابق، ص130.

[15]ـ سامي خشبة، مصطلحات فكرية، القاهرة، المكتبة الأكاديمية، ص285.

[16]ـ منى أبو الفضل: “النظرية الاجتماعية المعاصرة: نحو طرح توحيدي في أصول التنظير ودواعي البديل”، مرجع سابق ص85.

[17]ـ المرجع نفسه، ص84.

[18]ـ منى أبو الفضل: النظرية الاجتماعية المعاصرة: نحو طرح توحيدي في أصول التنظير ودواعي البديل”، مرجع سابق، ص88.

[19]ـ سامي خشبة: مصطلحات فكرية، مرجع سابق، ص230.

[20]ـ عبد الوهاب المسيري: العالم من منظور غربي، مرجع سابق، ص134.

[21]ـ عبد الوهاب المسيري: العالم من منظور غربي،مرجع سابق، ص137.

[22]ـ منى أبو الفضل:” ركائز الإسلام.. الرؤية الإسلامية للإنسان”، دراسة أو لية مقدمة ضمن مشروع اليونسكو، ترجمة: السيد عمر، دراسة غير منشورة، ديسمبر 1990م، ص 9-10.

[23]ـ عبد الوهاب المسيري: العالم من منظور غربي، مرجع سابق، ص214.

[24]ـ المرجع نفسه، ص217.

[25]ـ أنتوني غدنر: علم الاجتماع، ترجمة: فايز الصياغ، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2005، ص144.

[26]ـ عبد الوهاب المسيري: العالم من منظور غربي، مرجع سابق، ص218.

[27]ـ المرجع نفسه، ص222.

[28]ـ عبد الوهاب المسيري: العلمانية والحداثة والعولمة، مرجع سابق، ص289.

[29]ـ منى أبو الفضل: “النظرية الاجتماعية المعاصرة: نحو طرح توحيدي في أصول التنظير ودواعي البديل”، مرجع سابق، ص79.

[30]ـ عبد الوهاب المسيري: العلمانية والحداثة والعولمة، مرجع سابق، ص199.

[31]ـ عبد الوهاب المسيري: “في أهمية الدرس المعرفي” في: فتحي حسن ملكاوي (محرر): نحو نظام معرفي إسلامي، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، عمان، 2000م، ص60.

[32]ـ عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، حـ1، القاهرة، دار الشروق، 1999م، ص79.

[33]ـ المرجع نفسه، ص79.

[34]ـ عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، حـ1،مرجع سابق، ص79.

[35]ـ المرجع نفسه، ص80.

[36]ـ المرجع نفسه، ص80.

[37]ـ عبد الوهاب المسيري: دفاع عن الإنسان.. دراسات نظرية وتطبيقية في النماذج المركبة، القاهرة، دار الشروق، ط2، 2006م، ص274.

[38]ـ عبد الوهاب المسيري: دفاع عن الإنسان، مرجع سابق، ص276.

[39]ـ منى أبو الفضل: “النظرية الاجتماعية المعاصرة: نحو طرح توحيدي في أصول التنظير ودواعي البديل”، مرجع سابق ص90.