البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الإيديولوجيا في تطورات دلالية ( أمثلة من رؤى "ديستوت" ـ "الماركسية "ـ "مانهايم" )

الباحث :  مازن المطوري
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  6
السنة :  السنة الثانية - شتاء 2017 م / 1438 هـ
تاريخ إضافة البحث :  February / 6 / 2017
عدد زيارات البحث :  1776
تحميل  ( 290.037 KB )
يعتبر مفهوم الإيديولوجيا من جملة المفاهيم الملتبسة والغامضة والمتخمة بالتحوّلات والتغيّرات. فضلاً عن ذلك، هو مفهومٌ متعدّد الاستعمالات. على المستوى المُعجمي له أكثر من حدّ وتعريف، ومن ثمَّ فقد اختلفت كلمات أهل الرأي بشأنه سلباً وايجاباً، حتّى دعت هذه الظاهرةُ الفيلسوفَ الفرنسي الراحل ميشيل فوكو(1926 - 1984م) في كتابه المعروف «نظام الخطاب» إلى تقرير أنّ مصطلح الإيديولوجيا يحمل مدلولاً لا يمكن استعماله من دون تحفّظ.

هذه المقالة للكاتب والباحث العراقي مازن المطوري تقارب الإيديولوجيا كمفهوم في نشأته ومقاصده الدلاليّة والسجال الذي دار بصدده بين فلاسفة الحداثة ومفكريها.

المحرر


شهدت الحقبة التي أعقبت الاتّحاد السوفياتي في أواخر القرن العشرين المنصرم، بروز كتابات تبشّر بزوال عصر الإيديولوجيا وانهيار السرديات الكبرى. وفي أعقاب ذلك شهدت الساحة الثقافية الإسلامية ظهور كتابات سارت على النسق الثقافي الغربي في ذم الإيديولوجيا، واعتبارها اغتراباً للذات ومحقاً للهوية الفردية، وأن طرح الدين بوصفه إيديولوجيا يمحق جوهر الدين، وأن الخلاص يتمثّل في تخليص الدين من الإيديولوجيا، واعتبار الدين خياراً فردياً وتجربة إيمانية شخصية، أما الكتابات التي تنتقد الليبرالية فقد عُدّت تمظهرات إيديولوجيا!

والمفارقة في مثل تلك الدعوات وهذه الكتابات تكمن في أن مفردة الإيديولوجيا سيّالة الدلالة، متعددة الاستعمالات، فتارة تكون حيادية وأخرى غير حيادية، ومرةً سلبية وأخرى إيجابية، وثالثة جزئية وكلّية، فكيف تُختزل كلّ تلك التحولات والتغيرات والدلالات والاستعمالات في دلالة معينة، لتكون سلاحاً لتسخيف مواقف الخصوم والحكم على أفكارهم!

حتّى نستطيع الانطلاق من نقطة منهجية في ملاحقة تطوّرات دلاليّة مهمّة لمصطلح الإيديولوجيا، لا بُد لنا من الرجوع إلى تاريخ اختراع المصطلح، والوقوف عند بذوره الأوليّة.

الطوفان الفرنسي

شهدت فرنسا إبّان القرن الثامن عشر تحولات كبيرة على مستوى الأفكار والفنون والفلسفات والثقافات، فأسهم كلُّ ذلك بتقديم نمطٍ فكري بديلاً للنمط الفكري الذي كان سائداً قبل تلك الحقبة. وقد أسهم في ذلك التحول رجالات كثيرة من فلاسفة واجتماعيين وشعراء، وبرز اسم جان جاك روسو(1712 - 1778م) في قائمة أبرز المساهمين في ذلك.

تحدّى روسو الاعتقاد السائد وقتئذٍ والقاضي بالحكم على المؤسسات والممارسات الاجتماعية بمعيار العقل، حيث تمثل القدرة على التفكير العقلي طبيعة فطرية في الجنس البشري، فرأى في ذلك مبدأ ميتافيزيقياً، وفي حركة التفاف، كما قرر ديفيد هوكس، فقد أخضع روسو العقل نفسه لذات النوع من النقد الذي قام به الفلاسفة باسم العقل[2].

رأى روسو في مقاله عن أصل التفاوت بين الناس، أن العقل في الحقيقة ليس شيئاً طبيعياً، واستند في مدعاه إلى محض الطبيعة البشرية ذاتها، فقرر أن طبيعتنا الحقّة لا توجد إلا داخل أذهاننا تبعاً للتشوهات المدنية والتأثر فيها . فالواقع الخارجي ليس هو الذي يشكل وعي الإنسان كما رأى الفلاسفة الآخرون، ذلك أن المنهج التجريبي الذي يتعامل مع الذهن كشيء هو نفسه يمثل جزءاً من المشكلة التي يريد معالجتها، وانطلاقاً من ذلك، فبواسطة دراسة الطبيعة الذاتية ينمو المفهوم الافتراضي عن (الحالة الطبيعية)، والذي اتخذه روسو معياراً للحكم على المجتمع المعاصر.

وإذا نظرنا في جانب آخر نجد أن أفكار روسوقد أسهمت بغرس بذور الحركة الأدبية الفلسفية المعروفة بالرومانسية، ولقد ثار الرومانسيون على العواقب الاجتماعية والجمالية للرأسمالية الصناعية الناشئة وقتئذٍ، ونادوا بالعودة إلى الطريق الأكثر طبيعة في العيش والتفكير. إن العقل فيما رأى الرومانسيون هو الذي أغوى الإنسان بالتخلّي عن الحالة الطبيعية ليصير متمدناً.

وفي ظلّ هذا الجدل المحتدم والصراع الكبير بين التجريبيين والرومانسيين ومطالبات روسو إلى حصول الطوفان الفرنسي المعروف بالثورة الفرنسية، أعلن الدستور الثوري الفرنسي أنه لن يوجد بعد الآن أي طبقة للأشراف أو النبلاء، ولا أي امتيازات لمراتب اجتماعية ولا نظام اقطاعي ولا محاكم كنسية، ولا أي لقب أو ما أشبه.

واجه قرار الجمعية التأسيسية القاضي بالمساواة بين البشر جملة اعتراضات من قبل أدموند بيرك (1729 - 1797م) السياسي الإيرلندي الإنجليزي، وقد سجّل في تأملاته حول الثورة في فرنسا، أن أولئك الذين يحاولون محوالفروقات لا يصلون أبداً إلى تحقيق المساواة، فهم لا يصلون إلا إلى تغيير النظام الطبيعي للأشياء وتشويهه فهم يثقلون على صرح المجتمع بأن يضعوا في الهواء ما تتطلب صلابته البناء أن يكون على الأرض. وبذلك تتولد أولى صفات الإيديولوجيا وهي القناع الذي تتنكر وراءه المصالح الفئوية، ذلك أن مجرد تأكيد مفهوم المساواة بين البشر دون أن يصحب ذلك محاولة جعلهم متساويين في الواقع، يمثّل إيديولوجيا برجوازية.

الإيديولوجيا كعلم للأفكار

لم تسلم تأملات بيرك من النقد، وقد جاء بعض ذلك النقد من جانب ديستوت دي تراسي (1754 - 1836م) عضوالجمعية التأسيسيّة الثورية والأرستقراطي المرتد! فقد عارض ديستوت دعوةَ بيرك إلى التسوية الإنجليزية المعتدلة، وذهب إلى أن الوقت ليس وقت أنصاف الحلول، فالحاجة ماسة لثورة كاملة. وبعد سنوات ستّ من ذلك ولما كان ديستوت عضواً في مجمع فرنسا نحت لفظة الإيديولوجيا :

يجب أن تنحو باللائمة على الشرور التي عاشتها بلدنا فرنسا الجميلة على الإيديولوجيا، تلك الميتافيزيقيا الوهمية المبهمة التي تبحث بدقة عن العلل الأولى التي ينبغي أن نبني على أساسها تشريع الشعوب، بدلاً من الاقتناع بالقوانين المعروفة للقلب الإنساني وبدروس التاريخ، وهذه الأخطاء يجب أن تؤدي حتماً وقد أدت بالفعل إلى حكم رجال متعطّشين للدعاء[3].

لقد كان ديستوت من المتأثّرين بالمنهج التجريبي في المعرفة وبفلسفة الأنوار، فكان ينظر للميتافيزيقيا على أنها طفولة إنسانية، ولأجل ذلك انصبّ ولعُهُ بتقدّم المعرفة الطبيعية. فديستوت في مباديء الإيديولوجيا متأثراً بلوك (1632 - 1704م) وكوندياك (1714 - 1780م)، رفض القول بوجود أفكار فطرية عند الإنسان، لأن الفكر كُلّه مستمد من الإحساس، وهكذا فإنه لا شيء يوجد بالنسبة إلينا إلا بواسطة الأفكار التي نملكها عنه، لأن أفكارنا هي كينونتنا بأكملها هي وجودنا نفسه. وكما هي الحال عند هوبز تخلق الأشياء الأفكار، ولكن هذه الأفكار لا تستطيع أبداً أن تكون مطابقة بالكامل للأشياء. وبدا لدستوت أن الطريق الوحيد لتجنّب الموقف الارتيابي القائل بأن المعرفة الحقة مستحيلة هو تحليل العملية التي تترجم أذهاننا بواسطتها الأشياء المادية إلى أشكال مثالية، وكان كوندياك قد فتح مجال الدراسة هذا، ولكن هذا المجال في ظل قيادة دستوت اتخذ طابع المؤسسة في قسم مجمع فرنسا الذي كان يدرس العلوم الأخلاقية والسياسية، وأطلق عليه اسم الإيديولوجيا أو علم الأفكار[4].

وهكذا ولد مصطلح الإيديولوجيا الذي سيتخذ فيما بعد صوراً دلالية متعددة سلبية وإيجابية. كان ديستوت يقصد من الإيديولوجيا ذلك التحليل للعملية التي تترجم أذهاننا بواسطتها الأشياء المادية إلى أشكال مثالية، أي هو عالم الأفكار، وهكذا نشأت الإيديولوجيا في الأصل كعلم شارح أو ما بعد علم meta- science أي كعلم للعلم، وقد ذهب إلى أنها قادرة على تفسير من أين جاءت العلوم الأخرى وعلى تقديم تسلسل أنساب علمي للفكر.. أي إن إيديولوجيا دستوت دي تراسي تتبّع الأفكار خلال الإحساسات إلى جذورها في المادة. ولكن هذا العلم يتحرك إلى ما بعد مادية كوندياك الاختزالية بتأكيد أقوى للحركة وللعملية التي خلالها يتفاعل البشر مع محيطهم المادي، وبذلك كان دستوت قادراً على قول إن الإيديولوجيا تحقق فتحاً فلسفياً خطيراً بتجاوزها التضادات القديمة بين المادة والروح وبين الأشياء والمفاهيم. لذلك فقد كان منساقاً كما يلاحظ إميت كنيدي Emmet Kennedy للسير في اتجاهين عكسيين نحو تصور مثالي النزعة للخطأ وتصور حسي النزعة للحقيقة (الصدق)[5].

ولأن ديستوت يمثل نقطة ارتكاز مهمة في فهم الإيديولوجيا في بذورها الأولى وفي دلالتها المصطلحية الحديثة، فلا ينبغي لنا الانتقال عن هذه النقطة قبل الإحاطة بكل ما يرتبط بها لما تمثّله من مرحلة تأسيس. في هذا الصدد ذكر دي بيران في العلاقة بين الإيديولوجيا والرياضيات، أن الإيديولوجيا عند ديستوت تعني علم الأفكار، في أعم معنى لهذه الكلمة، أي علم حالات الوعي، هذا الخلق الجديد للكلمة كان يهدف إلى إحلاله محلَّ سيكولوجي التي كانت معيبة لأنها تستدعي النفس..

الإيديولوجيا تحلّق إذا صحَّ الكلام فوق جميع العلوم، لأن العلوم ليس إلا أفكارنا وعلاقاتها المختلفة. هذه الأفكار شبيهة بالبلد الممتد واللانهائي التنوع، المنقسم إلى مقاطعات عديدة، يوصلها بعضها ببعض عدد أكبر من طرق الاتصال.. لكن لكلّ هذه الطرق أصل واحد، بل إن أكثرها يبدأ من نقطة مشتركة ثم يتشعّب فيما بعد. هذا الاتّصال، هذه النقاط المشتركة التي يجهلها المسافرون غالباً، يأخذ الإيديولوجي على عاتقه مُهمّة أن يُعلّمها لهم بشكلٍ أساسي[6].

من هذا يبدو لنا أن الإيديولوجيا يوم ولادتها لم تكن تتضمّن أي توصيف احتقاري أو سلبي، لا تتضمن تزييفاً للواقع، ولا بلاهة، ولا ارتحالاً للذات كما يحلو لبعضهم التوصيف! وإنما كانت تعني علم الأفكار والوعي، القريب في بعض وجوهه من علم نظرية المعرفة (الأبستمولوجيا)، أي إنها مفهوم محايد، يمثل نسقاً من المعتقدات والمفاهيم، ولكنها بعد ذلك، وفي زمن ليس بالبعيد، أصابت كلمة الإيديولوجيا بعض التطورات الدلالية، وأخذت جرعة سلبية، إذ ذكر عالم الاجتماع كارل مانهايم (1893 - 1947م) في الإيديولوجيا واليوتوبيا، أن نابليون (1769 - 1821م) اكتشف يوماً جماعة من الفلاسفة، السّاعين لإقامة العلوم الحضارية على قاعد انثروبولوجية وسيكولوجية، تعارض طموحاته الإمبراطورية، فأطلق عليهم باحتقار اسم (الإيديولوجيين)، وبهذا اتّخذت الكلمة معنى تحقيرياً [7].

إن الإيديولوجيا، وقبل هذه الحادثة، ويوم نشأتها الأولى على يد ديستوت، لم تكن تحظى بأهمية وجودية، ولم تكن تتضمن أيَّ قرارٍ أو محتوى يتعلّق بقيمة المجالات المختلفة في واقع حياة الإنسان، إذ غاية ما كانت تعنيه كما أسلفنا، علم الأفكار أو نظرية في الأفكار، أما مع حادثة نابليون فقد اتّخذت بعداً اجتماعياً وجودياً تحقيرياً، أي تحقير أفكار الخصوم، ووسمه بعدم الصلاحية وغير الواقعية، ولكنه غير واقعي، كما رأى مانهايم، بالنسبة للممارسة الفعلية ومقارنة بالأمور التي تتكشّف عنها حلبة الصراع السياسي، فيكون النشاط العملي هو الطريق الوحيد الذي يوصلنا إلى الواقع، أما الأفكار الأخرى، الموسومة بالإيديولوجيا، فهي أفكار عقيمة حين يتعلّق الأمر بالممارسة الحياتية الفعلية.

لقد دعت هذه الدلالة المضافة إلى كلمة الإيديولوجيا كارل مانهايم إلى القول: إن الإيديولوجيا في معناها الحديث تحمل وجهات نظر رجال العمل السياسي، والإيديولوجيا بهذا المعنى صارت واسعة الانتشار في القرن التاسع عشر الميلادي، ولنا أن نتصور قلب المعادلة، إذ تكون مشاعر السياسي تجاه قضايا الواقع متفوقة على أنماط الفكر والحياة التأملية المدرسية. فالحقيقة هي المستمدة من الخبرة السياسية وليس من التأملات العقلية أو المعايير الدينية التي كانت سائدة في الزمان الماضي. ويبيّن هذا المثال التاريخي في الوقت نفسه أن وجهة النظر البراجماتية pragmatic كانت موجودة ضمناً في الاتهام الذي قذف به نابليون في وجه أعدائه وخصومه[8].

لكن وجهة نظر مخالفة لذلك تبنّاها ديفيد هوكس، تذهب إلى أن من الخطأ أن نرى في الصراع غير المتكافئ بين رجال الإيديولوجيا وبونابرت، رمزاً للمطالب المتناقضة للنظرية والممارسة، وحينما هاجم ديستوت وأتباعه باعتبارهم حالمين وثرثارين فهو لم يكن يرمي إلى القول إن نظرياتهم كانت مثالية خالصة لا علاقة لها بالواقع السياسي، فعلى العكس من ذلك كان يعرف أن نظرياتهم كانت وثيقة الصلة جداً بالقضايا السياسية، فإذا سُمح لهم بمتابعة أهدافهم المتعلقة بعصر سعيد فإن نابليون قد تنبأ بثورة دائمة، باضطراب هائل يستمر فيه نزع القناع عن الأفكار وإضعافها وإحلال أفكار جديدة محلّها. ويستشهد ديفيد هوكس لذلك بالتاريخ اللاحق للإيديولوجيا وعلاقاتها بالسياسية العملية [9].

أياً ما كان الأمر، وحتى لا ندخل في نزاع تأويلي لتلك الحادثة، فإن ما نريد ملاحظته هو التطور الدلالي لكلمة الإيديولوجيا في استعمال ديستوت، ومن ثم في استعمال بونابرت، وهو استعمال ظل سارياً حتى كارل ماركس (1818 - 1883م)، برغم الإضافات الدلالية الأخرى التي لحقت الإيديولوجيا .

الإيديولوجيا بثوبها الماركسي

اتخذت مفردة الإيديولوجيا مع الماركسية تطوراً دلالياً لافتاً، فالإيدييولوجيا في القاموس الماركسي تعني نظاماً للمفاهيم الاجتماعية بتمظهراتها المختلفة؛ السياسية والاقتصادية والدينية، يعبّر عن مصالح طبقة اجتماعية معينة، وتتضمن فضلاً عن ذلك، معايير سلوكية وتقويمات مناسبة. ذلك أن كارل ماركس (1818 - 1883م) وفريدريك أنجلز (1820 - 1895م)، وعلى أساس المادية التاريخية، قاما بتطوير المفهوم العلمي للإيديولوجيا استناداً لتحليل الوعي الاجتماعي الذي يمثّل انعكاساً للوجود الاجتماعي. وخلصا إلى الاعتراف بأن الإيديولوجيا في المجتمع الطبقي تكون جُماعاً للتصورات الاجتماعية لطبقة معينة، يعبّر عن وضعها الاجتماعي والتاريخي وعن مصالحها. بمعنى أن الإيديولوجيا مع ماركس وأنجلز تتخذ في ظل المجتمع الطبقي سمةً طبقية.

قرّر ماركس وأنجلز في الإيديولوجيا الألمانية أن إنتاج الأفكار والوعي، مرتبط بشكل مباشر بالنشاط والتبادل المادي للبشر، فهو لغة الحياة الواقعية، والأمر يجري في مختلف ظواهر الإنتاج الفكري؛ السياسي والقانوني والأخلاقي والديني والفلسفي، فالناس هم الذين ينتجون أفكارهم وتمثّلاتهم، فالفكر السائد في مجتمع ما ليس شيئاً آخر سوى العلاقات المادية السائدة في ذلك المجتمع ولكن بثوب فكري، وعلى ذلك فالإيديولوجيا السائدة في كلّ مجتمع تعمل، من خلال التزييف والخداع، لقلب خصوصيات المجتمع إلى صورة غير حقيقية، فالإيديولوجيا تمثّل المبرّر الذي تستند إليه الطبقة السائدة والمسيطرة [10].

ورأينا أنه وعلى النقيض من الفلسفة الألمانية السائدة، لا يجري الانطلاق في هذه الرؤية ممّا يقوله البشر ويتوهّمونه ويتصورونه، ولا مما هم عليه في أقوال الآخرين وتخيّلهم وتصورهم، وإنما يكون الانطلاق من البشر في فاعليتهم الواقعية، كما أن تطور الانعكاسات والأصداء الإيديولوجيا لهذا التطور الحياتي، يجري انطلاقاً من تطورهم الحياتي الواقعي أيضاً.

وعلى أساس ذلك فإن الأخلاق والدين والميتافيزيقيا التي تندرج كلّها في الإيديولوجيا، تفقد كلّ مظهر من مظاهر الاستقلال الذاتي، لأنها لا تمتلك تاريخاً من جهة، وليس لها تطوّر من جهة ثانية، وإنما الأمر على العكس من ذلك، فإن البشر الذين يطورون إنتاجهم المادي وعلاقاتهم المادية، يقومون بعملية تحويل لفكرهم ومنتجات ذلك الفكر على السواء مع الواقع الخاص بهم، ومن ثمَّ فليس الوعي هو الذي يعيّن الحياة، بل الحياة هي التي تعيّن الوعي، ففي الوقت الذي يجري الانطلاق فيه من الوعي باعتباره الفرد الحي لاعتبار الأشياء في الطريقة السائدة يجري الانطلاق في هذه الرؤية من الأفراد الواقعيين والأحياء بالذات ويُعتبر الوعي بوصفه وعيهم هم وحدهم[11].

لقد أصحبت الإيديولوجيا، في تطورها الماركسي، سلاحاً بيد البروليتاريا ضد الطبقة المسيطرة لإزالة الأقنعة عن الدوافع الخفية لدى الخصوم. والماركسية بهذا الفعل جمعت بين التصور الجزئي والكلّي للإيديولوجيا كما سيأتي إيضاحهما، في الوقت الذي أكّدت فيه على الدور المناسب لمركز الطبقات واهتماماتها في تطور الفكر البشري.

كما أن خاصية الإيديولوجيا لكلّ طبقة من الطبقات تتحدد بحسب وضع تلك الطبقة في المجتمع، وبحسب مصالحها الطبقية الناتجة عن ذلك الوضع، وأيُّ طبقة لا تستطيع تحقيق رسالتها التاريخية والتغيير الثوري للعلاقات الاجتماعية، إلا إذا امتلكت معرفة دقيقة بالواقع الاجتماعي الذي تعيشه، وبهذا الوعي تخلق إيديولوجيا دقيقة في تصوراتها لذلك الواقع الذي يراد تغييره.

وبسبب التحول الدلالي الكبير الذي أحدثته الماركسية للفظ الإيديولوجيا وكل ذلك الصخب المصاحب، ارتبطت الإيديولوجيا في أذهان الناس بالدلالة الماركسية، وصارت ردود أفعالهم إزاء هذه المفردة مرتبطة بذلك إلى حدّ كبير، فليس من الغريب والحال هذه أن يتبادر إلى أذهان الناس عند سماع مفردة الإيديولوجيا، مفاهيمُ اليسار والثورة والتحولات العُنفية والصرامة والنزاعات الطبقية.

وعلى أيّ حال لا نريد في هذه العجالة الوقوف التفصيلي عند هذا الموضوع، بقدر ما نريد معرفة التطور الدلالي لمفردة الإيديولوجيا مع الماركسية، وفي سياق بيان التطور الدلالي للإيديولوجيا في الماركسية، يجب ألا نغفل التطورات الداخلية في ظل الماركسية نفسها لمصطلح الإيديولوجيا على يد كلّ من لينين (1870 - 1924م) وجورج لوكاش (1885 - 1971م) وغرامشي (1891 - 1937م) ولوي ألتوسير (1918 - 1990م)، ولا سيّما لوكاش الذي ذهب بدور الإيديولوجيا إلى أبعد من ماركس، حيث سعى إلى اقتلاعها من جذورها المادية التي ركّز فيها ماركس كثيراً، وتطرّف بشأن حقّانيّة البروليتاريا[12].

الإيديولوجيا في سوسيولوجيا المعرفة

في عام (1936م) نشر عالم الاجتماع المجري كارل مانهايم (1893 - 1947م) كتابه عن الإيديولوجيا واليوتوبيا، وقد اتّخذت معه الإيديولوجيا تطوراً آخر، إذ رأى مانهايم أن الإيديولوجيا عبارة عن الأفكار المشوّهة التي تطلقها الطبقة الحاكمة لتحافظ على النظام الاجتماعي الحالي أو السابق، فالإيديولوجيا هي التعبير الفكري لجماعة من الجماعات.

رأى مانهايم أن الإيديولوجيا تقع في الجهة المقابلة لليوتوبيا التي تعني المثالية أو العمل من أجل المجموع، وقد فرّق مانهايم بين نحوين من الإيديولوجيا، فهناك إيديولوجيا خاصة وكلّية:

فالإيديولوجيا الخاصة هي التي تتعلق بمفهوم الأفراد وتبريراتهم للمواقف التي يتخذونها ضد أفكار خصومهم التي تُهدّد مصالحهم الخاصة، أما الكلّية فتتعلق بالتفكير السائد داخل الطبقة أو الحقبة التاريخية، كما هي حال نمط التفكير السائد عند البرجوازية أو البروليتاريا، وفي ضوء ذلك رأى في الإيديولوجيا أنها مجموعة قيم أساسية ونماذج للمعرفة والإدراك، ترتبط بعضها ببعضها، وتنشأ صلات بينها وبين القوى الاجتماعية والاقتصادية[13].

وفق هذا التصور فإن المجتمعات الطبقية تنقسم بين إيديولوجيتين:

الأولى إيديولوجيا الجماعة الحاكمة التي تريد فرض تصوراتها وأفكارها على عموم المجتمع من جهة، وتبرير الوضع الراهن والدفاع عنه من جهة ثانية.

والثانية: هي إيديولوجيا الجماعات المحكومة، التي تحاول تغيير الأوضاع الراهنة لمصلحتها ومصلحة أفكارها وتصوراتها.

وبالرغم من اشتراك كلا المفهومين الجزئي والكلّي للإيديولوجيا في أنهما ينظران إلى الأفكار، إلا أن ثمّة فروقاً أساسية بينهما حسبما ذكر مانهايم:

فالتصور الجزئي للإيديولوجيا لا يُطلق اسم الإيديولوجيا إلا على جُزءٍ ما من أقوال الخصم الفكري، وذلك بالنظر إلى محتواها، أما التصور الكلّي فإنه يشك في نظرة الخصم إلى العالَم بأسرها، بما يشمل مجموعة المفاهيم التي يستخدمها.

كما أن التصور الجزئي يقوم بتحليل الأفكار استناداً للمستوى السيكولوجي المحض، خلافاً للتصور الكلّي، فإنه إذ ينسبُ إلى حقبة تاريخيةٍ عالماً فكرياً معيناً، وينسبُ لنفسه عالماً آخر، فإنه يريد بذلك الإشارة إلى أنساقٍ فكريةٍ مختلفةٍ اختلافاً أساسياً، وإلى أنماطٍ من الخبرةِ والتفسيرِ المختلفةِ وبعضها عن بعض اختلافاً كبيراً.

ومن جانب آخر، فإن التصور الجزئي يستعمل بصورة أولية سيكولوجية الاهتمامات، بينما يستخدم التصور الكلّي تحليلاً وظيفياً شكلياً، دون أيّ إشارة للدوافع، ويحصر نفسه في وصف موضوعي للاختلافات البُنيويّة في القول، التي تعمل ضمن أوضاع اجتماعية مختلفة[14].

وقد رأى مانهايم في نظرية فرنسيس بيكون (1561 - 1626م) عن الأوهام السلفَ التاريخي للتصور الجزئي للإيديولوجيا، فالقول بأن المجتمع والتقاليد من مصادر الخطأ عند الإنسان هو استباق مباشر لوجهة النظر السوسيولوجية في المعرفة.

وفيما يخص الإيديولوجيا في التصور الكلّي، فقد رأى مانهايم أن موقف عدم الثقة والذي أنجب التصور الجزئي للإيديولوجيا، لم يكن هو المنشأ في ولادة التصور الكلّي، وإنما يرجع ذلك إلى الفلسفة، فهي التي لعبت دوراً في عملية دمج اتجاهات فكرية متعددة متحركة في تصوّر كلّي للإيديولوجيا، فتطور فلسفة الوعي على المستوى الذهني، وعلى المستوى الوجودي. فضلاً عما أنتجته المدرسة التاريخية وأفكار هيجل (1770 - 1831م)، وكذلك عن العملية الاجتماعية التاريخية حين حلّت الطبقة محلّ الشعب أو الأمة بوصفها حاملة للوعي المتطوّر تاريخياً، فكلُّ ذلك أسهم في ولادة التصور الكلّي للإيديولوجيا[15].

وبعد استعراضه للمراحل التي ساهمت بولادة التصور الكلّي للإيديولوجيا، قرر مانهايم قائلاً: طالما بقي المرء بعيداً عن الشك بصلاحية مركزه، وظلّ يعتبره أمراً مطلقاً، في حين يفسّر أفكار خصومه بأنها ليست سوى نتيجة للمراكز الاجتماعية التي يحتلونها، فإنه يبقى بعيداً عن اتخاذ الخطوة الحاسمة. صحيح بالطبع أنه في مثل هذه الحالة يستعمل التصور الكلّي للإيديولوجيا، لأن المرء يكون مهتماً بتحليل بنية الفكر بكاملها لدى خصومه وليس ببعض الافتراضات المعزولة المختارة، لكن بما أن المرء في حالة كهذه يكون مهتماً وحسب، بالتحليل السوسيولوجي لأفكار الخصم، فإنه لا يتجاوز أبداً صياغة محدودة جداً للنظرية أو ما أود أن أُسميّه صياغة خاصة للنظرية. وعلى النقيض من هذه الصياغة الخاصة، فإن المحلّل يستعمل الشكل العام للتصور الكلّي للإيديولوجيا، حين تتوافر له الشجاعة، فيُخضِع للتحليل الإيديولوجي ليس وجهة نظر الخصم وحسب، بل كلّ وجهات النظر بما في ذلك وجهة نظره هو [16].

وفق هذه الصياغة يكون فكر كلّ الأطراف في كلّ العصور ذا صفة إيديولوجيا كما رأى مانهايم. وبظهور هذه الصياغة العامة للتصور الكلّي للإيديولوجياتتحول النظرية الإيديولوجيا البسيطة إلى سوسيولوجيا المعرفة، فما كان سلاحاً يوماً بيد طبقة البروليتاريا، تحول إلى منهج للبحث في التاريخ والفكري والاجتماعي عموماً. فالإيديولوجيا هنا تفسير للوضع ولكن ليس تفسيراً لتجارب متجسّدة في الواقع، وإنما معرفة محرّفة لتلك التجارب تخفي الوضع الحقيقي وتؤثّر كضاغط في الفرد.

لقد سعى مانهايم في تنظيره للإيديولوجيا إلى احتواء أفكار كلّ من كارل ماركس وماكس فيبر (1864 - 1920م)، ولأجل ذلك فقد لحق الإيديولوجيا تطور دلالي مهم على يد مانهايم، ذلك أنه اعتبر الإيديولوجيا المفهوم الأساسي في علم السياسة واجتماعيات الثقافة، وعلى أساس الإيديولوجيا فصلَ مانهايم بين ما هو سياسي وما هو ثقافي. فمانهايم ومن خلال تحليله لمفهوم الإيديولوجيا، أراد الكشف عن العوامل الاجتماعية التي تفسّر وتحدّد الدعوة السياسية والنتاج الفكري، ولذا صارت الإيديولوجيا ترتبط في مفهومه بمصالح المجموعات التي تصل لمواقع السلطة السياسية.

وهكذا فقد أدرج مانهايم مفهومَي الإيديولوجيا واليوتوبيا تحت تصوّر الوعي الزائف الذي يقابله الوعي الصّادق، وبالتالي فإن الشخص الذي لا يعتنق إيديولوجيا معينة بتزمّت هو المثقف المتحرر من كل انتماء طبقي، وهو الذي يصل إلى الوعي الصادق والموضوعية في الفكر والمعرفة، يعني أن المشكلة ليست في الإيديولوجيا بحدّ ذاتها وإنّما في الإيمان المتزمّت بها.

ومن اللافت ونحن نلاحق التطورات الدلالية لاصطلاح الإيديولوجيا، وسعة الاهتمام به، أن هذه المفردة لم تذكر في دائرة المعارف البريطانية (1964م) ولا في دائرة معارف شامبر (1955)، فيما اكتفت الموسوعة الإيطالية (1949م) بتقديم إيديولوجي أواخر القرن الثامن عشر الفرنسيين فحسب. إن المفارقة في ذلك تكمن في أن مثل هذه الموسوعات ودوائر المعارف، قد كتبت في فترة كانت تشهد انعقاد مؤتمرات وإصدار كتب يقوم فيها مفكّرون وسياسيون وعلماء اجتماع وحقوقيّون، تتحدّث عن الإيديولوجيا السياسية والاجتماعية والاقتصادية[17]!

أما لالاند (1876 - 1963م) في موسوعته الفلسفية فقد ذكر أربعة معانٍ لمفردة إيديولوجيا IDةOLOGIE :

أ- علم موضوعه دراسة الأفكار ـ بالمعنى العام لظواهر الوعي- ومزاياها وقوانينها وعلاقاتها مع العلامات التي تمثّلها وخصوصاً أصلها. وهذا المعنى هو المبتكر عند ديستوت، والذي توقّفنا عنده كدلالة اصطلاحية لافتة.

ويشير لالاند إلى أن ستندال (1783 - 1842م) قد استعمل هذه المفردة في خصوص المعنى المنطقي: إن مبحثاً فكروياً هو فضيحة مشينة، فهل تعتقدون إذاً أنني لا أحسن التفكير؟.

ب- المعنى المبتذل، وهو تحليل أو نقاش فارغان لأفكار مجرّدة، لا تتطابق مع وقائع حقيقية.

ج- هي مذهب يلهم أو يبدو أنه يلهم حكومة أو حزباً.

د- هي فكر نظري يعتقد أنه يتطوّر تطوراً تجريدياً في غمار معطياته الخاصة به، لكنه في الواقع تعبير عن وقائع اجتماعية، ولا سيما عن وقائع اقتصادية، فكر لا يعيه ذلك الذي يبنيه، أو على الأقل لا يأخذ في حسبانه أن الوقائع هي التي تحدد فكره. وهذه الدلالة للإيديولوجيا كبيرة التداول عند الماركسية.

وذكر لالاند أن المعنى الرابع قد تمت إضافته للطبعة السادسة من موسوعته استناداً لمجموعة وثائق بعث بها مارسال، وقد نقل في هامش الموسوعة بعض تلك النصوص، ولتتميم الفائدة أنقلُ تِلكم النصوص، وهي تنتمي للدلالة الماركسية لمفردة الإيديولوجيا :

إن الفكروية هي مسار يتممه المفكر المزعوم بوعي تام، ولكنه بوعي مفسد، مزيّف. فالقوى الحركية التي تحركه، تظل مجهولة، مستغلقة عليه، وإلا فما كان هذا المسار مساراً فكروياً قط. كما أنه يتخيّل قوى حركية زائفة أو مظهرية. وبما أنه مسار فكري فإنه يصف مضمونه كما يصف شكل الفكر المحض، سواء شكلَ فكره الخاص أم شكل فكر سابقه، ودون أن يدرسه أكثر في مسارٍ أبعد ومستقل عن الفكر.

تعني الفكروية مجموعة أفكار حيّة حياة مستقلة وخاضعة لقوانينها الخاصة بها وحدها. بما أن شروط الوجود المادي للبشر، البشر الذين يتواصلُ هذا المسار الفكروي في دماغهم، هي التي تحدد في التحليل الأخير مجرى هذا المسار، فإن هذه الواقعة بكاملها تظل مجهولة لديهم، وإلا فإن ذلك قد يعني نهاية كل فكروية[18].

وختاماً:

-1 إن مصطلح الإيديولوجيا وتحولاته الدلالية ارتبط بشكل مباشر بالتغيرات الاجتماعية والتاريخية، ولأجل ذلك صار يدل في وقت ما على موقف تقييمي معين، وفي وقت آخر على موقف تقييمي مختلف.

ومن ثمَّ فالتتبّع لحصر تعريفات المصطلح مهما كان مهماً وواسعاً، ولكنه لن يجدي نفعاً في إطار تكوين مفهوم واضح ومحدد المعالم لمصطلح الإيديولوجيا . ولعلّ أبرز العوائق التي تحول دون إعطاء تعريف جامع ومانع كما يقول المناطقة، أو متقارب وموحد إلى حدّ كبير لمصطلح الإيديولوجيا، هو الاستعمالات المتنوعة حدّ التضارب، وارتباط تلك الاستعمالات بمفاهيم أخرى من قبيل العقيدة والفكر والرأي والمذهب، والمنظومة القيمية والعملية، ورؤية العالَم والرؤية الكونية.

-2 حاولنا فيما تقدم أن نقف عند ثلاث دلالات مهمة لمصطلح الإيديولوجيا في مجال العلوم السياسية والاجتماعية، ولم نكن بصدد تتبع جذور المفردة حتى يقتضي منا ذلك الغوص في عمقها اليوناني واستعمالاتها الأولى، ولأجل ذلك توقفنا عند دلالة المصطلح عند ديستوت لأهميتها في التشكّل الدلالي المعاصر للمفردة، ودلالته عند الماركسية، ثم دلالته المتطورة عند كارل مانهايم.

-3 إن الليبرالية وفي ضوء ما تقدم من دلالة المصطلح عند الماركسية وعند مانهايم تندرج في جملة الإيديولوجيا، وهذا بالتحديد هو الذي أعطى لمفردة الإيديولوجيا أهمية كبرى في القرن العشرين. ذلك أن ظهور الدول القومية القوية في المجتمع الدولي المعاصر والتي تدين بعقائد سياسية ورؤى كونية مختلفة، ساهم في إعطاء نفوذ للإيديولوجيا ونموها. فالاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية كلاهما قد أخذا الحصة الكبيرة في المجتمع الدولي، وقد كان الصراع محتدماً بين هذين القُطبين وهما ينطلقان من إيديولوجيتين مختلفتين، فالاتحاد السوفياتي يدين بالماركسية التي تركب الصراع الطبقي وسيلة لتحقيق المجتمع الشيوعي الذي تلغى فيه الملكية الفردية بشكل تام، بينما تدين الولايات المتحدة بالليبرالية والنظام الرأسمالي وتتخذ من البرلمان وسيلة لتحقيق مجتمع رأسمالي يتميّز بالحرية الفردية المطلقة بما فيها الحرية الاقتصادية.

فالليبرالية مدرسة متكاملة التصورات، ومن ثم فهي إيديولوجيا شأنها شأن سائر الإيديولوجيات، فهي عند أصحابها مطلق ثقافي مقدّس، يعلو على كلّ المذاهب والرؤى والأفكار، وهذا شأن الإيديولوجيات. نعم فلقد أصبحت الليبرالية عند دعاتها نسقاً ثقافياً مُلزماً، لا بد من عولمته وسيادته على كلّ المجتمعات، بصرف النظر عن خصوصياتها الفكرية والثقافية والاجتماعية والدينية.

-4 إن الكُتّاب الذين يذمون الأدلجة، ويرونها محقاً للذات، وعماءً للبصيرة، ويصفون عصرنا بأنه عصر أُفول الإيديولوجيا والسرديات الكبرى، ويروّجون في الوقت ذاته لليبرالية والفردية، يمارسون تزييفاً للوعي والواقع من جهتين: من جهة استعمالهم لمفردة متخمة بالدلالات ولم تحظ باتفاق دلالي، ومن جهة أخرى بافتراضهم أن الليبرالية ليست إيديولوجيا، وإنما تمثّل أُفقاً فلسفياً سعى له الإنسان طوال حياته على وجه الأرض! وكأنهم يريدون القول بذلك إن الليبرالية (ميتا ـ إيديولوجيا)، أي نظرة تتجاوز الإطار الإيديولوجي!

والواقع أن المسألة لا تحتاج إلى بذل عناء كبير لإثبات أن الليبرالية مجرد إيديولوجيا، الليبرالية التي تغالط الواقع وتفرض نفسها كوعي زائف بشكل إيديولوجي.. وما أسهل أن نجد صفات الإيديولوجيا حاضرة بقوة في الليبرالية، صفات من قبيل: كونها سلاحاً، والصلابة والانتقائية والكمال، والشمولية والاستغناء عن فكر الآخر. ولكن لأن الليبرالية غدت (موضةَ) العصر، وهي في أوج بروزها وانتشارها، فإنه يصعب على الكثيرين تقبّل فكرة أنها ليست سوى إيديولوجيا.

فإذا ما تماشينا مع الأنثروبولوجيا الثقافية في اعتبار الإيديولوجيا ثقافةً، أي كلّ مظاهر النشاط والإنتاج الفكري والروحي في المجتمع، فالليبرالية بذلك تكون إيديولوجيا، أما لوتماشينا مع اصطلاح علم الاجتماع السياسي الذي يرى في الإيديولوجيا بأنها جملة الأفكار والآراء والتصورات المرتبطة بسلطة سياسية، فالليبرالية كذلك تعتبر إيديولوجيا. إذ وفق الاصطلاح الأول بما أن الليبرالية تمثّل ظاهرة فكرية وثقافية عامة مُؤطِّرة للمجتمع، وهي في الوقت ذاته الثقافة المهيمنة والتلقائية لمجتمع ما، فإنها حينئذٍ تكون إيديولوجيا لا محالة وفق مقرّرات الأنثروبولوجيا الثقافية، التي تنظر للإيديولوجيا من منظار الوعي الجماعي. أما وفق الاصطلاح الثاني فالأمر واضح جداً.

إن الفارق الأساس بين إيديولوجيا الشعوب الإسلامية، أنها، أي الإيديولوجيا، قائمة على معطيات دينية تنويرية، وترجع إلى مرحلة فاصلة تعطيها الدينامية والحركية والتجدّد، تلك هي زمن النبوة الذي يفصل بين عهد الجهالة والظلام والإيغال في المادة وبين عهد النبوة والنّور، أما إيديولوجيا العالَم الغربي، فهي إيديولوجيا دهريّة دنيوية تستهدف تحقيق مصالح وجملة أهداف دنيوية على مستوى الواقع الملموس فحسب، أي أهداف ترتبط بتحصيل الثروة والدخل وتطوير القدرة الشرائية.

إن القول بنهاية عصر الإيديولوجيا مقولة إيديولوجيا بامتياز، تسعى لتحقيق أهداف وتمرير أفكار معيّنة باعتبارها حقائق مطلقة وشمولية. إن قَدَر حقبة أكلت من شجرة المعرفة هو الاعتراف بأن مواقفنا من الحياة والكون ليست نتاج تعاظم معرفتنا التجريبية مطلقاً وأن أرفع المُثُل العليا الأشد تحريكاً لنا إنّما تتشكّل في الصراع مع مُثُل أخرى مختلفة وحسب، هي مقدّسة عند الآخرين، تماماً كما هي مُثلنا بالنسبة لنا[19].

5 ـ بما أن لغتنا العربية لم يكن لها حظّ الإسهام في مفردة الإيديولوجيا دلالياً واصطلاحياً، ولكن أبناء هذه اللغة لم يمتنعوا عن استعمال تلك المفردة، ومع الأخذ بعين الاعتبار أن هذه المفردة تمتلك رصيداً دلالياً واستعمالياً متعدداً ومطاطياً، يفضي إلى التشويش والإرباك في معرفة مراد وقصد المستعمل، فالأمانة العلمية والأخلاقية يقتضيان حينئذٍ أن يصار إلى تحديد مصطلح، واتفاق على دلالة معينة لهذه المفردة، ليكون اصطلاحاً خاصاً بأهل العربية، تحدد معالمه وما يراد الإشارة به ومحمولاته السلبية أوالإيجابية، وحينئذ يكون الباحث في حلٍ من استعماله من دون مشكلة.

وأما مع عدم حصول مثل ذلك التواضع والاصطلاح، فاللازم حينئذٍ الإعراض عن استعماله في مجابهة أفكار الخصوم ووصف مواقفهم بالإيديولوجيا، لأن ذلك يوجب التشويش بسبب من دلالته المطاطية ومحمولاته المتكونة على مدى عقود من الزمان، ولأن استعماله والحال هذه بنفسه يعبّر عن تزييف إيديولوجي، لأن مفردة الإيديولوجيا صارت بنفسها موضوعاً لعمليات أدلجة، واتّخذت كسلاح مشرع بوجه الخصوم الفكريين للإساءة إليهم بسبب محمولاتها السلبية في دلالة ما.

إن استثمار ضبابية المفردات وعدم الذهاب صوب تحديد مصطلحي للمراد منها في مقام الاستعمال، يكشف عن تقصّد الإيهام والتعمية، وعن سوء نيّات وأهداف غير نبيلة.

-----------------------------------

مازن المطوري : باحث في الفكر الإسلامي ـ العراق.

[2]- الإيديولوجيا، ديفيد هوكس: 40، ترجمة: إبراهيم فتحي، المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، 2000م.

[3]- الإيديولوجيا، ديفيد هوكس: 45.

[4]- الإيديولوجيا، ديفيد هوكس: 46.

[5]- الإيديولوجيا، ديفيد هوكس: 46.

[6]- الإيديولوجيا، وثائق من الأصول الفلسفية، ميشيل فاديه: 19، ترجمة: د. أمينة رشيد، سيد البحراوي، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 2006م.

[7]- الإيديولوجيا واليوتوبيا، مقدمة في سوسيولوجيا المعرفة، كارل مانهايم: 143، ترجمة: د. محمد رجا الديريني، شركة المكتبات الكويتية، الطبعة الأولى 1980م.

[8]- الإيديولوجيا واليوتوبيا: 144.

[9]- الإيديولوجيا، ديفيد هوكس: 47.

[10]- الإيديولوجيا الألمانية، كارل ماركس، فريدريك أنجلز: 30، ترجمة: د. فؤاد أيوب، دار دمشق.

[11]- الإيديولوجيا الألمانية: 30- 31.

[12]- التاريخ والوعي الطبقي، جورج لوكاش: 33- 45، ترجمة: د. حنا الشاعر، دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية 1982م.

[13]- الإيديولوجيا واليوتوبيا: 129.

[14]- الإيديولوجيا واليوتوبيا: 130- 131.

[15]- الإيديولوجيا واليوتوبيا: 139.

[16]- الإيديولوجيا واليوتوبيا: 147.

[17]- الإيديولوجيا، وثائق من الأصول الفلسفية: 9.

[18]- موسوعة لالاند الفلسفية، معجم مصطلحات الفلسفة النقدية والتقنية، أندريه لالاند 2: 611، تعريب خليل أحمد خليل، عويدات للنشر والطباعة، بيروت 2008م.

[19]- حالة ما بعد الحداثة، بحث في أصول التغيير الثقافي، ديفيد هارفي: 17، ترجمة: د. محمد شيّا، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى، بيروت 2005، والعبارة لماكس فيبر.