البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الإيديولوجيا واليوتوبيا في فكر مانهايم ( تأصيلات نظرية في الممارسة السياسية )

الباحث :  محمد أمين بن جيلالي
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  6
السنة :  السنة الثانية - شتاء 2017 م / 1438 هـ
تاريخ إضافة البحث :  February / 6 / 2017
عدد زيارات البحث :  5078
تحميل  ( 401.235 KB )
تهدف هذه المقالة إلى عرض رؤية عالم الاجتماع الألماني كارل مانهايم (1893 - 1947 )حول ضرورة الانتقال من الإيديولوجيا (Ideology) إلى سوسيولوجيا المعرفة بغاية بلوغ اليوتوبيا (Utopia) في التحليل العلمي للسلوك السياسي. كما تناقش مطالعات مانهايم حول المعرفة السياسية كمُوجّه أساسي لدياليكتيك النظرية والممارسة في صيرورة تُلهم المُتأمّل بتوطين المعايير الإيديولوجية والتطلعات اليوتوبية للتمييز بين الأسس العقلانية واللاّعقلانية كمرجعية لتفكيك البنية الفكرية للعلم السياسي على وجه الخصوص.

الكلمات المفتاحية: الإيديولوجيا، اليوتوبيا، النظرية، الممارسة، المعرفة السياسية، سوسيولوجيا المعرفة، الأنماط الفكرية، الدورة الابستيمولوجية، دياليكتيك العملية، علم السلوك السياسي.

المحرر

طُرحت مسألة العلاقة بين الفكر والوجود ضمن حَركية الفكر الابستيمولوجي المعاصر، انطلاقاً من ارتباط رهان تشكيل المعرفة الموضوعية بالبنية الاجتماعية والتاريخية؛ هذا الرهان تطوّر في شكل دياليكتيك بين الحقائق الجزئية النسبية المُحايثة والحقيقة الكلّية المُطلقة المُتعالية؛ فمن جهة اعتبرت الحقيقة المطلقة غير المتأثّرة بالحتمية الاجتماعية والتاريخية هي الفاعل الرئيسي في التفسير العقلاني للعالم الخارجي المتغيّر، ومن جهة أخرى هناك تصور واقعي-وضعي يرى أنّ الفكر هو محصلة للظروف المحيطة بالذات الإنسانية. انطلق كارل مانهايم – باعتباره قامة ابستيمولوجية في القرن العشرين- من الفكرة الماركسية: «الفكر انعكاس للوجود المادي»، حيث افترض مقابلاً لها، وهو عدم التطابق بين الفكر (المعرفة) والوجود، الذي سمّاه في ما بعد وعياً زائفاً يعكس إيديولوجيا معيّنة قائمة على قيم المصلحة والتبرير والتقويم، إنّ نَزْعْ هذا المُركّبالإيديولوجي ـ في تصور مانهايم ـ من جهاز الفكر هو تأسيس للمعرفة الموضوعية نظرياً، لكن إذا اختبرنا ذلك عملياً، سوف نجد أنماطاً مُتعدّدةً للمعرفة، منها المعرفة الطبيعية والاجتماعية، والمعرفة السياسية. يبدو حسب عَالِمِنا أنّ العنصر الإيديولوجي حاضر بدرجة كبيرة في الفكر السياسي ومُرتبط به أشدّ الارتباط. إنّ هذا العنصر أو المُركّب لا يوجد على مستوى التاريخ أو الطبقة الاجتماعية وحسب (كما يعتقد ماركس) لكن يتعدّى ذلك إلى الفرد الواحد داخل الجماعة الواحدة. فمعرفة كلّ فرد هي مُحصّلة للبيئة الاجتماعية والتاريخية، رغم وجود الإيديولوجيا داخل هذه المعرفة، إلاّ أنّها صادقة وصحيحة في حيّزها البيئي الضيّق. ترتيباً على السابق، برزت أنماط التفكير المتباينة عبر مراحل تاريخية مختلفة في بيئات اجتماعية غير متجانسة، سواءً على مستوى الفرد أو الطبقة أو الجماعة أو المؤسسة أو الدولة، يتمثّل ذلك الاختلاف في أشكال عديدة من الممارسات الاجتماعية والسياسية، هذه الممارسات هي موضوع دراسة مانهايم المنطلقة من أساس منهجي ونظري يَتَمظهر بصورة محدّدة في التحليل العلائقي للإيديولوجيا واليوتوبيا.

ظلّت الإيديولوجيا هاجساً مُؤرِّقاً في البحث عن بناء معرفة موضوعية مشتركة لدى مانهايم، لكن في الأخير وقع في فخّ النسبية، عندما افترض أنّ العملية التاريخية هي حقيقة مطلقة، في الوقت الذي تبدو فيه العلاقة بين العنصرين الإيديولوجي واليوتوبي في الفكر غير منفصلة في العملية التاريخية.

الإيديولوجيا واليوتوبيا: تقاطعات المفهوم وتناقضاته

حَظِي مفهوم الإيديولوجيا[2] بأهميةٍ كبيرةٍ لدى فلاسفة العلوم (دوركهايم، مانهايم، ماركس، فيبر، هابرماس)، فكثيراً ما نجد هذا المصطلح أو مفهوماً قريباً منه (اليوتوبيا مثلاً)، حاضراً حضوراً مركزياً في كتاباتهم[3]. أُسِّس فكر مانهايم على التحليل الإيديولوجي واليوتوبي المُقارن المتخصِّص في البحث عن الحقيقة والأمر الواقع، وهي الطريقة نفسها التي انتهجها فيما بعد، روبيرتو سيبرياني[4]، حول الإيديولوجيا واليوتوبيا، ضمن مؤلّفه: «تشكّل التمثّل الجماعي، «La Formazione Delle Rappresentazioni Collettive، وصل سيبرياني إلى نتيجة مهمّة وهي أنّ هناك تعارضاً بين المفهومين، يأتي من حقيقة أنّ الإيديولوجيا تميل إلى إضفاء الشرعية على الوضع الراهن، في حين أنّ اليوتوبيا هي أكثر ابتكاراً ونقداً، وتهدف إلى التغيير والتغلّب على ما هو قائم.

يتّضح هذا الفهمُ الناجِزُ للفَرْق من خلال نظرةٍ خاطفةٍ على التاريخ البشري؛ فكلّ فترة في التاريخ تحتوي على أفكار تَسمو على النظام القائم. ولكن هذه الأفكار لم تكن تفعل بصفتها يوتوبيات، بل كانت إيديولوجيات مناسبةً لهذه المرحلة من الوجود طالما ظلّت مُندمجةً بشكل «عضوي» ومُتناسق مع النظرة الشاملة للعالم التي تميّزت بها تلك الفترة (أي إنّها لم توجد احتمالات ثورية). إنّ فكرة الفردوس ظلّت جزءاً لا يتجزّأُ من مجتمع العصور الوسطى لأنّ النظام الاقطاعي والكهنوتي لتلك العصور ظلّ قادراً على وضع الفردوس خارج المجتمع، في عالم يَسمو على التاريخ ويُخفّف حِدّة الجوانب الثورية فيه. لكن حين قامت جماعات معيّنة في المجتمع وحاولت أن تُجسّد هذه المعاني الفردوسية في سلوكها الفعلي، تحوّلت تلك الأفكار الإيديولوجية إلى أفكار يوتوبية[5].

الفارق الأساسي الذي يَرسُم التخوم بين الإيديولوجيا واليوتوبيا عند مانهايم هو مسألة التغيير، لأنّ الإيديولوجيا في كثير من الأحيان تكون مصدر للباثولوجيات الاجتماعية والتصلّبات السياسية والانغلاقات الدينية والانزلاقات التاريخية. هنا تتدخّل اليوتوبيا لتُغيّر الوضع السائد نحو طريق بعيد عن الأسباب المؤدّية إلى اختلالات النظام الاجتماعي.

على هذا الأساس، قام مانهايم بتنسيب (relativization) كلّ الإيديولوجيات داخل إطار سوسيولوجيا المعرفة[6]. وُفقاً له، هذا الحقل الجديد (تنسيبالإيديولوجيات) يوحي بأنّ كلّ معرفة، هي وضعية ـ نسبية، مُرتبطة بكوكبة معيّنة من الملابسات الاجتماعية ـ التاريخية (socio -historical)، فكلّ عصر يتطوّر ضمن نمط خاص من الفكر، والمقارنات بين هذه الأنماط مستحيلة، نظراً للاختلاف الجذري بين الطروحات أو، إذا جاز التعبير، نِسبويّة مُطلقة (relatively absolute)[7]. أيضاً، من جهة أخرى، في كلّ عصر هناك نزعات متضاربة تجاه التغيير نفسه[8]. من هنا يُميّز مانهايم بين «الوعي الزائف «Conscience Fausse و«الحقيقة La réalité» و«الأمر الواقع Le réel». هدفه من هذا التمييز هو تشريح مفهومي الإيديولوجيا واليوتوبيا، وتحديد مسار طرائقي يُبرز كيف ننتقل بينهما، وما هي الطريقة المُثلى للتحرّك من الحالة الستاتيكية إلى الحالة الديناميكية، بنمط يُحقّق فائدة من التغيير الاجتماعي دون المساس بمقومات الاستقرار السياسي.

أوّلاً، الوعي الزائف؛ ظهر هذا المفهوم في أحدث أشكاله، بعد إلغاء العوامل المتعالية والدينية (Transcendantaux et Religieux)، وبداية البحث عن معيار للأمر الواقع في مجال الممارسة، خصوصاً الممارسة السياسية، في حالة تستدعي مذهب البراغماتية (Pragmatisme). لكن في المقابل إذا قورنت بصياغتها الحديثة، فينقصها الإحساس بما هو تاريخي. الفكر والوجود لا يزالان يمثّلان قطبين ثابتين منفصلين، يحمل كل منهما تجاه الآخر علاقة ستاتيكية في عالم لا يتغيّر. أمّا الآن فقد بدأ الإحساس الجديد بالتاريخ يتغلغل وأضحى مُمكناً تصوّر مفهوم ديناميكي للإيديولوجيا والأمر الواقع[9].

ثانياً، الأمر الواقع؛ أو «الوجود في حدّ ذاته، L’existence en soi» هو مشكلة فلسفية، لكن من الناحية السوسيولوجية يعيش الإنسان ضمن سياق التاريخ والمجتمع، فالذي يُحيط به هو الوجود وليس الوجود في حدّ ذاته، وعليه يدلّ المصطلح من هذه الزاوية على شكل تاريخي ملموس للوجود الاجتماعي، فالوجود هو كلّ ما هو فعّال بشكل ملموس (cencrètement effectife). بمعنى أنّه نظام اجتماعي يؤدّي وظائفه فعلياً، ولا يوجد فقط في خيال الأفراد[10].

ثالثاً، الحقيقة؛ التي تقول إنّ الكلمة نفسها أو المفهوم نفسه يعني في معظم الحالات أشياء مختلفة حين يستعمله أشخاص ذوو أوضاع مختلفة[11]. فالبحث عن الحقيقة هو افتكاك من الانحرافات الإيديولوجية واليوتوبية (Déformations idéologiques et utopiques). في لحظة التنقيب عن الإيديولوجيا واليوتوبيا، تَطرح مسألة الحقيقة والواقع نفسها على المستوى البحثي. كلٌّ من المفهومين يُلحّ على ضرورة أن تُقاس كلّ فكرة بمدى تطابقها واتفاقها وانسجامها مع الواقع (toute idée doitetre jugée par son accord avec la réalite)[12]. وعليه، لتحديد الطبيعة الدقيقة للمعيار الجديد للحقيقة، بدلاً من المعيار الديني المتعالي، يجب أن نُخضع مفهوم الإيديولوجيا إلى تحليل تاريخي أكثر دقّة[13].

من العرض السابق للمحطّات الإبيستيمية التي هي كأنها مناطق بِكر وحسّاسة في التعامل مع العقليات بأنماطها الإيديولوجية واليوتوبية، نستنتج أنّ الإيديولوجيا غالباً ما تحتلّ منطقة الوعي الزائف، لأنّها في الوقت ذاته، ترى الواقع والحقيقة من منظور إيديولوجي زائف، وتعتقد أنّ ذاك هو الواقع الذي يتطابق مع الفكر الصرف ولا يجوز تغييره، رغم تعبيره عن وضعية إنسانية مُبتذلة، بل بالعكس لا بدّ من التمسّك به، والالتفاف والتمركز حوله. والمسألة أعمق من ذلك، حيث يرقى أصحاب هذا المنظور بمنظورهم إلى درجة اعتباره أنّه في مستوى القدرة على تمثُّل جوهر الوجود، ولمَ لا، إلى مرتبة المماهاة بين الإيديولوجيا والروح المتعالية.

من هنا، كلّ شيء روحي يُفسّر إيديولوجياً أو يوتوبياً. لكن الخلل المنطقي يقع عندما يُجعل الوجود المتعالي وحِدّة الوعي الزائف في منزلة متساوية، على سبيل المثال التناقض بين المنطق الداخلي للدولة (السيادة) ووجودها الخارجي (السلوك)[14]. في تقديري أنّ الدولة تحمل إيديولوجيا (ليبيرالية مثلاً) تُعدُّ خلفية أساسية في توجيه سيادتها المُفترضة من خلال قيم الحرية وحقوق الإنسان، الخ. لكن في الآن نفسه، نجد هذه القيم الليبيرالية تتهاوى في مسرح السيادة الفعلية أو سلوك الدولة، وبالتالي تغدوالإيديولوجية الليبيرالية زائفة في قيمها ومبادئها، وبعيدة كلّ البعد عن معايير الحقيقة التي تَنشد واقع حياة سياسية خالية من الصراعات الطائفية والحروب الاهلية. إذا لم تُؤدِّ الإيديولوجيا وظيفة بناء واقع اجتماعي متوازن، فهي لا محالة تقوم بوظيفة تبرير هذا الواقع لمصلحة طبقة أو طائفة أو نخبة معيّنة. إنّ الواقع الزائف يولد من رحم الوعي الزائف.

لم يبْقَ سبيلٌ آخرُ من غير الانفلات والهروب من إيديولوجيا الوضع الراهن والارتحال إلى المستقبل (اليوتوبيا)[15]. بإمكان اليوتوبيا أن توفّر الملاذ بكبح غطرسة الإيديولوجيا والتحرّر من الحاضر والآني والتوجّه نحو بناء عالم مُتوهّج ومُستنير يزخر بالقيم اليوتوبية، لا نقول المثالية أو الخيالية، لكن القيم المنشودة والتي يمكن تحقيقها بدرجة عالية وإلى حدّ كبير. لكن هل يعني كلّ هذا أنّ الإيديولوجيا تتعارض مع اليوتوبيا؟

تَحضُرنا في هذا السياق، مناقشة بول ريكور لعمل مانهايم في محاضراته عن الإيديولوجيا واليوتوبيا، ليوضّح جيّداً المحاولات الجادّة لحلّ التناقض الموجود بين المفهومين[16]. وهي محاضرات أُلقيت لأوّل مرّة في جامعة شيكاغو خريف عام 1975، حاول ريكور من خلالها أن يُقدّم لأوّل مرّة تحليلاً مفصّلاً لكارل مانهايم، وماكس فيبر، وكليفورد غيرتز، مُوسِّعاً مناقشاته إلى لوي ألتوسير ويورغن هابرماس، وتحديداً الفلاسفة الريبيين الثلاثة (ماركس، فرويد، نيتشه). عالج ريكور من خلالها موضوعيْ الإيديولوجيا واليوتوبيا منذ مانهايم في إطار مفهومي واحد. فقد كان من المُعتاد النظر إلى الإيديولوجيا على أنّها موضوع يقع ضمن اختصاص علم الاجتماع وعلم السياسة، بينما أُدرجت اليوتوبيا ضمن التاريخ أو الأدب. لكن المقابلة التي يُقيمها ريكور بين الإيديولوجيا واليوتوبيا تُعرّف الاثنين وتشير حدودهما على نحو أفضل، كما أنّها تشير الاختلاف بينهما وبين صياغات مفهومية أقدمْ، كان يجري عبرها مقابلة الإيديولوجيا مع كلٍّ من الواقع والعلم، بينما لم يُنظر إلى اليوتوبيا إلاّ باعتبارها حُلماً أو خيالاً دالاً على رغبة[17].

تَكمُن قيمة مانهايم بالنسبة لمشروع ريكور في إخفاقاته (الصفة الدائرية للإيديولوجيا ومفارقتها) بقدر كمونها في نجاحاته (مثلاً توسيعه لمفهوم الإيديولوجيا ). يتمكَّن مانهايم إلى حدٍّ ما من تعويض إخفاقه في التغلّب على مُفارقة الإيديولوجيا عبر مقارنته الإيديولوجيا مع اليوتوبيا. لكن مانهايم لسوء الحظّ لم يَمضِ بالمقارنة بعيداً، كما أنّه لم يُدرك بأنّها تُقدّم بديلاً للتقابل بين الإيديولوجيا والعلم. يصف مانهايم الإيديولوجيا واليوتوبيا بأنّهما شكلان من أشكال اللاّتطابق؛ نقاط أفضلية في التعارض مع الواقع الراهن[18].

تعود محاضرات ريكور إلى مانهايم هنا، لأنّه يضعُ الإيديولوجيا واليوتوبيا في إطارٍ مشترك (اللاّواقعي واللاّعملي) دون أن يختزلَ الفروقات بينهما. الأمر الذي أدّى إلى ظهور استجابة ريكور لخطوة مانهايم الأولى[19] في دراسة المعيار، التي وجّهت تقييمه ككل. بالنسبة لمانهايم تدخل الإيديولوجيا أو اليوتوبيا على حدٍّ سواء في علاقةِ لاتطابقٍ مع الواقع، لكن الإيديولوجيا تُضفي الشرعية على النظام القائم بينما اليوتوبيا تُدمّره. وينتقد ريكور مانهايم بسبب تغليبه اليوتوبيا باعتبارها لاتطابقاً على حساب النظر إليها كقوة مُدمِّرة. ومضامين اختيار مانهايم تُصبح واضحة في مناقشته للقوى المُحرّكة الزمنية لليوتوبيا. يرى مانهايم أنّ الفترة الحديثة التي يَكتب فيها قد شهدت انحلال اليوتوبيا، نهاية اللاّتطابق وبداية عالم لم يَعُدْ في طور صيرورة. ويحاول ريكور إثباث أنّ هذا الحكم لا يعتمد فحسب على تقييمات اجتماعية وتاريخية، لكنّه مُتأصّل في إطارٍ مفهومِيّ خاص. يبدو مانهايم مشدوداً إلى طريقة في التفكير تُعرّف الواقع من منظور علمي ـ حتى لو لم يكن وضعياً ـ. بدلاً من تطوير أُنموذجٍ مُؤسّسٍ على التوتّر بين الإيديولوجيا واليوتوبيا، والذي يمكن أن يفتح الأُفق أمام فهمٍ أكثر حركية للواقع، فإنّ أنموذجه يضع الإيديولوجيا أوّلاً، ثم اليوتوبيا، مقابل واقع محكوم بمعايير عقلية وعملية: الإيديولوجيا واليوتوبيا تتّسمان باللاّتطابق والانحراف عن الواقع. لأنّ مانهايم لا يُضمّن تحليله البنية الرمزية للحياة، فإنّه يعجز عن دمج الخواصّ الدائمة والايجابية. إذا كانت أفضل وظيفة للإيديولوجيا هي الدمج، أي الحفاظ على هوية شخص أو جماعة، فإنّ أفضل وظيفة لليوتوبيا هي استكشاف المُمكن. تُشكّك اليوتوبيا في ما هو قائم في الوقت الراهن، إنّها تنويع خيالي على طبيعة السلطة والعائلة والدين وما إلى ذلك. علينا أن نُجرّب احتماليات النظام الاجتماعي. لكن اليوتوبيات ليست حُلُماً وحسب، إنّها حُلم يريد أن يتحقّق. وقصد اليوتوبيا هو تغيير الوضع الراهن وتدميره. فأحد أهم الأسباب التي تجعل ريكور يُناقش سان سيمون وفوريه ـ طوباويان اشتراكيان غير ماركسيين بَذل أتباعهما جهوداً جبّارة لتحقيق ما يدعوان إليه من يوتوبيات، هو أنّهما يمثّلان هذا المنظور، أي يمثّلان نمطاً أهمله مانهايم. ولكن حتّى عندما يكون قصد اليوتوبيا تدمير الواقع، فإنّها تبقى تُحافظ على مسافة تُبعدها عن أيّ واقعٍ راهنٍ. فاليوتوبيا هي المثال الدائم، ذلك الذي نجد أنفسنا متّجهين صوْبَهُ لكنّنا لا نُدركه أبداً إدراكاً تاماً. وريكور هنا يَبنِي على إحساس يُساوِرُ مانهايم دون أن يتمكّن من دمجه في نظريته، ألا وهو أنّ موت اليوتوبيا يُمكن أن يعني موت المجتمع. مجتمع دون يوتوبيا سيكون ميّتاً، إذْ إنّه سيفتقدُ أيّ مشروعٍ، أيّ أهدافٍ مستقبلية. إذا كانت الإيديولوجيا بوصفها دمجاً واليوتوبيا بوصفها «الآخر»، المُمكن، فإنّ الإيديولوجيا هي إضفاء الشرعية على السلطة القائمة بينما تُمثّل اليوتوبيا تحدّي هذه السلطة[20].

بعد القراءة الريكورية نُلاحظ أنّه؛ بالرغم من التطرّق لمختلف النماذج، كان تركيز مانهايم في النموذج الماركسي لفهم ثنائية الإيديولوجيا واليوتوبيا هو الغالب، لسببٍ بسيط، وهو أنّ ما بعد الماركسية وفّرت نموذجاً مقابلاً (اليوتوبيا) للماركسية، الأمر الذي فتح باب المقارنة، لأنّ عند ماركس الإيديولوجيا هي أحد مكونات البنية الفوقية، والتي تقوم بتبرير وشرعنة وجود النظام السياسي (الذي يخدم الإيديولوجيا الرأسمالية)، أي المحافظة على استقرار واستمرار وضعه السائد، بالرغم من إنتاجه الدائم لأشكال الهيمنة والظلم والإفقار والحرمان والتفاوت. هنا تُؤدّي الإيديولوجيا وظيفة الدّمج التي تحدّث عنها مانهايم وعقّب عليها ريكور. لكن تنتهي هذه الوظيفة حينما تبدأ الإيديولوجيا الاشتراكية بالتطلّع إلى الشيوعية بحسب ماركس (المجتمع الطوباوي). لقد جعلت هذه الفكرة الأخيرة جُلَّ الطوباويين الاشتراكيين ومن بينهم سان سيمون، يبحثون عنعالم يوتوبي يُمكّنهم من التحرّر من البنية الاقصائية للإيديولوجيا الرأسمالية، فاليوتوبيا عندهم هي مشروع استعادة للحقوق المَسلوبة. يبدو أنّ التأويل عند ريكور توقّف عند لحظتين أساسيتين (ماركس-مانهايم) أثبتت الشرعية الابستيمولوجية للمقارنة بين مفهومي الإيديولوجيا واليوتوبيا، والسؤال المُحيّر هو غياب وحدة الفكر والوجود (ما يدعوه مانهايم باللاّتطابق)، هذه الدعوة جعلت اليوتوبيا أمراً مُمكناً لكن ليس بالإطلاق التام، أي اعتبارها كلاًّ مطلقاً لا يمكن إدراكه بصفة كلّية، لأنّ هناك بالأساس أزمة عميقة بين الفكر والوجود.

بين الفلسفة والتجربة: نحو استيعاب معرفة الكلِّ لمعرفة الجزءِ

من تمثّلات تجاوز الأزمة التي أصابت الحياة الفكرية؛ السجال الذي دار بين المعرفة التجريبية التي تدّعي الصحة (Validity) وتُبعد القضايا المتافيزيقية والفلسفية لأنّها مُختلَف عليها وليست دقيقة. والمعرفة الفلسفية التي ترتكز على المنطق كأداة للتفكير إضافة إلى الأدوات السامية كالحدس والتأمّل. يجد مانهايم حلاًّ وسطاً، بين العلم التجريبي الذي يُزوّدنا بأجوبة يقينية عن القضايا الجزئية، وبين الفلسفة التي تُفعمنا بالتأمّل في القضايا الكلّية (يُشبّه هذا الحل بافتراض منظّري المَلَكِية الدستورية الذي ينصُّ على أنّ: «المَلِكُ يَملك ولا يحكم»؛ ينبغي للفلسفة أن تتخلّى عن ادّعائها للدليل الصحيح بشكل عام، كلّ منطقة واختصاصها (في اعتقادي طبقاً للقاعدة النظرية المعكوسة: الحاكم يَحكم ولا يَملك). أنْ نُدرك إدراكاً شاملاً يعني أن نفهم أنّ كلّ وِجهة نظرٍ هي مجالٌ محدود، من ثمّ استيعاب المحدودات. اذن، يبرز بوضوح جسر الانتقال من الإيديولوجيا إلى اليوتوبيا، عبر عدم الاكتفاء بتبنّي منظور ضيّق في الوضع الراهن، بل نسعى دائماً إلى فهم وتفسير الاستبصارات الخاصة من سياق يتزايدُ شمولاً[21].

ترتيباً على السابق، تَرتسِم في الذهن الصورة النمطية التي تفترض أنّ الإيديولوجيا تعبّر عن الحقيقة الجزئية (Partial truth)، في مُقابل اليوتوبيا التي تعكس البحث الدؤوب عن الحقيقة الكلية (Total truth). بالرغم من ذلك، نجد أنّ الإيديولوجيا في حدّ ذاتها تحمل هذه الصورة، حيث ينتصب التناقض الداخلي (Paradox) لمفهوم الإيديولوجيا، إذا تتبّعنا التحديد المانهايمي (الجزئي والكلي) للإيديولوجيا.

فالمعنى الجزئي للإيديولوجيا هو اتخاذُ موقفٍ متشكِّكٍ تجاه الأفكار والتصوّرات التي يتقدّم بها خصمُنا، فهي تمْويهات تُخفي الطبيعة الحقيقية لوضعٍ لن يكون الاعتراف بحقيقته مُتّفِقاً مع مصالح هذا الخصم. أمّا المعنى الكلّي فهو إيديولوجيا عصر ما أو إيديولوجيا جماعة تاريخية (طبقة مثلاً)، البناء الكلّي لعقلية عصر أو جماعة[22]. يرفض مانهايم المفهوم الكلّي للإيديولوجياتجسيداً لما يعتبره ادّعاءات خاطئة، إلى حدٍّ ما، في كلّ معرفة اجتماعية، والتي اعتبرها بمنزلة بنية منظورية (perspectival)[23]، وبالتالي ينبغي لعلم السياسة بطريقة أو بأخرى أن يكون وسيطاً للصراعات الإيديولوجية لخلق توليفة (synthesis) في شكل واقعية مُشتركة، بتوفيق هادئ للصراع، وتحويله إلى تفاوض حول المصالح المتناقضة. بدلاً من ذلك، يُؤكّد مايبوم maybaume على التضاد بين الإيديولوجيات واليوتوبيات الذي طوّره مانهايم ووسّعه في شذرات من ثلاث مقالات ضمّنها بطريقة غير نسقية في كتابه، ولاسيما مقاله حول اليوتوبيا الذي يقع في نهاية الكتاب، دون المساهمة في الحدث بوصفه خلاصة لحجج تراكمية، حسب ملاحظات مانهايم نفسها. يَفترض مايبوم أنّه بالرغم من وجود مساحة مشتركة تجمع بين الإيديولوجيا واليوتوبيا، أيضاً، هناك فرقٌ بين المفكّرين المُقيّدين بالانتماءات الرجعية ذوي الإيديولوجيات غير الواعية (الجاهلة)، وسيكولوجيات المصالح، أو ذوي التخطيط الماكر، والمُفكّرين المُستقلّين الذين يملكون طاقة وبصيرة لمعرفة العالم من خلال اليوتوبيات، والذين يحوزون على قدرة للتحقّق من صحة أنفسهم في الممارسة عن طريق تنفيذ وتفعيل رؤيتهم[24].

عَطفاً على ما تقدّم به مانهايم ومايبوم، الأول حينما ركّز في وجود توافق بين المعنى الكلي للإيديولوجيا واليوتوبيا بذاتها، لأنّ الإيديولوجيا بهذا المعنى من جهة تَعكس البناء الكلّي للمجتمع، وتَملك رؤية تطلّعية للمستقبل (بنية منظورية بتعبير مانهايم) من جهة أخرى. والثاني عندما حاول أن يُثبت التوتّر الدائم بين الإيديولوجيا واليوتوبيا، وتعمّق في التحدّث عن ثنائية المفكّر الحر الذي يُوظّف اليوتوبيا في رؤيته للعالم والمفكّر المقيّد الذي يبني رؤيته على الانتماءات الضيّقة. بين ذاك وذاك، نَميلُ مع رأي مانهايم كحل ابستيمولوجي مُقترح لتوفيق هذه الثنائيات بتوقيف حالة التوتّر والصراع بين المواقف الإيديولوجية والتطلّعات اليوتوبية، وأنسب علم يقوم بهذه المهمة ـ حسب مانهايم ـ هو علم السياسة لأنّه ينبري بمعرفة موضوعية يمكنها أن تكشف المفارقات من خلال العودة إلى البنية السياقية والمناسباتية التي تُولد فيها الظواهر السياسية والاجتماعية.

يُعدّ السياق السياسي الذي كان فيه مانهايم، بشكلٍ عام، مُهمّاً لفهم المواضيع والقضايا الخاصة بسوسيولوجيا المعرفة. فأعمال مانهايم تشكّلت نتيجة لمتوالية اجتماعية وأزمة سياسية خلال الحرب العالمية الأولى، والثورات الهنغارية بعد الحرب، والصراع بين الشيوعية والفاشية، وأسباب الحرب العالمية الثانية وثورات التغيير الاجتماعي التي مهّدت للحرب الشاملة. هناك تطورات مُهمّة ومراحل أخرى. لكن الأهم هو أنّ هذه السياقات عكست أزمات تغيير. بالرغم من أنّ المُهيمن على أعماله هو الصراع بين الرؤى التاريخية الإيديولوجية واليوتوبية للعالم، من ناحية، ومن ناحية أخرى أهمية التجديد الأخلاقي والقيمي من أجل إحداث تغيير اجتماعي تقدّمي، يكون تركيزه في التجديد الأخلاقي والقيمي؛ ورد هذا من خلال السياق الإنجليزي الذي شكّلته المسيحية الداعية إلى ضرورة الفهم الديني للمجتمع المعاصر المُتزامن مع سنة 1943. في نهاية حياته، انضمّ مانهايم إلى مجموعة من المثقّفين المسيحيين والنشطين الذين سعوا إلى خلق نظام جديد في المجتمع لوقف المدّ العلماني وإعادة بناء تجمُّع أخلاقي[25].

هذه الملابسات التاريخية والظروف الدينية أثّرت على بلورة وتشكيل اعتقاد هام عند مانهايم حول الفئات الاجتماعية، فيرى أنّ هناك اختلافاً كبيراً في وجود قدرة على تجاوز الموقف الضيّق الخاص بكلّ فئة اجتماعية، ويضع أملاً كبيراً في «المثقفين المستقلين، unattached intelligentsia» غير المُرتبطين اجتماعياً، فهو يعتقد أنّهم نخبة بينية خالية نسبياً من المصالح الطبقية. وأكّد أيضاً قوّة الفكر اليوتوبي في تماثله والإيديولوجيا، حينئذٍ يُنتج هذا الفكر صورة مُشوّهة للواقع الاجتماعي. ولكن عندما تغدُو اليوتوبيا غير متماثلة مع الإيديولوجيا، فإنّها تَحُوزُ على ديناميكية عالية في تحويل هذا الواقع إلى صورته الأصلية[26].

إنّ استجلاء العنصر الإيديولوجي واستنطاق العنصر اليوتوبي في التأمّل النظري للنماذج المثالية للتيارات الاجتماعية والسياسية السائدة (المحافظ البيروقراطي، التاريخي المُحافظ، البورجوازي الديمقراطي الليبيرالي، الشيوعي ـ الاشتراكي، الفاشية) في الممارسة السياسية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، لدليلٌ على أنّ العمل السياسي يُمكن، دونما صعوبة، أن يُحدَّد ويُعرَّف علمياً.

يَتّخذ التفكير التاريخي-السياسي أشكالاً مُتعدّدة تبعاً لتعدُّد التيارات السياسية المختلفة، وبالتالي اختلاف رؤية وفهم الأطراف التاريخية والسياسية لمشكلة العلاقة بين النظرية والممارسة داخل علم السلوك السياسي[27]، يُمكن أنْ نَلمس هذا بوضوح من خلال تَحوّل وصراع الأنماط الفكرية الغربية المتباينة في فترات تاريخية مختلفة، وعليه انطلق مانهايم من دراسة تاريخية مَسْحِية للكشف عن أبعاد العلاقة بين النظرية والممارسة السياسية:

أوّلاً؛ النمط التاريخي المحافظ (Censervative Historicism)

ينزع هذا النمط باتجاه الفكر البيروقراطي الذي يميل بدوره إلى تحويل كل مشاكل السياسة إلى مشاكل إدارية. ونتيجة لذلك فإنّ غالبية الكتب عن السياسة في تاريخ علم السياسة الألماني هي في الحقيقة بحوث في الإدارة. البيروقراطية العسكرية مثلاً، في مواجهتها لحدث الثورة تلجأ إلى سَنِّ تشريعاتٍ تعسفية اعتباطية بدلاً من مواجهة الوضع السياسي على أرضيته. ذلك لأنّها تعتقد أنّ الثورة حدثٌ شاذٌ في وضع تنظيمي جيّد، وليس تعبيرٌ حيٌّ عن قوى اجتماعية أساسية، اذن العقلية البيروقراطية هي بصدد تعميم الخبرة، وإهمال الحقيقة القائلة إنّ عالم الإدارة لا يُمثّل سوى جزءاً من الواقع السياسي الكلّي. إضافة إلى المذهب البيروقراطي نشأ مذهبٌ موازٍ له هو النمط المحافظ التاريخي. وقد كان هذا المذهب خاصّاً بفئة اجتماعية تتألّف من طبقة النبلاء والطبقة البورجوازية بين المفكّرين. وقد كان هؤلاء هم الحكّام الفعليون والفكريون للبلاد. لكن كان دائماً يوجد قَدْرٌ من التوتّر بينهم وبين المحافظين البيروقراطيين. وكان هذا النمط الفكري يحمل طابع الجامعات الألمانية، ولا سيما طابع الفئة المُهيمنة من المؤرّخين ـ ولا تزال هذه العقلية حتّى اليوم تَنال الدّعم من هذه الدوائر إلى حدٍّ كبير. يتميّز المذهب التاريخي المحافظ بإدراك الميدان اللاّعقلاني (اللاّعقلانية التقليدية ما قبل الرأسمالية، واللاّعقلانية الرومنتيكية) في حياة الدولة الذي لا يُمكن السيطرة عليه من قِبل الإدارة. إنّه يعترف بوجود ميدان كبير غير منظّم، ويعتبر هذا الميدان المجال المناسب للسياسة. وفي الحقيقة يُركّز هذا المذهب اهتمامه بشكلٍ كاملٍ تقريباً في العوامل اللاّعقلانية المُتهوّرة التي تُزوّدنا بالقاعدة الحقيقية لمزيد من التطوّر في الدولة وفي المجتمع، ويَعتبر أنّ هذه القوى تستعصي تماماً على الفهم، ولذلك فإنّ العقل البشري عاجز عن فهمها أو السيطرة عليها. وهنا لا شيء يُساعد على قَوْلْبَة المستقبل سوى الغريزة الموروثة تقليدياً، والقوى الروحية التي تعمل في صمتٍ، وروح الشعب، وهي كلّها تستمدّ قواها من أعماق اللاّشعور.

لقد سبق أن عبّر ادموند بيرك Burke الذي كان نموذجاً يُحتذى به لدى معظم المحافظين الألمان في نهاية القرن الثامن عشر، عن هذا الموقف بالكلمات المَهيبة التالية: «إنّ علم بناء دولة ديمقراطية (commonwealth) أو تجديدها أو إصلاحها، هو ككل علم تجريبي آخر، لا يمكن تعليمه مُسبقاً، ولا يُمكن للخبرة التي تُعلّمنا ذلك العلم العملي أن تكون خبرة قصيرة». الجذور السوسيولوجية لهذه الفرضية (thesis) واضحة بشكلٍ مباشر. فقد كانت تُعبّر عن إيديولوجية طبقة النبلاء الحاكمة في كلٍّ من ألمانيا وانجلترا، وساعدتهم في إضفاء الشرعية (Legitimatize) على تبوُّئِهم مناصب القيادة في الدولة. وعليه، يتّضح أنّ المحافظ الذي ينتمي إلى الطبقة البيروقراطية يميل إلى إخفاء المجال السياسي، بينما يرى المحافظ التاريخي الذي ينتمي إلى طبقة النبلاء الحاكمة هذا المجال بوضوح أكثر وتركيز أكبر في اعتبار أنّه مجالٌ لاعقلانيٌّ، مع أنّه يؤكّد تحديداً العوامل التقليدية في الأحداث التاريخية من خلال نفي الذوات الفاعلين[28].

إنّ العقلية البيروقراطية هي من صميم التعبيرات الإيديولوجية والعمل البيروقراطي هو أحد أشكال ممارستها، بالرغم من أنّ هذه العقلية هي الخلفية الأساسية للمذهب التاريخي المُحافظ، إلاّ أنّ هذا الأخير هو ضدّ الصرامة العقلانية للإدارة البيروقراطية. فالسياسة (نظراً وعملاً) في هذه الحالة تتأثّر بنموذجين (عقلاني ولاعقلاني) مُتصارعين، وفقاً لذلك سيهتدي الباحث إلى تفسير السياسة كعلم وكسلوك بالرجوع إليهما كمقاربات جاهزة، فهناك نموذج الفاعل العقلاني البيروقراطي الرشيد، والنموذج التاريخي الذي يستلهم أساسه من الموروث التقليدي للمجتمع، وهي نماذج استراتيجية معيّنة للمقاربة والفهم في تحليل السلوك السياسي.

ثانياً؛ النمط البورجوازي الديمقراطي الليبيرالي (Liberal-Democratic Bourgeois)، يُعدّ هذا النمط الخصم الرئيسي للنمط السابق، وهو الطبقة البورجوازية الديمقراطية-الليبيرالية ونظرياتها الناشئة عن العقلية الاقطاعية الارستقراطية. فقد رافق ظهور البورجوازية قيام مذهب فكري متطرّف (Intellectualism). وهذا المذهب كما يُستعمل في هذا المجال، هو نمط فكري يقوم بواحد من أمرين: فإمّا أن يَعمى عن رؤية عناصر الحياة والفكر القائمة على الإرادة والمصلحة والعواطف والنظرة الشاملة إلى الحياة، وأما إذا اعترف بوجودها فإنّه يُعاملها وكأنّها مُساوية للفكر (Intellect) ويعتقد أنّه يُمكن السيطرة عليها واخضاعها للعقل (reason). وكان هذا المذهب البورجوازي يُطالب صراحةً بسياسة علمية، واتخذ خطوات علمية لتأسيس مثل هذا الفرع من الدراسة. وكما أَوجدت البورجوازية أوّلاً المؤسسات التي يمكن أن يَجري فيها الصراع السياسي (أوّلاً البرلمان والنظام الانتخابي، وفيما بعد عُصبة الامم)، كذلك فإنّها خلقت مكانة مُنتظمة للدراسة الجديدة للسياسة. كذلك يظهر الشذوذ التنظيمي لدى المجتمع البورجوازي في نظريته الاجتماعية. إنّ المحاولة البورجوازية لفرض عَقلنة شاملة على العالم تضطرُّ أخيراً إلى التوقّف عندما تصل إلى ظواهر مُعيّنة. فهي إذ أقرّت التنافس الحر والصراع الطبقي خلقت مجالاً لاعقلانياً جديداً عقيماً، لأنّ البرلمان تنظيم شكلي وعَقلنة شكلية للصراع السياسي وليس حلاًّ له، كذلك فإنّ النظرية البورجوازية لا تصل إلى أكثر من عَقلنة شكلية للعناصر اللاّعقلانية الأساسية. يعتقد الذهن البورجوازي حسب مانهايم أنّ هذا العلم يقعُ في ثلاثة أقسام: أ-نظرية الغايات، أي نظرية الدولة المثالية. ب-نظرية الدولة الواقعية (الوضعية). ﺟ-«السياسة»، وصف الأسلوب الذي تتحوّل به الدولة القائمة إلى دولة كاملة. ويُمكن أن نشير إلى مثال يوضّح هذا النمط الفكري. هذا المثال هو بنية الدولة التجارية المُغلقة[29].

ثالثاً؛ النمط الشيوعي ـ الاشتراكي (Socialist-Communist)، خلال صراعها مع خصمها البورجوازي، اكتشفت الماركسية من جديد أنّه لا يُمكن أن توجد نظرية صَرفة في الأمور التاريخية والسياسية. وترى الماركسية أن خلف كلّ نظرية تقبع وُجهات نظر جماعية. وقد تحدّث ماركس عن ظاهرة التفكير الجماعي الذي يسير وفقاً للمصالح والأوضاع الوجودية والاجتماعية على أنّها إيديولوجيا.

يرتبط مفهوم الإيديولوجيا حتمياً بوضعٍ اجتماعي وتاريخي مُعيّن، فمن فكّروا بأساليب اشتراكية أو شيوعية مثلاً، رأوا العنصر الإيديولوجي في تفكير خصومهم (البورجوازيين) وحدهم، بينما هم يعتبرون تفكيرهم الخاص خالياً من أيّ عيبٍ إيديولوجي. لكن الماركسية بنفسها هي من ملاحظات نقدية؛ وبالتالي التصور الماركسي الجديد للعلاقة بين النظرية والممارسة. لقد أبرز هذا الفكر غايات المنظّر البورجوازي حسب تصور معياري للمجتمع، كان من أهم الخطوات التي اتّخذها ماركس أنّه هاجم العنصر اليوتوبي في الاشتراكية. فقد رفض منذ البداية أن يضع مجموعة شاملة من الغايات: «الشيوعية بالنسبة لنا ليست حالة ينبغي أن تُقام، وليست مثلاً أعلى يجب على الأمر الواقع أن يُكيِّف نفسه تبعاً له. إنّنا نُسمّي الشيوعية الحركة الفعلية التي تُلغي الظروف الراهنة. فالظروف التي ستسير في ظلّها هذه الحركة تنبثق من الظروف الموجودة الآن»[30]. إنّ الفكر الماركسي شبيهٌ بالفكر المحافظ في كونه لا ينكر وجود مجال لاعقلاني، ولا يحاول إخفاءه كما تفعل العقلية البيروقراطية، ولا يُعالجه بطريقة عقلانية صَرفه وكأنّه شيء عقلاني كما يفعل المفكّرون الليبيراليون-الديمقراطيون. لكنّه يتميّز عن الفكر المحافظ في كونه يتصوّر هذه اللاّعقلانية النسبية وكأنّها قابلة للفهم بواسطة أساليب جديدة للعقلنة[31].

إنّ الالتزام بحماية النزوع إلى انتاج الإيديولوجيات-التي تعتقد بالتمجيد المُفرط للماضي- والتركيز المُوغل في العوامل التي تساهم في الاستقرار. أمّا التغيير فهو عُرضةً لإنتاج اليوتوبيات، التي تثمّن المستقبل والعوامل المؤدّية إلى التغيير[32]. الإيديولوجيات واليوتوبيات تَسير وُفقاً لما يخدم مصلحة الطبقة الحاكمة. إنّ الإيديولوجيا في هذا السياق تُشير إلى نظام الفكرة الذي يسعى إلى إخفاء الوضع الراهن من خلال تفسير الشؤون المُرتبطة بالماضي. في المقابل اليوتوبيا هي نظام من الأفكار يسعى لتجاوز الحاضر من خلال التركيز المستقبل. يجب التأكيد أيضاً أنّ تاريخ الأفكار وفقاً لماركس يأتي تبعاً للثقافة المادية اليوم[33]. يقول مانهايم: «اليوم، بعد أنْ أصبحنا واعين بكلّ التيارات وقادرين على استيعاب العملية كُلّها، والتي تُفرز الاهتمامات السياسية والنظرات السياسية الشاملة للعالم (weltanschauungen) في ضوء عملية مفهومة سوسيولوجياً، نستطيع أنْ نرى إمكانية قيام السياسة على شكل علم»[34].

في تقديري أنّ النموذج الماركسي يمكن أن نَسِمَهُ بالانفتاح، لأنّه أعاد ترتيب بَيتَه المعرفي من جديد، عندما فقد القدرة الكافية على التفسير، بذلك لم يعد هذا النموذج يُعبّر عن إيديولوجيا، بل أصبح يمثّل نموذجاً معرفياً مُتحوّلاً ومتكيّفاً مع النمط الليبيرالي، خاصة على مستوى المفهوم، فهناك مفارقة، تبرز من خلال الحضور الابيستيمي لماركس داخل اقتراب النخبة، مثلاً، رغم أنّه المُؤسِّس الأوّل لاقتراب الطبقة الذي يحاول فهم هُموم الاشتراكيين الطبقية (الطبقة البروليتارية تحديداً). لقد جرى تحوير مفهوم الطبقة ـ بصيغة استعارية ـ من دائرته الاجتماعية والاقتصادية الماركسية إلى مفهوم النخبة الذي يقع في الدائرة السياسية الليبيرالية. من هنا، علم السياسة لا يُؤمن بالإيديولوجيا في انغلاقها على مُسلّماتها وافتراضاتها الخاصة، لكن ممكن أن يقبل الإيديولوجيا في انفتاح مبادئها ومضامينها على البنية الاجتماعية والسياسية المتغيرة.

رابعاً؛ الفاشية هي التيار الخامس الذي يستحقّ مكاناً بين تيارات الفكر الحديثة. وللفاشية تصوّرها الخاص بشأن العلاقات بين النظرية والممارسة. وهي على العموم لاعقلانية وتُؤمن بالنشاط الفعّال والعنيف. ترى الفاشية نفسها أنّها تُصنّف ضمن الفلسفات والنظريات السياسية اللاّعقلانية. ويَقبع في قلب نظريتها وممارستها تمجيد للعمل المباشر، وإيمان بالفعل الحاسم، وإيمان بأهمية المبادرة لدى النخبة القائدة. جوهر السياسة هنا هو التعرُّف إلى مقتضيات الساعة ثم مُعاركتها. ليست البرامج هامّة، بل المهم هو الطاعة العمياء غير المشروطة للزعيم. ليس التاريخ من صنع الجماهير، أو الأفكار، أو القوى التي تعملُ في صمتٍ، إنّما تصنعه النخبة التي تُثبت وجودها وأهميتها. وهذا يعكس لاعقلانية كاملة من نوعٍ خاص هي لاعقلانية الفعل التي تنفي حتّى تفسير التاريخ[35].

يبدو أنّ العرض السابق للتيارات الفكرية التاريخية يختزل لنا الرؤية المتنوّعة والمختلفة للعلاقة بين النظرية والممارسة السياسية، ويهتمّ بمحتوى هذه العلاقة، لكن هناك جانب آخر يتعلّق بالمنهج الذي تتفاعل من خلاله النظرية والممارسة السياسية، وهو المنهج الديالكتيكي والجدلي، يقصد مانهايم بالدياليكتيك الجدل المُنتج لنظريات جديدة والقائم على مراجعة نقدية للنظريات السابقة، فهو جدل فعّال مُبدع مُنفعل عقيم.

العلاقة الدياليكتيكية بين النظرية والممارسة السياسية:

ما يُميّز التحوّل من المعرفة الإيديولوجية إلى المعرفة اليوتوبية عند مانهايم، هو المَنحى السِرَنديبي (Serendipity؛ التسلسلي) الذي يَضعنا أمام تأمّل نظري للممارسة السياسية.

فالنظرية، هي من إنتاج عملية الصيرورة، ومكوّنات العلاقة الدياليكتيكية بين النظرية والممارسة (دافع اجتماعي للنظرية، تغيير الأمر الواقع، تفعيل النظرية، وضع جديد، مراجعة النظرية السابقة، نظرية جديدة)[36]. كان الدافع الأصلي للقيام بالبحث في مشكلة الإيديولوجيا واليوتوبيا نابعاً من الحياة السياسية ذاتها في أحدث تطوراتها[37]. لكن العائق الأساسي أمام المُنظّر في التعاطي مع هذه المشكلة هو حدّة التوتّر الموجودة بين النظرية والممارسة، فيقترح مانهايم ثلاثة مداخلٍ رئيسية يمكن أن يتّبعها المُنظّر في مهمّته التنظيرية، ثم يُشير إلى الحلِّ الأمثل للتناقض الصارخ والفراغ المعرفي الذي يطبع العلاقة بين النظرية والممارسة، بل يُعطيها وَسْم الدياليكتيكية حتّى تَقفز على العوائق الابستيمولوجية التي تواجهها.

من هنا، نَعرض لأهم المداخل المنهجية المُمكنة التي تعتمدها النظريات السياسية الحديثة[38]:

أوّلاً؛ يمكن عرض النظريات السياسية بواسطة علم للنماذج (Typology) مَفصول عن اللحظات التاريخية الحاسمة ومَقطوع الصلة بالأوضاع المَلموسة التي تنشأ فيها تلك النظريات. يُحاول هذا العلم ترتيب النظريات تسلسلياً واكتشاف مبدئاً نظرياً ليتّخذه قاعدة للتمييز فيما بينها. ويُمثّل محاولة لعرض تعدّد وجوه الحياة على سطح مُوحّد توحيداً مُصطنعاً؛ لأنّ هناك طُرقاً مختلفة في الحياة، وأنّ السير في طريق أو في آخر منها هو بكلّ بساطة مسألة اختيار. وتبعاً لهذه الخطّة يستطيع المرء أنْ يمنح النظريات أسماء، وأن يُرفِق بها تصنيفات، ولكن هذا سيَحجب ترابطاتها الداخلية الحقيقية، لأنّ النظريات ليست في الأصل أنماطاً عامّة للحياة بل هي مجرّد تفرّعات عن أوضاع مَلموسة. قسّم فان ستال Stahl، وهو أوّل مُنظّر ومُنظّم للنظام الحزبي البرلماني، الاتجاهات السياسية المختلفة في زمانه إلى قسمين على أساس مبدأين نظريين هما مبدأ الشرعية ومبدأ الثورة. وليس تصنيفه مجرّد مسح للإيديولوجيات الحزبية القائمة حينذاك، بل يتضمّن تفهُّماً عميقاً له. لكن المشكلة الوحيدة هي أنّ النماذج التأمّلية النظرية لأشكال الخبرة تُفرَض فرضاً اعتباطياً وتعسفياً على الواقع السياسي.

ثانياً، يمكن عرض النظريات السياسية بأسلوب تاريخي صرف، يتمسّك تمسّكاً شديداً بالسياق التاريخي، بالتركيز في الأسباب التاريخية التي تشرح قيام النظريات السياسية، وربطها بشخصيات فذّة وأفراد مبدعين، ما يَحُولُ دون الوصول إلى استنتاجات عامّة بخصوص العملية التاريخية والاجتماعية كلّها. إنّ هذه الطريقة التاريخية تُخطئ أيضاً بالتصاقها الشديد بالأحداث المباشرة في التاريخ حتّى إنّ نتائجها لا تصلح إلاّ للأوضاع الملموسة الخاصّة التي قامت بدراستها.

ثالثاً، لكن هناك طريقة ثالثة تقف بين هاتين الطريقتين المتناقضتين المتطرّفتين. هذا الأسلوب الثالث يختار طريقاً وسطاً بين التنظيم التجريدي النظري من ناحية والحدث التاريخي المباشر من ناحية أخرى. ويقوم هذا الطريق الثالث على محاولة فهم النظريات وفهم ما يطرأ فيها من تغيّرات هامّة على ضوء ارتباطها الوثيق بالفئات الجماعية والأوضاع النموذجية الكلّية التي تنشأ فيها وتعمل في الوقت نفسه على شرحها وتفسيرها. ولا بدّ هنا من إعادة البناء الداخلي بين الفكر والوجود الاجتماعي. إنّ الفئات الاجتماعية ذات البنية الخاصّة هي التي تَصوغ النظريات المُتّفقة مع مصالحها كما تراها هي في أو ضاع معيّنة. ونتيجةً لذلك يُكتَشف لكلّ وضع اجتماعي خاص نمط خاص في التفكير وإمكانات خاصّة للتوجّه والتكيّف. لكن القوى الجماعية التي تحكمها طبيعة بِنيتها تستمرّ في الوجود بعد انتهاء الفترة التي يدوم فيها الوضع التاريخي الواحد. ولهذا السبب تستطيع النظريات وإمكانات التوجّه والتكيّف أن تستمر في الوجود. ولا تشعر القوى الجماعية بالحاجة إلى نظريات جديدة وإمكانات جديدة للتوجّه والتكيّف إلاّ بعد أن تتغيّر أو ضاعها البنيوية وتحلّ محلّها بالتدرّج أوضاع بنيوية جديدة.

علم السلوك السياسي

نستهلُّ هذه الجزئية بالممارسة النقدية للسياسة عند مانهايم من خلال سؤاله: «لماذا لا يُوجد علم خاص بالسياسة؟»[39]، فالسياسة هي علم السلوك السياسي؛ لكن لن يكون كذلك ـ حسب مانهايم ـ إلاّ حين تكون البنية الأساسية للفكر مُستقلّة عن مختلف أشكال السلوك المدروسة[40]. لكن في الآن نفسه، لا يمكن التحرّر من الصعوبات القائمة بين النظرية والممارسة إلاّ بعد استيعاب الظروف التاريخية والسياسية والاجتماعية لعلم السلوك السياسي ونظرياته، اذن نحن بصدد مُفارقة منطقية.

ينتقد جورج غورفيتش مَنْظُورِيَة مانهايم من هذا الجانب–وهو ما يُؤخذ على نظرية مانهايم الابستيمولوجية ـ حينما أشار غورفيتش إلى أنّ مانهايم حَصر فروع المعرفة بشكل أساسي داخل نمط واحد من المعرفة هو المعرفة السياسية المشدُودة بدورها إلى المعرفة الفلسفية[41]. لكن هل يمكن اعتبار هذا النقد الغورفيتشي مُؤسّساً؟ لأنّه فعلاً، كثيراً ما نجد الحضور الكاسح للمعرفة السياسية داخل المعارف الإنسانية، حتّى في العلوم التكنولوجية والتقنية؟ أصبحت المعرفة السياسية بديلاً لعلم الاجتماع: المفكرون والمثقّفون السياسيون هم الذين يُشكّلون البناء الاجتماعي. لكن ممكن أن يصنع البناء الاجتماعي بنفسه البنية الفكرية للمفكرين والمثقفين السياسيين، في اتجاه عكسي.

على الرّغم من أسئلة مانهايم، إلاّ أنّه، ممّا لا شكّ فيه، قد أنجزت حركة توليفية، وهذه الحركة هي «ضرورية في حدّ ذاتها، «An und für sich nِtig ist». وكنتيجة لذلك عرض مانهايم مفهوم المثقف غير المُرتبط اجتماعياً، بعيداً عن الإيديولوجيا واليوتوبيا، بالرغم من ذلك فإنّ الحقل الاجتماعي يظلّ مُختبراً أوّلياً لإمكانات المثقّف لتمهيد الطريق نحو السياسة كعلم من خلال علم الاجتماع المعرفة[42].

لكن موازاةً لذلك، يتساءل مانهايم: لماذا لم نُشاهد حتّى الآن ظهور ونمو علم في السياسة ـ وهي حقيقة تُمثّل وضعاً شاذاً في عالم يُسيطر عليه المِزاج العقلاني كعالمنا الحاضر؟ يَستبصر مانهايم احتمالين أساسين للإجابة المُمكنة والمُحتملة عن المشكلة، وهما، أوّلاً؛ أنّ العلوم الاجتماعية لا تزال في مَهدِها. ومن الممكن أن نستنتج أنّ عدم نُضج العلوم الاجتماعية الأساسية يُفسِّر التخلّف في هذا العلم «التطبيقي». ولو كان الأمر كذلك لأصبحت القضية مسألة وقت يجري من خلالها التغلّب على هذا التخلّف، بحيث نتوقّع أن يؤدّي المزيد من البحث إلى سيطرة على المجتمع شبيهة بسيطرتنا الراهنة على العالم الطبيعي. ثانياً؛ هناك وِجهة نظر مضادّة يدعّمها الشعور المُبْهَمْ بأنّ السلوك السياسي يختلف كيفياً عن أيّ نوعٍ آخر من أنواع الخبرة البشرية، وأنّ الصعوبات القائمة أمام فهمِه فهماً عقلانياً أكبر بكثير منها في الميادين الأخرى للمعرفة. ومن هنا يقوم الافتراض بأنّ كلّ المحاولات لإخضاع هذه الظواهر للتحليل العلمي محكوم عليها سلفاً بالفشل، وذلك بسبب الطبيعة الفريدة للظواهر المطلوب تحليلها[43].

من الأولى تحديد المشكلة بأكثر دقّة: ماذا نعني حين نسأل: هل قيام علم سياسة أمرٌ ممكن؟ تحتوي المعرفة السياسية الشاملة في نظر مانهايم على القانون والاحصاء والتاريخ والاجتماع وعلم النفس والأفكار والنظريات السياسية وفن الاتصال الجماهيري، تساعد الزعيم السياسي في الممارسة السياسية، لكنّها لا تُنتج علماً في السياسة، لكن يجب اختيار الحقائق التي تتناسب وأغراض السلوك السياسي. إنّ السلوك السياسي يهتمُّ بالدولة والمجتمع لأنّهما ضمن الصيرورة. هل هناك علم لهذه الصيرورة؟ استند مانهايم إلى ما انتهى اليه السوسيولوجي والسياسي النمساوي، ألبرت شافل، فحسبَه يمكن رؤية جانبين في كلّ لحظة من الحياة السياسية الاجتماعية (الشؤون الروتينية للدولة)، الجانب الأول يتألّف من سلسلة الحوادث الاجتماعية التي اكتسبت نمطاً ثابتاً ومتكرّراً بانتظام، أمّا الجانب الثاني فيتألّف من حوادث لا تزالُ في عملية الصيرورة ولا بدّ في الحالات الفردية منها أن تُتّخذ قرارات ينجمُ عنها أوضاع جديدة وفريدة (السياسة)، فالمجال الأوّل مُعقلنRationalized) ) يتألّف من إجراءات مُستقرّة ورتيبة في التعامل مع الأوضاع التي تتكرّر بأسلوب مُنتظم، والمجال الثاني «لاعقلاني» يُحيط بالمجال الأوّل المُعقلن. لذلك فإنّنا نُميّز بين بنية المجتمع «المُعقلنة» والرحم «اللاّعقلاني» الذي يٌنجب تلك البنية. إنّ إدراك الفرق بين الخطّة المُعقلنة والبيئة اللاّعقلانية التي تجري فيها تلك الخطّة، هذا الادراك يُتيح لنا إمكانية إعطاء تعريف لمفهوم السلوك. ولا يبدأ السلوك بالمعنى الذي نستعمله فيه إلاّ حين نصلُ إلى المنطقة التي لم تصل إليها العَقلنة بعد والتي نضطرّ فيها إلى اتّخاذ قرارات في أوضاع لم تخضع للتنظيم. في مثل هذه الأوضاع تقوم مشكلة العلاقات بين النظرية والممارسة[44].

لقد كانت المسألة الإيديولوجية هي الانشغال المركزي في مُؤلّف مانهايم الأساسي، وكان تَدقيقه للمصطلحين ( الإيديولوجيا واليوتوبيا) من منظور سياسي مَحض، حتّى وصل به الأمر إلى دراسة السلوك السياسي على ضوئهما. فنُلاحظ من خلال تقديمه تصنيفاً للحياة السياسية والاجتماعية (مرتكزاً على رأي شافل) أنّ الإيديولوجيا، بهذا المعنى التنميطي، تُعرف بمجالها العقلاني الذي يعمل دائماً على البحث عن الاستقرار، أمّا اليوتوبيا، بالمعنى نفسه، فتُحدّد بمجالها اللاّعقلاني الذي يسعى إلى التغيير. في نظري، يمكن فهم السلوك السياسي عند مانهايم كوحدة تحليل أساسية، تتجاذبها بالدراسة المقاربات السلوكية (النسقية عند دافيد ايستن، الوظيفية البنائية عند غابريال ألموند، والاتصالية عند كارل دويتش) داخل علم السياسية والتي كانت تخدم الإيديولوجيا الليبيرالية للنظام السياسي الأميركي في مرحلة الستينيات، لأنّها كانت تبحث عن الاستقرار السياسي لتثبيت قُطبها في المنظومة الدولية من خلال مواجهتها للاتحاد السوفياتي (سابقاً) في إطار الصراع الإيديولوجي بين الشرق والغرب، هذا من جهة. من جهة أخرى تبرز المقاربات ما بعد السلوكية (التحديث السياسي-التنمية السياسية) في سياق الحاجة المُلحّة لدول العالم الثالث لبلوغ الإنجاز الغربي المتطوّر في الاقتصاد والثقافة والسياسة، انطلاقاً من التغيير السياسي.

في مُختَتَمْ هذا العرض التأمّلي للعلاقة بين الإيديولوجيا واليوتوبيا، لا بدّ من الإشارة إلى ما نوّه به ريكور في نهاية محاضراته، حينما تساءل عن المفهومين السالفين: هل يمكن الإفلات من الوقوع في دائرة الإيديولوجيا أو اليوتوبيا هي نفسها، في تأمّلهما؟ هذه هي المُفارقة التي واجهت مانهايم. يذكر ريكور أنّنا دائماً أسرى هذا التذبذُب بين الإيديولوجيا واليوتوبيا. ليس من إجابة على مُفارقة مانهايم إلاّ القول بأنّنا مُطالبون بالعمل على شفاء اليوتوبيا بواسطة ما هو صحّي في الإيديولوجيا ـ من خلال عنصر الهوية فيها، الذي هو مرّة أخرى احدى وظائف الحياة الأساسية -، والعمل على شفاء الإيديولوجيات من تَصلّبها وتَحجّرها بواسطة العنصر اليوتوبي[45].

خاتمة:

استنفد مانهايم كلَّ إمكاناته التحليلية ليُثبت إمكانية القول بالحقيقة المطلقة في ظلّ حضور العناصر الإيديولوجية واليوتوبية التي تُرسي ـ في نظره ـ قواعد المعنى للسلوك السياسي، إلاّ أنّ أشكال هذا السلوك تعدّدت وافترقَ معناها نظراً لاختلاف الرؤية الشاملة للعالم التي تبنّاها كلّ نمط فكري مُعيّن طبقاً لقِيَمهِ الخاصّة. ما يُؤخذ على مانهايم على المستوى المنهجي هو البقاء في دائرة الوصف والتوصيف دون الارتقاء إلى مرحلة التفسير وإيجاد العلاقات السببية بغاية التعميم ثمّ التنبؤ (هنا وقع مانهايم في مصيدة النسبية)، ألا يمكن أن نصل إلى معايير عامة ومشتركة للصحة والصدق في الفكر؟ في الاتجاه العكسي، اختزاله للمعارف الاجتماعية والإنسانية في المعرفة السياسية هو تعميم مجتزأ لا يؤدّي الوظيفة الحقيقية للعلوم الاجتماعية وهي نزع الطابع الإيديولوجي (الأحكام المسبقة التابعة لسياق حضاري خاص) في دراسة الظواهر التاريخية والفكرية والاجتماعية.

إنّ إرادة مانهايم في تخريج الموضوعية وانتشالها من الموت المُحتمل الذي يُخيّم على الإيديولوجيات المُتطاحنة واليوتوبيات المُتنازعة، هذه الإرادة تحطّمت بفقدان الاتجاه الصحيح المتوازن للتحوّل، لأنّ مانهايم أكّد الانتقال من اليوتوبيا إلى الإيديولوجيا، وهذا الاتجاه يفقد توازنه إذا لم يستعن بالاتجاه الآخر (التوجه من الإيديولوجيا إلى اليوتوبيا) في حالات تاريخية اجتماعية تستدعي ذلك، لأنّ التمرحل التاريخي للأفكار أحياناً يحتاج فكراً أساسه التغيير، وفي أحيانٍ أخرى، هو بحاجة إلى فكر أساسه المحافظة على الوضع السائد، وبالتالي لا يكون ذلك تمرحلاً، وإنّما هيمنة لفكرة معيّنة. هذا ما يجعل تأمّلاتنا النظرية للممارسة السياسية على المقاس المانهايمي بحاجة هي نفسها أن تُوضع محل تأمّل، نظراً لإمكان واحتمال الوقوع في الإيديولوجيا واليوتوبيا.

------------------------------------

محمد أمين بن جيلالي : باحث وأكاديمي متخصّص في الفلسفة السياسية المعاصرة. أستاذ العلوم السياسية، جامعة بومرداس (الجزائر).

[2]- يقول ديستوت دي تراسي Destutt De Tracy: «يمكن أن يُسمّى هذا العلم بالإيديولوجيا، إذا كان تفكيرنا محدَّداً بموضوع دراسته، والنحو العام (grammaire générale) إذا كان التفكير مركِّزاً على الطرق، والمنطق إذا كانت الغاية هي نواة التفكير. مهما كان الاسم يجب أن يحتوي على الفروع الثلاثة، [...] فالإيدييولوجيا هي الاسم الشامل ( (Le terme génériqueلأنّ علم الأفكار يتضمّن علم التعبير عن تلك الأفكار وعلم اشتقاقها ومصادرها». أنظر:

- Destutt De Tracy، ةléments d’ ideologie، Paris، Bebliotheque Imperiale، 1905، P19-20.

أنظر أيضاً توظيف هذا التعريف في: كارل مانهايم، الإيديولوجيا واليوتوبيا: مقدمة في سوسيولوجيا المعرفة، ترجمة وتقديم محمد رجا الديريني، شركة المكتبات الكويتية، الكويت، ط1، 1980، ص142.

[3]- سيرغي كارا مورزا، جدلية الإيديولوجيا والعلم، ترجمة نواف القنطار، دار علاء الدين للنشر والطباعة والتوزيع، دمشق، ط1، 2005، ص29.

[4]- روبيرتو سيبرياني Roberto Cipriani، عالم اجتماع ديني إيطالي معاصر ولد في 02 مارس 1945، بروفيسور في جامعة روما 3، رئيس المجلس الأوروبي للجمعيات الوطنية لعلم الاجتماع.

[5]- كارل مانهايم، الإيديولوجيا واليوتوبيا: مقدمة في سوسيولوجيا المعرفة، المصدر السابق، ص248.

[6] -Donald M. Borchert، Encyclopedia Of Philosophy، Volume n 5. USA.، Thomson Gale، Second Edition، 2006، P604.

[7] - في هذا السياق يُدخل مانهايم مفهومين، كبديل، وُفقاً لنظام يتجنّب مصطلح النسبية (Relativism) لاستعادة صحّة التأكيدات في العلوم الاجتماعية: العلائقية (Relationism) والتخصيص (Particularism). أنظر:

- Iris Mandel، «Mannheim’s Free-Floeting intelligensia: The Role of Closness and Distance in The Analysis of Society»، Studies in Social and Political Thought، See:www.sussex.ac.uk/webteam/gateway/file.php?name=12-2.pdf&site=412، p31-32.

[8] - Ibid، P685..

[9] - Karl Mannheim (1929)، ideologie et utopie: une introduction ả la sociologie de la connaissance، traduit par Pauline Rollet، Réalisée par Jean-Marie Tremblay، Paris، Librairie Marcel Rivière et Cie، 2003، p52-53.

[10] -Ibid، p64.

[11] - كارل مانهايم، الإيديولوجيا واليوتوبيا: مقدمة في سوسيولوجيا المعرفة، المصدر السابق، ص316.

[12] - Karl Mannheim، ideologie et utopie: une introduction ả la sociologie de la connaissance، Op.cit، p55.

[13] - Ibid، p34.

[14]- Hannah Arendt، «Philosophy and Sociology»، Translation by Clare McMillan and Volker Meja، www.bard.edu/arendtcollection/kettler-mannhiem/arendt-eng_KnowPolitics.pdf، p199.

[15]- Ibid، p205.

[16] - Nicoval Vulpe، «Ideology، Epestemology And Work: A New Evaluation Of Karl Mannheim’s Third Way» www.dialnet.unirioja.es/descarga/articulo/97996.pdf، p123.

[17]- بول ريكور، محاضرات في الإيديولوجيا واليوتوبيا، تحرير وتقديم جورج ﻫ. تيلور، ترجمة فلاح رحيم، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، ط.1، 2002، ص5-6.

[18]- المصدر نفسه، ص12-13.

[19]- ينطلق مانهايم – حسب ريكور- عبر ثلاث خطوات: الأولى، عبر دراسة المعيار Creteriology)) تعريف فاعل لليوتوبيا، الثانية عبر دراسة الرموز Typology))، والثالثة عبر الحركية الزمنية، الاتجاه التاريخي لدراسة الرموز. أنظر: المصدر نفسه، ص18.

[20] - المصدر نفسه، ص18-19.

[21] - المصدر نفسه، ص168-169.

[22] - Karl Mannheim، ideologie et utopie: une introduction ả la sociologie de la connaissance، Op.cit، p23.

[23]-يَقصد مانهايم بمصطلح منظور دلالة التطلّع، والمراد منه: «المكانة الاجتماعيَّة والتاريخيَّة للفرد التي يُدرِك بواسطتها الأسلوب العام لفهم الأشياء». أنظر:

- (1936)، Idéology And Utopie: An Introduction To The Sociology Of Knowledge، Translated By Louis Wirth and Edward Shils، London، Rootledge And kegan Paul Ltd، 1997.

[24] - Davide Kettler and Volker Meja، «Karl Mannheim’s Jewish Question»، Religions، Third Issue، 11 April 2012، P240.

[25] - Karl Mannheim (1936)، Idéology And Utopie: An Introduction To The Sociology Of Knowledge، Op.cit، p. xxxviii.

[26] - Peter L. Berger and Thomas Luckmann، «The Sociol Construction Of Riality: A Treatise in the Sociology of Knowledge»، USA، Penguins Books، 1991، p22.

[27] - كارل مانهايم، الإيديولوجيا واليوتوبيا: مقدمة في سوسيولوجيا المعرفة، المصدر السابق، ص181.

[28] - المصدر نفسه، ص183-184-185.

[29] - المصدر نفسه، ص181 وص186.

[30] - المصدر نفسه، ص188-189.

[31] - المصدر نفسه، ص190-191.

[32] -Donald M. Borchert، Encyclopedia Of Philosophy، Op.cit، P685.

[33] - Edmore Mutekwe، »A Critique of The Sociology of Knowledge Paradigm and its Pedagogical Implications»، Educational Research Review، November 2012، p809.

[34] - كارل مانهايم، الإيديولوجيا واليوتوبيا: مقدمة في سوسيولوجيا المعرفة، المصدر السابق، ص218.

[35] - المصدر نفسه، ص195.

[36] - المصدر نفسه، ص188-189.

[37] - المصدر نفسه، ص226.

[38] - المصدر نفسه، ص228-230.

[39] - المصدر نفسه، ص175.

[40] - المصدر نفسه، ص181.

[41] - جورج غورفيتش، الأطر الاجتماعية للمعرفة، المصدر السابق، ص70.

[42]-Davide Kettler، «The Secret of Mannheim’s Remarkable Success: 1921- 1933»، www.bard.edu/arendtcollection/kettler-mannhiem/MannhiemSecretSuccess.pdf، p10.

[43] - كارل مانهايم، الإيديولوجيا واليوتوبيا: مقدمة في سوسيولوجيا المعرفة، المصدر السابق، ص174.

[44] - المصدر نفسه، ص177-179.

[45] - بول ريكور، محاضرات في الإيديولوجيا واليوتوبيا، المصدر السابق، ص411.