البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

العقل والإيديولوجيا ( محنة مستدامة في حداثات الغرب )

الباحث :  حميد بارسانيا
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  6
السنة :  السنة الثانية - شتاء 2017 م / 1438 هـ
تاريخ إضافة البحث :  February / 6 / 2017
عدد زيارات البحث :  1140
تحميل  ( 293.391 KB )
تتخذ دراسة العلاقة بين الإيديولوجيا ومباني العقل والدين، مكانة وازنة في مشاغل الفكر الحديث. كما تعتبر واحدةً من أهمّ أركان التنظير بين المدارس والتيارات الفكرية في المجتمعات الغربية. ومن هذا المنطلق تأتي هذه المقالة كمدخلٍ للبحث والتحليل في واقع العلاقة المشار إليها، والإشكاليات المعرفية والفلسفية التي أخذت قسطاً وفيراً من مساجلات الحداثة بأطوارها المتعاقبة.

تحت هذا العنوان "العقل والإيديولوجيا " يقدم الباحث والمفكر الإيراني حميد بارسانيا مجموعة من الإجراءات التنظيرية لمقاربة هذه الإشكالية.

المحرر


الإيديولوجيا عبارةٌ عن كلمةٍ إنجليزيةٍ مركّبةٍ من idea (فكرة) وlogy (علم)، وحسب الشواهد التأريخية فقد صيغت لأوّل مرّةٍ في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي وفي عام 1796 م تحديداً وذلك بعد الثورة العظمى التي اجتاحت فرنسا عام 1789 م، حيث أبدعها المفكّر الفرنسي دستوت دوتراسي[2] الذي تبنّى الفكر التجريبي empiricism متأثّراً بسلفه دي كوندياك، وقد قصد منها علم الأفكار أو الآراء.

الواقع أنّ هذا النمط من العلم الذي يسلّط الضوء على الآراء البشرية حسب المتبنّيات الفكرية لدوتراسي، منبثقٌ من أصولٍ حسّيةٍ تجريبيةٍ، وعلى هذا الأساس شمّر عن ساعديه لاستكشاف متعلّقات القضايا المادّية وبيان حقائقها؛ لذا يمكن القول إنّ الإيديولوجيا وفق هذه الرؤية تناظر في معناها الإبستمولوجيا من إحدى جهاتها.

لقد استهان نابليون بونابرت بمفهوم الإيديولوجيا واعتبره ميداناً لا يخوض غماره سوى أولئك الذين يسخّرون جلّ أوقاتهم لدراسة التصوّرات الفكرية، ولا يعيرون اهتماماً بالشؤون التطبيقية التي لا محيص منها على أرض الواقع، حتّى إنّه وصفهم بالمتماهلين المهملين للحياة العملية بصفتهم مجرّد إيديولوجيين ذوي نزعات دينية لا أكثر.

وأمّا كارل ماركس فقد رفض الرأي القائل بأنّ الإيديولوجيا تناظر الإبستمولوجيا، لذا أكّد أنّ دلالتها تقتصر على مجرّد الوعي بالأمور المرتبطة بها والتفكّر حولها؛ وعلى هذا الأساس عرّفها بأنّها نهجٌ فكريٌّ ينتظم لدى الإنسان على ضوء العلاقات الكائنة بين السلوكين الاجتماعي والسياسي للطبقة الحاكمة بهدف وضع تبريراتٍ للأوضاع الراهنة للمجتمع، ومن ثمّ فهي مجرّد فكرٍ موهومٍ عارٍ من الصواب ولا فائدة منه لكونه يتضمّن سلسلةً من المعتقدات والتوجّهات الفكرية التي يراد منها إضفاء وجهةٍ خاصّةٍ للنشاط الاجتماعي.

في بادئ أُطروحاته الفكرية اعتبر ماركس الإيديولوجيا أمراً سلبياً لا نجاعة منه، لكنّه رأى في موازاة ذلك بأنّها تدلّ على معنىً إيجابيٍّ من حيث كونها سلسلةً من المعتقدات والتوجّهات الفكرية التي لا يُراد منها إضفاء وجهةٍ خاصّةٍ للنشاطات الاجتماعية والسياسية التي تزاولها الطبقة الحاكمة، وبالتالي ستصبح نتائجها إيجابيةً فيما لو أُريد منها بيان وتحليل آراء المنظومة المؤسّساتية المثلى؛ لذا فهي بهذا المعنى أيضاً تدلّ على المعتقدات والأفكار، ولكن في نطاق السلوكيات الاجتماعية المنضوية تحت النشاطات السياسية.

بعد كارل ماركس تطرّق عالم الاجتماع الفرنسي كارل مانهايم إلى البحث والتحليل في غمار هذا الموضوع، حيث اعتبر الإيديولوجيا سلسلةً من الأفكار الناظرة إلى الأوضاع الراهنة في المجتمع، ومن ثمّ صاغ مفهوم المدينة الفاضلة (اليوتوبيا Utopia) الذي قال إنّه يشتمل على المفاهيم التي تنصبّ في خدمة المجتمع والنظام المثالي، لذلك اعتبره مقابلاً لها في الدلالة؛ إلا أنّ هذا الفيلسوف عجز عن تطبيق نظريته هذه بشكلٍ عمليٍّ، لذا بقيت الإيديولوجيا منذ القرن التاسع عشر وإلى يومنا هذا تدلّ على المعتقدات والأفكار والقيم المتبنّاة في المنظومتين الاجتماعية والسياسية، أي إنّها جزءٌ من النشاط الذهني البشري الذي ينصبّ في خدمة السلوك الإنساني بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشرٍ. ولكن على الرغم من ذلك، لا يمكن ادّعاء أنّ النشاط الذهني السياسي في رحاب مفهوم الإيديولوجيا مختصٌّ بالقرن التاسع عشر، بل إنّ جذوره تعود إلى القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين، وهذا الأمر نلمسه جلياً وعلى نطاقٍ واسعٍ في مختلف الآراء والنظريات الفلسفية التي طرحها الفلاسفة إبّان هذين القرنين، إذ إنّ هذه التوجّهات الفكرية تعدّ مصداقاً بيّناً على الدلالة الكامنة في مفهوم الإيديولوجيا ؛ ولا سيّما تلك النظريات التي طرحت من قبل توماس هوبز وهو جوجروتيوس في القرن السابع عشر، إذ بالرغم من اختلاف التوجّهات الفكرية التي يبتبنّاها هذان الفيلسوفان ومع كلّ تلك الجهود الفكرية التي بذلها المنظّرون السياسيون الذين ولجوا في عرصة التنظير في القرن الثامن عشر والذين ارتكزوا في طرح مبانيهم الفكرية على أساس أصول عقلانية من قبيل الحقوق والقوانين الطبيعية التي صيغت في نطاق مبدأ العقد الاجتماعي؛ لكن يمكن القول إنّ كلّ هذه النشاطات الفكرية تعدّ نماذج بارزة في الجهد الإيديولوجي قبل أن يطرح في إطار لفظٍ بهذه الدلالة. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ الثورة الفرنسية تعتبر أهمّ حركةٍ إيدلولوجيةٍ في القرن الثامن عشر حتّى وإن لم تطرح شعاراتها تحت عنوان (إيديولوجيا).

شهد القرن التاسع عشر تحرّكات إيديولوجية واسعة النطاق وقد اختلفت بشكلٍ كبيرٍ عمّا كان مطروحاً في ما سبق، ففي القرنين السابع عشر والثامن عشر غَلَب النهج العقلي التحليلي على الآراء والنظريات السياسية، ورغم أنّ الفيلسوف الألماني إيمانوئيل كانط وجّه نقداً لاذعاً للعقل النظري في القرن الثامن عشر، لكنّه أكّد أهمّية العقل العملي واعتبر أن الأصول والقواعد العقلية العملية التي تطفوعلى السطح في ضوء الاستنتاجات العقلية هي معايير أساسية وضرورية في مجال العمل والتطبيق، ناهيك عن أنّه اعتمد على هذه النظرية لإضفاء اعتبارٍ للعقل النظري.

بعد شيوع الحركة الرومنطيقية في أروقة عالم الفكر السياسي وفي باكورة القرن التاسع عشر تحديداً، ظهرت إيديولوجيات قلّما ارتكزت بشكلٍ أساسيٍّ على الاستنتاجات العقلية البحتة، حيث انصرفت إلى صياغة المنظومة الفكرية ـ الإيديولوجية ـ على ضوء قواعد علمية، ومن جملتها نظريات كارل ماركس الذي رام منها طرح إيديولوجية علمية وأوغست كونت الذي اعتمد على هذا النهج الجديد بغية ترسيخ ركائز النزعة الإنسانية.

السنوات الأولى من القرن العشرين شهدت نزاعات عسكرية وصراعات فكرية محتدمة فظهرت إثر ذلك حركات إيديولوجية متنوّعة في نطاق توجّهات قومية وماركسية وفاشية، لذلك انضوت الخلافات في تلك الآونة ضمن هذه التوجّهات طوال عدّة عقودٍ، وفي عام 1955 م طرح المفكّر الغربي إدوارد شيلز نظرية نهاية الإيديولوجيا، وفي أوائل عقد الستينيات ألّف نظيره (بيل) كتاباً تحت هذا العنوان أيضاً، وبعد ذلك شاع هذا المفهوم طوال عقدين من الزمن وحظي باهتمام الأصوليين والليبراليين من أمثال حنّا آرنت وكارل بوبر وريموند آرون وسيمور مارتن ليبست.

بعد انهيار المعسكر الشرقي اقتربت بداية النهاية للإيديولوجية فظهر إثر ذلك مفكّرون سياسيون يتبنّون نظريات حديثة الولادة وخاضوا في غمار الحياة الاجتماعية السياسية بصفتهم منظّرين جدُداً للعالم الغربي، وعلى هذا الأساس تصدّوا لتفنيد الحركات الإيديولوجية الموروثة بشتّى الوسائل. المفكّران الغربيان ألفين توفلر ويورجن هابرماس هما من أبرز هؤلاء السياسيين الجدُد، حيث أكّدوا أنّ نهاية هذه الظاهرة تعدّ خصيصةً من خصائص الحضارة الحديثة ونتيجةً طبيعيةً لعملية التعقّل التي اجتاحت العالم الغربي المعاصر، كما أنّ المفكّر الياباني فرانسيس فوكوياما الذي طرح نظرية نهاية التأريخ اعتبر الإيديولوجيا عقيمةً لا تثمر عن أيّ شيءٍ يُذكر.

العلاقة بين الدين والإيديولوجيا

المباحث التي تطرّقنا إليها آنفاً هي عبارةٌ عن استعراضٍ موجزٍ لحياة الإيديولوجيا طوال قرنين من الزمن، وتجدر الإشارة هنا إلى أنّها في هذه الفترة قد اتّسمت بميزتين أساسيتين، هما:

الميزة الأولى: كانت مجرّد نشاطٍ ذهنيٍّ.

الميزة الثانية: اختصّت بالنشاط والسلوك الإنسانيين فحسب.

من المؤكّد أنّ هاتين الميزتين لم تذكرا في جميع التعاريفات التي طرحت حول الحركات الإيديولوجية، بل في بعضها فقط؛ ونشير هنا إلى أنّ الميزة الأولى هي الخصّيصة الفارقة لها عن الدين، وأمّا الميزة الثانية فهي تشير إلى عدم اتّحادها مع العلم. إذن، لو اعتبرنا الدين نشاطاً ذهنياً يراد به بيان حقائق الكون والبشر، فلا بدّ لنا حينئذٍ من إدراج المعتقدات الدينية ضمن مفهوم الإيديولوجيا نظراً لدورها الفاعل في الحياة السياسية، وهذا الأمر هو الذي دعا كارل ماركس لاعتبارها مجرّد إيديولوجياتٍ وهميةٍ ظهرت إلى الوجود بهدف تأمين المنافع الاقتصادية للطبقة الحاكمة. ولكن إن اعتبرنا الدين ليس مجرّد هويةٍ ذهنيةٍ أو نزعةٍ عقليةٍ بحتةٍ، وقلنا إنّه عبارةٌ عن معرفةٍ تتحصّل لدى الإنسان بعد موته ولقاء ربّه سبحانه وتعالى، واعتبرناه تشريعاً مستلهماً من وحي السماء لتوسيع نطاق فهم البشرية وإدراك الحقائق الكونية؛ ففي هذه الحالة لا صواب لإدراجه ضمن المفهوم المتعارف للإيديولوجيا. الدين حسب هذا التعريف يأخذ بيد بني آدم نحو السعادة الأزلية ويبشّرهم بتحقّق رؤيا المدينة الفاضلة والمجتمع القدسي، وبطبيعة الحال فهو ناظرٌ إلى السلوكين الفردي والاجتماعي معاً؛ لكنّه يختلف بشكلٍ أساسيٍّ عن الإيديولوجيا من منطلق أنّه يلبّي تلك الأمور المرجوّة منها بشكلٍ أفضل وأنسب وأتمّ في عين كونه حقيقةً مستقلّةً لا تتحصّل عن طريق الحسّ والتجربة أو المعرفة العقلية البشرية كما هي الحال بالنسبة إليها.

القرآن الكريم اعتبر الدين معرفةً حقيقيةً ساميةً لا يبلغ الإنسان كُنهها مهما كان علمه، كما لا يمكنه معرفة تعاليمه التي يقرّها إلا عن طريق الإلهام والوحي الإلهي الذي اختصّ به الأنبياء والمرسلون؛ أي إنّ الدين متقوّمٌ في الحياة الدنيا على بعثة من يختارهم الله تعالى وأساسه تلك الكتب المنزلة عليهم من السماء، ومن جملة الآيات التي أكّدت على هذه الحقيقة قوله تعالى: Nَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوعَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَM [3].

وأمّا السُّنن الموروثة فهي الأخرى إن ترسّخت في المجتمع إثر الممارسة والتكرار لتصبح عادةً متعارفةً، فمن الممكن أن تفسّر على أنّها إيديولوجيةٌ أصوليةٌ ـ راديكالية ـ ولكن إذا ما اعتبرناها منهجاً ناشئاً من باطن الكشف والشهود الديني ومنضوياً تحت مظلّته دون انفكاكٍ، ففي هذه الحالة لا يمكن ادّعاء أنّها تندرج ضمن تعريف مفهوم الإيديولوجيا .

الإيديولوجيا الحديثة على ضوء المثُل الأفلاطونية والفكرة الديكارتية

أحد معاني الفكرة (idee) التي تبنّاها الفيلسوف الغربي رينيه ديكارت قريبٌ في دلالته إلى الدين والسُّنن الموروثة، والمعنى السائد لهذا المصطلح بين الباحثين آنذاك كان يتمحور حول التصوّرات والإدراكات الذهنية وحسب ولا سيّما في الفترة التي تلت القرن السابع عشر الميلادي حينما ظهر تيّاران فلسفيان بريادة رينيه ديكارت وفرنسيس بيكون، وهما تيّار النزعة العقلانية (Rationalism) وتيّار النزعة التجريبية (Empiricism).

الفترة التي انتعش فيها هذان التيّاران الفكريان شاع بين العلماء أنّ الأفكار عبارةٌ عن مفاهيم إدراكية بشرية، في حين أنّ الاختلاف الأساسي بين النزعتين العقلانية والتجريبية يكمن في أنّ أصحاب الحسّ والتجربة اعتبروا الأفكار ناشئةً من الحواسّ الإنسانية في حين أنّ أصحاب العقل أضفوا عليها ماهيةً ذهنيةً وأحجموا عن القول بأنّها ذات طبيعة تجريبية، فقد اعتبرها ديكارت مفاهيم يمكن للعقل إدراكها دون وسائط، وذلك من منطلق اعتقاده بأنّ الشهود العقلي ليس سوى إدراكٍ واضحٍ مستغنٍ عن وساطة المفاهيم الذهنية.

الأنظمة الفكرية الفلسفية التي انبثقت في العالم الغربي منذ عهد رينيه ديكارت واستمرّت حتّى عهد عمانوئيل كانط، هي في الحقيقة انعكاسٌ لنشاطاتٍ ذهنيةٍ نشأت من ذات الأفكار والمفاهيم الإدراكية التي كانت سائدةً طوال هذه الفترة، فالأخير اعتمد على الوجهات الفكرية لسلفه نيكولاس كوبرنيكوس وشكّك بالأنظمة الفلسفية التي كانت سائدةً في تلك الآونة، كما اعتبر إيديولوجية القرنين التاسع عشر والعشرين مدينةً في معناها الاصطلاحي إلى مفهوم الفكرة الذي ساد منذ عهد رينيه ديكارت، فهي اصطلاحاً عبارةٌ عن سلسلةٍ من المفاهيم والمقرّرات المنتظمة والمرتبطة بالنشاطات والأعمال السياسية.

المعنى الآخر للفكرة يضرب بجذوره في عهد الفيلسوفين الإغريقيين أفلاطون وسقراط، فالأوّل لم يعتبرها أمراً مفهومياً، بل قال إنّها حقيقةٌ كلّيةٌ وثابتةٌ تتحصّل لدى الإنسان من خلال تزكية النفس والسلوك والشهود.

الشهود برأي كلٍّ من أفلاطون وأرسطو لا يجعل المفاهيم بديهيةً، وإنّما هو عبارةٌ عن ارتباطٍ وجوديٍّ يسفر عن توسيع نطاق الحقائق الإدراكية لدى السالك. المثُل التي تنطبق مع مفهوم الفكرة، هي النموذج الكلّي المدبّر لجميع الشؤون الطبيعية، أي إنّها ربّ الأرباب حسب تعاليم المدرسة الأفلاطونية؛ وهذه المثُل برمّتها تنضوي تحت مظلّة مثال الخير المطلق.

تجدر الإشارة هنا إلى أنّ المثُل تلهم البشرية رسالتها العامّة في رحاب ظلّها الشامل للحياة والطبيعة بأسرها، وإضافةً إلى ذلك فهي ذات ارتباطٍ وثيقٍ مع أهل السلوك الذين يستلهمون منها التعاليم الأساسية الكفيلة بنظم شؤونهم الشخصية والاجتماعية على حدٍّ سواء؛ وعلى هذا الأساس فقد أعار الحكيم سقراط احتراماً كبيراً لتعاليم آلهة معبد دلفي التي تكفّل الكهنة بإبلاغها لعامّة الناس لدرجة أنّه ضحّى بحياته في نهاية المطاف بهدف ترويجها وإقرارها في المجتمع.

لو ذهبنا إلى القول بتطابق معنى الإيديولوجيا مع الأفكار والمثُل الأفلاطونية والسقراطية، فدلالتها في هذه الحالة تكون قريبةً من دلالة السنن الدينية، إلا أنّ مفكّري القرن التاسع عشر أرادوا منها معنىً آخر يختلف عن الأفكار والمثُل الأفلاطونية من منطلق كونها مجرّد تصوّراتٍ وأوهامٍ.

وكما هو معلومٌ فالمثُل الأفلاطونية تتناغم مع الأفكار من منظار رينيه ديكارت، لذا ليس من الصواب بمكانٍ اعتبارها حقائق عينية ـ حسّية ـ فالفلاسفة التجريبيون ذهبوا إلى القول بكون السنن الدينية مجرّد مفاهيم صيغت في وعاء الذهن البشري بحيث لا تعكس تحوّلاً فكرياً إنسانياً، وعلى هذا الأساس تصوّروا أنّ فلسفة أفلاطون وجميع الأديان والسنن الدينية تجسّد نمطاً من الإيديولوجية البشرية فحسب. ولكن على الرغم من كلّ هذه المزاعم التي روّج لها بعض المنظّرين المحدثين في القرنين الماضيين على نطاقٍ واسعٍ، إلا أنّ المثُل الأفلاطونية وسائر التعاليم الدينية تختلف بالكامل عن الإيديولوجية البشرية، وذلك لكون المبادئ الغيبية لا تتّسم بما جاءت به الفلسفة التجريبية الغربية من إيديولوجياتٍ مادّيةٍ بحتةٍ، فالتعريف الذي يطرحه الدين لنفسه وكذلك المعنى الحقيقي للمثُل التي تحدّث عنها أفلاطون، ليسا مجرّد مفاهيم ذهنية عارية عن الحقائق الملموسة، بل هما وقائع عينية تكتنف حياة البشر في شتّى المجالات ولا يمكن إدراكها إلا عن طريق الكشف والشهود.

الإيديولوجيا والعلم الوضعي

الميزة الأخرى للإيديولوجيا هي أنّها تتضمّن نشاطات ذهنية لا تمتّ بصلةٍ إلى الواقع العملي، فهي ناظرةٌ إلى العلاقة بين الفكر والتطبيق، وحسب بعض التعريفات التي ذكرت للعلم فإنّ جانباً من المفاهيم العلمية ينشأ وينتظم بعيداً عن سلوك الإنسان العملي، بينما هناك تعريفات تؤكّد أنّ نشأة وانتظام جميع المفاهيم العلمية لا يرتبطان بتاتاً بالسلوك العملي البشري.

الفلاسفة العقليون - بغضّ النظر عن إقرارهم أو عدم إقرارهم بحجّية العلم الشهودي وصواب التعريفات التي تطرح فيما وراء العقل - يجرّدون جانباً من الإدراكات المفهومية للذهن البشري من أيّ ارتباطٍ مباشرٍ مع السلوكين الاجتماعي والسياسي في الحياة العامّة، ومن هذا المنطلق اعتبروا بعض العلوم التي تتحصّل بالتجربة والاستقراء - مثل العلوم الطبيعية - وكذلك العلوم الرياضية التي ينالها الإنسان عن طريق القياس البرهاني، بأنّها بعيدةٌ كلّ البعد عن هذه الإدراكات.

ولا شكّ في أنّ الميتافيزيقا أو الفلسفة بمعناها الأخصّ، هي عبارةٌ عن علمٍ تنشأ وتنتظم مفاهيمه وأصوله الاستدلالية في منأى عن المؤثّرات الاجتماعية؛ وإذا ما تحقّق ارتباطٌ على هذا الصعيد فهو بطبيعة الحال غير مباشرٍ وأُحادي الجانب، بمعنى أنّ الميتافيزيقا تتولّى مهمّة وضع الأُسس والأصول الوضعية للعلم على ضوء ارتباطا المباشر مع السلوك الاجتماعي.

العلم الذي يرتبط بشكلٍ مباشرٍ مع النشاطات والسلوكيات الاجتماعية فهو بطبيعة الحال يعدّ جزءاً من العلوم العملية لا النظرية حسب رأي أصحاب النزعة الإيديولوجية، وهو ما أطلقوا عليه علم تدبير المدن أو علم السياسة؛ أي إنّه علمٌ استدلاليٌّ يضرب بجذوره في الميتافيزيقا والفلسفة بمعناها الأخصّ، ومن ناحيةٍ أخرى يكون ناظراً إلى السلوك العملي للإنسان ويشذّبه ليهديه نحو السبيل الأنسب والأصحّ. ويعتقد هؤلاء أيضاً بوجود مفاهيم تكون خاضعةً للتجربة بدل أن تخضع التجربة لها، وهي بالتالي مجرّد أوهامٍ لا تمتّ بأدنى صلةٍ للاستدلالات العقلية، وعلى الرغم من ارتباطها بالسلوك الاجتماعي إلا أنّها ليست علميةً.

العلم وفق تعريف أصحاب المذهب الوضعي عبارةٌ عن مضمارٍ من الذهن البشري يقابل مضمار المفاهيم الإيديولوجية لدرجة أنّه يتباين معها؛ ومن هذا المنطلق فالعلم المثالي الأصيل القابل للتجربة قد قطع ارتباطه بجميع التجارب العملية للعلماء ويمكن من خلاله استكشاف الحقائق العينية الحسّية دون الحاجة إلى أدنى معرفةٍ مسبقةٍ؛ لذا فهو مختلفٌ عن مفهوم الإيديولوجيا وعلى هذا الأساس نتوصّل إلى نتيجةٍ فحواها عدم وجود أيّ مفهومٍ علميٍّ إيديولوجيٍّ، والعكس صحيحٌ، أي إنّ انطباق مفهوم العلم عليها ثمرته وجود مفاهيم علمية إيديولوجية.

الإيديولوجيا والعقل

تطرّقنا في المباحث الآنفة الذكر إلى بيان مقدّمتين أساسيتين، إحداهما تمحورت حول تعريفالإيدييولوجيا وتضمّنت مباحث حول نشأة هذه الكلمة وفترتي انتعاشها وركودها، والأخرى جرى تسليط الضوء فيها على اختلافها عن الدين وكيفية ارتباطها بالعلم.

في هذا المبحث سوف نتطرّق إلى شرح وتحليلها علاقة الإيديولوجيا بالعقل وتحليلها لكي نتعرّف إلى السرّ في انتعاش هذه النزعة خلال فترةٍ من الزمن ومن ثمّ ركودها، وذلك على أساس أنّها لا تكون ناجعةً ومتناميةً إلا خلال فترةٍ زمنيةٍ محدّدةٍ من تأريخ الفكر والمعرفة، لذا فهي لا تدوم طويلاً وإنّما سرعان ما تؤول إلى الأفول والزوال.

ما دام العلم يتّسم بصبغةٍ دينيةٍ فهو جزءٌ لا يتجزّأ من الدين الذي يجسّد معرفةً إلهيةً لا ينالها البشر إلا عن طريق الكشف والشهود المتقوّمين على مبادئ الوحي السماوي، وكذلك ما دامت المثُل الأفلاطونية تتّسم بأحقّيةٍ واعتبارٍ، فالسلوك العملي الفردي والاجتماعي للإنسان لا بدّ وأن ينتظم في ظلّ سنن منبثقة من تعاليم سماوية وحقائق كونية، وهذه السُّنن بدورها ترشد الإنسان إلى السبيل الذي يوصله إلى معرفة الحقائق الكونية.

على الرغم من أنّ علم الفلسفة منذ عهد الفيلسوف أرسطو انصرف إلى بيان ماهية المفاهيم الذهنية ومن ثمّ توضيح الحقائق الكونية على أساسها، إلا أنّه يؤكّد شمول الحقائق العقلية للقضايا الطبيعية والعقول الجزئية للبشر، وعلى هذا الأساس يبقى هذا الفكر محتفظاً بسنخيته مع نظرية أفلاطون وسائر التعاليم الدينية. وقد اعتمد الفلاسفة المسلمون والمفكّرون المسيحيون على هذا التعريف لإثبات صحّة التعاليم الدينية.

ما دام العقل المفهومي يخوض في فلك الشهود، فهو مثالٌ للعقل العيني الظريف والبيئة العقلية وكأنّه نبيٌّ باطنيٌّ وظاهرٌ في ذات الحين، وفي هذه الحالة لا يمكن اعتبار العقل سبيلاً قاصياً عن الدين والسُّنن الموروثة، بل هو سبيلٌ كامنٌ في ذات الدين وهوّيته.

إذن، الاستدلالات العقلية المستقلّة هي بحكم الحجج والسنن الدينية، بينما الجهد العقلي لاستكشاف مضمون المفاهيم التي يجري تناقلها، هو مثل المصباح الذي ينير طريق المعرفة والإدراك؛ وعلى هذا الأساس فالنتائج التي نستشفّها من العقل والأحكام لها ارتباطٌ بجانبها العملي، وبالتالي فهي سنخٌ من الإيديولوجيا البشرية في عين احتفاظها بخصائصها الانتقادية الفاعلة وقدسيّتها.

الإيديولوجيا تتجلّى بمعناها الاصطلاحي في الحياة البشرية حينما تفتقد الفكرة لطابعها العيني - الخارجي - وكذلك عندما يعجز العقل عن استكشاف الحقائق الشهودية بحيث تقتصر نشاطاته الاستدلالية على المباني المفهومية فحسب؛ أي إنها في هذه الحالة ليس له قابلية التصدّي لمهمّة كشف السُّنن الدينية المقدّسة، بل يدور في فلك القوانين الطبيعية والأعراف الاجتماعية التي يبلغ الإنسان واقعها من خلال التأمّل في طبيعته الإنسانية بعيداً عن خصاله القدسية الكامنة في باطنه. ويمكن القول إنّ هذا الرأي هو حصيلةٌ لجميع المساعي التي بذلت في القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين لطرح تفسيرٍ حديثٍ للحياة الاجتماعية، وثمرةٌ بجميع التيّارات الفكرية التي تضرب بجذورها في الثورة الفرنسية، فالمفكّرون الذين اجتاحوا الساحة الفكرية إبّان هذين القرنين اللذين طغت عليهما نزعتا التنوير الفكري والعقلانية الحديثة، كانوا يعرفون حقّ المعرفة بأنّ فاعلياتهم الاستدلالية لا تمتّ بأدنى صلةٍ لمساعي القدّيسين ورجال الدين التي راموا منها توجيه المجتمع نحو متبنّياتهم الفكرية الخاصّة، بل إنّها عبارةٌ عن جهودٍ يُراد منها ترميم الحياة الاجتماعية لأجل تهميش الأساليب الدينية والتقليدية الموروثة من السلف.

على الرغم من أنّ مفكّري علم الاجتماع في القرنين المذكورين اعتبروا ثمرة جهودهم الفكرية نائيةً عن مفهوم الإيديولوجيا، لكنّها في الحقيقة تجسّد فعاليات ذهنية ناظرة إلى السلوكيات الاجتماعية التي كانت سائدةً في عصرهم.

نشاطات الحركات الإيديولوجية

الفكر السياسي في القرنين السابع عشر والثامن عشر طغت عليه ميزتان أساسيتان:

الميزة الأولى: اتّصافه بطابعٍ عقلانيٍّ.

الميزة الثانية: انضواؤه تحت مظلّةٍ علميةٍ.

هاتان الميزتان كانتا المحور الأساسي لنشاطات جميع الحركات الإيديولوجية، وبطبيعة الحال فإنّ الجمع بينهما يعني الجمع بين العلم والعقل، وعلى هذا الأساس فالعلم آنذاك اتّصف بصبغةٍ عقلانيةٍ وافتقد هويّته الدينية وطبيعته الماورائية؛ وأمّا الأفكار فلم تكن سوى مفاهيم ذهنية.

من المؤكّد أنّ العلم العقلي حتّى وإن قطع ارتباطه مع الدين والعلوم القدسية، فهو يبقى محتفظاً بقدرته على بتّ الأمور واتّخاذ القرار المناسب بالنسبة إلى المفاهيم العلمية؛ وعقل الإنسان على ضوء معرفته بالأبعاد الوجودية للإنسان يمكن تقسيمه ضمن نوعين، أحدهما نظري والآخر عملي؛ فالأوّل يمثّل جانباً من الأحكام العقلانية الخارجة عن النطاق العملي في حياة الإنسان، وأمّا الثاني فهو عبارةٌ عن تلك الأحكام المرتبطة بالعمل والسلوك.

حينما يفتقد العلم صبغته الدينية فحينئذٍ لا تبقى للتعاليم والسنن الدينية أيّ قيمةٍ تُذكر ولا تعُد معتبرةً بعد ذلك، وهذا هو السبب الذي أدّى إلى إعراض العقلانية عن ماضيها وجذورها الدينية وسعيها في أوّل فرصةٍ إلى أن تملأ هذا الفراغ بالاعتماد على النشاطات الفكرية السياسية، وثمرة هذه الظاهرة أنّ العقل العملي حظي بمقامٍ سامٍ بعد عصر النهضة والحداثة ليواصل حياته خارج نطاق العقل النظري. الأفكار التي طرحت آنذاك لتفسير ماهية الحياة البشرية ارتكزت بشكلٍ أساسيٍّ على تعاليم العقل العملي، حيث استدلّ أصحابها على صوابها وبطلان ما يتعارض معها في رحاب العلم الحصولي الأمر الذي أدى إلى انتعاش النقاشات والمحاضرات الإيديولوجية إلى أقصى حدٍّ ممكنٍ، وبالطبع فإنّ هذه الظاهرة تذكّر بما فعله علماء الدين في الفترة التي سبقت تلك الآونة.

الفيلسوف اليهودي باروخ سبينوزا أرسى دعائم منظومةٍ أخلاقيةٍ تتّسم بميزاتٍ خاصّةٍ متقوّمةٍ على أسلوبٍ هندسيٍّ، بينما الفيلسوف فيلهيلم لايبنتز ذهب إلى أبعد من ذلك، فعندما طُلب منه أن يدلي برأيه حول الرجل الأنسب لتولّي منصب الحكم في بولندا من بين عدّة أشخاصٍ، دوّن مقالةً ليثبت فيها أنّ الأرجحية لمرشّحي أحد التيّارات الفكرية على اساس براهين صورية، وتلاه تلميذه كرستيان وولف الذي حذا حذوه ومن ثمّ بادر إلى تأليف أوّل كتابٍ دراسيٍّ حول القانون الطبيعي بأسلوب الرياضيات البحتة[4].

المجتمع المدني بتفسيرٍ إيديولوجي

هناك مسألةٌ لا يخلو ذكرها من فائدةٍ في بحثنا الراهن، وفحواها بشكلٍ عامٍّ أنّ التعابير الإيديولوجية التي شاعت في القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين سلّطت الضوء على النظامين الاجتماعي والحكومي في رحاب تفاسير طبيعية بحتة متقوّمة على أساس مبادئ العقد الاجتماعي، لذلك افتقرت الإيديولوجيا التي شاعت في ذينك القرنين لجميع الأصول الدينية ولم تتّصف بأيّ صبغةٍ دينيةٍ تزامناً مع اتّساع نطاقها وشيوع مبادئها في العالم الغربي، وهذا الأمر يعتبر نتيجةً طبيعيةً لإقرار القوانين الوضعية وصياغة النظامين الاجتماعي والسياسي على أساس هوية الإنسان المادّية وحرّيته السلوكية فحسب في عين تجاهل فطرته الدينية، لذا يصبح من العسير بمكانٍ وضع تعريفٍ عقليٍّ متقنٍ للأنظمة التي تمخّضت عنها هذه النزعة الفكرية الحديثة. نعم، لقد تجاهلت الإيديولوجيا في تلك الآونة قدسية الأحكام والقوانين التي جاءت بها الأديان كما أنّها لم تعر الجانب الغيبي والملكوتي في السلوك البشري أهمية رغم أنّه البوّابة الأساسية التي يلج العقل من خلالها في المعرفة الربوبية والعلوم الدينية السامية؛ وقد وصف المفكّر الغربي إرنست كاسیرر هذه الظاهرة الفكرية التي عصفت بالمجتمعات الغربية قائلاً: «... السرّ المكنون في نشأة الحكومة يزول ولا يبقى له أثرٌ، لأنّ العقد لا يضمّ في طيّاته أيّ سرٍّ خفيٍّ». وهذا الكلام صائبٌ حقّاً، إذ إنّ جميع العقود الاجتماعية في القرنين المذكورين قد استندت في أساسها إلى مبادئ العقل المفهومي التي كانت شائعةً آنذاك، لذا فهي لا تتضمّن أيّ سرٍّ في باطنها، ومن ثمّ لا تبقى هناك حاجةٌ للّجوء إلى الغيب والوحي بغية معرفة حقائقها.

لا شكّ في أنّ تجاهل عالم القدس والملكوت ينجم عنه زوال بركات النور الإلهي من روح ووجود المجتمع البشري، ناهيك عن أنّه يزعزع كلّ دعائم المدينة الدينية الفاضلة ولا يبقي لها أيّ مصدرٍ تستمدّ حياتها منه، وبالتالي يمسي المجتمع المدني Civil Society مجرّداً عن السنن والشرائع ويستقطب المنظّرين السياسيين نحوه على ضوء مباني عقلية بحتة.

الفائدة من معرفة ماهية الإيديولوجيا

حينما تنأى العقلانية بنفسها عن المعرفة الشهودية فسوف تقيّد نفسها في دائرة المفاهيم والمدركات الذهنية الضيّقة وتؤول إلى السقوط والأُفول بعد تجرّدها عن جذورها الأصيلة وقيمتها الحقيقية؛ وإثر ذلك تمسي عاجزةً عن تفسير نفسها وتبرير استدلالاتها، وهذا هو السبب في عدم دوامها أكثر من قرنين، بل يمكن القول إنّ بوادر اضمحلالها قد ظهرت في أواخر القرن الثامن عشر، ففي هذه الفترة أكّد إيمانوئيل كانط عدم أصالة العقل الإنساني في ظلّ إنكار حقيقة الشهود العقلي.

بعد تجاهل مكانة العقل البشري من قبل الفلاسفة الغربيين، خسر العلم مأواه الثاني، وأمّا مأواه الأوّل فهو يتمثّل بالوعي الديني الناشئ من مكنون العلم الإلهي الذي يزدهر في حياة البشرية بواسطة السُّنن والآداب الدينية. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ المعرفة العقلية هي الأخرى تضرب بجذورها في العلوم الدينية، لذلك حينما استئصلت هذه الجذور انحدرت بسرعةٍ فائقةٍ في هاوية الأُفول والاضمحلال.

العقلانية في فترة إدبارها عن التديّن حاولت إيجاد بديلٍ للمجتمع والسنن الدينية في إطار حقوقٍ طبيعيةٍ وعلمانيةٍ بشريةٍ، واستتبع هذه الفترة عهدٌ شهد انتعاشاً لنشاطاتٍ عقليةٍ صرفةٍ دامت حتّى انطلاق الثورة الفرنسية، وآنذاك بدأت العقلانية تؤول إلى الأُفول ليخرج العلم من أُطره العقلية ومن ثمّ افتقدت الصراعات الإيديولوجية مكانتها العلمية ما أثار شكوكاً حولها، وحينها عاد الناس إلى رشدهم ليتساءلوا عن حقيقة أمرٍ فرض نفسه على مجتمعاتهم طوال قرنين من الزمن؛ أي إنّهم أدركوا جهلهم بحقيقة الإيديولوجيا لذلك بدؤوا يبحثون عن تفسيرٍ مقبولٍ لها، ومن هذا المنطلق شهد القرن التاسع عشر نقاشات محتدمة حول ماهيتها، وفيه وضع لفظها المتعارف اليوم ليصبح عبارةً مختصرةً تدلّ على الآراء المرتبطة بأعمال البشر.

الإيديولوجيات العلمية في القرن التاسع عشر

رغم كلّ تلك التساؤلات الجادّة التي طرحت حول ماهية الإيديولوجيا إبّان القرن التاسع عشر، لكنّ بعضهم لم ينفكّ عن السعي لطرح تفسيرات لها على أساس تصوّراتٍ معيّنةٍ بهدف إيجاد بديلٍ ناجعٍ لها، وعلى ضوء ذلك ظهر تيّاران فكريّان بسطا نفوذهما على الساحة الفكرية في شتّى المجتمعات، وهما:

التيّار الأوّل: تصدّى أصحاب هذا التيّار الفكري إلى الدفاع عن الإيديولوجيا علمياً رغم قيامه بتجريد العلم من الأصول العقلية المعتمدة في الاستدلال، أي أنّهم دافعوا عن نمطٍ من الإيديولوجيا العلمية.

العلم برأي هؤلاء لا يتّسم بميزةٍ عقليةٍ، بل إنّه مجرّد معرفةٍ متقوّمةٍ على الحسّ والتجربة، وبالتالي فهو أمرٌ تجريبيٌّ بحتٌ، والفيلسوف الغربي أوجست كونط يعدّ أبرز المفكّرين الذين نظّروا لهذا التيّار، حيث بادر مع أقرانه في القرن التاسع عشر إلى وضع أُسس إيديولوجيةٍ علميةٍ؛ وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ آراء هؤلاء العلماء قد انبثقت من المنظومة العقلية التي ورثوها من السلف، لأنّ العلم التجريبي بحدّ ذاته عاجزٌ عن طرح أيّ نمطٍ إيديولوجيٍّ، وعلى هذا الأساس طرحوا مفاهيم فكرية تجريبية وصاغوا قيماً واسعة النطاق إلى جانب تأكيدهم بعض المفاهيم الميتافيزيقية والقضايا التي تنضوي في فلك الحقائق الوجودية التي لا يمكن إثباتها بواسطة العلم التجريبي الحديث.

لا يختلف اثنان في عجز العلم التجريبي عن البتّ في حقائق القيم والمفاهيم المبدئية والمعنوية، وهذه الحقيقة أكّدها الفيلسوف البريطاني ديفيد هيوم الذي اتّبع سبيلاً فكرياً تجريبياً إبّان القرن الثامن عشر، إلا أنّ معظم فلاسفة القرن التاسع عشر ومفكّريه لم يكترثوا بها بعد أن فنّدوا العلوم الدينية والعقلية وانخرطوا في فلك العلم التجريبي البحت، إذ إنّهم اعتمدوا على نزعتهم الفكرية هذه لتحقيق النتائج التي توصّل إليها أسلافهم المنظّرون في القرنين السابع عشر والثامن عشر في رحاب العلوم العقلية نفسها ولهذا السبب وُصف القرن التاسع عشر بأنّه قرن نشأة المدارس الفكرية الحديثة والإيديولوجيات العلمية بمختلف أنماطها، إلا أنّ كلّ هذه الجهود الفكرية تمخّض عنها إهمال العقل وتهميش قواعده الأصيلة الأمر الذي أدّى إلى عقمها وقصر عمرها، فالعلم التجريبي بحدّ ذاته أدنى شأناً من يزوّدها بالمبادئ الأساسية التي لا يمكن التغاضي عنها مطلقاً في الاستدلال العلمي الصائب. لذا، اعتبر العقد الأخير من هذا القرن بأنّه عهد أُفول الإيديولوجيات العلمية.

التيّار الثاني: حاول أتباع هذا التيّار إيجاد بديلٍ مناسبٍ للإيديولوجيات العقلية بعد أن أعرض سلفهم عن الأصول المتبنّاة في العلوم العقلية، حيث أدركوا عقم العلم التجريبي وعجزه عن تحقيق المبتغى؛ وقد تجلّت هذه الحركة الفكرية بأجلى صورها في رحاب الحركات الرومنطيقية التي اجتاحت الساحة الفكرية الألمانية في تلك الآونة.

الدفاع غير العلمي عن الإيديولوجيا على ضوء المفاهيم الرومنطيقية

لا ريب في أنّ تزعزع الأركان العقلانية الإيديولوجية لا نتيجة له سوى زوال استقرار جميع أنماط الإيديولوجيا لكون العلم التجريبي حينما يفقتد هويّته العقلية يمسي عاجزاً عن مدّ يد العون بجميع هذه الأنماط؛ ومن هذا المنطلق شرع الرمنطيقيون بحركةٍ جديدةٍ على ضوء الدين وتراث السلف، حيث تبنّوا الحقائق الكونية التي يعجز العقل عن إدراك كُنهها ومجّدوا السُّنن الدينية الموروثة التي انتعشت بين أسلافهم في العهود السابقة، أي إنّهم لم يبتدعوا أيَّ سنّةٍ جديدةٍ، بل إنّ ثمرة مساعيهم الفكرية تمحورت حول إضافة بعض المصطلحات المبتدعة والإيديولوجيات الجديدة.

إنجازات الرومنطيقيين لا تتعدّى كونها أفكاراً وتصوّراتٍ ذهنيةً جديدةً تجلّت في رحاب مصلطاتٍ صيغت ضمن إطار مصادر لفظية صناعية مثل القومية، وهذه الأطروحات الحديثة في تلك الآونة لم تتقوّم على أُسس عقلية متقنة وبالتالي فقد اعتُبرت بدائل هشّة للمثُل الأفلاطونية والآلهة الأسطورية؛ فهي مجرّد تصوّرات صاغتها أذهان الشعراء والأدباء، لذلك اتّسمت بطلاوةٍ وعذوبةٍ إثر انضوائها تحت مظلّة الدين والأعراف الموروثة من السلف ومن ثمّ لم تذهب إلى أبعد من نطاق التنظيرات الإيديولوجية البحتة.

من المؤكّد أنّ العقل حينما يتنصّل من الدين والسُّنن الموروثة فلا مناص له من الخوض في فلكٍ آخر بعيدٍ غاية البُعد عن جذوره الأصيلة، وكذا هي الحال بالنسبة إلى السُّنن، فهي تتهمّش وتبتعد عن محتواها عندما تتخلّى عن العقل الذي هو في الحقيقة نبراسٌ يهدي البشرية نحوها كما أنّه المعيار الذي يميّزها عن البدع. إذن، العقل هو الذي يأخذ بيد السالك لبلوغ درجة الشهود الباطني، وهو كذلك يشذّب سلوك الإنسان بصفته حجّةً باطنيةً؛ لذا إن تجاهلناه فسوف نخسر كلّ شيءٍ وبما في ذلك الحجج الظاهرة الجلية. من المؤكّد أنّ محاولة بلوغ درجة الشهود الباطني من أجل معرفة الحقائق، لا تتسنّى إلا بالاعتماد على العقل واتّباع إرشاداته وتوجيهاته، لذا إن أُعرض عنه سوف لا تبقى لدى الذهن البشري سوى تصوّراتٍ وأوهامٍ في عين عجزه عن إدراك كُنه الحقّ والفناء في ذات الله عزّ وجلّ؛ فالسالك الحقيقي هو من يُدرك كُنه الحقّ ويسلك في الصفات الربوبية فيعرف معانيها، وهذه الخصّيصة الفريدة امتاز بها أشرف عباد الله تعالى وأطهرهم، لذلك بعثوا كأنبياء ومبشّرين بالخير والفلاح لبني آدم قاطبةً.

الحقيقة التي لا ينكرها أحدٌ هي أنّ الرومنطيقيين لم يتمكّنوا من إحياء السُّنن التي ورثها المجتمع من السلف، إذ غاية ما فعلوه هو طرح أساليب مشابهة لما تبنّاه أقرانهم في القرن التاسع عشر حينما روّجوا لإيديولوجيات علمية أعادت الحياة للحركات الإيديولوجية التي انبثقت في القرنين السابع عشر والثامن عشر.

لقد افتقدت الإيديولوجيا أصولها التي تقوّمت عليها إثر زوال العقلانية وتهميش مبادئها، لذلك بذل أتباع المذهب الوضعي قصارى جهودهم للحؤول دون اضمحلال متبنّياتهم الإيديولوجية فسخّروا العلم كوسيلةٍ تنتشل متبنّياتهم الفكرية من الزوال بينما اتّبع الرومنطيقيون أسلوباً مشابها بالاعتماد على السُّنن الموروثة، ولكنّ زوال العقلانية تسبّب بضياع هذه السُّنن، بل تهميش أهمّ آثار العلم.

لا شكّ في أنّ العلم عندما يتجرّد من هويّته العقلانية سوف لا يبقى منه سوى سفسطةٍ لا طائل منها، حتّى إن تنزّلنا وقلنا إنّه يحتفظ بماهيته العلمية، فهو في الحقيقة يبقى عقيماً ولا قدرة له على الدفاع عن الإيديولوجيا .

خلاصة البحث

خلاصة ما ذكر هي أنّ الإيديولوجيا التي تعني الذهنية العملية ليست سوى مصطلحٍ حديثٍ ظهر إلى الوجود في القرن التاسع عشر، ولا يتّضح هذا المعنى الاصطلاحي إلا على ضوء العقلانية التي تجاهلت التعاليم الدينية التي ظهرت بعد زوال العلوم الدينية والسُّنن الموروثة؛ وبطبيعة الحال حينما تزول هذه العقلانية التي تقوم على أصولٍ هشّةٍ سوف لا يبقى للإيديولوجيا وجودٌ يُذكر ولا تعُد مضماراً للنشاط والإبداع.

------------------------------

حميد بارسانيا : مفكر من إيران واستاذ علم الاجتماع في جامعة طهران.ـ

- ترجمة: أسعد مندي الكعبي.

[2]- إرنست كاسیرر، افسانه دولت (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية: نجف دریا بندرى، الطبعة الأولى، منشورات الخوارزمي، طهران، 1983 م (1362 هـ ش)، ص 211.

[3]- سورة البقرة، الآية 151.

[4] - المصدر السابق، ص 220.