البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

عصر « ما بعد الإيديولوجيا » ( مدخل إلى مواجهة الأوهام )

الباحث :  مايكل فريدن Michael Freeden
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  6
السنة :  السنة الثانية - شتاء 2017 م / 1438 هـ
تاريخ إضافة البحث :  February / 6 / 2017
عدد زيارات البحث :  1762
تحميل  ( 323.517 KB )
ألا يوجد مكان يفرّ إليه طلابالإيديولوجيا، حتى عندما يكونون في إجازة؟

بهذه العبارات يستهل الباحث البريطاني مايكل فريدن محاضرته التي شارك فيها ضمن إطار المؤتمر العلمي الذي انعقد في أبسالا بالسويد في 13/7/2004 تحت عنوان: «عصر ما بعد الإيديولوجيا». أما سبب هذا الاستهلال فيعود إلى فقرة قرأها فريدن خلال رحلة جوية للطيران الاسباني وردت في المجلة الاسبانية (Iberia Magazine) وفيها ما يأتي: «إن الإيديولوجيات في مطلع القرن الحادي والعشرين تتراجع، ويبدو أن المستقبل يبشّر بالبراغماتية...»[1]

في ما يلي نص المحاضرة :

المحرر


عندما تنتهي الإيديولوجيا يعود الحكماء الإلهيون إلى الطرقات، أو في هذه الحالة، إلى السماء، يجولون منقسمين بين التفكير والفعل، أو بدقّة أكثر، بين المثالية المكبوتة ونفعية التجربة والخطأ. فأين تقفالإيدييولوجيات في بداية القرن الحادي والعشرين، وأين يقف البحث فيها؟ وما معنى أن لا يكون هذا العصر عصر ما بعد الإيديولوجيا ؟ ولماذا يمكننا برهنة استحالة عصور ما بعد الإيديولوجيا بالضبط كما نبرهن استحالة وجود عصور ما بعد السياسة؟ وكيف يمكننا أن نوضح أن الإيديولوجيات ليست تصورات لعوالم بديلة، مغرية أو مرعبة، بل هي تفسيراً خيالياً للعوالم السياسية التي نعايشها حتى عندما نكون من نقّاد هذه العوالم؟ وكيف يمكننا أن نؤكّد بدرجة كافية أن للإنسان الحاس والعاقل دائماً تفسير خيالي للعالم السياسي على كل مستوى من مستويات تطوّره؟ ببساطة نقول: للأسف، إن الشخص اللاَّ إيديولوجي، لم يعد موجوداً.

استمرار « الانتهائية» كنتيجة لسوء الإدراك

يبدو في غاية الوضوح أننا نواجه طوراً إيديولوجياً، يتمثّل بأن شيئاً ما يحصل للإيديولوجيات التي تخترق بيئاتنا السياسية، وأن الحاجة باتت ملحّة لوجود طور مواز من الدراسات العلمية للإيديولوجيات. لكنني أريد التأكيد هنا أن هذه الطريقة تشكّل واحدة من الطرائق الملائمة لمقاربة المسألة. و يمكن أن يكون العكس، أي أن نختبر طوراً في تحليل الإيديولوجيات يمكن أن يرشدنا إلى معرفة ما هي الإيديولوجيات، وأين نجدها، وكيف نتعرّف إليها. لقد فهمنا من خلال القرن العشرين، أن الإيديولوجيات هي تقاليد بيّنة وراسخة أتت إلينا معلّبة بإتقان، وأنها تحمل عناوين مثل المحافظة والاشتراكية والقومية. وقد فاقم فلاسفة السياسة هذه الرؤية المحدّدة بدقّة من خلال تشكيلها كنماذج مثالية، وفضّلوها على المقاصد الفلسفية - كما كان مثلاً مصير الليبرالية في القرن العشرين التي تتباين ظاهرياً وخطأً مع نُظُم طائفية، وتنتزع سلطتها بشكل مهين من خلال الادعاء أنها محايدة فعلاً، ويجري تحييدها من خلال إزالة ما فيها من قوّة عاطفية وأولويات قيمية. هذا إضافةً إلى أن التراث الماركسي في تحليل الإيديولوجيا كانت له سيطرة ملحوظة ومؤذية – تتواصل في الخيالات العلمية، التي أضافت إلى فهمها الموحّد للإيديولوجيات نظرية تفيد أن الإيديولوجيات لا تصلح إلا لشيء واحد فقط ـ هو النقد الإيديولوجي الذي سيفجّر بالون الهواء الساخن الذي شوّه قدرتنا على رؤية العالم الاشتراكي بشكل واضح. في المراحل الأولى من ذلك التراث، كان اكتشاف أو كشف النقاب عن الإيديولوجيا يشكّل الخطوة الضرورية نحو إبطالها. ورغم أن المثقّفين الماركسيين المتأخرين تعوّدوا استمرار الإيديولوجيا إلا أنهم استصعبوا التخلّي عن أحاديّتها. وقد أفرزت التجربة التي خاضها القرن العشرون مع الإيديولوجيات الشمولية لليمين واليسار، إيديولوجيات مثل الأنظمة التي تسعى للسيطرة على كل شيء أو لا شيء الممتدة إلى كل الفضاء الشخصي المتوافر، في حين أنها كبتت القيم والممارسات التي ينبغي أن تنتجها الأنظمة السياسية المناسبة.

مع ذلك كلما ابتعدنا زمنياً عن النصف الأول من القرن العشرين، يزداد ظهور الفاشية والنازية والشيوعية الستالينية كانحراف إيديولوجي، وكاستثناءات عن المعيار الذي يحدّد ماهية الإيديولوجيات. وفعلاً حتى المواصفات التي وردت لا تجتاز دائماً الامتحان الدقيق، ولا عندما تتعرّض هذه الإيديولوجيات الدوغمائية المغلقة ظاهرياً لفحص أدق، لأنها أظهرت معارضة ومركز تغيرات مختلفة جداً. لكن ثمّة عادة شائعة جداً وهي الإشارة إلى « الإيديولوجيا السياسية» وكأن السياسيات غير الإيديولوجية كانت المعيار الموجود أو الظرف المرغوب جداً. لكن الحقيقة الصادمة جداً حول طريقة تعاملنا مع الإيديولوجيات المعاصرة، هي انخراط بعض الأكاديميين في تطوير منهجيات جديدة تهدف للاستجابة للتغيرات التي تخضع لها الإيديولوجيات. وهناك مزيد من الأبحاث حول قياس المواقف والآراء. ثم إن هناك خطاً راسخاً في النقاش الذي يميّز الأحزاب السياسية حتى الحركات السياسية كمجال وحيد للنشاط الإيديولوجي. وهناك أيضا ًمواظبة ناشطة بين الماركسيين السابقين الذين يتابعون على أساس تقليدي إماطة اللثام عن الأوهام التي ترعاها الإيديولوجيات وتفصيل الصيغ التي ننظّم من خلالها فهمنا للعالم. كل هذا كان جيداً وجميلاً، لكنه لا يشكّل كل القصة على الإطلاق وربّما لا يشكّل القصة المهمّة. إذ على فرض أن الإيديولوجيات تخضع لتعديلات معتبرة وتتّخذ أشكالاً متحوّلة، فكيف نحدّد هذه التغيّرات؟ وما هي الأسئلة التي يجب علينا طرحها لكي نستنبط مزيداً من المعلومات النافعة؟ وما هو الذي نفشل في تحديده؟ وكيف يمكننا الربط الأفضل بين دراسة الإيديولوجيات ودراسة السياسة بشكل أعم؟

لكي نبدأ، علينا أن نضع نظريتين متنافستين جانباً. الأولى، أن الإيديولوجيات ـ للمرة الثانية، وعلى نحو غريب، خلال خمسين عاماً ـ لم تعد موجودة. والثانية، أن إيديولوجية واحدة، هي الليبرالية، تغلّبت على غيرها من الإيديولوجيات. الأول، الرؤية الألفية millenarian تعاني ضعفاً في صياغة مفهوم الإيديولوجيات التي تجعل كل الإيديولوجيات محجوبة، باستثناء ما هو نظري وشديد التماسك. هذا بالطبع يساعد على نحو مفيد إلهامات معظم الإيديولوجيات على بلوغ منزلة «طبيعية». يجب على أنصار الإيديولوجيا الملتزمين أن يرحّبوا بانتهاء أسطورة الإيديولوجيا ـ فهذا يجعل عملهم أسهل بكثير من خلال إنعاش وهمٍ يمكن في ظلّه أن يكملوا التبشير بعقيدتهم.

النظرية الثانية تعاني وجهة نظر غائية، ومن إيمان بدول مثالية معروضة بشكل نموذجي في اليوتوبيات، لا الإيديولوجيات. فإذا كانت الليبرالية منتصرة فعلاً، وإذا كانت هي بطل العالم بلا منازع، إذاً فهي أندر الأشياء على الإطلاق لأنها يوتوبيا متحقّقة. إذ هناك منهجان يمكن الزعم من خلالهما أن اليوتوبيات ممكنة التحقّق. يمكن إيجاد واحد منهما فعلاً في فصيلة الليبراليات، إنه ميدان الليبرالية الفلسفية. حيث يؤمن الفلاسفة الليبراليون، تماماً بالتقاء عقلي لأعضاء المجتمع على نقطة أخلاقية متّفق عليها، وهي التي يعتبرونها عادة متاخمة لليبرالية – هي ليبرالية تسيطر فيها الحرية والعدالة والإنصاف. هذا الالتقاء هو نتيجة لدراسة الاحتكام العقلي للحدوسات غير المرهونة. حيث تُثبت القواعد الأساسية لواحد منها وتجري إزالة الباقي من الأجندة السياسية.

أمّا النوع الآخر من اليوتوبيا «العملية»، هو الماركسية، التي تفترض أممية مشروطة، وتبعات انتشار وجهة نظر وربما حقيقة اجتماعية، عبر المكان، إنها تهزم المقاومة الإيديولوجية التي في الطريق، حتى تخضِع العالم في النهاية. ذلك أن النصر الظاهري لليبرالية في نهاية القرن العشرين يجب أن ينتمي إلى هذه المقولة الثانية من الشمولية من خلال الصراع، (لا من خلال الضرورة المنطقية) لأن المقولة الأولى لا تقدّم بارقة أمل لممارسي السياسة، عندما تصف نفسها بأنها تحتل أرضاً فلسفية محايدة. لكن الحديث عن أرض سياسية محايدة تناقض في التعبير. لأن الأرض السياسية المحايدة منطقة خارج السياسة، بقدر اهتمام السياسة بالسلطة، والمعتقد، وإدارة الخلاف، وحشد الدعم، ومحاولات تكوين آراء سياسية خاصة. فأن تكون محايداً تجاه كل هذا أو أي جانب منه هو شكل مجرّد من أشكال رفض الحياة الاجتماعية. وبالتالي فإن هذا النموذج من اليوتبيات يقع خارج الزمان والمكان. وبوصفه تجربة فكرية قد يخدع الفلاسفة أو الأدباء والنساء. لكن لا علاقة له بعالم السياسة.

الحقيقة هي بالضبط كما في خمسينيات القرن العشرين وستينياته، عندما برزت مواقف إيديولوجية جديدة تمّ الإعلان عن استحالتها، وهكذا جرى إبطال مسألة النوع الثاني من اليوتوبيا. حيث شهِدت نهاية الإمبراطورية السوفييتية انبعاث إيديولوجيات سياسية خرجت من جمود عميق، خاصة تلك الأشكال من قوميات الوسط واليمين. وبعد سنوات قليلة لوحظ الحضور المستمر للإسلام السياسي ليس بمعنى أنه لم يكن موجوداً فترة، لكن لأنه بدأ بالتدخّل في فضاء ما يسمّى بالليبرالية المسيطرة في الغرب. وبسبب الاهتمامات المتجدّدة بالدين، دُفع الأفراد لأن يسألوا أسئلة جديدة حول العلاقة بين الدين والسياسة. فما زال وجود إيديولوجيات خارج ـ غربية، حالة دراسية في طور الولادة كما يكون الطريق ذو الاتجاهين ذو التأثير المتبادل بين الغرب واللاغرب ـ خذ مثلاً المزيج الحاصل في شرق آسيا بين العولمة التكنولوجية وإلاقليمية المحدّدة زمنياً.

لكن المسألة ببساطة لا ترتبط بتضاعفالإيدييولوجيات الجديدة، بل ترتبط مبدئياً بسوء الإدراك الإيديولوجي. فقد نشأ سوء الإدراك هذا من خلال تنظير غير كاف تؤازره سيطرة الأساطير المتعلقة بطبيعة الاعتقادات السياسية وما تحويه. وهكذا إذا صيغت نظرياتنا عن الإيديولوجيا على غرار تجاربنا للشمولية، فلن نتفاجأ بأن يكون زوال الشمولية مساوياً لزوال الإيديولوجيا [2]. وأن تكون هذه النظرة بذاتها نتاجاً لموقف إيديولوجي، وأنا أعتقد بعمق أن هذا أيضاً خارج إطار الشك: فهذا عالم متشعّب بين العقل واللاعقل، بين التطرّف والاعتدال، بين الحرّية والاضطهاد. إن كل ما يمكن أن يُقال هو إن هذه كانت وجهة نظر العلماء الأميركيين الذين أفرزتهم شمولية مصغّرة محلية الصنع على شكل ماكارثية.

الليبرالية بوصفها قالباً لتحديد الإيديولوجيات: من التعددية إلى التشرذم

لكن إذا لم يجرِ الاعتراف بالليبرالية كإيديولوجيا مسيطرة، (رغم أن المرء يمكن بأي حال أن يسأل، أي فرع من فروع الليبرالية هو المسيطر؟)، يتمثّل تأثيرها المتناقض في عالم الإيديولوجيات بالتقليل من سيطرتها. منذ قرن، كانت الليبرالية متّهمة برعاية إمبريالية هدفها أن تصوغ العالم على صورتها، وأن تحفّز النخبوية التي تسعى لفرض سلاسل من السلوك، وأذواق وقيم على كل الثقافات. لكن منذ ستّين عاماً، اتّهمت الليبرالية بالتسامح والنسبية التي سمحت للإيديولوجيات المتطرّفة وأنظمتها بالسيطرة[3]. على مرّ السنوات العشرين الماضية جرى التعبير عن التعددية المندمجة في الليبرالية، وتبنيها للاختلاف، بنزوعها للتعدد الثقافي وتشريعها لوجهات النظر المتعددة. لأن التعددية الثقافية تعكس التفضيل الليبرالي للفروقات الفردية، لكن إذا وثّقت بشكل واسع وأسقطت على المجموعات، يقدّم رواجها كمقولة بحثية أرضاً خصبة للتحليل الإيديولوجي. لأنه يجب أن نسمّي ذلك مجموعات، والمجموعات وحدها، هي حمَلة الإيديولوجيات، كما اعتقد ماركس ومانهايم Mannheim وخلفاؤهما. والنتيجة البنيوية التي تستخلص من تعددية ـ المجموعة الليبرالية تبدو كأنها عالم الإيديولوجيات المتعدّدة، وهي واحدة من المجموعات التي يوجد فيها سكن دائم للإيديولوجيات التي توجد جنباً إلى جنب، والفضل في ذلك يعود لفكرة غرامشي Gramsci عن السيطرة، التي كانت تفتقد إلى الدقة عندما سُبكت.

أريد أن أثبت أن المعركة ضد الليبرالية، وكيفية تفسيرها، توفّر مفاتيح للطرائق المختلفة من فهم الإيديولوجيات وتحميصها. والمسألة الخطيرة هنا ليست طبيعة الليبرالية كإيديولوجيا، بل المنهج المعرفي الذي تقدّمه الليبرالية لفهمنا للإيديولوجيات. فعلى السطح، تطفو عقيدة مقرونة بالفردية، قد تظهر لتكون أداة بائسة يمكن تقدير الإيديولجيات من خلالها، كظواهر اجتماعية. لكن من جديد، حتى على ذلك السطح، تصالحت الليبرالية دائماً مع أهمية المجموعات ومع الطبيعة الاجتماعية للأفراد. إذا وضعنا هذا جانباً، نجد وجهين، عند تحدّثنا منهجياً، عن تأثير الليبرالية في المقاربات الجارية للإيديولوجيا.

أحد الأوجه أن الجناح التعدّدي يشجّع على الاختيار وإعادة التقدير. كما سبق لمل Mill أن أوضح أن الحقيقة مؤقّتة وأن أشكالها مفتوحة باستمرار للتنقيح: «الاعتقادات التي سوّغناها كثيراً ليس لها ما يحميها. إلا دعوة ثابتة لكل العالم لإثبات أنها بلا أساس... إذا بقيت اللوائح مفتوحة، قد نأمل إذا كان ثمّة حقيقة أفضل سيعثر عليها عندما يصبح العقل البشري قادراً على تلقّيها، وفي الوقت نفسه قد نعتمد على إحراز هذه المقاربة للحقيقة بقدر الإمكان في أيامنا هذه»[4] إذا ترجمناها إلى مصطلحات البحث الإيديولوجي، يعمل ذلك الانفتاح ضد مفاهيم الإيديولوجيا المغلقة التي تدّعي يقيناً معرفياً، أو النظريات التي تفترض حتمية الإيديولوجيات المسيطرة والمحددة المعالم. وهو يتحدّى أيضاً التعارض بين الحقيقة والإيديولوجيا، على الأقل من خلال تقديم مسار غير محدود للزمن ينطبق على الاثنين وأن يقدّم بالتعبيرات الهيرمينوطيقا آفاق تأويل متغيرة باستمرار. بني الاختلافالإيدييولوجي للعالم الاجتماعي، على الفردية الليبرالية والتعددية؛ فالفردانية في صيغها المفرطة تلتحم مع المفاهيمم الذرية للمجتمع، لكن الفردانية حتى في أكثر تجلّياتها اعتدالاً تقرّ الاختلاف ـ وهذا موضوع مركزي في كتابات Wilhelm von Humboldt.[5] فالاختلاف والتنوّع، بدوره يكفل عدم استمرارية السلوك والفكر الإنساني. جزئياً، كان ذلك متعادلاً وقوِّم على يد تيار ثوري قوي في الفكر الليبرالي للقرن العشرين. أمّا الحالة السوية للتطوّر الفردي ـ المستندة على وجهة نظر تنويرية التطور والنجاح – جهّزت لرؤية موازية للتطور الاجتماعي، فقد افترضت أن المستقبل الذي يمكن السيطرة عليه بالعقل الإنساني، ليس عشوائياً ولا هو متعدّد الجوانب. لذلك فإن المسار الثوري للتطوّر الإنساني والاجتماعي، رغم أنه يفتقد إلى الغائية على الطراز الليبرالي، كان بوضوح يتّجه نحو تعاون أكبر وتطبيق الذكاء الجمعي والمسيطر عليه ديموقراطياً. وهذا لا يمكن أن يشير إليه إلا مستقبل متوقّع بتفاؤل، حتى لو لم تصل معالمه إلى الكمال مطلقاً.

لقد ساهم الاتجاه السائد في ليبرالية القرن العشرين حينها، في شرعنة الظرف الذي تمكّن فيه العلماء كما المشاركون العاديون أن يؤكّدوا أن المجتمع الذي يحوي إيديولوجية واحدة إمّا أنه مقموع على نحو مَرَضي أو أنه «ما قبل ليبرالي» و»قبل تعددي»، كما أن المجتمع الذي يحوي إيديولوجيات متعدّدة هو مجتمع طبيعي. كان هذا تحوّلاً حيوياً بعيداً عن اعتبار المجتمع ذي الإيديولوجيا الواحدة مجتمعاً مريضاً، واعتبار المجتمع الذي لا إيديولوجيا له مجتمعاً طبيعياً. لكن، في داخل الفصيلة الليبرالية، هناك منافسة حامية كانت تحصل بين أولئك الذين كانت الليبرالية بالنسبة لهم إيديولوجية إنسانوية، ونموّاً فردياً، وازدهاراً وعوناً متبادلاً، أمّا بين أولئك الموجودين في الغالب في الولايات المتحدة الأميركية، وفي بعض بلدان أوروبا الشرقية – الذين تمثّل الليبريالية بالنسبة لهم إيديولوجيا مشروع رأسمالي حر[6]. بالطبع جرى تبنّي النظرة الثانية لليبرالية بحماسة ممّن يستهينون بها كذلك: فهي وبعد كل شيء تجعل تقديم الليبرالية أكثر سهولة في ضوء ملائم، وهي تقلّص التداخل الذي تظهره الليبرالية الإنسانوية مع إيديولوجيات تقدمية أخرى.

هنا الوجه الآخر لتأثير تطبيق الليبيرالية، المحدّدة على نحو غير محكم، في فهم الإيديولوجيات. جرّد المؤيدون المستجدّون لليبرالية التصوّرات السائدة عن اليبرالية المتصلّبة في القرن العشرين. وقد فعلوا ذلك من خلال إعادة التعريف المفهومي للمفهوم الليبرالي القريب للاختيار واختزاله إلى أفعال تكفّل بها مستهلكو الحد الأقصى، لا إلى أفعال تكفّل بها مفكّرون تنظيريون. في الظاهر، كان ذالك الخيار متاحاً في المخزون الليبرالي وقتاً طويلاً، ولكن ما هو جديد هو أن نماذج الاختيار تلك صيغت، ليس من خلال محاكاة استثمار المقاولين ورؤساء الصناعة المزوّدة برؤية وإحساس بالغاية، بل من خلال التجارب الشعبية لنماذج أسواق الاستهلاك. وكنتيجة لذلك ساهمت هذه التجارب إلى حدّ كبير في مرحلية وعينا بخياراتنا وعدم قدرتنا على التنبؤ بها. وقد دعتنا أيضاً لاستخدام عربات التسوّق للمزج والمقارنة، والاستخدام – من أجل ملاحظة أكثر إيجابية - خيالاتنا لخلق تراكيب من مواد موجودة و ـ من أجل ملاحظة أقل إيجابية - خيالات أناس آخرين لإنجاز ما هو مشابه تماماً. نتج كل هذا في منظر طبيعي مبقّع من الألوان والأشكال التي يقلّ فيها «إمكان معرفة» المستقبل. وهكذا تحوّلت التعددية إلى انقسامات، والانقسامات تؤدّي إلى انعدام اليقين. إن فرضية التنوير القديمة أن الانسجام الكلي سيجمّع التنوّع هو إلى الآن صعب المنال لطلاب العلوم السياسية.

بتعبير آخر، إن القوة الكامنة المستترة للمنافسة الإيديولوجية ـ التي يجري تجاوزها تقليدياً بميل الإيديولوجيات لفرض القطعية على اللغة السياسية من خلال إخراج الأدوات من سياقها ـ يصبح الآن أكثر وضوحاً في الخطاب السياسي. هناك بالطبع هفوات عرضية في لغة اليقين ـ واحدة منها حصلت قبل الألفية، التي ساهمت أيقنتها ذات الحياة القصيرة بمستقبل واعد ومثير ـ لكن التجريب والسيولة هما من جديد أمر اليوم. فمثلاً كانت السياسات الأوروبية تجرّب بنماذج لا تحصى من الوطنية والحياة الشعبوية «الآمنة» و»المحترمة»، وبدمج المشاهد الخضراء مع المواقفالإيدييولوجية السائدة، ومع المشاريع الخاصة – العامّة التي تسعى لإعادة إيجاد التوازن بين الرفاه والكفاءة التي هي في مركز السياسة الاشتراكية الديموقراطية المحلية لجزء كبير من هذا القرن.

لأنها وضعت على هذا النحو يمكن أن تكون الليبرالية مكلفة لانتسابها إلى صفات الإيديولوجيا . فبعض المميزات الرئيسية للإيديولوجيا هي حشد الدعم للقرارات والأنظمة السياسية، كما لرسم خريطة العالم السياسي بصورة واضحة وقابلة للنقل. لكن يمكن لليبرالية، في أكثر لحظاتها ضبابية، أن تشجّع بالوقوف على الحياد، والشك، والعفوية الطائشة، أو دائرة كاملة من الحلول المتساوية في معقوليتها. ثم يصبح تسويغ السياسة أكثر تعقيداً. في حين أن فلاسفة السياسة، وبشكل خاص، ولكن ليس حصرياً، أولئك المتحدّرون من أجناس أنغلوسكسونية، يرغبون في رؤية عبء الفهم والاختيار قد تحول إلى الفرد المفكّر والمشارك، فذلك العبء هو الذي لا يرغب كثير من الناس في حمله، ولا يستطيعون تحمّله. غير أن البديل هو الانحناء لتفوّق قوّة بعض الجماعات حتى بشكل أكثر تغيّراً لبعض المقامات الاجتماعية. ثم تصبح مشكلة تنافس الأفهام حتمية، وتصبح الحقائق نسبية ـ المسألة التي وبّخت الليبرالية عليها ـ عادت للظهور.

هذه الإبهامات المفهومية هي بالطبع الصفات الطبيعية للأديولوجيات، بسبب التنافسية الجوهرية والفعّالة التي يتأسّس عليها المعنى المفهومي،[7] لكن ذلك يشير إلى عدم الاستمرارية كما للطبيعة اللانظرية لهذا التفكير السياسي المعاصر. فعندما يندمج الخيار الفكري مع خيار السوق، وعندما ترى الإيديولوجيات كسلع سياسية ذات قيمة جوهرية زهيدة وأداتية كبيرة، يبدو أن هشاشة وجودها ستصبح أكثر بروزاً.

التشرذم وتراخي القيود السياسية والثقافية

لكن التشرذم ليس مجرّد نتيجة للإستهلاكية المائعة. إذ يكمن سبب آخر من أسبابها في حقيقة أن الدمقرطة الشاملة، كما سبق لغرامشي أن أعلن، سبّبت تغيّراً في التوزيع الاجتماعي للمنتجين الإيديولوجيين.[8] بدأت النخب الفكرية تتخلّى عن سيطرتها على البنية الإيديولوجية القوية نسبياً، والإيديولوجيات «الشعبية»، ورغم وجودها في الماضي، تجد طرائق جديدة للتأثير في خريطة، المواقفالإيدييولوجية السائدة في الدولة المعترف بها. ولهذا أوجه عديدة. أولاً، وسائل الإعلام الجماهيرية، ـ الناشرون الحاسمون للإيديولوجيا ـ أصبحوا موجهين جداً تجاه ما يسمّى ثقافات سياسية شاملة، وجميع هذه الوسائل يعكس ويشكّل وجهات نظر يتبنّاها كثيرون، وعادة تستغلّ تهميش بعض الجماعات لكي يبيعوا الصحف ذات التوجّهات الشعبوية والوطنية المنحازة. بالطبع، وسائل الإعلام تحتكر العمل ضد الدمقرطة لا معها، ولكن في الوقت نفسه إن احتكار الليبرالية هو آخر أشكال الليبرالية الذي أزيل من الديمقراطية، وهو واحد من الأهداف الأساسية لليبرالية الإنسانوية. ثانياً، إن الفعالية السياسية كانت قد انعكست بشدّة أكثر في المواقفالإيدييولوجية التي أصبحت ملحوظة لدى العوام، وأن اضمحلال هذه الحركات الناشطة الكثيرة سرّع خطى التغير الإيديولوجي الملحوظ. وهكذا فإن الشكل الذي يحتمل ملاحظة الإيديولوجيات فيه بالغرب هو شكل الحركات الاجتماعية الجديدة، المستهدفة على نحو الخصوص بطريقة مخططة في زي مجموعات الضغط، وهي عادة مزيج من مجموعة من الاعتقادات الانتقائية. ثالثاً، إن اسكات اللغة السياسية أدى إلى تمويه الإيديولوجيات، التي جرى تسويقها إلى الآن بمصطلحات مألوفة للّغة النخبوية للنظرية السياسية أو الثقافة العالية للأسبوعيات الرزينة ـ وإغناء الأشكال اللغوية والصريحة التي تظهر بها. إن الإيديولوجيات تقدّم بشكل متزايد في صيغة «الوجبات السريعة» التي تستهلك بسهولة، والتي تخزّن فترات محدودة، ومرة ثانية تفرض المزيج الرخو والهيئات المتناظرة لأفكار عدّة جرى استقاؤها من إيديولوجيات عدّة، لكن هذه المرّة ليس على أساس الاستهلاك الاقتصادي، بل على أساس الفوضى الألسنية النسبية.

هذا كله يعني أن الحقل الإيديولوجي، في الراهن، هو مثار اهتمام الباحثين بشكل خاص. بعضه يبدو في ثوب قديم مثل : أنواع من المحافظة، أو القومية، أو من الشعبوية العدوانية التي كانت حاضرة فترة في أشكال معروفة. لقد تقلّصت الاشتراكية وهي مصابة بمرض عضال، هكذا قيل لنا، رغم أن الإيديولوجيات الاشتراكية الديموقراطية نجت من خلال فتح حدودها إلى نوع من الاقتصاد والمحتوى الإداري الذي كان مثيراً للسخرية ومستثنى على نحو حاسم منذ عقدين من الزمن. هذا إضافةً إلى أن التنبّؤ بزوال الاشتراكية قد يكون سابقاً لأوانه، لأنها ترضي إطاراتها المفهومية وحاجاتها السياسية والإيديولوجية ـ فيما يتعلّق بالتوزيع، والاعتراف بالهوية الإنسانية، والطبيعة الجماعية للمنظّمات الإنسانية ـ التي لن تذوي ببساطة، وهي تشهد على النهضة الراهنة لبعض أشكال الديموقراطيات الاشتراكية في فرنسا وفي أسبانيا، مهما كانت الظروف المحلية. من جهة أخرى، إن ما اصطلحت عليه في مكان آخر بالإيديولوجيات «النحيفة» ـ الإيديولوجيات التي تحتاج إلى مجموعة شاملة من الخطط للعمل السياسي[9] ـ يبدو أنها تزدهر، وربّما يكون هذا وجهاً آخر من وجوه التبسيط الفكري، ومن ملامح التواضع وانعدام الصبر التي تقسم الإيديولوجيات المعاصرة تغير أن فكرة العصر الـ «ما بعد إيديولوجي» هي بذاتها آلية للتنكّر، وحجاب جرى تنظيمه على يد أولئك المصمّمين على التلويح بإشارات الوداع للإيديولوجيات الكلية التي قد تحرز حياة خاصة بها، وهكذا تهدّد مفاهيم المبادرة والضبط البشري؛ من خلال من يرغبون في التحرك خفية نحو ذلك الفراغ المزعوم لكي يطبّقوا رؤيتهم للهيمنة المعادية للطوباوية ـ والتي يمكن تحقيقها ـ كما من خلال اولئك الذين ما زالوا ملتزمين بمعاداة شديدة للعقلانية حيث الأفكار ظواهر ثانوية هامشية، وربما لم نكن نمعن النظر بشكل كافٍ، وربما لا نكون متناغمين مع ملاحظة التجليات العابرة والهشّة للإيديولوجيات الراهنة، وربّما حتّى سرعة زوالها التي تعكس رحلة طموحة ومشوّشة من النماذج المقيّدة للغة والعادة، على الأقل كما يبدو الأمر في الظاهر. في حين أن للإيديولوجيات وظيفة هي إخراج المعاني التنافسية أساساً من التنافس. وهذه الميزة تظهر دائماً بالصراع ضد الألسنية الغامضة التي لا يمكن أن تنجح إلا مؤقتاً. إذ يمكن ربح المعارك، لكن الحرب في نسبة معنى دقيق للغة السياسية تكون محكومة بالخسارة، وهذا لأن الإيديولوجيات تعلن العكس بصوت عال، ومن جهة أخرى لأن السياسة ـ بما فيها من حاجات ملحّة لاتخاذ القرارات ـ لا يمكنها أن تحدث ما لم تربح بعض تلك المعارك الفردية.

ولأن الإيديولوجيات توجد في علاقة مسهبة مع الزمن. فإن نزوع الكتب المدرسية إلى الإيديولوجيا وتقديمها كمقالات ساكنة حول المعتقدات. ومركّبات تعكس، تحديداً ولو عن غير قصد، اللاتاريخية المجرّدة للنماذج الفلسفية. ومن جهة أخرى، لا نستطيع الاستمرار بشكل كامل مع النظرية الهيرمينوطيقا حول «النص الذي بلا مؤلف» الذي يخضع لقراءات غير محدودة على إيدي قرّاء فرديين. فأحد أكثر وجوه الإيديولوجيا خداعاً بوصفها «نصاً» هو أن كتابتها تتكرّر، وليس ولا تكتب من جديد وحسب، إذ إن المنتجين يتوارثون تلك المهمّة الخلاقة من جيل إلى جيل، حتى من شهر إلى شهر بوصفها جسراً لجماعات تشكيل الإيديولوجيا الممتدة وراء جسر أعضائهم الفرديين. حتى عندما نقوم بتحليل الزمن في المعادلة، يكون الهدف رؤية الزمن مفسِداً للنظام، كتحدّ للهدوء، والانسجام والنموذج المثالي المتوازن الذي يفترض للسياسة أن تسبّبه.

لكن ماذا لو اقتنعنا بأن المرونة والدينامية والتغيّر الإيديولوجي مسائل عادية، وأن الركود الإيديولوجي ما هو إلا ومضة شاذة في المجتمعات الحديثة المعرّضة باستمرار لتحوّلات سريعة ـ ربّما كانت السيطرة التوتاليتارية على الزمن سبباً لتلك الومضة، أو نتيجة لملاحظة وتحليل غير كاف من جهة العالِم؟ لقد ركّزت مدرسة التاريخ المفهومي إلى حدّ ما في التحوّلات النموذجية، وفي ما يصطلح عليه كوزلك[10] Koselleck Sattelzeit[11] [12](سرج الزمن). ورغم أن هذه التحوّلات المفاجئة تحصل من حين لآخر، فإن تلك الأحداث الكبرى لا يمكن أن تنسجم مع سيولة التشكّل الإيديولوجي اليومي. وهنا يصبح قياس فتغنشتاين Wittgenstein التمثيلي في المتناول، لأنه يجذب الانتباه للتغيّرات المجهرية التي لا تتوقف والتي تخضع لها الإيديولوجيات، واللوازم المتوازية لثقافة الإيديولوجيا من أجل تطوير أدوات مجهرية لاكتشافها. إننا مبهورون جداً بأهمية بعض الصروح الإيديولوجية لذلك لا نلحظ تفاهة بعضها الآخر. إذا كان ما هو عادي لا يشكّل خبراً رئيسياً، لكنه بالتأكيد يشكّل جوهر التحليل السياسي. فنحن في معظم الأوقات نختبر الخرائط الإيديولوجية العادية، والخرائط الإيديولوجية العادية هي التي، بسبب ضعف رؤيتها، تحتاج إلى وعي خاص وفك شيفرة.

من جهة أخرى، إن التشرذم موجود بالقوة في عالم الإيديولوجيات وحده. والنماذج موجودة، حتى لو احتجنا إلى مضاعفة سرعة الكاميرا لالتقاطها. والتغير ليس عشوائياً مطلقاً. إن الطرد المركزي في عالم الإيديولوجيات أقل مما يسمح به وجود التشرذم، وذلك بسبب النماذج التي تتبناها الإيديولوجيات، وبعد مزيد من التدقيق، بسبب ما نحصل عليه عادة من فروع ماضية وموجودة لأشكال فكرية، متكيّفة عمداً أو غالباً بلاوعي مع احتمالات جديدة، ونظريات جديدة وأنماط جديدة. بينما قد يؤدي تعدد الإيديولوجيات إلى التشرذم، فإن كل إيديولوجيا بذاتها هي محاولة ضرورية تحصل عند استقرار مجموعة مرنة من العلاقات بين المفاهيم والأفكار السياسية. إن عالم الإيديولوجيات هو سلسلة مستمرة من التحدّيات لقصور فصائل الإيديولوجيات الكبرى القائمة، على عكس، المحاولة الصناعية لكبح عملية التغير القاسي غير المنظم التي تخضع لها الأفكار. وعندما تكون الحدود حاضرة بقوة في البرنامج السياسي مرة ثانية مثل: الحدود ضد الهجرات الجماعية إلى أوروبا، والحدود ضد انتشار الإرهاب ورعاته السياسيين، والحدود ضد عدم الاستقرار الاقتصادي الذي يسبّبه نجاح الدولة العادلة نفسه مع مصاحبتها لمناخ التوقّعات العليا للمواطنين ـ الأنظمة الإيديولوجية ترتدّ إلى إفراط في التبسيط مثل «صراع الحضارات» أو «الطريق الثالث» وتتراجع إلى حدودها الخاصّة مهما كانت عابرة.

إذا شجّعت الليبرالية التعددية الإيديولوجيا ـ وأدينت لذلك تحديداً من فلاسفة ما بعد الحرب العالمية الثانية السياسيين الذين يبحثون عن أسس نظرية ليبرالية جديدة لا تتزعزع – فإن التراجع عن الاشتراكية، ناهيك عن الشيوعية، شجّع على ردّ فعل ضد الإيديولوجيا نفسها. هنا بالضبط تكمن طبيعة الإيديولوجيا الحتمية وهنا تكمن المشكلة. فإذا كانت بعض النظريات مثل الاشتراكية، التي تلعب فيها المجموعات أدواراً مركزية، في حالة انحدار على حساب الأشكال الجديدة السريعة الامتداد من المبادرة الفردية ومن انبعاث القيادة والدور «التوجيهي» في السياسة، فليس مفاجئاً أن تكون الإبستمولوجيا المرافقة التي تُلحظ فيها نتاجات المجموعة في حالة تلاشٍ كذلك. لكن الإيديولوجيات نتاج الجماعات، وسوف تبقى نتاجاً لها. وبوصفنا علماء اجتماع لا يمكن أن نخضع للفردانية المتطرّفة، وأن نغمض أعيننا عن التفاعل المثالي بين البشر. كما لا يمكن أن نفترض أن سلوك هذه الجماعة يجب أن يميل دائماً نحو تجليّات غير مستقرّة ومتطرّفة كما في الأشكال الشعبوية والفوضوية الراهنة. لذلك نحتاج إلى إعادة تحديد المجموعات التي تنبثق منها الإيديولوجيات والتي تخدم في مساندتها.

في تتبّع الإيديولوجيات وكيف نتصرّف عندما نجدها

إذا حُضّرت المفكّرة المفهومية والبحثية للدراسات العلمية للإيديولوجيا، وللإيديولوجيات الواقعية، فقد تشتمل على عدد من الخطوات. أولاً، إننا نحتاج إلى التخلّص من تجسيم المجموعات، كما لو كان لها بنية متجانسة، وأنها سهلة الانقياد لتشَكُّل العقيدة. وهنا يمكننا أن نأخذ صفحتين من أعمال داهل Dah وليبست Lipset الرائدة بين عامي 1950 و1970، حيث يظهر أن المجموعات خضعت فيها لعملية مستمرة من إعادة الالتئام، التي كانت فيها العلاقات الاجتماعية تتذبذب ويعاد تجميعها[13]. إذاً لو تبدّلت الجماعات ـ المنتجة والحاملة للإيديولوجيا - باستمرار، يمكن افتراض أن ابتكاراتها الفكرية ستفعل الشيء نفسه، وأن جميع الإيديولوجيات في مجتمع ما ستكون مفتوحة على تشكّلات متكرّرة. ولهذا بعض التبعات المهمّة على الفكر السياسي المعاصر، بخاصة، التعميم الحديث لتمييز كارل شمدت Carl Schmitt بين الصديق والعدو، والمعروض أيضاً على يد ما بعد الحداثيين بعنوان مفهوم «الآخر»، فإنه يقوم بالضبط على نوع من التفريع الثنائي التام الذي تتحاشاه النظريات المتطوّرة جداً. وبينما يمكن لذلك التفريع الثنائي أن يصحّ على الوطنية الابتدائية بشكل غامض، كذلك، وبالعكس يمكن إيجاد واحدة من الملامح المركزية للمحافظة، في بنية «الآخرين» المتعدّدين حيث تتفاعل ضده الصورة المحافظة على شكل صورة معكوسة في المرآة. من هنا تحوي الإيديولوجيا المحافظة مجالات أنساق مفهومية ثابتة متّحدة على نحو غير محكم في قواعد ردود فعل محددة[14].

ثانياً، إن عملية اللاتمركز الثقافي تفتح مجالاً مختلفاً للانتاج الإيديولوجي. كان هذا موجوداً من قبل، لكن الحساسية الاجتماعية تجاهه تعني أنه جرى تجاوزه أو التقليل من قيمته. لكن الفاعلية المتزايدة للاتصال، والثقافة الأكثر انتشاراً، كما الانتباه إلى الثقافات المحلية، والإيديولوجيات الراهنة في المجتمعات المركّبة كالمنافسات الفعلية لاجتذاب العين والأذن العامّة، حتى لو لم يكن كل المتنافسين قادرين على ادّعاء الأهمية المتساوية. وبدل البنى العمودية، يمكن للمواقع الأفقية أن تجعل نفسها مسموعة من خلال سلطة المال، ومن خلال وضعية الثقافة الأيقونية، ومن خلال حملة متقنة، أو من خلال القيمة الأخبارية لما هو غير عادي أو مستغرب.

ثالثاً، تمرّ الإيديولوجيات بعملية «إلغاء القطرية». أفضّل هذا المصطلح على مصطلح «العولمة» ليس بسبب وجود أشكال متنافسة من العولمة وحسب بل لأنه يشير بدقّة إلى واحدة من الخصائص الأكثر أهمية للإيديولوجيات المعاصرة: أصبحت الإيديولوجيات منفصلة عن السياق الذي كان لها فيه قيمة. في حين أن العولمة تبدو كتجلٍ لسلطة عملاء العولمة، فإلغاء القطرية الإيديولوجية تمثّل ضعفاً لبنية المفهوم ولثباته. وهكذا يكون المألوف عادة أقوى من الزائل، خصوصاً لأن المسافة بين غايات المنتجين وفهم المستهلكين يمكن عبورها بسهولة. وقد تكون المسألة على ما يبدو أن الإيديولوجيات الآن تنتقل بسهولة وخفّة. ومع ذلك فإن النماذج التي تبدو متشابهة عبر المكان صارت بعد التدقيق شيئاً مختلفاً كلياً. وصارت العناوين التقليدية مثل الليبرالي، والمحافظ حتى الفاشي خسائر تمويهية، وفوضى واستغلال. وفي الحالات المتطرّفة، لا تعمل هذه العناوين كمؤشرات على الإيديولوجيا مطلقاً، بل تكون مجرّد بطاقة اسم لإيقاظ ترابط فردي وأجوبة متوقّعة، كما تفعل المختصرات. في إعادة انتاج لألفوية millenarianism عام 1950، يبدو أن نوعاً جديداً من انتهاء الإيديولوجيا قد رجع، في ذلك كل ما يبدو أننا نسمع عنه هو الأجوبة السطحية التي تتعلّق بالدراسة التسويقية العابرة كعبور جريدة الأمس. هذا مضلل بالطبع. لكن بمعنى أوسع إن إلغاء القطرية يزيد تشكيلة أعضاء الفصيلة الإيديولوجية الخاصة عادة إلى نقطة ممتدة. والسؤال الآن، هل بعض هؤلاء الأعضاء قياديون، أو حاملين لموروثة تجمّع جديد إلى الفصيلة؟ وثمّة سؤال يرتبط به هو، إذا كان لا يزال هناك إيديولوجيات محلية، فما هي الخصائص التي تميّز محلّيتها؟

رابعاً، بعد فترة تنامي الديمقراطية، على الأقل على المستوى السطحي حيث التبنّي الشامل والدعم الكامل، بدت الإيديولوجيات خاضعة لعملية انكماش لمصلحة «التفكك الجماهيري». حتى إنّ «الشعبوية» الحديثة قد تحتاج إلى تدقيق جيد لشعبيتها. وهذا الانكماش متعلّق جزئياً بالنفور من تعميم الإيديولوجيات في الغرب؛ وفي جزء منها بحجة المزاعم الثقافية البديلة لأعضاء المجتمعات المترفة على حساب الانخراط بالعمل السياسي، وقد يكون هؤلاء متدينين أو على صلة بعالم الترفيه؛ وجزئياً بالانحدار الراهن في الإيديولوجيات «الملهمة» التي تقدّم رؤية واضحة للمستقبل ـ التي بذاتها ناجمة عن خيبة الأمل من الوعد بمسارات مستقبلية. لكن بشكل عام، أصبحت الإيديولوجيات خاصعة لقواعد التسويق بطريقة جديدة. في الماضي كان يفترض أن الايدولوجيات موجودة، كجزء من المشهد السياسي. وكانت الإيديولوجيات المحافظة بشكل خاص تبدو كأنها تنمو نمواً طبيعياً، لكن حتى الإيديولوجيات التقدمية كانت تبدو كنتاجات وانعكاسات للقوى الاجتماعية المتطوّرة كواجهة للعقلانية الإنسانية أو كانت خاضعة للقوانين الحتمية. إن فكرة ماكس فيبر حول التحرّر من الأوهام يجب أن تنطبق على الإيديولوجيات كذلك. فأثر الإعلان يرفع إمكانية تنظيم المرء لسوق حتى لشراء إيديولوجيا. وهكذا تصبح الإيديولوجيات أداتية من أجل خدمة الأهداف السياسية والاقتصادية القصيرة المدى، لا أنظمة اعتقاد عامّة يجب أن يتكيّف معها عالم السياسة. وعندما يُنظر إلى الإيديولوجيات باعتبارها مصنوعة باحتراف، قد لا نكون بعيدين جداً عن تطوّر إيديولوجيات المصمّم، المتاحة عند الإشارة من المراكز الفكرية المتخصّصة الجاهزة لتموين مجال من الحالات السياسية التي تحتاج إلى مؤازرة إيديولوجيا مباشرة.

يمكننا استخلاص النتيجة نفسها وبدقة كافية، من نظرية ما بعد البنيوية في تأكيدها البنية الاجتماعية للاعتقادات، لكن إلى حدّ أنها جاهزة لإضافة دور بارز للوساطة الإنسانية وإمكانية وجود إيديولوجيات مصوغة بروية، الدور الذي في عدد من تجلياته يُكره تبنّيه. ولكن هذا كله لا يعني أننا بوصفنا محلّلين للإيديولوجيا يجب أن نستنتج أن لكل المعاني والنُظم المستوى نفسه من الشرعية. قد يقترح غصن الزيتون على فلاسفة السياسة وعلماء الأخلاق أن التشريع الثقافي يمكن أن يقدر بدقة أكثر عندما نقدّر أننا نعرف أي حقل للمعنى والقيمة للتصورات المفهومية المختلفة ـ التي تتألّف منها الإيديولوجيات – يمكن أن ينتج. نحتاج لمعرفة كيف سيكون شكل مشترياتنا عندما نرجعها إلى البيت وكيف نتجنّب التعثّر أثناء نقلها.

يجب عدم الخلط بين هشاشة بعض الترتيبات الإيديولوجية وهشاشة الإيديولوجيا بشكل عام. فإن نزع الدوغمائية عن الإيديولوجيات هو اعتراف الأمر الواقع بمرونتها الداخلية، ووسيلة لحمايتها من هشاشة وضعف النُظم الإيديولوجية الأكثر صلابة. فالإيدييولوجيات التي تتكيّف مع المرونة الطبيعية للّغة والمعنى، في حين أن محافظتها على بعض الاستمرارية والرؤية المحافظة، هي أكثر احتمالاً للنجاح في ثقافات غير مرتكزة على حركات جماهرية أو على تبنّي منظومات اعتقادية هرمية. في المقابل، في بعض الثقافات حيث السلوك الجماهيري منتظم بشدّة من خلال معايير دينية وثقافية، سوف تصبح الإيديولوجيات المرتكزة على الأعراف ووجهات النظر المتكرّرة حول التاريخ، داخلية مع قليل من الارتكاس.

هذا يثير مسألة الحدود بين الإيديولوجيا السياسية وغيرها من المنظومات الاعتقادية. وأحد أهم معالم الإيديولوجيات الغربية هو تميّزها عن غيرها من المنظومات الاعتقادية. شهد هذا المظهر للانقسام الفكري للعمل بروز مجموعة من الممارسات الفكرية التي تهدف بشكل خاص لحشد الدعم السياسي والسيطرة على صنع القرار العام. بالطبع الإيديولوجيات شبه مستقلة في هذا الخصوص، وسوف تعتمد إلى حدّ كبير على المنظومات الثقافية، والأنماط والمواثيق التي لها صدى في دوائر أخرى ـ مثل الصورة الطبيعية للوطن، وعادات التفاعل، ومعالم التاريخ، ومميزات الشخصية، والمعالم الأيقونية للأدب. لكنها حررت أنفسها جزئياً من الاعتقادات الدينية، ومن الأساطير ومن الميول الاجتماعية والنفسية، والبروز السياسي الحديث للتحديات الدينية شبه المستقلة. إذاً كيف وأين نجد إيديولوجيات في القرن الحادي والعشرين؟ وهنا من جديد يسود بعض الإرباك. قد يكتب المؤرّخون عن إيديولوجيا صناعة الجعة عندما يعنون حقاً الأفكار التي تندمج فيها الممارسة الخاصة. ليس كل منظومة من الأفكار إيديولوجيا، رغم أنها قد تكون جزءاً من واحدة. فالعلماء السياسيون يفضّلون عادة السياسة المفرّطة في الأدلجة، عندما يقصدون الإشارة إلى أن مجموعة من المقاصد السياسية والتبريرات أصبحت مفصولة عن السياسات والأنشطة التي تنفذ برعايته. يشير ما بعد البنيويّين إلى طرائق محدّدة للإعراب عن إدراك الواقع كائنة في قلب الحقل الإيديولوجي، لكن تركيزهم هو في الإدراك وسوء الإدراك وفي نقد الأوهام وتشكّلها. والأكثر تعقيداً هو ما يُعتبر تقريراً أو نصاً إيديولوجياً.

يسمح تحليل الخطاب باعتبار أي جملة كناقل للمعنى الإيديولوجي، وهذا عموماً معقول، ورغم أن الخطاب والإيديولوجيا ليسا شيئين متشابهين أو متّحدين، فإن الخطاب أوسع من الإيديولوجيا ـ فأي فعل تواصلي يعدّ خطاباً، ليس ما له مضمون سياسي فقط ـ وأضيق من الإيديولوجيا، لأن تحليلها يستهين بالسياقات الاجتماعية والتاريخية التي تستخدم فيها اللغة والدور الخاص الذي تقوم به المفاهيم السياسية في البنية الإيديولوجية.

لكن بما أن الكلمات في حقل الإيديولوجيا هي الدلالات على المفاهيم السياسية، فإن الانزلاق المقصود أو غير المقصود للمعاني، الذي تحمله الكلمة قد يخدم كدليل فائق الأهمية من أجل تحوّل إيديولوجي أوسع[15]. فعندما قدّم جون ميجور، الذي كان رئيس وزراء حيئذ، فكرة أجر المواطن ليشير إلى تعويض مالي زهيد للأفراد عندما لا تصلهم الخدمات العامّة، كان يستثمر في الانجذاب السياسي للكلمتين، مع دلالاتهما الأساسية الدستورية. بالتفاعل مع ذلك، كان المواطنون يتحوّلون من خلال هذا الأجر إلى زبائن، والدولة إلى مزوّد. كان الـ «عقد» بين الدولة ومواطنيها متاجرة. وقد راكمت تراكيب الكلمات أيضاً معنى من خلال إمكان الظروف التاريخية. لم تعد عبارة «الاشتراكية القومية» مقبولة كمؤشّر على نوع فرعي من الاشتراكية ـ فـ «طهارتها» فاسدة لدرجة لا يمكن إصلاحها ـ رغم أنها قد تكون أقلّ وطءاً من اشتراكية ستالين «اشتراكية في وطن واحد». بعض الكلمات، كما يعلم بعض المؤرخين والأنثروبولوجيين، اندثرت ويجب تغييرها. فإذا كانت بحسب تسمية التوسير Althusser (استجواباً) تكون ميزة محدّدة للإيديولوجيا[16]، إذاً المسألة إعادة تسمية. لذا فإن اختلاط الغموض اللغوي والمفهومي يؤكّد أن لعبة التسمية هي شيء سيحتاج محلّلوالإيديولوجيا دائماً أن يتقنوه.

إن كثيراً من حاويات موضوع الإيديولوجيا تقدّم للإيديولوجيات رحلة مجّانية متعمّدة أو غير مقصودة عبر الإنترنت، والتلفزيون والسينما والملصقات والشعارات والعروضات العامّة، مثل الاستعرضات العسكرية، والاحتفالات بعيد الاستقلال وعيد العمّال. بعض هذه الظواهر جديد، وبعضها ثابت، لكنها جميعها تعكس الوعي المتزايد الموجود لدينا عن الإعلان الإيديولوجي غير اللفظي، الذي لا يكفي تحليل خطابه من جديد. يقوم الآن الحشد للحقائق الجميلة الثقافية بدور ناقل الرسائل المتعدّدة، التي بعضها إيديولوجي محض، بمعنى حشد الدعم لمجالات السياسة العامّة أو المعارضة لها. ولكن هل الشعارات إيديولوجيات؟ وهل الجمل اللافتة أو الرموز مستغلقة بما يكفي للفت انتباهنا كمحللين للإيديولوجيا؟ بالطبع هي كذلك، وذلك بمعنيين ـ كخرائط جيب لمن هم على عجل، الذين يحتاجون إلى الطريق العام الذي يجتاز المدينة ؛ وكناقل سريع للدعم السياسي من المواطنين، الذين، على خلاف ذلك، قد يتجاهلون عن قصد الرسائل الإيديولوجية المستهدفة. من جهة أخرى، هذه البقايا لا يمكن أن تدوم للوظيفة العامّة للإيديولوجيا السياسية كآلية تصاغ من خلالها السياسة العامّة المعقّدة. قد تدلّ إشارات المرور على سلطة الدولة على تنظيم السلوك العام، وقد يرمز شعار الكوكا كولا إلى وصول الاقتصاد العالمي إلى الشركات المتعددة الجنسيات العملاقة، لكن هذه الشعارات والرموز ليست أكثر من نوافذ صغيرة في الممارسات الاجتماعية المعقّدة والمتشابكة والأفهام الإيديولوجية التي تحويها. فنحن لا نستطيع أن نبتعد وحسب ونقول بعجرفة وقد تعززت أحكامنا المسبقة بيسر، في الحالة الأولى، إنّ «الدولة هي المقتدرة!» وفي الحالة الثانية «انتصرت الرأسمالية!». إن نماذج وتقنيات الجدل، وأجزاء الخطاب هي كلّها مفاتيح مهمّة ولكنها ليست بديلاً عن تفاصيل وتعقيدات الخرائط الإيديولوجية التي تحتاج المجتمعات المتقدمة إلى أن تجتازها. كما أن الصفقات الكبرى ستصبح فائضة لأن في المجتمعات المتميّزة جداً يحتاج الخيال الإنساني إلى كمّ واسع من الخيارات السياسة والتفسيرية.

أمّا المسألة الأخرى التي تستحقّ معالجة دقيقة، فهي الخلط بين النظام الإيديولوجي وبعض الموضوعات التاريخية في الفكر السياسي. وأحد الأمثلة على ذلك هو النظام الجمهوري ـ وهو موضوع حدّد الفلاسفة السياسيون المعاصرون، إلى جانب المؤرخين المعاصرين، أنه يتغلغل في مجال من المواقع السياسية. وهذا بالنسبة لبعضهم مرحلة مهمّة في تراث الفكر السياسي عندما تشكّلت الحرية المدنية والروح المدنية، وجسّدت الأفكار غير الناضجة للمشاركة العامّة والمسؤولية[17]. وبالنسبة لآخرين، إنها جهاز تصميم لمفهوم الحرية باعتباره انعداماً للتسلط[18]. لكن الجمهورانية republicanism تفهم بسهولة كإيديولوجيا. إنها مجموعة من المفاهيم والاستعدادات التي لم تُفهم بوصفها مجموعة من الاعتقادات السياسية المترابطة، ناهيك عن تماسكها الإجمالي. وفي أحسن الأحوال تتقاطع مع ما قد يُعتقد أنه إيديولوجيا، أي، مع اللغات التي تتنافس على السيطرة على السياسة العامّة، واللغات مثل الليبرالية، والقومية والخطاب شبه الاشتراكي. وفي أسوأ الأحول، إنها بنية أكاديمية بعد واقعية، مساعدة ونموذجية تهدف لإثارة تغيّرات جذرية في السلوك العام موهومة أو مشكوك فيها وحسب، أو مجهولة لمن يمارسونها.

لكن بعد ذلك كيف نميّز بين النُظم الاجتماعية والاكتشافات التي ننتجها أو نكتشفها بوصفنا علماء، وبين الإيديولوجيات بوصفها تفاهمات ذاتية اجتماعية عامّة؟

أحياناً يمكن لإعادة القراءة وإعادة التصنيف أن تصبح توجيهية. بخلاف أن النظام الجمهوري، والرفاه الاجتماعي قد يشكّلان اقتراحاً من هذا النوع، فقد كان التطوير في فكر الرفاه الاجتماعي للدولة في بدايات القرن العشرين، وما زال مجالاً لمحاولات سيطرة الاشتراكيين والليبراليين الإيديولوجيين. لكن الأكثر توجيهية هو ظهوره كشاغل لحيّز يتداخل مع الإيديولوجيات التقليدية التي تتشارك في مميّزات غير كافية كل منها أكثر توجيهية. وقد شوّهت سيطرة الأحزاب السياسية على حقل السياسة الرئيسية (هل كانت دولة الرفاه الاجتماعي إنجاز الليبراليين، أو العمال، الديموقراطيين الاجتماعيين؟) كل وجهة نظر جديدة، ومجموعة جديدة من الاعتقادات الإيديولوجية، التي تبنّتها مجموعات كبيرة من البشر الذين كانوا إلى حدّ ما مضلَّلين بسبب قلة توافر الإطارات المفهومية التي على أساسها يدركون جيداً ما كانوا يفعلون. لكن إيديولوجيا الرفاهية كانت مجهولة في حينها، والاعتراف الارتجاعي بها وتسميتها يمكن أن يجعل إيديولوجيا العالم الحقيقي منطقية.

كل هذا الجزء من العمل المثير مع الإيديولوجيا . وهذا الموضوع الذي نعالجه يقدّم في الواقع إمكانيات لامتناهية للبحث والتحليل. فمثلاً، إن التحليل الدقيق للإيديولوجيا يسمح بمقارنة قوية للتجاورات ويسمح للمحلّل أن يكتشف صوراً ومجموعات مفهومية على كل مستوى من مستويات التضخيم. ذلك يعني أننا نستطيع ان نتبنّى النُظم التقليدية الموجودة أو المجموعات وإخضاعها لتحقيق دقيق، أو الحسم في ظروف شتّى متقاطعة، وسهلة، وصعبة، كما يتناسب مع غايات بحثنا. التجريب هنا ليس تجريب المبدع الإيديولوجي وحسب، بل تجريب الباحث الذي يختار في أي نموذج دلالي يركّز، وهو قرار بذاته ينتج نظريات جديدة. تلك هي الدراسة الجدّية للإيديولوجيا بالمعنى غير الماركسي للإيديولوجيا النقدية: القدرة على استخدام تحقيق الإيديولوجيا كأداة نقدية للمؤسسات التفسيرية والممارسات ونماذج التفكير الاجتماعي مجتمعة. ولا بدّ من استمرار التحليل التقليدي العام بقدر الإدراكات الفردية للشموليات الإيديولوجية مثل اللبرالية والفاشية – مهما كانت تلك التصنيفات مبسّطة ـ فهي تؤدّي دوراً حيوياً في تفسير سلوكها، وبقدر مشاركة الشموليات الإيديولوجية لعدد من الوظائف مثل التشريع أو الاندماج الاجتماعي أو العزلة. لا ينبغي أن يكون طلابالإيديولوجيا أذكياء جداً كي يتخلّوا عن البحث في أصنافالإيدييولوجيات العامّة لأن بعض الإيديولوجات الجديدة تتصدّر العناوين العريضة.

في الأساس، لا يمكن لدراسة الإيديولوجيا أن تنفصل عن دراسة السياسة لأن: الإيديولوجيات ليست إضافات اختيارية أو «خارجيات»، بل هي الرموز التي تنظّم كل الممارسات ـ إنها دي أن آي (DNA) الأداء. بالإضافة إلى أن الإيديولوجيات مرنة وهي موروثة اجتماعياً ـ ومن أجل دفع إضافي للقياس التمثيلي، يمكن أن تتعدّل جينياً، للخير والشر، ولتحسين الممارسات الجارية أو تمكين ممارسات جديدة. وفي النهاية يجب إرجاع تحليل الإيديولوجيات إلى الاتجاه السائد في السياسة. كيف يمكن أن يكون الأمر مغايراً؟ في الراهن لا يمكن فهم ذلك.
-------------------------------------

مايكل فريدن : أستاذ في كلية السياسة والدراسات الدولية في جامعة أوكسفورد.

ـ العنوان الأصلي للمقال: Confronting the chimera of a ‘post-ideological’ age

المصدر:

http://www.tandfonline.com/doi/abs/10.1080/13698230500108918

- Iberia Magazine , October 2002.

- Thus the standard views of analysts such as D. Bell, The End of Ideology 1962.

ـ ترجمة طارق عسيلي.

[2] - Thus the standard views of analysts such as D. Bell, The End of Ideology ( 1962 ).

[3] - For a typical viewpoint see J. Hallowell , The Decline of Liberalism as an Ideology ( London, 1946 ).

[4] - J.S. Mill, On Liberty (London, 1910) , p. 83.

[5] - W. von Humboldt, The Limits of State Action (Cambridge, 1969).

[6] - For an illustration of the latter see S. Hanley, ‘The new right in the new Europe ? Unravelling the ideology of “Czech Thatcherism” ’, Journal of Political Ideologies, vol. 4 (1999) , 163-189.

[7] - See M. Freeden , ‘Editorial: Essential contestability and effective contestability’, Journal of Political Ideologies, vol. 9 (2003), 3-11.

[8] - A. Gramsci, Selections from Prison Notebooks (London, 1971), pp. 327- 340.

[9] - M. Freeden , Ideologies and Political Theory: A Conceptual Approach (Oxford, 1996), pp. 48 -57.

[10] - مؤرّخ ألماني، يعتبر من أهم مؤرّخي القرن العشرين. لا يتبع مدرسة تاريخية معينة، بل له نظريته الخاصة.

[11] - كلمة ألمانية يستخدمها كوزلك للتعبير عن المرحلة الزمنية الممتدة بين المرحلة المبكرة من العصر الحديث والمرحلة المتأخرة منه. (المترجم).

[12] - The monumental work presenting the 19th century as such a bridging period is the Geschichtliche Grundbegriffe, eds. O. Brunner, W. Conze and R. Koselleck, 8vols. ( Stuttgart, 1972-1996 ).

[13] - R. Dahl, Polyarchy (New Haven), 1971: S.M. Lipset, Political Man ( London, 1959 ).

[14] - Freeden, Ideologies and Political Theory, chaps. 8 - 9.

[15] - See E. Laclau, ‘The death and resurrection of the theory of ideology ’, Journal of Political Ideologies, vol. 1 (1996), esp. 209- 15.

[16] - L. Althusser, Essays on Ideology (London, 1984), pp. 48- 9.

[17] - Q. Skinner, Liberty before Liberalism ( Cambridge, 1998(.

[18] - P. Pettit , Republicanism : A Theory of Freedom and Government ( Oxford, 1997 ).