البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

مفهوم الإيديولوجيا ( مطالعة في تاريخ المصطلح ومعانيه ومجالات استعماله )

الباحث :  خضر إبراهيم
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  6
السنة :  السنة الثانية - شتاء 2017 م / 1438 هـ
تاريخ إضافة البحث :  February / 6 / 2017
عدد زيارات البحث :  5039
تحميل  ( 304.797 KB )
يشكِّل الوقوف على مفهوم الإيديولوجيا في ميدان اللغة والمصطلح وحقُول الاستخدام، أحد أهم النشاطات المعرفية التي شغلت طويلاً عالم السياسة والفكر والفلسفة. إلَّا أن الاهتمام فيه يظل مهمة ملحَّة علمياً ومعرفياً في وقت بدأ يجري فيه الحديث عن عودته إلى التداول بعد ما جرى الكلام على نهايته مطلع الألفيَّة الثالثة.

في هذا البحث يحاول الكاتب الإحاطة الإجمالية بهذا المفهوم عبر إلقاء الأضواء على حزمة من التعريفات والنظريات والمواقف التحليلية، عارضاً ما قيل حوله من جانب عدد من المفكرين والفلاسفة غرباً وشرقاً.

المحرر

----------------------------

تعني الإيديولوجيا باليونانية القديمة: δέα إيديا، «فكرة»، وλόγος لوغوس، «علم، وخطاب»؛ وبالعربية: منطق الأفكار الأدلوجة، الفكرويَّة، الفكرانية، العقيدة الفكرية، هذا فضلاً عن تعريفات عديدة تناولت جانباً أو أكثر من جوانب هذا المصطلح. إلَّا أن التعريف الأكثر تداولاً هو  الذي يحدِّد الإيديولوجيا بأنها «النسق الكلّي للأفكار والمعتقدات والاتجاهات العامة الكامنة في أنماط سلوكية معينة. وهي تساعد على تفسير الأسس الأخلاقية للفعل الواقعي، وتعمل على توجيهه. وللنسق المقدرة على تبرير السلوك الشخصي، وإضفاء المشروعية على النظام القائم والدفاع عنه. فضلاً عن أن الإيديولوجيا أصبحت نسقاً قابلاً للتغيُّر، وذلك استجابة للتغيرات الراهنة والمتوقعة، سواء كانت على المستوى المحلي أم العالمي[2].

يُعدُّ ديستوت  دي تراسي (1754 – 1836)  أول من صكَّ هذا المصطلح في عصر التنوير الفرنسي، في كتابه «عناصر الإيديولوجية». وهو يعني بالإيديولوجيا علم الأفكار، أو العلم الذي يدرس مدى صحة أو خطأ الأفكار التي يحملها الناس. أي تلك التي تُبنى منها النظريات و الفرضيات، التي تتلاءم مع العمليات العقلية لأعضاء المجتمع. وقد انتشر استعمال هذا الاصطلاح بحيث أصبح لا يعني علم الأفكار فحسب، بل النظام الفكري والعاطفي الشامل الذي يُعبّر عن مواقف الأفراد من العالم والمجتمع و الإنسان.  وقد طُبِّق بصورة خاصة على المواقف السياسية التي هي أساس العمل السياسي وأساس تنفيذه وشرعيته. والإيديولوجيا السياسية هي التي يلتزم ويتقيَّد بها رجال السياسة والمفكرون إلى درجة كبيرة، بحيث تؤثر في حديثهم وسلوكهم السياسي، وتحدد إطار علاقاتهم السياسية بالفئات الاجتماعية المختلفة[3]. ونستطيع القول إنّ الإيديولوجيا السياسية التي تؤمن بها الفئات الاجتماعية المختلفة في المجتمع، قد تتضارب بعضها ببعض، أو تتسم بالأسلوب الإصلاحي أو الثوري، الذي يهدف إلى تغيير واقع المجتمع وظروفه؛ ولكن جميع الإيديولوجيات تبدو  متشابهة في شيء واحد، وهو  أسلوبها العاطفي وطبيعتها المحرِّكة لعقول الجماهير كما يقول كارل مانهايم. ومن ثَم، تعبّر الإيديولوجيا، بصورة عامة، عن أفكار يعجز العلم الموضوعي عن برهان حقيقتها وشرعيتها، لكن قوة هذه الأفكار تظهر من خلال نغمتها العاطفية وأسلوبها المحرك للجماهير، والذي يتناسب مع الحدث الاجتماعي الذي يمكن القيام به. أما المفهوم الماركسي للإيديولوجيا، فيُعبّر عن شكل وطبيعة الأفكار التي تعكس مصالح الطبقة الحاكمة، التي تتناقض مع طموحات وأهداف الطبقة المحكومة، خصوصاً في المجتمع الرأسمالي[4].

مستويات الإيديولوجيا وأنماطها

يحدد كارل مانهايم في كتابه “الإيديولوجيا واليوتوبيا” مفهوم الإيديولوجيا، من خلال مستويين[5]:

المستوى التقويمي: وهو  يتعامل مع الإيديولوجيا على أساس أنها تتضمن أحكاماً تُعنى بواقع الأفكار وبناءات الوعي.

المستوى الدينامي: وهو يتناول الإيديولوجيا من خلال سمتها الدينامية، على أساس أن هذه الأحكام دائماً ما تُقاس من طريق الواقع، ذلك الواقع الذي يحيا في ظل تدفق ثابت أو جريان دائم.

وحول الأنماط التي تسلكها الإيديولوجيا في تطبيقاتها يشير مانهايم إلى ما سمَّاه بـ«التشوُّه الإيديولوجي» والوعي الزائف، أي التفسير غير الصادق الذي يضعه شخص ما. وهذا ما أكّده  ديفيد هوكس[6] من أن كلمة «إيديولوجيا» تشير أحياناً إلى طريقة خاطئة في التفكير على نحو نسقي، ووعي زائف. وهكذا فرّق مانهايم بين نمطين من الإيديولوجيا، هما:

ـ الإيديولوجيا الخاصة التي تتعلَّق بمفهوم الأفراد وتبريراتهم للمواقف التي تهدِّد مصالحهم الخاصة..

ـ الإيديولوجيا الكلية التي تتعلق بالتفكير السائد داخل الطبقة أو الحقبة التاريخية، كما هي الحال في نمط التفكير السائد لدى البرجوازية أو البروليتاريا (الطبقة العاملة).

في ضوء هذين النمطين عرّف مانهايم الإيديولوجيا بوصفها مجموعة قيم أساسية ونماذج للمعرفة والإدراك، يرتبط بعضها ببعض، وتنشأ صلات بينها وبين القوى الاجتماعية والاقتصادية. فإذا أخذنا بتصور مانهايم هذا لمفهوم الإيديولوجيا، نستطيع أن نميِّز في أي مجتمع طبقي بين نمطين منها:

النمط الأول: إيديولوجيا الجماعات الحاكمة التي تريد فرض تصوراتها وأفكارها على بقية أفراد المجتمع، وتبرير الأوضاع الراهنة والدفاع عنها.

النمط الثاني: إيديولوجيا الجماعات الخاضعة، التي تحاول تغيير هذه الأوضاع لمصلحتها، وإحداث تغيرات في بناء القوة القائم، بما في ذلك تحقيق العدالة الاجتماعية وتوزيع الدخول توزيعاً عادلاً [7].

في مضمار أعماله حول «الإيديولوجيا وأجهزة الدولة الإيديولوجية» يستكشف المفكر الماركسي الفرنسي لويس ألتوسير اهتمام الفيلسوف الايطالي انطونيو جرامشي بالمجتمع الذي تَبَرعَم من دون أن يكتمل بالمؤسسات المادية التي تحقن الجماهير بالإيديولوجيا. وهو يتتبع في هذا المجال إشارة جرامشي إلى «حاجة الرأسمالية إلى تشكيل نمط جديد من الإنسان مناسب للنمط الجديد من العمل والعملية الانتاجية» (جرامشي 286). فالمهمة الأولى لأي نظام اقتصادي - وفقاً لألتوسير- هي إعادة  شروط إنتاجه الخاصة، ويتضمن ذلك إعادة إنتاج أنماط البشر الذين سيكونون قادرين على الإسهام في عملية الانتاج. واستطاعة الدولة الرأسمالية الحديثة أن تقوم بذلك معتمدة على نمطين من المؤسسات: «أجهزة الدولة القمعية» مثل البوليس والمحاكم والجيش، و«أجهزة الدولة الإيديولوجية» التي تضم الكنيسة والعائلة والأحزاب السياسية ووسائط الاتصال وأكثرها أهمية هو  النظام التعليمي. وكما نتوقع، فإن الفرق بين الجهازين أن الجهاز القمعي يعمل بواسطة «العنف»، في حين أن الجهاز الإيديولوجي يعمل «بواسطة الإيديولوجية»[8].

من هنا، فإن الإيديولوجيا متجسدة في الممارسة المادية. ويلاحظ ألتوسير أن «إيديولوجيا ما توجد دائماً في جهاز وفي ممارسته أو ممارساته. وهذا الوجود مادي» (166). وقد رأينا في الفصل الأخير أن جرامشي قال ما يشبه ذلك كثيراً. ولكن ألتوسير يزعم أنه يترتب على ذلك أن «الأفكار بوصفها أفكاراً قد اختفت» (168). وهكذا يصل ألتوسير إلى النتيجة الغربية «التي لامسوِّغ لقبولها» وهي أنه نظراً لأن الأفكار يجري التعبير عنها ونقلها بواسطة مؤسسات مادية فستكون هي نفسها مادية. والقول بغير ذلك كما يزعم هو  «إيديولوجيا»:

«ينشأ الوجود المثالي والروحي «للأفكار» حصراً في إيديولوجية «الفكرة» و»علم الأفكار»، ودعني أضيف في إيديولوجية ما يبدو  أنه «أسس» ذلك التصور منذ نشوء العلوم، أي ما تمثّله ممارسات العلوم لنفسها في إيديولوجيتها التلقائية باعتبارها «أفكاراً» صحيحة أو خاطئة. وبطبيعة الحال فإن هذه الأطروحة مقدمة بشكل إيجابي ليست مبرهنة. وأنا ببساطة أسأل القارئ أن يكون مهيأ لتحبيذها باسم المادية، فسلسلة طويلة من الحجج ستكون ضرورية لبرهنتها (6-165).

وفي الحقيقة يتطلب الأمر سلسلة طويلة من الحجج لبرهنة أن الأفكار مادية. وواقعة أن ألتوسير يسأل قراءة أن يقبلوا ذلك كمسألة إيمان تنبغي أن تكون علامة على أننا رجعنا إلى نوع من المادية «الميتافيزيقية» التي كانت سمة مميزة للتنوير الفرنسي.

لكن الالتزام الجدالي بالمادية الذي يطبع أعمال ألتوسير بطابعه يتحرر من أن المادة تحدد الأفكار لينتقل إلى افتراض أن الأفكار لا توجد:

«إن وجود أفكار بأن أفعال هي أفعالها المادية أُدرجت في ممارسات مادية تتحدد هي نفسها بواسطة جهاز، إيديولوجي مادي تُستمد منه أفكار تلك الذات» (169)، فإذا كانت الأفكار مادية فإن الذات التي تمتلك أفكاراً يجب أن تكون موضوعاً، ويقال إن مجرد تصور ذات مستقلة مثله مثل مفهوم أفكار لامادية هو  أمر إيديولوجي:

«إن مقولة «الذات» عنصر أساسي في الإيديولوجية التي لا توجد إلَّا بتشكيل ذوات عيانية... وإن وجود الإيديولوجية ونداء الأفراد باعتبارهم ذوات هو  الشيء الواحد نفسه (175، 173».

      بين مصطلحَي الإيديولوجيا واليوتوبيا

أما بخصوص العلاقة بين البعد المادي والبعد المعنوي للذات فهي قضية يناقشها الفيلسوف الفرنسي بول ريكور في كتابه «محاضرات في الإيديولوجيا واليوتوبيا، ويرى أن قضية العلاقة بين هاتين المفردتين هي علاقة تلازمية ويضعهما ضمن إطار مفهومي واحد. يقول في هذا المجال إن «فرضيتي تذهب إلى أن هنالك جانباً إيجابياً يضاف إلى الجانب السلبي في كل من الإيديولوجيا واليوتوبيا، وإنّ  القطبية بين هذين الجانبين في كل مصطلح يمكن أن تتكشف من خلال استقصاء قطبية مماثلة بين المصطلحين. ودواعي هذه القطبية بين الإيديولوجيا واليوتوبيا، وداخل كل واحدة منهما أيضاً يمكن أن تُعزى إلى خواص تركيبية لما أسمِّيه المخيلة الثقافية. إذ إنّ هاتين القطبيتين تحويان ما يمثل بالنسبة إلي التوترات الرئيسية في دراستنا للإيديولوجيا واليوتوبيا[9].

منذ مانهايم، تركّز أغلب الاهتمام بهاتين الظاهرتين في الإيديولوجيا أو اليوتوبيا، ولكن ليس عليهما معاً. من جانب آخر، لدينا نقد للإيديولوجيا طرحه أساساً علماء الاجتماع الماركسيون ومَن بعدهم. وهنا يتركز التفكير في مدرسة فرانكفورت التي يمثلها هابرماس وكارل أوتوابل، وغيرهما. في مقابل هذا النقد الاجتماعي للإيديولوجيا، نجد أن لليوتوبيا تاريخاً وعلم اجتماع. إلّا أن اهتمام الحقل الأخير باليوتوبيا لا تربطه إلّا علاقة واهية باهتمام حقل النقد الاجتماعي بالإيديولوجيا. ولكن ربما كنا نشهد تغيُّراً في الميل إلى الفصل بين هذين الحقلين، ولكن هنالك على الأقل اهتمام متجدد بالعلاقات بينهما.

إن الصعوبة في ربط الإيديولوجيا باليوتوبيا مفهومة على أيّ حال، ذلك لأنهما تُطرحان بطرائق شديدة الاختلاف. الإيديولوجيا مفهوم مثير للسجال دائماً. وعندما توصف بطريقة فضفاضة جداً تكون خطأ ارتكبه الآخر. لذلك فإن الناس لا يقولون أبداً إنهم أنفسهم دعاة إيديولوجية ما، المصطلح موجه دائماً ضد الآخر. إلى ذلك، نجد أن كتّاب اليوتوبيا يدافعون عنها، بل هي تشكل جنساً أدبياً محدداً. هنالك كتب تسمَّى يوتوبيات، وهي تتمتع بمكانة أدبية متميزة. لذلك، فإن الوجود اللغوي للإيديولوجيا اليوتوبيا لا يتطابق دائماً ـ حسب ريكورـ . وبالتالي اليوتوبيات يدّعيها كتّابها لأنفسهم، بينما الإيديولوجيا ينكرها كتَّابها. وهذا هو  السبب الذي يجعل وضع الظاهرتين معاً صعباً للوهلة الأولى. لا بد لنا من الحفر تحت التعبيرات الأدبية والدلالية عنهما لكي نكتشف وظيفتهما، وعندها نؤسس لرابطة تجمع بينهما على هذا المستوى[10].

وثائق تعريفية في تعدّد المعاني

جاء في كتاب أعدّه المفكر الفرنسي ميشيل فاديه بعنوان: «الإيديولوجية – وثائق من الأصول الفلسفية»[11] مجموعة من التعريفات نقلها من كتابات عدد من الفلاسفة وعلماء الاجتماع في الغرب، وفي ما يلي نقتطف أبرزها كما وردت في كتابه المذكور:

-إيديولوجية: (أ) عند مبدع الكلمة ديتسوت دي تراسي تعني علم الأفكار في أعم معنى لهذه الكلمة، أي علم حالات الوعي. هذا الخلق الجديد للكلمة، كان يهدف إلى إحلاله محل «سيكولوجي» التي كانت معيبة لأنها تستدعي النفس.

وعند الفيلسوف الفرنسي مان دوبيران (1766 - 1824)  فإنّ الإيديولوجية تحلِّق ـ إذا صح الكلام ـ فوق جميع العلوم، لأن العلوم ليست إلّا أفكارنا وعلاقتها المختلفة. هذه الأفكار شبيهة بالبلد الممتد واللاَّنهائي التنوع، والمنقسم إلى مقاطعات عديدة، يوصلها بعضها ببعض عدد أكبر من طرائق الاتصال(...) ولكن لكل هذه الطرائق أصل واحد، بل إن أكثرها يبدأ من نقطة مشتركة ثم يتشعب في ما بعد؟ هذا الأصل الواحد، وهذه النقاط المشتركة، التي يجهلها المسافرون غالباً، يأخذ الإيديولوجي على عاتقه مهمة أن يعلّمهم إياها بشكل أساسي(م.دي بيران. العلاقات بين الإيديولوجية والرياضية، مؤلفات 3، 13-14)[12].

-2 الإيديولوجية هي عملية يمارسها فعلاً الفكر المدِّعي بوعي، ولكن وعي (زائف)، ذلك أنه يظل يجهل القوى المحركة الحقيقية. ولولا ذلك لما كانت هذه العملية عملية إيديولوجية إنجلز. (خطاب إلى ن. ميهرنج 14 يوليو 1893).

-3 الإيديولوجية عرض ذهني يستجيب لمطلب عاطفي(...) وكأن الإيديولوجية – إذاً – مصنعة لتلبية حاجات اجتماعية معينة، أي بين الأفراد – مثل المنتجات الصناعية التي تلبي حاجات اقتصادية معينة (جـ. مونرو. الوقائع الاجتماعية ليست أشياء، 206).

-4  الإيديولوجية هي(...) المعادل الوظيفي للأسطورة ( المرجع نفسه 108).

-5 الإيديولوجية في علاقتها بالفلسفة تشبه علاقة التبسيط  Vulgarisation”» بالعلم. وعندما يُرى العلم عبر التبسيط لا يُعرف غالباً، وإن كان التبسيط مديناً للعلم بأصله (نفسه 210).

-6 الإيديولوجيات تشكك في الفلسفات، وهي مستمدة من فلسفات سريعة ومرتجلة، وهي كذلك مبنية على فلسفات أعمق، يُعاد تشكيلها تلبية لحاجات عاطفية متفقة إلى حد ما مع التبادل ومع تقلبات سوق المال في السياسة اليومية(...) وثمة سمة أساسية للإيديولوجية، هي أنها تلعب ـ بطبيعة إنتاجها ـ دور العلامة المسجلة للسلعة (نفسه 211-22).

-7 الأفكار مكتظة بالإيديولوجيات، وهي مجردات تثبت وتبسط من أجل استهلاك واسع، وتلك المجردات تشكل الأذهان، وتقاوم فيها الخلق الروحي (أي.مونيه. بيان الشخصانية 110).

-9 تسعى الإيديولوجية ـ بطبعها ـ لأن تصبح دعاية ـ أي انتقالاً آلياً إلى صيغ مغناطيسية، بواسطة هوى يشكل  في جوهره العميق كراهية، ولا يُجسّد إلا بشرط أن يمارس ضد فئة معينة من البشر: من اليهود، والمسيحيين، والماسونيين، والبرجوازيين.. إلخ. (جبرييل مارسيل، البشر ضد الإنسان 167).

 -9 تكاد صيغة «الإيديولوجية هي فكرة عدوي» أن تكون أقل تعريفات الإيديولوجية سوءاً.  (ريمون آرون. في أبحاث فلسفية 6، 64) (بول فولكيه. قاموس اللغة الفلسفية. باريس. المنشورات الجامعية الفرنسية 1969، ص 337).

 -10 الإيديولوجية هي مجموعة من الأفكار تعيش حياتها المستقلة ولا تخضع إلا لقوانينها الخاصة. (فريدريك انجلز. لودفيغفيورباخ. باريس. المنشورات الاجتماعية 1966 ص 78 ترجمة جورج باديا).

 -11 الإيديولوجية هي ظاهرة أسطورية مفهومية (جورج لوكاتش  التاريخ والوعي الطبقي. باريس مطابع مينوي. 196 ص 210 ترجمة انسياوسوجـ. بواس).

-12 رجال الثقافة الذين يأتون بعد فترات الازدهار الكبيرة، والذين يشرعون في ترتيب الأنظمة أو اكتساب أراض لا تزال غير معروفة تماماً ـ من خلال مناهج جديدة، والذين يعطون للنظرية وظائف عملية، ويستعملونها كأداة للهدم أو للبناء؛ هؤلاء لا يصح أن نسميهم فلاسفة. فهم يستغلون الأرضية، ويرصدون ما فيها، ويقيمون عليها بعض الأبنية، ويصدف ـ حتى ـ أن يحدثوا فيها بعض التغييرات الداخلية، ولكنهم يظلون يتغذون على فكر الموتى. هذا الفكر تحمله الجماهير ـ المتحركة، التي تشكل وسطهم الثقافي ومستقبلهم، وتحدد مجال أبحاثهم حتى «إبداعهم». إنني أقترح أن نسمِّي هؤلاء الرجال النسبيين: الإيديولوجيين. (جان بول سارتر. نقد العقل الجدلي. ط باريس جاليمار 1960 ص 17).

الإيديولوجيا في التفكير الفلسفي العربي

    من المفيد هنا أن نطل على الطريقة التي تلقى فيها الفكر العربي الحديث مفهوم الإيديولوجيا والكيفية التي تعامل فيها مع هذا المفهوم. الفيلسوف المغربي عبد الله العروي ـ هو من أبرز الأكاديميين والمفكرين العرب الذي تصدّوا للمفهوم في كتابه «مفهوم الإيديولوجيا»، وهو  يقول معرِّفاً المصطلح: إن كلمة إيديولوجيا هي كلمة دخيلة على جميع اللغات الحية. وهي تعني لغوياً، في أصلها الفرنسي، علم الأفكار، لكنها لم تحتفظ بالمعنى اللغوي، إذ استعارها الألمان وضمنوها معنى آخر، ثم رجعت إلى الفرنسية، فأصبحت دخيلة حتى في لغتها الأصلية. وفي سياق نقده للاستخدام العربي لهذه الكلمة يضيف العروي: «ليس من الغريب في هذه الحالة أن يعجز الكتّاب العرب عن ترجمتها بكيفية مُرضِية. إن العبارات التي تقابلها ـ منظومة، عقيدة، ذهنية، إلخ- تشير إلى معنى واحد فقط من بين معانيها. إننا نجد في العلوم الإسلامية لفظة لعبت دوراً محورياً كالدور الذي تلعبه اليوم كلمة إيديولوجيا، وهي لفظة الدعوة، غير أنه من المستحيل إحياؤها والاستعاضة بها عن كلمة إيديولوجيا التي انتشرت رغم عدم مطابقتها لأي وزن عربي. لهذا يقترح العروي تعريبها تماماً وإدخالها في قالب من قوالب الصرف العربي، لتصبح كلمة أدلوجة على وزن أفعولة حسب قواعد العربية هي حاصل هذا المقترح[13].

ثم يحدد المفكر والفيلسوف المغربي عبد الله العروي خمسة استعمالات للمفهوم في نطاق الفكر الغربي الحديث:

أولاً، استعمال القرن الثامن: حيث تعني الأدلوجة الأفكار المسبقة الموروثة عن عصور الجهل والاستعباد والاستغفال. يتقابل في هذا التقليد الجاهل مع العقل الكاشف عن الحقيقة البديهية، وهو  عقل لا يختلف في الفرد وفي الإنسانية جمعاء. ومثل هذا الاستعمال ينظر إلى الأدلوجة انطلاقاً من العقل الفردي.

ثانياً: إستعمال الفلاسفة الألمان، هيغل والرومانسيين بوجه خاص: حيث تعني الأدلوجة منظومة فكرية تعبّر عن الروح التي تحفز حقبة تاريخية إلى هدف مرسوم في خطة التاريخ العام، فينظر إلى الأدلوجة انطلاقاً من التاريخ كخطة واعية بذاتها.

ثالثاً، الاستعمال الماركسي حيث الأدلوجة منظومة فكرية تعكس بنية النظام الاجتماعي، فينظر إليها انطلاقاً من البنية الباطنية للمجتمع الإنساني الذي يتميز بإنتاج وسائل استمراريته.

رابعاً، إستعمال نيتشه: حيث الأدلوجة مجموع الأوهام والتعليلات والحيل التي يعاكس بها الإنسان / الضحية قانون الحياة. ولذا فهو  ينظر إلى الأدلوجة انطلاقاً من الحياة كظاهرة عامة تفصل عالم الجماد عن عالم الأحياء.

خامساً، إستعمال فرويد: حيث الأدلوجة مجموع الفكرات الناتجة من التعاقل الذي يبرّر السلوك المعاكس لقانون اللذة والضروري لبناء الحضارة. وهو  ينظر إلى الأدلوجة انطلاقاً من اللذة وهي ميزة الحيوان وبالتالي ميزة الإنسان الأولى [14].

في هذه الاستعمالات الخمسة تتغاير التعابير (تقليد، روح، بنية، وهم، تعاقل) التي تميّز الأدلوجة عن الحق (عقل فردي، تاريخ عام، مجتمع إنساني، حياة، حيوان)، لكننا نلاحظ فيها تشابهاً بنيوياً. كل استعمال يفرِّق بين الظاهر والخفي، بين الملموس والحقيقي، بين الوجود والقيمة، ويحدد بالتالي الأدلوجة انطلاقاً من الحق الثابت، فيرفع قناع الأدلوجة عن الحقيقة الباطنية. وهكذا يكشف الفكر الليبرالي عن أكاذيب سلطة التقليد، ويفضح الفكر الماركسي تعليلات البورجوازية المكشوفة، ويرفع النيتشوي النقاب عن أوهام المستضعفين... إلخ. هذه البنية المشتركة هي سبب تداخل الاستعمالات المعاصرة . لقد لاحظنا ـ كما يرى العروي ـ أن لوكاتش متأثر في بحوثه العينية بالهيغلية والماركسية وببعض جوانب الكانطية الجديدة. وأن مانهايم متأثر بماركس وفيبر ونيتشه، ونرى التداخل نفسه عندما نتعرض بالتفصيل إلى التحليلات السابقة، حتى عندما يعلن تمسكه بمدرسة واحدة.

أما الميادين التي غالباً ما تجري فيها تلك الاستعمالات، فيلاحظها العروي على النحو التالي:

يجري المفهوم الأول في ميدان المناظرة السياسية. ومن الطبيعي حينئذ أن يكتسي صبغة سلبية أو إيجابية حسب هوية المستعمل. يرى المتكلم أدلوجته الخاصة عقيدة تعبّر عن الوفاء والتضحية والتسامي، ويرى في أدلوجات الخصوم أقنعة تتستر وراءها نوايا خفية لا واعية يحجبها أصحابها حتى على أنفسهم لأنها حقيرة لئيمة. إن أدلوجة المتكلم تنير الطريق فتهدي الخلق إلى دنيا الحق والعدل، بينما تعمي أدلوجة الخصم الناس عن سبيل الحقيقة والسعادة. إن دارس الأدلوجات في الحقل السياسي لا يحكم عليها من زاوية الحق والباطل، وإنما يصفها بالنظر إلى فعاليتها، وإلى قدرتها على استمالة الناس والاقتراب من أهدافها وحسب.

الميدان الثاني يجري داخل المجتمع وفي دور من أدواره التاريخية، حيث تحدد الأدلوجة برأيه أفكاره وأعمال الأفراد والجماعات بكيفية خفية لا واعية. ولكي يصل الباحث إلى رسم معالمها لا بد له من تحليل أعمال أولئك المعاصرين وتأويلها. فإذا درسنا مثلاً أدلوجة الخوارج فإننا نبحث في أدلوجة العصر، تلك الأدلوجة التي تحكمت في أذهانهم وأذهان أعدائهم وجعلتهم يهتمون بمشكلات محددة بين سائر المشكلات الممكنة، ويضعون سؤالاً من دون بقية الأسئلة، ويحاولون الإجابة عنه في إطار مخصوص. ولا سبيل لنا لاستخراج أدلوجتهم إلّا بتأويل أعمالهم السياسية والأدبية[15] .

الميدان الثالث يجري في مجال الكائن، أي الإنسان المتعامل مع محيطه الطبيعي، والبحث فيه هو  من قبيل نظرية الكائن.

ميدان الاستعمال الرابع  مشترك بين المجالات السابقة. فعندما يُدرَس تأثير أيّ أدلوجة في الفكر  فإن البحث هنا ينحصر في الحدود الموضوعية التي ترسم أفق ذلك الفكر. والحدود المشار إليها هنا من أنواع ثلاثة: حدود الإنتماء إلى أدلوجة سياسية، وحدود الدور التاريخي الذي يمر به المجتمع ككل، وحدود الإنسان في محيطه الطبيعي.

يستنتج العروي بعد هذا العرض أن مفهوم الأدلوجة دائماً مزدوج، فهو وصفي ونقدي في الوقت نفسه. ويستلزم دائماً مستويين: المستوى الأول هو الذي تقف عنده الأدلوجة حيث تظن أنها حقيقة مطابقة للواقع، وهو  المستوى الذي يقف عنده الباحث لوصف تلك الأدلوجة بوفاء وأمانة، والمستوى الثاني هو  الذي يقف عنده الباحث عندما يحكم على الأدلوجة بأنها لا تعكس الواقع على وجهه الصحيح. إذا بقي الباحث في مستوى واحد، عليه  أن يحكم في إطار الحق والباطل ولم يعد لكلمة أدلوجة أي مدلول خاص. إن الظاهرة النقدية هي التي تميز مفهوم الأدلوجة عن المفاهيم الأخرى مثل: فكر، ذهنية، عقيدة، دين، فلسفة... فيجب عدم طمسها أو عدم الوعي بها، وإلا أصبحت كلمة أدلوجة كلمة فارغة وغير ضرورية.

معنى الإيديولوجيا في التفكير الديني

تعني الإيديولوجيا في بعض التفسيرات الإسلامية المعاصرة علم العقيدة. وعليه فالأيديولوجي يعني صاحب عقيدة خاصة، و الإيديولوجيا  هي العقيدة الخاصة لجماعة، لطبقة، لفئة، لشعب ما أو عنصر ما. ومن قبل أن يتخذ المفهوم صيغته النهائية فإن هذه التفسيرات تحاول أن حدود الاختلاف بين العلم والإيديولوجيا. فالعلم عبارة عن وعي العالم للواقع الخارجي، وهو تعبير عن صورة ذهنية للواقع العيني، استكشاف صلة ما، أصل ما، صفة ما، أو ميّزة ما، في الإنسان، في الطبيعة وفي الموجودات. بناء على هذا فإن صلة العلم بالمعلوم، والتي اسمها العلم، هي صلة المرآة بالأشياء، أو المنظر الذي أمامها، إذاً فالعلم ـ أساساً ـ ظاهرة سلبية (passive)، فالعالم لا يؤثر في المعلوم، كما هو  الفيزيائي مثلاً: يعلم أن مقدار جاذبية أي جرم يسقط إلى الأرض يقاس وفقاً لتربيع حاصل ضرب سرعته بالمسافة (mv) فهذا يمثل قانون سقوط هذا الشيء في الطبيعة.

أما الإيديولوجيا، فهي عبارة عن نوع من اعتقاد المفكر بالنسبة إلى أهمية الواقع الخارجي وتقويمه، وكذلك الاعتقاد بما لهذا الواقع من صعوبات وإمكانية تغييرها، وكيف يمكنها أن تكون نموذجية[16].

هناك اصطلاحان في العلم وفي الطريقة العلمية نخلط بينهما عادة، أحدهما (Jugement de Fait)، والآخر: (Jugement de Valeur) الأول بمعنى تقويم ودراسة الواقع الخارجي، الواقع الخارجي هو  (Fait)، هو (عين)، هو (هذا)، (هكذا) أنا عندما أكون في المرحلة الأولى، في مرحلة (حكم على الواقع) (Jugement de fait) فإن عملي سينحصر في استكشاف خصوصيات هذا الـ(Fait)، هذا الواقع، هذه الظاهرة الخارجية فقط وفقط، أدرسها بدقة وأعلن: هي (هكذا)

(حكم تقويمي) (Jugement de value)، وهي بهذا المعنى: إن الخصوصيات التي تملكها هذه الظاهرة سيئة ومضرة ومحرفة وفاسدة ويجب تغييرها بهذا الأسلوب، يجب تبديل هذه الخصوصيات السلبية بخصوصيات إيجابية.

لكن لا بد من فصل هاتين المرحلتين عن بعضهما كما يلاحظ شريعتي ـ فبعد أن تنتهي مرحلة دراسة الواقع الخارجي، علينا أن نبادر إلى التقويم، نجري مقايسة ونرى أن هذا العامل كان سلبياً أو إيجابياً، أضحى سبباً في رقي إيران أو في انحطاطها وانحرافها، أبدع قيماً إنسانية جديدة أو أنه أباد القيم الإنسانية القديمة، أباد القومية أو دعا إليها، منح طبقات الجماهير نور الحرية أو حافظ على شكلها القديم، هنا نحن في حالة التقويم، وقد دخلنا مرحلة الدراسة والتقويم وتحسين الواقع الخارجي أو تقبيحه[17].

في المرحلة الأولى، مرحلة (الحكم على الواقع) (Jugement de fait)، تمت دراسة الواقعيات الخارجية بدقة، حيث نحن في مرحلة الاطلاع، وفي المرحلة الثانية نصنف القيم وفقاً لحسنها وقبحها، نقترح، ننتقد، نشير إلى طريقة الحل، نبدي وجهة نظرنا، وعقيدتنا، لقد دخلنا مرحلة الإيديولوجيا .

بناء على هذا، تكون قد اتضحت علاقة الإيديولوجيا بالعلم، أما عن العلاقة بين الفلسفة والأيديولوجيا، فيمكن القول إن الفلسفة والإيديولوجيا  في رأي الكثير من المفكرين متقاربة، حتى أنهما تُتَصَوَّران مترادفتيْن في حين أن الفلسفة بعيدة عن الإيديولوجيا  كبعد العلم عن الإيديولوجيا.

تُعرّف الفلسفة بأنها: عبارة عن التفكير بكليات ومجهولات لا يصل إليها العلم، وهي خارج عهدته، مثلاً التفكير حول مصير الإنسان، معنى الوجود، فلسفة الحياة البشرية، غاية خلقة الإنسان، موضع ومكانة البشر في العالم، هذه أمور فلسفية.

بناء على هذا فإن علاقة الفلسفة بالإيديولوجيا  هي نفس علاقة العلم بالإيديولوجيا، بمعنى أن الفلسفة كالعلم أيضاً تبحث عن اكتشاف المجهول. فالفلسفة علم، إلاّ أنها علم ما وراء العلم، أي أنها تتطلع للمجاهيل والواقعيات، يعقّب أحكاماً على الواقع، وهذا الواقع أسمى من «الواقع» والواقعيات التي يبحث عنها العلم في المختبرات، بناء على هذا، فالفلسفة هي العلم نفسه إلا أنها في مرتبة أسمى من مرتبة وهي بالنسبة للمسائل أهم وأعمّ.

أما الإيديولوجيا، فهي عبارة عن العقيدة، والعقيدة عبارة عن:

أولاً: نوع التصوّر والفهم الذي نحمله عن العالم، عن الحياة، وعن الإنسان.

ثانياً: نوع الانطباع والتقويم الخاص والذي وفقاً له تتحدد نظرتنا للأمور التي نحن على صلة معها والتي تكوّن نطاقنا الاجتماعي، والفكري. المرحلة الثانية هي الإيديولوجيا .

ثالثاً: والمرحلة الثالثة هي عبارة عن الاقتراحات، طرق الحل، وكذلك عرض النماذج المثالية من أجل أن نغيّر، طبقاً لذلك، كل ما هو  غير نموذجي والذي لا نقبله الآن[18].

إذاً، فالإيديولوجيا  ـ حسب هذه الرؤية ـ تتكون من ثلاث مراحل، الأولى رؤية كونية، الثانية: نوع من التقويم الانتقادي للمحيط والقضايا، الثالثة: الاقتراحات وطرق الحل بصورة نموذجية وبعنوان أهداف، ولما كان على كل إيديولوجيا أن تعطي. في المرحلة الثالثة، نماذج عمليةً ومثاليات وخططاً نموجيةً فإن لكل صاحب الإيديولوجيا  التزاماً ومسؤوليةً تجاه هذه المثاليات التي يعتقد بها، ويجب عليه تغيير الوضع الموجود وفقاً لذلك[19].



في محاضراته الجامعية حول الدين يحرص شريعتي على التمييز الاصطلاحي ويلاحظ في هذا الصدد أن ثمّة نوعين من الدين:

أحدهما ضد الآخر. الأول "حيث أنه لا يوجد شخص يحقد على الدين بقدر ما أحقد عليه أنا..والثاني حيث لا يوجد شخص يؤمن بالدين بقدر ما أؤمن به أنا، ولا يأمل فيه بقدر ما آمل فيه في القرن العشرين، وإن حالة التناقض هذه التي غالباً ما ترونها في أحاديثي ـ ولهذا السبب بالذات تناقضت أحكامهم عليّ ـ هي لهذا السبب هو  أن الدين لم يكن واحداً، حتى الإسلام نفسُهُ ـ ليس لأنه مثلاً الإسلام دين إيجابي والمسيحية سلبية، لا ـ هناك إسلام منحطّ، إسلام يجني، إسلام يوجد الرجعية والتخدير، إسلام ينحر الحرية، إسلام يبرر الوضع القائم في التاريخ دائماً، وهناك إسلام آخر كافح ذاك الإسلام (المنحطّ) بعنف وراح ضحيته، المسيحية أيضاً هكذا، دين زرادشت أيضاً هكذا"[20].

الإسلام حسب رأي شريعتي ـ له رؤية واقعية غير إنسانية قد تحققت في التاريخ، وله رؤية حقيقية إنسانية وما وراء إنسانية، حيث تعتبر أو ل أمنية وأول فلسفة وأول روح لهذه النهضة، وقد تم في التاريخ بعد ذلك باسم الإسلام نفسه، مثلما نرى الآن كيف يتم التضحية بالحقائق الإسلامية في المناطق الإسلامية.

يكون الدين تارة، وبلحاظ أحد الوجوه، بمثابة إيديولوجيا، وتارة أُخرى، وبلحاظ وجه آخر، يكون بمثابة تقاليد اجتماعية، وبمثل هذا يعرف «دوركهايم» الدين[21]، وهو  تعريف صحيح.

الإسلام في أفريقيا على سبيل المثال، هو بمثابة إيديولوجيا، هناك في أفريقيا توجد ـ في الجانب الفكري ـ ثلاث جبهات حرب: إحداها المذهب الكاثوليكي، أموال طائلة، مليارات الدولارات والجنيهات تصرفها الكنيسة هناك لأجل جبهة الكاثوليك المتفتحة، وهناك جبهة ماركسية، وجبهة إسلامية. ولما لم يكن كلٌّ من هذه الأديان الثلاثة، العقائد الثلاث، بمثابة عقيدة تقليدية ووراثية بالنسبة لهم، فقد أصبح كل منها بصورة إيديولوجيا.

وهذه الجبهات الثلاث هي في حالة حرب مستمرة، وعلى حد قول «فنسان مونتي» أن الذين يغيرون دينهم في إفريقيا فإن أكثر من أربعة أشخاص من كل خمسة أشخاص منهم يعتنقون الإسلام، وأقل من نصف شخص يذهب إلى المسيحية علماً أن أولئك الذين يتمسكون بالمسيحية هم موظفو الشركات وسفارات البلدان الأوروبية، الذين لهم رؤوس أموال ودوائر هناك، وطالما كان هؤلاء يعملون هناك وضمن كادرهم، فمن الواضح أنهم يؤمنون بهم، في حين أن الذين يشيعون الإسلام هناك هم الفقراء البائسون، ولم يكن هناك تبليغ ولا يوجد الآن قرآن بلغتنا الفارسية ـ نحن الذين كنا ومنذ البداية، وقبل العرب، نفهم الإسلام ـ بحيث نتمكن من قراءته. بينما الإنجيل نراه قد ترجم إلى جميع اللغات الإفريقية وطبع، حتى إلى اللهجة القبلية التي لا يتكلم بها إلّا بيوتات معدودة في الغابات. ومع ذلك فهو  بهذه الصورة.

يشير شريعتي[22] إلى قضية في غاية الأهمية، وتتعلّق بملازمة الإيديولوجيا للإنسان ملازمة ذاتية. وهي مسألة إيمائية. إذ الإيمان أو الإيديولوجيا  يتعلق بها الإنسان كالعشق. لم يأتِ أحد ليقيِّم، ليجري بعض المحاسبات ويميز بين الجيد والرديء، ليعمل مقايسات، ومن ثم وبعد كل هذه المقايسات يمسي محبّاً؛ الإيمان كالعشق تماماً، ينجذب الإنسان أمامه ثم يستوعب كل وجوده. ولم يكن هذا بمعنى التسليم اللاواعي للإيديولوجيا، بل هو  تسليم واع يستوعب الإيمان كل شعوره وكل معرفته، وعندها يختار دون أن يبادر إلى طريقة التحقيق الجامعي.

لا شك في أن هذه الإطلالة على مفهوم الإيديولوجيا هي إطلالة إجمالية. فقد حاولت الإحاطة بالتعريفات التي شاعت في أوروبا على امتداد عصور الحداثة، وكذلك على مستوى العالم كله.

وتبقى الإشارة إلى أن هذا المفهوم يظل مشرعاً على المزيد من التأويلات ما دامت الإيديولوجيا حاضرة في مجمل العلوم الإنسانية، كما في كل نشاط بشري.

[1]*- كاتب متخصص بالإعلام المعاصر ـ لبنان.



[2] - راجع قاموس المورد، منير البعلبكي، بيروت، لبنان.

[3] – المصدر نفسه.

[4] - راجع: بول ريكور ـ محاضرات في الإيديولوجيا واليوتوبيا ـ تحرير: جورج تيلورـ ترجمة: فلاح رحيم ـ دار الكتاب الجديدة المتحدة ـ بيروت ـ 2002  ـ ص 105.

[5]– المصدر نفسه – ص 48-49.

[6]- ديفيد هوكس، «الإيديولوجيا»، ترجمة إبراهيم فتحي، المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2000.

[7]دينكين ميتشيل، «معجم علم الاجتماع»، ترجمة إحسان محمد الحسن، دار الطليعة، بيروت، 1981.

[8] – راجع: ديفيد هوكس، مصدر سابق.

[9]ـ ريكور ـ مصدر سبق ذكره ـ ص515.

[10]ـ ريكور ـ المصدر نفسه ـ ص416.

[11]ـ ميشيل فاديه ـ الإيديولوجية ـ وثائق من الأصول الفلسفية ـ ترجمة أمينة رشيد وسيد البحراوي ـ دار التنوير ـ بيروت ـ 2009 ـ ص22.

[12] - الإيديولوجية- وثائق من الأصول الفلسفية – ميشيل فاديه- ترجمة د. أمينة رشيد وسيد البحراوي- دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع- بيروت – 2009 -

[13] عبد الله العروي – مفهوم الإيديولوجيا – المركز الثقافي العربي – بيروت – الرباط – 1988 – ص 9.

[14] – العروي – المصدر نفسه – ص 103.

[15] – المصدر نفسه ـ ص 106.

[16]ـ علي شريعتي ـ الإنسان والإسلام ـ ترجمة عباس الترجمان ـ دار الأمير ـ الطبعة الثانية 2007 ـ ص257.

[17]- المصدر نفسه، ص259.ـ

[18]ـ المصدر نفسه ص260.

[19]- المصدر نفسه.ـ

[20]ـ شريعتي ـ المصدر نفسه.

[21]ـ يقول دوركهايم: الدين عبارة عن ظهور العقل الجمعي، يظهر العقل الجمعي في علم (لواء)، يظهر في وسام، يظهر في احتفال، ولكن من الواضح أن هذا الشعب، هذه الطبقة، هؤلاء الناس، هذه المدينة ـ مثلاً ـ يشيرون إلى أنفسهم هنا وليس لهم ظهور خارجي، تعريف دوركهايم هذا هو  لجميع الأديان، وبالطبع أقبل أنا للدين التقليدي لا الدين الأيديولوجي، للدين الأديولوجي تعريف ضد هذا التعريف تماماً ـ لا غير هذا بل ضد هذا ـ وهنا يكون موضوع الاختيار للمثقف صعباً.

إذا كان المثقف لم يرد أن يكون ملتزماً أعمى، أو متمرداً آخر موديل (موضة)، يكون اختياره للدين صعباً جداً بالنسبة له، وحتى رفضه للدين من المفروض أن يكون صعباً جداً بالنسبة له.

[22]ـ المصدر نفسه ص263.