الباحث : أجرى الحوار : عامر عبد زيد الوائلي
اسم المجلة : الاستغراب
العدد : 7
السنة : السنة الثالثة - ربيع 2017 م / 1438 هـ
تاريخ إضافة البحث : May / 9 / 2017
عدد زيارات البحث : 1717
لم يقتصر الحوار مع الأكاديمي والمفكّر المصري مصطفى النشّار على القضية المتصلة بالمحور الذي خصصناه لهذا العدد حول الإلحاد وبواعثه واستظهاراته في الغرب وفي العالم العربي.. امتدت الأسئلة معه لتشمل الشخصيّ والمعرفيّ، فضلاً عما تدور حوله موضوعات النقاش في الحقول الفكرية والمعرفية المختلفة.
لقد كان لنا مع البروفسور النشّار مطالعات نقدية في أكثر من موضع من هذا الحوار، لا سيما لجهة نقد الوجه الاقصائي والعنصري للعقل الحداثي الغربي. وهو ما تميزت به أعمال النشَّار الفكرية على امتداد أربعة عقود متّصلة من المتاخمات التي أجراها مع معارف الحداثة الفكرية والفلسفية.
المحرر
نرجو في مستهل هذا اللقاء أن تعرِّفونا باقتضاب على رحلتكم العلمية والمعرفية ومشاغلكم في ميادين الفكر والفلسفة...
ـ بداية أودّ أن أشكركم على أن أكون ضيفاً على هذه الدورية الفتية، وأن ألتقي قرّاءها في عددها السابع. إن دافعي للتخصّص في الفلسفة، يعود إلى سنّ الطفولة حيث كنت أهوى القراءة لدرجة أنّني كنت أنهي قراءة الكتب في مكتبة المدرسة في المراحل الدراسية المختلفة وكثيراً ماكنت ألخّص هذه الكتب واستخرج منها الأقوال التي تعجبني وأحياناً كنت أعرض أقرأها قراءة نقدية وأذكر أنني حصلت على أول جائزة في حياتي من خلال مسابقة للقراءة نظّمتها الإدارة التعليمية وعمري آنذاك ثلاثة عشر عاماً وكانت عن عرض نقدي لكتاب ألّفه د. إسماعيل صبري عبد اللَّه عن الصراع العربي الإسرائيلي، وأتعجّب الآن من أنني كنت في هذه السنّ الصغيرة أهوى التأليف لا من خلال كتابة القصص والأشعار العامية والفصحى وحسب بل الكتب أيضاً حيث ألفت كتاباً بعنوان «أبطال خالدون» عن أبطال مصر والعرب كأحمد عرابي ومصطفى كامل وأحمد عبد العزيز وسليمان الحلبيّ وغيرهم. وقد اكتشفت في تلك الآثناء أن معظم من أقرأ لهم كانوا من خريجي قسم الفلسفة كنجيب محفوظ وأنيس منصور وزكي نجيب محمود أو كانوا ممّن يعشقونها مثل العقّاد وطه حسين ويوسف إدريس ومصطفى محمود ويحىى حقي ومحمود تيمور وجرجي زيدان ومحمد حسين هيكل وأحمد أمين وغيرهم وغيرهم.وحينما دخلت الجامعة قاصداً كلية الآداب تحديداً كان من الطبيعي أن أختار دراسة الفلسفة أو الصحافة لكن لم تدم حيرتي طويلا حيث صُودف أن تحول قسم الصحافة إلى معهد مستقل للاعلام فكان الخيار الوحيد هو الفلسفة. وقد مكّنني هذا التخصص من مواصلة تنمية موهبتي في الكتابة وممارسة الأنشطة الثقافية والسياسية فرشّحت نفسي لعضوية اتحاد الطلاب في لجنة النشاط السياسي والثقافي وبدأت أصدر مجلة حائط دورية نصف شهرية بعنوان «منوعات أدبية» ثم أسّست أول جريدة فصلية مطبوعة للكلية بعنوان «آداب» طوال سنوات الدراسة ثم واصلت الإشراف على إصدارها مع الطلاب بعد أن عُينت مُعيداً بالكلية وظلّت الحال هكذا في ظلّ إشرافى على اللجنة الثقافية ثمّ ريادتي لاتّحاد طلاب الكلية بعد الحصول على الأستاذية حتى عُيّنت عميداً لكلية التربية ورئيساً لقسم الفلسفة.
ـ قرأنا لكم الكثير ممّا أنجزتموه من دراسات حول الفكر الغربي على المستويين الإبستمولوجي والنقديّ.. ما الذي توصّلتم إليه من آراء وقناعات وأنتم تعاينون المشهد المعرفي في الغرب على مدى سنين طويلة من الدرس والاختبار؟
ـ الحقيقة أنّ الفكر الغربي قد تميّز منذ فجر تاريخه في العصر اليوناني حتى الآن بالتنظير العقلي لقضايا ومشكلات الطبيعة والوجود والإنسان مستفيدا من النتاج الفكري لحضارات الشرق قديماً ووسيطاً. ومع ذلك فقد ندر أن اعترف فلاسفة الغرب بفضل الشرق عليهم باستثناءات نادرة أبرزها أفلاطون قديماً الذي اعترف بفضل مصر عليه في محاورات عديدة أبرزها فايدروس وطيماوس والقوانين وروجيه جارودي حديثا في كتابه حوار الحضارت. كما تميز الفكر الغربي طوال تاريخه بالنزعة التحليلية النقدية وعبر ذلك كان تطوّره المتسارع ولا سيّما منذ عصر التنوير حتّى الآن. ولما كان الانسان الغربي بطبيعته يتلقى الفكر بشكل إيجابيّ فهو يتفاعل مع الأفكار الجديدة ويطوّر حياته وحضارته على أساسها؛ فمن الهيجلية وتأثراً بها سلباً أو إيجاباً ظهرت الفلسفات التحليلية والبراجماتية والظاهراتية وغيرها. فالفلسفات الحداثية ترتّب عليها ما بعد الحداثية، والفلسفة الليبرالية الرأسمالية ترتب عليها الفلسفات الاشتراكية والماركسية وهكذا..
ـ ولا شكّ لدي في أن الفكر الغربي فكر تحيزي عنصري برغم زعم فلاسفته أهمية الحوار وأهمية الرأي والرأي الآخر والدعوة إلى حوار الحضارات؛ فالأغلبية الكاسحة من فلاسفته ومؤرخيه لا يرون في العالم غير الفكر الغربي والعلم الغربي ويتصورون أنفسهم هم أصل الفلسفة وأصل العلم والحقيقة كما كشفنا عنها في دراسات عديدة أنّ أصل الفلسفة هو الشرق القديم وأنّ لفظة Sophia أصلها مصريّ قديم، كما أنّ العلم ميراث الانسانية كلّها منذ حضارات الشرق القديم أيضا حتى الآن. أما مسألة حوار الحضارات والثقافات التي يدعون إليها فهي لا تعدو أن تكون ذرّاً للرماد في العيون؛ إذ إنّ أيّ دعوة للحوار ينبغي أن تكون على أساس أنّ الطرفين متكافئان وأن تستهدف الحرص على الخروج بنتائج مفيدة لهما لكن الواقع أنّ الطرف الغربي دائماً ما يدير الحوار مستهدفا مصلحته هو دون النظر إلى مصلحة الطرف الآخر فتكون النتيجة أن الحوار هو في الأساس بالنسبة للآخر (غير الغربي) هو حوار إذعان وخضوع واستسلام!! إن الفكر السياسي الغربي منذ هيراقليطس يقوم على الاقرار بقانون القوة؛ فقد قال الأخير إنّ الحرب أب للجميع وملك على الجميع فهي تجعل من البعض أحراراً ومن الآخرين عبيداً كما قال السفسطائيّون إنّ العدالة تسير مع القوة وجوداً وعدماً ولم يذهب أفلاطون بعيداً حينما قال إنّ السياسة هي علم القوة ومعرفة كيفية توظيفها في المجتمعات، وهكذا الأمر لدى معظم فلاسفة السياسة الغربيين حتى البراجماتية الأميركية المعاصرة. وليس بعيداً عن كل ذلك تأكيد أن الدعوة الغربية إلى مفاهيم مثل الحرية وحقوق الانسان لم يقصد بها في واقع الحال إلا الانسان الغربي!! ففي الوقت الذي شهدت أوروبا عصر التنوير والليبرالية الديموقراطية والدعوة إلى الحريات السياسية والاقتصادية كانت أوروبا تبدأ عصر استعمار الدول الأفريقية والآسيوية وتستنفد مواردها وتستعبد أهلها وقامت أمريكا على إبادة أهل البلاد الأصليين من الهنود الحمر وجلب مئات الآلاف من الأفارقة كعبيد عند السيد الأبيض!! وما الدعوة إلى العولمة بأشكالها المختلفة اليوم إلا دعوة إلى غربنة العالم وأمركته سياسياً واقتصادياً وثقافياً بحيث نعيش كما قلت في كتابي «ضد العولمة «عصر فكر السادة وثقافة التابعين!!
ـ قد تكون ظاهرة الإلحاد من أبرز الظواهر التي يشهدها العالم اليوم، كيف عاينتم هذه الظاهرة في ضوء ما صدر لكم من دراسات كثيرة ومعمّقة في هذا المجال؟
ـ لا شكّ في أنّ الإلحاد أصبح أحد الظواهر التي ينبغي التوقف عندها في عصرنا الحالي وبخاصةٍ أنّها تنتشر بمعدل أكبر بين الشباب برغم أنّ أحدث الدراسات التي لدينا تشير إلى أنّ معدل الإلحاد يقلّ بنسبة ضئيلة فلقد أشار استطلاع عالمي أجرته مؤسسة غالوب الدولية عام 2015م شارك فيه أكثر من 64 ألف مشارك كشف عن 11 % ممن شملهم الاستطلاع أجابوا : «ملحد بقناعة»في حين كانت نتيجة استطلاع سابق حول الموضوع نفسه أجري عام 2012م 13 w% من أفراد العينة. وقد أجرت هيئة الإذاعة البريطانية عام 2004 م مسحاً حول نسبة الإلحاد في العالم وكانت النتيجة أن نسبتهم في العالم حوالى 8 % من عدد سكان العالم. والمعروف أن أعلى نسب الإلحاد موجودة في القارة الأوروبيّة وفي شرق آسيا، وبينما توجد في فرنسا وإنجلترا والسويد والنرويج أعلى نسبة من الملحدين في أوروبا، فإن النسب في الدول الآسيوية بلغت 61 % من سكان الصين 47 % من سكان كوريا الجنوبية.
ـ كيف تفسر تعدد التعريفات المفهومية والاصطلاحية للإلحاد، وما المعايير التي على أساسها يجري الحكم به، سواء على الأشخاص أو على الظواهر الاجتماعية؟
ـ الحقيقة أنه قد يوجد هناك اختلاف أو تعدد في وجهات نظر البعض حول تعريف الإلحاد تبعاً لاختلاف الثقافات ووجهات النظر، لكنّ ثمة اتفاقاً بين الجميع على أن الإلحاد بالمعنى الواسع يعني رفض الاعتقاد بوجود الآلهة أو عدم الإيمان بوجود الله، ويتناقض هذا الفكر الإلحادي مع فكرة الإيمان بالألوهية والاعتقاد في وجود إله خالق ومدبّر لهذا العالم. وبالطبع فإن المعايير التي يحكم من خلالها الناس على الملحدين تختلف بين المجتمعات حيث إنّ المجتمعات المؤمنة بالديانات السماوية ترى أنّ كلّ من لا يؤمن بالله الواحد ملحدٌ أو كافرٌ بينما تخفّ حدة ذلك لدى المجتمعات المؤمنة بديانات غير سماوية؛ إذ ليس هناك تناقض أو عناد مثلاً بين الإلحاد والدين البوذي فبعض البوذيين يعتنقون البوذية ولكنهم لا يعتقدون في وجود الله!
وعموما ينبغي التمييز بين إلحاد قوي أو موجب وإلحاد سلبي ضعيف؛ حيث إنّ الملحد من الطراز الأول ينفي وجود الإله ويقدم على ذلك أدلة وبراهين عقلية مستفيداً من نظريات علمية وفلسفية تدعم وجهة نظره، فالملحد القوي هو ذلك الشخص الذي يعتبر أن فكرة الإله فكرة غير منطقية وغير موضوعية وهو مع ذلك ليس في عداء مع الدين أو مع المتدينين بل هو عادة يحترم كل صاحب دين، بينما الملحد من الطراز الثاني يكتفي بالاعتقاد بعدم وجود إله دون أن يقدم ما يؤكد وجهة نظره، فقط هو يبدو غير مقتنع بما يقدمه المؤمنون من أدلة وبراهين على وجود الله، وفرق بين هذا وذاك من الملحدين وبين رجل الشارع البسيط الذي قد يكون إنكاره لوجود إله راجعاً لأسباب شخصية أو اجتماعية أو نفسية ربما لا يستطيع اكتشافها أو التعبير عنها.
ـ ربطاً بالسؤال السالف الذكر، كيف تعرِّفون (الإلحاد) تبعاً للمنهجين الدينيّ والوضعيّ العلماني؟
ـ في اعتقادي أن مدخلنا لتعريف الإلحاد ينبغي أن يكون لغوياً فالإلحاد في اللغة العربية يعني الميل عن القصد كما يقول معجم لسان العرب وأصل الإلحاد الميل والعدول عن الشيء عادة ما نترجم نحن كلمة atheism ب «اللاربوبية» أي إنّ اللاربوبي هو الملحد وهو الذي لا يؤمن بوجود إله أو الذي لا يعتقد في وجود الآلهة على وجه العموم وهو في ذات الوقت الذي لا يعنيه البحث عن صانع أو خالق لهذا العالم وهو من منظورنا اللغوي والديني معاً هو شخص يحيد عن جادة الصواب لأنه من من وجهة نظرنا الدينية والعقلانية لا بد لكل مصنوع من صانع ولكل مخلوق من خالق ولا يمكن لأي شيء أن يصنع نفسه أو يوجد ذاته بذاته وكل ما يوجد في هذا العالم يؤكد هذه الحقيقة ولذلك فإن كل سائل يجب أن يسأل : وماذا وراء هذه المخلوقات أو المصنوعات كلها؟ أليس لسلسلة المخلوقات من نهاية تقف عند حدها التساؤلات المفضية إلى علل المخلوقات الجزئية لنسأل عن علة العلل بالتعبير الآرسطي؟ إن هذا التدرج في التساؤل بغرض الاستدلال المفضى إلى وجود الصانع الكلي أو بتعبيرنا الديني الخالق لكل ما هو مخلوق هو ما نعتبره عقليا ودينيا مسألة طبيعية تخرجنا من حيز هذا الكون المحدود إلى ماورائه. بينما أصحاب المنهج الوضعي العلماني لا ينظرون إلى ما وراء هذا العالم أصلاً ويعتبرون أن ذلك مضيعة للوقت والجهد لأنه بعيد عن التصديق بأدوات المنهج الاستقرائي التجريبي. إن النظر فيما وراء هذا العالم المحسوس بالنسبة لهم هو بعيد عن جادة الصواب!!
ـ في ضوء قراءتكم للمشهد الغربي، كيف تميِّزون بين معنى الملحد ومعنى الكافر، إذ غالباً ما يلتبس على الكثيرين الفهم بسبب من غياب التمييز بينهما؟
ـ أعتقد أن مصطلح الكافر له أبعاد دينية أكثر من مصطلح الملحد؛ فالملحد هو اللاديني على وجه العموم بينما مصطلح الكافر مقياسه الإيمان بدين ما؛ حيث إنّ أي مؤمن بدين ما أو بإله معين هو كافر بما عداه، وإذا نظرنا إلى التعريف اللغوي لوجدنا أن «كفر» ـ في الكثير من المعاجم ـ تعني «غطى» فنقول كفر الشيء أي غطّاه، كفر الليل بظلامه أى غطى نور النهار وحجبه، ومن ثم يقال ليل كافر، وكفر الفلاح الحب أي غطاه، كما أن الكفر يستخدم بمعنى الجحود بالنعمة وعدم شكرها. وهذا المعنى اللغوي يتفق مع حكم الاسلام بالكفر على أهل الكتاب من الأحبار والرهبان الذين كانوا يعلمون بأن نبيا سيأتي بعد سيدنا عيسى ولكنهم كفروا أو غطّوا هذه الحقيقة وحجبوها. ومن منظور ديني إسلامي ينبغي التمييز بين الكفر عموماً والكفر ردة؛ فالكفر عموما هو إنكار شخص ما أو مجموعة من الأشخاص الدين الاسلامي جحوداً برغم أنّ الصورة الصحيحة للإسلام وصلتهم «إن الذين كفروا وصدّوا عن سبيل اللَّه وشاقّوا الرسول من بعد ما تبيّن لهم الهدى لن يضرّوا اللَّه شيئاً وسيحبط أعمالهم»، أما الكفر رِدة فهو إنكار المسلم ذاته أحد أركان الاسلام الرئيسية. أما بالنسبة للفكر الغربي المسيحي فقد تكون لفظة الهرطقة هي المقابل عند المسيحيين للكفر حيث انتشر في أوروبا منذ القرنين السادس عشر والسابع عشر الهراطقة وكثرت حالات الكفر والإلحاد وذلك في إطار ظهور العلوم والمعارف الجديدة في عصر النهضة وكذلك في إطار ظهور حركة الاصلاح الديني وكثرة الاختلافات بين الفرق المسيحية. والحقيقة التي يشير إليها د. رمسيس عوض في كتابه «الإلحاد في الغرب «أن تقويض الفكر الكنسي المدرسي لم يكن قاصراً على التأليهيين والفلاسفة المتشكّكين وحدهم، فقد أسهم البروتستانت وعلى رأسهم مارتن لوثر بنصيب وافر في ذلك.
ـ يرى عدد من المراقبين والدارسين للشأن الغربي أن ظاهرة الإلحاد مرتبطة بتطور العلوم عموماً، ولا سيّما بالثورة المعلوماتية التي يشهدها مستهلّ القرن الحادي والعشرين. ما تعليقكم على هذه الرؤية، وماذا عن صحة القول إن العالم الغربي يعيش حقبة نسيان الإيمان الديني؟
ـ صحيح أن تنامي ظاهرة الإلحاد في الغرب ارتبطت منذ نهايات القرن السابع عشر بالتطور العلمي الذي شهده الغرب وبخاصةٍ أن ارتباط الإيمان الديني بالكنيسة وارتباط هيمنة الكنيسة وتسلطها بالوقوف عائقاً أمام التقدم في البحث العلمي والتفكير الفلسفي الحرّ، قد ساهم في انتشار موجة الإلحاد المصاحب أيضا لظهور العلمانية والفصل بين الدين والعلم وبين الدين والسياسة؛ لقد انبهر الغربيون بالتقدّم الذي أحرزه العلم في تغيير حياتهم إلى الأفضل في الوقت الذي بدأ يقلّ فيه احترامهم للكنيسة والدين شيئاً فشيئاً. ولقد بدأت ظاهرة الإلحاد والبعد عن الدين وعدم الاهتمام بتعاليم الدين وممارسة الشعائر الدينية تزداد مع ظهور نظرية التطوّر الداروينية من جهة والفلسفات الإلحادية التي تهاجم الدين من ناحية أخرى؛ فقد هوجمت الكتب المقدسة لليهودية والمسيحية هجوماً شديداً وتشكّك فيها فلاسفة عصر التنوير في القرن الثامن عشر، واعتبر شوبنهور أنّ الدين من صنع البشر كما اعتبر ماركس أنّ الدين أفيون الشعوب وأعلن نيتشه موت الإله ونظر إليه فرويد على أنه وهمٌ كانت البشرية بحاجة إليه في بداياتها ولم تعد بحاجة إليه الآن. وقد ظهرت الفلسفات الوضعية التجريبية لتهاجم كلّ المعتقدات البشرية الخاصة بالماوراء ومن ثم اعتبر أنصارها أننا نعيش عصر العلم وأنه لا ضرورة لهذه المعتقدات الدينية الميتافيزيقية، وجاءت الفلسفات العلمية الأخرى كالماركسية والبراجماتية والتحليلية والظاهراتية ومعهم الفلسفة الوجودية لتأخذ الإنسان المعاصر إلى آفاق معرفية وحياتية أخرى كلّها مستقاة من العلم وكيفية تحقيق التقدم البشري بعيداً عن أيّ معتقدات دينية ماورائية. وكلّ ذلك أدّى إلى ما أشرتم إليه حيث أصبح الدين في هامش شعور الانسان الغربي لدرجة أنه يكاد ينسى الإيمان الديني وممارسة الشعائر الدينية. وبالطبع يزداد الأمر سوءاً في إطار عصر المعلومات حيث شغل حتى المؤمنين من الناس من الشباب والأطفال والشيوخ على حدّ سواء بمتابعة الحياة على وسائل الاتصال الاجتماعي غافلين عن ممارسة شعائرهم الدينية ومن ثم انصرفوا عن اللَّه وحياة العبادة والإيمان وألهتهم حياة الترف واللذة التي انغمسوا فيها بفضل التقدم التكنولوجي الذي جعل الدنيا والاستمتاع بأطايبها المادية هى أكبر همّهم بعدما أصبحت هي مبلغ علمهم..
ـ بحكم التناظر الشديد بين الغرب والشرق في عصر «العالمية الممتدة» هل ترون من أثر للظاهرة الإلحادية الغربية في مجتمعاتنا العربية والإسلامية؟.
ـ بالطبع تأثرت المجتمعات العربية والاسلامية بكل هذه المظاهر الغربية بفعل أننا أصبحنا نعيش عصر العولمة الذي هو في واقع الحال عصر «غربنة» العالم أو «أمركته» إن جاز التعبير الذي استخدمته من قبل في كتابي «ضد العولمة» و«ما بعد العولمة»، وهذا أمر طبيعي عبّر عنه ابن خلدون بقوله إن المغلوب مولع دائماً بتقليد الغالب. ولا شك في أن ثمة انتشاراً لظاهرة الإلحاد وخاصة بين الشباب المعولم المبهور بعلمانية الغرب وبتقدمه التقني وسيادته الحضارية. ومع ذلك ينبغي ألا نعفي مؤسساتنا الدينية والفكرية من المسؤولية عن ذلك حيث انتشر التطرف والتعصب بين الشباب العربي والمسلم سواء من ناحية التعصب الديني الأعمى الذي بدا في ظهور الجماعات الاسلامية المتطرفة وما نتج منها من تنظيمات تكفيرية تتصرف بهمجية ووحشية حتى مع المسلمين المؤمنين بالعقيدة نفسها والموحّدين بالله والمؤمنين برسوله، أو من ناحية هؤلاء الذين انخرطوا في جماعات إلحادية مبتعدين عن الدين والمتدينين ساخرين من حياتهم والتزامهم الديني معتبرين أن هذا الالتزام بالدين وممارسة الشعائر الدينية هو سبب التخلف، وما ذلك إلا نتيجة تقصير واضح في توصيل رسالة الاسلام الصحيح المعتدل إلى هذا الجيل الذي ظلم من غياب القدوة الدينية المعتدلة في البيت والمدارس والجامعات!!
ـ لكن هل بالإمكان رسم ملامح عامة لكل من: تاريخ الألوهية، وتاريخ الإلحاد في الغرب اليوم؟
ـ في اعتقادي أن تاريخ الفكر الغربي مزيج من البديلين؛ فكما أن البحث في الألوهية والإيمان بصور متعددة بالدين والألوهية كان موجوداً منذ نشأة الفلسفة عند اليونان في القرن السادس قبل الميلاد حتى الآن، كذلك كانت هناك التيارات والفلسفات المادية الإلحادية. ولم يختلف الأمر كثيراً حتىّ في ظلّ انتشار المسيحية في الغرب، فرغم الهجوم الشديد الذي شنّه المؤمنون والمدافعون المتحمّسون للمسيحية على الملحدين إلاّ أنّ هذا لم يكن يعني بالضرورة انتشار الإلحاد، فمثل هذا الهجوم كان يرجع إلى شطط المتدينين وغلوائهم أكثر ممّا كان يدل في كثير من الأحيان على انتشار ظاهرة الإلحاد لأنه يحلو دائماً للعقل الديني المتطرف أن يخلق أعداء من وحي الخيال؛ ففي العصر اليوناني الهللينستي انتشرت التيارات الشكية مثل البيرونية (نسبة إلى بيرون) والأكاديمية (نسبة إلى أكاديمية أفلاطون التي تحولت في هذا العصر إلى مدرسة شكية) كما ظهرت الفلسفة الأبيقورية التي تزعمها أبيقور الذي عرف عنه انكاره القاطع لوجود اللَّه وأكد أن كل مافى الوجود عبارة عن ذرات مادية، لقد رفض العديد من الأقدمين الإيمان بأن اللَّه خالق العالم وذهبوا إلى أن العالم أزلي لايطرأ عليه أدنى فساد أو تغيير، وقد عاد المذهب الذري للظهور في ايطاليا أوائل القرن الخامس عشر وبرغم أنه لم يكن يتعارض بالضرورة مع المسيحية إلا أنه أصاب رجال الكنيسة بالفزع، لقد أدان البابا عام 1513م مثل هذه الأفكار وفي الوقت نفسه وجدت من يدافع عنها. لقد نشأت جماعة الأكاديمية المتنكرة ورفعت شعار الإله المجهول وشاعت تهمة إنكار وجود اللَّه إلى حد كبير في البندقية. وبمجيء القرنين السادس عشر والسابع عشر تزايد انزعاج السلطات بسبب كثرة حالات الكفر والإلحاد مما جعلها تشن حملة شعواء على الإلحاد بالتنسيق مع الكرسيّ البابوي في روما وظلّ الأمر على هذه الحال حتى عشرينيات القرن الثامن عشر.
ـ تبعاً لما ذكرتم حول الغزو المعرفي الذي تمارسه منظومات التفكير في الغرب، يطرح السؤال بإلحاح عمّا إذا كان بالإمكان صياغة الاستراتيجيات الممكنة لمكافحة هذه الظاهرة في مجتمعاتنا... إلى أيّ مدى يمكن لمثل هذه الإستراتيجيات ان تجد طريقها إلى الظهور في بيئاتنا الثقافية والاجتماعية وكيف؟
ـ إن مكافحة هذه الظاهرة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية يستلزم بداية توفير المناخ اللازم لحرية الفكر؛ فتقييد الحريات يولد التطرف والتعصب ضد ما هو سائد من قيم ويضع الشباب دائماً في خانة العند والذهاب إلى شد أقصى طرف الخيط في المعاندة لكل ما هو مألوف أو متّفق عليه، كما يستلزم ثانيا تمكين الخطاب الديني المعتدل من الوصول إلى أبنائنا في المدارس والجامعات والتجمعات الشبابية عموما بأساليب مبتكرة وغير تقليدية. وقبل كل ذلك وبعده تسليحهم بأساليب التفكير الفلسفي والعلمي بحيث يعتادون تحليل كل ما يُملي عليهم من أفكار تحليلاً عقلياً نقدياً؛ فمواجهة الفكر الإلحادي أو الفكر المتطرف عموماً لا يكون إلاّ بالفكر العقلاني المقنّع، ولنا من فلاسفتنا وفقهائنا في التراث العربي الإسلامي أسوة حسنة، حيث استخدموا المناهج العقلية والعلمية في الرّد على المُشكِّكين ولم يتوقفوا عن الدعوة إلى الإيمان عبر «وجادلهم بالتي هي أحسن» فكانوا يكتسبون للإسلام أنصاراً جدداً ومؤمنين موحدين كل يوم.
ـ مثلما هناك من يروج للإلحاد، بالتأكيد هناك من يقدم نقداً للإلحاد بأشكاله وأنماطه كافة، ما هي أبرز الأسماء التي تصدت تاريخياً لموجات الإلحاد في العالم العربي؟
ـ الحقيقة أن تاريخنا القديم والحديث يشهد بأنه لم تتوقف يوماً موجات الصراع بين الفكر الإلحادي والفكر الديني، ومن ثم فكل فكر تشكيكي الحادي واجهه بقوة الفكر الديني المستنير ـ بعيداً عن التعصب والتكفير ـ وعادة يعقب مرحلة الشطط وانتشار موجات الفكر الإلحادي سيادة الفكر الديني وعمق الإيمان وكم كتب الكتّاب في ذلك ويحضرني الآن مثلا كتاب أستاذنا د. توفيق الطويل «قصة الصراع بين الدين والفلسفة» وكتاب عباس محمود العقاد «الله» وكذلك كتابات د. مصطفى محمود وان كانت هذه كتابات معاصرة بعض الشيء فقد كانت كتابات جمال الدين الافغاني ومحمد عبده خير مثال للردّ على المشكّكين والملحدين وكان لها أثرها في كل أنحاء العالم لا في العالمين العربي والاسلامي وحسب.
ـ هناك في أوروبا اليوم جدل عميق حول فكرة (ما بعد العلمانية)، وقد اشتغل على هذه الفكرة عدد من المفكرين كالفيلسوف الألماني يورغن هابرماس خصوصاً، هل يمكن النظر إلى هذه الفكرة كتعبير عن انحسار وتراجع الظاهرة الإلحادية؟
ـ ربما يكون في الفكر الغربي المابعد حداثي عموما توجهاً نحو إعادة الاعتبار لدور الدين في إعادة التوازن للإنسان الغربي واكسابه نوعاً من الطمأنينة النفسية والاجتماعية لسدّ النقص الذي ترتّب على تركيز الفكر الحداثي بماديته الشديدة وعلمانيته المتطرفة في إشباع غرائز الإنسان الحسيّة اللذية بعيداً عن الالتزام بأيّ مبادئ أخلاقية أو معتقدات دينية.
ـ هناك من يرجع ظاهرة الإلحاد في المشهد الثقافي الغربي؛ إلى تأثير الخطاب الليبرالي وثقافة العلمنة الحادة كيف تنظرون إلى واقع الحال؟
ـ من المعروف أنّ الليبرالية في الغرب قد ظهرت على يد الطبقة المتوسطة البروتستانتية في إنجلتر وهولندا وكانت أرسخ قدماً في هولندا ثم امتدت إلى جميع أرجاء القارة الأوروبية وأنها كانت من أسباب اندلاع الثورة الفرنسية إلى جانب الأفكار التنويرية التحررية الثورية التي أطلقها جون لوك (1632 - 1704م) في إنجلترا ونقلها ودافع عنها فولتير وأقرانه في فرنسا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. وبالطبع فإن ذلك لا يعني أن البروتستانتية قد احتفظت بروح التسامح على طول الخط لكن مع ذلك ظل الاتجاه العام في أوروبا والغرب متّسماً بسيادة التيار الليبرالى على الصعيد السياسي وسيادة الرأسمالية على الصعيد الاقتصادي حتى بدايات القرن العشرين التي شهدت بدايات ظهور تيارات وحركات فاشية وشيوعية ونازية اعتبرت الديموقراطية والحرية الفردية ألد أعدائها. على كلّ حال فباستثناء الدول التي تحوّلت إلى النظم الشيوعية الشمولية ظلّتْ أوروبا الغربية تنتهج التسامح الديني مع الجميع؛ وعلى سبيل المثال فقد شجع إلغاء المحاكم الكنسية التابعة لسلطة الكنيسة قبيل منتصف القرن السابع عشر على انتشار الملل والنحل والجماعات المتطرفة التي بدأت تخرج على الأعراف الدينية وتدعو إلى الانفصال عن الكنيسة؛ فقد ظهرت في انجلترا مثلا جماعة مسيحية اتسمت بالانحلال الخلقى ولقبت ب «الهادمين» واتّسمت بشدة التعصب لأفكارها التي هدّدت المسيحية في وجودها ما اضطرّ الحكومة الانجليزية بقيادة كروميل إلى الانقضاض عليها وإجهاضها قبل أن يستفحل أمرها. إن القرن الثامن عشر في أوروبا عرف بأنه عصر العقل أو عصر التنوير هو الذي شهد تثبيت أركان العلمانية في الغرب وكثرت فيه الكتابات الفلسفية والروائية والمسرحية المدافعة عن الحريات وعلى رأسها حرية الاعتقاد وحرية نقد الكتب المقدسة، وكان لهذه الكتابات التي حملت هذه الأفكار الجديدة أثرها الكبير في تحرر الكثيرين من الأفكار الدينية التقليدية وأخذوا يتجرأون على مناقشة القضايا المستحدثة التي لم تكن موجودة من قبل، وتجلى ذلك مثلا في ذلك الجدل والصراع الذي دار بين طبقة التجار ورجال الأعمال الرأسماليين من ناحية ورجال الكنيسة الكاثوليكية من جهة أخرى حول شرعية القروض والربا وأهميتها في إنجاح المشاريع العمرانية والانتاجية،. إن ذلك الجدال لم يكن يعني بالضرورة أن هذه الطبقة الجديدة من رجال الأعمال نبذت الإيمان بالدين ولكنهم كانوا يحاولون فهم الدين بما يتناسب مع تحقيق مصالحهم. على كلّ حال فلا يزال مثل هذا الجدل والصراع بين ما يراه رجال الدين من جهة وبين أصحاب المصالح والأهواء من جهة أخرى موجوداً وإن اتخذ صوراً جديدة حسب مقتضيات العصر ومستحدثاته.
مع خالص التقدير
من سيرته الذاتية
حصل على ليسانس الفلسفة من كلية الآداب جامعة القاهرة عام 1975 بتقدير عام ممتاز. كما حصل على درجة الدكتوراه بمرتبة الشرف الأولى من الجامعة نفسها بعد ذلك بخمس سنوات، وقد عملت بعد ذلك بثلاث سنوات بجامعة الإمارات العربية المتحدة مدّة ست سنوات، وقد عدت بعدها إلى جامعة القاهرة أستاذا مساعداً فأستاذاً. وقد توليت رئاسة قسم الفلسفة بآداب القاهرة من عام 2002 م حتى2005 م.
تولّى الإشراف على عمادة كلية التربية بفرع جامعة القاهرة ببني سويف في الفترة نفسها.ثم عميدا لكلية العلوم الاجتماعية جامعة 6 أكتوبر من 2005 حتى 2007م. ثم عميداً لكلية رياض الأطفال جامعة القاهرة من 2007 حتى 2011م.ثم عاد إلى رئاسة قسم الفلسفة مرة أخرى بعد ذلك مدّة عامين.
أنجز عدداً من الدورات المحلية والدولية في مجال الجودة والاعتماد وتطوير التعليم الجامعي أهمها من جامعة اباليشيا بولاية نورث كارولينا بالولايات المتحدة الأميركية 2008م.كما شارك في عدة دورات محلية ودولية في القيادة والحوكمة.
يشارك في عشرات اللجان العلمية الخاصة بتطوير التعليم الجامعي وقبل الجامعي في مصر والعالم العربي. كما شارك في أكثر من تسعين مؤتمراً دولياً وإقليميا ومحلياً باحثاً في معظمها ورئيساً أو مقرراً لبعضها. كما يشارك في عضوية عشرات اللجان والهيئات المحلية والإقليمية؛ منها :
ـ عضو اللجنة الدائمة لترقية الأساتذة والأساتذة المساعدين «تخصص الفلسفة» بالمجلس الأعلى للجامعات بمصر.
عضو لجنة الفلسفة بالمجلس الأعلى للثقافة وعضو مؤسس للجمعية المصرية للدراسات اليونانية والرومانية وعضو مجلس إدارة الجمعية الفلسفية المصرية وعضو الجمعية الفلسفية العربية وعضو اتحاد الكتاب المصريين وكذلك عضو اتحاد الكتاب والأدباء العرب وعضو الجمعية المصرية لنشر المعرفة والثقافة العلمية.
أشرف على حوالى أربعين رسالة ماجستير ودكتوراه في جامعة القاهرة وبعض الجامعات المصرية الأخرى وأكاديمية ناصر العسكرية.
حصل على عدة جوائز مصرية ودولية للتفوق العلمي، أهمها :
جائزة جامعة القاهرة التقديرية في العلوم الانسانية والتربوية 2014م.
جائزة اندريه لالاند والشيخ مصطفى عبد الرازق للتفوق الدراسي في ليسانس الفلسفة.
جائزة ارستفرون وحرمه للتفوق العلمي في مجال الفلسفة اليونانية.
جائزة زكي نجيب محمود للتفوق العلمي في مجال المنطق وفلسفة العلوم.
جائزة الـ center - England – biographical -International
والانضمام إلى موسوعة:
2000 outstanding Intellectuals of the 21st Century-
CambridgeCB23QPEngland-FirstEdition2002.
جائزة أفضل كتاب بمعرض القاهرة الدولي للكتاب (من مؤسسة الأهرام) عن كتاب «ضد العولمة» 1999م وعن كتاب «ثقافة التقدم وتحديث مصر» 2006م.
له أكثر من سبعين بحثاً منشوراً في المجلات العلمية المختلفة محلياً وإقليمياً باللغتين العربية والانجليزية.أما الكتب فقد صدر أكثر من ستين كتاباً منشوراً في عدد من دور النشر المصرية والعربية.