البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الإنسان مختزلاً ، الإلحاد تقديس للدنيوية واختصام مع المتعالي السماوي

الباحث :  هادي قبيسي
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  7
السنة :  السنة الثالثة - ربيع 2017 م / 1438 هـ
تاريخ إضافة البحث :  May / 9 / 2017
عدد زيارات البحث :  1309
تحميل  ( 378.437 KB )
تمتلئ أدبيات الحداثة على امتداد حقب بما لا حصر له من المساجلات الفكرية بين الديني واللاَّديني. ولقد شهدت أزمنة النهضة ابتداءً من القرن الثالث عشر الميلادي بداية الإرهاصات الكبرى لتلك المساجلات، إذ أسفرت عن انتصار فائق للعلمنة على الميراث اللاهوتي بمجمل تعبيراته.

سوى أن هذه الغلبة التي حققتها الدنيوية الصارمة على المسيحية الغربية راحت ترتد على الفرد والجماعة بضرب من الإحساس بالانشطار بين الحاجة إلى التقنية وتطوّراتها، وضرورة الامتلاء بالمتعالي الروحي.

هذه المقالة تطل على ظاهرة الاختزال التي عصفت بالذات الغربية في خلال عصور الحداثة ولمّا تزل مفاعيلها سارية إلى الآن.

المحرر


لعلّ الاندفاعة الفكرية الأكثر عمقاً والأقصى أثراً في عصرنا الحاضر، هي تلك التي حصلت بفعل ثنائية التنوير والاستعمار في غرب أوروبا، وتركت آثارها في الشعوب والحضارات لغةً ورؤيا. كانت تلك القفزة الهائلة في التاريخ ذات منحى نزولي دنيوي مختصم مع المتعالي السماوي. وهو منحى يجتزئ الوجود والعالم، ويختزل الإنسان في الواقع المادي المباشر.

خطّ الاختزال والتماس مع المعنوي يتشكل من نقاط كثيرة يمكن نظمها تحت عناوين وأبعاد مختلفة من فلسفي ومعرفي وأخلاقي تشمل كل الحياة التي زلزلها الصراع السياسي الديني على أرض أوروبا، وامتد الصدع نحو العمق النظري ليفصل المعرفة الظاهرية عن المعنى وبديهية الحقيقة الكلية.

دائرة من النقاط التي تشكل هذا الخط، الذي عزل الإنسان عن واجب الوجود، نقدمها هنا في مقاربة واقعية تصل بين النظري والتاريخي، وهي تتكون من ثنائيات تحكي عن التطرف في حصر الإنسان في إحداها وإغفال وجوده في ظل قرينتها، نطرحها كمعايير تمهد لعملية كشف خفايا الاجتزاء والخلل في المعارف والعلوم الإنسانية، التي تقدم نفسها مرجعية حاسمة ونهائية في التعامل مع شؤون الحياة العملية الدنيوية.

دنيا / آخرة

خاضت المجتمعات الأوروبية إبان «عصر النهضة» صراعاً حاسماً مع المقولات الدينية كانت خلفيته الصدام مع المؤسسة الكنسية والسلطة الكبيرة التي كانت تحتازها آنذاك، تضخم السلطة هذا أدى إلى نشوء الحروب الدينية على خلفيات سياسية ومذهبية، حروب أرهقت الفرد والمجتمع الأوروبي ودفعت به إلى البحث عن مخرج من الاقتتال الأهلي الأيديولوجي فكان المهرب المتاح آنذاك التخلي عن مضمون الدين في رؤيته الكونية ومنظومته التشريعية بالكامل وإن بالتدرّج، وكان البديل هو في التنظير للحياة الأفضل في الأروقة الأكاديمية والمنتديات الفكرية والأدبية وفي هذا الرحم تكونت نطفة العلوم الإنسانية الحديثة، وبرزت «النزعة للمقاربة العلمية مما أدى إلى تغيير جذري في النظرة الكلية والمفاهيم لدى البشر، وبدأ التفكير العقلاني والنقدي لاكتساب المعرفة يحل محل التفسيرات التقليدية القائمة على أسس دينية في شتى المجالات»[2] ولذلك تحركت العقول الباحثة عنن الحل البديل بعيداً عن المقولات الدينية وأهمها الحياة الأخروية، فكان من خصائص السرديات والنظريات الناتجةة من هذا الحراك أنها تنكر وجود الآخرة ولذلك تغيب الغاية من حياة الإنسان وهذا مشابه لما تحيلنا إليه الآية السابعة والثلاثون من سورة المؤمنون التي تعبر بلسان أهل الانحراف «إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين»، وبهذه الخلفية بدأ انتاج منظور جديد لحياة الإنسان الأوروبي محصور في الإطار الدنيوي المباشر، حيث حض أحد رواد هذا الاتجاه وهو اوغست كونت على «إقامة ما سماه (دين الإنسانية) الذي يقوم على الميل عن الإيمان القطعي بالعقيدة إلى الارتكاز على المبادئ العلمية، وسيكون علم الإجتماع النواة لهذا الدين الجديد»[3].

بناءً عليه انصب المنظور البحثي على اهتمامات الإنسان الدنيوية الحياتية والمعيشية بما في ذلك النص الفلسفي على أنه إنسان يعيش في هذه الدنيا، وتنحصر حركته الوجودية فيها، وبذلك يتموضع نطاق الجهد والبصيرة للمنشغل بالفكر الغربي في هذا الإطار، ويغفل عن الغاية من الحياة على هذه الساحة الدنيوية، ويحصل لديه انفصال بين الساحة الدنيوية والأخروية برغم إيمانه بها، ويفقد المعايير الأخروية في النظر إلى الشؤون الدنيوية، ويصبح للدنيا معايير وفهم خاص بها قائم على أساس انفصالها عن العالم المستقبلي الأخروي الذي ينتقل بنا من حالة الاستتار والمحدودية المادية إلى حالة الانكشاف والإطلاق في العالم الآخر. الانشغال الدائم بالمادة المعرفية الغربية قد يغدو داعياً إلى سيطرة الإحساس بوجود الدنيا المباشر وفقدان الإحساس بالوجود الأخروي الغيبي بالتدرّيج، لأن النفس تغرق في الغفلة من ناحيتين، الأولى على المستوى الزمني، أي الاستغراق الواقعي لوقت طويل بالشؤون الدنيوية، والثانية سيطرة الحسابات العقلية المباشرة على ميكانيزمات التعقل وتشبث العادات الفكرية المباشرة والمادية بآليات التفكير والتأمل واتخاذ القرارات.

البيئة الأكاديمية والعلمية المعاصرة، سواءً في دول العالم الإسلامي أو خارجه لا فرق، بظروفها وضروراتها والحاجة إليها من قبل الفرد والمجتمع وما أملته من ارتكاز شبه كامل على النص الغربي، وضعت الفرد المنضوي في صفوفها في ظل النص الناتج من تلك التحولات التاريخية الأوروبية والنصوص المتأثرة به، ولم يلتفت الكثيرون إلى أن من طبيعة هذه النصوص من حيث الإطار والسياق أو المضمون المباشر أن تبعد الإنسان عن الآخرة بصرف فكره وعزيمته واهتمامه بالأمور الدنيوية، وبرغم أن هذا التأثير يتفاوت تبعاً للأفراد ويحصل بالتدريج ودون التفات إلا أننا ينبغي أن نكون على معرفة وإدراك لطبيعة هذا الانتاج المعرفي وبالتالي لكيفية التعامل معه فكراً ونظراً وتطبيقاً فلا نقع أسرى لتداعيات التاريخ الأوروبي، بحيث تصبح الأولويات والاهتمامات وكيفية توزيع الجهد والطاقة الفردية خاضعة لتنظيم الموضوعات البحثية والمعرفية والفكرية المختلفة في المنظومة الأكاديمية ذات المبنى الغربي، وتسيطر منظومة القضايا المحددة في الفكر المادي الدنيوي على الهم والجهد، ويصبح تشكل الصورة العقلية عن الوجود الخارجي ومساحة الانشغال به منوطاً بالأبعاد التي يرسمها التشكل الثقافي للفرد المنشغل بالنص والبحث الدنيوي، وكما يقول أنطوني غدنز «يستطيع علم الاجتماع أن يزودنا بالتنوير الذاتي وتعميق فهمنا لأنفسنا، وكلما ازدادات معرفتنا بالبواعث الكامنة وراء أفعالنا وبأساليب عمل المجتمع الذي نعيش فيه، تعززت مقدرتنا على التأثير في مستقبلنا»[4]، وهكذا يتشارك البعد النفسي والعقلي والعملي الانشغالي في تحديد الهوية الفكرية والفلسفة الكونية للمثقف أو الباحث حتى للطالب الجامعي المسلم المتدين، بما قد يدفعه ليعيش في الحد الأدنى انفصاماً بين معتقداته الدينية من جهة ونظرته إلى الإنسان والمجتمع من جهة أخرى.

أولى النص المقدس مسألة التوجه وصرف الجهد وكيفية إدارته بين المساحة الدنيوية والأخروية إهتماماً كبيراً، ففي الآية السابعة والسبعين من سورة القصص تأكيد لضرورة وحدة الغاية الأخروية في كل المساعي والمسارات التي يسلكها الفرد «وابتغ فيما آتاك اللَّه الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا»، وفي سورة النساء الآية الرابعة والتسعين ذم للتوجه الاختزالي والمتحيز إلى الدنيا «تبتغون عرض الحياة الدنيا» وفي سورة الكهف في آيتها الثامنة والعشرين دعوة للانصراف القلبي والروحي عن الدنيا «واصبر نفسك مع الذين يدعون ربّهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا» وتأتي الآية المائتين من سورة البقرة في غاية الوضوح في لفت النظر إلى الانحراف المتحيز إلى الدنيا برغم وجود الإيمان «فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق» فهنا الإنسان يدعو ربه لكي يزيد من مكاسبه الدنيوية فهو إنسان يؤمن بالله وبقدرته ويخاطبه ويدعوه لكنه منصرف إلى الدنيا بشكل حصري، ونختم الاشارة إلى النصوص القرآنية بالآية التاسعة من سورة المنافقون التي تعظنا بضرورة عدم الانغماس بفكرنا وسلوكنا في أمور الدنيا «يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر اللَّه ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون»، وهذا تأكيد قرآني لأهمية التوازن في هذه الثنائية المركزية وتنبيه إلى مخاطر التطرف في أحد جزءيها.

جسد / روح

انقطعت حركة المعرفة الغربية عن النص الديني وما يقدمه من اجابات عن الأسئلة الأساسية في الحياة الإنسانية، تلك الأسئلة التي تطرح بشكل فطري وعفوي في الذهن البشري، وجرى الاشتغال على دين جديد يستند إلى ما تقدر عليه الملاحظة الظاهرية كمصدر للمعرفة، ولا يملك الوسيلة لمعرفة حقيقة الإنسان، وجرى الاكتفاء بهذا القدر بناءً على ضرورات الصراع الجذري والتطرف في العداء مع الكنيسة بحيث أدى التدافع التاريخي المتدرّج بالتنويريين إلى رفض كل ما يعود إلى النص الكنسي كمرجعية، ويشرح جوناثان اسرائيل بدقة حركة الصراع هذه ويوضح التدرج في التطرف من الموقف تجاه الدين والعوامل السياسية والفكرية التي دفعت إلى الاستقطاب الحاد بين المؤسسة الدينية والنخب المناوئة لها، فلم يقرر أعداء الكنيسة وخصومها من البداية رفض كل المنظومة الفكرية الدينية بل كان لديهم ملاحظات على بعض المقولات ولكن رد فعل الاكليروس الحاد دفع بالتدرّج إلى هذا العداء المستحكم[5]، ومن هذا الموقف الحاسم بدأ تشكّل نظرة اختزالية للوجود الإنساني تسكن إلى الظاهر وتركن إليه وترفض الحقيقة الروحية المعنوية وتنكرها إما عملياً وإما مباشرةً، وأخذ الجسد مكانة مقدسة في الثقافة والسلوك الغربيين كما احتلّ السلوك الظاهري وتأمين الحاجات المعيشية الدنيوية المختلفة المساحة الأوسع في مسارات البحث والتنظير.

المتلقّي المسلم المتديّن الذي يستفيد من النتاج الفكري الغربي قد لا يلتفت إلى أنّ هذه النتاجات وباهتمامها بالقضايا المختلفة والمتغيِّرة تُغيِّب الإنسان عن وجود روحه الثابتة، الثابتة في ارتباطها بالمطلق البسيط، فيهمل الجوانب التي أهملها الباحث الغربي ذو العقلية الاختزالية حينما يترك هذا النص المستورد يشكل منظوره للحياة الفردية والإجتماعية، فالانشغال الذهني بالقضايا الظاهرية الدنيوية، وانصباب التركيز في الحاجات الجسدية والنفسانية الذاتية والمتطلبات الدنيوية المعيشية، والظروف المتأتية من الصراع على تأمين هذه الحاجات، والإغفال الكلي لموقع الحاجات الفطرية والروحية في سياق النصّ والبحث والموضوعات، كلّ ذلك يختصر الوجود الإنساني ويقصره على الجانب الظاهري والجسدي، ويغيّب الانشغال والتوجه والإلتفات إلى الحقيقة الفطرية والروحية الثابتة والأصلية المتمايزة عن الخصائص البنيوية للقضايا الظاهرية الدنيوية المشبعة بالاختلاف والتغير والتشابك والاضطراب الفوضى، ويشير أنطوني غدنز، من وجهة نظره، إلى هذه الحالة التي اعترت المجتمعات الغربية ولا تزال قائلاً «إن الأخلاق التقليدية التي كان ينطوي عليها الدين والتي كانت تقوم بمهمة الضبط وتقدم المعايير سرعان ما تبدأ بالتفكّك مع البدء بالتنمية الاجتماعية الحديثة، مما يدفع أعداداً كبيرة من الأفراد في المجتمعات الحديثة إلى الإحساس بأنّ حياتهم اليومية لا معنى لها ولا دلالة»[6].

حياة الإنسان المؤمن بالله حياة مطمئنة وزاخرة بالروح المعنوية وتنطوي على استقرار عقلي وروحي بغضّ النظر عن الظروف والمتغيِّرات، وتقدم لنا حادثة كربلاء النموذج الأرقى لذلك، لكن إذا أصبحت الحياة الظاهرية هي كل ما يفكر به الإنسان ويشغل عقله وقلبه وأحاسيسه فسيقع في حالة من الاضطراب والفوضى الباطنية، وستغيب عنه الحياة الحقيقية التي تنبع من صرف الاهتمام نحو العالم الروحاني، الذي هو حقيقة الإنسان وأصل وجوده كما تُبيِّن لنا الآيتان الثامنة والعِشرون والتاسعة والعشرون من سورة الحجر «وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من صلصال من حمإٍ مسنون * فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين» فالنفخة الإلهية الروحية هي حياة هذا الصلصال والطين، التي إن غفل عنها الإنسان عاد إلى ترابه وقيوده المادية المحدودة.

أما النصّ الذي جاء به «الدين الجديد» كما يقول أوغست كونت فقد قدَّم مقاربات مغايرة وبعيدة كل البعد، ومن آثارها أنها باهتمامها بقضايا المعيشة الحياتية الدنيا تغفل الإنسان عن وجوده الشفاف الذي يدرك نفسه بنفسه حضورياً فقد أدخلت البشرية في مسرح عبثيّ شديد الاضطراب، وهذا مصداق لقول الإمام الصادق عليه السلام «مَنْ أَصْبَحَ وأَمْسى وَالدُّنْيا أَكْبَرُ همِّه، جَعَلَ اللَّهُ الفَقْر بَيْنَ عَينَيْهِ وَشَتَّتَ أَمْرَهُ وَلَمْ يَنَلْ مِنَ الدُّنْيَا إلاّ مَا قُسِمَ لَهُ وَمَنْ أَصْبَحَ وَأمْسَى وَالآخِرةُ أَكْبَرُ هَمِّه، جَعَلَ اللَّهُ الغِنَى فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ أَمْرَهُ»[7]، ولذلك تنتشر الأمراض الروحية ويشيع استعمال الأدوية العصبية والمهدئات والأقراص المنومة[8]، حيث سلبت منظومة الدين المادي المبتدع راحة الروح وقدمت راحة الجسد، وإنّ العودة إلى نصوص هذا الدين كمرجعية للفكر والعمل له آثار نسبية، وإن لم تصل إلى مستوى التأثير السلبي الذي غرقت فيه الشعوب التي تخلت عن روحها، إلا أنها تحجب الإنسان عن الاهتمام بالحياة الحقيقية وتجعل منه هجيناً منفصماً إذا لم يلتفت إلى المنطق الاختزالي الذي تمليه تلك النصوص، حيث إن تَمحور الهمّ الفكري والعملي للمتخصِّص في القضايا الدنيوية حول القضايا الظاهرية، وتسخير العقل لقراءة وتحليل الساحة الحياتية، وإهمال البعد الروحي والمعنوي الذاتي والباطني، الذي يتحول إلى جدلية تبدأ من خلال توجيه الذهن، تنظيم الوقت، وزيع الجهد، وتحديد الانشغال الرئيسي على المستوى الفكري، كل ذلك يجعل من الروح قضية غير ذات أهمية، ما يستبطن غيابها وعدم وجودها من الناحية العملية والحضورية، ويلغي مفاعيلها وتأثيرها في الفكر والعمل، بدءاً من إلغاء مفاعيلها في النظر الفكري الذي يمكن أن يسوق إلى غيابها النسبي المتفاوت في السلوك، وتنامي ذلك الغياب مع تقدم الزمن. خصوصاً إذا كانت تلك العلوم والنصوص هي التي تملي نمط الحياة أو كيفيّات وشروط العمل الاجتماعي وغاياته فتترك آثاراً روحية وسلوكية في الفرد والمجتمع الذي يجري توجيهه وإدارته من خلال تلك النظريات الاختزالية، فهي دين كامل الأوصاف فيه الرؤية الكونية كما فيه التشريع والفقه التفصيلي، كما نرى في العلوم الاقتصادية أو علوم النفس والموارد البشرية على تنوّع فروعها ومجالاتها ونظرياتها.

الإنسان / الله

مضافاً إلى الصراعات السياسية التي عززت التطرف تجاه الكنيسة في أوروبا كان ثمة متغيِّرات اجتماعية ساهمت في ابتعاد الجمهور العامّ عن الدين والارتباط بالمؤسسة الدينية ما سهل تقبّل العامة للفكر والثقافة الاختزالية التي مهّدت للعلوم الإنسانية المادية، ويصف عزمي بشارة جانباً من هذه المتغيِّرات الكبرى حيث «انتشرت كما يبدو في منتصف القرن التاسع عشر حالة من عدم المبالاة الدينية في أوساط العمال والفقراء مع الهجرة من الريف إلى المدينة، ونشوء أحزمة الفقر حول المدن وأحياء الطبقة العاملة، ولا سيما في ممارسة الفروض الدينية. ولم تتمكن الكنيسة من متابعة التنقلات والحراكات أو الانتقالات السكانية الكبرى مع نشوء الصناعة»[9]، وعبر نيتشه لاحقاً عن الذروة في اللامبالاة وإقصاء المتعالي المطلق عن الفكر والحياة في مقولته المعروفة «الله قد مات»[10] ليقدم البديل في الإنسان شبه المطلق ونظرية السوبرمان، التي شرعتت للتجربة النازية لاحقاً، فكان لهذه الطروحات المتطرفة مكانٌ في العقول والقلوب بعد أن اكتسحت الحياة الماديةة ومساعي الإنسان للسيطرة على الكون والمجتمع كل البعد الروحي المتعالي، وأنزلت الإنسان المتفوق في منزلة الإله المتحكِّم مستفيداً من سطوة المعرفة، وهذا ما أدخل العالم المادي في حروب راح ضحيتها عشرات الملايين.

النظريات والعلوم الإنسانية المختلفة أُنْتِجَتْ في ظل هذه المناخات والظروف والثقافة العامة التي تمحور همها حول سدّ الفراغ الذي تركته المؤسسة الدينية بعد إقصائها، فنشأ تطرف فكري رداً على التطرف الديني، والمقولات التي أفرزها هذا التطرف كان من أهمّ خصائصها أنها تنظر إلى الإنسان على أنه محور الوجود وبالتالي تنكر فطرة التوجه إلى الله، حيث تمحور اهتمامها حول الإنسان فرداً ومجتمعاً، على اعتبار أنه محور الوجود، وينصب كلّ سياق التفكير والبحث في الاهتمام بالإنسان، وكيفية تحسين ظروف حياته الدنيوية، وبذلك يجري إغفال الفطرة التي تدرك أن اللَّه هو المحور وهو الموجود بذاته، وتعطي للإنسان الفرد استقلالا بحيث يقع على عاتقه تحمل مسؤولية وجوده وتحديد طبيعة هذا الوجود وفهمه، كل بحسب تجربته وما يصل إليه فكره. أما في المنظار الإسلامي فينبغي أن يتمحور اهتمام الإنسان بنفسه فرداً ومجتمعاً ولكن ضمن رؤية واقعية يكون اللَّه هو المحور فيها من حيث الوجود والغاية والتشريع والمعنى الكلي للحياة.

اعتبرت الثقافة العامة الأوروبية في عصر الصراع مع الكنيسة أن اللَّه يقف في مقابل الإنسان، يلغيه ويكتسح أبعاده المختلفة، حيث وُضِعَ الدين في المواجهة المباشرة مع الفرد الأوروبي، وقد كان لهذا الصراع المتطرف أن ينتج شخصيات مثل نيتشه، ويقول باتريك ماسترسون موضحاً هذه النقطة «إنّ الإلحاد في عصرنا، بتعبيره النظري الفلسفي، يتألف بصورةٍ رئيسيةٍ من تأكيد استحالة وجود الموجود المحدود والمطلق معاً. يُعتبر أنّ إثبات كون اللَّه موجوداً مطلقاً يستلزمُ بالضرورة تخفيض قيمة الموجود المحدود، وخصوصاً تجريد الانسان من الانسانية»[11]، وفي هذا المناخ الفكري جاءت النظريات والأفكار في العلوم الإنسانية وهي تسعى لتحويل الإنسان إلى إله من خلال المعرفة بكل تفاصيل الوجود والسعي للسيطرة عليه واعتبار ذلك ممكناً.

استبدلت بسلطة الكنيسة سلطة عملانية تتوسل الأدوات والقدرة، حيث يقدم النص المعرفي في العلوم الإنسانية مقاربة سلطوية للتحكم بالإنسان الآخر وتوجيهه وتشكيل الظروف والبيئة المحيطة به لخدمة غايات الإنسان المستكبر أو المتحكم أو القائم مقام السلطة في المجتمع الدولي أو المحلي، وتعتبر أن السيطرة أمر نسبي لكنه ممكن، فتشبع الذهن بمنهجية تفكير توجهه نحو العمل لتحقيق تلك السيطرة كهدف بحد ذاتها، وهي بذلك تقدم الخلفية المناسبة لتعميق نظرة استقلال الإنسان ومحوريته في الكون.

الإنسان يحقّ له أن يمارس السلطة ولكن بشكل غير مستقل ولا كغاية بحد ذاتها ولا من خلال القوة بل من خلال الشريعة والرحمة، ولا لغاية تحول الإنسان المقتدر إلى موقع المحورية الكونية والقطبية الوجودية، وهذا ما تشير إليه الآية الثامنة والسبعون من سورة القصص التي توضح حالة انحراف قارون الفرعون الاقتصادي «قال إنما أوتيته على علم عندي» رداً على نصيحة المؤمنين له بابتغاء الدار الآخرة فيما يمتلك من الدنيا، لكنّه اعتبر أنّ القدرة والملكية والسلطة التي يحتازها ناشئة من العلم والمعرفة الذاتية، فأنكر القدرة والقيومية الإلهية.

يشير الوحي الإلهي إلى التدخل في الجزئيات والتصرف في العقول والأفهام في الآية السادسة والسبعين من سورة يوسف «فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله» ففي الشؤون التفصيلية ثمة ظهور للقدرة الإلهية كما تُبيِّن الآية، أو في الحديث عن أمِّ موسى في الآية العاشرة من سورة القصص «وأصبح فؤاد أمِّ موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين» فالربط الإلهي منعها من البوح والكلام، وهناك عدد كبير جداً من الآيات الواضحة والتي تفتح الباب واسعاً للحديث في هذا الموضوع.

عالج العلماء الإسلاميون هذه القضية من زوايا متعددة فلسفية أو كلامية أو أخلاقية، وقد أشاروا في المستوى السلوكي إلى مراتب الاتصال الإنساني بالمطلق تحت عناوين مختلفة منها مفهوم التوكل والاعتماد على القدرة الإلهية، الذي يرتقي من مستوى الاعتقاد العقلي إلى اليقين القلبي، واللافت هنا أن الإنسان المسلم المتدين قد يقع في إشكالية الإنفصال أو الانعزال عن القدرة الإلهية، وغاية ما نرمي إليه هنا هو الإشارة إلى إمكانيات التأثير السلبي الكامنة في تراث الفكر الاختزالي، الذي قد يمنع الفرد من الخروج من هذه الشبهة والعودة إلى النظرة الواقعية.

البقاء / الفناء

يطرح ماسترسون السؤال التالي: ما الذي يسلخ الإنسان من ذاته، هل هو الاعتراف بوجود اللَّه في التاريخ وفي وعي الإنسان، أو طمسه من التاريخ وقمعه في الوعي؟ وقد أجابت السرديات الأنسنية بالتمسك بالاحتمال الأول، فالمشكلة دوماً تكمن في الإثنينية والقطيعة بين اللَّه والإنسان، فيما يقدم لنا الوحي صورة عن الوشيجة واللحمة التي تشكل هذه العلاقة بين اللَّه وروح الإنسان التي هي نفخة منه سبحانه وتعالى، وتحدث العرفاء السالكون والعباد الزهاد عن فناء الإنسان في اللَّه ورجعته إليه، إلى أصله ومنشئه كمقام رفيع يناله الإنسان، وتتحقق بذلك الطمأنينة الوجودية بعد انكشاف الحجب المادية والتعلقات الدنيوية.

النظرة الاختزالية قاربت هذه الثنائية من ثلاث زوايا، الأولى هي البقاء الدنيوي المؤقت، والأخرى محدودية حياة الإنسان، وأخيراً البقاء للإنسان في مقابل الغياب للمطلق، ويقارب هذه النظرة الكاتب ستيفن لوبير في مقدمة كتابه عن فلسفة الموت، مخاطباً القارئ بشكل مباشر وملقياً بين يديه أزمته الوجودية الفردية:»افترض أنك في لحظة ما ستتوقف عن الوجود نهائياً، سيكون فارغاً من المعنى بالنسبة لك، أنت الآني الذي يقرأ هذه الكلمات، القيام بتحضير خطط لمستقبلك.. عندما تنظر عادةً إلى حياتك القادمة، تتخيل نفسك حاملاً للخطط التي تملكها للمستقبل.. هذا ما يدفعك إلى التحرك المباشر، لاقتطاع قسم من يومك المزدحم للقيام بأعمال تجعل الأمور أفضل بالنسبة إليك في المستقبل.. الانعدام والتوقف عن كونك موجوداً سيأخذ كلّ هذا التخطيط والجهد إلى النهاية، لن يكون ثمة شيء في الحياة للتطلع نحوه»[12]، يحكي الكاتب هنا وضع المتلقي الغربي المشبّع بالثقافة المادية، ويحاول إيقاظه للتفكير فيما أوصلته إليه الاتجاهات الانفعالية المتطرفة في التعامل مع النص الديني.

دفعت مصادر ومراجع الدين الاختزالي بكل قوة نحو الاهتمام بالشؤون الحياتية الآنية للفرد وأغفلت كلياً مستقبله الوجودي، وارتكزت على التشبث بالوجود الآني المباشر، ما أحدث خللاً في توازن النظرة إلى الزمن. في الزاوية الأولى كانت هذه الطروحات والآراء تنظر إلى الإنسان بشكل غير مباشر على أنه باقٍ وبشكل موهوم عبر إعطاء الأولوية للزمن المتاح في الحياة فوق الأرض، وتوضح الآية الثالثة من سورة الهمزة هذا الانحراف الموهوم بشكل مقتضب «يَحْسَبُ أنّ ماَلَهُ أخْلَدَهْ» وكذلك الآية الرابعة والثلاثون من سورة الأنبياء «وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن متّ فهم الخالدون» في استنكار لتوهم البقاء الذي يقع فيه كثير من أتباع الثقافة المادية، وتشير الآية العشرون من سورة الأعراف إلى أنّ من أول وسوسات الشيطان لآدم وزوجه كانت قضية الخلد والبقاء لما لها من قيمة في النفس البشرية «قال ما نهاكما ربُّكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين».

وبالنسبة لنا نحن المؤمنين فإنّ الحياة الحقيقية تبدأ بعد الموت والفناء عن هذه الدنيا، سواءٌ بموت الجسد أو موت النفس وحياة القلب، كما تشير الآية الرابعة والسّتون من سورة العنكبوت «وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون» فإن تركيز المعارف المادية في القضايا الإنسانية في المساحة الحياتية المعيشية بشكل حصري، يذهب بفكرنا إلى الابتعاد عن الالتفات إلى حقيقة الحياة ويمكن أن يدفعنا هذا التركيز اللامتوازن إلى التصرف في أساس «كأنك تعيش أبداً» دون السؤال عن الآخرة وإهمال العمل على أساس «أنك تموت غداً»، والمشكلة هنا لا تتعلق بالاهتمام بالقضايا الحياتية بقدر ما تتعلق بالثقافة التي تُوجّه الفكر ومعايير التحليل واتخاذ القرار والتدريب البعيد المدى على هذا الأساس، بحيث يصبح الاتجاه الفكري والعادات الذهنية ومحتويات الذاكرة كلّها موجهة نحو الحياة الدنيوية وكأنها حياة أبدية ينبغي الاهتمام بها بحدّ ذاتها وبشكل حصريّ أو بشكل يغلب سائر الاهتمامات.

من زاوية أخرى وقع العقل الاختزالي في معضلة لم يعرف الطريق إلى حلّها، وقد أشار إليها ستيفن لوبر، فمنتجات هذا العقل التي تنظر إلى فناء الإنسان بشكل غير مباشر على أنه نهايته قد أخذت الإنسان المتأثر بها إلى متاهة لا مخرج منها، ودفعته إلى النظرة العبثية والفوضى في بعض الأحيان، أو العمل لاحتياز كل ما أمكنه في هذه الفرصة الزمنية المتاحة التي هي عمره المتوقع في أحيان أخرى، كما تعرض الآية الرابعة والعشرون من سورة الجاثية «وقالوا ما هي إلاّ حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلاّ الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنّون».

فمن القضايا المشهورة في نقد الفكر الماديّ هو عجزه عن الإجابة عن سؤال ما بعد الموت، وبذلك يناقض الفطرة التي تطلب البقاء الأبدي، ويجعل نطاق التفكير والطموح والآمال محصورة في نطاق زمني محدود، ما يجعل الذهن يتوجّه نحو تحصيل الغايات والمطامح في هذا النطاق مهما كان الثمن، وذلك يؤثر تأثيراً بالغاً في المنظومة التربوية أيضاً.

في المستوى الثالث وانطلاقاً من التشبّث بالحياة الآنية والتمسك بالذاتيات المادية المباشرة والأنانية الفردانية التي تشكل محور الثقافة الغربية، فإنّ هذه الطروحات الأنسنية تسعى إلى بقاء الإنسان في حين أنّ غايته الفناء في الله. يمكن لنا أن نتناول ثنائية البقاء والفناء من خلال هذا البعد كذلك من خلال البعد الذي يتصل بالمسار العبادي المفضي إلى سرِّ التكوين وأصل الحب في الوجود كما تفيد الآية الثانية والسبعون بعد المائة من سورة الأعراف «ألست بربكم قالوا بلى شهدنا»، أو الآية السادسة والخمسين بعد المائة من سورة البقرة «الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنّا لله وإنّا إليه راجعون». أما المعرفة المادية بالإنسان فتهدف إلى تنمية قدراته والحفاظ على وجوده في هذه الفرصة الزمنية الضيقة لغاية الاستفادة منها بأقصى قدر ممكن، وبذلك ينمو الاهتمام بالذات والذاتية ويصبح محور التوجه والتفكير هي الأنا، وبذلك ينقطع طريق الرجوع إلى الله، والارتباط والفناء في وجوده الحقيقي، ومعرفة أن الوجود الإنساني محض تعلق.

الفكر الإسلامي يُقدِّم أطروحة شاملة حول البقاء والفناء في المراتب المتفاوتة في النظر، وهو يجيب عن الأسئلة التي تُحيّر البشرية مستنداً إلى الإخبار الغيبي والكشف المحمديّ، لكنّ المستوى الرفيع الذي نظر منه العارفون إلى هذه الثنائية ظلّ محدود التداول في المؤسسة العلمية الدينية، مع استثناء التيارات الصوفية والعرفانية التي شرّعت الباب على مصراعيه أمام التفسير الرمزي والسير المعرفيّ الشهوديّ.

المادة / المجرد

شعار الاتجاه الفكري المعادي للكنيسة كان المادية، مقابل المجرد والغيبيّ والملكوتيّ الذي نظر إليه في الإطار الاجتماعي السياسي الغربي على أنه سبب الأزمة السياسية والحروب، فرُفع شعار نقيض، على أمل أن يكون هذا النقض والتناقض سبباً للخروج من الاحتراب الأوروبي، الذي أطلّ من النافذة مجدداً في حربين عالميتين لم يرَ التاريخ لهما نظيراً، حربين قامتا بثقافة مادية بحتة.

الموقف الإسلامي في هذا المجال معروف وأشار السيد الطباطبائي في هذا السياق إلى طبيعة العلاقة بين طرفي هذه الثنائية في تفسيره المعروف بالميزان حيث يقول: قوله تعالى: «و اللَّه غالب على أمره» يوسف - 21. وكذا الآية الثانية التي أوردها أعني قوله تعالى: «أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها» «إلخ»، مسوقة لبيان بقاء الحقّ وزهوق الباطل سواء كان على نحو التنازع كما في الحق والباطل الذين هما معا من سنخ الماديات والبقاء بينهما بنحو التنازع، أو لم يكن على نحو التنازع والمضادة كما في الحقّ والباطل الذين هما بين الماديات والمعنويات فإن المعنى، ونعني به الموجود المجرد عن المادة، مقدم على المادة غير مغلوب في حال أصلا، فالتقدم والبقاء للمعنى على الصورة من غير تنازع، وكما في الحقّ والباطل اللذين هما معا من سنخ المعنويات والمجردات، وقد قال تعالى: «و عنت الوجوه للحيّ القيوم» طه - 111، وقال تعالى: «له ما في السموات والأرض كلٌّ له قانتون» البقرة - 116، وقال تعالى: «وأنّ إلى ربِّك المُنتهى» النجم - 42، فهو تعالى، غالب على كلّ شيء، وهو الواحد القهّار»[13].

وقد ناقش الشهيد مطهري في كتابه «الدوافع نحو المادية» الصلة بين الاتجاه المادي والتطوّر العلميّ، واعتبر أنَّ الاتجاه الماديّ موجود تاريخياً لدى العلماء وغير العلماء على حدّ سواء، ولا علاقة للتطوّر العلمي بنشأته، وإن كان هذا الأخير عنصراً مؤثراً في تعميم الثقافة المادية، فإنّ الارتباط الشرطي بينهما لا دليل عليه. ويلفت ماسترسون إلى أن الصدام بين بعض مفردات النصّ الدينيّ المسيحيّ وبين بعض النظريات العلمية، قد أفضى إلى القطيعة مع العالم المجرد برمته وأقصاه بشكل نهائي، واعتبر البعض هذا الإنجاز على حساب النصّ الكنسيّ ذريعة لصرف النظر عن كلّ ما هو غير ماديّ، ونورد كلام ماسترسون هنا لأهميته كشهادة لباحث غربي على هذه التحولات التاريخية «من المعترف به من خلال إلقاء نظرة دقيقة أنّه من غير الممكن إظهار كون أيٍٍّ من الأوتاد العظام للمفهوم الكوني الجديد كنظرية مركزية الشمس أو قانون القصور الذاتي أو قانون الجاذبية- وكأنها غير متوافقة من حيث المبدأ مع إثبات وجود الله. بالرغم من ذلك، فإنّ الأفكار التي قامت هذه النظريات بإبدالها كانت مرتبطة بشكل وثيق بإثبات وجود اللَّه وبمجموعة من المواضيع الإلهية المتنوعة، فبدا لعديد من الناس أن سقوط هذه الأفكار يتّجه إلى تقويض إثبات وجود اللَّه بدلاً من أن تسهّل هذه النظريات إحداث فهمٍ أكثر أصالةً ونقاءً عن الطبيعة الإلهية. على نحو أدقّ، فإنّ المنهجية الإلحادية للنظرة العلمية المعاصرة قد أقصت ببساطةٍ السؤال حول وجود اللَّه ولكنّها قد أحدثت أيضاً إطاراً ذهنياً يميل نحو تعميم اللامبالاة المنهجية تجاه ما هو إلهيّ وتحويله إلى النزعة الإنسانية العلمية المطلقة»[14]. نحن وفي اطار الرؤية المعيارية التي نركن إليها في هذه الوريقات لا نريد الانجرار نحو جدل كلامي مع الفلسفة المادية، فقد قامت استدلالات علمية وفلسفية إسلامية كثيرة بنقض الأصول المعرفية والكلامية لتلك الفلسفة، ونحن لسنا بصدد إثبات انحرافها ووهنها، وإنما نريد التركيز في تسرب تلك الفلسفة في اللغة غير المباشرة للعلوم الإنسانية المختلفة، ويمكن لمن يود الإطلاع بشكل تفصيلي العودة إلى الكتابات المختصّة في هذا الجانب، وإشارة ماسترسون هنا تفيد في توكيد حقيقة أن «العلم»، في التداول الغربي الأنواري، كان يُمثّل تياراً فكريّاً تشكّل في حمأة الصراع، اندفع نحو تشكيل رؤية مسبقة وشمولية تجاه الدين.

للوقوع على الموقف الغربي المباشر، نعود إلى موسوعة روتلدج للفلسفة التي عرفت المادية كاتجاه فلسفيّ بالآتي:«مجموعة من النظريات المترابطة التي تعتبر أنّ كلّ العناصر والحركات تتألف من المادة، القوى المادية أو العمليات الفيزيائية. كلّ الأحداث والحقائق قابلة للتفسير، مباشرةً أو بشكل مبدئي، من خلال مفاهيم الجسد، الأشياء المادية أو التحولات والحراكات الدينامية المادية»[15]، وبالمقابل وفي تعريف القضايا المجردة يقول بوب هايل «السؤال الفلسفي المركزي حول القضايا المجردة هو: هل ثمة قضايا مجردة؟»[16] ويعرض للآراءء المختلفة في هذا المجال، وفي المجال الإنساني اعتبر الطبيب والفيلسوف جوليان دولامتري[17] في كتابهه «الإنسان الآلة» الصادر عام 1748 الوجود الإنساني جسماً ميكانيكياً يتحرك بقدرة ذاتية وفسر الحركة الفكرية علىى أسس عصبية مادية.

تحركت الأبحاث في العلوم الإنسانية الغربية إذن على خلفية مادية، وحاولت الالتفاف على وجود العقل واللغة في بعض الأحيان ولم تنجح في الوصول إلى تفسيرات مقنعة، لكنها انضوت تحت شعار انكار المجردات، ونحن إذ نستعين بها في تكوين المعرفة عن الوجود الإنساني، سنلاحظ أنها بطبيعة الحال تصرف الاهتمام عن القضايا المجردة العقلية والروحية وبالتالي تضعف قدرة الإنسان على إدراكها والإيمان بها، فانشغال الفكر بالواقع الحياتي والمعيشي يستتبع إشباع المخيلة بالصور المادية، وتأطير الفضاء الفكري بحدود تعزله عن الاهتمام بالأبعاد المتنوعة للموجود الإنساني، كما تخلق نمطية اشتغال الجانب المجرد من الإنسان أي العقل ومن ثم القلب بالجانب المادي المعيش منه، فيصبح المجرد مسخراً للمادي، على النقيض تماماً من الخطاب والتوجيه القرآني الذي أراد أن تكون الأولوية للحياة الأخروية بقيمة قصوى للبعد الروحي والمعنوي وقيمة دنيا للبعد المعيشي كما تشير آيات كثيرة ومنها الآية الثانية والثلاثون بعد المائة من سورة طه «لا نسألك رزقاً نحن نرزقك والعاقبة للتقوى».

انسداد باب المعنويات الروحانية العميقة والأصلية أمام المفكر أو المثقف أو الباحث الغربي ذي النزعة المادية الشمولية، دفعه بقوة نحو إيجاد البديل، فكان الطريق إلى معرفة الذات هو العلوم الظاهرية، فغرق فيها كبديل لطريق التكامل المعنوي، وأصبحت هي خشبة الخلاص من التيه المعرفي، ولذلك نحن نتعرض لإغراء أن تتحول هذه المعارف التي تقدم بديلاً معنوياً عن المعرفة الحقيقية بالإنسان فرداً ومجتمعاً إلى بديل يطغى على طريق التكامل الروحاني والسير الأخلاقي العبادي من خلال المعرفة المباشرة الظاهرية، ويغذي العقل مقابل تغذية القلب والروح، ويحصل من ذلك تغليب للمجرد العقلي على المجرد الروحي، فيحصل شعور وهمي بالاكتفاء لناحية الحاجات المعنوية المجردة، كما يعبر ميجيل فارياس في بحث له بعنوان (سيكولوجيا الإلحاد):»يمكن للعلم أن يقوم بدور العكاز السيكولوجي لأنه يقدم قيمة ميتافيزقية مضافة»[18] ويتأتى من ذلك إهمال البحث فيي الجانب الروحي والفطري الحقيقي للتجرد، لذلك نلاحظ الانكباب الكبير على الإنتاج الفكري والتلقي المعرفيي للذين فتح باب المعارف العقلية، وقد نقع في هذه الثغرة نتيجة الاستغراق في التلقي وكذلك بسبب البيئة الأكاديمية التي تجعل التداول الفكري محصوراً في النطاق الظاهراتي قسراً.

الظواهر / التجليات

البحث عن بديل للنص الديني وما قدمه من إجابات عن الإنسان ووجوده وغاية حياته قاد إلى اللجوء للمنهج المتبع في استقصاء المعرفة بشؤون الطبيعة والمادة، فبحسب المنظِّر الاختزالي أوغست كونت «كان ينبغي لعلم الاجتماع أن يطبق المنهجيات العلمية الصارمة نفسها في دراسة المجتمع، كما هي الحال في الأساليب التي تنهجها الفيزياء والكيمياء في دراسة العالم الطبيعي»[19] وكذلك تبعه الآخر اميل دركهايم الذي شاركك كونت الرأي «بأن علينا دراسة الحياة الاجتماعية بروح موضوعية مثلما يفعل العلماء عند دراستهم للعالمم الطبيعي، وكان المبدأ الأول الذي وضعه لعلم الاجتماع: فلندرس الحقائق والوقائع الاجتماعية باعتبارها أشياء»[20].

جرى تشييء الإنسان في النهاية لمحاولة فهمه، وهذا ما ينعكس في النصوص التي تتبنى هذا الاتجاه الذي حدَّ الإنسان في مرتبته الوجودية الدنيا كشيء من الأشياء، مقطوعاً عن أصله ومنشأ وجوده واستمراريته، وحينما نستفيد من هذه النصوص في سياق تعليمي يفرض علينا تبني الأفكار والمقاربات الواردة فيها من خلال استخدامها في الفهم والتحليل والعمل فإن ذلك يؤثر في إدراكنا لأنفسنا وللآخرين، وتغيب عنا حقيقة وجودنا، فهي تفصل الظواهر الإنسانية عن الرؤية التوحيدية للكون وحقائق الوجود، فلا شك في أن انغماس البحث في الظاهرة الإنسانية في بعدها الظاهري، وإهمال الحقيقة التوحيدية التي تدل على أن «لا مؤثر في الوجود إلا الله»، مؤسسةً على مقولة «لا جبر ولا تفويض»، فتنظر إلى «البلاء» على أنه مشكلة، وإلى «النعمة» على أنها «ربح»، وبذلك تعزل عاملاً رئيسياً ومتغيِّراً مركزياً في عملية التحليل هو القرار الإلهي. هذا الانشغال ضمن هذه الحدود المادية يخلق إطاراً محدداً للنشاط الفكري، إطاراً يمنعه من الالتفات إلى هذا العامل والمتغير الرئيسي ودوره في الظواهر والمتغيرات، وتجعل العقل ينظر إلى الكون على أنه ساحة مستقلة ومنفصلة عن الوجود الإلهي.

وكذلك ومن ناحية أخرى فإن هذه الكراريس لا تعتبر أن الظواهر الإنسانية تتأثر بالإذن الإلهي والإرادة والتأثير الإلهيين، فهي تعاني انحيازاً إلى جانب التفويض المطلق للإنسان، وكفّ يد التأثير الإلهي عن الفرد والمجتمع والحياة، وإغفال وجود القدرة الواعية والهادية والمرشدة التي تؤثر في قرارات الأفراد والمجتمعات ومصائرهم ومساراتهم، هذا التطرف الأعمى يخلق نطاقاً فكرياً وشاكلة معنوية تشرنق العقل والقلب، حيث ينعكس التصور النظري للظاهرة الإنسانية على التصور القلبي للذات، وتصبح النظرة للحياة الإنسانية نظرة سطحية ومادية، وتصبح حدود الفضاء الفكري محروسة حراسة مشددة تجاه إدراك ووعي الإرادة والتأثير الإلهيين.

أكد الوحي المقدس وجود بعد خفي في الظواهر التي تحصل في المجتمع الإنساني فلا يبقى المرء في عزلته الفردانية وفق هذه النظرة، كما توضح الآية السابعة عشرة من سورة الأنفال «فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى»، وكذلك الآية الواحدة والخمسين بعد المائتين من سورة البقرة «وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ» وآيات كثيرة يزخر بها القرآن الكريم أكدت ضرورة الالتفات إلى البعد الغيبي للظواهر الاجتماعية، فما محل هذه الإشارات القرآنية من فكرنا المعاصر، فقد جرى إغفالها بشكل كبير على ما يبدو.

الكثرة / الوحدة

واحدية وأحدية الخالق وكثرة المخلوقات وتعدديتها قضية محورية في السير التكاملي للإنسان في طريق رجعته إلى أصله الروحي، فالحياة الواقعية المباشرة ودار الدنيا تشغله بكثرة حاجاتها وشؤونها وموضوعاتها وتقلّباتها، فيما يمرّ طريق العودة إلى المبدأ بين تلك الكثرات والانشغالات وينسلّ منها برغم وجوده بينها، لكنّ محورية التكامل المتعالي كهمّ مركزيّ لحياة المؤمن يسمح له بأن يضع كلّ انشغال وكلّ هَمّ في سياق واحد أوحد، كما يقول أمير المؤمنين «قد تخلّى عن الهموم إلا همّاً واحداً انفرد به»[21]، فيقصي ما يشغله عن هدفه الذي خلق لأجله ويقدم ما يخدم ذاك الهدف المقدس، الفرد والمجتمع يعبران الطريق من الاستغراق في الموجودات ومتطلباتها إلى التوازن والهدفية في رؤية كلية منسجمة، يكون فيها لكل طبقات المجتمع طريق تكامل وتقدم معرفي وروحاني متعال.

قدم الفلاسفة الإلهيون والعرفاء الروحانيون توضيحاً لكيفية تساكن الأحدية الإلهية مع كثرة الممكنات، من خلال مراتب الوجود الواحد، فالشمس تبعث النور على مراتب بحسب القرب والبعد، والمخلوقات تتفاوت في مرتبتها وبعدها ابتداءً من الرسول الأعظم صلوات اللَّه عليه وآله الأطهار وصولاً إلى الماديات الصمّاء البكماء، ولا شكّ بأنّ هذا المبحث العميق واللطيف مرجعه إلى الآيات والروايات عن أهل بيت العصمة سلام اللَّه عليهم كما أشار الفيلسوف الكبير صدر الدين الشيرازي في كتابه الأسفار الأربعة «الثابت بذاته المثبت لغيره الموصوف بالأسماء الإلهية المنعوت بالنعوت الربانية المدعو بلسان الأنبياء والأولياء الهادي خلقه إلى ذاته أخبر بلسانهم أنّه بهويته مع كلّ شيء لا بمداخلة ومزاولة[22] وبحقيقته غير كلّ شيء لا بمزايلة وإيجاده للأشياء اختفاؤه فيها مع إظهارهه إياها وإعدامه لها في القيامة الكبرى ظهوره بوحدته وقهره إياها بإزالة تعيناتها وأسمائها وسماتها وجعلها متلاشيةة كما قال (لمن الملك اليوم للّه الواحد القهّار) و(كلُّ شيءٍ هالك إلا وجهه)»[23].

المدرسة المادية انصرفت كما أسلفنا إلى الانشغال بالدنيا وعالم الكثرة إلى حد فاق عدد الاختصاصات العلمية الآلاف الثمانية، دون أن يكون ثمة رابط يجمعها في رؤية كلية، وفي كلّ اختصاص تكثر النظريات والآراء والمقاربات وزوايا النظر، وناقش الباحث الفرنسي المعاصر باساراب نيكولسكو هذه القضية بعمق، ناقداً الفكرة التي تقول بعدم وجود ضرورة لأيّ معيار كليّ يحكم حركة التعرُّف والبحث، معتبراً ذلك من نتاج تراجع المعنويات في الزمن الحالي، «الروحانية كلمة فقدت قيمتها كلياً اليوم.. في فعل التواصل بيننا وبين الكون. ثمة فقر روحي هائل اليوم على كوكبنا، يعبر عن نفسه من خلال الخوف، العنف، الكراهية والدوغمائية.. بالنسبة للنسبيين الراديكاليين، بعد موت الله، وموت الإنسان، وانتهاء الأيديولوجيات، ونهاية التاريخ (وربما، في الغد، موت العلم ونهاية الدين)، لم يعد ممكناً التوصل إلى رؤية كلية»[24]، وجرى  حصر الحياة في زاوية مادية ضيقة ووحيدة في زمن الحداثة وما بعدها فبرأيه أن «الإنسان الاقتصادي هو وليد الحداثة، يؤمن حصراً بما يراه، يشاهده، ويقيسه. ومجاله الطبيعي هو الدنيوي، لغته تنتمي إلى مرتبة وحيدة من مراتب الواقع، يمكن الوصول إليها من خلال العقل التحليلي، العلوم الرقيقة والكثيفة، والتكنولوجيا والنظريات والأيديولوجيات والرياضيات والمعلوماتية»[25]، وفي طرحه للعلاج يقترب من لغة الفلسفة الإسلامية التي تضع الكثرة في ظل الوحدة، ولو من منظار منهجي ينسجم مع مقاربته «قناعتي العميقة هي أنّ تشكيلنا للعبر مناهجية هو ذو طابع توحيدي (بمعنى توحيد مختلف المقاربات العبر مناهجية)، وهو متنوع كذلك في الوقت عينه: تنطوي مقولة الوحدة في التنوع والتنوع من خلال الوحدة في مفهوم العبر مناهجية»[26].

يشكل هذا التوجه لدى كاتب ومفكر فرنسي معاصر، انتقل من علم الفيزياء إلى الهم الفلسفي مؤخراً، جزءاً من انتفاضة فكرية محدودة النطاق تسعى للعثور على مخرج من الأزمة المادية، غير أنها لا تزال في إطار السؤال مع قليل من الإجابات، لكنّ أهمّ ما في هذا الحراك وعي المشكلة الاختزالية القائمة اليوم.

هذه المعارف والطروحات تغرق الإنسان في عالم الكثرة والتغيُّر وتضعف إمكانيات العقل والتصور على رؤية الوحدة، فحين يغرق العقل في التفاصيل والجزئيات يبتعد بالتدرّج عن الاهتمام بالنظرة الكلية المتعالية المسيطرة على كل التفاصيل والجزئيات، كما يصبح أسير اللحظات الزمنية المتغيرة ويصبح الزمان أحد حدود النطاق الفكري المادي، ويصعب مع تنامي الاهتمام بالأمور الدنيوية والحياتية وتشكل منهجية التفكير الملازمة لحركة الذهن الانتقال من عالم الكثرة المتغيرة إلى عالم الوحدة الثابتة والالتفات إلى حضور المحرِّك غير المتحرك وتغيب الرؤية الشاملة لمصلحة التفصيل، ونقع في حالة من الاختزال المتطرف في النظرة إلى مرتبة واحدة من مراتب الوجود ويقع الإهمال تجاه المرتبة العليا ويصبح إدراك المطلق غير المقيد أمراً متناقضاً مع مساحة الانشغال الفكري الأوسع في المجال المقيد والمتشابك والمعقد.

النفس / الفطرة

الإنسان الذي علم الملائكة الأسماء الإلهية والذي لديه القابلية لنيل مرتبة الخلافة الإلهية والتخلق بالأخلاق الربانية جرى إنكاره وتحييده، وتحويله إلى موضوع للبحث والإختبار لأجل السيطرة عليه وتوجيهه بحسب مصالح المؤسسة المادية، وكل ذلك تحت شعار الموضوعية التي «عندما تتموضع كمعيار أحادي للحقيقة، سيكون لها نتيجة حتمية واحدة: تحويل الذات إلى موضوع. موت الذات هو الثمن الذي ندفعه في موضوعية المعرفة. حيث أصبح الوجود الإنساني موضوعاً للاستغلال من قبل الإنسان الآخر، موضوعاً للاختبار من قبل الأيديولوجيات التي تدعي العلمية، موضوعاً للدراسات العلمية التي تتولى تشريحة، وإعادة تشكيله والسيطرة عليه. الإنسان، الإله أصبح الإنسان، الموضوع، والنتيجة الوحيدة لهذا المسار هي التدمير الذاتي. المجزرتان العالميتان في القرن العشرين هما انعكاس لمسار التدمير الذاتي»[27].

المنهج الأداتي هذا يعمل في الوقت نفسه كوسيلة لمعرفة الذات والآخر وتشكيل الحياة الفردية والجماعية لمن يتبنى مقولاته وأدواته، على أن يختار الفرد ما يلائمه من آراء مطروحة في حقل العلوم النفسية ويبني حياته المعنوية والسلوكية عليه، أما الفرد العادي فله إلى تشكيل معرفته بذاته طرق عملانية ثلاث: انطباعه عن ذاته، نظرة المجتمع إليه، الأحلام والمطامح الفردية[28].

ناقش علماء النفس الماديين منذ انطلاقة هذا الفرع العلمي في القرن التاسع عشر قضية أساسية هي تجرد النفس الإنسانية[29]، واعتبر جمع كبير من الباحثين الإختزاليين أن النفس والجسد واحد وليس ثمة تجرد للروح، فهي تموت بموت الجسد، فالمساحة المعنوية التي يقوم عليها حراك الإنسان نحو العالم الحقيقي جرى إلغاؤها إلى حد كبير والنقاش في أصل وجودها لا يزال قائماً، ناهيك عن إمكانية التشخيص والتوجيه لكيفية التعامل معها بما يتناسب وحقيقتها وغايتها.

بالمقابل كان للوحي الإلهي الوضوح والحسم في هذا المبحث كما تعبر الآية الثلاثون من سورة الروم «فطرة اللَّه التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله» ويشير الشهيد مطهري في كتاب الفطرة إلى أن «التعاليم الإسلامية مبنية على القبول بمجموعة من الأمور الفطرية، وهي جميع تلك الأمور التي نعتبرها ما وراء الحيوانية ونعدها قيماً إنسانية. ترى المعارف الإسلامية أن لهذه القيم الإنسانية أصولاً في تكوين الإنسان، ولسوف نبين كيف أن الأصالة الإنسانية والمشاعر الإنسانية ترتبط بما فطر عليه الإنسان. إنه لقول فارغ ألا نعترف بوجود فطرة في الإنسان، أي أن ننكر وجود جذور لهذه القيم في الإنسان»[30]، لكن المقاربة المادية التشييئية للإنسان تركت الباب مفتوحاً، تحت مقولة الحرية، لكي يبتدع الفرد والمجتمع ما يتيسر من المقاربات وأنماط الحياة وصولاً إلى تبديل خلق اللَّه والمثلية الجنسية، فقد نسي الإنسان الغارق في المادية الإختزالية نفسه كما يعبر القرآن الكريم في الآية التاسعة عشرة من سورة الحشر «ولا تكونوا كالذين نسوا اللَّه فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون»، وباعتبار أن الآراء والابتداعات التي طرحت تحت مظلة العلوم الإنسانية كانت تجهل وجود الفطرة وبالتالي تفتقد لوجود أي شيء ثابت في النفس البشرية. فأصبح تعدد الآراء والنظريات سبباً لتغرب الإنسان عن ذاته وعن الآخر وتم تفكيك العائلة وقبل ذلك تفكيك الفرد نفسه.

لم تصل المقاربة الظاهراتية للإنسان إلى إدراك حقيقة الوجود الإنساني والحاجة الأصلية التي تتفرع منها سائر الحاجات والغايات، والتي بتحقيقها تحل المشكلات المتعلقة بالحاجات الأخرى، وتنوعت النظريات التي تفسر النفس الإنسانية وتعرف أبعادها وجوانبها، ولم تعثر على تعريف ذات الوجود النفساني، وبالتالي أصبحت هذه النظريات المتنوعة والمختلفة فيما بينها تصويراً لحالات النفس ومتغيراتها وأعراضها دون أن تمسَّ الجوهر الحقيقي. ارتكزت على هذه النظريات رؤى تتعلق بالحياة الإنسانية ككل وكيفية تحقيق غاية الوجود الإنساني، ومن جهة أخرى ارتكزت عليها أدوات السيطرة والتأثير في الإنسان فرداً ومجتمعاً، وكذلك المناهج المتعلقة بحل مشكلات النفس الإنسانية المرضية والحياتية فأعطت علاجاً لمريض غير معروف الجوهر والهوية.

من ناحية أخرى فإنّ المقاربات المتكثرة والظاهراتية تنكر وجود الفطرة وبالتالي تجهل طبيعة الإنسان (غايته، صفات الكمال لحقيقي..) فغدا الإنسان المجهول الجوهر هو ضحية عالِم النفس وموضوع للتحليل والمقاربات المتفاوتة الدقة والاكتمال، والمرتكزة على غموض في تعريف الذات الإنسانية، والتي ولدت مفاهيم ونماذج تحليل للموجود البشري تنطوي على أوهام وانطباعات اكتسبت الثقة من خلال استقرائها للشرائح الاجتماعية التي تعاني أزمة روحية وتجهل حقيقة ذاتها ويضعف التأثير الروحاني في سلوكياتها الظاهرية وتركيبها العقلي والنفسي.

ونحن بطبيعة الحال عندما نعتمد على تلك الآراء التي أنتجت في تلك البيئة الثقافية والسلوكية فإننا نشكل وعينا بذواتنا على شاكلة تلك النفوس التائهة في ظلام عالم المادية والمنقطعة عن عالم المعنى، وما يعتبر ألكسيس كارل في كتابه الإنسان ذلك المجهول، الذي يشير عنوانه إلى عمق الإشكالية التي وقع فيها الفكر المادي، فإن «جهلنا بأنفسنا يعود إلى المنحى الوجودي الذي كان عليه أسلافنا، وإلى تعقيد الكائن الإنساني، وإلى بنية عقولنا»[31]، فليس ثمة مصدر وحياني يضيء المناطق الخفية من هذا الكائن الذي نزل إلى الدنيا فاقداً للتوجيه الذاتي الروحاني الذي يملكه الملائكة أو المادي الذي للحيوانات ليستطيع الاختيار بنفسه بين طريق الهدى وسبيل الضلال[32].

البيئة / الإبتلاء

وقع المحاربون للكنيسة باسم العلم في مشكلة أساسية وهي الفراغ المعنوي والروحي الذي نشأ بفعل تغييب الإيمان الديني عن الحياة وقد أشار باحثون عديدون إلى مدى عمق هذه الأزمة التي نشبت في مرحلة التحول، ومنهم كافين هايمان في بحثه عن الإلحاد المعاصر[33] حيث استعرض الأزمات النفسية التي سببها انهيارر المعتقدات التي كانت تسير حياة الفرد والمجتمع، وكذلك الكاتبة جينفير هاكت في كتابها (نهاية الروح) الذيي يتناول تلك الحقبة في درس للآثار التي تركها التحول التاريخي نحو إنكار الدين والإيمان، فـ «في زمن الجمهورية الفرنسية الثالثة التي أُسِّست  عام 1871، استخدمت مجموعة من الملحدين ذوي الاتجاه اليساري الإنتربولوجيا للمجادلة ضد الدين، ولغاية أكثر أهمية ولفتاً، استخدام شعائر هذا العلم الحديث للتعامل مع الضغوط النفسية والعزلة التي تزامنت مع فقدان اللَّه والمجتمع الكنسي»[34]، ونلفت النظر إلى أن استخدام الكاتبة لمفردة شعائر يحيلنا إلى مسار تشكل الدين الجديد الذي تحدث عنه اوغست كونت.

انتقل العقل الاختزالي بالإنسان الغربي من حالة الانسجام في منظومة كونية وعقلية متناسقة، على الأقل في وعي الأوروبي آنذاك، إلى حالة من التعددية والفوضى وغياب المعايير والتبدل على المستوى الفكري، وإلى العزلة من الناحية النفسية والعملية مترافقة مع السعي للتحكم بالنفس والمصير كما يشير ميجيل فارياس حيث جرى استبدال قواعد القوة والضرورة بفكرة الإرادة الإلهية الفاعلة في ما وراء الطبيعة، هذا الصدع العنيد بين الكائن البشري والعالم يجعل من السيادة الذاتية ضرورة حاسمة، عبرت الحركة الوجودية عن هذه الفكرة بوضوح شديد: ذاتية حركتنا تعني أننا متحررون من كل المحدوديات، وفي الوقت نفسه وحيدون تماماً، ولم يبق أمامنا أي خيار سوى حكم أنفسنا بأنفسنا.. وهذا التحكم الذاتي فتح الباب أمام المنافسة الفردية، الرغبة في السيطرة وتقديم الذات على أنها متمايزة عن سائر الإنسانية»[35].

العزلة، غياب الرؤية الكونية الشاملة التي تفسر الوجود ومندرجاته الثابتة والمتحركة، السعي للسيطرة والمنافسة، عوامل ساهمت في تشكيل صورة سلبية عن الحياة والطبيعة والمجتمع، ولذلك نلاحظ أن السرديات الوافدة من أكاديميات ومنتديات العلوم الإنسانية الغربية المادية تصف البيئة على أنها فوضى وحالة عدائية تجاه الإنسان، لا على أنها ساحة بلاء واختبار، فالنظرة الظاهراتية تصف الواقع الدنيوي على أنه فوضى لا غاية لها، ومجموعة من المصادفات والتشابكات، وتصفها بعض النصوص بأنها بيئة عدائية نتيجة التنافس الاجتماعي أو المتغيرات الطبيعية وتسارع الصراع الإنساني، وتقارب تلك الظروف تحت عنوان المشكلات، التي يسعى الإنسان لحلها كغاية بحد ذاتها، ولا تنظر إلى البعد التربوي الإلهي من هذه المشكلات التي يتغير مفهومها إلى الابتلاءات التي تهدف إلى الترقي والتكامل، بل تقدم شرحها وتوضيحها للواقع لغرض التأسيس للمنافسة والنجاح تجاه الإنسان الآخر.

تقتصر مقاربات العلوم الإنسانية المادية في تحليل أسباب المشكلة على الظروف المادية الدنيوية وتغفل الواقع الكوني الذي تتضمنه النظرة الشمولية، فتقع في اختزالية وضع الحلول على أساس دنيوي مادي، وتغفل العامل المؤثر الأكبر في نزول وارتفاع البلاءات. الإطار الاختزالي المتطرف هذا يمنع الفرد من مقاربة المشكلات في حقيقتها وغاياتها وأسبابها وحلولها الواقعية، ويضعه في حالة صراع مع البيئة الاجتماعية والطبيعية وتنافس دنيوي مع الآخرين[36]، فهي تصف البيئة الاجتماعية على أنها غابة، يعيش الإنسان فيها حالة عدم انسجام مع الذات. البيئة العدائية في النظرة المادية تجعل الإنسان يشعر بغياب الإنسجام مع الذات والمحيط الكوني، فيقع في انفصام تجاه غاية الحياة والعمل والسعي وينظر إلى الزمن على أنه عدو، وبذلك تتراجع إمكانية اختراقه للإطار الاختزالي المتطرف نحو الرؤية الكونية الشمولية الواقعية. وفي مقارنة مع الحياة البدائية والإنسان القديم يقول أنطوني غدنز أن «غياب الحرب وانعدام اللامساواة في الثروة والقوة، وتأكيد التعاون بدلاً من المنافسة في تلك المجتمعات تذكرنا كلها بأن العالم الذي خلقته الحضارة الصناعية الحديثة لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون مرادفاً لمفهوم التقدم»[37].

وفق المنهج المادي، فإن الإنسان يخرج من العبودية للظواهر والظروف والبيئة إلى حالة نسبية ومحدودة من السيطرة عليها، وتبقى هذه العناصر الاجتماعية والحياتية هي الموجود المتفوق والحاكم حتى عند السيطرة المجتزأة والنسبية للإنسان على مساحة محدودة منها. ولكن اللَّه هو المؤثر الأكبر في هذه العناصر، والقادر على التغيير فيها لمصلحة التكامل الإنساني. أعطى الوحي الإلهي مساحة كاملة لهذه القضية بتشعباتها المختلفة، وهناك آيات عديدة تقدم التفسير الذي يحتاجه الفرد للتعامل مع الظروف الفردية والاجتماعية المختلفة دون الوقوع في الانعزال أو العدائية، ففي الآية الثامنة والأربعين من سورة المائدة تأكيد أن الاختلاف بين الناس وتعدد الأمم له غاية متعالية وليس أمراً عبثياً «ولو شاء اللَّه لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات»، وكذلك تأتي الآية الخامسة والستين بعد المائة في هذا السياق لتوضح الغاية من التعدد الطبقي الاجتماعي «وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم»، وفي الصراع بين الحق والباطل أعطت الآية السابعة عشرة من سورة الأنفال توضيحاً لغاية الاقتتال، فهو ليس هدفاً بحد ذاته «وما رميت إذ رميت ولكن اللَّه رمى وليبلي المؤمنين منه بلاءً حسناً».

الآيات القرآنية الكثيرة التي وصفت الحياة الدنيا بأنها دار بلاء، توضح واقع المسرح الإنساني وفلسفة الحراك في القبض والبسط في أحوال الفرد والمجتمع، ولكن النظرة المجتزأة والمباشرة إلى هذا المسرح جعلت ما هو موجود خلف الكواليس مهملاً ومغفلاً عنه، وبالتالي نحن عندما ننظر بالعين والعقل الغربي المادي إلى المسرح بسطحية سنشاهد البيئة العدائية وعدم الانسجام في كل ما يحصل من فوضى في الحياة الشخصية والعامة.

استقلال / ارتباط

 إمكانية تعايش الأفكار الاختزالية مع الإيمان بالله في عقل واحد سؤال هام يطرح نفسه عند التأمل في إشكالية بحثنا ومندرجاتها التطبيقية، وهي قضية محورية في طريق تفكيك آثار التبني النظري والعملي لمقولات المدرسة المادية، وحين نرى أن الإسلاميين المتدينين يتداولون هذه الأفكار ويتبنونها ويدافعون عنها كذلك، فإننا في العودة إلى التاريخ الأول للفكرة الاختزالية سنجد حالة مركزية مماثلة في مقولة ديكارت «أنا أفكر إذن أنا موجود» التي أسست لاستقلال الإنسان تجاه الكنيسة والله، فهي لم تصدر عن خلفية إلحادية وإنما كانت في مرحلة تاريخية شهدت حراكاً فكرياً يهدف لسد المساحة المهملة في الإطار المعرفي الكنسي، وعلى حد قول ماسترسون فـ «من النظرة الأولى، قد يبدو للمرء أنه من المستهجن أن يجري وصف فكر ديكارت كمصدر مهم للإلحاد لأن الرجل كان مسيحياً واثقاً وكان يعتبرُ أنّ فلسفته كلّها هي دفاعٌ بالغ القوة عن الإيمان بالله. بالفعل، فإن فكرة اللَّه التي يُشتق منها إثبات وجوده هي سمةٌ لا غنى عنها إطلاقاً في منظومته الفلسفية. بالرغم من ذلك، ينبغي أن نفرّق بين نوايا أي مفكّر وإثباتاته الصريحة من ناحية، وبين المنطق الضمني لمنهجه ومبادئه من ناحيةٍ أخرى»[38]، وينقل ماسترسون في السياق نفسه عن الباحث الإيطالي كورنيليو فابرو إشارة إلى مدى تأثير فكرة ديكارت عن المناخ الثقافي إبان طرحها «في القِدم وبالفعل وصولاً إلى نقطة بروز الفكر المعاصر، مثّل الإلحاد ظاهرةً متفرقة تقع ضمن حدود النخبة الثقافية، ولكن بمجرد بروز الكوجيتو على الساحة فقد اتخذ الإلحاد بُنية محيطة وبشكلٍ متزامن اجتاح الحياة العامة والسلوك الفردي»[39].

إذن نشأت فكرة اختزالية شديدة التأثير في حضن عقل متدين ومنتمٍ إلى الثقافة الدينية المسيحية، وإن كان تأويل أو نمط تداول واستخدام الكوجيتو مختلفاً عما أراده الكاتب وقد تأثر بالظرف السياسي والتاريخي إلى حد كبير، إلا أن المهم هو ما تبينه هذه الحالة من إمكانية التساكن النظري بين الإيمان القلبي والأفكار الاختزالية في شكل من أشكال التنافر المعرفي[40] اللاواعي، كما تظهر أنه يمكن للفكرة المعزولة عن الإطار الديني أن تؤول فيي سياق اختزالي ويجري تداولها على هذا الأساس، وكذلك يمكن للعقل المتبني للفكر الديني أن ينتج فكرة اختزاليةة دون الالتفات إلى مندرجاتها في حال غابت عنه المعايير الدينية الضابطة.

شرعت مقولة ديكارت لاستقلال الإنسان الوجودي برغم الاعتراف بوجود الإله، فأصبح الإنسان وفق هذه النظرة يتحرك في دائرة التفويض بعيداً عن التدخل الإلهي والقيومية الربانية، ومن خلال هذا المدماك الرئيسي الذي نشأ في بيئة مؤاتية جرى التأسيس للمقاربة الاستقلالية في معرفة الإنسان، فنلاحظ بكل وضوح أن العلوم الإنسانية المادية التي نشأت في ذلك الزمان تنكر ارتباط الإنسان بالله، من خلال النظر إلى الظاهرة الإنسانية بشكل مستقل فهي تنظر إلى الظاهرة الإنسانية، الفردية والاجتماعية، على أنها حالة قائمة بحد ذاتها، لا تتأثر وفق السنن الكونية الإلهية التي وردت في القرآن، بل اكتفت بقراءة تأثير العوامل الظاهرية القشرية، فاختزلت العوامل الكلية والحقيقية التي تسبب وتنتج الأسباب والمؤثرات الظاهرية وتتحكم بها، واستغرقت في دراسة التفاصيل والجزئيات، ووضعت نظريات لحل المشكلات الإنسانية، الفردية والاجتماعية، استناداً إلى تنظيم وهندسة المؤثرات الظاهرية والجزئية، مشكلةً إطاراً فكرياً يغيب الحضور الإلهي الفاعل والمؤثر في صعيد السنن وفي صعيد القيومية المباشرة، وبذلك يتحول الباحث والعامل وفق هذه المعارف إنساناً غافلاً عن هذا الحضور، ومتجهاً نحو التأثير والتأثر بتلك العوامل القشرية.

في هذا السياق تعرف موسوعة روتليدج للفلسفة الاتجاهات الأنسنية موضحة ترسخ ومركزية هذه النزعة الاستقلالية «التزام تجاه منظور ومصالح ومركزية الإنسان الفرد، اعتقاد بالعقل والإدارة الذاتية كخصائص تأسيسية للوجود الإنساني، اعتقاد بأن أسس الأخلاق والمجتمع تنبع من الإدارة الذاتية والمساواة الأخلاقية»[41]، ويورد الباحث جورج ستاك في مساهمته للموسوعة ذاتها في تعريف الأيديولوجيا المادية قصة تظهر مدى الجموح نحو فكرة الاستقلال عن اللَّه حيث «أنتج عالم الفلك والرياضيات بيير لابلاس (1749 – 1827) نظرية فلكية متطورة، يعرض فيها قدرة العقل المتفوق الذي يدرك كل ظروف وشروط الموجودات على توقع الحالة الكلية للكون في اللحظة القادمة، وعندما اطلع نابليون على هذه النظرية كان لديه تعليق حول غياب أي ذكر لله في الأطروحة، فرد لابلاس: لم أكن بحاجة لهذه الفرضية»[42].

العلوم الإنسانية المادية وبهذه المقاربة الاستقلالية تنفي آثار التوكل في الحياة الفردية والاجتماعية، فالإطار الاختزالي هنا ينظر إلى الإنسان على أنه مفوض إلى أمره، ويقطع مع الحضور والتدخل الإلهي، وبذلك يغيب من الفكر والذاكرة والمنهج مسألة التوكل على اللَّه والتواصل معه في مقاربة الأمور الدنيوية، فاليد الإلهية في المنظور المادي مغلولة ومنفصلة عن الكون والإنسان.

تاريخياً كان للحركة الإصلاحية البروتستانتية دور في تكريس الاتجاه الفرداني الاستقلالي كما يشير المؤرخ ديفيد مارتن: «المنطق البروتستانتي كان يتجه بوضوح نحو مبدأ الاختيار الإرادي، إلى حد كان غير واقعي من الناحية الاجتماعية»[43]، وكان لذلك أثر كبير في إطلاق الحراك ضد المنظومة السياسية الدينية القائمة آنذاك، والتي ذهبت كما أسلفنا نحو المواجهة الجذرية بالتدرّج، وهنا يتحصل الاتجاه الفرداني في اتجاهين، الأول العزلة تجاه المجتمع ومحورية تميز الذات تجاه الآخرين كغاية لحياة الفرد، والثاني استقلالية الإنسان عن الإله الخالق، وهذا ما يعبر عنه الباحث ستيف بروس بنظرة باردة إلى حالة تفكك العائلة والجماعة والمجتمع: «نظم الاعتقاد الجماعي تحتاج إلى لحمة اجتماعية، استمرار الدين يتطلب من الأفراد الخضوع للجماعة، وفي بعض الظروف، كما في حالات الصراع الديني أو الإثني، يجري حد سيطرة الفرد على ذاته من خلال الهوية الجماعية، وفي حالات الديموقراطية المرفهة والمستقرة في الغرب يحتفط الفرد بحقوق السيادة الذاتية الاستهلاكية»[44].

مقابل الكوجيتو الاستقلالي إلى حد التفويض نجد لغة الوحي الإسلامي الواضحة والنقيضة في الآية السابعة عشرة من سورة الأنفال «وما رميت إذ رميت ولكن اللَّه رمى»، فهنا نرى التدخل الإلهي على مستوى التفصيل، في حين أن النظرة الوجودية التي شرعها ديكارت تنفي إمكانية هذا التدخل وتنفي القيومية الربانية[45]. وفي الآية السابعة عشرة من سورة الأنعام نرى النظرة النقيضة كذلك للطرح الاختزالي في قضية استقلال الإنسان «وإن يمسسك اللَّه بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير»، وفي سورة الملك الآية الحادية والعشرين «أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور» وعلى حد تعبير هيوليت مارتينيز فقد اتخذ العلم، بالمفهوم الاختزالي، اتجاهاً واضحاً نحو نفي التدخل الإلهي في شؤون الإنسان حيث «يبني العلم نماذج ليس لها صلة بالتدخل الإلهي»[46]، ويلفت السيد الطباطبائي إلى علاقة عقيدة الاستقلال بالإلحاد في تفسير الميزان في عرضه لمنطق النص الوحياني «جعل الكفر بالنعمة غاية للشرك إنما هو بدعوى أنهم لا غاية لهم في مسير حياتهم إلا الكفر بنعمة اللَّه وعدم شكره على ما أولى فإن اشتغالهم بالحس والمادة أورثهم في قلوبهم ملكة التعلق بالأسباب الظاهرة وإسناد النعم الإلهية إليها وضربهم إياها حجابا ثخينا على عرفان الفطرة فأنساهم ذلك توحيد ربهم في ربوبيته فصاروا يذكرون عند كل نعمة أسبابها الظاهرة دون الله، ويتعلقون بها ويخشون انقطاعها ويخضعون لها دون اللَّه فكأنهم لا غاية لهم إلا كفر نعمة اللَّه وعدم شكرها»[47]، ونجد في نصوص أهل العصمة عليهم السلام التشريح العملي لحالة الارتباط مع اللَّه سبحانه وتعالى في الجزئيات حتى الباطنية منها، وأحد العبارات الشديدة الوضوح في هذا السياق تلك التي وردت في دعاء مكارم الأخلاق للإمام زين العابدين (ع): «اللهم وفر بلطفك نيتي»، فحتى النية يمكن طلبها من الخالق القادر المؤثر في جميع العوالم.

 النهضة الصناعية، كما يحلو للبعض أن يسميها، لعبت دوراً كبيراً في جعل مقولات الاستقلال والتفويض أكثر مقبولية، ولا يزال التطور التكنولوجي المتراكم والمتسارع يلعب دوراً مؤثراً في تنمية ودفع الاتجاه الاختزالي في هذه القضية، التي تعد أحد أهم موارد الانحراف الفكري في الزمن الحالي، ونجد النصوص التي تشرع هذا الاتجاه وتحوله إلى فقه للحياة في مجالات كثيرة ضمن مكتبة العلوم الإنسانية من علم الإدارة والسياسة إلى العلوم النفسية النظرية والتطبيقية وفروع علم الاجتماع المختلفة، وكل ما له دخالة بالتدبير العملي لحياة الفرد والمجتمع.

المصادر العربية:

غدنز، أنطوني / علم الإجتماع / المنظمة العربية للترجمة / 2005.

أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب حب الدنيا.

بشارة، عزمي / الدين والعلمانية في سياق تاريخي / المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات / ج 1.

الطباطبائي، محمد حسين / تفسير الميزان / الجزء 2.

علي بن أبي طالب / نهج البلاغة.

الشيرازي، صدر الدين / الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة / الجزء الأول.

باساراب، نيكولسكو / العبر مناهجية كإطار منهجي لتجاوز جدال الدين والعلم / مجلة المحجة / العدد 23 / صيف 2011.

مطهري، مرتضى / الفطرة / مؤسسة البعثة.

اليزدي، محمد تقي مصباح / معرفة النفس لبنائها من جديد.

مطهري، مرتضى / الإنسان الكامل / مؤسسة البعثة.

كلشني، مهدي / حوارات العلم والدين / مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي / بيروت، 2009.

الريشهري، محمدي / فلسفة الوحي والنبوة / دار الحديث.

المصادر الأجنبية:

Israel، Jonathan / Radical Enlightenment: Philosophy and The Making of Modernity 1650-1750/ Oxford Uni. Press/ 2011.

Nietzsche، Friedrich / The Gay Science / Cambridge University Press / 2001.

Masterson، Patrick / Atheism and Alienation / Penguin Books / 1973.

Luper، Steven / The Philosophy of Death / Cambridge University Press / 2009.

Routledge Encyclopedia of Philosophy.

Julien de la Mettrie / L’Homme Machine.

Farias، Miguel / The Psychology of Atheism / In: Oxford Handbook of Atheism / 2016.

Encyclopedia of Psychology / Gale Group / 2001.

Carrel، Alexis / Man، The Unknown / Wilco Books / 1959.

Hyman، Gavin/ Atheism in Modern History/ in: The Cambridge Companion to Atheism/ 2007.

Hecht، Jennifer /The End of The Soul: Scientific Modernity، Atheism، and Anthropology in France /Colombia University Press/ 2003.

Martin، David / The Dilemmas of Contemporary Religion / Blackwell publishing / 1978.

The Blackwell Companion to The Study of Religion / Blackwell Publishing / 2006.

A Companion to Descartes / Blackwell Publishing / 2008.


[1]*- باحث في الفكر الديني والدراسات المعاصرة ـ لبنان.

[2]- غدنز، أنطوني / علم الإجتماع / المنظمة العربية للترجمة / 2005/ ص 54.

[3]- غدنز، أنطوني / مصدر سابق / ص 63.

[4]- غدنز، أنطوني / مصدر سابق / ص 53.

[5]- Israel، Jonathan / Radical Enlightenment: Philosophy and The Making of Modernity 1650- 1750 / Oxford Uni. Press / 2011 / p 7.

[6]- غدنز، أنطوني / مصدر سابق / ص 65.

[7]- أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب حب الدنيا، ح 15.

[8]- نقل إلي طبيب أعصاب لبناني يعمل في فرنسا احصائية تفيد بأن ستين بالمائة من الراشدين هناك يتناولون المهدئات ونسبة أكبر من ذلك تتناول الأقراص المنومة.

[9]- بشارة، عزمي / الدين والعلمانية في سياق تاريخي / المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات / ج 1 / ص 693.

[10]- Nietzsche، Friedrich / The Gay Science / Cambridge University Press / 2001 / p 108.

[11]- Masterson، Patrick / Atheism and Alienation / Penguin Books / 1973 / p 18.

[12]- Luper، Steven / The Philosophy of Death / Cambridge University Press / 2009 / p 13.

[13]- الطباطبائي، محمد حسين / تفسير الميزان / الجزء 2 / ص 174.

[14]- Masterson، Patrick / p 20.

[15]- Routledge Encyclopedia of Philosophy / Materialism.

[16]- Routledge Encyclopedia of Philosophy / Abstratct objects.

[17]- Julien de la Mettrie / L’Homme Machine.

[18]- Farias، Miguel / The Psychology of Atheism / In: Oxford Handbook of Atheism / 2016 / p 396.

[19]- غدنز، أنطوني / مصدر سابق / ص 62.

[20]- غدنز، أنطوني / مصدر سابق / ص 63.

[21]- نهج البلاغة / الخطبة 87.

[22]- نهج البلاغة / الخطبة الأولى.

[23]- الشيرازي، صدر الدين / الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة / الجزء الأول / ص 261.

[24]- باساراب، نيكولسكو / العبر مناهجية كإطار منهجي لتجاوز جدال الدين والعلم / مجلة المحجة / العدد 23 / صيف 2011 / ص 169.

[25]- باساراب، نيكولسكو / ص 171.

[26]- باساراب، نيكولسكو / ص 152.

[27]- باساراب، نيكولسكو / ص 148.

[28]- Encyclopedia of Psychology / Gale Group / 2001 / p 566.

[29]- للإطلاع على وجهات النظر الإسلامية في هذا الموضوع راجع: الشيرازي، صدر الدين / الحكمة المتعالية في الأسفار الأربعة.

[30]- مطهري، مرتضى / الفطرة / مؤسسة البعثة / ص 26. وللمزيد: اليزدي، محمد تقي مصباح / معرفة النفس لبنائها من جديد. وكذلك: مطهري، مرتضى / الإنسان الكامل / مؤسسة البعثة.

[31]- Carrel، Alexis / Man، The Unknown / Wilco Books / 1959 / p 14.

[32]- للمزيد: الريشهري، محمدي / فلسفة الوحي والنبوة / دار الحديث.

[33]- Hyman، Gavin/ Atheism in Modern History/ in: The Cambridge Companion to Atheism/ 2007/ P 27.

[34]- Hecht، Jennifer / The End of The Soul: Scientific Modernity، Atheism، and Anthropology in France / Colombia University Press 2003 / p 2.

[35]- Farias، Miguel / p 396.

[36]- Farias، Miguel / p 396.

[37]- غدنز، أنطوني / مصدر سابق / ص 93.

[38]- Masterson، Patrick / p 23.

[39]- Masterson، Patrick / p 27.

[40]- Cognitive Dissonance.

[41]- Routledge Encyclopedia of Philosophy / Humanism.

[42]- Routledge Encyclopedia of Philosophy / Materialism.

[43]- Martin، David / The Dilemmas of Contemporary Religion / Blackwell publishing / 1978 / p 9.

[44]- Bruce، Steve / Secularization / in: The Blackwell Companion to The Study of Religion / Blackwell Publishing / 2006 / p 428.

[45]- Rocca، Michael / Causation Without Intelligibility and Causation Without God in Descartes / in: A Companion to Descartes / Blackwell Publishing / 2008 / p 241.

[46]- كلشني، مهدي / حوارات العلم والدين / مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي / بيروت، 2009 / ص 225.

[47]- الطباطبائي، محمد حسين / تفسير الميزان / الجزء 12 / ص 141.